تفسير سورة الأعراف

لطائف الإشارات
تفسير سورة سورة الأعراف من كتاب لطائف الإشارات .
لمؤلفه القشيري . المتوفي سنة 465 هـ
السورة التي يذكر فيها الأعراف
بسم الله الرحمان الرحيم
الباء مكسورة في نفسها وعملها الخفض لأنها من الحروف الجارة للأسماء، وهي صغيرة القامة في الخط، ونقطها التي تتميز عن غيرها واحد وهو نهاية القلة، ثم موضع هذه النقطة أسفل الحرف، فهي تشير إلى التواضع والخضوع لكل وجه.
والسين " من بسم الله " حرف ساكن فالإشارة من الباء ألا تذر- في الخضوع والتذلل، والجهد والتوسل- ميسورا، ثم تسكن منتظرا للتقدير، فإن من القبول بفضله.
فذلك المأمول، وإن رد بحكم فله الحكيم، فتوافق تقديره بالموافقة في الرضا به، إذا الميم تشبر إلى منته إن شاء، ثم إلى موافقتك لتقديره بالرضا به إن لم يمن.
ويقال الباء تشير إلى بيان قلوب أهل الحقائق بلطائف المكاشفات بما يختصهم الحق- سبحانه- بذلك من دون الخلق، فهم على بيان مما يخفى على الخلق، فالغيب لهم كشف، والخبر لهم عيان، وما للناس علم فلهم وجود.
والسين تشير إلى سرور قلوبهم عند تقريبات البسط بما (. . . ) فيه من وجوه المراعاة !وصنوف لطائف المناجاة، فهم في جنات النعيم، وعيش بسط وتكريم، ودوام روح مقيم.
والميم تشير إلى محبة الحق- سبحانه- لهم بدءا فإنها هي الموجبة لمحابهم، إذ عنها صدر كل حب فبمحبته لهم أحبوه، وبقصده إليهم طلبوه، وبإرادته لهم أرادوه.
ويقال نزهة أسرار الموحدين في الإناخة بعقوة بسم الله، فمن حل تلك الساحة رتع في حدائق القدس، واستروح إلى نسيم الأنس.
ويقال بسم الله موقف الفقراء بقلوبهم، فللأغنياء موقفهم عرفات، وللفقراء موقفهم المكاشفات والمشاهدات.
ويقال قالة " بسم الله " ربيع الأحباب، أزهارها لطائف الوصلة، ونورها زوائد القربة.

