بسم الله الرحمن الرحيم
الاسم من وسم ؛ فمن وسم ظاهره بالعبودية، وسرائره بمشاهدة الربوبية فقد سمت همته إلى المراتب العلية، وأزلفت رتبته من المنازل السنية.أو أن الاسم مشتق من السمة أو من السمو.
وقدم الله – سبحانه – اسم الله في هذا المحل على اسميه الرحمن والرحيم على وجه البيان والحكم، فبرحمته الدنيوية وصل العبد إلى معرفته الإلهية.
والإشارة من الباء – التي هي حرف التضمين والإلصاق – إلى أن " به " عرف من عرف، " وبه " وقف من وقف ؛ فالواصل إليه محمول بإحسانه، والواقف دونه مربوط بخذلانه.
ﰡ
التخاطُب بالحروف المتفرقة غير المنظومة سُنَّةُ الأحباب في سَتْر المحابِّ ؛ فالقرآنُ - وإنْ كان المقصودُ منه الإيضاحَ والبيانَ - ففيه تلويح وتصريح، ومُفَصَّلٌ ومُجْمَلٌ، قال قائلهم :
أبكي إلى الشرق إنْ كانت منازلُكم | مما يلي الغربَ خوفَ القيل والقالِ |
بين المحيين سِرُّ ليس يُفْشيه | قولٌ، ولا قلم للخْلق يحكيه |
وقوله تعالى :﴿ تِلْكَ ﴾ يحتمل أن يكون إشارة إلى أن هذا خَبَرُ الوعد الذي وعدناك.
وقيل هذا تعريفنا : إليك بالتخصيص، وأفرادُنا لك بالتقريب- قد حقَّقْناه لكَ ؛ فهذه الحروف بيانٌ للإنجاز ولتحقيق الموعود.
والإشارة من ﴿ الْكِتَابِ الْمُبِينِ ﴾ ها هنا إلى حُكْمِه السابق له بأَنْ يُرَقِّيَه إلى الرتبة التي لا يبلغها غيرُه، وقد قال تعالى :﴿ وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الْطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا ﴾ [ القصص : ٤٦ ] أي حين كلَّمنا موسى عليه السلام، وأخبرناه بعلوِّ قَدْرِك، ولم تكن حاضراً، وأخبرناه بأننا نُبَلِّغُك هذا المقامَ الذي أنت فيه الآن. وكذلك كلُّ مَنْ أوحينا إليه ذَكَرْنَا له قِصَتَكَ، وشَرَحْنَا له خِلقَتك، فالآنَ وقتُ تحقيق ما أخبرنا به، وفي معناه أنشدوا :
سُقْياً لمعهدِكَ الذي لو لم يكن | ما كان قلبي للصبابة معهدا |
وكتُبكَ حَوْلي لا تُفارقُ مضجعي*** ففيها شفاءٌ للذي أنا كاتِمُ
﴿ أَحْسَنَ الْقَصَصِ ﴾ : ففيه ذكر الأحباب.
﴿ أَحْسَنَ الْقَصَصِ ﴾ : لأن فيه عفوَ يوسف عن جناياتِ إخوته.
﴿ أَحْسَنَ الْقَصَصِ ﴾ : لما فيه من ذِكْرِ تَرْكِ يوسف لامرأة العزيز وإعراضه عنها عندما راودته عن نفسه.
﴿ أَحْسَنَ الْقَصَصِ ﴾ : بالإضافة إلى ما سألوه أن يقص عليهم من أحوال الناس.
﴿ أَحْسَنَ الْقَصَصِ ﴾ : لأنه غير مخلوق.
ويقال لمَّا أخبره الله - سبحانه - أن هذه القصةَ أحسنُ القصص وجد رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - لنفسه مزايا وزوائد لتخصيصه ؛ فَعَلِمَ أن الله تعالى لم يُرَقِّ أحداً إلى مثل ما رقاه.
قوله جلّ ذكره :﴿ وَإن كُنتَ مِن قَبْلِهِ لَمِنَ الغَافِلِينَ ﴾.
أي الذاهبين عن فهم هذه القصة. أي ما كنتَ إلا من جملة الغافلين عنها قبل أن أوحينا إليك بها، أي إنك لم تَصِلْ إلى معرفتها بكدَّك وجهدك، ولا بطلبك وجِدِّك. . بل هذه مواهبُ لا مكاسب ؛ فبعطائِنا وَجَدْتَها لا بعنائك، وبِتَفَضُّلِنَا لا بتعلُّمِكَ، وبِتَلَطُّفِنا لا بتكلٌّفِك، وبنا لا بك.
[ يوسف : ٩٦ ] فهو كان على ثقةٍ من صِدْقِ رؤياه.
فإنْ قيل : فإذا كان الصبيُّ لا حُكْم لِفْعلِه فكيف يكون حكم لرؤياه ؟ وما الفرق ؟ فيقال : إن الفعل بتَعَمُّدٍ يحصل فيكون مُعْرَّضاً لتقصير فاعله، أمَّا الرؤيا فلا تكون بتعمد منه فتنسب إلى نقصان.
ويقال إنَّ حقَّ السِّرِّ ولو كان على مَنْ هو قريب منك ؛ فإن يوسف لما أظهر سِرَّ رؤياه على أبيه اتصل به البلاءُ.
ويقال إن يوسف خَالَفَ وصية أبيه في إظهارِ رؤياه إذ لو لم يُظْهِرْها لما كادوا له، فلا جَرَم بسبب مخالفته لأبيه - وإن كان صبياً صغيراً - لم يَعْرَ مِنَ البلايا.
ويقال لما رأى يوسف في منامه ما كان تأويلُه سجودَ الأخوة له رأى ما تعبيره : وسجود أبيه وخالته حيث قال تعالى :﴿ وَالْشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِى سَاجِدِينَ ﴾ ؛ فدخل الإخوة الحَسَدَ أما الأب فلم يدخله إلا بنفسه لِفَرْطِ شفقة الأبوة.
ويقال صَدَقَ تعبيره في الإخوة فسجدوا له حيث قال :﴿ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدَاً ﴾ [ يوسف : ١٠٠ ] ولم يسجد الأبُ ولا خالته حيث قال :﴿ وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ ﴾
[ يوسف : ١٠٠ ] فإن يوسفَ صانَهما عن ذلك مراعاةً لحشمة الأبوة.
ويقال الاجتباء ما ليس للمخلوق فيه أثر، فما يحصل للعبد من الخيرات - لا بتكلفه ولا بتعمده - فهو قضية الاجتباء.
ويقال من الاجتباء المذكور أَنْ عَصَمَه عن ارتكاب ما راودته امرأة العزيز عن نفسه.
ويقال من قضية الاجتباء إسباله الستر على فعل إخوته حيث قال :﴿ وَقَدْ أْحْسَنَ بي إِذْ أخرجني مِنَ الْسِّجْنِ ﴾ [ يوسف : ١٠٠ ]، ولم يذكر خلاصَه من البئر ومن قضية الاجتباء توفيفه &&& توفيقه&&& لسرعة العفو عن إخوته حيث قال :﴿ لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ ﴾ [ يوسف : ٩٢ ].
قوله جلّ ذكره :﴿ وَيُعَلِّمُكَ مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ ﴾.
أي لتعرفَ قَدْرَ كلَّ احد، وتقفَ على مقدار كلِّ قائلٍ بما تسمع من حديثه. . لا مِنْ قوله بل لِحدَّةِ كياستك وفَرْطِ فراستك.
قوله جلّ ذكره :﴿ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ كَمَا أتَمَّهَا عَلَى أبَوَيْكَ مِن قَبْلُ إِبْراهِيمَ وَإِسْحَق إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ﴾.
مِنْ إتمامِ النعمة توفيقُ الشكر على النعمة، ومن إتمام النعمة صَوْنُها عن السَّلبِ والتغيير، ومن إتمام النعمة التَّحرز١ منها حتى تَسْهُلَ عليكَ السماحةُ بها.
ويقال في قصتهم كيفية العفو عن الزَلَّة، وكيفية الخَجْلَةِ لأهل الجفاءِ عند اللقاء.
