تفسير سورة مريم

تفسير ابن عطية
تفسير سورة سورة مريم من كتاب المحرر الوجيز فى تفسير الكتاب العزيز المعروف بـتفسير ابن عطية .
لمؤلفه ابن عطية . المتوفي سنة 542 هـ
سورة مريم
هذه السورة مكية بإجماع، إلا السجدة منها، فقالت فرقة هي مكية، وقالت فرقة : هي مدنية١
١ آية السجدة هي الآية رقم (٥٨)..

[المجلد الرابع]

بسم الله الرّحمن الرّحيم

سورة مريم
هذه السورة مكية بإجماع إلا السجدة منها فقالت فرقة هي مكية وقالت فرقة هي مدنية.
قوله عز وجل:
[سورة مريم (١٩) : الآيات ١ الى ٦]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

كهيعص (١) ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا (٢) إِذْ نادى رَبَّهُ نِداءً خَفِيًّا (٣) قالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً وَلَمْ أَكُنْ بِدُعائِكَ رَبِّ شَقِيًّا (٤)
وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوالِيَ مِنْ وَرائِي وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا (٥) يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا (٦)
اختلف الناس في الحروف التي في أوائل السور على قولين فقالت فرقة: هو سر الله في القرآن لا ينبغي أن يعرض له، يؤمن بظاهره ويترك باطنه. وقال الجمهور بل ينبغي أن يتكلم فيها وتطلب معانيها فإن العرب قد تأتي بالحرف الواحد دالا على كلمة وليس في كتاب الله ما لا يفهم، ثم اختلف هذا الجمهور على أقوال قد استوفينا ذكرها في سورة البقرة، ونذكر الآن ما يختص بهذه السورة. قال ابن عباس وابن جبير والضحاك هذه حروف دالة على أسماء من أسماء الله تعالى الكاف من «كبير»، وقال ابن جبير أيضا الكاف من «كاف»، وقال أيضا هي من «كريم» فمقتضى أقواله أنها دالة على كل اسم فيه كاف من أسمائه تعالى. قالوا والهاء من «هاد»، والياء من «علي» وقيل من «حكيم»، وقال الربيع بن أنس هي من «يأمن» لا يجير ولا يجار عليه. قال ابن عباس والعين من «عزيز» وقيل من «عليم» وقيل من «عدل»، والصاد من «صادق» وقال قتادة بل كهيعص بجملته اسم للسورة، وقالت فرقة بل هي اسم من أسماء الله تعالى.
وروي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه كان يقول يا كهيعص اغفر لي، فهذا يحتمل أن تكون الجملة من أسماء الله تعالى ويحتمل أن يريد علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن ينادي الله تعالى بجميع الأسماء التي تضمنها كهيعص، كأنه أراد أن يقول «يا كريم يا هادي يا علي يا عزيز يا صادق» اغفر، فجمع هذا كله باختصار في قوله يا كهيعص. وقال ابن المستنير وغيره كهيعص عبارة عن حروف المعجم، ونسبه الزجاج إلى أكثر أهل اللغة، أي هذه الحروف منها ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا وعلى هذا يتركب قول من يقول ارتفع ذِكْرُ بأنه خبر عن كهيعص، وهي حروف تهج يوقف عليها بالسكون. وقرأ الجميع كاف بإثبات الألف والفاء. وقرأ نافع الهاء والياء وبين الكسر والفتح ولا يدغم الدال
3
في الذال، وقرأ ابن كثير ونافع أيضا بفتح الهاء والياء، وقرأ الحسن بن أبي الحسن بضم الهاء وفتح الياء، وروي عنه ضم الياء، وروي عنه أنه قرأ كاف بضم الفاء.
قال أبو عمرو الداني: معنى الضم في الهاء والياء إشباع التفخيم وليس بالضم الخالص الذي يوجب القلب، وقرأ أبو عمرو بكسر الهاء وفتح الياء، وقرأ عاصم بكسرها، وقرأت فرقة بإظهار النون من عين وهي قراءة حفص عن عاصم وهو القياس إذ هي حروف منفصلة، وقرأ الجميع غيره بإخفاء النون جعلوها في حكم الاتصال، وقرأ الأكثر بإظهار الدال من صاد، وقرأ أبو عمرو بإدغامه في الذال من قوله ذِكْرُ، وقرأ أبو جعفر بن القعقاع بإظهار هذه الحروف كلها وتخليص بعضها من بعض. وارتفع قوله ذِكْرُ فيما قالت فرقة بقوله كهيعص وقد تقدم وجه ذلك، وقالت فرقة: ارتفع على خبر ابتداء تقديره «هذا ذكر»، وقالت فرقة: ارتفع بالابتداء والخبر مقدر تقديره فيما أوحي إليك ذكر، وقرأ الحسن بن أبي الحسن وابن يعمر «ذكر رحمة ربك» بفتح الذال والكاف والراء على معنى هذا المتلو ذكر «رحمة» بالنصب، هذه حكاية أبي الفتح. وحكى أبو عمرو الداني عن ابن يعمر أنه قرأ «ذكّر رحمة» بفتح الذال وكسر الكاف المشددة ونصب الرحمة و «عبده» نصب ب «الرحمة» التقدير ذكر أن رحم ربك عبده»، ومن قال في الكلام تقديم وتأخير فقد تعسف. وقرأ الجمهور «زكرياء» بالمد، وقرأ الأعمش ويحيى وطلحة «زكريا» بالقصر وهما لغتان وفيه لغات غيرهما. وقوله نادى معناه بالدعاء والرغبة. واختلف في معنى «إخفائه» هذا النداء، فقال ابن جريج ذلك لأن الأعمال الخفية أفضل وأبعد من الرياء، ومنه قول النبي عليه السلام «خير الذكر الخفي» وقال غيره يستحب الإخفاء بين العبد ومولاه في الأعمال التي يزكو بها البشر. وفي «الدعاء» الذي هو في معنى العفو والمغفرة لأنه يدل من الإنسان على أنه خير فإخفاؤه أبعد من الرياء وأما دعاء زَكَرِيَّا وطلبه فكان في أمر دنياوي وهو طلب الولد فإنما إخفاؤه لئلا يلومه الناس في ذلك، وليكون على أول أمره إن أجيب نال بغيته وإن لم يجب لم يعرف أحد بذلك، ويقال وصف بالخفاء لأنه كان في جوف الليل. ووَهَنَ معناه ضعف، والوهن في الشخص أو الأمر الضعف وقرأ الأعمش «وهن» بكسر الهاء وَاشْتَعَلَ مستعارة للشيب من اشتعال النار على التشبيه به.
وشَيْباً نصب على المصدر في قول من رأى اشْتَعَلَ بمعنى شاب، وعلى التمييز في قول من لا يرى ذلك بل رآه فعلا آخر، فالأمر عنده كقولهم: تفقأت شحما وامتلأت غيظا. وقوله وَلَمْ أَكُنْ بِدُعائِكَ رَبِّ شَقِيًّا شكر لله تعالى على سالف أياديه عنده معناه أي قد أحسنت إلي فيما سلف وسعدت بدعائي إياك فالإنعام يقتضي أن يشفع آخره أوله. وقوله تعالى: وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوالِيَ الآية، اختلف الناس في المعنى الذي من أجله خاف الْمَوالِيَ، فقال ابن عباس ومجاهد وقتادة وأبو صالح خاف أن يرثوا ماله وأن ترثه الكلالة فأشفق من ذلك، وروى قتادة والحسن عن النبي ﷺ أنه قال «يرحم الله أخي زكرياء ما كان عليه ممن يرث ماله». وقالت فرقة إنما كان مواليه مهملين للدين، فخاف بموته أن يضيع الدين، فطلب وَلِيًّا يقوم بالدين بعده حكى هذا القول الزجاج وفيه أنه لا يجوز أن يسأل «زكريا» من يرث ماله إذ الأنبياء لا تورث.
قال القاضي أبو محمد عبد الحق بن عطية رضي الله عنه: وهذا يؤيد قول النبي عليه السلام «إنا
4
معشر الأنبياء لا نورث ما تركنا فهو صدقة»، ويوهنه ذكر «العاقر». والأكثر من المفسرين على أنه أراد وراثة المال، ويحتمل قول النبي ﷺ «إنا معشر الأنبياء لا نورث» أن لا يريد به العموم بل على أنه غالب أمرهم فتأمله، والأظهر الأليق «بزكريا» عليه السلام أن يريد وراثة العلم والدين فتكون الوراثة مستعارة، ألا ترى أنه إنما طلب وَلِيًّا، ولم يخصص ولدا فبلغه الله أمله على أكمل الوجوه. وقال أبو صالح وغيره: قوله يَرِثُنِي يريد المال، وقوله وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ يريد العلم والنبوة. وقال السدي:
رغب «زكريا» في الولد. وخِفْتُ من الخوف هي قراءة الجمهور وعليها هو هذا التفسير، وقرأ عثمان بن عفان رضي الله عنه وزيد بن ثابت وابن عباس وسعيد بن العاصي وابن يعمر وابن جبير وعلي بن الحسين وغيرهم «خفّت» بفتح الخاء والفاء وشدها وكسر التاء على إسناد الفعل إلى الْمَوالِيَ والمعنى على هذا انقطع أوليائي وماتوا، وعلى هذه القراءة فإنما طلب وَلِيًّا يقول بالدين، والْمَوالِيَ بنو العم والقرابة الذين يلون بالنسب. وقوله مِنْ وَرائِي أي من بعدي في الزمن فهم الولاء على ما بيناه في سورة الكهف، وقال أبو عبيدة في هذه الآية أي من بين يدي ومن أمامي وهذا قلة تحرير. وقرأ ابن كثير «من ورائي» بالمد والهمز وفتح الياء، وقرأ أيضا ابن كثير «من وراي» بالياء المفتوحة مثل عصاي، والباقون همزوا ومدوا وسكنوا الياء. و «العاقر» من النساء التي لا تلد من غير كبرة وكذلك العاقر من الرجال.
ومنه قول عامر بن الطفيل:
لبئس الفتى إن كنت أعور عاقرا جبانا فما عذري لدى كل محضر
و «زكريا» عليه السلام لما رأى من حاله إنما طلب وَلِيًّا ولم يصرح بولد لبعد ذلك عنده بسبب المرأة، ثم وصف الولي بالصفة التي هي قصده وهو أن يكون وارثا. وقالت فرقة: بل طلب الولد ثم شرط أن تكون الإجابة في أن يعيش حتى يرثه تحفظا من أن تقع الإجابة في الولد لكن يخترم فلا يتحصل منه الغرض المقصود. وقرأ الجمهور «ويرثني» برفع الفعلين على معنى الصفة للولي وقرأ أبو عمرو والكسائي «يرثني ويرث» بجزم الفعلين، وهذا على مذهب سيبويه ليس هو جواب «هب» إنما تقديره «إن تهبه يرثني»، والأول أصوب في المعنى لأنه طلب وارثا موصوفا، ويضعف الجزم أنه ليس كل موهوب يرث. وقرأ علي بن أبي طالب وابن عباس وغيرهما «يرثني وارث من آل يعقوب»، قال أبو الفتح هذا هو التجريد، التقدير: يرثني منه أو به وارث، وقرأ مجاهد «يرثني ويرث» بنصب الفعلين، وقرأت فرقة «يرثني أو يرث من آل يعقوب» على التصغير. وقوله من آلِ يَعْقُوبَ يريد يرث منهم الحكمة والحبورة والعلم والنبوءة والميراث في هذه كلها استعارة ورَضِيًّا معناه مرضي فهو فعيل بمعنى مفعول.
قوله عز وجل:
[سورة مريم (١٩) : الآيات ٧ الى ١١]
يا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا (٧) قالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا (٨) قالَ كَذلِكَ قالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً (٩) قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَ لَيالٍ سَوِيًّا (١٠) فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرابِ فَأَوْحى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا (١١)
5
المعنى قيل له بإثر دعائه يا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ يولد لك اسْمُهُ يَحْيى وقرأ الجمهور «بشّرك» بفتح الباء وكسر الشين مشددة، وقرأ أصحاب ابن مسعود «نبشرك» بسكون الباء وضم الشين، قال قتادة: سمي يَحْيى لأن الله أحياه بالنبوءة والإيمان، وقال بعضهم سمي بذلك لأن الله أحيا له الناس بالهدى. وقوله سَمِيًّا معناه في اللغة لم نجعل له مشاركا في هذا الاسم، أي لم يتسم قبل ب يَحْيى وهذا قول قتادة وابن عباس وابن أسلم والسدي، وقال مجاهد وغيره سَمِيًّا معناه مثلا ونظيرا وهذا كأنه من المساماة والسمو، وفي هذا بعد لأنه لا يفضل على إبراهيم وموسى اللهم إلا أن يفضل في خاص بالسؤود والحصر. وقال ابن عباس معناه لم تلد العواقر مثله. وقول زكرياء أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ اختلف الناس فيه فقالت فرقة: إنما كان طلب الولي دون تخصيص ولد فلما بشر بالولد استفهم عن طريقه مع هذه الموانع منه، وقالت فرقة: إنما كان طلب الولد وهو بحال يرجو الولد فيها بزواج غير العاقر أو تسرّ، ولم تقع إجابته إلا بعد مدة طويلة صار فيها إلى حال من لا يولد له فحينئذ استفهم وأخبر عن نفسه ب الْكِبَرِ والعتو فيه. وقالت فرقة: بل طلب الولد فلما بشر به لحين الدعوة تفهم على جهة السؤال لا على جهة الشك كيف طريق الوصول إلى هذا وكيف نفذ القدر به؟ لا أنه بعد عنده هذا في قدرة الله. و «العتي» و «العسي» المبالغة في الكبر أو يبس العود أو شيب الرأس أو عقيدة ما ونحو هذا، وقرأ حمزة والكسائي «عتيا» بكسر العين والباقون بضمها، وقرأ ابن مسعود «عتيا» بفتح العين، وحكى أبو حاتم أن ابن مسعود قرأ «عسيا» بضم العين وبالسين وحكاها الداني عن ابن عباس أيضا، وحكى الطبري عن ابن عباس أنه قال: ما أدري أكان رسول الله ﷺ يقرأ في الظهر والعصر ولا أدري أكان يقرأ عِتِيًّا أو «عسيا» بالسين.
وحكى الطبري عن السدي أنه قال: نادى جبريل زكرياء إن الله يبشرك بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيى فلقيه الشيطان فقال له إن ذلك الصوت لم يكن لملك وإنما كان لشيطان فحينئذ قال زكرياء أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ، ليثبت أن ذلك من عند الله، و «زكريا» هو من ذرية هارون عليه السلام، وقال قتادة: جرى له هذا الأمر وهو ابن بضع وسبعين سنة وقيل ابن سبعين وقال الزجاج: ابن خمس وستين فقد كان غلب على ظنه أنه لا يولد له.
وقوله قالَ كَذلِكَ قيل إن المعنى قال له الملك كَذلِكَ فليكن الوجود كما قيل لك قالَ رَبُّكَ خلق الغلام عَلَيَّ هَيِّنٌ، أي غير بدع فكما خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وأخرجتك من عدم إلى وجود كذلك أفعل الآن، وقال الطبري: معنى قوله كَذلِكَ أي الأمران اللذان ذكرت من المرأة العاقر والكبرة هو كَذلِكَ ولكن قالَ رَبُّكَ قال القاضي والمعنى عندي قال الملك كَذلِكَ أي على هذه الحال قالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ. وقرأ الجمهور «وقد خلقتك»، وقرأ حمزة والكسائي «وقد خلقناك». وقوله وَلَمْ تَكُ شَيْئاً أي موجودا، قال زكرياء رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً علامة أعرف بها صحة هذا وكونه من عندك. وروي أن زكرياء عليه السلام لما عرف ثم طلب الآية بعد ذلك عاقبة الله تعالى بأن أصابه بذلك السكوت عن كلام الناس، وذلك وإن لم يكن عن مرض خرس أو نحوه ففيه على كل حال عقاب. ما روي عن ابن زيد أن
6
زكرياء لما حملت زوجة منه يحيى أصبح لا يستطيع أن يكلم أحدا، وهو مع ذلك يقرأ التوراة ويذكر الله، فإذا أراد مقاولة أحد لم يطقه، ويحتمل على هذا أن يكون قوله اجْعَلْ لِي آيَةً معناه علامة أعرف بها أن الحمل قد وقع، وبذلك فسر الزجاج. ومعنى قوله سَوِيًّا فيما قال الجمهور صحيحا من غير علة ولا خرس، وقال ابن عباس أيضا ذلك عائد على «الليالي» أراد كاملات مستويات، وقوله فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ المعنى أن الله تعالى أظهر الآية بأن خرج زكرياء من محرابه وهو موضع مصلاة، والْمِحْرابِ أرفع المواضع والمباني إذ هي تحارب من ناوأها ثم خص بهذا الاسم مبنى الصلاة، وكانوا يتخذونها فيما ارتفع من الأرض، واختلف الناس في اشتقاقه، فقالت فرقة: هو مأخوذ من الحرب كأن ملازمه يحارب الشيطان والشهوات، وقالت فرقة: هو مأخوذ من الحرب بفتح الراء كأن ملازمه يلقى منه حربا وتعبا ونصبا، وفي اللفظ بعد هذا نظر. وقوله فَأَوْحى قال قتادة وابن منبه: كان ذلك بإشارة، وقال مجاهد: بل بأن كتبه في التراب.