هذه الحروف من المتشابه في القرآن على طريقة قوم من السَلَف، والحق - سبحانه - مستأثر بعلمها دون خلقه. وعلى طريقة قوم فلها معانٍ تُعْرَف، وفيها إشارات إلى أشياء توصَف : فالألِف تشير إلى أُلفة الأرواح العطرة أصابت الشكلية مع بعض الأرواح العطرة، فهي - في التحقيق - في ذلك المعنى كالمتحدة ؛ فمنه تقع الألفة بين المتشاكين، ولأجل اتحاد المقصود يتفق القاصدون.
ويقال أَلِفَ القلبُ حديثَه فلم يحتشم من بَذْل روحه.
ويقال الألف تجرُّد مَنْ قَصَدَه عن كل غَيْرٍ فلم يتصل بشيء، وحين استغنى عن كل شيء اتصل به كل شيء على جهة الاحتياج إليه.
ويقال صورة اللام كصورة الألف ولكن لما اتصلت بالحروف تعاقبتها الحركات كسائر الحروف ؛ فمرةً أصبحت مفتوحة، ومرةً مسكونة، ومرة مرفوعة، وأمّا الألف التي هي بعيدة عن الاتصال بالعلاقات فباقية على وصف التجرد عن تعاقب الحركات عليها فهي على سكونها الأصلي.
وأمّا الصاد فتشير إلى صدق أحوال المشتاقين في القصد، وصدق أحوال العارفين في الوجد، وتشير إلى صدق قلوب المريدين وأرباب الطلب، إذ العطش نعت كلِّ قاصد، كما أن الدهشة وصف كل واحد.
ويقال الصاد تبدي محبةً للصدورِ وهو بلاء الأحباب.
ويقال الصاد تطالبك بالصدق في الود، وأمارة الصدق في الود بلوغ النهاية والكمال، حتى لا يزيد بالبر، ولا ينقص بالمنع.
كتاب الأحباب تحفة الوقت، وشفاءٌ لمقاساة ألم البعد، وهو لداء الضنى مُزِيل، ولشفاء الشكِّ مُقيل، وقال تعالى :﴿ فَلاَ يَكُن فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِّنْهُ ﴾ ولم يقل : في قلبك ؛ فإن قلبه - عليه السلام - في محل الشهود، ولذلك قال﴿ وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ ﴾[ الحجر : ٩٧ ] وكذلك قال موسى عليه السلام :﴿ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي ﴾. وقال للمصطفى صلوات الله عليه :﴿ أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ ﴾[ الشرح : ١ ]. فإن القلب في محل الشهود، وهو أبداً بدوام أُنْس القرب، قال صلى الله عليه وسلم :" تنام عيني ولا ينام قلبي " وقال :" أسألك لذة النظر " وصاحب اللذة لا يكون له حرج.
اسْتَسْلِموا لمطالبات التقدير، قِفُوا حيثما وقفتم، وتحققوا بما عرفتم، وطالعوا بما كوشفتم، ولا تلاحظوا غيراً، ولا تركنوا إلى عِلَّةٍ، ولا تظنوا أن لكم من دونه وسيلة.
يعني كم من قرية ركنوا إلى الغفلة، واغتروا بطول المهلة ؛ باتوا في ( خَفْضِ ) الدعة وأصبحوا وقد صادقتهم البلايا بغتة، وأدركتهم القضيةُ فجأة، فلا بلاء كُشِف عنهم، ولا دعاءَ سُمِع لهم، ولا فرار نَفَعَهم، ولا صريخ أنقذهم. فما زالوا يفزعون إلى الابتهال، ويصيحون : الويل ! ويدعون إلى كشف الضر، ويبكون من مسِّ السوء ؟ ! بادوا وكأنه لا عين ولا أثر، ولا لأحدٍ منهم ( خبر ). تلك سُنَّة الله في الذين خَلَوْا من الكافرين، وعادته في الماضين من الماردين.
﴿ فلنسألن الذين أرسل إليهم ﴾ سؤال تعنيف وتعذيب.
﴿ ولنسألن المرسلين ﴾ سؤال تشريف وتقريب.
﴿ فلنسألن الذين أرسل إليهم ﴾ عن القبول فيتقنَّعون بذل الخجل.
﴿ ولنسألن المرسلين ﴾ عن البلاغ فيتكلمون ببيان الهيبة، فالكلُّ بِسِمةِ العبودية والتوقير، والحقُّ بنعت الكبرياء والتقدير.
فلنخبرنهم يومَ الفضلِ ما هو عليه اليوم، ونوقفهم على ما أسلفوه، ونقيمنهم في مقام الصَّغَارِ ومحل الخزي، وسيعلمون أنه لم يَغِبْ عن علمنا صغير ولا كبير.
ويقال أجرى الحقُّ - سبحانه - سُنَّتَه بتخويف العباد بعلمه مرة كما خوَّفهم بعقوبته تارة ؛ فقال تعالى :﴿ وَاتَّقُوا يَوْمًا ﴾[ البقرة : ٤٨ ] يعني العذاب الواقع في ذلك اليوم، وقال في موضع آخر﴿ ويحذِّركم الله نفسه ﴾[ آل عمران : ٢٨ ] وهذا أبلغ في التخويف، وقال
﴿ أَلَمْ يَعْلَم بِأَنَّ اللهَ يَرَى ﴾[ العلق : ١٤ ].
يَزِنُ أعمالهم بميزان الإخلاص، وأحوالهم بميزان الصدق. فَمَعنْ كانت أعمالُهم بالرياء مصحوبة لم يَقْبَل أعمالَهم، ومَن كانت أحوالُهم بالإعجاب مشوبةً لم يرفع أحوالهم.
سَهَّلنا عليكم أسباب المعيشة، ويسَّرنا لكم أحوال التصرف، ثم أراد منكم أَنْ تتخذوا إليه سبيلاً، ولم يعتصِ عليه مراد.
﴿ قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ ﴾ لاستعمالكم - في الخلاف - أبدانَكم، ولإنفاقكم - بالإسراف - أحوالكم، ولاستغراقكم - في الحظوظ - أوقاتكم. فلا نعمة الفراغ شكرتم، ولا من مسِّ العقوبة شكوتم. . . خسرتم وما شعرتم !
ثَبَّتْنَاكم على النعت الذي أردناكم، وأقمناكم في الشواهد التي اخترنا لكم ؛ فمِنْ قبيح صورته خَلْقاً ومن مليح، ومن سقيم حالته خُلُقاً، ومن صحيح. ثم إنا نعرفكم سابِق آيادينا إلى أبيكم، ثم لاحِقَ خلافه بما بقي عِرْقٌ منه فيكم، ثم ما علمنا به ( من مكان يحسدكم ) ويعاديكم.
أي لولا قهر الربوبية جرى عليك وإلا فما مُوجِبُ امتناعك عن السجودِ لآدم لو كُنْتَ تُعَظِّم أمري ؟ فيتحقق الموحدون أن موجِبَ امتناعه عن السجود الخذلانُ الحاصلُ، ولو ساعده التوفيق لم يبرح بعد من السجود.
قال :﴿ أنا خير منه ﴾ ادَّعى الخيرية، وكان الواجب عليه - لولا الشقوة - أَنْ يؤثِرَ التذلَّلَ على التكبُّر، لا سيما والخطاب الوارد عليه من الحقِّ.
ثم إنه وإنْ سَلَكَ طريق القياس فلا وجه له مع النَّفس لأنه بِحَظٍّ، فلم يزِدْه قياسُه إلا في استحقاق نفيه إذ ادَّعى الخيرية بجوهره، ولم يعلم أن الخيرية بحكمه - سبحانه - وقسمته.
فارِقْ بساطَ القربة ؛ فإنَّ التكبّرَ والترفَّعَ على البساط تركٌ للأدب، وتركُ الأدبِ يوجِب الطرد.
ويقال مَنْ رأى لنفسه محلاً أو قيمة فهو متكبِّر، والمتكبِّر بعيد عن الحق سبحانه، ورؤية المقام قَدْحٌ في الربوبية إذ لا قَدْرَ لغيره تعالى، فَمَنْ ادَّعى لنفسه محلا فقد نازع الربوبية.
أجاب دعاءَه في الحال ولكن كان ذلك مكراً به لأنه مكَّنه من مخالفة أمره إلى يوم القيامة، فلم يَزِدْه بذلك التمكين إلا شِقوةً. ليعلمَ الكافةُ أنه ليس كل إجابة للدعاء نعمةً ولطفاً بل قد تكون بلاءً ومكراً.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ١٤:أجاب دعاءَه في الحال ولكن كان ذلك مكراً به لأنه مكَّنه من مخالفة أمره إلى يوم القيامة، فلم يَزِدْه بذلك التمكين إلا شِقوةً. ليعلمَ الكافةُ أنه ليس كل إجابة للدعاء نعمةً ولطفاً بل قد تكون بلاءً ومكراً.
جَاهَرَ الحقيقةَ بالخلاف بعدما أظهر من نفسه غايةَ الخلوص في العبودية، فَعُلِمَ أن جميع ما كان منه في سالف حاله لم يصدر عن الإخلاص والصدق.
أخبر أنه يأخذ عليهم جوانَبهم، ويتسلطُ عليهم من جميع جهاتهم، ولم يَعْلَمْ أن الحقَّ سبحانه قادر على حفظهم عنه، فإنَّ ما يكيد بهم مِنَ القدرةِ حَصَلَ، وبالمشيئة يوجد، ولو كان الأمر به أو إليه لَكَانَ أوْلى الخلْقِ بأنْ يُؤَثِّرَ فيه كدْحُه نَفْسَه، وحيْث لم ينفعه جهدُه في سالِف أحواله لم يضرهم كيده بما توعدهم به من سوء أفعاله.
أخرجه من درجته، ومن حالته ورتبته، ونقله إلى ما استوجبه من طرده ولعنته، ثم تخليده أبداً في عقوبته، ولا يذيقه ذرةً من يَرْدِ رحمته، فأصبح وهو مقدَّمٌ على الجملة، وأمسى وهو أبعد الزُّمرة، وهذه آثار قهر العِزَّة. فأيُّ كَبِدٍ يسمع هذه القصة ثم لا يتفتت ؟ !.
لما أسكن آدمَ الجنةَ خَلَق معه سببَ الفتنةِ، وهو ما أكرمه به من الزوجة، وأي نقصٍ يكون في الجنة لو لم يخلق فيها تلك الشجرة التي هي شجرة المحنة لولا ما أخفى من سِرِّ القسمة ؟.
نِسْبَتُه ما حَصَلَ منهما إلى الشيطان من أمارات العناية، كانت الخطيئةُ منهما لكنَّه تعالى قال :﴿ فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ ﴾.
ويقال التقى آدمُ بإبليس بعد ذلك فقال : يا شَقِيُّ ! وسوستَ إليَّ وفعلتُ !، فقال إبليس لآدم. يا آدم ! هَبْ أنِّي إبليسُك فَمَنْ كان إبليسي ! ؟.
قوله جلّ ذكره :﴿ لِيُبْدِىَ لَهُمَا مَا وُورِىَ عَنْهُمَا مِن سَوْءاتِهِمَا ﴾.
وفي ذلك دلالة على عناية زائدة حيث قال :﴿ لِيُبْدِىَ لَهُمَا ﴾ فلم يطلع على سوأتهما غيرهما.
قوله جلّ ذكره :﴿ وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلاَّ أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الخَالِدِينَ ﴾.
تاقت أنفسهما إلى أن يكونا مَلَكين - لا لأن رتبة الملائكة كانت أعلى من رتبة آدم عليه السلام - ولكن لانقطاع الشهوات والمنى عنهما.
ويقال لمَّا طمعا في الخلود وقعا في الخمود، ووقعا في البلا والخوف ؛ وأصلُ كلَّ محنةٍ الطمعُ.
ويقال إذا كان الطمع في الجنة - وهي دار الخلود - أَوْجَبَ كُلَّ تلك المحن فالطمع في الدنيا - التي هي دار الفناء - متى يسلم صاحبه من ذلك ؟ ويقال إن يكونا إنما ركنا إلى الخلود فلا لنصيبِ أنفسهما، ولكن لأجل البقاء مع الله تعالى، وهذا أَوْلى لأنه يوجب تنزيه محلِّ النبوة. وقيل ساعاتُ الوصال قصيرة وأيام الفراق طويلة، فما لبثا في دار الوصلة إلاَّ بعضاً من النهار ؛ دَخَلاَ ضحوةَ النهار وخَرَجَا نِصْفَ النهار ! ويقال إن الفراقَ عينٌ تصيب أهلَ الوصلة، وفي معناه قال قائلهم :
إنْ تكُنْ عينٌ أصابتك فما إلا لأنَّ العين تصيب الحَسَنَا
ويقال حين تمَّتْ لهما أسباب الوصلة، وَوَطَّأَ نفوسهما على دوام البربة بدا الفراق من مكامنه فأباد من شملهما ما انتظم، كما قيل :
حين تمَّ الهوى وقلنا سُرِرْنا وحَسِبْنا مِنْ الفراق أَمنَّا
بَعَثَ البَيْنُ رُسْلَه في خفاءٍ فأبادوا من شملنا ما جمعنا
حُسْنُ ظنِّ آدم - عليه السلام - حَملَه على سكون قلبه إلى يمين العدو لأنه لم يخطر بباله أن يكذب في يمينه بالله، ثم لمَّا بان له أنه دلاَّهما بغرورٍ تاب إلى الله بصدق الندم، واعترف بأنه أساء وأجرم، فَعَلِمَ - سبحانه - صِدْقَه فيما ندم، فتداركه بجميل العفو والكرم.
لم يحصل استيفاء من الأكل والاستمتاع به للنفس حتى ظهرت تباشيرُ العقاب ؛ وتَنَغُّصِ الحال، وكذا صفة مَنْ آثر على الحق - سبحانه - شيئاً يبقيه عنه، فلا يكون له بما آثر استمتاع. وكذلك مَنْ ادَّخَر عن الله - سبحانه - نَفْسَه أو مالَه أو شيئاً بوجهٍ من الوجوه - لا يبارك الله فِيه، قال تعالى في صفة الأعداء :﴿ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ ﴾[ الحج : ١١ ].
ويقال لمَّا بَدَتْ سوأتهما احتالا في السَّتْرِ، وطَفِقَا يخصفان عليهما من ورق الجنة فبعدما كانت كسوتهما حُلَلَ الجنة ظَّلا يستتران بورق الجنة، كما قيل :
لله دَرُّهمُ مِنْ فِتْيَةٍ بكروا مثل الملوك، وراحوا كالمساكين
وأنشدوا :
لا تعجبوا لمذلتي فأنا الذي عَبَثَ الزمان بمهجتي فأذَلَّها
ثم إن آدم عليه السلام لم يساعده الإمكان في الاستتار بالورق إذ كانت الأشجار أجمع كلُّها تتطاول وتأبى أن يأخذ آدم - عليه السلام - شيئاً من أوراقها. وقيل ذلك كان لا يلاحِظ الجنة فكان يتيه على الكون بأسره ولكنه صار كما يقال :
وكانت - على الأيام - نفسي عزيزة فلمَّا رأت صبري على الذلِّ ذلَّتِ
ولمّا أُخْرِج آدمُ من الجنة وأُسْكِن الأرض كلّف العملَ والسعيَ والزرع والغرس، وكان لا يتجدد له حال إلا تجدّد بكاؤه، وجبريل - عليه السلام - يأتيه ويقول : أهذا الذي قيل لك :﴿ إِنَّ لَكَ أَلاَّ تَجُوعَ فِيهَا وَلاَ تَعْرَى ﴾[ طه : ١١٨ ].
فَلَمْ تعرِف قدره. " فَذُقْ جزايا خِلافِك " فكان يسكن عن الجزع. ويقال بل الحكم بالخنوع كما قيل :
وجاشَتْ إليَّ النفسُ أوَّلَ مرةٍ وزيدت على مكروهها فاستقرتِ
قوله جلّ ذكره :﴿ وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الجَنَّةِ وَنَاداهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَن تِلْكُمَا الشَّجَرَةَ وَأَقُل لَّكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُّبِينٌ ﴾.
كانت لا تصل يدُه إلى الأوراق حين أراد قطافها ليخصفها على نفسه، فلو لم تصل يده إلى تلك الشجرة - التي هي شجرة المحنة - لكان ذلك عنايةً بشأنه، ولكن وصلت يده إلى شجرة المحنة، تتمةً للبلاء والفتنة، ولو لم تصل يده إلى شجرة الستر - إبلاغاً في القهر - لَمَا خالف الأمر، ولَمَا حَصَلَ ما حَصَلَ.
﴿ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَن تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ ﴾ : فكان ما دَاخَلَهما من الخجل أشدَّ من كل عقوبة ؛ لأنهما لو كانا من الغيبة عند سماع النداء فإن الحضور يوجب الهيبة، فلما ناداهما بالعتاب حَلَّ بهما من الخجل ما حلّ، وفي معناه أنشدوا :
واخجلتا من وقوفي وَسْطَ دَارِهمُ *** إذ قال لي مغضبا : من أنت يا رجل ؟
اعترفا بالظلم جهراً، وعرفا الحكم في ذلك سِرّاً ؛ فقولهما :﴿ رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا ﴾ اعتراف بالظلم من حيث الشريعة، وعرفان بأن المدارَ على الحكم من حيث الحقيقة، فَمَنْ لم يعترف بظلم الخلْق طوى الشريعة، ومن لم يعرف جريان حكم الحق فَقَدْ جَحَدَ الحقيقة، فلمَّا أقرّا بالظلم قالا :﴿ وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الخَاسِرِينَ ﴾ نطقا على عين التوحيد حيث لم يقولا بظلمنا خَسِرْنا، بل قالا : فَعَلْنَا فإنْ لم تغفر لنا خسرنا، فبِتَرْكِ غفرانك تخسر لارتكاب ظلمنا.
أهْبَطَهم، ولكنه أهبط إبليسَ عن رتبته فوقع في اللعنة، وأهبط آدم عن بقعته فتداركتْه الرحمة.
ويقال لم يُخْرَج آدم عليه السلام من رتبة الفضيلة وإنْ أُخرِجَ عن دار الكرامة، فلذلك قال الله تعالى :﴿ ثُمَّ اجتَبَاهُ رَبُّهُ ﴾[ طه : ١٢٢ ] وأما إبليس - لعنةُ الله عليه - فإنه أُخْرِجَ من الحالة والرتبة ؛ فلم ينتعش قط عن تلك السَّقْطة.
قوله جلّ ذكره :﴿ وَلَكُمْ فِى الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ ومَتَاعٌ إِلَى حِينٍ ﴾.
﴿ وَلَكُمْ فِى الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ ﴾ هذا عامٌّ ﴿ ومَتَاعٌ إِلَى حِينٍ ﴾ : أراد به إبليسَ على الخصوص.
أخبر أنه يستقبلهم اختلافُ الأحوالِ في الدنيا، ويتعاقب عليهم تفاوتُ الأطوار، فَمِنْ عُسْرٍ ومن يُسْر، ومن خير ومن شر، ومن حياةٍ ومن موت، ومن ظَفَرٍ ومِنْ فَوْت. . . إلى غير ذلك من الأحوال.
سترناكم عن الأسباب الظاهرة، ويَسَّرنا لكم ما تدفعون به صنوفَ المضار عنكم بما مَكَّنَّا لكم من وجوه المنافع.
ثم قال :﴿ وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ﴾ فإن اللباس الظاهر يقي آفاتِ الدنيا، ولباس التقوى يصون عن الآفات التي توجب سخط المولى، ولباس التقوى بجميع أجزاء العبد وأعضائه. وللنَّفْس لباسٌ من التقوى وهو بذل الجهد والروح والقلب، لباس من التقوى وهو صدق القصد بنفي الطمع. وللروح لباس من التقوى وهو ترك العلائق وحذف العوائق. وللسرِّ لباسٌ من التقوى وهو نفي المساكنات والتصاون من الملاحظات.
ويقال تقوى العُبَّاد ترك الحرام، وتقوى العارفين نفي مساكنة الأنام. ويقال للعوام التقوى، وللخواص للباس التقوى عن شهود التقوى.
من أصغى إلى وساوس نفسه بأسماع الهوى وجد الشكَّ بين وسواس الشيطان وهاجس النَّفْس، ويتناصر الوسواس والهاجس وتصير خواطرُ وزواجرُ العلم مغمورةً مقهورةً - فعن قريبٍ تشمل تلك الهواجس والوساوس صاحبها، وينخرط في سلك موافقة الهوى فيسقط في مهواة الزلة، فإذا لم يحصل تداركٌ بوشيك التوبة صارت الحالةُ قسوةً في القلب، وإذا قسا القلبُ فارقته الحياة وتمَّ له البلاء.
قوله جلّ ذكره :﴿ إِنَّهُ يَرَاكُمْ هَوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ ﴾.
لا يحصل للعبد احتراس من رؤية الشيطان إياه وهو عنه غائب إلا برؤية العبد للحق - سبحانه - بقلبه، فيستغيث إليه من كيده، فيُدْخِلْه - سبحانه - في كنف عنايته فيجد الخلاص من مكر الشيطان.
استروحوا في التعلل إلى سلوكهم نهجَ أسلافِهِم، فاستمسكوا بحبلٍ واهٍ فزلَّت بهم أقدامُ الغرور، وقعوا في هذه المحنة.
القِسط العدل، ويقع ذلك في حق الله تعالى، وفي حق الخلْق، وفي حق نفسك ؛ فالعدلُ في حقِّ الله الوقوفُ على حدِّ الأمر من غير تقصير في المأمور بِهِ أو إقدامٍ على المنهيِّ عنه، ثم ألا تدخِّر عنه شيئاً مما خوَّلك، ثم لا تُؤثِرَ عليه شيئاً فيما أحلَّ لك. وأمَّا العدل مع الخلْق - فعلى لسان العلم - بذلُ الإنصاف، وعلى موجِب الفتوة ترك الانتصاف. وأمَّا العدل في حق نَفْسِك فإدخال العتق عليها، وسدُّ أبواب الراحة بكل وجه عليها، والنهوض بخلافها على عموم الأحوال في كل نَفَس.
قوله جلّ ذكره :﴿ وَأَقِيمُوا وَجُوهَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ ﴾.
الإشارة منه إلى استدامة شهوده في كل حالة، وألا تنساه لحظةً في كلِّ ما تأتيه وتذره وتقدمه وتؤخره.
من كانت قِسمتُه - سبحانه - له بالسعادة كانت فطرته على السعادة، وكانت حالته بنعت السعادة، ومن كانت حالته بنعت السعادة كانت عاقبته إلى السعادة، ومن كانت القسمة له بالعكس فالحالة بالضد، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" من كان بحالةٍ لقي الله بها ".
وجملة العلم بالقضاءِ والقَدَرِ أن يتحقق أنه علم ما يكون أنه كيف يكون، وأراد أن يكون كما علم. وما علم ألا يكون - مما جاز أن يكون أراده ألا يكون - أخبر أنه لا يكون. وهو على وجه الذي أخبر، وقضى على العبد وقدَّر أجرى عليه ما سبق به الحكم، وعلى ما قضى عليه حصل العبد على ذلك الوصف
على لسان العلم : يجب سَتْرُ العَوْرة في الصلاة، وعلى موجِب الإشارة : زينة العبد بحضور الحضرة، ولزوم السُّدَّة، واستدامة شهود الحقيقة.
ويقال زينة نفوس العابدين آثار السجود، وزينة قلوب العارفين أنوار الوجود ؛ فالعبد على الباب بنعت العبودية، والعارف على البساط بحكم الحرية. وشتَّان بين عبدٍ وعبد !.
قوله جلّ ذكره :﴿ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلاَ تُسْرِفُوا إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ المُسْرِفِينَ ﴾.
الإسراف ما تناولته لَكَ ولو بقدر سمسمة.
ويقال الإسراف هو التعدي عن حدِّ الاضطرار فيما يتضمن نصيباً لك أو حظّاً بأي وجهٍ كان.
الإشارة منها إلى زينة السرائر ؛ فزينة العابدين آثار التوفيق، وزينة الواجدين أنوار التحقيق، وزينة القاصدين ترك العادة، وزينة العابدين حسن العبادة.
ويقال زينةُ النفوس صدارُ الخدمة، وزينة القلوب حفظ الحرمة، وزينة الأرواح الإطراق بالحضرة باستدامة الهيبة والحشمة.
ويقال زينة اللسان الذكر وزينة القلب الشكر.
ويقال زينة الظاهر السجود وزينة الباطن الشهود.
ويقال زينة النفوس حسن المعاملة من حيث المجاهدات، وزينة القلوب دوام المواصلة من حيث المشاهدات.
ومعنى قوله :﴿ قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِى. . . ﴾ يعني إن الله لم يمنع هذه الزينة عمن تعرض لوجدانها، فمن تصدى لطلبها فهي مباحة له من غير تأخير قصود.
قوله جلّ ذكره :﴿ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ ﴾.
أرزاق النفوس بحكم أفضاله سبحانه، وأرزاق القلوب بموجب إقباله تعالى.
ويقال أرزاق المريدين إلهام ذكر الله، وأرزاق العارفين الإكرام بنسيان ما سوى الله.
ما ظهر منها الزَّلَّة، وما بطن منها الغفلة.
ويقال ما ظهر منها كان بنسيان الشريعة، وما بطن بإشارة الحقيقة.
ويقال لقومٍ تركُ الرخص يكون علة، والأوْلى بهم والأفضل لهم الأخذ به. وقومٌ لو ركنوا إلى الرُّخص لقامت عليهم القيامة.
ويقال فاحشة الخواص تتبع ما لأنفسهم فيه نصيب ولو بذرة ولو بذرة أو سِنَّة.
ويقال فاحشة الأحبابِ الصبر على المحبوب.
ويقال فاحشةُ الأحبابِ أن تبقى حيَّاً وقد منيت بالفراق، قال قائلهم :
لا عيش بعد فراقهم *** هذا هو الخطب الأَجَلُّ
ويقال فاحشة قومٍ أن يلاحظوا غيراً بعين الاستحقاق، قال قائلهم :
يا قُرَّةَ العين سَلْ عيني هل اكتحلت *** بمنظر حسنٍ مذ غبت عن عيني ؟
ويقال فاحشة قوم أن تبقى لهم قطرةُ من الدمع ولم يسكبوها للفرقة، أو يبقى لهم نَفَسٌ لم يَتَنَفُّسوا به في حسرة، وفي معناه أنشدوا :
لئن بقِيَتْ في العين منِّي دمعةٌ *** فإني إذاً في العاشقين دخيلُ
لكلِّ قوم مدةٌ مضروبةٌ، فإذا تناهت تلك المدة زالت تلك الحالة ؛ فلنعمةِ المُتْرَفِين مُدَّةٌ، فإذا زالت فليس بعدها إلا الشِّدّة، ولمحنةِ المستضعفين مدةٌ فإذا انقضت تلك المدة زالت تلك الشدة.
ويقال إذا سقط قرصُ الشمس زال سلطانُ النهار فلا يزداد بعده إلا تراكم الظلمة، فإذا ارتحلت عساكرُ الظلام بطلوع الفجر فبعد ذلك لا تبقى فيه للنهار تهمةٌ.
إذا أتاكم الرُّسُلُ فلا تركنوا إلى مجوزاتِ الظنون، واحملوا الأمرَ على الجِدِّ فإنَّا - مع استغنائنا على الأغيار، وتَقَدُّسِنا عن المنافع والمضار - نُطَالِبُ بالقليل والكثير، ونحاسِبُ على النقير والقطمير.
مَنْ قَابَلَ ربوبيتَنا بالجُحْدِ، وحكمنا بالرد، لقِيَ الهوانَ، وقاسى الآلام والأحزان، ثم العَجْزُ يلجئه إلى الخنوع، ولكن بعد ألا ينفع ولا يسمع.
يصيبهم من الكتاب ما سبق لهم به الحكم، فمن جرى بسعادته الحكمُ وقع عليه رقم السعادة، ومن سبق بشقاوته الحكمُ حُقَّ عليه عَلَمُ الشقاوة.
ويقال من سبقت له قسمة السعادة فلو وقع في قَعْرِ اللَّظَى تداركتْه العنايةُ وأخرجتْه الرحمةُ، ومَنْ سَبَقَتْ له قسمةُ الشقاوةِ. . فلو نزل الفراديس تداركته السخطة وأخرجته اللعنة.
آثار إعراض الحق عنهم أورثَتْ لهم وحشةَ الوقت ؛ تبرَّم بعضُهم ببعض، وضاق كلُّ واحدٍ منهم عن كل شيء حتى عن نفسه، فدعا بعضهم على بعض، وتبرَّأ بعضهم من بعض، وكذلك صفة المطرودين.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٣٨:آثار إعراض الحق عنهم أورثَتْ لهم وحشةَ الوقت ؛ تبرَّم بعضُهم ببعض، وضاق كلُّ واحدٍ منهم عن كل شيء حتى عن نفسه، فدعا بعضهم على بعض، وتبرَّأ بعضهم من بعض، وكذلك صفة المطرودين.
فلا دعاؤهم يُسمَع، ولا بكاؤهم ينفع، ولا بلاؤهم يكشف، ولا عناؤهم يُرْفَع.
كما أحاطت العقوبات بهم في الدنيا فَتَدَنَّس بالغفلة باطنُهم، وتلوَّثَ بالزَّلة ظاهرهم، فكذلك أحاطت العقوبات بجوانبهم ؛ فَمِنْ فوقهم عذاب ومن تحتهم عذاب، وكذلك من جوانبهم في القلب من ضيق العيش واستيلاء الوحشة ما يفي ويزيد على الكل.
رفعنا عن ظاهرهم وباطنهم كلفة العمل فيسَّرنا عليهم الطاعاتِ بحسن التوفيق، وخَفَّفْنَا عنهم العباداتِ بتقليل التكليف.
طهرنا قلوبهم من كل غش، واستخلصنا أسرارهم عن كل آفة. وطَهَّرَ قلوب العارفين من كل حظ وعلاقة، كما طهَّر قلوب الزاهدين عن كل رغبة ومُنْية، وطهَّر قلوب العابدين عن كل تهمة وشهوة، وطهَّر قلوب المحبين عن محبة كل مخلوق وعن غل الصدر - كل واحد على قدر رتبته.
ويقال لمَّا خَلَق الجنة وَكَلَ ترتبيها إلى رضوان، والعرش ولي حفظه إلى الجملة، والكعبة سلَم مفتاحها إلى بني شيبة، وأمَّا تطهير صدور المؤمنين فتولاّه بنفسه.
وقال :﴿ وَنَزَعْنَا مَا فِى صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ ﴾.
ويقال إذا نزع الغل من الصدور مِنْ قِبَله فلا محلّ للغرم الذي لزمهم بسبب الخصوم حيث كان منه سبحانه وجه آدائه.
قوله جلّ ذكره :﴿ وَقَالُوا الحَمْدُ للهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِي لَوْلاَ أَنْ هَدَانَا اللهُ لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالحَقِّ ﴾.
في قولهم اعترافٌ منهم وإقرارٌ بأنهم لم يصلوا إلى ما وصلوا إليه من جزيل تلك العطيات، وعظيم تلك الرتب والمقامات بجهدهم واستحقاق فعلهم، وإنما ذلك أجمع ابتداء فضل منه ولطف.
قوله جلّ ذكره :﴿ وَنُودُوا أَن تِلْكُمُ الجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾.
تسكينٌ لقلوبهم، وتطييبٌ لهم، وإلا فإذا رأوا تلك الدرجات علموا أن أعمالهم المشوبة بالتقصير لم توجب لهم كل تلك الدرجات.
اعترف أهل النار بحقيقة الدِّين، وأقروا بسوء ما عملوا، ولكن حين لم ينفعهم إقرارٌ بحالٍ من الأحوال.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٤٤:اعترف أهل النار بحقيقة الدِّين، وأقروا بسوء ما عملوا، ولكن حين لم ينفعهم إقرارٌ بحالٍ من الأحوال.
ذلك الحجاب الذي بينهما حصل من الحجاب السابق ؛ لمَّا حُجِبُوا في الابتداء في سابق القسمة عما خُصَّ به المؤمنون من القربة والزلفة حُجِبوا في الانتهاء عما خَصَّ به السعداء من المغفرة والرحمة.
ويقال حجاب وأي حجاب ! لا يُرفَع بحيلة ولا تنفع معه وسيلة.
حجابٌ سبق به الحكم قبل الطاعة والجُرْم.
قوله جلّ ذكره :﴿ وَعَلَى الأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلاًّ بِسِيمَاهُمْ ﴾.
هؤلاء الأشراف خصوا بأنوار البصائر اليوم فأشرفوا على مقادير الخلْق بأسرارهم، ويشرفون غداً على مقامات الكل وطبقات الجميع بأبصارهم.
ويقال يعرفونهم غداً بسيماهم التي وجدوهم عليها في دنياهم ؛ فأقوامٌ موسومون بأنوار القرب، وآخرون موسومون بأنوار الرد والحجب.
قوله جلّ ذكره :﴿ وَنَادَوْا أَصْحَابَ الجَنَّةِ أَن سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ ﴾.
سَلِمُوا اليومَ عن النكرة والجحودِ، وأكرِمُوا بالعرفان والتوحيد.
وسلموا غداً من فنون الوعيد، وسَعِدُوا بلطائف المزيد. وتحققوا أنهم بلغوا من الرتب ما لم يَسْمُ إليه طرْفُ تأميلهم، ولم يُحِطْ بتفصيله كُنْهُ عقولهم.
إنما يصرف أبصارهم اليومَ تقديراً عليهم عظيم المِنّة التي بها نجاتُهم، فيزيدون في الاستغاثة وصدق الابتهال، فتكمل بهم العارفة بإدامة ما لاطفهم به من الإيواء والحفظ.
ذلك ما يرون عليهم من غبار الرد وأمارات البعد، وهي مما لا يخفى على ذي عينين، فيقولون لهم : هل يُغْنِي عنكم ما ركنتم إليه من أباطيلكم، وسكنتم إليه من فاسد ظنونكم، وباطل تأويلكم ؟ فشاهِدوا - اليومَ - تخصيص الحق لمن ظننتم أنهم ضعفاؤكم، وانظروا هل يغني عنكم الذين زعمتم أنهم أولياؤكم وشركاؤكم ؟
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٤٨:ذلك ما يرون عليهم من غبار الرد وأمارات البعد، وهي مما لا يخفى على ذي عينين، فيقولون لهم : هل يُغْنِي عنكم ما ركنتم إليه من أباطيلكم، وسكنتم إليه من فاسد ظنونكم، وباطل تأويلكم ؟ فشاهِدوا - اليومَ - تخصيص الحق لمن ظننتم أنهم ضعفاؤكم، وانظروا هل يغني عنكم الذين زعمتم أنهم أولياؤكم وشركاؤكم ؟
دلَّت الآية على أن من أواخر ما يبقى على الإنسان الأكل والشربَ ؛ فإنهم في تلك العقوبات الشديدة يقع عليهم الجوعُ والعطش حتى يتضرعون كلَّ ذلك التضرع ؛ فيطلبون شربة ماء أو لقمة طعام وهم في غاية الآلام، والعادة - اليومَ - أن من كان في ألم شديد لا يأكل ولا يشرب، وهذا شديد.
ثم أَبْصِرْ كيف لا يسقيهم قطرةً - مع استغنائه عن تعذيبهم، وقدرتِه على أن يعطيه ما يريدون ! ولكنه قهر الربوبية وعِزُّ الأحدية، وأنه فَعَّالٌ لما يريد. فكما لم يرزقهم - اليومَ - من عرفانه ذرة، لا يسقيهم غداً في تلك الأحوال قطرة، وفي معناه أنشدوا :
وأَقْسَمْنَ لا يسقيننا - الدهرَ - قطرةً ولو فُجِّرت من أرضهن بحورُ
ويقال إنما يطلبون الماء ليبكوا به بعدما نفدت دموعهم، وفي هذا المعنى قيل :
يا نازحاً نَزَفَتْ دمعي قطيعتُه هَبْ لي من الدمعِ ما أبكي عليكَ به
وفي هذا المعنى أنشدوا.
جرف البكاءُ دموعَ عينك فاستعِرْ عيناً لغيرك دمعها مدرار
مَنْ ذا يُعيرك عينَه تبكي بها أرأيتَ عيناً للبكاء تُعار ؟
كما تركوا أمره وضيَّعوه تركهم في العقوبة، ولا (. . . ) فيما يشكون، فتأتي عليهم الأحقاب، فلا كشف عذاب، ولا بَرْد شراب، ولا حسن جواب، ولا إكرامٌ بخطاب. ذلك جزاءٌ لِمَنْ يعرف قَدْرَ الوصلة في أوقات المهلة.
أنزلنا عليهم من الكتاب وأوحينا إليهم من الخطاب ما لو قابلوه بالتصديق وصاحَبُوه بالتحقيق لوجدوا الشفاء من محنة البعاد، ونالوا لضياء بقرب الوداد، ووصلوا في الدنيا والعقبى إلى جميل المراد، ولكنه - سبحانه أَبَى القسمة في نصيبهم إلا الشِّقْوة.
إذا كُشِفَ جلالُ الغيب، وانتفت عن قلوبهم أغطيةُ الرَّيب، فلا بكاء لهم يَنْفَع، ولا دعاء منهم يُسْمَع، ولا شكوى عنهم ترْفَع، ولا بلوى من دونهم تُقْطَع.
تعرّف إلى الخلق بآياته الظاهرة الدالة على قدرته وهي أفعاله، وتعرّف إلى الخواص منهم بآياته الدالة على نصرته التي هي أفضاله وإقباله، وظهر لأسرار خواص الخواص بنعوته الذاتية التي هي جماله وجلاله، فشتان بين قومٍ وقوم !.
ثم كما يدخل في الظاهر الليل على النهار والنهارَ على الليل فكذلك يدخل القبض على البسط والبسط على القبض. ومنه الإشارة إلى ليل القلوب ونهار القلوب : فَمِنْ عبدٍ أحواله أجمع قبض، ومن عبدِ أحواله أجمع بسط، ومن عبيد يكون مرة بعين القبض ومرة بعين البسط كما أن بعض أقطار العالَم فيها نهار بلا ليل، وفي بعضها ليل بلا نهار، وفي بعضها ليل يدخل على نهار ونهار يدخل على ليل.
﴿ أَلاَ لَهُ الخَلْقُ وَالأَمْرُ ﴾ فمنه الخير والشر، والنفع والضر، فإن له الخلْقَ والأمر.
﴿ تَبَارَكَ اللهُ رَبُّ العَالَمِينَ ﴾ هذه الكلمة مجمع الدعاء لاشتمالها على إفادة معنى قِدَمِه ودوامِ ثبوته من حيث يُقال بَرَكَ الطيرُ على الماء.
وأفادت معنى جلاله الذي هو استحقاقه لنعوت العِزِّ لأنه قد تبارك أي تعظَّم. وأشارت إلى إسداد النِّعم وإتاحة الإحسان من حيث إن البَرَكَة هي الزيادة فهي مجمع الثناء والمدح للحق سبحانه.
الأمر بالدعاء إذنٌ - في التسلِّي - لأرباب المحنة، فإنهم إلى أن يصلوا إلى كشف المحنة ووجود المأمول استروحوا إلى روْح المناجاة في حال الدعاء ؛ والدعاء نزهةٌ لأرباب الحوائج، وراحةٌ لأصاحب المطالبات، ومعجل من الإِنس بما (. . . ) إلى القلب عاجل التقريب. وما أخلص عبدٌ من دعائه إلى رَوَّحَ - سبحانه - في الوقت قلبَه.
ويقال علَّمهم آداب الدعاء حيث قال :﴿ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً ﴾ وهذا أدب الدعاء ؛ أن يَدْعُوا بوصف الافتقار والانكسار ونشر الاضطرار. ومن غاية ما تقرر لديك نعت كرمه بك أنه جعل إمساكَكَ عن دعائه - الذي لا بد منه - اعتداء منك.
من الإفساد بعد الإصلاح إحمالُ النفس عن المجاهدات بخلع عذارها حتى تتبع هواها بعدما كَبَحْتَ لجامَها مدةً عن العَدْوِ في ميدان الخلاف، ومن ذلك إرسالُ القلب في أودية المنى بعد إمساكه على أوصاف الإرادة، ومن ذلك الرجوعُ إلى الحظوظ بعد القيام بالحقوق، ومن ذلك استشعارُ محبة المخلوق بعد تأكيد العقد معه بألا تحب سواه، ومن ذلك الجنوحُ إلى تتبع الرُّخص في طريق الطلب بعد حمل النَّفْس على ملازمة الأَوْلى والأشَق، ومن ذلك الانحطاطُ بِحَظٍّ إلى طلبِ مقامٍ منه أو إكرام، بعد القيام معه بترك كل نصيب.
وفي الجملة : الرجوعُ من الأعلى إلى الأدنى إفسادٌ في الأرض بعد الإصلاح.
قوله جلّ ذكره :﴿ إِنَّ رَحْمَتَ اللهِ قَرِيبٌ مِّنَ المُحْسِنِينَ ﴾.
يقال المحسنين عملاً والمحسنين أملاً، فالأول العابدون والثاني العاصون.
ويقال المحسن من كان حاضراً بقلبه غير لاهٍ عن ربِّه ولا ناسياً لِحقِّه.
ويقال المحسن القائم بما يلزم من الحقوق.
ويقال المحسن الذي لم يخرج (. . . ) عن إحسانه بقدر الإمكان ولو بشطر كلمة.
تباشير القرب تتقدم فيتأدّى نسيمُه إلى مشام الأسرار، وكذلك آثار الإعراض تتقدم فتوجد ظلمة القبض في الباطن، فظلُّ الوحشة يتقدمها، ونسيم الوصلة بعدها، وفي قريبٍ منه قال قائلهم :
ولقد تشمَّمْتُ القضاءَ لحاجتي فإذا له من راحتيك نسيم
قوله جلّ ذكره :﴿ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالاً سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَّيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ المَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِن كُلَّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ المَوْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ﴾.
الإشارة منه أنه يحصل بالمهجور ما يتأذى به الصدر ويُبَرِّحُ به الوجه ويَنْحلُ به الجسم، بل يُبْطِلُ كلَّه البعد، فيأتيه القُرب فيعود عود وصاله بعد الذبول طرياً، ويصير دارس حاله عقيب السقوط نديا، كما قال بعضهم :
كُنّا كمن أُلْبِسَ أكفانه وقرَّب النعشُ من اللَّحد
فجالتْ الروحُ في جسمه وردَّه الوصلُ إلى المولد
إذا زكا الأصلُ نما الفرع، وإنْ خبُث الجوهر لم يَطبْ ما تحلَّل منه، وإن طاب العنصر فالجزء يحاكي أصله، والأَسِرَّةُ تدل على السريرة، فَمَنْ صفا باطنُ قلبه زكا ظاهرُ فعله، ومن كان بالعكس فحاله بالضد.
بَلَّغَ الرسالةَ فلم ينجعْ فيهم ما أظهر من الآلاء، لأنَّ محرومَ القسمة لا ينفعه مجهودُ الحيلة.
قوله :﴿ لَيْسَ بِى ضَلاَلةٌ ﴾ : نسبوا نوحاً - عليه السلام - إلى الضلالة، فتولَّى إجابتهم بنفسه فقال :﴿ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِى ضَلاَلَةٌ ﴾، ونبيُّنا - صلى الله عليه وسلم - نُسِبَ إليه فتولَّى الحق - سبحانه - الردَّ عنه فقال :﴿ مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى ﴾[ النجم : ٢ ] فشتان بين مَنْ دافع عن نفسه، وبين مَنْ دَافَع عنه ونفى عنه ربُّهّ.
إني أعلم أَنِّي وإنْ بالغت في تبليغ الرسالة فمَنْ سبقت له القسمة بالشقاوة لا ينفعه نصحي، ولا يُؤَثِّرُ فيه قولي، فمَنْ أسقطته القسمةُ لم تنعشه النصيحة.
عجبوا مِنْ كوْنِ شخصِ رسولَ اللهِ، ولم يتعجبوا من كون الصنمِ شريكاً لله، هذا فَرْطُ الجهالة وغاية الغباء !
تسربلوا غِبَّ التكذيب لمَّا ذاقوا طعم العقوبة، فلم يسعدوا بما حملوه ولم يصلوا إلى ما أملَّوه.
أخبر أنهم سلكوا طريق أسلافهم وإخوانهم، فوقعوا في وهدتهم، ومُنُوا بمثل حالتهم فلا خيرَ فيمن آثر هواه على رضاءِ الله، ولا رَبحَ مَنْ قَدَّم هواه على حقِّ الله.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٦٥:أخبر أنهم سلكوا طريق أسلافهم وإخوانهم، فوقعوا في وهدتهم، ومُنُوا بمثل حالتهم فلا خيرَ فيمن آثر هواه على رضاءِ الله، ولا رَبحَ مَنْ قَدَّم هواه على حقِّ الله.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٦٥:أخبر أنهم سلكوا طريق أسلافهم وإخوانهم، فوقعوا في وهدتهم، ومُنُوا بمثل حالتهم فلا خيرَ فيمن آثر هواه على رضاءِ الله، ولا رَبحَ مَنْ قَدَّم هواه على حقِّ الله.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٦٥:أخبر أنهم سلكوا طريق أسلافهم وإخوانهم، فوقعوا في وهدتهم، ومُنُوا بمثل حالتهم فلا خيرَ فيمن آثر هواه على رضاءِ الله، ولا رَبحَ مَنْ قَدَّم هواه على حقِّ الله.
جعل الله الخلقَ بعضهم خَلَفاً عن بعض، فلا يُفْنِي فوجاً منهم من جنسٍ إلا أقام فوجاً منهم مِنْ ذلك الجنس. فأهل الغفلة إذا انقرضوا خَلَفَ عنهم قوم، وأهل الوصلة إذا درجوا خلف عنهم قوم، ولا ينبغي للعبد أن يسمو طَرْفُ تأميله إلى الأكابر فإن ذلك المقام مشغول بأهله، فما لم تنتهِ نوبةُ أولئك لا تنتهي النوبة إلى هؤلاء.
قوله جلّ ذكره :﴿ وَزَادَكُمْ فِى الخَلْقِ بَسطَةً ﴾.
كما زاد قوماً على من تقدمهم في بسطة الخَلْقِ زاد قوماً على من تقدمهم في بسطة الخُلُق، وكما أوقع التفاوتَ بين شخصٍ وشخص فيما يعود إلى المباني أوقع التباين بين قوم وقوم فيما يرجع إلى المعاني.
قوله جلّ ذكره :﴿ فَاذْكُرُوا آلاَءَ اللهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾.
النَّعماء عام، والآلاء خاص، فتلك تتضمن ترويح الظواهر، وهذه تتضمن التلويح في السرائر، تلك بالترويح بوجود المبار، وهذه بالتلويح بشهود الأسرار.
طاحوا في أودية التفرقة فلم يجدوا قراراً في ساحات التوحيد، فَشَقَّ عليهم الإعراضُ عن الأغيار، وفي معناه قال قائلهم :
أراكَ بقيةً من قوم موسى فهم لا يصبرون على طعام
ويقال شخص لا يُخْرِجُه من غش التفرقة، وشخص لا يحيد لحظةً عن سَنَنِ التوحيد فهو لا يعبد إلا واحداً، وكما لا يعبد إلا واحد لا يشهد إلا واحداً، قال قائلهم :
لا يهتدي قلبي إلى غيركم لأنه سُدَّ عليه الطريق
إذا أراد اللهُ هوانَ عبدٍ طَرَحَه في مفازات التفرقة ؛ وإنَّ من علامات غضبه وإعراضه ردَّ العبد إلى شهود الأغيار، وتغريقَه إياه في بحار الظنون، إذ لا تحصيل للأغيار في معنى الإثبات.
لا رتبةَ فوق رتبة النبوة، ولا درجة أعلى من درجة الرسالة.
وأخبر - سبحانه - أنه نجَّى هوداً برحمته، وكذلك نجَّى الذين آمنوا معه برحمته، ليُعْلَمَ أنَّ النجاةَ لا تكون باستحقاق العمل، وإنما تكون بابتداء فضلٍ من الله ورحمته ؛ فما نَجَا مَنْ نجا إلا بفضل الحق سبحانه.
غاير الحقُّ - سبحانه - بين الرسل من حيث الشرائع، وجمع بينهم في التوحيد ؛ فالشرائع التي هي العبادات مختلفة، ولكن الكل مأمورون بالتوحيد على وجه واحد.
ثم أخبر عن إمضاءِ سُنَّتِه تعالى بإرسال الرسل عليهم السلام، وإمهال أُمَمِهم ريثما ينظرون في معجزات الرسل.
ثم أخبر عما دَرَجُوا عليه في مقابلتهم الرسل بالتكذيب تسليةً للمصطفى صلى الله عليه وسلم وعلى آله - فيما كان يقاسي من بلاء قومه.
أزاح علتهم في بسط الدلالة، ووسع عليهم حالتهم بتمكينهم من العطايا على ما دعت إليه حالتُهم. . فلا الدليلَ تأمَّلُوه، والسبيل لازموه، ولا النعمة عرفوا قدرها، ولا المِنَّة قدَّموا شكرها، فصادفهم من البلاء ما أدرك أشكالهم.
أجرى الله - سبحانه - سُنَّتَه ألا يخص بأفضاله، وجميل صنعه وإقباله - في الغالب من عباده - إلاَّ مَنْ يسمو إليه طَرْفُه بالإجلال، وأَلاَّ يوضحَ له قَدْرَه بين الأضراب والأشكال ؛ فأنصار كلِّ نبي إنما هم ضعفاء وقته، ويلاحظهم أهل الغفلة بعين الاحتقار، ولكن ليس الأمر كما تذهب إليه الأوهام، ولا كما يعتقد فيهم الأنام، بل الجواهر مستورة في معادتها، وقيمة المَحَالِّ بساكنيها، قال قائلهم :
وما ضرَّ نصلَ السيف إخلاقُ غمده إذا كان غَصْباً حيث وجهته وترا
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" كم من أشعث أغبر لو أقسم على الله لأبرَّه ".
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٧٥:أجرى الله - سبحانه - سُنَّتَه ألا يخص بأفضاله، وجميل صنعه وإقباله - في الغالب من عباده - إلاَّ مَنْ يسمو إليه طَرْفُه بالإجلال، وأَلاَّ يوضحَ له قَدْرَه بين الأضراب والأشكال ؛ فأنصار كلِّ نبي إنما هم ضعفاء وقته، ويلاحظهم أهل الغفلة بعين الاحتقار، ولكن ليس الأمر كما تذهب إليه الأوهام، ولا كما يعتقد فيهم الأنام، بل الجواهر مستورة في معادتها، وقيمة المَحَالِّ بساكنيها، قال قائلهم :
وما ضرَّ نصلَ السيف إخلاقُ غمده إذا كان غَصْباً حيث وجهته وترا
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" كم من أشعث أغبر لو أقسم على الله لأبرَّه ".

