تفسير سورة الفرقان

حومد
تفسير سورة سورة الفرقان من كتاب أيسر التفاسير المعروف بـحومد .
لمؤلفه أسعد محمود حومد .

﴿لِلْعَالَمِينَ﴾
(١) - يَحْمَدُ اللهُ تَعَالَى نَفْسَهُ الكَرِيمَةَ، وَيَبُارِكُهَا عَلَى إِنْزَالِهِ القُرْآنَ عَلَى عَبْدِهِ وَرَسُولِهِ مُحَمَّدٍ ﷺ، وَقَدْ نَزَّلَ القُرآنَ فَرُقَاناً، يَفْرِقُ بَين الحَقِّ والبَاطِلِ، وَأَنْزَلَهُ تَعَالَى مُنَجَّماً شَيْئاً فَشَيْئاً، حَسَبَ مُقْتَضَيَاتِ الحَاجَةِ والضرورَاتِ لِيَكُونَ نَذِيراً للإِنْسِ والجِنِّ (العَالَمِينَ) مِنْ عَذَابٍ أليمٍ إِذَا استَمَرُّوا فِي كُفْرِهِمْ وَطُغَيَانِهِمْ.
تَبَارَكَ - تَعَالَى وَتَمَجَّدَ، أو تَكَاثَرَ خَيْرُهُ.
الفُرْقَانَ - القرآنَ الفاصلَ بين الحَقِّ والباطلِِ.
﴿السماوات﴾
(٢) - وَاللهُ تَعَالَى الذِي أَنْزَلَ الكِتَابَ عَلَى عَبْدِهِ محمَّدٍ، لِيَكُونَ نَذِيراً لِلعَالَمِينَ، لَهُ وَحْدَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ والأَرْضِ، وَلاَ شَرِيكَ لَهُ فِي ذَلِكَ، وَلَيْسَ لَهُ صَاحِبَةٌ وَلاَ وَلَدٌ، تَعَالَى وَتَنَزَّهَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يَقُولُه المُشْرِكُونَ، وَهُوَ خَالِقُ كُلَّ شَيء فِي الوُجُودِ وَبَارِئُهُ، وَهُوَ مَلِكُهُ وَإِلَهُهُ، وَكُلُّ شيء فِي الوُجُودِ تَحْتَ قَهْرِهِ وَتَسْخِيرِهِ وَتَقْدِيرِهِ، وَقَدْ أَوْجَدَ كُلَّ شَيءٍ بِحَسَبِ مَا اقْتَضَتْهُ إِرَادَتُهُ المَبْنِيَّةُ عَلَى الحِكَمِ البالِغَةِ، وَهَيَّأَهُ لِمَا أرادَهُ لَهُ مِنْ الخَصَائِصِ والأَفْعَالِ اللائِقَةِ بِهِ.
﴿آلِهَةً﴾ ﴿حَيَاةً﴾
(٣) - يُخْبِرُ اللهُ تَعَالَى عَنْ جَهْلِ المُشْرِكِينَ فِي اتَّخَاذِ آلِهَةٍ عبدوهَا مِنْ دُونِ اللهِ الخَالِقِ لِكُلِّ شيءٍ، المَالِكِ لأَزَمَّةِ الأمورِ، الذي ما شَاءَ كَانَ، وَمَا لَمْ يشَأْ لَمْ يَكُنْ، وَمَعَ ذَلِكَ فَإِنَّ المُشْرِكِينَ عَبَدُوا مَعهُ أصناماً لاَ تَقْدِرُ أَنْ تَخْلُقَ بَعُوضَةً، وَلاَ تَمْلِكُ لِنَفْسِها نَفْعاً وَلاَ ضَرّاً، فَكيْفَ تَمْلكُ مِثْلَ ذَلِكَ لِمَنْ يَعْبُدُونَها؟ وَلاَ تَمِلْكُ هَذِهِ الأَصْنَامُ مَوْتاً وَلاَ حَيَاةً، وَلاَ تَمْلِكُ نُشُوراً. والذي يَمْلِكُ كُلَّهُ، وَيَقْدِرُ عَلَيْهِ، هُوَ اللهُ الخَالِقُ البارِئُ، الذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ وَيَبْعَثُ الخَلاَئِقَ وَيَنْشُرُهُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ. وَمَنْ مَلَكَ ذَلِكَ كَانَ هُوَ الأَحَقَّ بالعِبَادَةِ.