ويقال في قصتهم دلالاتُ لطفِ الله سبحانه بأوليائه بالعصمة، وآياتٌ على أنَّ المحبة (. . . . )٢ من المحنة.
ويقال فيها آياتٌ على أَنَّ من صَدَقَ في رجائه يُخْتَصُّ- يوماً - ببلائه.
ويقال لما اعترضوا بقلوبهم على أبيهم في تقديم يوسف في المحبة عاقبهم بأن أمهلهم حتى بسطوا في أبيهم لسانَ الوقيعة فوصفوه بلفظ الضلال، وإن كان المرادُ منه الذهابَ في حديث يوسف عليه السلام، ولمَّا حسدوا يوسف على تقديم أبيهم له لم يَرْضَ - سبحانه - حتى أَقَامَهم بين يدي يوسف عليه السلام، وخرُّوا له سُجَّداً ليْعلَموا أَنَّ الحسودَ لا يسود.
ويقال أطولُ الناسِ حُزْنا مَنْ لاَقى الناسَ عن مرارةٍ، وأراد تأخيرَ مَنْ قَدَّمه اللَّهُ أو تقديمَ مَنْ أَخَّرَه اللَّهُ ؛ فإخوةُ يوسف - عليه السلام - أرادوا أن يجعلوه في أسفل الجُبِّ فرفعه الله فوقَ السرير !
ويقال كان قَصْدُهم ألا يكونَ يوسف عليه السلام أمامَ عينه فقالوا : إمَّا القتلُ وإمَّا النَّفيُ، ولا بأسَ بما يكونُ بعد ألا يكونَ يوسف عليه السلام.
قوله جلّ ذكره :﴿ وَتَكُونُوا مِن بَعْدِهِ قَوْماً صَالِحِينَ ﴾.
عَجَّلوا بالحرام، وَعلَّقُوا التوبةَ بالتسويف والعزم، فلم يمحُ ما أَجَّلُوا من التوبة ما عجَّلوا من الحَوْبة٣.
ويقال لم تَطِبْ نفوسُهم بأن يذهبوا عن بابِ اللَّهِ بالكليَّة فدبَّروا لحسْنِ الرجوع قبل ارتكاب ما دعته إليه نُفُوسُهم، وهذه صفة أهل العرفان بالله.
ويقال إنما حَمَلَهم على إلقائه مرادُهم أن يخلوَ لهم وجهُ أبيهم، فلمَّا أرادوا حصولَ مرادهم في تغييبه لم يبالغوا في تعذيبه.
ويقال لمَّا كان المعلومً له - سبحانه - في أمر يوسف تبليغه إياه تلك القربة ألقى الله في قلبِ قائلهم حتى قال :﴿ لاَ تَقْتُلُوا يُوسُفَ ﴾.
ثم إنه - وإن أبلاه في الحال - سَهَّلَ عليه ذلك في جَنْبِ ما رقَّاه إليه في المآل، قال قائلهم :
كم مرةٍ حَفَّت بِكَ المكارِه | خَارَ لَكَ اللَّهُ - وأنت كاره |
ويقال العَجَبُ من قبول يعقوب - عليه السلام - ما أبدى بنوه له من حفظ يوسف عليه السلام وقد تفرَّسَ فيهم قلبه فقال ليوسف :﴿ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدْاً ﴾ [ يوسف : ٥ ] ولكن إذا جاء القضاءُ فالبصيرةُ تصير مسدودةً.
ويقال من قِبَلَ على محبوبه حديثَ أعدائه لَقِيَ ما لَقِي يعقوبُ في يوسف - عليهما السلامُ - من بلائه.
ويقال ما رَكَنَ إلى قولهم :﴿ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ﴾ - أي مِنْ قِبَلهِمِ - حتى قالوا :﴿ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِندَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ ﴾ [ يوسف : ١٧ ] ؛ فَمَنْ أسَلم حبيبَه إلى أعدائه غُصَّ بتحسِّي بلائه.
ويقال : لما خاف عليه من الذئب امتُحِنَ بحديث الذئب، ففي الخبر ما معناه :" إنما يُسََلِطُ على ابن آدم ما يخافه " ٤ وكان في حقه أن يقول أخافُ الله لا الذئب، وإنْ كانت مَحَالُّ الأنبياء - عليهم السلام - محروسةً من الاعتراض عليها.
ويقال لمَّا جرى على لسان يعقوب - عليه السلام - من حديث الذئب صار كالتلقين لهم، ولو لم يسمعوه ما اهْتَدَوْا إلى الذئب.
ويقال لمَّا عدُّوا القوة في أنفسهم حين قالوا :﴿ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ ﴾ خُذِلُوا حتى فعلوا.
ويقال لمَّا رَكَنَ يعقوبُ - عليه السلام - إلى قولهم :﴿ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ ﴾ لَقِيَ ما لَقِيَ.
ويقال حين انقطعت على يوسف عليه السلام مراعاةٌ أبيه حَصَلَ له الوحيُ مَنْ قِبَل مولاه، وكذا سُنَّتُه تعالى أنه لا يفتح على نفوس أوليائه باباً من البلاءِ إلا فَتَحَ على قلوبهم أبوابَ الصفاء، وفنون لطائف الولاء.
ويقال : لا يَبْعُدُ أَنْ يقال إنهم وإنْ جَنَوْا على يوسف عليه السلام فقد ندموا على ما فعلوا، فَعَلاَهُمْ البكاءُ لنَدمهم - وإن لم يُظْهروا لأبيهم - وتَقَوَّلُوا على الذِّئبِ.
ويقال : لا يَبْعُدُ أَنْ يقال إنهم وإنْ جَنَوْا على يوسف عليه السلام فقد ندموا على ما فعلوا، فَعَلاَهُمْ البكاءُ لنَدمهم - وإن لم يُظْهروا لأبيهم - وتَقَوَّلُوا على الذِّئبِ.
فَعلم على الجملة وإنْ لم يعلمْ على التفضيل. . . وهكذا تقرع قلوبَ الصديقين عواقبُ الأمور على وجه الإجمال، إلى أنْ تَتَّضحَ لهم تفاصيلُها في المستأنف.
ويقال عوقبوا على ما فعلوه بأن أُغفلوا عن تمزيق قميصه حتى عَلم يعقوب تَقَوُّلَهم فيما وصفوا.
ويقال ليس كل مَنْ وَجَدَ شيئاً كان كما وجده السيارة ؛ توهموا أنهم وجدوا عبداً مملوكاً وكان يوسف - في الحقيقة - حُرَّاً.
ويقال لمَّا أراد اللَّهُ تعالى خلاصَ يوسف - عليه السلام - من الجُبِّ أزعج خواطر السِّيارة في قصد السفر، وأعدمهم الماءَ حتى احتاجوا إلى الاستقاء لِيَصِلَ يوسف عليه السلام إلى الخلاص، ولهذا قيل : ألا ربَّ تشويشٍ يقع في العَالَم، والمقصودُ منه سكونُ واحدٍ. كما قيل : رُبَّ ساع له قاعد.
ويقال قد يُبَاعُ مثل يوسف عليه السلام بثمن بخس، ولكن إذا وقعت الحاجةُ إليه فعند ذلك يعلم ما يلحق من الغَبْن.
ويقال : لم يحتشموا من يوسف - عليه السلام - يوم باعوه ثمنٍ بَخْسٍ، ولكن لمَّا قال لهم : أنا يوسف وقع عليهم الخجل، ولهذا قيل : كفى للمقصر الحياء يوم اللقاء.
ويقال لمَّا خَرُّوا له سُجَّداً علموا أنَّ ذلك جزاءُ مَنْ باع أخاه بثمنٍ بخسٍ.
ويقال لمَّا وصل الناسُ إلى رفق يوسف عاشوا في نعمته، واحتاجوا إلى أن يقفوا بين يديه في مقام الذُّلِّ قائلين ﴿ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ ﴾ [ يوسف : ٨٨ ]، وفي معناه أنشدوا :
ستسمع بي وتذكرني *** وتطلبني فلا تجدِ
ويقال ليس العَجَبُ ممن يبيع مثلَ يوسف - عليه السلام - بثمنٍ نجس إنما العَجَبُ ممن (. . . . )٥ مثل يوسف - عليه السلام - بثمن بخس، لاسيَّما ﴿ وَكَانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ ﴾ الخرق لا غاية له، وكذا العجب لا نباته له.