قوله تعالى :﴿ وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِن لاَّ تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ ﴾ الحيلة تدعو إلى وِفاق الهوى ؛ فتستثقل النّفْسُ قولَ الناصحين، فيخرجون عليهم وكأن الناصحين هم الغائبون، قال قائلهم :
وكم سُقْتُ في آثاركم من نصيحةٍ وقد يستفيد البغضة المتنصح
أباح الحقُّ - سبحانه - في الشرع ما أزاح به العذر، فمن تَخَطَّ هذا الأمر وجرى على مقتضى الهوى استقبل هوانه، واستوجب إذلاله، واستجلب - باختياره - صغاره.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٨٠:أباح الحقُّ - سبحانه - في الشرع ما أزاح به العذر، فمن تَخَطَّ هذا الأمر وجرى على مقتضى الهوى استقبل هوانه، واستوجب إذلاله، واستجلب - باختياره - صغاره.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٨٠:أباح الحقُّ - سبحانه - في الشرع ما أزاح به العذر، فمن تَخَطَّ هذا الأمر وجرى على مقتضى الهوى استقبل هوانه، واستوجب إذلاله، واستجلب - باختياره - صغاره.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٨٠:أباح الحقُّ - سبحانه - في الشرع ما أزاح به العذر، فمن تَخَطَّ هذا الأمر وجرى على مقتضى الهوى استقبل هوانه، واستوجب إذلاله، واستجلب - باختياره - صغاره.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٨٠:أباح الحقُّ - سبحانه - في الشرع ما أزاح به العذر، فمن تَخَطَّ هذا الأمر وجرى على مقتضى الهوى استقبل هوانه، واستوجب إذلاله، واستجلب - باختياره - صغاره.
خسَّت هِممُ قومِ شعيبٍ فقنعوا بالتطفيف في المكيال والميزان عند معاملاتهم، ثم إنّ الحقَ - سبحانه - لم يُساهِلْهم في ذلك ليُعْلَم أَنَّ الأقدار ليست من حيث الأخطار.
من المعاصي ما لا يكون لازماً لصاحبه وحدَه بل يكون متعدِّياً عنه إلى غيره. ثم بِقَدْرِ الأثر في التعدِّي يحصل الضر للمبتدئ.
قوله جلّ ذكره :﴿ وَاذْكُرُوا إِذَا كُنتُمْ قَلِيلاً فَكَثَّرَكُم وَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ المُفْسِدِينَ وَإِن كَانَ طَائِفَةٌ مِّنكُمْ آمَنُوا بِالَّذِى أُرْسِلْتُ بِهِ وَطَائِفَةٌ لَّمْ يُؤْمِنُوا فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللهُ بَيْنَنَا وَهُوَ خَيْرُ الحَاكِمِينَ ﴾.
مَنَّ عليهم بتكثير العدد لأن بالتناصر والتعاون تمشي الأمور ويحصل المراد.
ويقال كما أن كل أمرٍ بالأعوان والأنصار خيراً أو شراً، فلا نعمة فوق اتفاق الأنصار في الخير، ولا محنة فوق اتفاق الأعوان في الشر.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٨٦:من المعاصي ما لا يكون لازماً لصاحبه وحدَه بل يكون متعدِّياً عنه إلى غيره. ثم بِقَدْرِ الأثر في التعدِّي يحصل الضر للمبتدئ.
قوله جلّ ذكره :﴿ وَاذْكُرُوا إِذَا كُنتُمْ قَلِيلاً فَكَثَّرَكُم وَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ المُفْسِدِينَ وَإِن كَانَ طَائِفَةٌ مِّنكُمْ آمَنُوا بِالَّذِى أُرْسِلْتُ بِهِ وَطَائِفَةٌ لَّمْ يُؤْمِنُوا فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللهُ بَيْنَنَا وَهُوَ خَيْرُ الحَاكِمِينَ ﴾.
مَنَّ عليهم بتكثير العدد لأن بالتناصر والتعاون تمشي الأمور ويحصل المراد.
ويقال كما أن كل أمرٍ بالأعوان والأنصار خيراً أو شراً، فلا نعمة فوق اتفاق الأنصار في الخير، ولا محنة فوق اتفاق الأعوان في الشر.

كما أن ( أهل ) الخير لا يميلون إلا إلى أشكالهم فأهل الشر لا ينصرون إلا من رأوا بأنه يساعدهم على ما هم عليه من أحوالهم، والأوحد في بابه مَنْ بايَنَ نهج أضرابه.
نطقوا عن صحة عزائمهم حيث قالوا :﴿ قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللهِ كَذِباً إِنْ عُدْنَا فِى مِلَّتِكُم ﴾، ثم أقروا بالشكر حيث قالوا :﴿ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللهُ مِنْهَا ﴾، ثم تبرأوا عن حولهم وقوتهم حيث قالوا :﴿ وَمَا يَكُونُ لَنَا أَن نَّعُودَ فِيهَا إِلاَّ أَن يَشَاءَ اللهُ رَبُّنَا ﴾ يعني إِنْ يُلْبِسنا لِباسَ الخذلان نُرَدُّ إلى الصغر والهوان.
ثم اشتاقوا إلى جميل التوكل فقالوا :﴿ عَلَى اللهِ تَوَكَّلْنَا ﴾ أي به وَثِقْنَا، ومنه الخيرَ أَمَّلْنا.
ثم فوضوا أمورهم إلى الله فقالوا :﴿ رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالحَقِّ ﴾ فتداركهم الحقُّ - سبحانه - عند ذلك بجميل العصْمة وحسن الكفاية.
تواصوا فيما بينهم بتكذيب نبيِّهم، وأشار بعضهم باستشعار وقوع الفتنة بمتابعته، وكانوا مخطئين في حكمهم، مبطلين في ظنهم، فعُلِمَ أنَّ كل نصيحة لا يجب قبولها، وكل إشارة لا يَحْسُنُ اتباعُها.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٩٠:تواصوا فيما بينهم بتكذيب نبيِّهم، وأشار بعضهم باستشعار وقوع الفتنة بمتابعته، وكانوا مخطئين في حكمهم، مبطلين في ظنهم، فعُلِمَ أنَّ كل نصيحة لا يجب قبولها، وكل إشارة لا يَحْسُنُ اتباعُها.
قوله تعالى :﴿ الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَأَن لَّمْ يَغْنَوْا فِيهَا ﴾ كانت لهم غلبتهم في وقتهم، ولكن لما اندرست أيامُهم سَقَطَ صِيتُهم، و ( خمد ) ذكرهم، وانقشع سحابُ مَنْ تَوَهَّم أنَّ منهم شيئاً.
قوله جلّ ذكره :﴿ الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَانُوا هُمُ الخَاسِرِينَ ﴾.
الحقُّ غالِبٌ في كل أمر، والباطل زاهق بكل وصف، وإذا كانت العِزَّةُ نعتَ مَنْ هو أزليُّ الوجود، وكان الجلال حقَّ مَنْ هو المَلِك فأي أثر للكثرة مع القدرة ؟ وأي خطر للعلل مع الأزل ؟ ولقد أنشدوا في قريبٍ من هذا :
استقبلني وسيفه مسلول وقال لي واحدنا معذول
بَيَّنَ أنه راعى حدَّ الأمر ؛ فإذا خرج عن عهدة التكليف في التبليغ فما عليه من إقرارهم أو إنكارهم، من توحيدهم أو جحودهم ؛ إِنْ أحسنوا فالميراثُ الجميلُ لهم، وإن أساءوا فالضررُ بالتألم عائدٌ عليهم، ومَالِكُ الأعيان أوْلى بها من الأغيار، فالخَلْقُ خَلْقُه والمُلْكُ مُلْكُه ؛ إن شاءَ هداهم، وإن شاء أغواهم، فلا تأسُّفُ على نفيٍ وفقد، ولا أثر من كَوْنٍ ووجود.
حرَّكهم بالبلاء الأَهْوَنِ تحذيراً من البلاء الأصعب، فإذا تمادوا في غيهم، ولم ينتبهوا من غفلتهم مَدَّ عليهم ظلالَ الاستدراجِ، ووسّعَ عليهم أسبابَ التفرقة مكراً بهم في الحال، فإذا وَطَّنُوا - على مساعدة الدنيا - قلوبهم، وركنوا إلى ما سوَّلت لهم من امتدادها، أبرز لهم من مكامن التقدير ما نَغَّصَ عليهم طيبَ الحياة، واندق بغتةً عُنُقُ السرور، وشَرِقُوا بما كانوا ينهلون من كاسات المنى، فتبدّل ضياءُ نهارهم بِسُدفَةِ الوحشة، وتكدّر صافي مشربهم بيد النوائب، كما سبقت به القسمة.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٩٤:حرَّكهم بالبلاء الأَهْوَنِ تحذيراً من البلاء الأصعب، فإذا تمادوا في غيهم، ولم ينتبهوا من غفلتهم مَدَّ عليهم ظلالَ الاستدراجِ، ووسّعَ عليهم أسبابَ التفرقة مكراً بهم في الحال، فإذا وَطَّنُوا - على مساعدة الدنيا - قلوبهم، وركنوا إلى ما سوَّلت لهم من امتدادها، أبرز لهم من مكامن التقدير ما نَغَّصَ عليهم طيبَ الحياة، واندق بغتةً عُنُقُ السرور، وشَرِقُوا بما كانوا ينهلون من كاسات المنى، فتبدّل ضياءُ نهارهم بِسُدفَةِ الوحشة، وتكدّر صافي مشربهم بيد النوائب، كما سبقت به القسمة.
لو آمنوا بالله، واتَّقُوا الشِّرْكَ لفتحنا عليهم بركاتٍ من السماء والأرض بأسبابِ العطاء - ولكنْ سَبَقَ بخلافه القضاء - وأبوابِ الرضاء، والرضاءُ أتمُّ من العطاء.
ويقال ليست العِبْرة بالنعمة إنما العبرة بالبركة في النعمة، ولذا لم يَقُلْ أضعفنا لهم النعمة ولكنه قال : باركنا لهم فيما خوَّلنا.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٩٦:لو آمنوا بالله، واتَّقُوا الشِّرْكَ لفتحنا عليهم بركاتٍ من السماء والأرض بأسبابِ العطاء - ولكنْ سَبَقَ بخلافه القضاء - وأبوابِ الرضاء، والرضاءُ أتمُّ من العطاء.
ويقال ليست العِبْرة بالنعمة إنما العبرة بالبركة في النعمة، ولذا لم يَقُلْ أضعفنا لهم النعمة ولكنه قال : باركنا لهم فيما خوَّلنا.