نُشُوراً - بَعْثاً بعدَ المَوتِ فِي الآخِرَةِ.
﴿افتراه﴾ ﴿آخَرُونَ﴾ ﴿جَآءُوا﴾
(٤) -وَيَقُولُ الكَافِرونَ الجَهَلَةُ اسْتِكْبَاراً وعِنَاداً، إِنَّ هَذَا القُرْآنَ الذي جاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ، إِنْ هُوَ إِلاَّ كَذِبٌ تَقَوَلَّهُ مُحَمَّدٌ وَنَسَبه إِلَى رَبِّهِ (إِفْكٌ افْتَرَاهُ)، واسْتَعانَ عَلَى جَمْعِهِ وَوَضْعِهِ بِآخَرِينَ مِنْ أَهْلِ الكِتَابِ (والذي قَالَ هَذَا القولَ هُوَ أَبُو جَهْلٍ)، وَهَؤُلاَءِ الكُفَّارُ الذينَ يَقُولُونَ مِثْلَ هَذَا القَوْلِ هُمُ الذينَ يَفْتَرُونَ الكَذِبَ، وَهُمْ يَعْمَلُونَ أَنَّ مَا يَقُولُونَهُ بَاطِلٌ، وَيَعْرِفُونَ أَنَّهُمْ كَاذِبُونَ فِيمَا زَعَمُوهُ.
إِفْكٌ - كَذِبٌ.
الافْتِرَاءُ - الاخْتِلاَقُ والاخْتِرَاعُ.
الزُورُ - الكَذِبُ العَظِيمُ الذي لاَ تُبْلغُ غَايَتُهُ.
﴿أَسَاطِيرُ﴾
(٥) - وَقَالَ هَؤُلاَءِ الكُفَّارُ أيضاً: إِنَّ القُرْآنَ الذي جَاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ، إِنْ هُوَ إِلاَّ قِصَصُ الأوَّلِينَ (أساطِيرُ الأوَّلِينَ) وَكُتُبُهمْ اسْتَنْسَخَا مُحَمَّدٌ (اكْتَتَبَهَا)، فَهِيَ تُقْرَأُ عَلَيْهِ صَبَاحاً وَمَسَاءً (تُمْلَى عَلَيْهِ) خفْيَةً، لِيَحْفَظَهَا غُدْوَةً وَعَشيَّةً، فَلا يَقِفُ النَّاسُ عَلَى حَقِيقَةِ الحَالِ. وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى سُخْفِ عُقُولِهِمْ، فَهُمْ يَعْلَمُونَ أَنَّ مُحَمَّداً لاَ يَقْرَأُ وَلاَ يَكْتُبُ، وَكَانَ بينَهُمْ طَوَالَ حَيَاتِهِ حَتَّى بَعَثَهُ اللهُ إِلَيْهِمْ، وَهُمْ يَعْرِفُونَ صِدْقَهُ وَأَمَانَتَهُ، فَمَا كَانَ لِيكْذِبَ عَلَى اللهِ وَيَدَعَ الكَذِبَ عَلَى النَّاسِ - كَمَا قَالَ هِرقلُ لأَبي سُفْيَانَ بنِ حَرْبٍ.
أساطيرُ الأَوَّليِنَ - قصَصُ الأوَّلينَ المَسْطُورَةُ فِي كُتُبِهِمْ
بُكْرَةً وأصِيلاً - أَوَّلَ النَّهَارِ وآخِرَهُ - أَيْ دَائِماً.