ويقال ليس العجب ممن يبيع يوسف- عليه السلام - بثمنٍ بخسٍ، إنما العجب ممن يبيع وقته الذي أعزُّ من الكبريت الأحمر بعَرَضٍ حقيرٍ من أعراض الدنيا.
ويقال إنَّ السيارة لم يعرفوا قيمته فزهدوا في شرائه بدراهم، والذين وقفوا على جماله وشيءٍ من أحواله غالوا - بمصر- في ثمنه حتى اشتروه بزنته دراهم ودنانير مراتٍ كما في القصة، وفي معناه أنشدوا :
إنْ كنتُ عندكَ يا مولاي مُطَّرَحاً *** فعند غيرِك محمولٌ على الحَدَقِ٦
ثم إنه أعتقهم جميعاً. . . وكذا الكريمُ إذا قدر غفر.
قوله جل ذكره :﴿ وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ في الأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ ﴾.
أراد مَنْ حَسَدَه أَلا تكونَ له فضيلةٌ على إخوته وذويه، وأراد اللهُ أن يكونَ له مُلْكُ الأرضِ، وكان ما أراد اللهُ لا ما أراد أعداؤه.
قوله جلّ ذكره :﴿ وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ ﴾.
أرادوا أن يكونَ يوسفُ عليه السلام في الجُبِّ، وأراد اللَّهُ - سبحانه - أن يكون يوسف على سرير المُلْكِ ؛ فكان ما أراد الله، والله غالبٌ على أمره. وأرادوا أن يكون يوسفُ عبداً لمن ابتاعوه من السيارة، وأراد اللهُ أن يكونَ عزيزَ مصر- وكان ما أراد اللَّهُ.
ويقال العِبْرَةُ لا ترى من الحقِّ في الحال، وإنما الاعتبارُ بما يظهر في سِرِّ تقديره في المآل.
ويقال إنما قال :﴿ وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ ﴾ أي حين استوى شبابُه واكتملت قُوْته، وكان وقت استيلاء الشهوة، وتوفر دواعي مطالبات البشرية آتاه الله الحكْمَ الذي حبسه على الحقِّ وصَرَفَه عن الباطل، وعَلِمَ أنَّ ما يعقب اتباع اللذاتِ من هواجم النَّدم أشدُّ مقاساةً من كلفة الصبر في حال الامتناع عن دواعي الشهوة. . . فآثَرَ مَشَقَّةَ الامتناع على لَذَّةِ الاتباع. وذلك الذي أشار إليه الحقُّ - سبحانه - من جميل الجزاء الذي أعطاه هو إمدادُه بالتوفيق حتى استقام في التقوى والورع على سَوَاءِ الطريق، قالَ تعالى :﴿ وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا ﴾ [ العنكبوت : ٦٩ ] أي الذين جاهدوا بسلوك طريق المعاملة لنهدينهم سُبَلَ الصبرِ على الاستقامة حتى تتبين لهم حقائقُ المواصلة.
وفي التفسير أنه حفظ حُرْمةَ الرجل الذي اشتراه، وهو العزيز.
وفي الحقيقة أشار بقوله :﴿ إِنَّهُ رَبِى ﴾ إلى ربِّه الحقِّ تعالى : هو مولاي الحق تعالى، وهو الذي خلَّصني من الجُبِّ، وهو الذي جعل في قلب العزيز لي محلاً كبيراً فأكرم مثواي فلا ينبغي أَنْ أُقْدِمَ على عصيانه - سبحانه - وقد غمرني بجميل إحسانه.
ويقال إن يوسف عليه السلام قال لها : إن العزيز أمرني أَنْ أنفعَه. ﴿ عَسَى أَن يَنفَعَنَا ﴾ فلا أَخُونُه في حُرْمَتِه بظهر الغيب.
ويقال لمَّا حفظ حُرْمة المخلوقِ بظهر الغيب أكرمه الحقُّ سبحانه بالإمداد بالعصمة في الحال ومَكَّنَه من مواصلتها في المآل على وجه الحَلاَل.
ويقال اشتركا في الهمِّ وأُفْرِد- يوسف عليه السلام- بإشهاده البرهان.
وفي تعيين ذلك البرهان- ما الذي كان ؟ - تكلُّفٌ غيرُ محمودٍ إذا لا سبيل إليه إلا بالخَبَرِ المقطوع به.
وفي الجملة كان البرهانُ تعريفاً من الحقِّ إياه بآية من آيات صُنْعِه، قال تعالى :
﴿ سَنُرِيهِمْ ءَايَتِنَا فِى الأَفَاقِ وفِى أَنفُسِهِم حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الحَقُّ ﴾ [ فصلت : ٥٣ ].
وقوله :﴿ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالفَحْشَاءَ ﴾ صَرَفَ عنه السُّوءَ حتى لم يوجَد منه العزمُ على ذلك الفعل - وإنْ كان منه همٌ - إلا أن ذلك لم يكن جُرْماً كما ذكرنا.
والصَّرْفُ عن الطريق بعد حصول الهمِّ - كشفٌ، والسوءُ المصروفُ عنه هو العزمُ على الزنا والفحشاء أو نفْسُ الزنا، وقد صرفها الله تعالى عنه.
قوله :﴿ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا المُخْلَصِينَ ﴾ : لم تكن نجاتُه في خلاصه، ولكن في صرفِ السوء عنه واستخلاصه.
ولم يضر يوسفَ - عليه السلام - أَنْ قَدَّتْ٧ قميصه وهو لِبَاسُ دنياه بعد ما صحَّ عليه قميصُ تقواه.
ويقال لم تَقْصِدْ قَدَّ القميصِ وإنما تَعَلَّقَتْ به لتَحْبِسَه على نفسها، وكان قصدُها بقاءَ يوسف - عليه السلام - معها، ولكن صار فعلُها وَبالاً على نَفْسِها، فكان بلاؤها من حيث طَلَبَتْ راحتهَا وشفاءَها.
ويقال تولَّد انخراقُ القميصِ من قبضها عليه وكان في ذلك افتضاح أمرها ؛ لأن قَبْضَها على قميصه كان مزجوراً عنه. . ليُعْلَمَ أنَّ الفاسِدَ شَجُّه٨ فاسدٌ.
ويقال لشدة استيلاء الهوى عليها لم تعلم في الحالِ أنها تقدُّ قميصه من ورائه أو من قُدَّامِه. . كذلك صاحبُ البلاءِ في الهوى مسلوبُ التمييز.
ويقال لمّا لم تَصِلْ ولم تتمكن من مرادها من يوسف خَرَقَتْ قميصَه ليكونَ لها في إلقائها الذَّنْبَ على يوسف - عليه السلام - حُجَّةٌ، فَقَلَبَ اللَّهُ الأمرَ حتى صار ذلك عليها حجة، وليوسف دلالة صدق، قال تعالى :﴿ وَلاَ يَحِيقُ المَكْرُ السَّيىءُ إلاَّ بِأَهْلِهِ ﴾
[ فاطر : ٤٣ ].
قوله تعالى :﴿ وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَا البَابِ ﴾ : لمَّا فَتَحَا البابَ وجدا سيدها لدى الباب، والإشارة فيه إلى أن ربك بالمرصاد ؛ إذا خَرَجَ العبدُ عن الذي هو عليه من التكليف في الحال وقع في ضِيق السؤال.
ويقال قال :﴿ وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا ﴾ ولم يقل سيدهما لأن يوسف في الحقيقة كان حراً ولم يكن العزيزُ له سيداً.
قوله جلّ ذكره :﴿ قَالَتْ مَا جَزَآءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً إلاَّ أَن يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾.
شَغَلَتْهُ بإغرائها إياه بيوسف عن نَفْسِها بأن سَبَقَتْ إلى هذا الكلام.
ويقال لقنته حديث السجن أو العذاب الأليم لئلا يقصد قتلَه ؛ ففي عين ما سَعَتْ به نظرت له وأَبْقتْ عليه.
ويقال قالت ما جزاء من فعل هذا إلا السجن فإن لم ترضَ بذلك، وستزيد ؛ فالعذاب الأليم يعني الضّرب المُبَرِّح. . كأنما ذكرت حديث العقوبة بالتدريج.