قال القاضي أبو محمد: وكلا الوجهين وحي. وقوله أَنْ سَبِّحُوا، أَنْ مفسرة بمعنى «أي»، وسَبِّحُوا قال قتادة: معناه صلوا، والسبحة الصلاة، وقالت فرقة: بل أمرهم بذكر الله وقول سبحان الله.
وقرأ طلحة «أن سبحوه» بضمير، وباقي الآية بين ويقال «وحي وأوحى» بمعنى واحد.
قوله عز وجل:
[سورة مريم (١٩) : الآيات ١٢ الى ١٥]
يا يَحْيى خُذِ الْكِتابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا (١٢) وَحَناناً مِنْ لَدُنَّا وَزَكاةً وَكانَ تَقِيًّا (١٣) وَبَرًّا بِوالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّاراً عَصِيًّا (١٤) وَسَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا (١٥)
المعنى فولد له وقال الله تعالى للمولود يا يَحْيى، وهذا اختصار ما يدل الكلام عليه.
والْكِتابَ التوراة بلا اختلاف لأنه ولد قبل عيسى ولم يكن الإنجيل موجودا عند الناس. وقوله بِقُوَّةٍ أي العلم به والحفظ له والعمل به والالتزام للوازمه ثم أخبر الله تعالى فقال وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا، واختلف في الْحُكْمَ، فقالت فرقة الأحكام والمعرفة بها، وصَبِيًّا يريد شابا لم يبلغ حد الكهول.
وقال الحسن الْحُكْمَ النبوءة، وفي لفظة صبي على هذا تجوز واستصحاب حال، وقالت فرقة الْحُكْمَ الحكمة، وروى معمر في ذلك أن الصبيان دعوه وهو طفل إلى اللعب فقال إني لم أخلق للعب فتلك الحكمة التي آتاه الله عز وجل وهو صبي أهم لذاته اللعب. وقال ابن عباس: من قرأ القرآن من قبل أن يحتلم فهو ممن «أوتي الحكم صبيا»، وقوله وَحَناناً عطف على قوله الْحُكْمَ وَزَكاةً عطف عليه، أعمل في جميع ذلك آتَيْناهُ، ويجوز أن يكون قوله وَحَناناً عطفا على قوله صَبِيًّا، أي وبحال حنان منا وتزكية له والحنان الرحمة والشفقة والمحبة قاله جمهور المفسرين، وهو تفسير اللغة. وهو فعل من أفعال النفس ويقال حنانك وحنانيك، فقيل هما لغتان بمعنى واحد، وقيل حنانيك تثنية الحنان. وقال عطاء بن أبي رباح حَناناً مِنْ لَدُنَّا بمعنى تعظيما من لدنا. والحنان في كلام العرب أيضا ما عظم من الأمور في ذات الله تعالى، ومنه قول زيد بن عمرو بن نفيل في خبر بلال بن رباح «والله لئن قتلتم هذا
العبد لأتخذن قبره حنانا». وقد روي عن ابن عباس أنه قال «والله ما أدري ما الحنان». و «الزكاة» التطهير والتنمية في وجوه الخير والبر. و «التقي» فعيل من تقوى الله عز وجل، وروي في تفسير هذه الآية من طريق عبد الله بن عمرو عن النبي عليه السلام أنه قال «كل بني آدم يأتي يوم القيامة وله ذنب إلا ما كان من يحيى بن زكرياء». وقال قتادة: إن يحيى عليه السلام لم يعص الله قط بصغيرة ولا بكبيرة ولا همّ بامرأة، وقال مجاهد: كان طعام يحيى العشب وكان للدمع في خده مجار ثابتة ومن الشواهد في الحنان قول امرئ القيس: [الوافر]
وتمنحها بنو شمجى بن جرم معيزهم حنانك ذا الحنان
وقال النابغة: [الطويل]
أبا منذر أفنيت فاستبق بعضنا حنانيك بعض الشر أهون من بعض
وقال الآخر: [منذر بن إبراهيم الكلبي] [الطويل]
فقالت حنان ما أتى بك هاهنا أذو نسب أم أنت بالحي عارف
وقوله تعالى: وَبَرًّا بِوالِدَيْهِ
الآية، «البر» الكثير البر. و «الجبار» المتكبر كأنه يجبر الناس على أخلاقه والنخلة الجبارة العظيمة العالية. و «العصي» أصله عصوي فعول بمعنى فاعل. وروي أن يحيى بن زكرياء عليه السلام لم يواقع معصية صغيرة ولا كبيرة كما تقدم. وقوله وَسَلامٌ
قال الطبري وغيره: معناه وأمان، والأظهر عندي أنها التحية المتعارفة فهي أشرف وأنبه من الأمان لأن الأمان متحصل له بنفي العصيان وهي أقل درجاته وإنما الشرف في أن سلم الله عليه وحياه في المواطن التي الإنسان فيها في غاية الضعف والحاجة وقلة الحيلة والفقر إلى الله وعظيم الهول، وذكر الطبري عن الحسن أن عيسى ويحيى التقيا وهما ابنا الخالة فقال يحيى لعيسى: ادع لي فأنت خير مني. فقال عيسى: بل أنت ادع لي فأنت خير مني سلم الله عليك وأنا سلمت على نفسي.
قال القاضي أبو محمد: قال أبي، رضي الله عنه: انتزع بعض العلماء من هذه الآية في التسليم فضل عيسى بأن قال إذلاله في التسليم على نفسه ومكانته من الله التي اقتضت ذلك حين قرر وحكى في محكم التنزيل أعظم في المنزلة من أن يسلم عليه عليه السلام لكل وجه.
قوله عز وجل:
[سورة مريم (١٩) : الآيات ١٦ الى ٢٠]
وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِها مَكاناً شَرْقِيًّا (١٦) فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجاباً فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً سَوِيًّا (١٧) قالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا (١٨) قالَ إِنَّما أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيًّا (١٩) قالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا (٢٠)
هذه ابتداء قصة ليست من الأولى، والخطاب لمحمد عليه السلام. والْكِتابِ
القرآن،
ومَرْيَمَ
هي بنت عمران أم عيسى أخت أم يحيى واختلف الناس لم انْتَبَذَتْ
والانتباذ التنحي. فقال السدي انْتَبَذَتْ
لتطهر من حيض، وقال غيره لتعبد الله وهذا أحسن، وذلك أن مريم كانت وقفا على سدانة المتعبد وخدمته والعبادة فيه فتنحت من الناس لذلك. وقوله شَرْقِيًّا
يريد في جهة الشرق من مساكن أهلها، وسبب كونه في الشرق أنهم كانوا يعظمون جهة المشرق ومن حيث تطلق الأنوار، وكانت الجهات الشرقية من كل شيء أفضل من سواها، حكاه الطبري. وحكي عن ابن عباس أنه قال إني لأعلم الناس لم اتخذ النصارى المشرق قبلة؟ لقول الله عز وجل إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِها مَكاناً شَرْقِيًّا
فاتخذوا ميلاد عيسى قبلة، وقال بعض الناس «الحجاب» هي اتخذته لتستتر به عن الناس لعبادتها. فقال السدي كان من جدرات، وقيل من ثياب، وقال بعض المفسرين اتخذت المكان بشرقي المحراب، و «الروح» جبريل، وقيل عيسى، حكى الزجاج القولين. فمن قال إنه جبريل قدر الكلام فتمثل هو لها، ومن قال إنه عيسى قدر الكلام فتمثل الملك لها، قال النقاش ومن قرأ «روحنّا» مشددة النون جعله اسم ملك من الملائكة ولم أر هذه القراءة لغيره. واختلف الناس في نبوة مريم فقيل كانت نبية بهذا الإرسال والمحاورة للملك، وقيل لم تكن نبية وإنما كلمها مثال بشر ورؤيتها لملك، كما رئي جبريل في صفة دحية وفي سؤاله عن الإسلام والأول أظهر. وقوله تعالى أَعُوذُ بِالرَّحْمنِ
الآية، المعنى قالت مريم للملك الذي تمثل لها بشرا لما رأته قد خرق الحجاب الذي اتخذته، فأساءت به الظن أَعُوذُ بِالرَّحْمنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ
ذا تقى، قال أبو وائل علمت أن «التقي» ذو نهية، وقال وهب بن منبه «تقي» رجل فاجر كان في ذلك الزمن في قومها فلما رأته متسورا عليها ظنته إياه فاستعاذت بالرحمن منه، حكى هذا مكي وغيره، وهو ضعيف ذاهب مع التخرص، فقال لها جبريل عليه السلام إِنَّما أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ
، جعل الهبة من قبله لما كان الإعلام بها من قبله. وقرأ الجمهور «لأهب» كما تقدم، وقرأ عمرو ونافع «ليهب» بالياء أي ليهب الله لك، واختلف عن نافع. وفي مصحف ابن مسعود «ليهب الله لك»، فلما سمعت مريم ذلك واستشعرت ما طرأ عليها استفهمت عن طريقه وهي لم يمسها بشر بنكاح ولم تكن زانية. و «البغي»، المجاهرة المنبهرة في الزنا فهي طالبة له بغوى على وزن فعول كبتول وقتول ولو كانت فعيلا لقوي أن يلحقها هاء التأنيث فيقال بغية.
قوله عز وجل:
[سورة مريم (١٩) : الآيات ٢١ الى ٢٣]
قالَ كَذلِكِ قالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكانَ أَمْراً مَقْضِيًّا (٢١) فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكاناً قَصِيًّا (٢٢) فَأَجاءَهَا الْمَخاضُ إِلى جِذْعِ النَّخْلَةِ قالَتْ يا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هذا وَكُنْتُ نَسْياً مَنْسِيًّا (٢٣)
المعنى قال لها الملك كَذلِكِ هو كما وصفت ولكن قالَ رَبُّكِ ويحتمل أن يريد على هذه الحال قالَ رَبُّكِ والمعنى متقارب والآية العبرة المعرضة للنظر، والضمير في قوله لِنَجْعَلَهُ للغلام، وَرَحْمَةً مِنَّا معناه طريق هدى لعالم كثير، فينالون الرحمة بذلك، ثم أعلمها بأن الأمر قد قضي وانتجز،
9
و «الأمر» هنا واحد الأمور وليس بمصدر أمر يأمر وروي أن جبريل عليه السلام حين قاولها هذه المقاولة «نفخ في جيب درعها» فسرت النفخة بإذن الله حتى حملت منها قاله وهب بن منبه وغيره، وقال ابن جريج: نفخ في جيب درعها وكمها وقال أبي بن كعب «دخل الروح المنفوخ من فمها» فذلك قوله تعالى: فَحَمَلَتْهُ أي حملت الغلام، ويذكر أنها كانت بنت ثلاث عشرة سنة، فلما أحست بذلك وخافت تعنيف الناس وأن يظن بها الشر «انتبذت به» أي تنحت مَكاناً بعيدا حياء وفرارا على وجهها، وروي في هذا أنها فرت إلى بلاد مصر أو نحوها قاله وهب بن منبه، وروي أيضا أنها خرجت إلى موضع يعرف (ببيت لحم) بينه وبين إيلياء أربعة أميال و «أجاءها» معناه، فاضطرها وهو تعدية جاء بالهمزة وقرأ شبل بن عزرة ورويت عن عاصم «فاجأها» من المفاجأة وفي مصحف أبي بن كعب «فلما أجاءها المخاض».
وقال زهير: [الوافر]
وجار سار معتمدا إليكم أجاءته المخافة والرجاء
وقرأ الجمهور «المخاض» بفتح الميم، وقرأ ابن كثير فيما روي عنه بكسرها وهو «الطلق وشدة الولادة وأوجاعها»، روي أنها بلغت إلى موضع كان فيه «جذع نخلة» بال يابس في أصله مذود بقرة على جرية ماء فاشتد بها الأمر هنالك واحتضنت الجذع لشدة الوجع وولدت عيسى عليه السلام فقالت عند ولادتها لما رأته من الآلام والتغرب وإنكار قومها وصعوبة الحال من غير ما وجه، يا لَيْتَنِي مِتُّ ولم يجر علي هذا القدر، وقرأ الحسن وأبو جعفر وشيبة وعاصم وأبو عمرو وجماعة «مت» بضم الميم، وقرأ الأعرج وطلحة ويحيى والأعمش «مت» بكسرها واختلف عن نافع، وتمنت مريم الموت من جهة الدين إذ خافت أن يظن بها الشر في دينها وتعير فيفتنها ذلك وهذا مباح، وعلى هذا الحد تمناه عمر بن الخطاب رضي الله عنه وجماعة من الصالحين ونهي النبي عليه السلام عن تمني الموت إنما هو لضر نزل بالبدن وقد أباحه عليه السلام في قوله: «يأتي على الناس زمان يمر الرجل بقبر الرجل فيقول يا ليتني مكانه».
قال القاضي أبو محمد: لأنه زمن فتن يذهب بالدين، وَكُنْتُ نَسْياً أي شيئا متروكا محتقرا، و «النسي» في كلام العرب الشيء الحقير الذي شأنه أن ينسى فلا يتألم لفقده، كالوتد والحبل للمسافر ونحوه، ويقال «نسي» بكسر النون و «نسي» بفتحها، وقرأ الجمهور بالكسر، وقرأ حمزة وحده بالفتح، واختلف عن عاصم، وكقراءة حمزة، قرأ طلحة ويحيى والأعمش، وقرأ محمد بن كعب القرظي بالهمز «نسئا» بكسر النون، وقرأ نوف البكالي «نسأ» بفتح النون، وحكاها أبو الفتح والداني عن محمد بن كعب، وقرأ بكر بن حبيب «نسّا» بشد السين وفتح النون دون همز، وقال الشنفري: [الطويل]
كأنّ لها في الأرض نسّا تقصه إذا ما غذت وإن تحدثك تبلت
وحكى الطبري في قصصها أنها لما حملت بعيسى حملت أيضا أختها بيحيى، فجاءتها أختها زائرة فقالت «يا مريم أشعرت أني حملت»، قالت لها مريم «أشعرت أنت أني حملت»، قالت لها «وإني أجد ما في بطني يسجد لما في بطنك» وذلك أنه روي أنها أحست جنينها يخر برأسه إلى ناحية بطن مريم، قال السدي فذلك قوله تعالى مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ [آل عمران: ٣٩] وفي هذا كله ضعف فتأمله. وكذلك
10
ذكر الطبري من قصصها أنها خرجت فارّة مع رجل من بني إسرائيل يقال له يوسف النجار كان يخدم معها المسجد وطول في ذلك فاختصرته لضعفه، وهذه القصة تقتضي أنها حملت واستمرت حاملا على عرف البشر واستحيت من ذلك ومرت بسببه وهي حامل وهو قول جمهور المتأولين، وروي عن ابن عباس أنه قال ليس إلا أن حملت فوضعت في ساعة واحدة والله أعلم. وظاهر قوله فَأَجاءَهَا الْمَخاضُ يقتضي أنها كانت على عرف النساء، وتظاهرت الروايات بأنها ولدته لثمانية أشهر ولذلك قيل لا يعيش ابن ثمانية أشهر حفظا لخاصية عيسى عليه السلام وقيل ولدته لسبعة وقيل لستة.