﴿السماوات﴾
(٦) - قُلْ لَهُمْ يَا مُحَمَّدُ: إِنَّ الذِي نَزَّلَ القرآنَ هُوَ اللهُ، الذي يَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ والأَرْضِ، وَيَعْلَمُ السَّرَائِرَ، كما يَعْلَمُ الظَواهِرَ، وَهُوَ غَفُورٌ لِمَنِ اسْتَغْفَرَهُ وَتَابَ إِلَيْهِ، وَهُوَ تَعَالَى يَدْعُوهُمْ إِلى التَّوْبَةِ والإِقْلاَعِ عَمَّا هُمْ فِيهِ، وَيَعِدُهُمْ بِالمَغْفِرَةِ إِنْ تَابُوا وأَخْلَصُوا فِي تَوْبَتِهِمْ.
يَعْلَمُ السِّرَّ - يَعْلَمُ كُلَّ مَا يَغِيبُ وَيَخْفَى.
﴿مَالِ هذا﴾
(٧) - وَقَالَ هَؤُلاَءِ الكُفَّارُ، إِمْعاناً فِي عِنَادِهِمْ وَتَكْذِيِبِهِمْ: إِنَّ هَذَا الرَّسُولَ يَأْكُلُ الطَّعَامَ مِثْلَمَا نَأْكُلُ، وَيَشْرَبُ كَمَا نَشْرَبُ، وَيَتَجَوَّلُ فِي الأََسْوَاقِ طَلَباً لِلتَّكَسُّبِ والتِجَارَةِ، فَكَيْفَ يُرِيدُنَا أَنْ نَصَدِّقَهُ أَنَّهُ مُرْسَلٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ؟ وَهَلاَّ أَنْزلَ اللهُ مَلَكاً مِنْ عِنْدِهِ، فَيَكُونَ شَاهِداً لَهُ عَلَى صِدْقِهِ فِيمَا يَدَّعِيهِ؟
﴿الظالمون﴾
(٨) - وَهَلاَّ أُنْزِلَ عَلَيْهِ عِلْمٌ عَنْ مَكَانِ كَنْزٍ يُنْفِقُ مِنْهُ، أو يَكُونُ لَهُ بُسْتَانٌ (جَنَّةُ) يَأْكُلُ مِنْ ثِمَارِهِ، وَقَالَ الكَافِرُونَ، الظالِمُونَ أنْفُسَهُمْ بِكُفْرِهِمُ: إِنَّ مُحَمَّداً رَجُلٌّ مَسْحُورٌ قَدْ أَثَّرَ فِيهِ السِّحْرُ فَهُوَ يَهْذِي وَيَخْلِطُ.
وَاللهُ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُحَقِّقَ لِرَسُولِهِ جَمِيعَ مَا سَأَلُوهُ، وَقَالُوا لَهَ عَنْهُ، وَلَكِنْ، لَهُ الحِكْمَةُ فِي تَرْكِ ذَلِكَ، وَلَهُ الحُجَّةُ البالِِغَةُ، لأَنَّهُ إِنْ أجَابَهُمْ إِلَى مَا سَألُوا ثُمَّ استمَرُّوا عَلَى كُفْرِهِمْ وَإِنْكَارِهِمْ، دَمَّرَهُمُ اللهُ كَمَا دَمَّرَ الذين مِنْ قَبْلِهِمْ.
جَنَّةٌ يَأَكُلُ مِنْهَا - بُسْتَانٌ مُثْمِرٌ يَتَعَيَّشُ مِنْهُ.
رَجُلاً مَسْحُوراً - رَجُلاً غَلَبَ السِّحْرُ عَلَى عَقْلِهِ.