ويقال أوقعت السجن الذي يبقى مؤجَّلاً في مقابلة الضرب الأليم المعجل ليُعْلَم أَنّ السجنَ الطويل- وإنْ لم يكن فيه في الظاهر ألم - فهو في مقابلة الضرب الشديد الموجِع ؛ لأنه - وإنْ اشتدّ فلا يقابله.
ويقال قالت :﴿ مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً ﴾ فذِكْرُ الأهل ها هنا غايةُ تهييج الحميّة وتذكيرُ بالأَنَفَةِ.
قوله :﴿ فَلَمَّا رَءَا قَمِيصَهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ. . . . ﴾ لما اتضح الأمرُ واستبان الحالُ وظهرت براءة ساحة يوسف عليه السلام قال العزيز :﴿ إنَّهُ مِن كَيْدِكُنَّ ﴾ : دلَّت الآية على أَنَّ الزنا كان مُحرَّماً في شرعهم.
قوله :﴿ فَلَمَّا رَءَا قَمِيصَهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ.... ﴾ لما اتضح الأمرُ واستبان الحالُ وظهرت براءة ساحة يوسف عليه السلام قال العزيز :﴿ إنَّهُ مِن كَيْدِكُنَّ ﴾ : دلَّت الآية على أَنَّ الزنا كان مُحرَّماً في شرعهم.
قوله :﴿ فَلَمَّا رَءَا قَمِيصَهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ.... ﴾ لما اتضح الأمرُ واستبان الحالُ وظهرت براءة ساحة يوسف عليه السلام قال العزيز :﴿ إنَّهُ مِن كَيْدِكُنَّ ﴾ : دلَّت الآية على أَنَّ الزنا كان مُحرَّماً في شرعهم.
ويقال ليس كلُّ أحد أهلاً للبلاء ؛ لأن البلاء من صفة أرباب الولاء، فأمَّا الأجانب فَيُتَجَاوَزُ عنهم ويُخْلَى سبيلُهم - لا لكرامةِ مَحَلِّهم - ولكن لحقارة قدرهم، فهذا يوسف عليه السلام كان بريءَ السَّاحةِ، وظهرت للكلِّ سلامةُ جانبه وابُتِليَ بالسجن. وامرأة العزيز في سوء فِعْلها حيث قال :﴿ إنَّهُ مِن كَيْدِكُنَّ ﴾، وقال لها :﴿ وَاسَتَغْفِرِى لِذَنبِكَ ﴾. . . ثم لم تنزل بها شظيةٌ من البلاء.
ولما كانت أحسن منهن قيمةً- فقد كُنَّ من جملة خَدَمِها - كانت أسرعَ إلى الملامة.
( أنت عند الخصام عدوي. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . )٩
ويقال١٠ إن امرأة العزيز كانت أَتَم في حديث يوسف - عليه السلام - من النسوة فَأَثَّرَتْ رؤيتُه فيهن ولم تُؤَثِّرْ فيها، والتَّغَيُّرُ صفة أهل الابتداء في الأمر، فإذا دام المعنى زال التغيُّر ؛ قال أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - لمن رآه يبكي وهو قريب العهد في الإسلام : هكذا كُنَّا حتى قَسَتْ القلوبَ. أي وقَرَتْ وصَلُبَتْ. وكذا الحريق أول ما يطرح فيها الماء يُسْمَعُ له صوتٌ فإذا تَعَوَّدَ شُرْبَ الماء سَكَنَ فلا يُسْمعُ له صوت
ويقال إن يوسف عليه السلام نَطَقَ من عين التوحيد حيث قال :﴿ وَإلاَّ تَصْرِفْ عَنِّى كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ ﴾ فقد عَلمَ أن نجاته في أن يَصْرِفَ - سبحانه - البلاَءَ عنه لا بتكلُّفِه ولا بتَجنبِه.
ويقال لمَّا آثر يوسفُ - عليه السلام - لحوقَ المشقة في اللَّهِ على لِّّذة نفسه آثره عَصْرُه حتى قيل له :﴿ تَاللَّهِ لَقَدْ ءَاثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا ﴾ [ يوسف : ٩١ ].
ويقال لمَّا ظُلِمَ يوسفُ عليه السلام بما نُسِبَ إليه أنطق الله تلك المرأة حتى قالت في آخر أمرها بما كان فيه هتك سترها، فقالت :﴿ الآنَ حَصْحصَ الحَقُّ أَنَاْ رَاوَدتُهُ عَن نَفْسِهِ ﴾ [ يوسف : ٥١ ].
قوله :﴿ إنَّا نَرَاكَ مِنَ المُحْسِنِينَ ﴾ : الشهادة بالإحسان ذريعةٌ، بها يَتَوسُّلُ إلى استجلاب إحسانه.
ويقال لمَّا أَخَّرَ الإجابة عَلَّقَ قلوبهمَا بالوعد ؛ وإذا لم يكن نَقْدٌ فليكن وَعْدٌ.
ويقال لمَّا فاتحوه بسؤالهم قدَّم على الجواب ما اقترحه عليهما من كلمة التوحيد فقال :﴿ ذلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ. . . ﴾.
هكذا كاد يوسف عليه السلام ألا يسكتَ حين أخذ في شرح التوحيد وذكر المعبود، وفي الخبر :" مَنْ أحبَّ شيئاً أَكْثَرَ مِنْ ذِكْرِه ".
هكذا كاد يوسف عليه السلام ألا يسكتَ حين أخذ في شرح التوحيد وذكر المعبود، وفي الخبر :" مَنْ أحبَّ شيئاً أَكْثَرَ مِنْ ذِكْرِه ".
ثم إنه عاتب يوسفَ عليه السلام لأنه نَسِيَ في حديثه مَنْ يستعين به حين قال :﴿ ادْكُرْني عِندَ رَبِّكَ ﴾.
ويقال إنه طَلَبَ من بَشَرٍ عِوَضاً على ما عَلَّمَه، وفي بعض الكتب المنزلة : يا ابن آدم، عَلِّمْ مجانا كما علِّمْتَ مجاناً.
ولما استعان بالمخلوقِ طال مُكْثُه في السجن، كذلك يجازي الحقُّ- سبحانه- مَنْ يُعَلِّقُ قلبَه بمخلوق.
قوله :﴿ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الأَحْلاَمِ بِعَالِمِينَ ﴾ : مَنْ طلَبَ الشيءَ مِنْ غيرِ موضِعه لم يَنَلْ مطلوبه، ولم يَسْعَد بمقصوده.
ويقال : إن الله تعالى أفْرَد يوسف عليه السلام من بين أشكاله بشيئين : بحُسْن الخِلْقة وبزيادة العلم ؛ فكان جمالُه سببَ بلائه، وصار علمُه سببَ نجاته، لتُعْلَمَ مزيَّةُ العلمِ على غيره، لهذا قيل : العلم يُعْطِي وإن كان يُبْطِي.
ويقال إذا كان العلم بالرؤيا يوجب الدنيا فالعلمُ بالمولى أَوْلَى أن يوجِبَ العقبى، قال تعالى :﴿ وَإذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكَاً كَبِيرَاً ﴾ [ الإنسان : ٢٠ ].
وصاحبُ الرؤيا الثانية كانت المَلِكَ وكان غائباً، والوعظ والدعاء لا يكونا إلا في المشاهدة دون المغايبة.
ويقال يحتمل أن يكون قد تفرَّس في الفَتَيان قبولَ التوحيد فإنَّ الشباب ألينُ قلباً، أمَّا في هذا الموضع فقد كان المَلِكُ أصلبَ قلباَ وأفظَّ جانِباً ؛ فلذلك لم يَدْعُه إلى التوحيد لِمَا تفرَّسَ فيه من الغِلظة.
نَسِبَ يوسفُ إلى ما كان منه بَريئاً، وأُنِّبَ على ذلك مدةً، وكان أمرهُ في ذلك خَفِيَّا. ثم إن الله تعالى دَفَعَ عنه التهمة ورفع عنه المّظَنّة، وأنطق عِذّالَه، وأظهر حالَه، عما فرق به سرباله ؛ فَقُلْنَ :﴿ حَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِن سُوءٍ ﴾.