قوله عز وجل:
[سورة مريم (١٩) : الآيات ٢٤ الى ٢٦]
فَناداها مِنْ تَحْتِها أَلاَّ تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا (٢٤) وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُساقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيًّا (٢٥) فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْناً فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا (٢٦)
قرأ ابن كثير وأبو عمرو وعاصم وابن عامر وابن عباس والحسن وزيد بن حبيش ومجاهد والجحدري وجماعة «فناداها من تحتها» على أن «من» فاعل ينادي والمراد ب «من» عيسى، قال أي ناداها المولود قاله مجاهد والحسن وابن جبير وأبي بن كعب، وقال ابن عباس المراد ب «من» جبريل ولم يتكلم حتى أتت به قومها وقاله علقمة والضحاك وقتادة، ففي هذا آية لها وأمارة أن هذا من الأمور الخارقة للعادة التي لله فيها مراد عظيم لا سيما والمنادي عيسى فإنه يبين به عذر مريم ولا تبقى بها استرابة، فلذلك كان النداء أن لا يقع حزن، وقرأ نافع وحمزة والكسائي وحفص عن عاصم والبراء بن عازب والضحاك وعمرو بن ميمون وأهل الكوفة وأهل المدينة وابن عباس أيضا والحسن «من تحتها» بكسر الميم على أنها لابتداء الغاية واختلفوا، فقال بعضهم: المراد عيسى، وقالت فرقة: المراد جبريل المحاور لها قبل، قالوا: وكان في سعة من الأرض أخفض من البقعة التي كانت هي عليها وأبين وأظهر، وعليه كان الحسن بن أبي الحسن يقسم وقرأ علقمة وزر بن حبيش «فخاطبها من تحتها»، وقرأ ابن عباس «فناداها ملك من تحتها». وقوله أَلَّا تَحْزَنِي تفسير النداء ف «أن» مفسرة بمعنى أي، و «السري» من الرجال العظيم الخصال السيد، و «السري» أيضا الجدول من الماء، وبحسب هذا اختلف الناس في هذه الآية فقال قتادة وابن زيد: أراد جعل تحتك عظيما من الرجال له شأن، وقال الجمهور أشار لها إلى الجدول الذي كان قرب جذع النخلة، وروي أن الحسن فسر الآية فقال أجل لقد جعله الله سَرِيًّا كريما، فقال عبيد بن عبد الرحمن الحميري يا أبا سعيد إنما يعني ب «السري» الجدول، وقال الحسن لهذه وأشباهها أحب قربك ولكن غلبنا عليك الأمراء ومن الشاهد في «السري» قول لبيد. [الكامل]
فتوسطا عرض السري فصدعا مسجورة متجاورا قلّامها
ثم أمر بهز الجذع اليابس لترى آية أخرى في إحياء موات الجذع، وقالت فرقة بل كانت النخلة مطعمة رُطَباً، وقال السدي كان الجذع مقطوعا وأجرى النهر تحتها لحينه، والظاهر من الآية أن عيسى
11
هو المكلم لها وأن الجذع كان يابسا وعلى هذا تكون آيات تسليها وتسكن إليها. والباء في قوله بِجِذْعِ زائدة مؤكدة قال أبو علي: كما يقال ألقى بيده أي ألقى يده.
قال القاضي أبو محمد: وفي هذا المثال عندي نظر، وأنشد الطبري: [الطويل]
بواد يمان ينبت السدر صدره وأسفله بالمزج والشبهان
وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر والكسائي وأبو بكر عن عاصم والجمهور من الناس «تسّاقط» بفتح التاء وشد السين يريد النَّخْلَةِ، وقرأ البراء بن عازب والأعمش «يساقط» بالياء يريد «الجذع»، وقرأ حمزة وحده «تساقط» بفتح التاء وتخفيف السين، وهي قراءة مسروق وابن وثاب وطلحة وأبي عمرو بخلاف، وقرأت فرقة «يساقط» بالياء على ما تقدم من إرادة النَّخْلَةِ أو «الجذع». وقرأ عاصم في رواية حفص «تساقط» بضم التاء وتخفيف السين، وقرأت فرقة «يساقط» بالياء، وقرأ أبو حيوة «يسقط» بالياء، وروي عنه «يسقط» بضم الياء وقرأ أيضا «تسقط»، وحكى أبو علي في الحجة أنه قرىء «يتساقط» بياء وتاء، وروي عن مسروق «تسقط» بضم التاء وكسر القاف، وكذلك عن أبي حيوة، وقرأ أبو حيوة أيضا «يسقط» بفتح الياء وضم القاف، «رطب جني» بالرفع، ونصب رُطَباً يختلف بحسب معاني القراءات المذكورة، فمرة يسند الفعل إلى الجذع ومرة إلى الهز، ومرة إلى النَّخْلَةِ وجَنِيًّا معناه قد طابت وصلحت للاجتناء، وهو من جنيت الثمرة. وقرأ طلحة بن سليمان «جنيا» بكسر الجيم، وقد استدل بعض الناس من شيء للنفساء خيراً من التمر والرطب، وقال محمد بن كعب: كان طب عجوة، وقد استدل بعض الناس من هذه الآية على أن الرزق وإن كان محتوما فإن الله تعالى قد وكل ابن آدم إلى سعي ما فيه لأنه أمرت مريم بهز الجذع لترى آية، وكانت الآية تكون بأن لا تهز هي. وحكى الطبري عن ابن زيد أنه قال «قال لها عيسى: لا تحزني، فقالت وكيف لا أحزن وأنت معي لا ذات زوج ولا مملوكة أي شيء عذري عند الناس يا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هذا وَكُنْتُ نَسْياً مَنْسِيًّا [مريم: ٢٣]، فقال لها عيسى: أنا أكفيك الكلام». وقوله فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي الآية، قرأ الجمهور «وقري» بفتح القاف، وحكى الطبري قراءة «وقري» بكسر القاف، وقرة العين مأخوذة من القر وذلك أنه يحكى أن دمع الفرح بارد المس ودمع الحزن سخن المس، وضعفت فرقة هذا وقالت: الدمع كله سخن وإنما معنى قرة العين أن البكاء الذي يسخن العين ارتفع إذ لا حزن بهذا الأمر الذي قرت به العين. وقال الشيباني قَرِّي عَيْناً معناه نامي، حضها على الأكل والشرب والنوم.
وقوله عَيْناً نصب على التمييز، والفعل في الحقيقة إنما هو للعين فينقل ذلك إلى ذي العين وينصب الذي كان فاعلا في الحقيقة على التفسير، ومثله طبت نفسا وتفقأت شحما وتصببت عرقا، وهذا كثير. وقرأ الجمهور «ترين» وأصله ترءيين حذفت النون للجزم، ثم نقلت حركة الهمزة إلى الراء، ثم قلبت الياء الأولى ألفا لتحركها وانفتاح ما قبلها، فاجتمع ساكنان الألف والياء، فحذفت الألف فجاء ترى وعلى هذا! النحو هو قول الأفوه: [السريع] أما ترى رأسي أزرى به ثم دخلت النون الثقيلة، فكسرت الياء لاجتماع ساكنين منها ومن النون، وإنما دخلت النون هنا
12
بتوطئة «ما» كما توطئ لدخولها أيضا لام القسم. وقرأ أبو عمرو فيما روي عنه «ترءين» بالهمزة، وقرأ طلحة وأبو جعفر وشبية «ترين» بسكون الياء وفتح النون خفيفة، قال أبو الفتح: وهي شاذة، ومعنى هذه الآية أن الله تعالى أمرها على لسان جبريل أو ابنها على الخلاف المتقدم بأن تمسك عن مخاطبة البشر وتحيل على ابنها في ذلك ليرتفع عنها خجلها، وتبين الآية فيقوم عذرها، وظاهر الآية أنها أبيح لها أن تقول هذه الألفاظ التي في الآية وهو قول الجمهور. وقالت فرقة معنى فَقُولِي بالإشارة لا بالكلام وإلا فكأن التناقض بين في أمرها. وقرأ ابن عباس وأنس بن مالك «إني نذرت للرحمن وصمت». وقال قوم معناه صَوْماً عن الكلام إذ أصل الصوم الإمساك ومنه قول الشاعر: [البسيط] «خيل صيام» وأخرى غير صائمة وقال ابن زيد والسدي: كانت سنة الصيام عندهم الإمساك عن الأكل والكلام، وقرأت فرقة «إني نذرت للرحمن صمتا» ولا يجوز في شرعنا أن ينذر أحد صمتا، وقد أمر ابن مسعود من فعل ذلك بالنطق والكلام. قال المفسرون: أمرت مريم بهذا ليكفيها عيسى الاحتجاج.
قوله عز وجل:
[سورة مريم (١٩) : الآيات ٢٧ الى ٢٨]
فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَها تَحْمِلُهُ قالُوا يا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيًّا (٢٧) يا أُخْتَ هارُونَ ما كانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَما كانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا (٢٨)
روي أن مريم عليها السلام لما اطمأنت بما رأت من الآيات وعلمت أن الله سيبين عذرها أتت به تحمله مدلة من المكان القصي الذي كانت انتبذت فيه، روي أن قومها خرجوا في طلبها فلقوها وهي مقبلة به. و «الفري» العظيم الشنيع، قاله مجاهد والسدي، وأكثر استعماله في السوء وهو من الفرية، فإن جاء الفري بمعنى المتقن فمأخوذ من فريت الأديم للإصلاح وليس بالبين، وأما قولهم في المثل جاء يفري الفري فمعناه بعمل عظيم من العمل في قول أو فعل مما قصد ضرب المثل له وهو مستعمل فيما يختلف ويفعل، و «الفري» من الأسقية الجديد، وقرأ أبو حيوة «شيئا فريا» بسكون الراء، واختلف المفسرون في معنى قوله عز وجل، يا أُخْتَ هارُونَ، فقالت فرقة كان لها أخ اسمه هارُونَ لأن هذا الاسم كان كثيرا في بني إسرائيل، تبركا باسم هارون أخي موسى، وروى المغيرة بن شعبة أن رسول الله ﷺ أرسله إلى أهل نجران في أمر من الأمور فقال له النصارى إن صاحبك يزعم أن مريم «أخت هارون» وبينهما في المدة ستمائة سنة، قال المغيرة فلم أدر ما أقول فلما قدمت على رسول الله ﷺ ذكرت ذلك له. فقال ألم يعلموا أنهم كانوا يسمون بأسماء الأنبياء والصالحين، فالمعنى أنه اسم وأفق اسما، وقال السدي وغيره: بل نسبوها إلى «هارون» أخي موسى لأنها كانت من نسله وهذا كما تقول من قبيلة يا أخا فلانة ومنه قول النبي ﷺ «إن أخا صداء أذن ومن أذن فهو يقيم»، وقال كعب الأحبار بحضرة عائشة أم المؤمنين إن مريم ليست ب «أخت لهارون» أخي موسى، فقالت عائشة كذبت فقال لها يا أم المؤمنين إن كان رسول الله ﷺ قاله فهو أصدق وخير، وإلّا فإني أجد
بينهما من المدة ستمائة سنة، قال فسكتت. وقال قتادة: كان في ذلك الزمن في بني إسرائيل رجل عابد منقطع إلى الله يسمى «هارون» فنسبوها إلى أخوته من حيث كانت على طريقته قبل إذ كانت موقوفة على خدمة البيع، أي يا هذه المرأة الصالحة ما كنت أهلا لما أتيت به. وقالت فرقة: بل كان في ذلك الزمن رجل فاجر اسمه «هارون» فنسبوها إليه على جهة التعيير والتوبيخ ذكره الطبري ولم يسم قائله، والمعنى ما كانَ أَبُوكِ ولا أمك أهلا لهذه الفعلة فكيف جئت أنت بها؟ و «البغي» التي تبغي الزنا أي تطلبه، أصلها بغوي فعول وقد تقدم ذكر ذلك.
قوله عز وجل:
[سورة مريم (١٩) : الآيات ٢٩ الى ٣٣]
فَأَشارَتْ إِلَيْهِ قالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا (٢٩) قالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتانِيَ الْكِتابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا (٣٠) وَجَعَلَنِي مُبارَكاً أَيْنَ ما كُنْتُ وَأَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ ما دُمْتُ حَيًّا (٣١) وَبَرًّا بِوالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيًّا (٣٢) وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا (٣٣)
التزمت مريم عليها السلام ما أمرت به من ترك الكلام ولم يرد في هذه الآية أنها نطقت ب إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْماً [مريم: ٢٦] وإنما ورد أنها «أشارت إليه» فيقوى بهذا قول من قال إن أمرها ب «قولي» إنما أريد به الإشارة، ويروى أنهم لما أشارت إلى الطفل قالوا استخفافها بنا أشد علينا من زناها، ثم قالوا لها على جهة التقرير كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا وإنما هي في معنى هو ويحتمل أن تكون الناقصة والأظهر أنها التامة وقد قال أبو عبيدة كانَ هنا لغو، وقال الزجاج والفراء مَنْ شرطية في قوله مَنْ كانَ (ع) ونظير كان هذه قول رؤبة: [الرجز]
أبعد ان لاح بك القتير والرأس قد كان له شكير
وصَبِيًّا إما خبر كانَ على تجوز وتخيل في كونها ناقصة، وإما حال يعمل فيه الاستقرار المقدر في الكلام. وروي أن الْمَهْدِ يراد به حجر أمه قال لهم عيسى من مرقده إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ الآية وروي أنه قام متكئا على يساره وأشار إليهم بسبابته اليمنى، والْكِتابَ هو الإنجيل ويحتمل أن يريد التوراة والإنجيل، ويكون الإيتاء فيهما مختلفا، وآتانِيَ معناه قضى بذلك وأنفذه في سابق حكمه وهذا نحو قوله تعالى أَتى أَمْرُ اللَّهِ [النحل: ١]، وغير هذا. وأمال الكسائي «آتاني وأوصاني»، والباقون لا يميلون، قال أبو علي الإمالة في آتانِيَ أحسن لأن في أَوْصانِي مستعليا. ومُبارَكاً قال مجاهد معناه نفاعا، وقال سفيان معلم خير وقيل آمرا بمعروف ناهيا عن منكر، وقال رجل لبعض العلماء ما الذي أعلن من علمي قال الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فإنه دين الله الذي بعث به أنبياءه. وأسند النقاش عن الضحاك أنه قال مُبارَكاً معناه قضاء للحوائج (ع) وقوله مُبارَكاً يعم هذه الوجوه وغيرها. وبِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ قيل هما المشروعتان في البدن والمال، وقيل زكاة الرؤوس في الفطر، وقيل «الصلاة» الدعاء وَالزَّكاةِ التطهير
من كل عيب ونقص ومعصية. وقرأ «دمت» بضم الدال عاصم وجماعة، وقرأ «دمت» بكسرها أهل المدينة وابن كثير وأبو عمرو وجماعة، وقرأ الجمهور «وبرا» بفتح الباء وهو الكثير البر ونصبه على قوله مُبارَكاً، وقرأ أبو نهيك وأبو مجلز وجماعة «برا» بكسر الباء فقال بعضها نصبه على العطف على قوله مُبارَكاً فكأنه قال وذا بر فاتصف بالمصدر كعدل ونحوه، وقال بعضها نصبه بقوله وَأَوْصانِي أي «وأوصاني برا بوالدتي» حذف الجار كأنه يريد «وأوصاني ببر والدتي». وحكى الزهراوي هذه القراءة «وبرّ» بالخفض عطفا على الزَّكاةِ، وقوله بِوالِدَتِي بيان لأنه لا والد له، وبهذا القول برأها قومها. و «الجبار» المتعظم وهي خلق مقرونة بالشقاء لأنها مناقضة لجميع الناس فلا يلقى صاحبها من أحد إلا مكروها، وكان عيسى عليه السلام في غاية التواضع، يأكل الشجر ويلبس الشعر ويجلس على التراب ويأوي حيث جنه الليل لا مسكن له. قال قتادة وكان يقول: سلوني فإن لين القلب صغير في نفسي. وقد تقدم ذكر تسليمه على نفسه وإذلاله في ذلك، وذكر المواطن التي خصها لأنها أوقات حاجة الإنسان إلى رحمة الله. وقال مالك بن أنس رضي الله عنه في هذه الآية: ما أشدها على أهل القدر أخبر عيسى بما قضي من أمره وبما هو كائن إلى أن يموت.