﴿الأمثال﴾
(٩) - فَانْظُرْ يَا مُحَمَّدُ كَيفَ عَلَيْكَ، وَكَيْفَ جَاؤُوا بِمَا يَقْذِفُونَكَ بِهِ، وَيَكْذِبُونَ بِهِ عَلَيْكَ، فاخْتَرَعُوا لَكَ صِفَاتٍ وَأَحْوَالاً بَعِيدَةً كُلَّ البُعْدِ عَنْ صِفَاتِكَ التي أنت عليها (وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ ساحِرٌ وَمَجْنُونٌ وَشَاعِرٌ وَمُغفْتَرٍ...) وَكُلَّهُا بَاطِلَةٌ، فَضَلُّوا عَنْ طَرِيقِ الحقِّ والهَدَى، وَصَارُوا حَائِرينَ مُتَرَدِّدينَ لاَ يَهْتَدُونَ إِلى سَبِيلِ الرِّشَادِ، وَلاَ يَدرُونَ ما يَقُولُونَ فِيكَ.
﴿جَنَّاتٍ﴾ ﴿الأنهار﴾
(١٠) - يُبَارِكُ اللهُ تَعَالَى نَفْسَهُ الكَرِيمَةَ، وَيُنَزِّهُهَا، عَنْ شِرْكِهِمْ، وَيَقُولُ لِنَبِيِّهِ ﷺ: إشنَّهُ إِنْ شَاءَ جَعَلَ لَكَ فِي الدُّنْيَا خيراً مِمَّا يَسْأَلُونَ: جَنَاتٍ تَجْرِي فِي جَنَبَاتِها الأَنْهَارُ، وَقُصُوراً (وَكُلُّ بَيْتٍ مَبْنِي بِالحِجَارَةِ تُسَمِّيهِ قُرَيْشٌ قَصْراً)، وَلَكِنَِّه تَعَالَى لَمْ يَشَأ ذَلِكَ، لأَنَّهُ أَرَادَ إِعْطَاءَكَ ذَلِِكَ فِي الدارِ الآخِرَةِ.
(وَيُرْوَى أَنَّ النَّبِيِّ ﷺ قِيلَ لَهُ: إٍِنْ شِئْتَ أَنْ نُعْطِيَكَ خَزَائِنَ الأَرْضِ، وَمَفَاتِيحَهَا مَا لَمْ نُعْطِ نَبِيّاً قَبْلَكَ، وَلاَ نُعْطِي أَحَداً بَعْدَكَ، وَلاَ يُنْقِصُ ذَلِكَ مِمَّا لَكَ عِنْدَ اللهِ، فَقَالَ اجْمَعُوهَا لي فِي الآخِرَةِ. فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى هَذِهِ الآيَةَ الكَرِيمَةَ).
(١١) - يَقُولُ اللهُ تَعَالَى لِرَسُولِهِ ﷺ: إِنَّ كُفَارَ قُرَيْشٍ لَمْ يُنْكِرُوا مَا جِئْتَهُمْ بِهِ من الحَقِّ، وَلَمْ يَتَقَوَّلُوا عَلَيْكَ إِلاَ لأَنَّهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ بالبَعْثِ وَالنُشُورِ والحِسَابِ، وَلاَ يُصَدِّقُونَ بِأَمْرِ الثوابِ والعِقَابِ، وَلِذَلِكَ فَإِنَّهُمْ يَتَعَلَّلُونَ بِهَذِهِ المَطَالِبِ لِيَصْرِفُوا النَّاسَ عَنٍِ الهُدَى والحَقِّ، وَقَدْ أَعَدَّ اللهُ تَعَالَى لِمَنْ يُكَذِّبُ بالسَّاعَةِ، والقِيَامَةِ، والحَشْرِ، والحِسَابِ، والثَوَابِ، ناراً أليمةً شديدَةَ الاشْتِعَالِ.
السعِيرُ - النَّارُ العظِيمَةُ الشديدةُ الاشْتِعَالِ.