لمّا كانت امرأةُ العزيز غيرَ تامّةٍ في محبة يوسف تركَتْ ذنبَهَا عليه وقالت لزوجها :﴿ مَا جَزَآءُ مَنْ أَرَادَ بِأهْلِكَ سُوءاً إلاَّ أَن يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ ولم يكن ليوسف عليه السلام ذنب. ثمَّ لمّا تناهَتُ في محبته أقَرَّت بالذنبِ على نفسها فقالت :﴿ الآَنَ حَصْحصَ الْحَقُّ. . . . ﴾ فالتناهي في الحبِّ يوجب هتكَ الستر، وقلة المبالاة بظهور الأمر والسِّر، وقيل :
لِيُقلْ مَنْ شاءَ ما *** شاء فإني لا أُبالي
ويقال : قوله :﴿ لِيَعْلَمَ أَنّىِ لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ ﴾ بيانُ الشكر على ما عصمه الله، وقوله :﴿ وَمَا أُبََرِّى نفسي ﴾ بيانُ العُذْرِ لما قصَّر في أمر الله، فاستوجب شكرُه زيادةَ الإحسان، واستحقَّ بعذره العفوَ.
ويقال لم يقل إني حَسَنٌ جميلٌ بل قال :﴿ إني حَفِيظٌ عَلِيمٌ ﴾ أي كاتِبٌ حاسِبٌ، ليُعْلَمَ أَنَّ الفضلَ في المعاني لا في الصورة.
﴿ وَمَن يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَّزِدْ لَهُ فِيهَا ﴾ [ الشورى : ٦٣ ] - فقال :﴿ وَلاَ نُضِيعُ أَجرَ الْمُحْسِنِينَ ﴾
[ يوسف : ٥٦ ].
ثم أخبر عن حقيقة التوحيد، وبيَّن أنه إِنما يوفِّي عبيدَه من ألطافه بفضله لا بفعلهم، وبرحمته لا بِخدْمِتهم ؛ فقال :﴿ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَن نَّشَآءُ ﴾. ثم يرقي هممهم عما أولاهم من النّعم.
وكذلك منْ يعتقد في صفات المعبودِ ما هو مِنْ صفات الخَلْق. . . متى يكون عارفاً ؟ هيهات هيهات لما يحسبون !
ويقال لمَّا أَخْفَوْه صار خفاؤه حجَاباً بينهم وبين معرفتهم إياه، كذلك العاصي. . بخطاياه وزلاتِه تقع غَبَرَةٌ على وجه معرفته.
ويقال تَلَطَّفَ يوسف في استحضار بنيامين بالترغيب والترهيب، وأما الترغيب ففي مالِه الذي أوصله إليهم وهو يقول :﴿ أَلاَ تَرَوْنَ أَنّىِ أُوفِى الْكَيْلَ ﴾ وفي إقباله عليهم وفي إكرامه لهم وهو يقول :﴿ وَأَنَاْ خَيْرُ الْمُنزِلِينَ ﴾.
وأمّا الترهيب فبمنع المال وهو يقول :﴿ فإن لم تأتوني به فلا كيل لكم عندي ولا تقربون ﴾.
ويقال عَلِمَ أنهم لا يَسْتحلُّون مالَ الغَيْر فَدَسَّ بضاعتَهم في رحالِهم، لكن إذا رأَوْها قالوا : هذا وقع في رحالنا منهم بِغَلَطٍ، فالواجبُ علينا ردُّها عليهم. وكانوا يرجعون بسبب ذلك شاءوا أم أَبَوْا.
ولكنهم تجوزوا في ذلك تفخيماً للأمر حتى تسمح نَفْسُ يعقوب عليه السلام بإرسال بنيامين معهم.
ويقال أرادوا بقولهم :﴿ مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ ﴾ وفي المستقبل إذا لم تَجْمِلْه إليه.
ويقال إنهم تَلَطَّفُوا في القول ليعقوبَ - عليه السلام - حيث قالوا :﴿ أَخَانَا ﴾ إظهاراً لشفقتهم عليه، ثم أكَّدوا ذلك بقولهم :﴿ وَإنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ﴾
﴿ فاللّهُ خيرُ حافظاً ﴾ : يحفظ بنيامين فلا يصيبه شيءٌ من قِبَلِهم.
ولم يقل يعقوب فاللّه خيرُ مَنْ يَرُدُّه إليَّ، ولو قال ذلك لعلَّه كان يرده إليه سريعاً.
وكلُّ مَنْ خطا للدِّين خطوةً كافأه اللَّهُ تعالى وجازاه، فَجَمَع به بين رَوْحِ الطاعةِ ولذَّةِ العيش من حيث الخدمة.
ويقال ظنَّ يعقوب أنهم في أمر يوسف كانوا في شدة العناية بشأنِه، ولم يعلم أنهم كارهون لمكانه.
ويقال على الأصاغر حفظُ إشاراتِ الأكابر، والقولُ فيما يأمرون به هل فيه فائدةٌ أم لا - تَرْكٌ للأدب.
ويقال إذا كان مثل يعقوب عليه السلام يشير على أولاده ويتمنَّى به حصولَ مرادِه. . ثم لا يحصل مرادُه عُلِمَ أنه لا ينبغي أن يُعْتَقَدَ في الشيوخ أنَّ جميع ما يريدون يتَّفِقُ كونُه على ما أرادوا ؛ لأَنَّ الذي لا يكونُ إلا ما يريده واجباً وما أراده فهو كائن. . هو اللَّهُ الواحدُ القهارُ.
وهَكَذَا الأمر ؛ فمنهم موقوفٌ به، ومنهم صاحب بلاء.
ويقال لئن سَخِنَت عين يعقوب عليه السلام بمفارقة بنيامين فلقد قَرَّتْ عيْنُ يوسفَ بلقائه. كذا الأمر : لا تَغْرُبُ الشمس على قوم إلا وتطلع على آخرين.
ويقال : ما نُسِبَ إليه من سوء الفعال هان عليه من جَنْبِ ما وجد من الوصال.
ويقال لئن نسبَ أخاه للسرقة فقد تعرَّف إليه بقوله :﴿ إِنِّى أََنَا أَخُوكَ ﴾ سِرَّاً، فكان مُتَحَمِّلاً لأعباء الملامة في ظاهره، محمولاً بوجدان الكرامة في سِرِّهِ، وفي معناه أنشدوا :
أَجِدُ الملامةَ في هواكِ لذيذةً | حُبّاً لذكرك فَلْيَلُمْني اللُّومُ |
ويقال لم يستصعب الملامة - وإنْ كان بريئاً - مما قُرِنَ به، ولا يَضُرُّ سوءُ المقالةِ بالمكاشفين بعد حَسْنِ الحالةِ مع الأحباب.
ويقال سيء بما أَظْهَرَتْ عليه المقالة، ولكن حَصَلَ له بذلك صفاءُ الحالة.
ويقال كان القُرْحُ بالقَدح١٥ أوجعَ ما سَمِعَه يوسف منهم حيث قالوا :
﴿ إِن يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِن قَبْلُ ﴾ فقد كان ذلك أشدَّ تأثيراً في قلبه من الجفاءِ الأول.
ويقال إذا حَنِقَ عليك المِلكُ فلا تأمَنْ غِبَّه - وإنْ طالت المدة - فإن يوسف عليه السلام حَنِق عليهم فلقوا في المستأنف منه ما ساءَهم مِنْ حَبْسِ أخيه، وما صاحبهَم من الخَجل من أبيهم.
إذا أَوْصَلْتَنا الخُلْدَ كيما تُذِيقنا *** أَبَيْنا وقُلْنا : أنتَ أَوْلَى إلى القلب
وقيل :
أُحِبُّ لَيْلَى وبُغِّضَتْ إليَّ | نساءٌ ما لَهُنَّ ذُنُوبُ |
ويقال : في مُساءلة الأطلال أَخْذٌ لقلوب الأحباب، وسَلْوةٌ لأسرارهم. . وهذا البابُ مما للشرح فيه مجال.