أكثر ما ينزل البلاء ينزل فجأةً على غفلةٍ من أهله، ويقال مَنْ حَذِرَ البيات لم يجدْ روْحَ الرُّقاد.
ويقال رُبَّ ليلةٍ مُفْتَتَحةٍ بالفَرَحِ مختتمةٌ ( بالترح ). ويقال رُبّ يومٍ تطلع شمسه من أوج السعادة قامت ظهيرته على قيام الفتنة.
يقال مَنْ عرف علوّ قدره - سبحانه - خشي خفيّ مكره، ومَنْ أمِنَ خفيّ مكره نَسِيَ عظيم قَدْرِه.
أَوَ لا يعلم المغترون بطول سترنا أَنْ لو أردنا لعجَّلنا لهم الانتقام، أو بلغنا فيهم الاصطلام، ثم لا ينفعهم ندم، ولا يُشْكى عنهم ألم.
سلكوا طريقاً واحداً في التمرد، واجتمعوا في خطٍ واحد في الجحد والتَّبلُّد ؛ فلا للإيمان جَنَحُوا، ولا عن العدوان رجعوا، وكذلك صفة من سَبَقَتْ بالشقاء قِسمتُه، وحقت بالعذاب عليه كَلِمتُه.
نجم في العذر طارِقُهم، وأَقَلَ من سماء الوفاء شارِقُهم، فَعَدِمَ أكثرُهم رعاية العهد، وحقت من الحق لهم قسمة الرد والصد.
ويقال : شكا مِنْ أكثرِهم إلى أقلِّهم، فالأكثرون مَنْ ردَّتهم القسمة، والأقلون مَنْ قَبِلَتْهم الوصلة.
لما انقرضت أيامُهم، وتَقَاصَر عن بساط الإجابة إقْدامُهم بعث موسى نبيَّه، وضمَّ إليه هارون صفيَّه، فقُوبِلا بالتكذيب والجحود، فسلك بهم مسلك إخوانهم في التعذيب والتبعيد.
الرجوعُ إلى دعاء فرعون إلى الله بعد سماع كلام الله بلا واسطة صعبٌ شديد، ولكنه لمَّا وَرَدَ الأمرُ قابله بحسن القبول، فلما ترك اختيار نفسه أيّده الحق - سبحانه - بنور التأييد حتى شَاهَدَ فرعونَ محواً في التقدير.
قال :﴿ حَقِيقٌ عَلَى أَن لاَّ أَقُولَ عَلَى اللهِ إِلاَّ الحَقَّ ﴾ فإذا لم يصح له أن يقول على الخلق ؛ فالخلق محوٌ فيما هو الوجود الأزلي فأيُّ سلطانٍ لآثار التفرقة في حقائق الجمع ؟
قوله :﴿ قَالَ إِن كُنتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِهَا إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ ﴾ : من المعلوم أن مجرَّد الدعوى لا حجة فيه، ولكن إذا ظهر برهانٌ لم يبق غيرُ الانقياد لِمَا هو الحق، فَمَنْ استسلم (. . . . )، ومَنْ جَحَدَ الحقائق بعد لوح البيان سقط سقوطاً لا ينتعش.
إنما أظهر له المعجزةَ مِنْ عَصَاه لطولِ مقارنته إياها، فالإنسانُ إلى ما أَلِفَه أَسْكَنُ بقلبه. فلمَّا رأى ما ظهر في العصا من الانقلاب أخذ موسى عليه السلام في الفرار لتحققه بأن ذلك من قهر الحقائق، وفي هذا إشارة إلى أنَّ السكونَ إلى شيءٍ غِرَّةٌ وغفلةٌ ايش ما كان، فإنَّ تقلب العبد في قَبْضِ القدرة، وهو في أَسْر التقلُّب، وليس للطمع في السكون مساغٌ بحال.
العصا - وإِنْ كانت معه من زمنٍ - فَيَدُه أخصُّ به لأنها عضو له، فكاشَفَه أولاً بِرَسْمٍ مِنْ رسْمِه ثم أشهده من ذاته في ذاته ما عَرَفَ أنه أوْلى به منه، فلما رأى انقلابَ وصفٍ في يده عَلمَ أنه ليس بشيء من أمره بيده.
إذا أراد اللهَ هوان عبدٍ لا يزيد الحقَّ حُجَّةً إلا ويزيد لذلك المُبْطِل فيه شبهةً ؛ فكلَّما زاد موسى - عليه السلام - في إظهار المعجزات ازدادوا حيرةً في التأويلات.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ١٠٩:إذا أراد اللهَ هوان عبدٍ لا يزيد الحقَّ حُجَّةً إلا ويزيد لذلك المُبْطِل فيه شبهةً ؛ فكلَّما زاد موسى - عليه السلام - في إظهار المعجزات ازدادوا حيرةً في التأويلات.
تَوهَّمَ الناسُ أنهم بالتأخير، وتقديم التدبير، وبذل الجهد والتشمير يُغَيِّرون شيئاً من التقدير بالتقديم أو بالتأخير، ولم يعلموا أن القضاءَ غالِبٌ، وأنَّ الحكمَ سابقٌ، وعند حلول الحكم فلا سلطانَ للعلم والفهم، والتسرع والحِلْم. . كلا، بل هو الله الواحد القهار العلاَّم.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ١١١:تَوهَّمَ الناسُ أنهم بالتأخير، وتقديم التدبير، وبذل الجهد والتشمير يُغَيِّرون شيئاً من التقدير بالتقديم أو بالتأخير، ولم يعلموا أن القضاءَ غالِبٌ، وأنَّ الحكمَ سابقٌ، وعند حلول الحكم فلا سلطانَ للعلم والفهم، والتسرع والحِلْم.. كلا، بل هو الله الواحد القهار العلاَّم.
ظنوا أنهم يَغلِبُون بما يسحرون، ولم يعلموا أن تأثير القدرة فيهم أغلب من تأثير سحرهم، وأنه لا يرد عنهم ما زَوَّرُوه في أنفسهم من فنون مكرهم فكادوا وكِيدَ لهم، فهو كما قيل :
ورماني بأسهم صائباتٍ *** وتعمدته بسهم فطاشا
فَبَيْنَاهم في توهِّم أنَّ الغلبة لهم فُتِحَ عليهم - من مكامن القدرة - جيشٌ، فوجدوا أنفسهم - في فتح القدرة - مقهورين بسيف المشيئة.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ١١٤:ظنوا أنهم يَغلِبُون بما يسحرون، ولم يعلموا أن تأثير القدرة فيهم أغلب من تأثير سحرهم، وأنه لا يرد عنهم ما زَوَّرُوه في أنفسهم من فنون مكرهم فكادوا وكِيدَ لهم، فهو كما قيل :
ورماني بأسهم صائباتٍ *** وتعمدته بسهم فطاشا
فَبَيْنَاهم في توهِّم أنَّ الغلبة لهم فُتِحَ عليهم - من مكامن القدرة - جيشٌ، فوجدوا أنفسهم - في فتح القدرة - مقهورين بسيف المشيئة.

نص مكرر لاشتراكه مع الآية ١١٤:ظنوا أنهم يَغلِبُون بما يسحرون، ولم يعلموا أن تأثير القدرة فيهم أغلب من تأثير سحرهم، وأنه لا يرد عنهم ما زَوَّرُوه في أنفسهم من فنون مكرهم فكادوا وكِيدَ لهم، فهو كما قيل :
ورماني بأسهم صائباتٍ *** وتعمدته بسهم فطاشا
فَبَيْنَاهم في توهِّم أنَّ الغلبة لهم فُتِحَ عليهم - من مكامن القدرة - جيشٌ، فوجدوا أنفسهم - في فتح القدرة - مقهورين بسيف المشيئة.

مَوَّهُوا بسحرهم أنهم غَلَبُوا، فَأَدْخَل الله - سبحانه - على تمويهاتهم قهرَ الحق، وطاشت تلك الحِيَلُ، وخاب منهم الأمل، وجذب الحقُّ - سبحانه - أسرارهم على الوهلة فأصبحوا في صدر العداوة، وكانوا - في التحقيق - من أهل الود. فسبحان مَنْ يُبْرِز العدوَّ في نعت الولي ؛ ثم يقلب الكتابَ ويُظْهِرُ الوليَّ في نعت العدو، ثم يأبى الحلُ إلا حصولَ المَقْضِيِّ.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ١١٨:السورة التي يذكر فيها الأعراف
بسم الله الرحمان الرحيم
الباء مكسورة في نفسها وعملها الخفض لأنها من الحروف الجارة للأسماء، وهي صغيرة القامة في الخط، ونقطها التي تتميز عن غيرها واحد وهو نهاية القلة، ثم موضع هذه النقطة أسفل الحرف، فهي تشير إلى التواضع والخضوع لكل وجه.
والسين " من بسم الله " حرف ساكن فالإشارة من الباء ألا تذر- في الخضوع والتذلل، والجهد والتوسل- ميسورا، ثم تسكن منتظرا للتقدير، فإن من القبول بفضله.
فذلك المأمول، وإن رد بحكم فله الحكيم، فتوافق تقديره بالموافقة في الرضا به، إذا الميم تشبر إلى منته إن شاء، ثم إلى موافقتك لتقديره بالرضا به إن لم يمن.
ويقال الباء تشير إلى بيان قلوب أهل الحقائق بلطائف المكاشفات بما يختصهم الحق- سبحانه- بذلك من دون الخلق، فهم على بيان مما يخفى على الخلق، فالغيب لهم كشف، والخبر لهم عيان، وما للناس علم فلهم وجود.
والسين تشير إلى سرور قلوبهم عند تقريبات البسط بما (... ) فيه من وجوه المراعاة !وصنوف لطائف المناجاة، فهم في جنات النعيم، وعيش بسط وتكريم، ودوام روح مقيم.
والميم تشير إلى محبة الحق- سبحانه- لهم بدءا فإنها هي الموجبة لمحابهم، إذ عنها صدر كل حب فبمحبته لهم أحبوه، وبقصده إليهم طلبوه، وبإرادته لهم أرادوه.
ويقال نزهة أسرار الموحدين في الإناخة بعقوة بسم الله، فمن حل تلك الساحة رتع في حدائق القدس، واستروح إلى نسيم الأنس.
ويقال بسم الله موقف الفقراء بقلوبهم، فللأغنياء موقفهم عرفات، وللفقراء موقفهم المكاشفات والمشاهدات.
ويقال قالة " بسم الله " ربيع الأحباب، أزهارها لطائف الوصلة، ونورها زوائد القربة.

نص مكرر لاشتراكه مع الآية ١١٨:السورة التي يذكر فيها الأعراف
بسم الله الرحمان الرحيم
الباء مكسورة في نفسها وعملها الخفض لأنها من الحروف الجارة للأسماء، وهي صغيرة القامة في الخط، ونقطها التي تتميز عن غيرها واحد وهو نهاية القلة، ثم موضع هذه النقطة أسفل الحرف، فهي تشير إلى التواضع والخضوع لكل وجه.
والسين " من بسم الله " حرف ساكن فالإشارة من الباء ألا تذر- في الخضوع والتذلل، والجهد والتوسل- ميسورا، ثم تسكن منتظرا للتقدير، فإن من القبول بفضله.
فذلك المأمول، وإن رد بحكم فله الحكيم، فتوافق تقديره بالموافقة في الرضا به، إذا الميم تشبر إلى منته إن شاء، ثم إلى موافقتك لتقديره بالرضا به إن لم يمن.
ويقال الباء تشير إلى بيان قلوب أهل الحقائق بلطائف المكاشفات بما يختصهم الحق- سبحانه- بذلك من دون الخلق، فهم على بيان مما يخفى على الخلق، فالغيب لهم كشف، والخبر لهم عيان، وما للناس علم فلهم وجود.
والسين تشير إلى سرور قلوبهم عند تقريبات البسط بما (... ) فيه من وجوه المراعاة !وصنوف لطائف المناجاة، فهم في جنات النعيم، وعيش بسط وتكريم، ودوام روح مقيم.
والميم تشير إلى محبة الحق- سبحانه- لهم بدءا فإنها هي الموجبة لمحابهم، إذ عنها صدر كل حب فبمحبته لهم أحبوه، وبقصده إليهم طلبوه، وبإرادته لهم أرادوه.
ويقال نزهة أسرار الموحدين في الإناخة بعقوة بسم الله، فمن حل تلك الساحة رتع في حدائق القدس، واستروح إلى نسيم الأنس.
ويقال بسم الله موقف الفقراء بقلوبهم، فللأغنياء موقفهم عرفات، وللفقراء موقفهم المكاشفات والمشاهدات.
ويقال قالة " بسم الله " ربيع الأحباب، أزهارها لطائف الوصلة، ونورها زوائد القربة.

نص مكرر لاشتراكه مع الآية ١١٨:السورة التي يذكر فيها الأعراف
بسم الله الرحمان الرحيم
الباء مكسورة في نفسها وعملها الخفض لأنها من الحروف الجارة للأسماء، وهي صغيرة القامة في الخط، ونقطها التي تتميز عن غيرها واحد وهو نهاية القلة، ثم موضع هذه النقطة أسفل الحرف، فهي تشير إلى التواضع والخضوع لكل وجه.
والسين " من بسم الله " حرف ساكن فالإشارة من الباء ألا تذر- في الخضوع والتذلل، والجهد والتوسل- ميسورا، ثم تسكن منتظرا للتقدير، فإن من القبول بفضله.
فذلك المأمول، وإن رد بحكم فله الحكيم، فتوافق تقديره بالموافقة في الرضا به، إذا الميم تشبر إلى منته إن شاء، ثم إلى موافقتك لتقديره بالرضا به إن لم يمن.
ويقال الباء تشير إلى بيان قلوب أهل الحقائق بلطائف المكاشفات بما يختصهم الحق- سبحانه- بذلك من دون الخلق، فهم على بيان مما يخفى على الخلق، فالغيب لهم كشف، والخبر لهم عيان، وما للناس علم فلهم وجود.
والسين تشير إلى سرور قلوبهم عند تقريبات البسط بما (... ) فيه من وجوه المراعاة !وصنوف لطائف المناجاة، فهم في جنات النعيم، وعيش بسط وتكريم، ودوام روح مقيم.
والميم تشير إلى محبة الحق- سبحانه- لهم بدءا فإنها هي الموجبة لمحابهم، إذ عنها صدر كل حب فبمحبته لهم أحبوه، وبقصده إليهم طلبوه، وبإرادته لهم أرادوه.
ويقال نزهة أسرار الموحدين في الإناخة بعقوة بسم الله، فمن حل تلك الساحة رتع في حدائق القدس، واستروح إلى نسيم الأنس.
ويقال بسم الله موقف الفقراء بقلوبهم، فللأغنياء موقفهم عرفات، وللفقراء موقفهم المكاشفات والمشاهدات.
ويقال قالة " بسم الله " ربيع الأحباب، أزهارها لطائف الوصلة، ونورها زوائد القربة.

نص مكرر لاشتراكه مع الآية ١١٨:السورة التي يذكر فيها الأعراف
بسم الله الرحمان الرحيم
الباء مكسورة في نفسها وعملها الخفض لأنها من الحروف الجارة للأسماء، وهي صغيرة القامة في الخط، ونقطها التي تتميز عن غيرها واحد وهو نهاية القلة، ثم موضع هذه النقطة أسفل الحرف، فهي تشير إلى التواضع والخضوع لكل وجه.
والسين " من بسم الله " حرف ساكن فالإشارة من الباء ألا تذر- في الخضوع والتذلل، والجهد والتوسل- ميسورا، ثم تسكن منتظرا للتقدير، فإن من القبول بفضله.
فذلك المأمول، وإن رد بحكم فله الحكيم، فتوافق تقديره بالموافقة في الرضا به، إذا الميم تشبر إلى منته إن شاء، ثم إلى موافقتك لتقديره بالرضا به إن لم يمن.
ويقال الباء تشير إلى بيان قلوب أهل الحقائق بلطائف المكاشفات بما يختصهم الحق- سبحانه- بذلك من دون الخلق، فهم على بيان مما يخفى على الخلق، فالغيب لهم كشف، والخبر لهم عيان، وما للناس علم فلهم وجود.
والسين تشير إلى سرور قلوبهم عند تقريبات البسط بما (... ) فيه من وجوه المراعاة !وصنوف لطائف المناجاة، فهم في جنات النعيم، وعيش بسط وتكريم، ودوام روح مقيم.
والميم تشير إلى محبة الحق- سبحانه- لهم بدءا فإنها هي الموجبة لمحابهم، إذ عنها صدر كل حب فبمحبته لهم أحبوه، وبقصده إليهم طلبوه، وبإرادته لهم أرادوه.
ويقال نزهة أسرار الموحدين في الإناخة بعقوة بسم الله، فمن حل تلك الساحة رتع في حدائق القدس، واستروح إلى نسيم الأنس.
ويقال بسم الله موقف الفقراء بقلوبهم، فللأغنياء موقفهم عرفات، وللفقراء موقفهم المكاشفات والمشاهدات.
ويقال قالة " بسم الله " ربيع الأحباب، أزهارها لطائف الوصلة، ونورها زوائد القربة.