(١٢) - وإذَا أصْبَحَتْ جَهَنَّمُ مِنْهُمْ عَلَى مَرَأى النَّظَرِ، وَهُمْ فِي المحشَرِ، بَعِيدُونَ عَنْهَا، سَمِعُوا لَهَا صَوْتاً يُشْبِهُ صَوْتَ المَغِيظِ المُحْنَقِ، لِشِدَّةِ تَوقُّدِهَا، وَيُشْبِهُ صَوْتَ الزَّفِيرِ الذي يَخْرُجحُ مِنْ فَمِ الحزِينِ المَكْرُوبِ المُتَحَسِّرِ.
تَغَيُّظاً - صَوْتَ غليانٍ كصوتِ المُتَغِيِّظِ.
زَفِيراً - صَوتاً شَدِيداً كَصَوْتِ الزَّافِرِ.
(١٣) - وَإِذَا أُلُقوا فِي مَكَانٍ ضَيِّقٍ مِنْهَا، وَأَيْدِيهِم مَجْمُوعَةٌ إِلى أَعْنَاقِهِمْ بالقُيُودِ والأَغْلاَلِ، نَادُوْا هُنَالِكَ طَالِبِينَ تَعْجِيلَ هَلاَكِهِمْ لِيَسْتِريحُوا مِنْ هَوْلِ العَذَابِ.
(وَقَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الآيَةِ: " إِنَّ المُجْرِمِينَ لَيُسْتَكْرَهُونَ فِي النَّارِ كَمَا ُسْتَكْرَهُ الوَتَدُ فِي الحَائِطِ ").
مقَرَّنِينَ - مَقْرُونَةً أَيْدِيهِمْ إِلى أَعْنَاقِهِمْ بِالأَغْلاَلِ.
ثُبُوراً - وَيْلاً وَهَلاَكاً فَقَالُوا واثُبُورَاهُ.
(١٤) - فَيُقَالَ لَهُمْ تَوْبِيخاً وَتَقْرِيعاً: لاَ تَطْلبُوا اليومَ هَلاَكاً وَاحِداً بَلِ اطْلبُوهُ مِرَاراً، فَلَنْ تَجِدُوا لَكُمْ خَلاَصاً مِمّا أَنْتُمْ فِيهِ.
(وَقَالَ رسُولُ الله ﷺ: " أَوَّلُ مَنْ يُكسَى حُلَّةً مِنَ النَّارِ هُوَ إِبْلِيسُ فَيَضَعُهَا عَلَى حَاجِبِه، وَيَسْحَبُها مِنْ خَلْفِهِ؛ وَذُرِّيَتهُ مِنْ بَعْدِهِ، وَهُوَ يُنَادِي واثُبُوراه. وَيَقُولُونَ يَاثُبُورَهُمْ، فَيُقَالُ لَهُمْ: لا تَدْعُوا اليوم ثُبُوراً وَاحِداً وادعُوا ثُبُوراً كثيراً "). (رواهُ أحْمَدُ عَنْ أَنَسِ بنِ مالكٍ).