ويقال لما وعد من نفسه الصبر فلم يُمْسِ حتى قال :﴿ يا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ ﴾ ليُعْلَمَ أنَّ عَزْمَ الأحبابِ على الصبر منقوضٌ غيرُ محفوظ١٧.
ويقال أراد إخوةُ يوسفَ أن يكونَ إقبال يعقوب عليهم بالكليَّة فأَعْرَضَ، وتولَّى عنهم، وفَاتَهُم ما كان لهم، ولهذا قيل : مَنْ طَلَبَ الكُلَّ فاته الكلُّ.
ويقال لم يَجِدْ يعقوبُ مُساعِداً لنفسِه على تأسفه على يوسف فتولَّى عن الجميع، وانفرد بإظهار، أسفه، وفي معناه أنشدوا :
فريدٌ عن الخِلاَّنِ في كل بلدةٍ | إذا عَظُمَ المطلوبُ قَلَّ المُساعِدُ |
سمعتُ الأستاذ أبا علي الدقاق - رحمه الله - يقول ذلك، وقال رحمه الله : إن يعقوبَ بكى لأجل مخلوقٍ فذهب بَصَرَهُ، وداود بكى لأَجْل الله فبقي بَصَرُه.
وسمعته- رحمه الله - يقول : لم يقل الله :" عَمِيَ يعقوب " ولكن قال :﴿ وَاْبْيَضَّتْ عَيْنَاهُ ﴾، لأنه لم يكن في الحقيقة عَمَىً، وإنما كان حجاباً عن رؤية غير يوسف.
ويقال كان ذهابُ بصرِ يعقوب حتى لا يحتاج إلى أن يرى غير يوسف، لأنه لا شيءَ أشدُّ على الأحبابِ من رؤية غير المحبوب في حال فراقه، وفي معناه أنشدوا :
لما تَيَقَّنْتُ أني لَسْتُ أُبْصرِكم | أغمضتُ عيني فلم أنظر إلى أحد |
ويقال أطيب الأشياء في الهلاك ما كان في حكم الهوى - فكيف يُخَوَّف بالهلاكِ من كان أحبُّ الأشياءِ إليه الهلاَك ؟.
ويقال لمَّا شكا إلى الله وَجَدَ الخَلَفَ من الله.
ويقال كان يعقوبُ - عليه السلام - مُتَحَمِّلاً بنفسه وقلبه، ومستريحاً محمولاً بِسِرِّه وروحه ؛ لأنه عَلِمَ من الله - سبحانه - صِدقَ حالِه فقال :﴿ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ ﴾ وفي معناه أنشدوا :
إذا ما تمنَّى الناسُ روْحاً وراحةً | تمنَّيْتُ أن أشكو إليكَ فَتَسْمَعَا |
ويقال قوله :﴿ فَتَحَسَّسُوا مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ ﴾ أمرٌ بطلب يوسف بجميع حواسِّهم ؛ بالبَصَرِ لعلَّهم تقع عليه أعينهم، وبالسَّمْع لعلَّهم يسمعون ذِكْرَه، وبالشمِّ لعلهم يجدون رِيحَه ؛ وقد توهَّم يعقوبُ أنهم مثله في إرادةِ الوقوفِ على شأنه. ثم أحالهم على فضل الله حيث قال :﴿ لاَ يَيْئَسُ مِن رَّوْحِ اللَّهِ إلاَّ الْقَوْمُ الكَافِرُونَ ﴾.
ويقال لم يكن ليعقوب أحدٌ من الأولاد بمكان يوسف، فَظَهَر من قِلَّةِ الصبر عليه ما ظهر، وآثَرَ غيْبَةَ الباقين من الأولاد في طلب يوسف على حضورهم عنده. . فشتَّان بين حاله معهم وبين حاله مع يوسف ! واحدٌ لم يَرَه فابْيَضَّتْ عيناه من الحزن بفرقته، وآخرون أَمرَهُم - باختياره - بِغَيْبَتِهم عنه.
ويقال استلطفوه بقولهم :﴿ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ ﴾ ثم ذكروا بعد ذلك حديث قلة بضاعتهم.
ويقال لمَّا طالعوا فقرهم نطفوا بقدرهم فقالوا : وجئنا ببضاعة مزجاة - أي رديئة - ولما شاهدوا قدر يوسف سألوا على قدره فقالوا :﴿ فَأَوْفِ لَنَا الكَيْلَ ﴾.
ويقال قالوا كلنا كيلاً يليق بفضلك لا بفقرنا، وبكرمك لا بعدمنا، ثم تركوا هذا اللسان وقالوا :﴿ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا ﴾ : نَزَلَوا أوْضَعَ مَنْزلٍ ؛ كأنهم قالوا : إنْ لم نستوجِبْ معاملةَ البيع والشراء فقد استحققنا بَذْلَ العطاءِ، على وجه المكافأة والجزاء.
فإِنْ قيل كيف قالوا وتصدَّقْ علينا وكانوا أنبياء- والأنبياء لا تحل لهم الصدقة ؟
فيقال لم يكونوا بعد أنبياء، أو لعلّه في شرعهم كانت الصدقةُ غيرَ مُحَرَّمةٍ على الأنبياء.
ويقال إنما أرادوا أنَّ مِنْ ورائنا مَنْ تَحِلُّ له الصدقة.
ويقال إن يوسف عليه السلام قال لهم : أنهيتم كلامكم، وأكثرتم خطابكم، فما كان في حديثكم إلا ذكر ضرورتكم. . أفلا يخطر ببالكم حديث أخيكم يوسف ؟ ! وذلك في باب العتابِ أعظم من كلِّ عقوبة.
ولمَّا أخجلهم حديث العتاب لم يَرْضَ يوسفُ حتى بسط عندهم فقال :﴿ إِذْ أَنتًمْ جَاهِلُونَ ﴾١٨.
إذا صَفَتْ المودَّةُ بين قومٍ | ودام ودادُهم قَبُحَ الثناءُ |
ويقال لم يتقدموا على أبيهم في استحقاق الخبر عن يوسف ومعرفته، بل إنهم - وإن عرفوه- فلم يلاحظوه بعين المحبة والخلة، وإنما كان غرضُهم حديثَ الميرة والطعام فقط، فقال :﴿ أَنَا يُوسُفُ وَهَذَا أَخِى ﴾ : يعني إني لأَخٌ لِمِثْلِ هذا لمثلكم ؛ ولذا قال :﴿ أَنَّا يُوسُفُ وَهَذَا أَخِى ﴾، ولم يقل وأنتم إخوتي، كأنَّه أشار إلى طرفٍ من العتاب، يعني ليس ما عاملتموني به فِعْلَ الإخوة.
ويقال هَوَّنَ عليهم حالَ بَدَاهَةِ١٩ الخجلة حيث قال ﴿ أَنَا يُوسُفُ ﴾ بقوله :﴿ وَهَذَا أَخِى ﴾ وكأنه شَغَلَهم بقوله :﴿ وَهَذَا أَخِى ﴾ كما قيل في قوله تعالى :﴿ وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى ﴾ [ طه : ١٧ ] إنه سبحانه شَغَلَ موسى عليه السلام باستماع :﴿ وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى ﴾
[ طه : ١٧ ] بمطالعة العصا في عين ما كوشِف به من قوله :﴿ إِنَّنِى أَنَا اللَّهُ ﴾ [ طه : ١٤ ].
ثم اعترف بوجدان الجزاء على الصبر في مقاساة الجهد والعناء فقال :﴿ إِنَّهُ مَن يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهُ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ ﴾.
وسمعتُ الأستاذ أبا علي الدقاق- رحمه الله - يقول لما قال يوسف :﴿ إِنَّهُ مَن يَتَّقِ وَيَصْبِرْ ﴾ أحَالَ في استحقاق الأجر على ما عمل من الصبر. . . فأنطقهم الله حتى أجابوه بلسان التوحيد فقالوا :﴿ تَاللَّهِ لَقَدْ ءَاثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا ﴾ يعني ليس بِصْبرِك يا يوسفُ ولا بتقواك، وإنما هو بإيثار اللَّهِ إياك علينا ؛ فبه تقدمت علينا بحمدك وتقواك. فقال يوسف - على جهة الانقياد للحقِّ - :﴿ لاَ تَثْرِيبَ عَلَيكُمُ اليَوْمَ ﴾، فأسقط عنهم اللوم، لأنه لمَّا لم يَرَ تقواه من نفسه حيث نبَّهوه عليه نَطَقَ عن التوحيد، وأخبر عن شهود التقدير.