وفي قصص هذه الآية عن ابن زيد وغيره أنهم لما سمعوا كلام عيسى أذعنوا وقالوا إن هذا الأمر عظيم.
وروي أن عيسى عليه السلام إنما تكلم في طفولته بهذه الآية ثم عاد إلى حالة الأطفال حتى مشى على عادة البشر. وقالت فرقة: إن عيسى كان أوتي الكتاب وهو في ذلك السن وكان يصوم ويصلي وهذا في غاية الضعف مصرح بجهالة قائله.
قوله عز وجل:
[سورة مريم (١٩) : الآيات ٣٤ الى ٣٦]
ذلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ (٣٤) ما كانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحانَهُ إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (٣٥) وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (٣٦)
المعنى قل يا محمد لمعاصريك من اليهود والنصارى ذلِكَ الذي منه قصة عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وإنما قدرنا في الكلام قل يا محمد لأنه يجيء في الآية بعد، «وأن الله ربي وربكم» هذه مقالة بشر وليس يقتضي ظاهر الآية قائلا من البشر سوى محمد صلى الله عليه وسلم، وقد يحتمل أن يكون قوله ذلِكَ عِيسَى إلى قوله فَيَكُونُ إخبارا لمحمد اعتراضا أثناء كلام عيسى، ويكون قوله «وأن» بفتح الألف عطفا على قوله الْكِتابَ [مريم: ٣٠]. وقد قال وهب بن منبه: عهد عيسى إليهم «أن الله ربي وربكم»، ومن كسر الألف عطف على قوله إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ [مريم: ٣٠] وقرأ ابن كثير وأبو عمرو ونافع وحمزة والكسائي وعامة الناس «قول الحق» برفع القول على معنى هذا قول الحق. وقرأ عاصم وابن عامر وابن أبي إسحاق «قول الحق» بنصب القول على المصدر. قال أبو عبد الرحمن المقري: كان يجالسني ضرير ثقة فقال: رأيت النبي ﷺ في النوم يقرأ «قول الحق» نصبا، قال أبو عبد الرحمن: وكنت أقرأ بالرفع فجنبت فصرت أقرأ بهما جميعا. وقرأ عبد الله بن مسعود «قال الله» بمعنى كلمة الله، وقرأ عيسى «قال الحق»، وقرأ نافع والجمهور «يمترون» بالياء على الكناية عنهم، وقرأ نافع أيضا وأبو عبد الرحمن وداود بن أبي هند «تمترون» بالتاء على الخطاب لهم، والمعنى تختلفون أيها اليهود والنصارى فيقول
بعضهم هو لزنية ونحو هذا وهم اليهود، ويقول بعضهم هو الله تعالى فهذا هو امتراؤهم، وسيأتي شرح ذلك من بعد هذا. وقوله ما كانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ معناه النفي وهذا هو معنى هذه الألفاظ حيث وقعت ثم يضاف إلى ذلك بحسب حال المذكور فيها إما نهي وزجر كقوله تعالى: ما كانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا [التوبة: ١٢٠]، وإما تعجيز كقوله تعالى ما كانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَها [النمل: ٦٠]، وإما تنزيه كهذه الآية. ومِنْ وَلَدٍ، دخلت مِنْ مؤكدة للجحد لنفي الواحد فما فوقه مما يحتله نظير هذه العبارة إذا لم تدخل «من»، وقوله، قَضى أَمْراً، أي واحدا من الأمور وليس بمصدر أمر يأمر، فمعنى قَضى أوجد أو أخرج من العدم، وهذه التصاريف في هذه الأفعال من مضي واستقبال هي بحسب تجوز العرب واتساعها، وقد تقدم القول في كُنْ فَيَكُونُ. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو ونافع «وأن الله» بفتح الألف وذلك عطف على قوله هذا قَوْلَ الْحَقِّ، «وأن الله ربي»، كذلك وقرأ ابن عامر وعاصم وحمزة والكسائي «وإن» بكسر الألف وذلك بين على الاستئناف وقرأ أبي بن كعب «إن الله» بكسر الألف دون واو. وقوله فَاعْبُدُوهُ وقف ثم ابتدأ هذا صِراطٌ أي ما أعلمتكم به عن الله تعالى من وحدانيته ونفي الولد عنه وغير ذلك مما يتنزه عنه طريق واضح مفض إلى النجاة ورحمته.
قوله عز وجل:
[سورة مريم (١٩) : الآيات ٣٧ الى ٤٠]
فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ (٣٧) أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنا لكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٣٨) وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (٣٩) إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْها وَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ (٤٠)
هذا ابتداء خبر من الله تعالى لمحمد عليه السلام بأن بني إسرائيل اختلفوا أحزابا أي فرقا، وقوله مِنْ بَيْنِهِمْ معناه أن الاختلاف لم يخرج عنهم بل كانوا المختلفين. وروي في هذا عن قتادة أن بني إسرائيل جمعوا من أنفسهم أربعة أحبار غاية في المكانة والجلالة عندهم وطلبوهم بأن يبينوا أمر عيسى فقال أحدهم: عيسى هو الله نزل إلى الأرض فأحيا من أحيا وأمات ثم صعد، فقال له الثلاثة كذبت واتبعه اليعقوبية، ثم قيل للثلاثة فقال أحدهم: عيسى ابن الله فقال له الاثنان كذبت واتبعه النسطورية، ثم قيل للاثنين فقال أحدهم عيسى أحد ثلاثة الله إله، ومريم إله، وعيسى إله، فقال له الرابع كذبت واتبعه الإسرائيلية، فقيل للرابع فقال عيسى عبد الله وكلمته ألقاها إلى مريم فاتبع كل واحد من الأربعة فريق من بني إسرائيل ثم اقتتلوا فغلب المؤمنون وقتلوا وظهرت اليعقوبية على الجميع. وروي أن في ذلك نزلت إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ [آل عمران: ٢١]. و «الويل» الحزن والثبور، وقيل ويل واد في جهنم، ومَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ هو مشهد يوم القيامة ويحتمل أن يراد ب مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ يوم قتل المؤمنون حين اختلف الأحزاب، وقد أشار إلى هذا المعنى قتادة، وقوله أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ، أي ما أسمعهم وأبصرهم يوم يرجعون إلينا ويرون ما نصنع بهم من العذاب، فإن إعراضهم حينئذ يزول ويقبلون على الحقيقة حين لا
ينفعهم الإقبال عليها وهم في الدنيا صم عمي إذ لا ينفعهم النظر مع إعراضهم، ثم قال: لكنهم اليوم في الدنيا فِي ضَلالٍ وهو جهل المسلك، و «المبين» في نفسه وإن لم يبين لهم، وحكى الطبري عن أبي العالية أنه قال أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ، وهي بمعنى الأمر لمحمد عليه السلام أي أسمع الناس اليوم وأبصرهم بهم وبحديثهم ماذا يصنع بهم من العذاب إذا أتوا محشورين مغلوبين، وقوله وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ، الآية، الخطاب أيضا في هذه الآية لمحمد عليه السلام والضمير في أَنْذِرْهُمْ لجميع الناس، واختلف في يَوْمَ الْحَسْرَةِ فقال الجمهور هو يوم ذبح الموت، وفي هذا حديث صحيح، وقع في البخاري وغيره، أن الموت يجاء به في صورة كبش أملح، وفي بعض الطرق كأنه كبش أملح، وقال عبيد بن عمير كأنه دابة فيذبح على الصراط بين الجنة والنار وينادى: يا أهل الجنة خلود لا موت ويا أهل النار خلود لا موت، ويروى أن أهل النار يشرئبون خوفا على ما هم فيه. و «الأمر المقضي»، هو ذبح الكبش الذي هو مثال الموت وهذا عند حذاق العلماء، كما يقال: تدفن الغوائل وتجعل الترات تحت القدم، ونحو ذلك، وعند ذلك تصيب أهل النار حسرة لا حسرة مثلها، وقال ابن زيد وغيره يَوْمَ الْحَسْرَةِ هو يوم القيامة، وذلك أن أهل النار قد حصلوا من أول أمرهم في سخط الله وأمارته فهم في حال حسرة، و «الأمر المقضي» على هذا هو الحتم عليهم بالعذاب وظهور إنفاذ ذلك عليهم، وقال ابن مسعود يَوْمَ الْحَسْرَةِ حين يرى الكفار مقاعدهم التي فاتتهم في الجنة لو كانوا مؤمنين، ويحتمل أن يكون يَوْمَ الْحَسْرَةِ اسم جنس لأن هذه حسرات كثيرة في مواطن عدة، ومنها يوم الموت ومنها وقت أخذ الكتاب بالشمال وغير ذلك. وقوله وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ، يريد في الدنيا الآن وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ كذلك. وقوله نَرِثُ، تجوز وعبارة عن فناء المخلوقات وبقاء الخالق فكأنها وراثة، وقرأ عاصم ونافع وأبو عمرو والحسن والأعمش «يرجعون» بالياء، وقرأ الأعرج «ترجعون» بالتاء من فوق، وقرأ أبو عبد الرحمن وابن أبي إسحاق وعيسى «يرجعون» بالياء من تحت مفتوحة وكسر الجيم، وحكى عنهم أبو عمرو الداني «ترجعون» بالتاء.
قوله عز وجل:
[سورة مريم (١٩) : الآيات ٤١ الى ٤٦]
وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِبْراهِيمَ إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا (٤١) إِذْ قالَ لِأَبِيهِ يا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ ما لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً (٤٢) يا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ ما لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِراطاً سَوِيًّا (٤٣) يا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطانَ إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلرَّحْمنِ عَصِيًّا (٤٤) يا أَبَتِ إِنِّي أَخافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذابٌ مِنَ الرَّحْمنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطانِ وَلِيًّا (٤٥)
قالَ أَراغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يا إِبْراهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا (٤٦)
قوله: وَاذْكُرْ بمعنى واتل وشهر، لأن الله تعالى هو الذاكر، والْكِتابِ هو القرآن وهذا وشبهه من لسان الصدق الذي أبقاه الله عليهم، و «الصديق»، فعيل بناء مبالغة من الصدق، وقرأ أبو البرهسم «إنه كان صادقا»، والصدق عرفه في اللسان وهو مطرد في الأفعال والخلق، ألا ترى أنه يستعار لما لا يعقل فيقال صدقني الطعام كذا وكذا قفيزا، ويقال عود صدق للصلب الجيد، فكان إبراهيم عليه السلام يوصف
17
بالصدق على العموم في أفعاله وأقواله وذلك يغترق صدق اللسان الذي يضاد الكذب، وأبو بكر رضي الله عنه وصف ب «صدّيق» لكثرة ما صدق في تصديقه بالحقائق وصدق في مبادرته إلى الإيمان وما يقرب من الله تعالى، و «الصديق» مراتب ألا ترى أن المؤمنين صديقون لقوله تعالى: الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ [الحديد: ١٩]. وقوله يا أَبَتِ
، اختلف النحاة في التاء من أَبَتِ
، فمذهب سيبويه أنها عوض من ياء الإضافة والوقوف عنده عليها بالهاء، ومذهب الفراء أن يوقف عليها بالتاء، لأن الياء التي للإضافة عنده منوية وجمهور القراء على كسر التاء، وفي مصحف ابن مسعود «وا أبت» بواو للنداء، وقرأ ابن عامر والأعرج وأبو جعفر. «يا أبت» بفتح التاء، ووجهها أنه أراد «يا أبتا» فحذف الألف وترك الفتحة دالة عليها، ووجه آخر أن تكون التاء المقحمة كالتي في قوله يا طلحة وفي هذا نظر وقد لحن هارون هذه القراءة، والذي لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ
، هو الصنم ولو سمع وأبصر كما هي حالة الملائكة وغيرهم ممن عبد لم يحسن عبادتها، لكن بين إبراهيم عليه السلام بنفي السمع والبصر شنعة الرأي في عبادتها وفساده.
وقوله قَدْ جاءَنِي يدل على أن هذه المقاولة هي بعد أن نبىء، و «الصراط السوي»، معناه الطريق المستقيم، وهو طريق الإيمان. وقوله يا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطانَ، مخاطبة بر واستعطاف على حالة كفره.
وقوله لا تَعْبُدِ الشَّيْطانَ يحتمل أن يكون أبوه ممن عبد الجن ويحتمل أن يجعل طاعة الشيطان المعنوي في عبادة الأوثان والكفر بالله عبادة له. و «العصي»، فعيل من عصى يعصي إذا خالف الأمر، وقوله أَخافُ أَنْ يَمَسَّكَ قال الطبري وغيره أَخافُ بمعنى أعلم.
قال القاضي أبو محمد: والظاهر عندي أنه خوف على بابه، وذلك أن إبراهيم عليه السلام لم يكن في وقت هذه المقاولة يائسا من إيمان أبيه، فكان يرجو ذلك وكان يخاف أن لا يؤمن ويتمادى على كفره إلى الموت فيمسه العذاب. و «الولي» الخالص المصاحب القريب بنسب أو مودة، قال آزر وهو تارخ أَراغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي، والرغبة ميل النفس، فقد تكون الرغبة في الشيء وقد تكون عنه، وقوله أَراغِبٌ رفع بالابتداء وأَنْتَ فاعل به يسد مسد الخبر وحسن ذلك وقربه اعتماد «راغب» على ألف الاستفهام، ويجوز أن يكون «راغب» خبرا مقدما وأَنْتَ ابتداء والأول أصوب وهو مذهب سيبويه. وقوله عَنْ آلِهَتِي، يريد الأصنام وكان فيما روي ينحتها وينجرها بيده ويبيعها ويحض عليها فقرر ابنه إبراهيم على رغبته عنها على جهة الإنكار عليه ثم أخذ يتوعده، وقوله لَأَرْجُمَنَّكَ اختلف فيه المتأولون، فقال السدي وابن جريج والضحاك: معناه بالقول، أي لأشتمنك وَاهْجُرْنِي أنت إذا شئت مدة من الدهر، أو سالما حسب الخلاف الذي سنذكره. وقال الحسن بن أبي الحسن: معناه لَأَرْجُمَنَّكَ بالحجارة، وقالت فرقة:
معناه لأقتلنك، وهذان القولان بمعنى واحد، وقوله وَاهْجُرْنِي على هذا التأويل إنما يترتب بأنه أمر على حياله كأنه قال: إن لم تنته لأقتلنك بالرجم، ثم قال له وَاهْجُرْنِي أي مع انتهائك كأنه جزم له الأمر بالهجرة وإلا فمع الرجم لا تترتب الهجرة ومَلِيًّا معناه دهرا طويلا مأخوذ من الملوين وهما الليل والنهار وهذا قول الجمهور والحسن ومجاهد وغيرهما فهو ظرف، وقال ابن عباس وغيره مَلِيًّا معناه سليما منا سويا فهو حال من إِبْراهِيمُ عليه السلام، وتلخيص هذا أن يكون بمعنى قوله مستبدا بحالك غنيا عني مليا بالاكتفاء.
18
قوله عز وجل:
[سورة مريم (١٩) : الآيات ٤٧ الى ٥٠]
قالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كانَ بِي حَفِيًّا (٤٧) وَأَعْتَزِلُكُمْ وَما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُوا رَبِّي عَسى أَلاَّ أَكُونَ بِدُعاءِ رَبِّي شَقِيًّا (٤٨) فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلاًّ جَعَلْنا نَبِيًّا (٤٩) وَوَهَبْنا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنا وَجَعَلْنا لَهُمْ لِسانَ صِدْقٍ عَلِيًّا (٥٠)
قرأ أبو البرهسم «سلاما عليك» بالنصب، واختلف أهل العلم في معنى تسليمه عليه، فقال بعضهم هي تحية مفارق وجوزوا تحية الكافر وأن يبدأ بها. وقال الجمهور: ذلك التسليم بمعنى المسالمة لا بمعنى التحية، قال الطبري معناه أمنة مني لك، وهذا قول الجمهور وهم لا يرون ابتداء الكافر بالسلام، وقال النقاش: حليم خاطب سفيها كما قال، وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما، ورفع السلام بالابتداء وجاز ذلك مع نكرته لأنها نكرة مخصصة فقربت من المعرفة ولأنه في موضع المنصوب الذي هو سلمت سلاما وهذا كما يجوز ذلك في ما هو في معنى الفاعل كقولهم شرّ أهرّ ذا ناب، هذا مقال سيبويه. وقوله تعالى سَأَسْتَغْفِرُ معناه سأدعو الله تعالى في أن يهديك فيغفر لك بإيمانك وهذا أظهر من أن يتأول على إبراهيم الخليل ﷺ أنه لم يعلم أن الله لا يغفر لكافر، وقد يجوز أن يكون إبراهيم عليه السلام أول نبي أوحي إليه أن لا يغفر لكافر، لأن هذه العقيدة إنما طريقها السمع، فكانت هذه المقالة منه لأبيه قبل أن يوحى إليه ذلك، وإبراهيم عليه السلام إنما تبين له في أبيه أنه عدو الله بأحد وجهين إما بموته على الكفر كما روي وإما بأن أوحي إليه تعسف الحتم عليه، وقال مكي عن السدي: أخره بالاستغفار إلى السحر، وهذا تعسف، وإنما ذكر ذلك في أمر يعقوب وبنيه وأما هذا فوعد باستغفار كثير مؤتنف فالسين متمكنة.