(١٥) - قُلْ يَا مُحَمَّد لِهَؤُلاَءِ المُكَذِّبِينْ: أَهَذَا الَّذِي وَصَفْنَاهُ لَكَ مِنْ حَالِ الأَشْقِيَاءِ، الّذِينَ يُحْشَرونَ عَلَى وُجُوهِهِم إلى جَهَنَّمَ، فَتَتَلَقَّاهُمْ بِوجِهٍ عَبُوسٍ وَتَغَيُّظٍ وَزَفِير، وَيُلْقُونَ في أَمَاكِنَ ضَيِّقَةٍ مِنْها مُقْرَّنِين، لا يَسْتِطِيعُونَ حَرَاكاً وَلاَ اسْتنصَاراً مِمَّا هُم فِيهِ... أَذِلِكَ خَيرٌ أمْ جنَّة الخُلدِ الَّّتِي وَعَدَ اللهُ بِها عِبَادَه المُتَّقِين، وَأَعَدَّها لَهُم لِتَِكُونَ لَهُم جَزاءً وَمصِيراً عَلى مَا أَطَاعُوا رَبَّهم فِي الدُّنيا؟
﴿يَشَآءُونَ﴾ ﴿خَالِدِينَ﴾ ﴿مَّسْئُولاً﴾
(١٦) - وَلَهُم فِي الجَنَّةِ مَا يَشْتَهُونَ مِنَ المآكِلِ، وَالْمَشَارِبِ، وَالمَلاَبِسِ، وَالمَسَاكِنِ، وَالمَنَاظِرِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا لاَ عَيْنٌ رَأتْ وَلاَ أُذنٌ سَمِعَتْ، وَهُمْ فِي ذَلِكَ خَالِدُونَ أَبَداً سَرمَداً، وَلاَ يَبْغُونَ عَمَّا هُمْ فِيهِ تَحَوُّلاً وَلاَ زَوَالاً، وَهَذَا كُلُّه مِن فَضْلِ الله، تَفَضَّل بِهِ عَلَيْهِمِ، وَأَحْسَن بِهِ إِلَيْهِمْ، وَهُوَ وَعْدٌ مِنْ اللهِ وَاجِبٌ الوُقُوعِ، وَلاَ بُدَّ مِنْ أَنْ يَقَعَ.
وَعْداً مَسؤُولاً - وَعْداً حَقِيقاً بِأنْ يُسأَلَ وَيُطْلَب.
﴿أَأَنتُمْ﴾
(١٧) - يُخْبِرُ الله تَعَالَى عَمَّا يَقَعُ يَومَ القِيَامَةِ مِنْ تَقْرِيعٍ للكُفَّارِ عَلى عِبَادَتِهم الأَصْنَامَ، وَالأَوْثَانَ، وَالمَلائِكَةَ، وَعِيسَى، وَعُزَيْراً، وَغيرَهم، فَيَحْشُرُ اللهُ العَابِدِينَ والمَعْبُودِينِ إِلَيهِ، وَيَسْأْلُ المَعْبُودِين فَيقُولُ لَهُم: أَأَنْتُم دَعَوْتُم هَؤُلاءِ إِلى عِبَادَتِكم مِن دُوني، أَمْ هُم الَّذِينَ ضَلُّوا سَبِيلَ الهُدَى باخْتِيَارِهم، فَعَبَدُوكم مِن تِلْقَاءِ أَنْفُسِهِمْ مِن غَيرِ دَعوةٍ مِنْكُم لَهُم؟
﴿سُبْحَانَكَ﴾ ﴿نَسُواْ﴾
(١٨) - فَيُجِيب المعْبُودُون قَائِلين: سُبْحَانَك وَتَنزَّه اسْمُكَ يَا رَبَّنا، ليس لِلخَلائِق جَمِيعاً أَنْ يعبُدوا أَحَداً سِوَاك، لا نَحنُ وَلا هُم، وَنَحنُ لَم نَدْعُهمْ إِلى ذَلك، بَلْ هُم فَعَلُوهُ مِنْ تِلقَاءِ أَنْفُسِهمْ مِنْ غيرِ أَمرِنا وَلارضَانَا، وَنحنُ بَراءٌ مِنْهُم، ومِنْ عِبَادِتهمْ، وَلكِنَّ السَّببَ فِي كُفْرِهِم هُو أَنَّك يا ربَّنا أكثرتَ عَليهِم وَعَلى آبائِهم نِعمكَ، لِيَعرفُوا حَقَّها وَيَشْكُروكَ عَليها، فَاسْتَغرقُوا في الشَّهَواتِ، وَانهمكوا فِي المَلَذَّاتِ، وغَفَلُوا عَنْ ذِكْرِكَ فَكَانُوا مِن الهَالِكِينَ.
قَوْماً بُوراً - هالِكِينَ بائِرينَ.
نسوْا الذِّكر - غَفَلُوا عن دَلاَئِل الوَحْدَانِيَّة.