خاطبَهم معتقداً أنهم هم الذين كانوا، وهم يعلمون أن تلك الأسرار قد خرجت عن رِقِّ الأشكال، وأن قلوبهم طهرت عن توهم التفرقة، وأن شمسَ العرفان طلعت في سماءِ أسرارهم، فأشهدوا الحقَّ بنظر صحيح، ولم يبقَ لتخويفات النفس فيهم سلطان، ولا لشيء من العلل بينهم مساغ.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ١٢٣:خاطبَهم معتقداً أنهم هم الذين كانوا، وهم يعلمون أن تلك الأسرار قد خرجت عن رِقِّ الأشكال، وأن قلوبهم طهرت عن توهم التفرقة، وأن شمسَ العرفان طلعت في سماءِ أسرارهم، فأشهدوا الحقَّ بنظر صحيح، ولم يبقَ لتخويفات النفس فيهم سلطان، ولا لشيء من العلل بينهم مساغ.
لما كان مصيرهم إلى الله سهل عليهم ما لقوا في مسيرهم إلى الله.
لما عَمِلُوا لله، وأوذوا في الله، صدقوا القصد إلى الله، وطلبوا المعونة من قِبَلِ الله، كذا سُنّةُ مَنْ كان الله أن يكون كلُّه على الله.
لما استزادوا من فرعون في التمكين من موسى وقومه استنكف أن يقر بعجزه، ويعترف بقصور قدرته، فتوعد موسى وقومَه بما عكس الله عليه تدبيره، وغلب عليه تقديره.
أحالهم على الله فإن رجوعَه إليه، فقال لهم : إن رجوعي - عند تحيري في أموري - إلى ربي، فليكن رجوعُكم إليه، وتوكَّلُكم عليه، وتَعَرَّضوا لنفحات يُسْرِه، فإنه حَكَمَ لأهل الصبر بجميل العُقبى.
خفي عليهم شهودُ الحقيقة، وغُشِيَ على أبصارهم حتى قالوا توالت علينا البلايا ؛ ففي حالك بلاء، وقَبْلكَ شقاء. . فما الفضل ؟ فأجابهم موسى - عليه السلام - بما علق رجاءهم بكشف البلاء فقال :﴿ عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ ﴾ فوقفهم على الانتظار. ومن شهد ببصر الأسراء شهد تصاريف الأقدار.
شدَّد عليهم وطأة القدرة بعدما ضاعف لديهم أسباب النعمة، فلا الوطأة أصلحتهم شِدَّتُها ولا النعمة نبهتهم كثرتها، لا بل إنْ مَسَّهم يُسْرٌ لاحظوه بعين الاستحقاق، وإن مَسَّهُم عُسْرٌ حملوه على التَّطَيُّرِ بموسى - عليه السلام - بمقتضى الاغترار.
الكفورُ لا يرى فضل المنعم ؛ فيلاحظ الإحسان بعين الاستحقاق، ثم إذا اتصل بشيء مما يكرهه تجنَّى وحمل الأمر على ما يتمنَّى :
وكذا المَلُولُ إذا أراد قطيعة ملَّ الوصال وقال كان وكانا
إن الكريم إذا حبَاكَ بودِّه سَتَر القبيح وأظهر الإحسانا
قوله جلّ ذكره :﴿ أَلاَ إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِندَ اللهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ ﴾.
المتفرد بالإيجاد هو الواحد ولكن بصائرهم مسدودة، وعقولهم عن شهود الحقيقة مصدودة، وأفهامهم عن إدراك المعاني مردودة.
جعلوا الإصرارَ على الاستكبار شعارَهم، وهتكوا بألسنتهم - في العتوِّ - أستارهم.
جَنَّسَ عليهم العقوباتِ لمَّا نوَّعُوا وجَنَّسوا فنونَ المخالفات، فلا إلى التكفير عادوا، ولا إلى التطهير تصدوا، وعوقبوا بِصَرْفِ قلوبهم عن شهود الحقائق وذلك أبلغُ مما اتصل بظواهرهم من فنون البلايا. . . . ونعوذُ بالله من السقوط عن عين الله.
لم يقولوا ادع لنا ربَّنا، بل ﴿ قَالُوا يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رِبُّكَ ﴾ فهم ما ازدادوا بزيادة تلك المحن إلا بعداً وأجنبية.
أبرزوا العهد ثم نقضوه، وقدموا العهد ثم رفضوه، وكما قيل :
إذا ارعوى عاد إلى جهله كذي الضنى عاد إلى نكسه
والشيخُ لا يترك أخلاقَه حتى يُوارى في ثرى رمسه
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ١٣٥:أبرزوا العهد ثم نقضوه، وقدموا العهد ثم رفضوه، وكما قيل :
إذا ارعوى عاد إلى جهله كذي الضنى عاد إلى نكسه
والشيخُ لا يترك أخلاقَه حتى يُوارى في ثرى رمسه

مَنْ صبر على مقاساة الذُّلِّ في الله وضع الله على رأسه قلنسوة العرفان، فهو العزيز سبحانه، لا يُشْمِتُ بأوليائه أعداءهم، ولا يضيع من جميل عهده جزاءَهم.
لم تَخْلُصْ في قلوبهم حقائقُ التوحيد فتاقت نفوسهم إلى عبادة غير الله، حتى قالوا لنبيِّهم موسى - عليه السلام - : اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة. وكذا صفة من لم يتحرر قلبُه من إثبات الأشغال والأعلال، ومن المساكنة إلى الأشكال والأمثال.
ويقال مَنْ ابتغى بالصنم أن يكون معبوده متى يُتَوَّهم في وصفِه أَنْ يُخلِصَ إلى اللهِ قصودَه ؟
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ١٣٨:لم تَخْلُصْ في قلوبهم حقائقُ التوحيد فتاقت نفوسهم إلى عبادة غير الله، حتى قالوا لنبيِّهم موسى - عليه السلام - : اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة. وكذا صفة من لم يتحرر قلبُه من إثبات الأشغال والأعلال، ومن المساكنة إلى الأشكال والأمثال.
ويقال مَنْ ابتغى بالصنم أن يكون معبوده متى يُتَوَّهم في وصفِه أَنْ يُخلِصَ إلى اللهِ قصودَه ؟

ذكَّرهم انفرادَه - سبحانه - بإنشائهم وإبداعهم، وأنه هو الإله المتفرد بالإيجاد، ونَبَّهَهُم أيضاً على عظيم نعمته عليهم، وأنه ليس حقُّ إتمام النعمة عليهم مقابلتَهم إياها بالتولِّي لغيره والعبادة لِمَنْ سواه.
ما ازداد موسى - عليه السلام – في تعديد إنعام الله عليهم، وتنبيهم على عظيم آلائه إلا ازدادوا جحداً، وبُعداً بالقلوب - عن محل العرفان - على بُعْد، وهذه أمارة من بلاه - سبحانه - في السابق بالقطع والرد.
عِدَةُ الأحباب عزيزة، فإذا حصلت المواعدة بين الأحباب، فهي عذبة حلوة كيفما كانت، وفي هذا المعنى أنشدوا :
أمطلينا وسَوِّفي *** وعِدِينا ولا تَفِي
ويقال عَلَّلَ الحقُّ - سبحانه - موسى بالوعد الذي وعده بأن يُسْمِعَه مرةً أخرى كلامَه، وذلك أنه في المرة الأولى ابتلاه بالإسماع من غير وعد، فلا انتظار ولا توقع ولا أمل، فأخذ سماعُ الخطاب بمجامع قلب موسى - عليه السلام - فعلَّق قلبه بالميقات المعلوم ليكون تأميله تعليلاً له، ثم إن وعد الحقِّ لا يكون إلا صدقاً، فاطمأن قلبُ موسى - عليه السلام - للميعاد، ثم لمَّا مضت ثلاثون ليلة أتى كما سَلَفَ الوعد فزاد له عشراً في الموعد. والمطل في الإنجاز غير محبوب إلا في سُنَّةِ الأحباب، فإن المطل عندهم أشهى من الإنجاز، وفي قريب من هذا المعنى أنشدوا :
أقيمي لعمرك لا تهجرينا *** ومَنِّينا المنى، ثم امطلينا
عِدينا موعداً ما شِئْتِ إنَّا *** نحبُّ وإنْ مطلت تواعدينا
فإِما تنجزي وعدَكِ أو فإنا *** نعيش نؤمل فيك حينا
قوله جلّ ذكره :﴿ وَقَالَ مُوسَى لأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِى فِى قَوْمِى وَأَصْلِحْ وَلاَ تَتَّبِعْ سَبِيلَ المُفْسِدِينَ ﴾.
كان هارون - عليه السلام - حمولاً بحسن الخُلُق ؛ لمَّا كان المرورُ إلى فرعونَ استصحب موسى - عليه السلام - هارونَ، فقال الله - سبحانه - :﴿ وَأَشْرِكْهُ فِى أَمْرِى ﴾[ طه : ٣٢ ] بعد ما قال :﴿ وَأَخِى هَارُونَ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّى لِسَانًا ﴾[ القصص : ٣٤ ]. ولمَّا كان المرور إلى سماع الخطاب أفرده عن نفسه، فقال : و ﴿ اخْلُفْنِى فِى قَوْمِى ﴾ وهذا غاية لحَمْلِ من هارون ونهاية التصبر والرضاء، فلم يَقُلْ : لا أقيم في قومك. ولم يقل : هلاَّ تحملني مع نفسك كما استصحبتني حال المرور إلى فرعون ؟ بل صبر ورضي بما لزم، وهذه من شديدات بلاء الأحباب، وفي قريب منه أنشدوا :
قال لي من أحب والبين قد *** حلَّ وفاقاً لزفرتي وشهيقي
ما تُرى في الطريق تصنع بعدي *** قلت : أبكي عليك طول الطريق
ثم إن موسى لما رجع من سماع الخطاب، فرأى من قومه ما رأى من عبادة العِجْل أخذ برأس أخيه يجره إليه حتى استلطفه هارون - عليه السلام - في الخطاب، فقال :
﴿ يَبْنَؤُمَّ لاَ تَأْخُذْ بِلِحْيَتِى وَلاَ بِرَأْسِى ﴾[ طه : ٩٤ ].
ويقال لو قال هارون - عليه السلام : إن لم تعوضني عما فاتني من الصحبة فلا تعاتبني فيما لم أذنب فيه بحال ذرةً ولا حبَّةً. . لكان موضع هذه القالة.
ويقال الذنبُ كان من بني إسرائيل، والعتاب جرى مع هارون، وكذا الحديث والقصة، فما كلُّ مَنْ عصى وجنى استوجب العتابَ، فالعتابُ ممنوعُ عن الأجانب
جاء موسى مجيء المشتاقين مجيء المهيَّمِين، جاء موسى بلا موسى، جاء موسى ولم يَبْقَ من موسى شيءٌ لموسى. آلافُ الرجال قطعوا مسافاتٍ طويلة فلم يذكرهم أحد، وهذا موسى خطا خطواتٍ فإلى القيامة يقرأ الصبيان :﴿ وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى ﴾.
ويقال لمَّا جاء موسى لميقات باسطِ الحقِّ - سبحانه - سقط بسماع الخطاب، فلم يتمالك حتى قال :﴿ أَرِنِى أَنْظُرْ إِلَيْكَ ﴾، فإنَّ غَلَبَاتِ الوجد عليه استنطقته بطلب كمال الوصلة من الشهود، وكذا قالوا :
وأبرحُ ما يكونُ الشوقُ يوماً *** إذا دَنَتْ الخيامُ من الخيام
ويقال صار موسى - عليه السلام - عند سماع الخطاب بعين السُّكْر فنطق ما نطق، والسكران لا يُؤخذ بقوله، ألا ترى أنه ليس في نص الكتاب معه عتاب بحرف ؟
ويقال أخذته عِزَّةُ السَّمَاعِ فخرج لسانه عن طاعته جرياً على مقتضى ما صحبه مِنَ الأَرْيَحَيَّةِ وبَسْطِ الوصلة.
ويقال جمع موسى - عليه السلام - كلماتٍ كثيرةً يتكلم بها في تلك الحالة ؛ فإن في القصص أنه كان يتحمل في أيام الوعد كلمات الحق، ويقول لمعارفه : ألكم حاجة إلى الله ؟ ألكم كلام معه ؟ فإني أريد أن أمضي إلى مناجاته.
ثم إنه لما جاء وسمع الخطاب لم يذكر - مما دبَّره في نفسه، وتحمله من قومه، وجمعه في قلبه - شيئاً لا حرفاً، بل نطق بما صار في الوقت غالباً على قلبه، فقال :﴿ رَبِّ أَرِنِى أَنظُرْ إِلَيْكَ ﴾ وفي معناه أنشدوا :
فيا ليلَ كم من حاجةٍ لي مهمة *** إذا جئتُكم ليلى فلم أدرِ ماهِيَا
ويقال أشدُّ الخَلْقِ شوقاً إلى الحبيب أقربُهم من الحبيب ؛ هذا موسى عليه السلام، وكان عريق الوصلة، واقفاً في محل المناجاة، محدقة به سجوفُ التولي، غالبة عليه بوادِهُ الوجود، ثم في عين ذلك كان يقول :﴿ رَبِّ أَرِنِى أَنْظُرْ إِلَيْكَ ﴾ كأنه غائب عن الحقيقة. ولكن ما ازداد القومُ شَرْباً إلا ازدادوا عطشاً، ولا ازدادوا تيماً إلا ازدادوا شوقاً، لأنه لا سبيل إلى الوصلة إلا بالكمال، والحقُّ - سبحانه - يصونُ أسرار أصفيائه عن مداخلة الملال.
ويقال نطق موسى عليه السلام بلسان الافتقار فقال ﴿ رَبِّ أَرِنِى أَنْظُرْ إِلَيْكَ ﴾ ولا أقلَّ من نظرة - والعبد قتيل هذه القصة - فقوبل بالردِّ، وقيل له :﴿ لَنْ تَرَانِى ﴾ وكذا قهر الأحباب ولذا قال قائلهم :
جَوْرُ الهوى أحسن من عَدْلِه *** وبخله أظرف من بذله
ويقال لمَّا صرَّح بسؤال الرؤية، وجهر صريحاً رُدَّ صريحاً فقيل له :﴿ لَن تَرَانِى ﴾، ولما قال نبيُّنا - صلى الله عليه وسلم - بِسِرِّه في هذا الباب، وأشار إلى السماء منتظراً الرد والجواب من حيث الرمز نزل قوله تعالى :﴿ قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِى السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا ﴾[ البقرة : ١٤٤ ] فردَّه إلى شهود الجهات والأطلال إشارة إلى أنه أعزُّ من أن يطمح إلى شهوده - اليوم - طَرْفٌ، بل الألحاظ مصروفة موقوفة - اليومَ - على الأغيار.
ويقال لما سَمَتْ همَّتُه إلى أسنى المطالب - وهي الرؤية - قوبل " بِلَنْ، ولمَّا رجِعَ إلى الخلْق وقال للخضر﴿ هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَن تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا ﴾[ الكهف : ٦٦ ]، قال الخضر :﴿ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِىَ صَبْرًا ﴾[ الكهف : ٦٧ ] فقابله بلن، فصار الردُّ موقوفاً على موسى - عليه السلام من الحق ومن الخلْق، ليكون موسى بلا موسى، ويكون موسى صافياً عن كل نصيب لموسى من موسى، وفي قريب منه أنشدوا :
(. . . . . . ) نحنُ أهلُ منازلٍ *** أبداً غرابُ البيْن فينا ينعق
ويقال طلب موسى الرؤية وهو بوصف التفرقة فقال :﴿ رَبِّ أَرِنِى أَنظُرْ إِلَيْكَ ﴾ فأجيب بلن لأن عين الجمع أتم من عين الفَرْق. فزع موسى حتى خَرَّ صعقاً، والجبل صار دَكَّاً. ثم الروْح بعد وقوع الصعقة على القالب مكاشفته بما هو حقائق الأحدية، ويكون الحقُّ - بعد امتحاء معالم موسى - خيراً لموسى من بقاء موسى لموسى، فعلى الحقيقة : شهود الحقائق بالحقِّ أتمُ من بقاء الخلق بالخلق، كذا قال قائلهم :
ولوجهها من وجهها قمرٌ *** ولعينها من عينها كحل
ويقال البلاء الذي ورد على موسى بقوله :﴿ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِى ﴾ ﴿ فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا ﴾ أتمُّ وأعظم منه قولُه :﴿ لَن تَرَانِى ﴾ لأن ذلك صريحٌ في الرد، وفي اليأس راحة. لكنَّه لما قال فسوف أطْمِعُه فيما مُنعِه فلما اشتد موقُفه جعل الجبل دكاً، وكان قادراً على إمساك الجَبَل، لكنه قهر الأحباب الذي به جَرَتْ سُنَّتُهم.
ويقال في قوله :﴿ انظُرْ إِلَى الجَبَلِ ﴾ بلاءٌ شديد لموسى لأنه نُفِيَ عن رؤية مقصوده ومُنِيَ برؤية الجبل، ولو أذِنَ أَنْ يُغْمِضَ جفنَه فلا ينظر إلى شيء بعدما بقي عن مراده من رؤيته لكان الأمرُ أسهلَ عليه، ولكنه قال له :﴿ لَن تَرَانِى وَلَكِنِ انظُرْ إِلَى الجَبَلِ ﴾.
ثم أشدُّ من ذلك أنه أعطى الجبل التَّجليَ ؛ فالجبل رآه وموسى لم يَرَه، ثم أَمَرَ موسى بالنظر إلى الجبل الذي قدم عليه في هذا السؤال، وهذا - واللهِ - لصعبٌ شديد ! ! ولكن موسى لم ينازع، ولم يقل أنا أريد النظر إليك فإذا لم أرَكَ لا أنظر إلى غيرك بل قال : لا أرفع بصري عما أمرتني بأن أنظر إليه، وفي معناه أنشدوا :
أريدُ وصالَه ويريد هجري *** فأترك ما أريد لما يريد
ويقال بل الحق سبحانه أراد بقوله :﴿ وَلَكِنِ انظُرْ إِلَى الجَبَلِ ﴾ تداركه قلبُ موسى - عليه السلام - حيث لم يترك على صريح الرد بل علله برفق كما قيل :
فذريني أفني قليلاً قليلاً ***. . .
ويقال لما رُدَّ موسى إلى حال الصحو وأفاق رجع إلى رأس الأمر فقال :﴿ تُبْتُ إِلَيْكَ ﴾ يعني إن لم تكن الرؤية هي غاية المرتبة فلا أقل من التوبة، فَقَبِلَه - تعالى - لسمو همته إلى الرتبة العلية.
قوله جلّ ذكره :﴿ تُبْتُ إِلَيْكَ ﴾.
هذه إناخة بعقوة العبودية، وشرط الإنصاف ألا تبرحَ محلّ الخدمة وإِنْ حيل بينك وبين وجود القربة ؛ لأن القربةَ حظُّ نفسك، والخدمةَ حقُّ ربك، وهي تتم بألا تكون بحظ نفسك.
هذا الخطاب لِتَدَارُكِ قلب موسى - عليه السلام - بكل هذا الرِّفق، كأنه قال : يا موسى، إني منعتُكَ عن شيء واحد وهو الرؤية، ولكني خصصتُك بكثيرٍ من الفضائل ؛ اصطفيتُك بالرسالة، وأكرمتُك بشرف الحالة، فاشكرْ هذه الجملة، واعرفْ هذه النعمة، وكنْ من الشاكرين، ولا تتعرضْ لمقام الشكوى، وفي معناه أنشدوا :
إنْ أعرضوا فهم الذين تَعَطَّفُوا وإنْ جَنَوْا فاصبرْ لهم إن أخلفوا
وفي قوله سبحانه :﴿ وَكُن مِّنَ الشَّاكِرِينَ ﴾ إشارة لطيفة كأنه قال : لا تكن من الشاكين، أي إِنْ منعتُكَ عن سُؤْلِك، ولم أعْطِك مطلوبَك فلا تَشْكُنِى إذا انصرفتَ.
وفي الأثر : أن موسى عليه السلام كان يسمع صريرَ القلم، وفي هذا نوع لطف لأنه إنْ منع منه النظر أو منعه من النظر فقد علله بالأثر.
قوله جلّ ذكره :﴿ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ ﴾.
فيه إشارة إلى أن الأَخْذَ يُشير إلى غاية القرْبِ، والمراد ها هنا صفاءُ الحال، لأن قربَ المكانِ لا يَصِحُّ على الله سبحانه.
قوله جلّ ذكره :﴿ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا ﴾.
فَرْقٌ بين ما أمر به موسى من الأخذ وبين ما أمره أن يأمر به قومه من الأخذ، أَخْذُ موسى عليه السلام من الحق على وجهٍ من تحقيق الزلفة وتأكيد الوصلة، وأَخْذُهُم أخذُ قبولٍ من حيث التزام الطاعة، وشتان ما هما !.
قوله :﴿ بِأَحْسَنِهَا ﴾ بمعنى بِحُسْنِهَا، و يحتمل أن تكون الهمزة للمبالغة يعني : بأحسنها ألا تعرِّج على تأويل وارجع إلى الأَوْلى.
قوله جلّ ذكره :﴿ سَأُورِيكُمْ دَارَ الفَاسِقِينَ ﴾.
يعني عليها غَبَرةٌ العقوبة، خاوية على عروشها، ساقطة على سقوفها، مُنْهَدٌّ بنيانُها، عليه قَتَرةُ العِقاب.
والإشارة من دار الفاسقين إلى النُّفوس المتابعة للشهوات، والقلوب التي هي معادن المنى وفاسد الخطرات، فإنَّ الفِسقَ يوجب خرابَ المحل الذي يجري فيه ؛ فمن جرى على نفسه فِسْق خربت نفسه. وآية خراب النفوس انتفاءُ ما كان عليها وفيها من سكان الطاعات، فكما تتعطل المنازل عن قطانها إذا تداعت للخراب فكذلك إذا خربت النفوس بعمل المعاصي فتنتفي عنها لوازم الطاعات ومعتادها، فبعد ما كان العبد يتيسر عليه فعل الطاعات لو ارتكب شيئاً من المحظورات يشق عليه فعل العبادة، حتى لو خُيِّر بين ركعتي صلاة وبين مقاساة كثيرٍ من المشاق آثر تحمل المشاقِّ على الطاعة. . وعلى هذا النحو ظلمُ القلوب وفسادُها في إيجاب خراب محالها.
سأَحْرُمُ المتكبرين بركاتِ الاتباع حتى لا يقابلوا الآياتِ التي يُكاشَفُون بها بالقبول، ولا يسمعوا ما يُخَاطَبُون به بسمع الإيمان.
والتكبُّر جحدُ الحق - على لسان العلم، فَمَنْ جَحَدَ حقائقَ الحقِّ فجحودُه تكبُّره واعتراضُه على التقدير مما يتحقق جحودُه في القلب.
ويقال التكبُّر توهمُ استحقاقِ الحقِّ لك.
ويقال من رأى لنفسه قيمةً في الدنيا والآخرة فهو متكبِّر.
ويقال مَنْ ظَنَّ أَنَّ شيئاً منه أو له أو إليه - من النفي والإثبات - إلا على وجه الاكتساب فهو متكبِّر.
قوله جلّ ذكره :﴿ وَإِن يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لاَ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِن يَرَوْا سَبِيلَ الغَىِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَلِقَاءِ الآخِرَةِ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ هَلْ يُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾
تبيَّن بهذا أنه لا يكفي شهودُ الحقِّ حقاً وشهودُ الباطلِ باطلاً بل لا بُدَّ من شهود الحق من وجود التوفيق للحق، ومنع شهود الباطل من وجود العصمة من اتباع الباطل.
ويقال إِنَّ الجاحِدَ للحقِّ - مع تحققه به - أقبحُ حالةً من الجاهل به المُقصِّرِ في تعريفه.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ١٤٦:سأَحْرُمُ المتكبرين بركاتِ الاتباع حتى لا يقابلوا الآياتِ التي يُكاشَفُون بها بالقبول، ولا يسمعوا ما يُخَاطَبُون به بسمع الإيمان.
والتكبُّر جحدُ الحق - على لسان العلم، فَمَنْ جَحَدَ حقائقَ الحقِّ فجحودُه تكبُّره واعتراضُه على التقدير مما يتحقق جحودُه في القلب.
ويقال التكبُّر توهمُ استحقاقِ الحقِّ لك.
ويقال من رأى لنفسه قيمةً في الدنيا والآخرة فهو متكبِّر.
ويقال مَنْ ظَنَّ أَنَّ شيئاً منه أو له أو إليه - من النفي والإثبات - إلا على وجه الاكتساب فهو متكبِّر.
قوله جلّ ذكره :﴿ وَإِن يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لاَ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِن يَرَوْا سَبِيلَ الغَىِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَلِقَاءِ الآخِرَةِ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ هَلْ يُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾
تبيَّن بهذا أنه لا يكفي شهودُ الحقِّ حقاً وشهودُ الباطلِ باطلاً بل لا بُدَّ من شهود الحق من وجود التوفيق للحق، ومنع شهود الباطل من وجود العصمة من اتباع الباطل.
ويقال إِنَّ الجاحِدَ للحقِّ - مع تحققه به - أقبحُ حالةً من الجاهل به المُقصِّرِ في تعريفه.