و «الحفي»، المبتهل المتلطف وهذا شكر من إبراهيم لنعم الله تعالى عليه، ثم أخبره أنه يعتزلهم أي يصير عنهم بمعزل، ويروى أنهم كانوا بأرض كوثا فرحل إبراهيم عليه السلام حتى نزل الشام وفي سفرته تلك لقي الجبار الذي أخدم هاجر بسارة الحديث بطوله، وتَدْعُونَ بمعنى تعبدون، وقوله عَسى، ترج، في ضمنه خوف شديد، وقوله فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ إلى آخر الآية، إخبار من الله تعالى لمحمد عليه السلام أنه لما رحل عن بلد أبيه وقومه عوضه الله من ذلك ابنه إِسْحاقَ وابنه يَعْقُوبَ وجعل له الولد تسلية وشدا لعضده، وإِسْحاقَ أصغر من إسماعيل، ولما حملت هاجر بإسماعيل غارت سارة فحملت ب إِسْحاقَ هذا فيما روي، وقوله وَوَهَبْنا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنا يريد العلم والمنزلة والشرف في الدنيا والنعيم في الآخرة، كل ذلك من رحمة الله، و «لسان الصدق» هو الثناء الباقي عليهم آخر الأبد، قاله ابن عباس. واللسان في كلام العرب المقالة الذائعة كانت في خير أو شر ومنه قول الشاعر: [البسيط]
إني أتتني لسان لا أسر بها من علو لا كذب فيها ولا سخر
وقال آخر: [الوافر] «ندمت على لسان فات مني»
وإبراهيم الخليل وبنوه معظمون في جميع الأمم والملل صلى الله عليهم أجمعين.
قوله عز وجل:
[سورة مريم (١٩) : الآيات ٥١ الى ٥٥]
وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مُوسى إِنَّهُ كانَ مُخْلَصاً وَكانَ رَسُولاً نَبِيًّا (٥١) وَنادَيْناهُ مِنْ جانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْناهُ نَجِيًّا (٥٢) وَوَهَبْنا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنا أَخاهُ هارُونَ نَبِيًّا (٥٣) وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِسْماعِيلَ إِنَّهُ كانَ صادِقَ الْوَعْدِ وَكانَ رَسُولاً نَبِيًّا (٥٤) وَكانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ وَكانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا (٥٥)
هذا أمر من الله عز وجل بذكر مُوسى بن عمران عليه السلام على جهة التشريف، له وأعلمه ب إِنَّهُ كانَ مُخْلَصاً، وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر «مخلصا» بكسر اللام وهي قراءة الجمهور أي أخلص نفسه لله، وقرأ حمزة والكسائي وعاصم «مخلصا» بفتح اللام وهي قراءة أبي رزين ويحيى وقتادة أي أخلصه الله للنبوءة والعبادة كما قال تعالى إِنَّا أَخْلَصْناهُمْ بِخالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ [ص: ٤٦].
و «الرسول» من الأنبياء الذي يكلف تبليغ أمة، وقد يكون نبيا غير رسول، وقوله وَنادَيْناهُ هو تكليم الله تعالى، والطُّورِ الجبل المشهور بالشام، وقوله الْأَيْمَنِ صفة للجانب، وكانت على يمين موسى بحسب وقوفه فيه، وإلا فالجبل نفسه لا يمنة له ولا يسرة ولا يوصف بشيء من ذلك إلا بالإضافة إلى ذي يمين ويسار، ويحتمل أن يكون قوله الْأَيْمَنِ مأخوذا من اليمن كأنه قال الأبرك والأسعد، فيصح على هذا أن يكون صفة للجانب وللجبل بجملته. وقوله، وَقَرَّبْناهُ نَجِيًّا، قال الجمهور هو تقريب التشريف بالكلام والنبوءة، وقال ابن عباس: بل أدني موسى من الملكوت ورفعت له الحجب حتى سمع صريف الأقلام وقاله ميسرة، وقال سعيد: أردفه جبريل، و «النجي»، فعيل من المناجاة وهي المسارّة بالقول، وقال قتادة نَجِيًّا معناه نجا بصدقة وهذا مختل، وإنما «النجي» المنفرد بالمناجاة، وكان هارُونَ عليه السلام أسن من موسى وطلب من الله أن يشد أزره بنبوته ومعونته فأجابه الله تعالى إلى ذلك وعدها في نعمه عليه، وقوله تعالى: وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِسْماعِيلَ، هو أيضا من لسان الصدق والشرف المضمون بقاؤه على آل إبراهيم عليه السلام، وإِسْماعِيلَ هو أبو العرب اليوم وذلك أن اليمنية والمضرية ترجع إلى ولد إِسْماعِيلَ وهو الذي أسكنه أبوه بواد غير ذي زرع وهو الذبيح في قوله الجمهور وقالت فرقة الذبيح إسحاق.
قال القاضي أبو محمد: والأول يترجح بجهات منها قول الله تبارك وتعالى، ومن وراء إسحاق يعقوب فولد قد بشر أبواه أنه سيكون منه ولد هو حفيد لهم كيف يؤمر بعد ذلك بذبحه وهذه العدة قد تقدمت وجهة أخرى وهي أن أمر الذبح لا خلاف بين العلماء أنه كان بمنى عند مكة وما روي قط أن إسحاق دخل تلك البلاد، وإسماعيل بها نشأ وكان أبوه يزور مرارا كثيرة يأتي من الشام ويرجع من يومه على البراق وهو مركب الأنبياء، وجهة أخرى وهي قول النبي عليه السلام «أنا ابن الذبيحين» وهو أبوه عبد الله لأنه فدي بالإبل من الذبح، والذبيح الثاني هو أبوه إسماعيل، وجهة أخرى وهي الآيات في سورة الصافات وذلك أنه لما فرغ من ذكر الذبح وحاله، قال وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ [الصافات: ١١٢]، فترتيب تلك الآيات يكاد ينص على أن
الذبيح غير إسحاق، ووصفه الله تعالى ب «صدق الوعد» لأنه كان مبالغا في ذلك، روي أنه وعد رجلا أن يلقاه في موضع فجاء إسماعيل وانتظر الرجل يومه وليلته فلما كان في اليوم الآخر جاء الرجل فقال له ما زلت هنا في انتظارك منذ أمس. وفي كتاب ابن سلام أنه انتظره سنة وهذا بعيد غير صحيح والأول أصح، وقد فعل مثله نبينا محمد ﷺ قبل أن يبعث، ذكره النقاش وخرجه الترمذي وغيره، وذلك في مبايعة وتجارة وقيل وصفه ب «صدق الوعد» لوفائه بنفسه في أمر الذبح إذ قال سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ صابِراً [الكهف: ٦٩] وقال سفيان بن عيينة: أسوأ الكذب إخلاف الميعاد ورمي الأبرياء بالتهم، وقد قال رسول الله ﷺ «العدة دين فناهيك بفضيلة الصدق» في هذا وأَهْلَهُ، يريد بهم قومه وأمته، قاله الحسن، وفي مصحف عبد الله بن مسعود «وكان يأمر قومه». وقوله مَرْضِيًّا أصله مرضويا لقيت الواو وهي ساكنة الياء فأبدلت ياء وأدغمت ثم كسرت الضاد للتناسب في الحركات، وقرأ ابن أبي عبلة «وكان عند ربه مرضوا».
قوله عز وجل:
[سورة مريم (١٩) : الآيات ٥٦ الى ٥٨]
وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا (٥٦) وَرَفَعْناهُ مَكاناً عَلِيًّا (٥٧) أُولئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْراهِيمَ وَإِسْرائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنا وَاجْتَبَيْنا إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُ الرَّحْمنِ خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيًّا (٥٨)
إِدْرِيسَ عليه السلام هو من أجداد نوح عليه السلام، وهو أول نبي بعث إلى أهل الأرض، فيما روي، من بعد آدم، وهو أول من خط بالقلم وكان خياطا، ووصفه الله ب «الصدق» والوجه أن يحمل ذلك على العموم في الأحاديث والأعمال. قال ابن مسعود هو الياس بعث إلى قومه بأن يقولوا لا إله إلا الله.
ويعملوا ما شاؤوا فأبوا فأهلكوا، والأشهر أنه لم يبعث بإهلاك أمة وإنما نبىء فقط واختلف الناس في قوله وَرَفَعْناهُ مَكاناً عَلِيًّا.
فقال جماعة من العلماء هو رفع النبوءة والتشريف والمنزلة وهو في السماء كما سائر الأنبياء، وقالت فرقة: بل رفع إلى السماء، قال ابن عباس: كان ذلك بأمر الله كما رفع عيسى وهنالك مات، وقاله مجاهد إلا أنه قال: ولم يمت، وكذلك قال وهب وقال كعب الأحبار لابن عباس كان له خليل من الملائكة فحمله على جناحه وصعد به حتى بلغ السماء الرابعة فلقي هنالك ملك الموت فقال له إنه قيل لي اهبط إلى السماء الرابعة فاقبض فيها روح إِدْرِيسَ وإني لأعجب كيف يكون هذا، فقال له الملك الصاعد هذا إِدْرِيسَ معي فقبض روحه وروي أن هذا كله كان في السماء السادسة قاله ابن عباس، وكذلك هي رتبته في حديث الإسراء في بعض الروايات وحديث أنس بن مالك وأبي هريرة في الإسراء يقتضي أنه في السماء الرابعة. وقوله تعالى: أُولئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ الإشارة ب أُولئِكَ إلى من تقدم ذكره، وقوله مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ يريد إِدْرِيسَ ونوحا وممن حمل مع نوح إبراهيم عليه السلام، وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْراهِيمَ وإسماعيل وإسحاق ويعقوب، ومن ذرية إِسْرائِيلَ موسى وهارون وزكرياء ويحيى ومريم. وقوله.
وَمِمَّنْ هَدَيْنا، معناه وأولئك ممن هدينا، لأن هدى الله قد ناله غير هؤلاء. وَاجْتَبَيْنا معناه اصطفينا واخترنا وكأنه من جبيت المال إذا جمعته ومنه جباية المال وكأن جابيه يصطفيه، وقرأ الجمهور «إذا تتلى» بالتاء من فوق وقرأ نافع وشيبة، وأبو جعفر «إذا يتلى» بالياء، و «الآيات» هنا الكتب المنزلة، وسُجَّداً نصب على الحال لأن مبدأ السجود سجود، وقرأ عمر بن الخطاب والجمهور «بكيا»، قالت فرقة: هو جمع باك كما يجمع عاث وجاث على عثّي وجثي، وقالت فرقة: هو مصدر بمعنى البكاء التقدير وبكو بُكِيًّا واحتج الطبري ومكي لهذا القول بأن عمر بن الخطاب رضي الله عنه روي أنه قرأ سورة مريم فسجد ثم قال «هذا السجود فأين البكّي» يعني البكاء، واحتجاجهم بهذا فاسد لأنه يحتمل أن يريد عمر رضي الله عنه «فأين الباكون»، فلا حجة فيه لهذا وهذا الذي ذكروه عن عمر ذكره أبو حاتم عن النبي صلى الله عليه وسلم. وقرأ ابن مسعود ويحيى والأعمش «وبكيا» بكسر الباء وهو مصدر على هذه القراءة لا يحتمل غير ذلك.
قوله عز وجل:
[سورة مريم (١٩) : الآيات ٥٩ الى ٦٣]
فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَواتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا (٥٩) إِلاَّ مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ شَيْئاً (٦٠) جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمنُ عِبادَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّهُ كانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا (٦١) لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً إِلاَّ سَلاماً وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيها بُكْرَةً وَعَشِيًّا (٦٢) تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبادِنا مَنْ كانَ تَقِيًّا (٦٣)
«الخلف» بفتح اللام القرن يأتي بعد آخر يمضي، والابن بعد الأب، وقد يستعمل في سائر الأمور.
«والخلف» بسكون اللام مستعمل إذا كان الآتي مذموما هذا مشهور كلام العرب وقد ذكر عن بعضهم أن الخلف والخلف بمعنى واحد وحجة ذلك قول الشاعر:
لنا القدم الأولى إليك وخلفنا لأولنا في طاعة الله تابع
وقرأ الجمهور «الصلاة» بالإفراد، وقرأ الحسن «أضاعوا الصلوات» بالجمع، وكذلك في مصحف ابن مسعود، والمراد ب «الخلف» من كفر أو عصى بعد من بني إسرائيل، وقال مجاهد: المراد النصارى خلفوا بعد اليهود وقال محمد بن كعب ومجاهد وعطاء: هم قوم من أمة محمد آخر الزمان، أي يكون في هذه الأمة من هذه صفته لا أنهم المراد بهذه الآية، وروى أبو سعيد الخدري عن النبي ﷺ أنه قال «كان الخلف بعد ستين سنة»، وهذا عرف إلى يوم القيامة وتتجدد أيضا المبادئ، واختلف الناس في «إضاعة الصلاة» منهم، فقال محمد بن كعب القرظي وغيره: «كانت إضاعة كفر وجحد بها». وقال القاسم بن مخيمرة وعبد الله بن مسعود: «كانت إضاعة أوقاتها والمحافظة على أوانها» وذكره الطبري عن عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه في حديث طويل. والشَّهَواتِ عموم وكل ما ذكر من ذلك فمثال، و «الغي» الخسران والحصول في الورطات ومنه قول الشاعر: [الطويل]
وبه فسر ابن زيد هذه الآية، وقد يكون «الغي» أيضا بمعنى الضلال فيكون على هذا هنا حذف مضاف تقديره «يلقون جزاء الغي»، وبهذا فسر الزجاج. وقال عبد الله بن عمرو وابن مسعود «غي» واد في جهنم وبه وقع التوعد في هذه الآية، وقيل «غي وآثام، نيران في جهنم» رواه أبو أمامة الباهلي عن النبي عليه السلام. وقوله إِلَّا مَنْ تابَ استثناء يحتمل الاتصال والانقطاع، وقوله وَآمَنَ يقتضي أن الإضافة أولا هي إضاعة كفر هذا مع اتصال الاستثناء، وعليه فسر الطبري. وقرأ الجمهور «يدخلون» بضم الياء وفتح الخاء، وقرأ الحسن كل ما في القرآن «يدخلون» بفتح الياء وضم الخاء. وقوله جَنَّاتِ عَدْنٍ، وقرأ جمهور الناس «جنات عدن» بنصب الجنات على البدل من قوله يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ، وقرأ الحسن وعيسى بن عمر وأبو حيوة «جنات» برفعها على تقدير تلك جنات، وقرأ علي بن صالح «جنة» على الإفراد والنصب وكذلك في مصحف ابن مسعود وقرأها الأعمش، و «العدن» الإقامة المستمرة. قوله بِالْغَيْبِ أي أخبرهم من ذلك بما غاب عنهم، وفي هذا مدح لهم على سرعة إيمانهم وبدارهم إذ لم يعاينوا.