(١٩) فَيُقَال لِهَؤُلاءِ المُشْرِكِين الَّذين عَبَدُوا مَعَ اللهِ غَيْرَهُ حِينئذٍ: لَقَدْ رَأَيتُم أَنّ الَّذِين عَبَدْتُموهُم مِن دُونِ الله، وَزَعمْتُم أَنَّهم أَوْلِياؤُكُم يُقَرِّبُونَكم إِلى اللهِ زُلْفَى يَوْمَ القِيَامَةِ، قَدْ كَذَّبُوكُمْ فِيما تَقُولُونَ، وَها أَنْتُمْ فُرَادَى ضِعَافٌ أَمَامَ الخَالِقِ القَوِيِّ الدَّيَّانِ، لاَ تَسْتَطِيعُونَ صَرِفَ العَذَابِ عَنْ أًنْفُسِكُمْ، وَلا الانْتِصَارَ لَها، وَلا تَجِدُونَ نَصْراً مِنْ أَحَدٍ يَصْرِفُ العَذابَ عَنْكُمْ، فَأَنْتُمْ مُعَذَّبُونَ لا مَحَالَةَ. وَلْيَعْلَمِ العِبَادُ جَمِيعاً أَنًَّ مَنْ يَظْلِمْ نفسَهُ بِالكُفْرِ وَالطُّغْيَانِ كَمَا فَعَل أُولِئكَ، فَإِنَّنا سَنُعَذِّبُه عَذَاباً أَلِيماً.
صَرْفاً - دَفْعاً لِلْعَذَابِ عَنْ أَنْفُسِكُمْ.
(٢٠) - وَيَرُدُّ اللهُ تَعَالى عَلَى هَؤُلاءِ، وَهُوَ يُخَاطِبُ رَسُولَه ﷺ قَائِلاً: إِنَّهُ تَعَالَى لَمْ يُرْسِلِ الرُّسُلَ قَبْلَ مُحَمَّدٍ إِلاَّ مِنَ البَشَرِ يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَتَزَوَّجُونَ، وَيَتَكَسَّبُونَ بِالعَمَلِ، وَلَيسَ فِي ذَلِكَ غَرَابةٌ، وَلا مُنَافَاةٌ لِحَالِ النُّبُوَّةِ. وَجَعَل اللهُ للأَنْبِيَاءِ مِنْ حًسْنِ القَوْلِ، وَمِمّا أَجْرَاهُ عَلَى أَيْدِيهِمْ مِنَ الآيَاتِ، دَلاَئِلَ وَحُجَجاً عَلَى صِحَّةِ دَعْوَتِهِمْ، وَصِدْقِ ما جَاؤُوا بهِ أَقْوَامَهُم، وَجَعَلَ اللهُ بَعْضَ النَّاسِ ابْتِلاءً لِبَعْضٍ، وَالمُفْسِدُونَ يُحَاوِلُونَ سَدَّ الطَّرِيقِ إِلى الهِدَايةِ وَالحَقِّ، بَشَتَّى الأًسَالِيب، فَهَلْ تَصْبِرُونَ يَا أَيُّها المُؤْمِنُونَ عَلَى هذا الابتِلاءِ، وَتَتَمسَّكُونَ بِدِينِكُمْ حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِنَصِرِهِ؟ فَإنّ الله تَعَالَى بَصِيرٌ مُطَّلِعٌ عَلى أًَحْوَالِ العِبَادِ، وَسَيُجَازِي كُلَّ وَاحِدٍ عَلَى عَمَلِهِ.
فِتْنَةً - ابْتِلاءً وَمِحْنَةً.