لم يُطَهِّر قلوبَهم - في ابتداء أحوالهم - عن توهم الظنون، ولم يتحققوا بخصائص القِدَمِ وشروط الحدوث، فعثرت أقدام فكرهم في وهاد المغاليط لما سلكوا المسير.
ويقال إن أقواماً رضوا بالعِجْلِ. أن يكونَ معبودَهم متى تشم أسرارُهم نسيمَ التوحيد ؟ هيهات لا ! لا ولا مَنْ لاحظ جبريلَ وميكائيلَ والعرشَ أو الثَّرى، أو الجِنَّ أو الورى. وإِنَّ مَنْ لَحِقَه ذلك أو وجد من قبيل ما يقبل نعوت الحدثان، أو صحَّ في التجويز أن ترتقي إليه صواعد التقدير وشرائط الكيفية فغيرُ صالحٍ لاستحقاق الإلهية.
ويقال شتَّان بين أمة وأمة ! أمة خرج نبيهم عليه السلام من بينهم أربعين يوماً فعبدوا العِجْلَ، وأمة خرج نبيُّهم - عليه السلام - من بينهم وأَتَى نيف وأربعمائة سنة فمن ذكر بين أيديهم أن الشموس والأقمار أو شيئاً من الرسوم والأطلال تستحق الإلهية أحرقوه بهممهم.
ويقال لا فصلَ بين الجسم والجسد، فكما لا يصلح أن يكون المعبود جسماً لا يصلح أن يكون متصفاً بما في معناه، ولا أن يكون له صوت فإن حقيقة الأصوات مُصَاكَّةُ الأجرام الصلبة، والتوحيد الأزلي ينافي هذه الجملة.
ويقال أَجْهِلْ بقوم آمنوا بأن يكونَ مصنوعُهم معبودَهم ! ولولا قهر الربوبية وأنه تعالى يفعل ما يشاء - فأَيُّ عقلٍ يُقِرُّ مثل هذا التلبيس ؟ !
قوله جلّ ذكره :﴿ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لاَ يُكَلِّمُهُمْ وَلاَ يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً اتَّخَذُوهُ وَكَانُوا ظَالِمِينَ ﴾.
جعل من استحقاقه نعوت الإلهية صحة الخطاب وأن تكون منه الهداية، وهذا يدل على استحقاق الحق بالنعوت بأن متكلِّمٌ في حقائق آزاله، وأنه متفرِّد بهداية العبد لا هاديَ سواه. وفيه إشارة إلى مخاطبة الحق - سبحانه - وتكليمه مع العبد، وإنَّ الملوكَ إذا جلَّتْ رتبتهم استنكفوا أن يخاطبوا أحداً بلسانهم حتى قال قائلهم :
وما عَجَبٌ تناسي ذِكْرِ عبدٍ على المولى إذا كَثُرَ العبيدُ
وبخلاف هذا أجرى الحقُّ - سنَّتَه مع عباده المؤمنين، أما الأعداء فيقول لهم :
﴿ اخْسَئُوا فِيهَا وَلاَ تُكَلِّمُونِ ﴾[ المؤمنون : ١٠٨ ] وأمَّا المؤمنون فقال صلى الله عليه وسلم :" ما منكم إلا يكلمه ربُّه ليس بينه وبينه ترجمان "، وأنشدوا في معناه.
وما تزدهينا الكبرياءُ عليهمُ إذا كلَّمونا أن نكلمهم مَرَدَّا
قال تعالى :﴿ قُل لَّوْ كَانَ البَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّى لَنَفِدَ البَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّى وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا ﴾[ الكهف : ١٠٩ ].
حين تحققوا بقبح صنيعهم تجرَّعوا كاساتِ الأسف ندماً، واعترفوا بأنهم خَسِروا إنْ لم يتداركهم من الله جميلُ لطْفِه.
لو وجد موسى قومه بألف ألف وِفاقٍ لكان متنغِّصَ العيش لِمَا مني به من حرمان سماع الخطاب والرد إلى شهود الأغيار. . فكيف وقد وجد قومه قد ضلوا وعبدوا العجل ؟ ولا يُدْرَى أيُّ المحن كانت أشدَّ على موسى :
أَفِقدانُ سماع الخطابِ ؟ أو بقاؤه عن سؤال الرؤية ؟ أو ما شاهد من افتنان بني إسرائيل، واستيلاء الشهوة على قلوبهم في عبادة العجل ؟ سبحان الله ! ما أَشدَّ بلاءه على أوليائه !
قوله جلّ ذكره :﴿ وَأَلْقَى الأَلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ القَوْمَ اسْتَضْعَفُونِى وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِى فَلاَ تُشْمِتْ بِىَ الأَعْدَاءَ وَلاَ تَجْعَلْنِى مَعَ القَوْمِ الظَّالِمِينَ قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِى وَلأَخِى وَأَدْخِلْنَا فِى رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ﴾.
إن موسى عليه السلام وإنْ كان سَمِعَ من اللهِ فتَنَ قومه فإنه لما شَاهَدَهُم أثَّرت فيه المشاهدةُ بما لم يؤثر فيه السماع، وإنْ عُلِمَ قطعاً أنه تأثر بالسماع إلا أن للمعاينة تأثيراً آخر.
ثم إن موسى لما أخذ برأس أخيه يجره إليه استلطفه هارونُ في الخطاب.
فقال :﴿ ابْنَ أُمَّ ﴾[ طه : ٩٤ ] فَذَكَرَ الأمَّ هنا للاسترفاق والاسترحام.
وكذلك قوله :﴿ تَأْخُذْ بِلِحْيَتِى وَلاَ بِرَأْسِى ﴾[ طه : ٩٤ ] يريد بهذا أنه قد توالت المحنُ علي فذرني وما أنا فيه، ولا تَزِدْ في بلائي، خلفتني فيهم فلم يستنصحوني. وتلك عليَّ شديدةٌ. ولقيتُ بَعْدَكَ منهم ما ساءني، ولقد علمت أنها كانت علي عظيمة كبيرة، وحين رجعتَ أخذتَ في عتابي وجر رأسي وقصدْتَ ضربي، وكنت أود منك تسليتي وتعزيتي. فرِفقاً بي ولا تُشْمِتْ بي الأعداء، ولا تضاعِفْ عليّ البلاء.
وعند ذلك رقَّ له موسى - عليه السلام، ورجع إلى الابتهال إلى الله والسؤال بنشر الافتقار فقال :﴿ رَبِّ اغْفِرْ لِى وَلأَخِى وَأَدْخِلْنَا فِى رَحْمَتِكَ ﴾ وفي هذا إشارة إلى وجوب الاستغفار على العبد في عموم الأحوال، والتحقق بأنَّ له - سبحانه - تعذيبَ البريءِ ؛ إذ الخلقُ كُلُّهم مِلْكُه، وتَصَرُّفُ المالكِ في مِلْكه نافذٌ.
ويقال : ارتكابُ الذَّنْبِ كان من بني إسرائيل، والاعتذارُ كان من موسى وهارون عليهما السلام، وكذا الشرط في باب خلوص العبودية.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ١٥٠:لو وجد موسى قومه بألف ألف وِفاقٍ لكان متنغِّصَ العيش لِمَا مني به من حرمان سماع الخطاب والرد إلى شهود الأغيار.. فكيف وقد وجد قومه قد ضلوا وعبدوا العجل ؟ ولا يُدْرَى أيُّ المحن كانت أشدَّ على موسى :
أَفِقدانُ سماع الخطابِ ؟ أو بقاؤه عن سؤال الرؤية ؟ أو ما شاهد من افتنان بني إسرائيل، واستيلاء الشهوة على قلوبهم في عبادة العجل ؟ سبحان الله ! ما أَشدَّ بلاءه على أوليائه !
قوله جلّ ذكره :﴿ وَأَلْقَى الأَلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ القَوْمَ اسْتَضْعَفُونِى وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِى فَلاَ تُشْمِتْ بِىَ الأَعْدَاءَ وَلاَ تَجْعَلْنِى مَعَ القَوْمِ الظَّالِمِينَ قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِى وَلأَخِى وَأَدْخِلْنَا فِى رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ﴾.
إن موسى عليه السلام وإنْ كان سَمِعَ من اللهِ فتَنَ قومه فإنه لما شَاهَدَهُم أثَّرت فيه المشاهدةُ بما لم يؤثر فيه السماع، وإنْ عُلِمَ قطعاً أنه تأثر بالسماع إلا أن للمعاينة تأثيراً آخر.
ثم إن موسى لما أخذ برأس أخيه يجره إليه استلطفه هارونُ في الخطاب.
فقال :﴿ ابْنَ أُمَّ ﴾[ طه : ٩٤ ] فَذَكَرَ الأمَّ هنا للاسترفاق والاسترحام.
وكذلك قوله :﴿ تَأْخُذْ بِلِحْيَتِى وَلاَ بِرَأْسِى ﴾[ طه : ٩٤ ] يريد بهذا أنه قد توالت المحنُ علي فذرني وما أنا فيه، ولا تَزِدْ في بلائي، خلفتني فيهم فلم يستنصحوني. وتلك عليَّ شديدةٌ. ولقيتُ بَعْدَكَ منهم ما ساءني، ولقد علمت أنها كانت علي عظيمة كبيرة، وحين رجعتَ أخذتَ في عتابي وجر رأسي وقصدْتَ ضربي، وكنت أود منك تسليتي وتعزيتي. فرِفقاً بي ولا تُشْمِتْ بي الأعداء، ولا تضاعِفْ عليّ البلاء.
وعند ذلك رقَّ له موسى - عليه السلام، ورجع إلى الابتهال إلى الله والسؤال بنشر الافتقار فقال :﴿ رَبِّ اغْفِرْ لِى وَلأَخِى وَأَدْخِلْنَا فِى رَحْمَتِكَ ﴾ وفي هذا إشارة إلى وجوب الاستغفار على العبد في عموم الأحوال، والتحقق بأنَّ له - سبحانه - تعذيبَ البريءِ ؛ إذ الخلقُ كُلُّهم مِلْكُه، وتَصَرُّفُ المالكِ في مِلْكه نافذٌ.
ويقال : ارتكابُ الذَّنْبِ كان من بني إسرائيل، والاعتذارُ كان من موسى وهارون عليهما السلام، وكذا الشرط في باب خلوص العبودية.