و «المأتي» مفعول على بابه، والآتي هو الإنجاز والفعل الذي تضمنه الوعد، وكان إتيانه إنما يقصد به «الوعد» الذي تقدمه. وقالت جماعة من المفسرين: هو مفعول في اللفظ بمعنى فاعل بمعنى آت وهذا بعيد، والنظر الأول أصوب، و «اللغو»، الساقط من القول، وهو أنواع مختلفة كلها ليست في الجنة، وقوله إِلَّا سَلاماً، استثناء منقطع، المعنى لكن يسمعون كلاماً هو تحية الملائكة لهم في كل الأوقات. وقوله بُكْرَةً وَعَشِيًّا، يريد في التقدير أي يأتيهم طعامهم مرتين في مقدار اليوم والليلة من الزمن، ويروى أن أهل الجنة تنسد لهم الأبواب بقدر الليل في الدنيا فهم يعرفون البكرة عند انفتاحها والعشي عند انسدادها، وقال مجاهد: ليس بكرة ولا عشيا لكن يؤتى به على قدر ما كانوا يشتهون في الدنيا، وقد ذكر نحوه قتادة، أن تكون مخاطبة بما تعرفه العرب وتستغربه في رفاهة العيش، وجعل ذلك عبارة عن أن رزقهم يأتي على أكمل وجوهه. وقال الحسن: خوطبوا على ما كانت العرب تعلم من أفضل العيش وذلك أن كثيرا من العرب إنما كان يجد الطعام المرة في اليوم وهي غايته، وكان عيش أكثرهم من شجر البرية ومن الحيوان ونحوه ألا ترى قول الشاعر: [المنسرح]
عصرته نطفة تضمنها... لصب توقى مواقع السبل
أو وجبة من جناة أشكلة... إن لم يزغها بالقوس لم تنل
الوجبة الأكلة في اليوم. وقرأ الجمهور «نورث» بسكون الواو، وقرأ الأعمش «نورثها»، وقرأ الحسن والأعرج وقتادة «نورّث» بفتح الواو وشد الراء.
قوله عز وجل:
[سورة مريم (١٩) : الآيات ٦٤ الى ٦٥]
وَما نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ ما بَيْنَ أَيْدِينا وَما خَلْفَنا وَما بَيْنَ ذلِكَ وَما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا (٦٤) رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا (٦٥)
قرأ الجمهور «وما نتنزل» بالنون كأن جبريل عنى نفسه والملائكة، وقرأ الأعرج وما «يتنزل» بالياء على
23
أنه خبر من الله أن جبريل لا يتنزل، قال هذا التأويل بعض المفسرين، ويرده قوله ما بَيْنَ أَيْدِينا لأنه لا يطرد معه وإنما يتجه أن يكون خبرا من جبريل أن القرآن لا يتنزل إلا بأمر الله في الأوقات التي يقدرها.
ورويت قراءة الأعرج بضم الياء، وقرأ ابن مسعود «إلا بقول ربك»، وقال ابن عباس وغيره: سبب هذه الآية، أن النبي عليه السلام أبطأ عنه جبريل مرة فلما جاءه قال «يا جبريل قد اشتقت إليك أفلا تزورنا أكثر مما تزورنا»، فنزلت هذه الآية. وقال مجاهد والضحاك: سببها أن جبريل تأخر عن النبي ﷺ عند قوله في السؤالات المتقدمة في سورة الكهف «غدا أخبركم» حتى فرح بذلك المشركون واهتم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم جاء جبريل ونزلت هذه في ذلك المعنى، فهي كالتي في الضحى، وهذه الواو التي في قوله وَما نَتَنَزَّلُ هي عاطفة جملة كلام على أخرى وواصلة بين القولين وإن لم يكن معناهما واحدا. وحكى النقاش عن قوم أن قوله وَما نَتَنَزَّلُ متصل بقوله إِنَّما أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيًّا
[مريم: ١٩]، وهذا قول ضعيف، وقوله ما بَيْنَ أَيْدِينا وَما خَلْفَنا وَما بَيْنَ ذلِكَ لفظ يحتاج إلى ثلاث مراتب، واختلف المفسرون فيها، فقال أبو العالية «ما بين الأيدي» في الدنيا بأسرها إلى النفخة الأولى، «وما خلف» الآخرة من وقت البعث وَما بَيْنَ ذلِكَ ما بين النفختين. وقال ابن جريج «ما بين الأيدي» هو ما مر من الزمن قبل إيجاد من في الضمير، «وما خلف» هو ما بعد موتهم إلى استمرار الآخرة وَما بَيْنَ ذلِكَ هو مدة الحياة.
قال القاضي أبو محمد: والآية إنما المقصد بها الإشعار بملك الله تعالى لملائكة وأن قليل تصرفهم وكثيرة إنما هو بأمره وانتقالهم من مكان إلى مكان، إنما هو بحكمته إذ الأمكنة له وهم له، فلو ذهب بالآية إلى أن المراد ب «ما بين الأيدي وما خلف» الأمكنة التي فيها تصرفهم، والمراد ب ما بَيْنَ ذلِكَ هم أنفسهم ومقاماتهم لكان وجهها كأنه قال نحن مقيدون بالقدرة لا ننتقل ولا نتتزل إلا بأمر ربك. وقال ابن عباس وقتادة فيما روي وما أراه صحيحا عنهما «ما بين الأيدي هي الآخرة وما خلف هو الدنيا»، وهذا مختل المعنى إلا على التشبيه بالمكان لأن ما بين اليد إنما هو ما تقدم وجوده في الزمن بمثابة التوراة والإنجيل من القرآن وقول أبي العالية إنما يتصور في بني آدم وهذه المقالة هي للملائكة فتأمله. وقوله وَما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا أي ممن يلحقه نسيان بعثنا إليكم في وقت المصلحة به فإنما ذلك عن قدر له أي فلا تطلب أنت يا محمد الزيارة أكثر مما شاء الله هذا ما تقتضيه قوة الكلام على التأويل الواحد أو فلا تهتم يا محمد بتأخيري ولا تلفت لفرح المشركين بذلك على التأويل الثاني ونَسِيًّا فعيل من النسيان والذهول عن الأمور، وقالت فرقة نَسِيًّا هنا معناه تاركا، ع: وفي هذا ضعف لأنه إنما نفي النسيان مطلقا فيتمكن ذلك في النسيان الذي هو نقص وأما الترك فلا ينتفي مطلقا ألا ترى قوله تعالى: وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ [البقرة: ١٧] وقوله وَتَرَكْنا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ [الكهف: ٩٩] فلو قال نسيك أو نحوه من التقييد لصح حمله على الترك، ولا حاجة بنا أن نقول إن التقييد في النية لأن المعنى الآخر أظهر. وقرأ ابن مسعود «وما بين ذلك وما نسيك ربك»، وروى أبو الدرداء أن رسول الله ﷺ قال: «ما أحل الله في كتابه فهو حلال وما حرم فهو حرام، وما سكت عنه فهي عافيته فاقبلوا» ثم تلا هذه الآية وقوله رَبُّ بدل من قوله وَما كانَ رَبُّكَ، وقوله فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبادَتِهِ أمر بحمل تكاليف الشرع وإشعار ما بصعوبتها كالجهاد
24
والحج والصدقات فهي شريعة تحتاج إلى اصطبار أعاننا الله عليها بمنه. وقرأ الجمهور «هل تعلم» بإظهار اللام، وقرأ علي بن نصر عن أبي عمرو بإدغام اللام في التاء وهي قراءة عيسى والأعمش والحسن وابن محيصن قال أبو علي: سيبويه يجيز إدغام اللام في الطاء والتاء والدال والثاء والضاد والزاي والسين، وقرأ أبو عمرو «وهل ثوب» بإدغامها في الثاء وإدغامها في التاء أحق لأنها أدخل معها في الفم ومن إدغامها في التاء ما روي من قول مزاحم العقيلي: [الطويل]
فمن يلق خيرا يحمد الناس أمره ومن يغو لا يعدم على الغي لائما
فذر ذا ولكن هل تعين متيما على ضوء برق آخر الليل ناصب
وقوله سَمِيًّا، قال قوم: وهو ظاهر اللفظ معناه موافقا في الاسم وهذا يحسن فيه أن يريد بالاسم ما تقدم من قوله رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما أي هل تعلم من يسمى بهذا ويوصف بهذه الصفة؟
وذلك أن الأمم والفرق لا يسمون بهذا الاسم وثنا ولا شيئا سوى الله تعالى، وأما الألوهية والقدرة وغير ذلك فقد يوجه السمي فيها وذلك باشتراك لا بمعنى واحد. وقال ابن عباس وغيره: قوله سَمِيًّا معناه مثيلا أو شبيها أو نحو ذلك، وهذا قول حسن، وكأن السمي بمعنى المسامي والمضاهي فهو من السمو، وهذا القول يحسن في هذه الآية ولا يحسن فيما تقدم في ذكر يحيى عليه السلام.
قوله عز وجل:
[سورة مريم (١٩) : الآيات ٦٦ الى ٦٩]
وَيَقُولُ الْإِنْسانُ أَإِذا ما مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا (٦٦) أَوَلا يَذْكُرُ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً (٦٧) فَوَ رَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّياطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا (٦٨) ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمنِ عِتِيًّا (٦٩)
الْإِنْسانُ اسم للجنس يراد به الكافر، وروي أن سبب هذه الآية هو أن رجالا من قريش كانوا يقولون هذا ونحوه، وذكر أن القائل هو أبي بن خلف جاء إلى النبي ﷺ بعظم مرفت فنفخ فيه وقال أيبعث هذا وكذب وسخر، وقيل إن القائل هو العاصي بن وائل، وقرأ الأعرج وأبو عمرو «أإذا مامت» بالاستفهام الظاهر، وقرأت فرقة «إذا» دون ألف استفهام وقد تقدم هذا مستوعبا، وقرأت فرقة بكسر الميم، وقرأت فرقة «مت» بضمها. واللام في قوله لَسَوْفَ مجلوبة على الحكاية لكلام تقدم بهذا المعنى كأن قائلا قال للكافر إذا مت يا فلان لسوف تخرج حيا فقرر الكافر على الكلام على جهة الاستبعاد وكرر اللام حكاية للقول الأول. وقرأ جمهور الناس «أخرج» بضم الهمزة وفتح الراء، وقرأ الحسن بخلاف وأبو حيوة «أخرج» بفتح الهمزة وضم الراء. وقوله أَوَلا يَذْكُرُ احتجاج خاطب الله تعالى به نبيه عليه السلام ردا على مقالة الكافر. وقرأ نافع وعاصم وابن عامر «ويذكر»، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وحمزة والكسائي «يذكّر» بشد الذال والكاف، وقرأ أبي بن كعب «يتذكر»، والنشأة الأولى والإخراج من العدم إلى الوجود أوضح دليل على جواز البعث من القبور ثم قرر ذلك وأوجبه السمع، وقوله وَلَمْ يَكُ شَيْئاً دليل على أن المعدوم لا يسمى شَيْئاً وقال أبو علي الفارسي أراد شَيْئاً موجودا.
قال القاضي أبو محمد: وهذه نزعة اعتزالية فتأملها وقوله فَوَ رَبِّكَ الآية وعيد يكون ما نفوه على
أصعب وجوهه، والضمير في قوله لَنَحْشُرَنَّهُمْ عائد للكفار القائلين ما تقدم، ثم أخبر أنه يقرن بهم الشَّياطِينَ المغوين لهم. وقوله جِثِيًّا جمع جاث كقاعد وقعود وجالس وجلوس وأصله جثووا وليس في كلام العرب واو متطرفة قبلها ضمة فوجب لذلك أن تعل، ولم يعتد هاهنا بالساكن الذي بينهما لخفته وقلة حوله فقلبت ياء فجاء جثويا فاجتمع الواو والياء وسبقت إحداهما بالسكون فقلبت ياء ثم أدغمت ثم كسرت التاء للتناسب بين الكسرة والياء. وقرأ الجمهور «جثيا» و «صليا» [مريم: ٧٠] بضم الجيم والصاد، وقرأ ابن وثاب وطلحة والأعمش «جثيا» و «صليا» [ذاته] بكسر الجيم والصاد وأخبر الله تعالى أنه يحضر هؤلاء المنكرين للبعث مع الشياطين فيجثون حول جهنم وهي قعدة الخائف الذليل على ركبتيه كالأسير.
ونحوه قال قتادة جِثِيًّا معناه على ركبهم وقال ابن زيد: الجثي شر الجلوس، و «الشيعة» الفرقة المرتبطة بمذهب واحد المتعاونة فيه كأن بعضهم يشيع بعضا أي ينبه، ومنه تشييع النار بالحطب وهو وقدها به شيئا بعد شيء، ومنه قيل للشجاع مشيع القلب فأخبر الله أنه ينزع مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أعتاها وأولاها بالعذاب فتكون تلك مقدمتها إلى النار. قال أبو الأحوص: المعنى نبدأ بالأكابر فالأكابر جرما، ثم أخبر تعالى في الآية بعد، أنه أعلم بمستحقي ذلك وأبصر لأنه لم تخف عليه حالهم من أولها إلى آخرها. وقرأ بعض الكوفيين ومعاذ بن مسلم وهارون القاري «أيّهم» بالنصب، وقرأ الجمهور «أيّهم» بالرفع، إلا أن طلحة والأعمش سكنا ميم «أيهم» واختلف الناس في وجه رفع «أي»، فقال الخليل رفعه على الحكاية بتقدير الذي يقال فيه من أجل عتوه «أيّهم» أشد وقرنه بقول الشاعر: [الكامل]
ولقد أبيت من الفتاة بمنزل فأبيت لا حرج ولا محروم
أي فأبيت يقال فيّ لا حرج ولا محروم. ورجح الزجاج قول الخليل وذكر عنه النحاس أنه غلط سيبويه في قوله في هذه المسألة، قال سيبويه: ويلزم على هذا أن يجوز أضرب السارق الخبيث أي الذي يقال له ع: وليس بلازم من حيث هذه أسماء مفردة والآية جملة وتسلط الفعل على المفرد أعظم منه على الجملة، ومذهب سيبويه أن «أيّهم» مبني على الضم إذ هي أخت «الذي ولما» وخالفتهما في جواز الإضافة فيها فأعربت لذلك، فلما حذف من صلتها ما يعود عليها ضعفت فرجعت إلى البناء، وكأن التقدير «أيّهم» هو أشد. قال أبو علي: حذف ما الكلام مفتقر إليه فوجب البناء، وقال يونس: علق عنها الفعل وارتفعت بالابتداء، قال أبو علي: معنى ذلك أنه معمل في موضع من كل شيعة إلا أنه ملغى لأنه لا تعلق جملة إلا أفعال الشك كظننت ونحوها مما لم يتحقق وقوعه، وقال الكسائي لَنَنْزِعَنَّ أريد به لننادين فعومل معاملة الفعل المراد فلم يعمل في «أي»، وقال المبرد «أيّهم» متعلق ب شِيعَةٍ فلذلك ارتفع، والمعنى من الذين تشايعوا «أيّهم» أشد كأنهم يتبارون إلى هذا ويلزمه أن يقدر مفعولا ل «ننزع» محذوفا. وقرأ طلحة بن مصرف «أيهم أكبر». وعِتِيًّا مصدر أصله عتووا وعلل بما علل جِثِيًّا وروى أبو سعيد الخدري «أنه يندلق عنق من النار فيقول إني أمرت بكل جبار عنيد» فتلتقطهم الحديث.