ويقال لمَّا اعترفوا بفضله وأقرُّوا بما اتصفوا به من جُرْمِهم بقولهم :﴿ وإِن كُنَّا لَخَاطِئِينَ ﴾ وجدوا التجاوزَ عنهم.
تركُ العتابِ إذا استحق أخ | مِنك العتابَ ذريعةُ الهَجْرِ |
ويقال لمَّا كان سببُ البلاءِ والعمى قميصَ يوسف أراد اللَّهُ أن يكونَ به سَبَبُ الخلاص من البلاء.
ويقال علم أن يعقوب عليه السلام - لِمَا يلحقه من فَرْطِ السرور- لا يطيقه عند أخذ القميص فقال :﴿ فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجِهِ أَبِى ﴾.
ويقال القميص لا يصلح إلا للباس إلا قميص الأحباب فإنه لا يصلح إلا لوجدان ريح الأحباب.
ويقال كان العمى في العين فأمر بإلقاء القميص على الوجه ليجدَ الشفاءَ من العمى.
ويقال لمَّا كان البكاء بالعين التي في الوجه كان الشفاء في الإلقاء على العين. التي في الوجه، وفي معناه أنشدوا :
وما بات مطوياً على أريحية | عُقَيب النَّوى إلا فتىً ظلَّ مغرما |
ويقال عَلِمَ يوسفُ أن يعقوبَ لن يطيق على القيام بكفاية أمور يوسف فاستحضَرَه، إبقاءً على حالِه لا إخلالاً لِقَدْرِه وما وَجَبَ عليه من إجلاله.
ويقال لم يكن يوسف بعيداً عن يعقوب حين ألقوه في الجُبِّ ولكن اشتبه عنيه وخَبَرُه وحالُه، فلما زال البلاءُ وَجَدَ ريحَه وبينهما مسافة ثمانين فرسخاً - من مصر إلى كنعان.
ويقال إنما انفرد يعقوبُ عليه السلام بوجدان ريح يوسف لانفرادِه بالأسف عند فقدان يوسف. وإنما يجد ريح يوسف مَنْ وَجَدَ على فراق يوسف ؛ فلا يعرف ريحَ الأحباب إلا الأحبابُ، وأَمَّا على الأجانب فهذا حديثٌ مُشْكِل. . إذ أنَّى يكون للإنسان ريح ! ؟.
ويقال لفظ الريح ها هنا توسع، فيقال هبَّتْ رياحُ فلانٍ، ويقال إني لأَجِدُ ريح الفتنة. . وغير ذلك.
قوله جلّ ذكره :﴿ لَوْلآ أَن تُفَنِّدُونِ ﴾.
تَفَرَّسَ فيهم أنهم يبسطون لسان الملامة فلم ينجع فيهم قولُه، فزادوا في الملامة.
ويقال إن يعقوب عليه السلام قد تعرَّف من الريح نسيمَ يوسف عليه السلام، وخبر يوسف كثير حتى جاء الإذن للرياح، وهذه سُنَّةُ الأحباب : مساءلة الديار ومخاطبة الأطلال وفي معناه أنشدوا :
وإنِّي لأستهدي الرياح نسيمكم | إذا هي أقبَلْت نحوكم بهُبُوب |
واسألها حَمْلَ السلام إليكمُ | فإن هي يوماً بلَغَتْ فأَجِيبُوا |
وَجْهُك المأمولُ حُجَّتُنا | يومَ يأتي النَّاسُ بالحجج |
ويقال إخوة يوسف - وإنْ سَلَفَتْ منهم الجفوة - كلَّموا أباهم بلسان الانبساط لتقديم شفقةِ الأبوةِ على ما سَبَقَ منهم من الخطيئة.
ويقال يومٌ بيومٍ، اليوم الذي كان يعقوب محزوناً بغيبة يوسف فلا جَرَمَ اليوم كان يعقوب مسروراً بقميص يوسف، وكان الأخوة في الخَجلة مما عملوا بيوسف.
ويقال لم يُجِبْهُم على الوهلة ليدلَّهم على ما قَدَّمُوا من سوء الفَعْلةِ، لأن يوسفَ كان غائباً وقتئذٍ، فوعدهم الاستغفار في المستأنف - إذا رضِي عنهم يوسف حيث كان الحقُّ أكثرُه له، لو كان كله ليعقوب لوهبهم على الفور.
قوله :﴿ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدَاً ﴾ : كان ذلك سجودَ تحيةٍ، فكذلك كانت عادتهم. ودَخَلَ الأَبَوان في السجود - في حقِّ الظاهر- لأنَّ قوله ﴿ وَخَرُّوا ﴾ إخبارٌ عن الجميع، ولأنه كان عن رؤياه قد قال :﴿ أني رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبَاً والشَّمْسَ وَالقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لي سَاجِدِينَ ﴾
[ يوسف : ٤ ] وقال ها هنا :﴿ هَذَا تَأْوِيلُ رُءيَايَ مِن قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّى حَقَاً ﴾.
قوله جلّ ذكره :﴿ أَحْسَنَ بي إِذْ أخرجني مِنَ السِّجِنْ وَجَاءَ بكُم مِّن البَدوِ مِن بَعْدِ أَن نَّزَغَ الشَّيْطَانُ بيني وَبَيْن إخوتي إِنَّ رَبِىّ لَطِيفٌ لِّمَا يشاء إِنَّهُ هُوَ العَلِيمُ الحَكِيمُ ﴾.
شهد حسانه فَشَكَرَه. . كذلك مَنْ شهد النعمة شَكَرَ، ومَنْ شهد المُنْعِمَ حمده.
وذَكَرَ حديثَ السجن - دون البئر- لطول مدة السجن وقلة مدة البئر.
وقيل لأن فيه تذكيراً بِجُرْمِ الإخوة وكانوا يخجلون. وقيل لأن ﴿ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَىَ مِمَّا يدعونني إِلَيْهِ ﴾ وقيل لأن كان في البئر مرفوقاً به والمبتدئ يُرفَقُ به وفي السجن فَقَدَ ذلك الرِّفق لقوة حاله ؛ فالضعيف مرفوقٌ به والقويُّ مُشَدَّدٌ عليه في الحال، وفي معناه أنشدوا :
وأسررتني حتى إذا ماسَبَبْتَني | بقولٍ يحل العُصْم سهل الأباطح٢٠ |
تجافيتَ عنِّي حين لا لي حيلة | وغادرت ما غادرت بين الجوانح |
قوله :﴿ مِن بَعْدِ أَن نَّزَغَ الشَّيْطَانُ بيني وَبَيْنَ إخوتي ﴾ أظهر لهم أمرهم بما يشبه العذر، فقال كان الذي جرى منهم من نزعات الشيطان، ثم لم يرض بهذا حتى قال ﴿ بيني وبين إخوتي ﴾ يعني إن وَجَدَ الشيطان سبيلاً إليهم، فقد وجد أيضاً إليَّ حيث قال :﴿ بيني وَبَيْنَ إخوتي ﴾.
ثم نطق عن عين التوحيد فقال :﴿ إِنَّ رَبِّى لَطِيفٌ لِّمَا يَشَآءُ ﴾ فبلطفه عصمهم حتى لم يقتلوني.
ويقال المُلْكُ الذي أشار إليه قسمان : مُلْكُه في الظاهر من حيث الولاية، ومُلْكٌ على نفسه حتى لم يعمل ما همَّ به الزَّلَّة.
ويقال ليس كلُّ مُلْكِ المخلوقين الاستيلاَءَ على الخْلق، إنما المُلْْكُ- على الحقيقة - صفاءُ الخُلُق.
قوله :﴿ وعلمتني مِن تَأْويِلِ الأَحَادِيثِ ﴾ : التأويل للخواص، وتفسير التنزيل للعوام. قوله جلّ ذكره :﴿ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَنتَ وَلِّىِ في الدُّنْيَا وَالآَخِرَةِ توفني مُسْلِماً وألحقني بِالصَّالِحِينَ ﴾.