يعني إن الذين اتخذوا العِجْلَ معبوداً سَيَنالهُم في مستقبل أحوالهم جزاءُ أعمالهم. والسين في قوله " سينالهم " للاستقبال، ومَنْ لا يضره عصيان العاصين لا يبالي بتأخير العقوبة عن الحال، وفَرْقٌ بين الإمهال والإهمال، والحق - سبحانه - يمهل ولكنه لا يهمل، ولا ينبغي لِمَنْ يذنب ثم لا يُؤَاخَذُ في الحال أَنْ يَغْترَّ بالإمهال.
وَصَفَهم بالتوبة بعد عمل السيئات ثم بالإيمان بعدها، ثم قال :﴿ مَن بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴾. والإيمان الذي هو بعد التوبة يحتمل آمنوا بأنه يقبل التوبة، أو آمنوا بأن الحق سبحانه لم يُضِرْه عصيانٌ، أو آمِنوا بأنهم لا ينجون بتوبتهم من دون فضل الله، أو آمنوا أي عَدُّوا ما سبق منهم من نّقض العَهْدِ شِرْكاً.
ويقال استداموا للإيمان فكان موافاتهم على الإيمان.
أو آمنوا بأنهم لو عادوا إلى ترك العهد وتضييع الأمر سقطوا من عين الله، إذ ليس كل مرة تسلم الجرة.
تشير إلى حسن إمهاله - سبحانه - للعبد إذا تغيَّر عن حدِّ التمييز، وغَلَبَ عليه ما لا يطيق ردَّه من بواده الغيب.
وإذا كانت حالة الأنبياء - عليهم السلام - أنه يغلبهم ما يعطلهم عن الاختيار فكيف الظن بِمنْ دونهم.
شتان بين أمة وأمة ؛ أمة يختارهم نبيُّهم - عليه السلام، وبين أمة اختارها الحقُّ - سبحانه، فقال :﴿ وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى العَالَمِينَ ﴾[ الدخان : ٣٢ ].
الذين اختارهم موسى قالوا :﴿ أرِنَا اللهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ ﴾[ النساء : ١٥٣ ] والذين اختارهم الحق - سبحانه - قال الله تعالى فيهم :﴿ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ ﴾
[ القيامة : ٢٢ ].
ويقال إن موسى - عليه السلام - جاهر الحقَّ - سبحانه - بنعت التحقيق وفارق الحشمة وقال صريحاً :﴿ إنْ هِىَ إِلاَّ فِتْنَتُكَ ﴾ ثم وَكَلَ الحكمَ إليه فقال :﴿ تُضِلُّ بِهَا مَن تَشَاءُ وَتَهْدِى مَن تَشَاءُ ﴾ ثم عقَّبها ببيان التضرع فقال :﴿ فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا ﴾، ولقد قدَّم الثناءَ على هذا الدعاء فقال :﴿ أَنتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا ﴾.
نَطَقَ بلسان التضرع والابتهال حيث صَفَّى إليه الحاجة، وأخلص له في السؤال فقال :﴿ وَاكْتُبْ لَنَا فِى هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِى الآخِرَةِ ﴾ أي اهدنا إليك.
وفي هذه إشارة إلى تخصيص نبيِّنا - صلى الله عليه وسلم - في التبري من الحول والقوة والرجوع إلى الحقِّ لأن موسى - عليه السلام قال :﴿ وَاكْتُبْ لَنَا فِى. . . . ﴾ ونبيُّنا صلى الله عليه وسلم قال :" لا تكلني إلى نفسي طرفة عين " ولا أقلَّ من ذلك، وقال :" واكفلني كفالة الوليد " ثم زاد في ذلك حيث قال :" لا أحصي ثناء عليك ".
قوله جلّ ذكره :﴿ إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ ﴾.
أي مِلْنَا إلى دينك، وصِرْنَا لكَ بالكلية، في غير أَنْ نترك لأنفسنا بقية.
قوله جلّ ذكره :﴿ قَالَ عَذَابِى أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ وَرَحْمَتِى وَسِعَتْ كُلَّ شَيءٍ ﴾.
وفي هذا لطيفة ؛ حيث لم يقل : عذابي لا أُخْلِي منه أحَداً، بل علَّقَه على المشيئة. وفيه أيضاً إشارة ؛ أنّ أفعاله - سبحانه - غيرُ مُعَلَّلَة بأكساب الخلق ؛ لأنه لم يقل : عذابي أصيب به العصاة بل قال :﴿ مَنْ أَشَاءُ ﴾ ؛ وفي ذلك إشارة إلى جواز الغفران لمن أراد لأنه قال :﴿ أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ ﴾ فإذا شاء ألا يصيب به أحداً كان له ذلك، وإلا لم يكن حينئذٍ مختاراً.
ثم لمَّا انتهى إلى الرحمة قال :﴿ وَرَحْمَتِى وَسِعَتْ كُلَّ شَيء ﴾ لم يُعَلِّقها بالمشيئة ؛ لأنها نفس المشيئة ولأنها قديمة، والإرادة لا تتعلق بالقديم. فلمَّا كان العذابُ من صفات الفعل علَّقه بالمشيئة، بعكس الرحمة لأنها من صفات الذات.
ويقال في قوله تعالى :﴿ وَسِعَتْ كُلَّ شَيء ﴾ مجالٌ لآمالِ العُصَاة ؛ لأنهم وإن لم يكونوا من جملة المطيعين والعبادين والعارفين فهم ﴿ شيء ﴾.
قوله جلّ ذكره :﴿ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ ﴾.
أي سأوجبها لهم، فيجب الثواب للمؤمنين من الله ولا يجب لأحدٍ شيء على الله إذ لا يجب عليه شيءٍ لعزِّه في ذاته.
قوله ها هنا :﴿ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ ﴾ أي يجتنبون أَنْ يروا الرحمة باستحقاقهم، فإذا اتقوا هذه الظنون، وتيقنوا أن أحكامه ليست معللةً بأكسابهم - استوجبوا الرحمة، ويحكم بها لهم.
﴿ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ ﴾ أي بما يكاشفهم به الأنظار مما يقفون عليه بوجوه الاستدلال، وبما يلاطفهم به في الأسرار مما يجدونه في أنفسهم من فنون الأحوال.
أظهر شرفَ المصطفى - صلى الله عليه وسلم - بقوله :﴿ النَّبِىِّ الأُمِّىّ ﴾ أي أنه لم يكن شيء من فضائله وكمال علمه وتهيؤه إلى تفصيل شرعه مِنْ قِبَلِ نَفْسِه، أو من تعلُّمه وتكلُّفه، أو من اجتهاده وتصرُّفه. . بل ظهر عليه كلُّ ما ظهر مِنْ قِبَله - سبحانه - فقد كان هو أميَّاً غير قارئٍ للكتب، ولا مُتَتَبِّعٍ للسِّيرَ.
ثم قال :﴿ يَأْمُرُهُم بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ المُنْكَرِ ﴾ : والمعروف هو القيام بحق الله، والمنكر هو البقاء بوصف الحظوظ وأحكام الهوى، والتعريج في أوطان المُنَى، وما تصوِّره للعبد تزويراتُ الدعوى. والفاصلُ بين الجسمين، والمميِّزُ بين القسمين - الشريعةُ، فالحَسَنُ من أفعال العباد ما كان بنعت الإذن من مالك الأعيان فلَهُم ذلك، والقبيح ما كان موافقاً لِلنَّهْيِ والزجرِ فليس لهم فعل ذلك.
قوله جلّ ذكره :﴿ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِى كَانَتْ عَلَيْهِمْ ﴾.
الإصرُ الثُّقلُ، ولا شيءَ أثقلُ من كَدِّ التدبير، فَمَنْ ترك كد التدبير إلى روْح شهود التقدير، فقد وُضِع عنه كلُّ إصر، وكُفِيَ كُلَّ وِزر وأمر.
والأغلالُ التي كانت عليهم هي ما ابتدعوه مِنْ قبَلِ أنفسهم باختيارهم في التزامِ طاعات الله ما لم يُفْتَرضْ عليهم، فَوُكِلُوا إلى حَوْلِهمُ ومُنَّتِهم فيها ؛ فأهملوها، ونقضوا عهودهم.
ومَنْ لَقِيَ - بخصائص الرضا - ما تجري به المقادير، وشَهِدَ الحقَّ في أجناس الأحداث، فقد خُصَّ بكل نعمة وفضل.
قوله جلّ ذكره :﴿ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِى أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ ﴾.
اعترف لهم بنصرة الرسول - صلى الله عليه وسلم - وإلا فالنبي صلى الله عليه وسلم كان الله حسيبه، ومَنْ كان استقلاله بالحق لم يقف انتعاشه على نصرة الخلق.
صَرِّحْ بما رقَّيْنَاكَ إليه من المقام، وأفصِحْ عما لقيناك به من الإكرام، قُلْ إني إلى جماعتكم مُرسلٌ، وعلى كافتكم مُفَضَّل، وديني - لِمَنْ نظر واعتبر، وفكَّر وسَبَرَ - مُفَصَّل. فإِلهي الذي لا شريكَ له ينازعه، ولا شبيهَ يُضَارِعه له حقُّ التصرف في مُلْكِه بما يريد من حكمه. ومن جملة ما حكم وقضى، ونفذ به التقدير وأَمْضى - إرسالي إليكم لتطيعوه فيما يأمركم، وتحذروا من ارتكاب ما يزجركم. وإِنَّ مما أَمَرَكُم به أنه قال لكم : آمِنوا بالنبي الأُمِّي، واتبعوه لتُفْلِحوا في الدنيا والعقبى، وتستوجبوا الزُّلفى والحسنى، وتتخلصوا من البلوى والهوى.
هم الذين سبقت لهما لعناية، وصدقت فيهم الولاية فبقوا على الحق من غير تحريف ولا تحويل، وأدركتهم الرحمةُ السابقةُ، فلم تتطرق إليهم مفاجأة تغيير، ولا خفيُّ تبديل.
فَرَّقهم أصنافاً، وجعلهم في التحزب أخيافاً، ثم كفاهم ما أَهَمهُم، وأعطاهم ما لم يكن لهم بُدٌّ منه فيما نابَهم ؛ فظللنا عليهم ما وقاهم أذى الحرِّ والبرد، وأنزلنا عليهم المَنَّ والسَّلوى مما نفى عنهم تعبَ الجوعِ والجهد والسعي والكد، وفجَّرنا لهم العيونَ عند النزول حتى كانوا يشاهدونهم عياناً، وألقينا بقلوبهم من البراهين ما أوجب لهم قوة اليقين، ولكن ليست العِبْرةُ بأفعال الخَلْقِ ولا بأعمالهم إنما المدارُ على مشيئة الحق، سبحانه وتعالى فيما يُمضِي عليهم من فنون أحوالهم.
يخبر عما ألزمهم من مراعاة الحدود، وما حصل منهم من نقض العهود. وعما ألزمهم من التكليف، ولقَّاهم به من صنوف التعريف، وإكرامه من شاءَ منهم بالتوفيق والتصديق، وإذلاله من شاء منهم بالخذلان وحرمان التحقيق، ثم ما عاقبهم به من فنون البلاء فما لقوا تعريفاً، وأذاقهم من سوء الجزاء، حُكْماً - من الله - حتما، وقضاء جزماً.
جاء في التفسير أنهم زادوا حرفاً في الكلمة التي قيلت لهم فقالوا : حنطة بدل " حِطَّة " فلقوا من البلاء ما لقوا تعريفاً أن الزيادةَ في الدين، والابتداعَ في الشرع عظيمُ الخَطَرَ، ومجاوزةُ حدِّ الأمر شديدُ الضرر.
ويقال إذا كان تغييرُ كلمةٍ هي عبارة عن التوبة يوجب كل ذلك العذاب - فما الظنُّ بتغيير ما هو خبرٌ عن صفات المعبود ؟
ويقال إنَّ القولَ أَنْقَصُ من العمل بكلِّ وجهٍ - فإذا كان التغيير في القول يُوجِبُ كلَّ هذا. . فكيف بالتبديل والتغيير في الفعل ؟
كان دينهم الأخذ بالتأويل، وذلك رَوَغَانٌ - في التحقيق، وإن الحقائق تأبى إلا الصدق، وإنَّ التعريج في أوطان الحظوظ والجنوحَ إلى محتملات الرُّخَص فسْخٌ لأكيد مواثيق الحقيقة، ومن شاب شوِّبَ له، ومن صَفَّى صفي له.
الحقائق - وإن كانت لازمة - فليست للعبد عند لوازم الشرع عاذِرةً بل الوجوبُ يُفْترَضُ شرعاً، وإن كان التقدير غالباً بكل وجه.
إذا تمادى العبد في تَهتُّكِه، ولم يُبالِ بطول الإمهال والسَّتْر لم تُهْمِلْ يدُ التقرير عن استئصال العين، ومحو الأثر، وسرعة الحساب، وتعجيل العذاب الأدنى قبل هجوم الأكبر. ثم البرءُ في فضاء السلامة، وتحت ظِلِّ الحفظ، ودوام روْح التخصيص وبَرْدِ عيش التقريب.
إذا انتهت مدةُ الإمهال فليس بعده إلا حقيقة الاستئصال، وإذا سقط العبدُ من عين الله لم ينتعشْ بعده أبداً، فمن أسقطه حكمُ الملوك فلا قبول له بعد الردِّ، وفي معناه أنشدوا :
إذا انصرفَتْ نفسي عن الشيء لم تكَدْ إليه بوجهٍ آخرَ الدهرِ تُقْبَلُ
إذا الحقُّ - سبحانه - أمضى سُنَتَه بالإنذار وتقديم التعريف بما يستحقه كلُّ أحد على ما يحصل منه من الآثار إبداءٌ للعذر - وإنْ جلت رتبته عن كل عذر - فإِنْ يَنْجَعْ فيهم القولُ وإلا دَمَّرَ عليهم بالعذاب.
أجراهم على ما علم أنهم يكونون عليه من صلاح وسداد، ومعاص وفساد. ثم ابتلاهم بفنون الأفعال من محن أزاحها، ومن منن أتاحها، وطالبهم بالشكر على ما أسدى، والصبر على ما أبلى، ليظهر للملائكة والخلائق أجمعين جواهرهم في الخلاف والوفاق، والإخلاص والنفاق، فأما الحسنات فهي ما يشهدهم المجري، ولا يلهيهم عن المبدي، وأما السيئات فالتردد بين الإنجاز والتأخير، والإباحة والتقصير.
ويقال الحسنة أن ينسيك نفسك، والسيئة أن يشهدك نفسك.
ويقال الحسنات بتيسير وقت عن الغفلات خال، وتسهيل يوم عن الآفات بائن. والسيئات التي ابتلاهم بها خذلان حاصل وحرمان متوصال.
استوجبوا الذم بقوله - سبحانه :﴿ فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ ﴾ لأنهم آثروا العَرَض الأدنى، وركنوا إلى عاجل الدنيا، وجعلوا نصيبهم من الآخرة المنى فقالوا :﴿ سَيُغْفَرُ لَنَا ﴾.
ويقال من أمارات الاستدراج ارتكابُ الزلة، والاغترارُ بزمان المُهْلة، وحَمْلُ تأخيرِ العقوبة على استحقاق الوصلة.
قوله جلّ ذكره :﴿ وَإِن يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِّثْلُهُ يَأْخُذُوه ﴾.
أخبر عن إصرارهم على الاغترار بالمنى، وإيثار متابعة الهوى.
قوله جلّ ذكره :﴿ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِّيثَاقُ الكِتَابِ أَن لاَّ يَقُولُوا عَلَى الله إِلاَّ ﴾.
استفهام في معنى التقرير، أي أُمِروا ألا يَصِفُوا الحقَّ إلا بنعت الجلال، واستحقاق صفات الكمال، وألا يتحاكموا عليه بما لم يأتِ منه خبر، ولم يشهد بصحته برهانٌ ولا نظر.
قوله جلّ ذكره :﴿ وَدَرَسُوا مَا فِيهِ وَالدَّارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ ﴾.
يعني تحققوا بمضمون الكتاب ثم جحدوا بعد لوح البيان وظهور البرهان. يعني التعرضُ لنفحات فضله - سبحانه - خيرٌ لمن أَمَّلَ جودَه من مقاساة التعب ممن بَذَلَ - في تحصيل هواه - مجهودَه.
قوله جلّ ذكره :﴿ وَالَّذِينَ يُمْسِّكُونَ بِالكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ ﴾.
يمسكون بالكتاب إيماناً، وأقاموا الصلاة إحساناً، فبالإيمان وجدوا الأَمَان، وبالإحسان وجدوا الرضوان ؛ فالأَمانُ مُعَجَّل والرضوان مؤجل. ويقال ﴿ يمسكون بالكتاب ﴾ سبب النجاة، وإقامة الصلاة تحقق المناجاة. فالنجاة في المآل والمناجاة في الحال.
ويقال أفرد الصلاة ها هنا بالذكر عن جملة الطاعات ليُعْلمَ أنها أفضل العبادات بعد معرفة الذات والصفات.
قوله جلّ ذكره :﴿ إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ المُصْلِحِينَ ﴾.
مَنْ أَمَّلَ سببَ إنعامنا لم تَخْسِرْ له صفقة، ولم تخْفِق له في الرجاء رفقة، ويقال من نقل (. . . ) إلى بابه قَدَمَه لم يَعْدم في الآجل نِعمَهَ، ومَنْ رَفَعَ إلى ساحاتِ جوده هِمَمَه نالَ في الحالِ كرمه.
ويقال مَنْ تَوَصَّلَ غليه بجوده نال في الدارين شَرَفَه. ومن اكتفى بجوده كان اللهُ عنه خَلَفَه.
ليس من يأتي طوعاً كمن يأتي جَبْراً، فإن الذي يأتي قهراً لا يعرف للحق - سبحانه - قدراً، وفي معناه أنشدوا :
إذا كان لا يرضيك إلا شفاعة فلا خير في ود يكون لشافعِ
وأنشدوا :
إذا أنا عاتبتُ الملولَ فإنَّما أَخُطُّ بأقلامي على الماء أَحْرُفَا
وَهَبْهُ ارْعَوَى بعد العتاب ألم يكن تودده طبعاً، فصار تكلُّفا ؟
ويقال قصارى من أتى خيراً أن ينكص على عقبيه طوعاً، كذلك لمَّا قابلوا الكتاب بالإجبار ما لبثوا حتى قابلوه بالتحريف.
أخبر هذه الآية عن سابق عهده، وصادق وعده، وتأكيد عناج ودِّه، بتعريف عبده، وفي معناه أنشدوا :
سُقياً لليْلَى والليالي التي كُنَّا بَلَيْلَى نلتقي فيها
أفديكِ بل أيامُ دهري كلها يفدين أياماً عَرَفْتُكِ فيها
ويقال فأجابهم بتحقيق العرفان قبل أن يقع لمخلوق عليهم بَصَرٌ، أو ظهر في قلوبهم لمصنوع أَثَرٌ، أو كان لهم من حميمٍ أو قريب أو صديق أو شفيق خبر، وفي معناه أنشدوا :
أتاني هواها قبل أن أعرف الهوى وصادف قلبي فارغاً فتمكنَّا
ويقال جمعهم في الخطاب ولكنه فَرَّقهم في الحال. وطائفةٌ خاطبهم بوصف القربة فعرَّفهم في نفس ما خاطبهم، وفِرْقةٌ أبقاهم في أوطان الغيبة فأقصاهم عن نعت العرفان وحجبهم.
ويقال أقوام لاطَفَهم في عين ما كاشَفَهم فأقروا بنعت التوحيد، وآخرون أبعدهم في نفس ما أشهدهم فأقروا عن رأس الجحود.
ويقال وَسَمَ بالجهل قوماً فألزمهم بالإشهاد بيان الحجة فأكرمهم بالتوحيد، وآخرين أشهدهم واضِحَ الحجة (. . . ).
ويقال تجلَّى لقوم فتولَّى تعريفهم فقالوا :" بلى " عن حاصل يقين، وتَعَزَّزَ عن آخرين فأثبتهم في أوطان الجحد فقالوا :" بلى " عن ظنٍ وتخمين.
ويقال جمع المؤمنين في الأسماء ولكن غاير بينهم في الرتب ؛ فَجَذَبَ قلوبَ قوم إلى الإقرار بما أطمعها فيه من المبَارِّ، وأنطق آخرين بصدق الإقرار بما أشهدهم من العيان وكاشفهم به من الأسرار.
ويقال فرقةٌ ردَّهم إلى الهيبة فهاموا، وفِرْقَةٌ لاطفَهم بالقربة فاستقاموا.
ويقال عرَّف الأولياء أنه مَنْ هو فتحققوا بتخليصهم، ولَبَّسَ على الأعداء فتوقفوا لحيرة عقولهم.
ويقال أسمعهم وفي نفس أحضرهم، ثم أخذهم عنهم فيما أحضرهم، وقام عنهم فأنطقهم بحكم التعريف، وحفظ عليهم - بحسن التولي - أحكامَ التكليف وكان - سبحانه - لهم مُكَلِّفاً، وعلى ما أراده مُصَرِّفاً، وبما استخلصهم له مُعَرِّفاً، وبما رقاهم إليه مُشَرّقاً.
ويقال كاشف قوماً - في حال الخطاب - بجماله فطوحهم في هيمان حبه، فاستمكنت محابُّهم في كوامن أسرارهم ؛ فإِذا سمعوا - اليومَ - سماعاً تجددت تلك الأحوال، فالانزعاجُ الذي يَظْهَرُ فيهم لِتَذَكُّرِ ما سَلَفَ لهم من العهد المتقدم.
ويقال أسمع قوماً بشاهد الربوبية فأصحاهم عن عين الاستشهاد فأجابوا عن عين التحقيق، وأَسمع آخرين بشاهد الربوبية فمحاهم عن التحصيل فأجابوا بوصف الجحود.
ويقال أظهر آثارَ العناية بدءاً حين اختصَّ بالأنوار التي رشت عليهم قوماً، فَمَنْ حَرَمَه تلك الأنوار لم يجعله أهلاً للوصلة، ومَنْ أصابَته تلك الأنوارُ أَفْصَحَ بما خُصَّ به من غير مقاساة كَلَفَة.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ١٧٢:أخبر هذه الآية عن سابق عهده، وصادق وعده، وتأكيد عناج ودِّه، بتعريف عبده، وفي معناه أنشدوا :
سُقياً لليْلَى والليالي التي كُنَّا بَلَيْلَى نلتقي فيها
أفديكِ بل أيامُ دهري كلها يفدين أياماً عَرَفْتُكِ فيها
ويقال فأجابهم بتحقيق العرفان قبل أن يقع لمخلوق عليهم بَصَرٌ، أو ظهر في قلوبهم لمصنوع أَثَرٌ، أو كان لهم من حميمٍ أو قريب أو صديق أو شفيق خبر، وفي معناه أنشدوا :
أتاني هواها قبل أن أعرف الهوى وصادف قلبي فارغاً فتمكنَّا
ويقال جمعهم في الخطاب ولكنه فَرَّقهم في الحال. وطائفةٌ خاطبهم بوصف القربة فعرَّفهم في نفس ما خاطبهم، وفِرْقةٌ أبقاهم في أوطان الغيبة فأقصاهم عن نعت العرفان وحجبهم.
ويقال أقوام لاطَفَهم في عين ما كاشَفَهم فأقروا بنعت التوحيد، وآخرون أبعدهم في نفس ما أشهدهم فأقروا عن رأس الجحود.
ويقال وَسَمَ بالجهل قوماً فألزمهم بالإشهاد بيان الحجة فأكرمهم بالتوحيد، وآخرين أشهدهم واضِحَ الحجة (... ).
ويقال تجلَّى لقوم فتولَّى تعريفهم فقالوا :" بلى " عن حاصل يقين، وتَعَزَّزَ عن آخرين فأثبتهم في أوطان الجحد فقالوا :" بلى " عن ظنٍ وتخمين.
ويقال جمع المؤمنين في الأسماء ولكن غاير بينهم في الرتب ؛ فَجَذَبَ قلوبَ قوم إلى الإقرار بما أطمعها فيه من المبَارِّ، وأنطق آخرين بصدق الإقرار بما أشهدهم من العيان وكاشفهم به من الأسرار.
ويقال فرقةٌ ردَّهم إلى الهيبة فهاموا، وفِرْقَةٌ لاطفَهم بالقربة فاستقاموا.
ويقال عرَّف الأولياء أنه مَنْ هو فتحققوا بتخليصهم، ولَبَّسَ على الأعداء فتوقفوا لحيرة عقولهم.
ويقال أسمعهم وفي نفس أحضرهم، ثم أخذهم عنهم فيما أحضرهم، وقام عنهم فأنطقهم بحكم التعريف، وحفظ عليهم - بحسن التولي - أحكامَ التكليف وكان - سبحانه - لهم مُكَلِّفاً، وعلى ما أراده مُصَرِّفاً، وبما استخلصهم له مُعَرِّفاً، وبما رقاهم إليه مُشَرّقاً.
ويقال كاشف قوماً - في حال الخطاب - بجماله فطوحهم في هيمان حبه، فاستمكنت محابُّهم في كوامن أسرارهم ؛ فإِذا سمعوا - اليومَ - سماعاً تجددت تلك الأحوال، فالانزعاجُ الذي يَظْهَرُ فيهم لِتَذَكُّرِ ما سَلَفَ لهم من العهد المتقدم.
ويقال أسمع قوماً بشاهد الربوبية فأصحاهم عن عين الاستشهاد فأجابوا عن عين التحقيق، وأَسمع آخرين بشاهد الربوبية فمحاهم عن التحصيل فأجابوا بوصف الجحود.
ويقال أظهر آثارَ العناية بدءاً حين اختصَّ بالأنوار التي رشت عليهم قوماً، فَمَنْ حَرَمَه تلك الأنوار لم يجعله أهلاً للوصلة، ومَنْ أصابَته تلك الأنوارُ أَفْصَحَ بما خُصَّ به من غير مقاساة كَلَفَة.