قوله عز وجل:
[سورة مريم (١٩) : الآيات ٧٠ الى ٧٢]
ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلى بِها صِلِيًّا (٧٠) وَإِنْ مِنْكُمْ إِلاَّ وارِدُها كانَ عَلى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيًّا (٧١) ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيها جِثِيًّا (٧٢)
26
أي نحن في ذلك النزع لا نضع شيئا غير موضعه لأنا قد أحطنا علما بكل أحد فالأولى بصلي النار نعرفه، و «الصلي» مصدر صلي يصلى إذا باشره قال ابن جريج: المعنى أَوْلى بالخلود، وقوله وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها قسم، والواو تقتضيه، ويفسره قول النبي عليه السلام «من مات له ثلاث من الولد لم تمسه النار إلا تحلة القسم». وقرأ ابن عباس وعكرمة وجماعة «وإن منهم» بالهاء على إرادة الكفار فلا شغب في هذه القراءة، وقالت فرقة من الجمهور القارئين مِنْكُمْ المعنى قل لهم يا محمد فإنما المخاطب منكم الكفرة وتأويل هؤلاء أيضا سهل التناول، وقال الأكثر المخاطب العالم كله ولا بد من «ورود» الجميع، واختلفوا في كيفية «ورود» المؤمنين فقال ابن مسعود وابن عباس وخالد بن معدان وابن جريج وغيرهم:
«ورود» دخول لكنها لا تعدو على المؤمنين ثم يخرجهم الله منها بعد معرفتهم بحقيقة ما نجوا منه، وروي عن ابن عباس أنه قال في هذه المسألة لنافع بن الأزرق الخارجي: أما أنا وأنت فلا بد أن نردها، فأما أنا فينجيني الله منها، وأما أنت فما أظنه ينجيك. وقالوا: في القرآن أربعة أوراد معناها الدخول هذه أحدها، وقوله تعالى: يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ [هود: ٩٨]، وقوله وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلى جَهَنَّمَ وِرْداً [مريم: ٨٦]، وقوله إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ [الأنبياء: ٩٨]، وقالوا كان من دعاء بعض السلف «اللهم أدخلني النار سالما وأخرجني منها غانما». وروى جابر بن عبد الله عن النبي عليه السلام أنه قال «الورود في هذه الآية هو الدخول». وأشفق كثير من العلماء من تحقق الورود والجهل بالصدر، وقالت فرقة بل هو ورود إشراف واطلاع وقرب كما تقول وردت الماء إذا جئته، وليس يلزم أن تدخل فيه، قال وحسب المؤمنين بهذا هؤلاء ومنه قوله تعالى: وَلَمَّا وَرَدَ ماءَ مَدْيَنَ [القصص: ٢٣]، وروت فرقة أن الله تعالى يجعل يوم القيامة النار جامدة الأعلى كأنها اهالة. فيأتي الخلق كلهم، برهم وفاجرهم، فيقفون عليها ثم تسوخ بأهلها ويخرج المؤمنون الفائزون لم ينلهم ضر، قالوا فهذا هو «الورود»، وروت حفصة أن رسول الله ﷺ قال «لا يدخل النار أحد من أهل بدر والحديبية»، فقالت يا رسول الله وأين قول الله وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها، فقال رسول الله ﷺ «فمه ثم ننجي الذين اتقوا»، ورجح الزجاج هذا القول بقوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ [الأنبياء: ١٠١] ع: وهذا ضعيف وليس هذا موضع نسخ وقال عبد الله بن مسعود: ورودهم هو جوازهم على الصراط وذلك أن الحديث الصحيح تضمن «أن الصراط مضروب على جسر جهنم فيمر الناس كالبرق وكالريح وكالجواد من الخيل على مراتب ثم يسقط الكفار في جهنم وتأخذهم كلاليب»، قالوا فالجواز على الصراط هو «الورود» الذي تضمنته هذه الآية، وقال مجاهد: ورود المؤمنين هو الحمى التي تصيب في دار الدنيا، وفي الحديث «الحمى من فيح جهنم فأبردوها بالماء»، وفي الحديث «الحمى حظ كل مؤمن من النار»، وروى أبو هريرة أن رسول الله ﷺ قال لرجل مريض عاده من الحمى: إن الله تعالى يقول هي ناري أسلطها على عبدي المؤمن لتكون حظه من نار الآخرة فهذا هو الورود. و «الحتم» الأمر المنفذ المجزوم، وقرأ أبي بن كعب وابن عباس «ثم ننجي» بفتح الثاء من
27
«ثم» على الظرف، وقرأ ابن أبي ليلى «ثمة» بفتح الثاء وهاء السكت، وقرأ نافع وابن كثير وجمهور من الناس «ننجّي» بفتح النون الثانية وشد الجيم، وقرأ يحيى والأعمش «ننجي» بسكون النون الثانية وتخفيف الجيم، وقرأت فرقة «نجّي» بنون واحدة مضمومة وجيم مشددة، وقرأ علي بن أبي طالب «ثم» بفتح الثاء «ننجي» بالحاء غير منقوطة. والَّذِينَ اتَّقَوْا معناه اتقوا الكفر، وقال بعض العلماء لا يضيع أحد بين الإيمان والشفاعة. وَنَذَرُ دالة على أنهم كانوا فيها، والظلم هنا هو ظلم الكفر، وقد تقدم القول في قوله جِثِيًّا، وقرأ ابن عباس «الذين اتقوا منها ونترك الظالمين».
قوله عز وجل:
[سورة مريم (١٩) : الآيات ٧٣ الى ٧٥]
وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقاماً وَأَحْسَنُ نَدِيًّا (٧٣) وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثاثاً وَرِءْياً (٧٤) قُلْ مَنْ كانَ فِي الضَّلالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمنُ مَدًّا حَتَّى إِذا رَأَوْا ما يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضْعَفُ جُنْداً (٧٥)
قرأ الأعرج وابن محيصن وأبو حيوة «يتلى» بالياء من تحت، وسبب هذه الآية أن كفار قريش لما كان الرجل منهم يكلم المؤمن في معنى الدين فيقرأ المؤمن عليه القرآن ويبهره بآيات النبي عليه السلام، كان الكافر منهم يقول إن الله إنما يحسن لأحب الخلق إليه وإنما ينعم على أهل الحق ونحن قد أنعم الله علينا دونكم فنحن أغنياء وأنتم فقراء ونحن أحسن مجلسا وأجمل شارة فهذا المعنى ونحوه هو المقصود بالتوقيف في قوله أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ، وقرأ نافع وابن عامر «مقاما» بفتح الميم ولا مُقامَ لَكُمْ [الأحزاب: ١٣] بالفتح أيضا، وهو المصدر من قام أو الظرف منه أي موضع القيام، وهذا يقتضي لفظ المقام إلا أن المعنى في هذه الآية يحرز أنه واقع على الظرف فقط، وقرأ أبيّ فِي مَقامٍ أَمِينٍ [الدخان: ٥١] بضم الميم، وقرأ ابن كثير «مقاما» بضم الميم وهو ظرف من أقام وكذلك أيضا يجيء المصدر منه مثل مَجْراها وَمُرْساها [هود: ٤١] وقرأ فِي مَقامٍ أَمِينٍ [الدخان: ٥١] «ولا مقام لكم» [الأحزاب: ١٣] بالفتح، وقرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم جميعهن بالفتح، وروى حفص عن عاصم «لا مقام لكم» بالضم. و «الندي» والنادي المجلس فيه الجماعة ومنه قول حاتم الطائي:
فدعيت في أولى الندي ولم ينظر إليّ بأعين خزر
وقوله وَكَمْ مخاطبة من الله تعالى لمحمد خبر يتضمن كسر حجتهم واحتقار أمرهم لأن التقدير:
هذا الذي افتخروا به لا قدر له عند الله وليس بمنج لهم فكم أهلك الله من الأمم لما كفروا وهم أشد من هؤلاء وأكثر أموالا وأجمل منظرا. و «القرن» الأمة يجمعها العصر الواحد، واختلف الناس في قدر المدة التي إذا اجتمعت لأمة سميت تلك الأمة قرنا، فقيل مائة سنة، وقيل ثمانون، وقيل سبعون، وقد تقدم القول في هذا غير مرة، و «الأثاث» المال العين والعرض والحيوان وهو اسم عام واختلف هل هو جمع أو إفراد.
فقال الفراء: هو اسم جمع لا واحد له من لفظه كالمتاع، وقال خلف الأحمر: هو جمع واحده أثاثة كحمامة وحمام ومنه قول الشاعر: [الوافر]
28
أشاقتك الظعائن يوم بانوا بذي الزي الجميل من الأثاث
وأنشد أبو العباس: [الوافر]
لقد علمت عرينة حيث كانت بأنا نحن أكثرهم أثاثا
وقرأ نافع بخلاف وأهل المدينة «وريّا» بياء مشددة، وقرأ ابن عباس فيما روي عنه وطلحة «وريا» بياء مخففة، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وعاصم وحمزة والكسائي «ورءيا» بهمزة بعدها ياء على وزن رعيا، ورويت عن نافع وابن عامر رواها أشهب عن نافع وقرأ أبو بكر عن عاصم «وريئا» بياء ساكنة بعدها همزة وهو على القلب وزنه فلعا وكأنه من راع وقال الشاعر: [الطويل]
وكل خليل راءني فهو قائل من أجلك هذا هامة اليوم أو غد
فأما القراءتان المهموزتان فهما من رؤية العين الرئي اسم المرئي والظاهر للعين كالطحن والسقي، قال ابن عباس الرئي المنظر قال الحسن «وريا» معناه صورا وأما المشددة الياء فقيل هي بمعنى المهموزة إلا أن الهمزة خففت لتستوي رؤوس الآي، وذكر منذر بن سعيد عن بعض أهل العلم أنه من «الري» في السقي كأنه أراد أنهم خير منهم بلادا وأطيب أرضا وأكثر نعما إذ جملة النعم إنما هي من الري والمطر، وأما القراءة المخففة الياء فضعيفة الوجه، وقد قيل هي لحن، وقرأ سعيد بن جبير ويزيد البربري وابن عباس أيضا «وزيا» بالزاي وهو بمعنى الملبس وهيئته تقول زييت بمعنى زينت، وأما قوله قُلْ مَنْ كانَ فِي الضَّلالَةِ الآية فقول يحتمل معنيين، أحدهما أن يكون بمعنى الدعاء والابتهال كأنه يقول الأضل منا أو منكم «مد» الله له أي أملى له حتى يؤول ذلك إلى عذابه، والمعنى الآخر أن يكون بمعنى الخبر كأنه يقول من كان ضالا من الأمم فعادة الله فيه أنه «يمد» له ولا يعاجله حتى يفضي ذلك إلى عذابه في الآخرة، فاللام في قوله فَلْيَمْدُدْ على المعنى الأول لام رغبة في صيغة الأمر، وعلى المعنى الثاني لام أمر دخلت في معنى الخبر ليكون أوكد وأقوى وهذا موجود في كلام العرب وفصاحتها.
قوله عز وجل:
حَتَّى إِذا رَأَوْا ما يُوعَدُونَ...
حَتَّى في هذه الآية حرف ابتداء دخلت على جملة وفيها معنى الغاية، وإِذا شرط، وجوابها في قوله فَسَيَعْلَمُونَ والرؤية رؤية العين، والْعَذابَ والسَّاعَةَ بدل من ما التي وقعت عليها
29
رَأَوْا وإِمَّا هي المدخلة للشك في أول الكلام والثانية عطف عليها، والْعَذابَ يريد به عذاب الدنيا ونصرة المؤمنين عليهم، و «الجند» النصرة والقائمون بأمر الحرب، وشَرٌّ مَكاناً بإزاء قولهم خَيْرٌ مَقاماً [مريم: ٧٣] وَأَضْعَفُ جُنْداً بإزاء قولهم أَحْسَنُ نَدِيًّا [مريم: ٧٢] قوله عز وجل:
[سورة مريم (١٩) : الآيات ٧٦ الى ٨٠]
وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدىً وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً وَخَيْرٌ مَرَدًّا (٧٦) أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآياتِنا وَقالَ لَأُوتَيَنَّ مالاً وَوَلَداً (٧٧) أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً (٧٨) كَلاَّ سَنَكْتُبُ ما يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذابِ مَدًّا (٧٩) وَنَرِثُهُ ما يَقُولُ وَيَأْتِينا فَرْداً (٨٠)
ولما ذكر ضلالة الكفرة وارتباكهم في الافتخار بنعم الدنيا وعماهم عن الطريق المستقيم عقب ذلك بذكر نعمته على المؤمنين في أنهم يزيدهم هُدىً في الارتباط إلى الأعمال الصالحة والمعرفة بالدلائل الواضحة وزيادة العلم دأبا. قال الطبري عن بعضهم المعنى بناسخ القرآن ومنسوخه ع: وهذا مثال وقوله وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ إشارة إلى ذلك الهدى الذي يزيدهم الله تعالى أي وهذه النعم على هؤلاء خَيْرٌ عند الله ثَواباً وخير مرجعا. والقول في زيادة الهدى سهل بين الوجوه، وأما الْباقِياتُ الصَّالِحاتُ فقال بعض العلماء هو كل عمل صالح يرفع الله به درجة عامله، وقال الحسن هي «الفرائض»، وقال ابن عباس هي «الصلوات الخمس» وروي عن النبي عليه السلام «أنها الكلمات المشهورات سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر». وقد قال رسول الله عليه السلام لأبي الدرداء «خذهن يا أبا الدرداء قبل أن يحال بينك وبينهن فهن الباقيات الصالحات وهن من كنوز الجنة». وروي عنه عليه السلام أنه قال يوما «خذوا جنتكم» قالوا يا رسول الله أمن عدو حضر قال «من النار» قالوا ما هي يا رسول الله، قال «سبحان الله، ولا إله إلا الله، والله أكبر»، وهن الباقيات الصالحات». وكان أبو الدرداء يقول إذا ذكر هذا الحديث: لأهللن، ولأكبرن الله، ولأسبحنه حتى إذا رآني الجاهل ظنني مجنونا، وقوله أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ الآية، الفاء في قوله أَفَرَأَيْتَ عاطفة بعد ألف الاستفهام وهي عاطفة جملة على جملة، والَّذِي كَفَرَ يعني به العاصي بن وائل السمهي، قاله جمهور المفسرين، وكان خبره أن خباب بن الأرت كان قينا في الجاهلية فعمل له عملا واجتمع له عنده دين فجاءه يتقاضاه فقال له العاصي لا أنصفك حتى تكفر بمحمد، فقال خباب: لا أكفر بمحمد حتى يمييتك الله ثم يبعثك، قال العاصي: أو مبعوث أنا بعد الموت؟ قال خباب نعم، قال: فإنه إذا كان ذلك فسيكون لي مال وولد وعند ذلك أقضيك دينك، فنزلت الآية في ذلك، وقال الحسن نزلت الآية في الوليد بن المغيرة المخزومي وقد كانت للوليد أيضا أقوال تشبه هذا الغرض، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو «وولدا» على معنى اسم الجنس بفتح الواو واللام وكذلك في سائر ما في القرآن إلا في سورة نوح مالُهُ وَوَلَدُهُ [نوح: ٢١] فإنما قرأ بضم الواو وسكون اللام، وقرأ نافع وعاصم وابن عامر بفتح الواو في كل القرآن، وقرأ حمزة والكسائي «وولدا» بضم الواو وسكون اللام وكذلك في جميع القرآن، وقرأ ابن مسعود «ولدا» بكسر الواو وسكون اللام، واختلف مع ضم الواو فقال بعضهم: هو جمع «ولد كأسد وأسد» واحتجوا بقول الشاعر: [مجزوء الكامل]
فلقد رأيت معاشرا... قد ثمروا مالا وولدا
وقال بعضهم هو بمعنى الولد واحتجوا بقول الشاعر: [الطويل]
فليت فلانا كان في بطن أمه... وليت فلانا كان ولد حمار
قال أبو علي في قراءة حمزة والكسائي ما كان منه مفردا قصد به المفرد، وما كان منه جمعا قصد
الجمع، وقال الأخفش: الولد الابن والابنة، والولد الأهل والوالد وقال غيره: والولد بطن الذي هو منه، حكاه أبو علي في الحجة، وقوله أَطَّلَعَ الْغَيْبَ توقيف والألف للاستفهام وحذفت ألف الوصل للاستغناء عنها، واتخاذ العهد معناه بالإيمان والأعمال الصالحة، وكَلَّا زجر ورد، ثم أخبر تعالى أن قول هذا الكافر سيكتب على معنى حفظه عليه ومعاقبته به. وقرأ «سنكتب» بالنون أبو عمرو والحسن وعيسى، وقرأ عاصم والأعمش «سيكتب» بياء مضمومة، ومد العذاب هو إطالته وتعظيمه وقوله ما يَقُولُ أي هذه الأشياء التي سمى أنه يؤتاها في الآخرة يرث الله ما له منها في الدنيا فإهلاكه وتركه لها، فالوراثة مستعارة ويحتمل أن يكون خيبته في الآخرة كوراثة ما أمل. وفي حرف ابن مسعود «ونرثه ما عنده»، وقال النحاس نَرِثُهُ ما يَقُولُ معناه نحفظه عليه لنعاقبه، ومنه قول النبي عليه السلام «العلماء ورثة الأنبياء» أي حفظة ما قالوا فكأن هذا المجرم يورث هذا المقالة. وقوله فَرْداً يتضمن ذلته وقلة انتصاره.