﴿ فَاطرَ السَّمَاواتِ وَالأَرْضِ ﴾ - هذا ثناء، وقوله :﴿ توفني ﴾ - هذا دعاء.
فَقَدَّمَ الثناء على الدعاء، كذلك صفة أهل الولاء.
ثم قال :﴿ أَنتَ وَلِىِّ في الدنيا والآخرة ﴾ هذا إقرارٌ بِقَطْع الأسرار عن الأغيار.
ويقال معناه : الذي يتولَّى في الدنيا والآخرة بعرفانه أنتَ، فليس لي غيرك في الدارين.
قوله :﴿ توفني مُسْلِماً ﴾ : قيل عَلِمَ أنه ليس بعد الكمال إلا الزوال فَسأَلَ الوفاة.
وقيل من أمارات الاشتياق تمنِّي الموت على بساط العوافي مثل يوسف عليه السلام أُلقِيَ في الجُبِّ فلم يقل توفني مسلماً، وأقيم فيمن يزيد فلم يقل توفني مسلماً، وحُبِسَ في السجن سنين فلم يقل توفني مسلماً، ثم لما تمَّ له المُلْكُ، واستقام الأمر، ولَقِيَ الإخوةَ سُجَّداً، وأَلْفَى أبويه معه على العرش قال :﴿ تَوَفَّنِى مُسْلِماً ﴾٢١ فعُلِمَ أنه كان يشتاق للقائه ( سبحانه ).
وسمعت الأستاذ أبا علي الدقاق - رحمه الله يقول. قال يوسف ليعقوب : عَلِمْتَ أنَّا نلتقي فيما بعد الموت. . فلِمَ بَكيْتَ كلَّ هذا البكاء ؟
فقال يعقوب، يا بُنَيّ إنَّ هناك طرُقاً، خِفْتُ أن أسلكَ طريقاً وأنت تسلك طريقاً، فقال يوسف عند ذلك :﴿ توفني مُسْلِماً ﴾.
ويقال إن يوسف - عليه السلام - لما قال : توفني مسلماً، فلا يبعد من حال يعقوب أن لو قال : يا بني دَعْني أشتفي بلقائك من الذي مُنِيتُ به في طول فراقك، فلا تُسْمِعْني - بهذه السرعة - قولَكَ : توفَّنِي مسلماً.
ويقال كونُ الرسولِ - صلى الله عليه وسلم - أُميَّا في أول أحواله علامةُ شَرَفِه وعلوِّ قدْرِه في آخر أحواله، لأنَّ صِدْقَهُ في أن هذا من قِبَل اللَّهِ إنما عُرِفَ بكونه أميا، ثم أتى بمثل هذه القصة من غير مدارسة كتاب.
ويقال معناه : أَقَمْتُكَ شاهداً لإرادة إيمانهم، وشِدَّةِ الحِرْصِ على تحقُّقهِم بالدِّين، وإيقانهم. ثم إنِّي أعلم أنهم لا يؤمن أكثرُهم، وأخبرتك بذلك، وفُرِضَ عليكَ تصديقي بذلك، وفرضتُ عليك إرادتي كونَ ما عَلِمْتُ أنه لا يكون من إيمانهم.
ويقال شِرْكُ العارفين أن يتخذوا من دونه مشهوداً، أو يطالعوا سواه موجوداً.
ويقال مِنَ الشِّركِ الخفيِّ الإحالةُ على الأشكال في تجنيس الأحوال، والإخلاد إلى الاختيار والاحتيال عند تزاحم الأشغال.
ويقال الغاشيةُ حجابٌ من القسوة يحصل في القلب، لا يزول بالتضرع ولا ينقشِع بالتخشع.
ويقال الغاشيةُ من العذاب أن تزولَ من القلب سرعةُ الانقلاب إلى الله تعالى، حتى إذا تمادى صاحب الغفلة استقبله في الطريق ما يوجب قنوطه من زواله، وفي معناه أنشدوا :
قلتُ للنَّفْسِ إنْ أردتِ رجوعاً | فارجعي قَبْلَ أَنْ يُسَدَّ الطريقُ |
ويقال البصيرة أن تطلع شموسُ العرفاِن فتندرِجُ فيها أنوارُ نجوم العقل.
قوله :﴿ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي ﴾ أي ذلك سبيلي مَنْ اقتدى بهديي فهو أيضاً على بصيرة.
ثم أَمَرهُم بالاستدلال والتفكر والاعتبار والنَّظَر فقال :﴿ أَفَلَمْ يَسِيرُوا في الأَرْض. . . . ﴾.
ويقال حكم الله بأنه لا يفتح للمريدين شيئاً من الأحوال إلا بعد يأسهم منها، قال تعالى :﴿ وَهُوَ الَّذِي يُنّزِّلُ الغَيْثَ مِن بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنشُرُ رَحْمَتَهُ ﴾ [ الشورى : ٢٨ ]، فكما أنّه يُنَزِّلُ المَطر بعد اليأسِ فكذلك يفتح الأحوالَ بعد اليأس منها والرضا بالإفلاس عنها.
وعبرة في قصصهم لأرباب التقوى ؛ فإن يوسفَ لمَّا ترك هواه رقَّاه الله إلى ما رقَّاه.
وعبرةٌ لأهل الهوى فيما في اتباع الهي من شدة البلاء، كامرأة العزيز لمَّا تبعت هواها لقيت الضرَّ والفقر.
وعبرةُ للمماليك في حضرة السادة، كيوسف لما حفظ حرمة زليخا مَلَكَ مُلْكَ العزيز، وصارت زليخا امرأته حلالاً.
وعبرةٌ في العفو عند المقدرة، كيوسف عليه السلام حين تجاوز عن إخوته.
وعبرةٌ في ثمرة الصبر، فيعقوب لما صبر على مقاساة حزنه ظفر يوماً بلقاء يوسف عليه السلام.
١ تحرز منه : توقاه.
٢ بياض في الأصل.
٣ الحوب : الإثم والهلاك.
٤ أخرجه المتقي الهندي في ( كنز العمال ٣٧٢٥٧ )، وابن حجر في ( لسان الميزان ٢/١٨٣ ).
٥ بياض في الأصل.
٦ الحدق :( ج ) الحدقة : السواد المستدير وسط العين. و ( في الطب ) : فتحة مستديرة ضيقة وسط قرينة العين.
٧ انقد الثوب : انشق.
٨ شجه : جرح وجهه أو رأسه.
٩ بياض في الأًصل.
١٠ انظر الرسالة القشيرية ص ٧٨-٨٠ عند حديث القشيري عن التلوين والتمكين مركزا على رأي الدقاق.
١١ السماك : السماكان : نجمان نيران. يقال لأحدهما السماك الرامح وللآخر السماك الأعزل. يقال : بلغ فلان السماك ؛ أي : بلغ رتبة عالية. ( اللسان ١٠/٤٤٣ ).
١٢ أضغاث أحلام : الرؤيا التي لا يصح تأويلها لاختلاطها. ( اللسان ٢//١٦٣ ).
١٣ انظر الرسالة القشيرية ص ٢٥٤ -٢٥٩ حدبث القشيري عن الغيرة.
١٤ سخنت العين سخنا : لم تقز، فهي سخينة.
١٥ القرح : الجرح ( ج ) قروح. القدح : الطعن والذم.
١٦ تنصل فلان من ذنبه : تبزأ.
١٧ قال القشيري في رسالته موضحا هذا المعنى : واعلم أن الصبر على ضربين : صبر العابدين وصبر المحبين فصبر العابدين أحسنه أن يكون محفوظا، وصبر المحبين أحسنه أن يكون مرفوضا، وفي هذا المعنى أنشدوا :
تبين يوم البين أن اعتزامه | على الصبر من إحدى الظنون الكواذب |
١٨ هنا القشيري يطبق فكرة القبض والبسط ( انظر الرسالة القشيرية ص ٥٨- ٦٠ ).
١٩ البداهة : ما يفجأ من الأمر.
٢٠ الأباطح :( ج ) الأبطح : مسيل واسع فيه دقاق الحصى والتراب.
٢١ انظر الرسالة القشيرية ص ٢٣١.