إذا سُدَّت عيونُ البصائر فما ينفع وضوح الحُجَّة.
الحقُّ - سبحانه - يظهر الأعداء في دار الخُلَّة ثم يردُّهم إلى سابق القسمة، ويُبْرِزُ الأولياء بنعتِ الخلاف والزَّلَّة، ثم يغلب عليهم مقسومات الوصلة.
ويقال أقامه في محل القربة، ثم أبرز له من مكامن المكر ما أعدَّ له من سابق التقدير ؛ فأصبح والكلُّ دونه رتبة، وأمسى والكلب فوقه - مع خساسته. . وفي معناه أنشدوا :
فبينا بخيرٍ والدُّنى مطمئنة وأصبح يوماً - والزمان تَقَلَّبَا
ويقال ليست العِبْرَةُ بما يلوح في الحال، إنما العبرة بما يؤول إليه في المآل.
قوله جلّ ذكره :﴿ وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا ﴾.
لو ساعدته المشيئة بالسعادة الأزلية لم تَلْحَقْه الشقاوةُ الأبدية، ولكن من قصمته السوابق لم تنعشه اللواحق.
قوله جلّ ذكره :﴿ وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ ﴾.
إذا كانت مساكنةُ آدم للجَنَّةِ وَطمعُه في الخلود فيها أوجبا خروجَه عنها، فالركونُ إلى الدنيا - متى يوجِب البقاءَ فيها ؟.
قوله جلّ ذكره :﴿ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ ﴾.
موافقة الهوى تُنْزِلُ صاحبَها من سماءِ العِزِّ إلى تراب الذُّل، وتلقيه في وهدة الهوان ؛ ومن لم يُصَدِّقِ عِلْماً فعن قريبٍ يقاسيه وجوداً.
قوله جلّ ذكره :﴿ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الكَلْبِ ﴾.
من أخلاق الكلب التعرُّضُ لِمَنْ لم يُخِفْه على جهة الابتداء، ثم الرضاء عنه بلقمة. . كذلك الذي ارتدَّ عن طريق الإرادة يصير ضيق الصدر، سيئ الخُلُق، يبدأ بالجفاء كُلَّ بريءٍ، ثم يهدأ طياشه بِنَيْل كُلِّ عَرَضٍ خسيس.
قوله جلّ ذكره :﴿ إن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ القَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ القَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ﴾.
المحجوب عن الحقيقة عنده الإساءةُ والإحسانُ ( سيان )، فهو في الحالين : إمَّا صاحب ضَجَر أو صاحب بَطَر، لا يحمل المحنة إلا زوال الدولة، ولا يقابل النعمة إلا بالنهمة، فهو في الحالين محجوبٌ عن الحقيقة.
ويقال الكلب نجاسته أصلية، وخساسته كلية، كذلك المردوده في الصفة ؛ له نقصان القيمة وحرمان القسمة.
أي صفته أدنى من نعت من بُلِيَ بالإعراضِ الأزليِّ، وأيُّ نعتٍ أعلى من وصف مَنْ أُكْرِمَ بالقبول الأبديّ ؟ وأيُّ حيلةٍ تنفع مع مَنْ يخلق الحيلة ؟ وكيف تَصِحُّ الوسيلةُ إلا لمن منه الوسيلة ؟.
ليست الهدايةُ من حيث السعايةُ، إنما الهداية من حيث البداية، وليست الهداية بفكر العبد ونَظَرِه، إنما الهداية بفضل الحق وجميل ذكره.
مَنْ خَلَقه لجهنم - متى يستوجب الجنَّاتِ ؟
ومَنْ أَهَّلَه للسخطة - أنَّى يستحق الرضوان ؟
ولولا انسداد البصائر وإلا فأيُّ إشكالٍ بقي بعد هذا الإيضاح ؟
ويقال هم - اليومَ - في جحيم الجحود، مُقَرَّنين في أصفاد الخذلان، مُلْبَسِين ثياب الحرمان، طعامُهم ضريع الوحشة، وشرابهم حميم الفرقة، وغداً هُمْ في جحيم الحرقة كما فَصَّلَ في الكتاب شرعَ تلك الحالة.
قوله جلّ ذكره :﴿ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الغَافِلُونَ ﴾.
أي لا يفقهون معاني الخطاب كما يفهم المُحَدَّثون، وليس لهم تمييز بين خواطر الحق وبين هواجس النفس ووساوس الشيطان، ولهم أعينٌ لا يُبْصِرون بها شواهدَ التوحيد وعلاماتِ اليقين ؛ فلا ينظرون إلا من حيث الغفلة، ولا يسمعون إلا دواعي الفتنة، ولا ينخرطون إلا مع من سلك ركوب الشهوة.
﴿ أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ ﴾ : لأنَّ الأَنْعَامَ قد رُفِعَ عنها التكليفُ، وإن لم يكن لها وِفاقُ الشرع فليس منها أيضاً خلاف الأمر.
والأنعامُ لا يَهُمُّها إلا الاعتلاف، وما تدعو الحيلة من مباشرة الجنس، فكذلك مَنْ أُقيم بشواهد نفسه وكان من المربوطين بأحكام النَّفْس، وفي معناه أنشدوا :
نهارك يا مغرورُ سَهْوٌ وغفلةٌ وليلك نومٌ والرَّدى لك لازِمٌ
وسعيك فيها سوف تكره غِبَّه كذلك في الدنيا تعيش البهائمُ
سبحان مَنْ تعرَّف إلى أوليائه بنعوته وأسمائه فعرَّفهم أنه مَنْ هو، وبأي وصفٍ هو، وما الواجب في وصفه، وما الجائز في نعته، وما الممتنع في حقِّه وحكمه ؛ فتجلى لقلوبهم بما يكاشفهم به من أسمائه وصفاته، فإن العقولَ محجوبةٌ عن الهجوم بذواتها بِمَا يَصِحُّ إطلاقُه في وصفه، وإنْ كانت واقفةً على الواجب والجائز والممتنع في ذاته، فللعقل العرفان بالجملة، وبالشرع الإطلاق والبيان في الإخبار، والقول فيما وَرَدَ به التوفيق يُطْلَقِ، وما سَكَتَ عنه التوفيق يُمْنَع. ويقال مَنْ كان الغالب عليه وصفٌ من صفاته ذَكَره بما يقتضي هذا الوصف ؛ فمن كان مكاشَفاً بعَطائه، مربوطَ القلبِ بأفضاله فالغالبُ على قالته الثناء عليه بأنه الوهاب والبار والمُعْطِي وما جرى مجراه. ومن كان مجذوباً عن شهود الإنعام، مكاشفاً بنعت الرحمة فالذي يغلب على ذكره وصفه بأنه الرحمن والرحيم والكريم وما في معناه. ومَنْ سَمتْ هِمَّتُه عن شهود وجوده، واستهلك في حقائق وجوده فالغالب على لسانه الحق. ولذلك فأكثر أقوال العلماء في الإخبار عنه :" البارئ " لأنهم في الترقي في شهود الفعل إلى شهود الفاعل. وأمَّا أهل المعرفة فالغالب على لسانها " الحق " لأنهم مُخْتَطفُون عن شهود الآثار، متحققون بحقائق الوجود.
وقال إنَّ الله - سبحانه - وقف الخلْق بأسمائه فهم يذكرونها قالةً، وتعزَّزَ بذاته، والعقول - وإنْ صَفَتْ لا تهجم على حقائق الإشراف، إذ الإدراك لا يجوز على الحق ؛ فالعقول عند بواده الحقائق متقنعة بنقاب الحيرة عند التعرض للإحاطة، والمعارف تائهة عند قصد الإشراف على حقيقة الذات، والأبصار حسيرةٌ عند طلب الإدراك في أحوال الرؤية، والحق سبحانه عزيز، وباستحقاق نعوت التعالي مُتَفَرِّد.
قوله :﴿ وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِى أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ : الإلحاد هو الميل عن القصد، وذلك على وجهين بالزيادة والنقصان ؛ فأهل التمثيل زادوا فألحدوا، وأهل التعطيل نقصوا فألحدوا.
أجرى الحقُّ - سبحانه - سُنَّتَه بألا يُخْلِيَ البسيطةَ من أهل لها هم الغياث وبهم دوام الحق في الظهور، وفي معناه قالوا :
إذا لم يكن قطبٌ *** فمن ذا يديرها ؟
فهدايتهم بالحق أنهم يدعون إلى الحق، ويدلون على الحق، ويتحركون بالحق، ويسكنون للحق بالحق، وهم قائمون بالحق ؛ يصرفهم الحق بالحق أولئك هم غياث الخَلْق ؛ بهم يُسْقَوْنَ إذا قحطوا، ويُمْطَرون إذا أجدبوا، ويُجَابُون إذا دَعَوْا.
الاستدراج أن يلقى في أوهامهم أنهم من أهل الوصلة، وفي الحقيقة : السابقُ لهم من القسمة حقائقُ الفُرقة.
ويقال الاستدراجُ انتشار الصيت بالخير في الخلْق، والانطواء على الشر - في السر - مع الحق.
ويقال الاستدراج ألا يزداد في المستقبل صحبةً إلا ازداد في الاستحقاق نقصان رتبة.
ويقال الاستدراج الرجوع من توهم صفاء الحال إلى ركوب قبيح الأعمال، ولو كان صادقاً في حاله لكان معصوماً في أعماله.
ويقال الاستدراج دعاوى عريضة صدرت عن معانٍ مريضة.
ويقال الاستدراج إفاضة البرِّ مع (. . . ) الشكر.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ١٨٢:الاستدراج أن يلقى في أوهامهم أنهم من أهل الوصلة، وفي الحقيقة : السابقُ لهم من القسمة حقائقُ الفُرقة.
ويقال الاستدراجُ انتشار الصيت بالخير في الخلْق، والانطواء على الشر - في السر - مع الحق.
ويقال الاستدراج ألا يزداد في المستقبل صحبةً إلا ازداد في الاستحقاق نقصان رتبة.
ويقال الاستدراج الرجوع من توهم صفاء الحال إلى ركوب قبيح الأعمال، ولو كان صادقاً في حاله لكان معصوماً في أعماله.
ويقال الاستدراج دعاوى عريضة صدرت عن معانٍ مريضة.
ويقال الاستدراج إفاضة البرِّ مع (... ) الشكر.

أو لم يتأملوا بأنوار البصائر ليشهدوا أخلاق آثار التقريب بجملة أحواله - عليه السلام - ليعلموا أن ذلك الشاهد ليس بشاهد متخرص.
ويقال إن برود الواسطة - صلوات الله عليه وعلى آله - كانت بنسيم القربة معطرة، ولكن لا يُدْرَكُ ذلك النَّشْرُ إلا بِشَمِّ العرفان، فمَنْ فَقَدَ ذلك - فأي خبر له عن حقيقة حاله - صلوات الله عليه.
أطلع الله - سبحانه - أقمار الآيات، وأماط عن ضيائها سحاب الشبهات ؛ فَمَنْ استضاء بها ترَّقى إلى شهود القدرة.
ويقال ألاح الله تعالى - لقلوب الناظرين بعيون الفكر - حقائق التحصيل ؛ فَمَنْ لم يُعَرِّج في أوطان التقصير أَنْزَلَتْه مراكبُ السِّرِّ بساحات التحقق.
قوله جلّ ذكره :﴿ وَأَنْ عَسَى أَن يِكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَىِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ ﴾.
الناس في مغاليط آمالهم ناسون لو شيك آجالهم، فكم من ناسجٍ لأكفانه !وكم من بانٍ لأعدائه ! وكم من زارعٍ لم يحصد زرعه !
هيهات ! الكبش يعتلف والقَصَّابُ مسْتَعِدٌّ له !
ويقال سرعة الأَجَل تُنَغِّص لذة الأمل.
مَنْ حُرِمَ أنوار التحقيق فهو في ضباب الجهل، فهو يَزِلُّ يميناً ويسقط شمالاً.
السائلُ عن الساعةِ رجلان ؛ مُنْكِرٌ يتعجَّبُ لفَرْطِ جهله، وعارِفٌ مشتاقٌ يستعجل لِفَرْطِ شوقه، والمتحقق بوجوده ساكِنٌ في حاله ؛ فسيان عنده قيام القيامة ودوام السلامة.
ويقال الحق - سبحانه - استأثر بعلم الساعة ؛ فلم يُطلِعْ على وقتها نَبيَّا ولا صفيَّا، فالإيمان بها غيبيٌّ، ويقين أهل التوحيد صادق عن شوائب الرِّيب. ثم مُعَجَّل قيامتهم يُوجِبُ الإيمانَ بمؤجَّلها.
أَمَره بتصريح الإقرار بالتبري عن حوله ومُنتَّهِ، وأن قيامه وأمرَه ونظامَه بطوْل ربِّه ومتِّه ؛ ولذلك تتجنَّسُ عليَّ الأحوال، وتختلف الأطوار ؛ فَمِنْ عُسْرٍ يَمَسُّني، ومِنْ يسرٍ يخصني، ولو كان الأمر بمرادي، ولم يكن بِيدِ غيري قيادي لتشابهت أحوالي في اليسر، ولتشاكلت أوقاتي في البعد من العسر.
أخرج النَّسَمة من نَفْسٍ واحدة وأخلاقهم مختلفة، وهممهم متباينة، كما أن الشخص من نطفة واحدة وأعضاؤه وأجزاءه مختلفة. فَمَنْ قَدِرَ على تنويع النطفة المتشاكلة أجزاؤها فهو القادر على تنويع أخلاق الخَلْق الذين أخرجه من نَفْس واحدة.
قوله جلّ ذكره :﴿ لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفًا فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَّعَوَا اللهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحاً لَّنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ ﴾.
ردَّ المِثْل إلى المِثْل، وربط الشَّكلَ بالشكل، ليَعْلَمَ العالمون أن سكون الخلْق مع الحقِّ لا إلى الحق، وكذلك أنسل الخلْق من الخلق لا من الحق، فالحقُّ تعالى قدوس ؛ منه كل حظ للخلق خلْقاً، منزه عن رجوع شيءٍ إلى حقيقته حقاً.
شرُّ الناس من يبتهل إلى الله عند هجوم البلاء بخلوص الدعاء، وشدة التضرع والبكاء، فإذا أزيلت شكاتِه، ودُفِعت - بِمِنَّتهِ - آفاتُه ضيَّعَ الوفاء، ونَسِيَ البلاء، وقابل الرِّفْدَ بنقْضِ العهد وأبدل العقد برفض الود، أولئك الذين أبعدهم الله في سابق الحكم، وخرطهم في سِلْك أهل الرد.
كما لا يجوز أن يكون الربُّ مخلوقاً لا يجوز أن يكون غير الرب خالقاً، فَمَنْ وَصَفَ الحقَّ بخصائص وصف الخلْق فقد أَلْحَدَ، ومَنْ نَعَتَ الخلَّقَ بما هو من
خصائص حق الحق فقد جحَدَ.
مَنْ حَكَمَ بأنه ليس في مقدور الحق شيء لو فعله اسم الجاهل طوعاً إلا فعله فقد وصف بأنه لا يقدر على نصره فَمُضَاهٍ الذي يعيد الجماد ونعوذ بالله من الضلالة عن الرشاد.
المعبودُ هو القادر على هداية داعيه، وعِلْمُ العبد بقدرة معبوده يوجِبُ تَبَرِّيه عن حوْله وقوته، وإفراد الحق - سبحانه - بالقدرة على قضاء حاجته، وإزالة ضرورته فتتقاصر عن قعصْدِ الخلْق خطاه، وتنقطع آماله عن غير مولاه.
إذا قُرِنَتْ الضرورةُ بالضرورة تضاعف البلاء، وترادف العناء ؛ فالمخلوق إذا استعان بمخلوقٍ مثلِه ازداد بُعْدُ مرادِه عن النُّجح. وكيف تشكو لمن هو ذو شكاية ؟ ! هيهات ! إن ذلك خطأ من الظن، وباطل من الحسبان.
بيَّن بهذه الآيات أن الأصنام التي عبدوها دونَهم فيما اعتقدوا فيه صفة المدح، ثم لم يعبد بعضهم بعضاً، فكيف استجازوا عبادةَ ما فاقهم في النقص ؟.
قوله جلّ ذكره :﴿ قُلِ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلاَ تُنظِرُونَ ﴾.
صدق التوكل على الله يوجب ترك المبالاة بغير الله، كيف لا. . . والمتفرِّدُ بالقدرة - على النفع والضرر، والخير والشر - اللهُ ؟
مَنْ قام بحقِّ الله تولَّى أمورَه على وجه الكفاية، فلا يخرجه إلى مثاله، ولا يَدَعُ شيئاً من أحواله إلاَّ أجراه على ما يريده بِحُسْنِ أفضاله، فإن لم يفعل ما يريده جعل العبدَ راضياً بما يفعل، ورَوْحُ الرضا على الأسرار أتَمُّ من راحة العطاء على القلوب.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ١٩٦:مَنْ قام بحقِّ الله تولَّى أمورَه على وجه الكفاية، فلا يخرجه إلى مثاله، ولا يَدَعُ شيئاً من أحواله إلاَّ أجراه على ما يريده بِحُسْنِ أفضاله، فإن لم يفعل ما يريده جعل العبدَ راضياً بما يفعل، ورَوْحُ الرضا على الأسرار أتَمُّ من راحة العطاء على القلوب.
شاهدوه بأبصارهم لكنهم حجبوا عن رؤيته ببصائر أسرارهم وقلوبهم فلم يعتد برؤيتهم.
ويقال رؤية الأكابر ليست بشهود أشخاصهم، لكن بما يحصل للقلوب من مكاشفات الغيب، وذلك على مقادير الاحترام وحصول الإيمان.
من خصائص سُنَّةِ الله في الكرم أنه أمر نبيَّه - صلوات الله عليه وعلى آله - بالأخذ به، إذ الخبر وَرَدَ بأنَّ المؤمن أخذ من الله خُلُقاً حسناً. وكلما كان الجُرْمُ أكبرَ كان العفو عنه أجرَّ وأكمل، وعلى قَدْرِ عِظَم رتبة العبد في الكرم يتوقف العفو عن الأصاغر والخدم، قال النبي صلى الله عليه وسلم في الجراحات التي أصابته في حرب أحد :" اللهم اغفِرْ لقومي فإنهم لا يعلمون ".
قوله ﴿ وَأمُرْ بِالعُرْفِ ﴾ : أفضل العرف أن يكون أكمل العطاء لأكثر أهل الجفاء، وبذلك عامل الرسول - صلى الله عليه وعلى آله - الناسَ.
قوله :﴿ وَأَعْرِضْ عَنِ الجَاهِلِينَ ﴾ : الإعراض عن الأغيار بالإقبال عن من لم يَزْل ولا يزال، وفي ذلك النجاة من الحجاب، والتحقق بما يتقاصر عن شرحه الخطاب.
إنْ سَنَح في باطنك من الوساوس أَثَرٌ فاستعِذْ بالله يدركك بحسن التوفيق، وإنْ هَجَسَ في صدرك من الحظوظ خاطر فاستعِذْ بالله يدركك بإزالة كل نصيب، وإنْ لَحِقَتْكَ في بذل الجهد فَترَةٌ فاستعذْ بالله يدركك بإِدامة آلائه، وإنْ اعْتَرتْكَ في الترقي إلى محل الوصول وقفةٌ فاستعِذْ بالله يدركك بإدامة التحقيق، وإنْ تقاصر عنك شيء من خصائص القرب - صيانةً عن شهود المحل - فاستعِذْ بالله يُثْبِتْك له بدلاً مِنْ لَكَ بِكْ.
إنما يمس المتقين طيفُ الشيطانِ في ساعات غفلتهم عن ذكر الله، ولو أنهم استداموا ذكر الله بقلوبهم لما مسَّهم طائف الشيطان، فإن الشيطانَ لا يَقرَبُ قلباً في حال شهوده الله ؛ لأنه ينخنس عند ذلك. ولكن لكل صارمٍ نبوة، ولكلِّ عالمٍ هفوة، ولكل عابدٍ شدة، ولكل قاصدٍ فترة، ولكل سائر وقفة، ولكل عارفٍ حجبة، قال صلى الله عليه وسلم :" إنه ليُغَان على قلبي. . . " أخبر أنه يعتريه ما يعتري غيرَه، وقال صلى الله عليه و سلم :" الحِدَّةُ تعتري خيار أمتي "، فأخبر أنَّ الأمة - وإنْ جَلَّتُ رُتْبَتَهُم لا يتخلصون عن حِدَّةٍ تعتريهم في بعض أحوالهم فَتُخْرِجُهم عن دوام الحِلْم.
إخوانُ الشيطانِ أربابُ دوام الغيبة ؛ فهم في كمال الغفلة تدوم بهم الحجبة ؛ فمنهم بالزَّلَّة مَنْ لم يُلِمْ، أَو أَلَّم ولكن لَم يُصِرّفهم خِياره، ومنهم مَنْ غَفَلَ واغترَّ، وعلى دوام العيبة أَصَرَّ - فهم المحجوبون قطعاً، والمُبْعَدُون - عن محلِّ القربِ - صدَّا وردَّا.
مَنْ شَاهَدَ الحقَّ من حيث الخلْق سقط في مهواة المغاليط، فهو في متاهات الشَّكِّ يجوب منازلَ الرِّيب، ولا يزداد إلا عمًى على عمًى. ومَنْ طالَعَ الخَلْق بعين تصريف القدرة إياهم تحقق بأنهم لا يظهرون إلا في معرض اختيار الحق لهم، فهو ينظر بنور البصيرة، ويستديم شهود التصريف بوصف السكينة.
اسْتَمِعُوا بسمعِ الإيمان والتصديق، وأنْصِتوا ( بصون ) الخواطر عن معارضات الاعتراض، ومطالبات الاستكشاف. ومن باشرَ التحقيقُ سِرَّه لازم التصديق قلبَه.
والإنصات - في الظاهر - من آداب أهل الباب، والإنصات - بالسرائر - من آداب أهل البِساط، قال الله تعالى في نعت تواصي الجنِّ بعضهم لبعض عند شهود الرسول صلى الله عليه وسلم﴿ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنصِتُوا ﴾[ الأحقاف : ٢٩ ] ؛ فإذا كان الحضور إلى الواسطة عليه السلام يوجب هذه الهيبة فلزومُ الهيبة وحفظُ الأدب عند حضور القلب بشهود الربِّ أولى وأَحَق، قال تعالى :﴿ وَخَشَعَتِ الأَصْوَاتُ لِلرَّحْمنِ فَلاَ تَسْمَعُ إِلاَّ هَمْسًا ﴾[ طه : ١٠٨ ].
التضرعُ إذا كوشِفَ العبدُ بوصف الجمال في أوان البسط، والخيفة إذا كوشف بنعت الجلال في أحوال الهيبة، وهذا للأكابر.
فأمَّا مَنْ دونَهم فَتَنوُّعُ أحوالهم من حيث الخوف والرجاء، والرغبة والرهبة. ومن فوق الجميع فأصحاب البقاء والفناءِ، والصحو والمحو ووراءهم أرباب الحقائق مُثْبَتُون في أوطان التمكين، فلا تَلَوُّنَ لهم ولا تجنُّسَ لقيامهِم بالحق، وامتحائهم عن شواهدهم.
أثبت لهم عندية الكرامة، وحفظ عليهم أحكام العبودية لئلا ينفك حال جمعهم عن نعت فرقهم، وهذه سُنَّة الله تعالى مع خواص عباده ؛ يلقاهم بخصائص عين الجمع ويحفظ عليهم حقائق عين الفَرْق لئلا يُخِلُّوا بآداب العبودية في أوان وجود الحقيقة.
Icon