قوله عز وجل:
[سورة مريم (١٩) : الآيات ٨١ الى ٨٧]
وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا (٨١) كَلاَّ سَيَكْفُرُونَ بِعِبادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا (٨٢) أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّياطِينَ عَلَى الْكافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا (٨٣) فَلا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّما نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا (٨٤) يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمنِ وَفْداً (٨٥)
وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلى جَهَنَّمَ وِرْداً (٨٦) لا يَمْلِكُونَ الشَّفاعَةَ إِلاَّ مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً (٨٧)
اتخذ افتعل من أخذ لكنه يتضمن إعدادا من المتخذ وليس ذلك في أخذ، والضمير في اتَّخَذُوا لعبادة الأوثان والآلهة الأصنام وكل ما عبد من دون الله، ومعنى قوله عِزًّا العموم في النصرة والمنفعة وغير ذلك من وجوه الخير، وقوله كَلَّا زجر وردع، وهذا المعنى لازم ل كَلَّا فإن كان القول المردود منصوصا عليه بان المعنى، وإن لم يكن منصوصا عليه فلا بد من أمر مردود يتضمنه القول كقوله عز وجل كَلَّا إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى [العلق: ٦] فإن قوله عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ [العلق: ٥] يتضمن مع ما قبله أن الإنسان يزعم من نفسه ويرى أن له حولا ما ولا يتفكر جدا في أن الله علمه ما لم يعلم وأنعم عليه بذلك وإلا كان معمور جهل، وقرأ الجمهور «كلا» على ما فسرناه، وقرأ أبو نهيك «كلا» بفتح الكاف والتنوين حكاه عنه أبو الفتح وهو نعت ل آلِهَةً وحكى عنه أبو عمرو الداني «كلا» بضم الكاف والتنوين وهو منصوب بفعل مضمر يدل عليه سيكفرون تقديره يرفضون أو ينكرون أو يجحدون أو نحوه، واختلف المفسرون في الضمير الذي في سَيَكْفُرُونَ وفي بِعِبادَتِهِمْ فقالت فرقة: الأول للكفار والثاني للمعبودين والمعنى أنه سيجيء يوم القيامة من الهول على الكفار والشدة ما يدفعهم إلى جحد الكفر وعبادة الأوثان، وذلك كقوله تعالى حكاية عنهم وَاللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ [الأنعام: ٢٣] وقالت فرقة: الأول للمعبودين والثاني للكفار والمعنى أن الله تعالى يجعل للأصنام حياة تنكر بها ومعها عبادة الكفار وأن يكون لها من ذلك ذنب، وأما المعبود من الملائكة وغيرهم فهذا منهم بين. وقوله ضِدًّا معناه يجيئهم منهم خلاف ما كانوا أملوه فيؤول ذلك بهم إلى ذلة ضد ما أملوه من العز وهذه صفة عامة، وقال قتادة ضِدًّا معناه قرناء، وقال ابن عباس:
31
معناه أعوانا، وقال لضحاك: أعداء، وقال ابن زيد: بلاء، وقيل غير هذا مما لفظ القرآن أعم منه وأجمع للمعنى المقصود، والضد هنا مصدر وصف به الجمع كما يوصف به الواحد، وحكى الطبري عن أبي نهيك أنه قرأ «كل» بالرفع ورفعها بالابتداء، وقوله أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّياطِينَ الآية، الرؤية في الآية رؤية القلب، وأَرْسَلْنَا معناه سلطنا أو لم نحل بينهم وبينهم فكله تسليط وهو مثل قوله نقيض له شيطانا وتعديته ب عَلَى دال على أنه تسليط، وتَؤُزُّهُمْ معناه تغليهم وتحركهم إلى الكفر والضلال قال قتادة تزعجهم إزعاجا، قال ابن زيد: تشليهم أشلاء ومنه أزير القدر وهو غليانه وحركته ومنه الحديث أتيت رسول الله ﷺ «فوجدته يصلي وهو يبكي ولصدره أزيز كأزيز المرجل» وقوله فَلا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ أي لا تستبطىء عذابهم وتحب تعجيله، وقوله نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا أي مدة نعمتهم وقبيح أعمالهم لنصيرهم إلى العذاب إما في الدنيا وإلا ففي الآخرة، قال ابن عباس: نعد أنفاسهم.
قال القاضي أبو محمد: وما تضمنته هذه الألفاظ من الوعيد بعذاب الآخرة هو العامل في قوله يَوْمَ ويحتمل أن يعمل فيه لفظ مقدر تقديره واذكر أو احذر ونحو هذا، و «الحشر» الجمع، وقد صار في عرف ألفاظ الشرع البعث من القبور، وقرأ الحسن يوم «يحشر المتقون ويساق المجرمون»، وروي عنه «ويسوق المجرمين» بالياء. و «المتقون» هم المؤمنون الذين قد غفر لهم، وظاهر هذه الوفادة أنها بعد انقضاء الحساب، وإنما هي النهوض إلى الجنة، وكذلك سوق المجرمين إنما هو لدخول النار. ووَفْداً قال المفسرون معناه ركبانا وهي عادة الوفود لأنهم سراة الناس وأحسنهم شكلا فشبه أهل الجنة بأولئك لا أنهم في معنى الوفادة إذ هو مضمن الانصراف، وإنما المراد تشبيههم بالوفد هيئة وكرامة، وروي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنهم يجيئون ركبانا على النوق المحلاة بحلية الجنة خطمها من ياقوت وزبرجد ونحو هذا، وروي عن عمر بن قيس الملائي أنهم يركبون على تماثيل من أعمالهم الصالحة هي في غاية الحسن، وروي «أنهم يركب كل أحد منهم ما أحب فمنهم من يركب الإبل ومن يركب الخيل ومن يركب السفن فتجيء عائمة بهم»، وقد ورد في الضحايا أنها مطاياكم إلى الجنة، وفي أكثر هذا بعد، لكن ذكرناه بحسب الجمع للأقوال و «السوق» يتضمن هوانا لأنهم يحفزون من ورائهم، و «الورد» العطاش قاله ابن عباس وأبو هريرة والحسن، وهم القوم الذين يحتفزون من عطشهم لورود لماء، ويحتمل أن يكون المصدر المعنى نوردهم وِرْداً وهكذا يجعله من رأى في القرآن أربعة أوراد في النار وقد تقدم ذكر ذلك في هذه السورة، واختلف المتأولون في الضمير في قوله يَمْلِكُونَ فقالت فرقة: هو عائد على المجرمين، أي لا يَمْلِكُونَ أن يشفع لهم ولا سبيل لهم إليها، وعلى هذا التأويل فهم المشركون خاصة، ويكون قوله إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً استثناء منقطعا، أي لكن من اتخذ عهدا يشفع له، والعهد على هذا الإيمان قال ابن عباس: العهد لا إله إلا الله. وفي الحديث «يقول الله تعالى يوم القيامة من كان له عندي عهد فليقم» وفي الحديث «خمس صلوات كتبهن الله على العباد فمن جاء بهن تامة كان له عند الله عهد أن يدخل الجنة». والعهد أيضا الإيمان وبه فسر قوله لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ [البقرة: ١٢٤] ويحتمل أن يكون «المجرمون» يعم الكفرة والعصاة ثم أخبر أنهم لا يَمْلِكُونَ الشَّفاعَةَ إلا العصاة المؤمنون فإنهم يشفع فيهم فيكون الاستثناء متصلا، وقال رسول الله ﷺ «لا أزال أشفع حتى أقول يا رب شفعني
32
فيمن قال لا إله إلا الله» فيقول يا محمد إنها ليست لك ولكنها لي. وقالت فرقة: الضمير في قوله لا يَمْلِكُونَ للمتقين، قوله إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً أي إلا من كان له عمل صالح مبرز يحصل به في حيز من يشفع وقد تظاهرت الأحاديث بأن أهل الفضل والعلم والصلاح يشفعون فيشفعون، روي عن رسول الله ﷺ أنه قال «إن في أمتي رجلا يدخل الله بشفاعته الجنة أكثر من بني تميم»، قال قتادة: وكنا نحدث أن الشهيد يشفع في سبعين، وقال بعض هذه الفرقة معنى الكلام إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً أي لا يملك المتقون الشفاعة إلا لهده الصنيفة فيجيء مَنِ في التأويل الواحد للشافعين، وفي الثاني للمشفوع فيهم، وتحتمل الآية أن يراد ب مَنِ محمد عليه السلام وبالشفاعة الخاصة لمحمد العامة للناس، ويكون الضمير في يَمْلِكُونَ لجميع أهل الموقف، ألا ترى أن سائر الأنبياء يتدافعون الشفاعة حتى تصير إليه فيقوم إليها مدلا، فالعهد على هذا النص على أمر الشفاعة، وقوله تعالى: عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً [الإسراء: ٧٩].
قوله عز وجل:
[سورة مريم (١٩) : الآيات ٨٨ الى ٩٦]
وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً (٨٨) لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدًّا (٨٩) تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا (٩٠) أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمنِ وَلَداً (٩١) وَما يَنْبَغِي لِلرَّحْمنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً (٩٢)
إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلاَّ آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً (٩٣) لَقَدْ أَحْصاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا (٩٤) وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَرْداً (٩٥) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدًّا (٩٦)
الضمير في قالُوا للكفار من العرب في قولهم للملائكة بنات الله وللنصارى ولكل من كفر بهذا النوع من الكفر، وقوله جِئْتُمْ شَيْئاً بعد الكناية عنهم بمعنى قل لهم يا محمد، و «الإد» الأمر الشنيع الصعب وهي الدواهي والشنع العظيمة، ويروى عن النبي عليه السلام أن هذه المقالة أول ما قيلت في العالم شاك الشجر وحدثت، وفي نسخة، وحدثت مرائره واستعرت جهنم وغضبت الملائكة وقرأ الجمهور، «إدا» بكسر الهمزة، وقرأ أبو عبد الرحمن «أدا» بفتح الهمزة، ويقال إد وأد وآد بمعنى، وقرأ ابن كثير هنا وفي حم عسق «تكاد» بالتاء «يتفطرن» بياء وتاء وفتح الطاء وشدها، ورواها حفص عن عاصم، وقرأ أبو عمرو وعاصم في رواية أبي بكر «تكاد» بالتاء «ينفطرن» بياء ونون وكسر الطاء، وقرأ نافع والكسائي «يكاد» بالياء على زوال علامة التأنيث «يتفطّرن» بالياء والتاء وشد الطاء وفتحها في الموضعين، وقرأ حمزة وابن عامر في مريم مثل أبي عمرو وفي عسق مثل ابن كثير وقال أبو الحسن الأخفش «تكاد» بمعنى تريد، وكذلك قوله تعالى أَكادُ أُخْفِيها [طه: ١٥] وأنشد على أن كاد بمعنى أراد قول الشاعر: [الكامل]
كادت وكدت وتلك خير إرادة لو عاد من زمن الصبابة ما مضى
ولا حجة في هذا البيت وهذا قول قلق، وقال الجمهور: إنما هي استعارة لشنعة الأمر أي هذا حقه لو
فهمت الجمادات قدره وهذا المعنى مهيع للعرب فمنه قول جرير: [الكامل]
لما أتى خبر الزبير تواضعت سور المدينة والجبال الخشع
ومنه قول الآخر: [الطويل]
ألم تر صدعا في السماء مبينا على ابن لبينى الحارث بن هشام
وقال الآخر: [الوافر]
وأصبح بطن مكة مقشعرا كأن الأرض ليس بها هشام
والانفطار الانشقاق على غير رتبة مقصودة والهد الانهدام والتفرق في سرعة، وقال محمد بن كعب:
كاد أعداء الله أن يقيموا علينا الساعة، وقوله وَما يَنْبَغِي نفي على جهة التنزيه له عن ذلك، وقد تقدم ذكر هذا المعنى، وأقسام هذا اللفظ في هذه السورة، وقوله إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ الآية إِنْ نافية بمعنى ما، وقرأ الجمهور «آتي الرحمن» بالإضافة، وقرأ طلحة بن مصرف «آت الرحمن» بتنوين «آت» والنصب في النون، وقرأ ابن مسعود «لما آتى الرحمن»، واستدل بعض الناس بهذه الآية على أن الولد لا يكون عبدا وهذا انتزاع بعيد، وعَبْداً حال، ثم أخبر تعالى عن إحاطته ومعرفته بعبيده فذكر الإحصاء، ثم كرر المعنى بغير اللفظ، وقرأ ابن مسعود «لقد كتبهم وعدهم»، وفي مصحف أبيّ «لقد أحصاهم فأجملهم عددا» وقوله عَدًّا تأكيد للفعل وتحقيق له، وقوله فَرْداً يتضمن معنى قلة النصر والحول والقوة لا مجير له مما يريد الله به وقوله سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدًّا ذهب أكثر المفسرين إلى أن هذا هو القبول الذي يضعه الله لمن يحب من عباده حسبما في الحديث المأثور، وقال عثمان بن عفان إنها بمنزلة قول النبي عليه السلام «من أسر سريرة ألبسه الله رداءها»، وفي حديث أبي هريرة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما من عبد إلا وله في السماء صيت فإن كان حسنا وضع في الأرض حسنا وإن سيئا وضع كذلك».
وقال عبد الرحمن بن عوف: إن الآية نزلت فيه وذلك أنه لما هاجر بمكة استوحش بالمدينة فشكا ذلك إلى النبي ﷺ فنزلت الآية في ذلك، أي ستستقر نفوس المؤمنين ويودون حالهم ومنزلتهم، وذكر النقاش أنها نزلت في علي بن أبي طالب، قال ابن الحنفية: لا تجد مؤمنا إلا وهو يحب عليا وأهل بيته، وقرأ الجمهور «ودا» بضم الواو، وقرأ أبو الحارث الحنفي بفتح الواو، ويحتمل أن تكون الآية متصلة بما قبلها في المعنى، أي إن الله تعالى لما أخبر عن إتيان كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ في حالة العبودية والانفراد أنس المؤمنين بأنه سيجعل لهم في ذلك اليوم وُدًّا وهو ما يظهر عليهم من كرامته لأن محبة الله لعبد إنما هي ما يظهر عليه من نعمه وأمارات غفرانه له.
قوله عز وجل:
[سورة مريم (١٩) : الآيات ٩٧ الى ٩٨]
فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُدًّا (٩٧) وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزاً (٩٨)
34
الضمير في «يسرنا» للقرآن، وهذا كقوله حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ [ص: ٣٢] لأن المعنى يقتضي المراد وإن لم يتقدم ذكره، ووقع التيسير في كونه بلسان محمد عليه السرم وبلغته المفهومة المبينة، وبشارة الْمُتَّقِينَ هي الجنة والنعيم الدائم والعز في الدنيا، و «القوم اللد» هم قريش ومعناه مجادلين مخاصمين بباطل، والألد الخاصم المبالغ في ذلك، وقال مجاهد لُدًّا فجارا ع: وهذا عندي فجور الخصومة ولا يلد إلا المبطل. والألد والألوى، بمعنى واحد، وفي الحديث «أبغض الرجال إلى الله تعالى الألد الخصم» ثم لما وصفهم الله تعالى بأنهم لد وهي صفة سوء بحكم الشرع والحق وجب أن يفسد عليهم بالوعيد والتمثيل بإهلاك من كان أشد منهم وألد وأعظم قدرا ما كان يسرهم في أنفسهم من الوصف بلد فإن العرب لجهالتها وعتوها وكفرها كانت تتمدح باللد وتراه إدراكا وشهامة فمن ذلك قوله الشاعر:
[الخفيف]
إن تحت الأحجار حزما وعزما وخصيما ألد ذا مغلاق
فمثل لهم بإهلاك من قبلهم ليحتقروا أنفسهم، ويبين صغر شأنهم وعبر المفسرون عن «اللد» بالفجرة وبالظلمة وتلخيص معناها ما ذكرناه و «القرن» الأمة، و «الركز» الصوت الخفي دون نطق بحروف ولا فم وإنما هو صوت الحركات وخشفتها ومنه قول لبيد:
فتوجست ركز الأنيس فراعها عن ظهر غيب والأنيس سقامها
فكأنه يقول أو تسمع من أخبارهم قليلا أو كثيرا أو طرفا خفيا ضعيفا وهذا يراد به من تقدم أمره من الأمم ودرس خبره، وقد يحتمل أن يريد هل بقي لأحد منهم كلام أو تصويب بوجه من الوجوه فيدخل في هذا من عرف هلاكه من الأمم.
35
Icon