﴿الملائكة﴾ ﴿وَعَتَوْا﴾
(٢١) - وَقَالَ الذِينَ كَفَرُوا وَأَنْكَرُوا البَعْثَ، وَالنُّشُورَ، وَالجَزَاءَ، وَكَذَّبُوا رَسُولَ اللهِ فِيما جَاءَهُمْ بِهِ مِنْ عِنْدِ رَبِّهم: هلاَّ أُنْزِلَ عَلَينا المَلاَئِكَةُ مِنْ عِنْدِ اللهِ فَنَرَاهُمْ عِيَاناً لِيُخْبِرُونا أَنَّ مُحَمَّداً رَسُولُ اللهِ حَقاً، فَإِنَّا فِي شَكٍّ وَمِرْيةٍ مِنْ أمْرِهِ. وَإِذَا لَمْ يَكُنْ هَذا فَلْنَرَ رَبَّنا فَيُخْبِرَنا أَنَّهُ أَرْسَل إِلينا رَسُولاً، وَيَدْعُونا إِلى طَاعَتِه وَتَصْدِيقِهِ. وَيَرُدُّ اللهُ تَعَالَى عَلى اقْتِرِحَاتِ هَؤُلاءِ المُقْتَرِحِينَ قَائِلاً: لَقَدِ اسْتَكْبَرَ هَؤُلاءِ المُشْرِكُونَ فِي شَأنِ أَنْفُسِهِمْ، وَتَجَاوَزُوا الحَدَّ في العُتُوِّ والظُّلْمِ وَالطُّغْيَانِ.
لاَ يَرْجُونَ لِقَاءَنا - لاَ يُؤْمِنُونَ بِأَنَّهُمْ سَيُلاَقُونَ رَبَّهُمْ فِي الآخِرَةِ.
عُتُوّاً - تَجَاوُزَ الحَدِّ فِي الظُّلْمِ وَالطُّغْيَانِ وَالتَّكَبُّرِ.
﴿الملائكة﴾ ﴿يَوْمَئِذ﴾
(٢٢) - وَيَقُولُ اللهُ تَعَالَى لِهؤلاءِ المُكَذِّبينَ: إِنَّهُمْ حِينَ يَرَوْنَ المَلاَئِكَةًَ في سَاعَةِ احْتِضَارِهِمْ، وَدُنُوِّ أَجَلِهم فَتُبِشِّرُهُم المَلائِكَةُ بِعَذَابٍ أليمٍ مِنَ اللهِ وَيَضْرِبونَ وَجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ لإِخْرَاجِ أَرْوَاحِهِمْ، فَيَكُونَ ذَلِكَ اليَومُ يَوْماً عَسِيراً عَلَى الكَافِرِينَ، لاَ يَومَ بِشَارَةٍ لَهُمْ بِالكَرَامَةِ وَالجَنَّةِ وَالمَغْفِرَةِ. وَتَقُولُ الملاَئِكَةُ لِهَؤُلاَءِ المُجْرِمِينَ: حَرَامٌ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُم الفلاَحُ اليومَ، وَحَرَامٌ عَلَيْكُمْ البُشْرَى - أَيْ جَعَلَ اللهُ البُشْرَى والجَنَّةَ عَلَيْكُمْ حَرَاماً مُحَرَّماً، (وَقِيلَ إِنَّ هَذَا يَكُونُ يَوْمَ القِيَامَةِ لاَ عِنْدَ الموتِ، وَلاَ مُنَافَاةَ بَينَ القولَيْنِ، فَيَوْمَ المَمَاتِ وَيومَ الحشرِ تَظْْهَرُ المَلاَئِكَةُ للخَلائِقِ فَيُبَشِّرُونَ المُؤْمِنِينَ بِالخَيرِ والرَّحْمَةِ، وَيُبشِّرُونَ الظَّالمِينَ بالوَيْلِ والثُّبورِ).
حِجْراً مَحْجُوراً - حَرَاماً مُحَرَّماً.
﴿فَجَعَلْنَاهُ﴾
(٢٣) - وَهَؤُلاءِ المُجْرِمُونَ عَمِلُوا فِي حَيَاتِهِمُ الدُّنْيَا أَعْمَالاً ظَنُّوهَا حَسَنَةً مُفِيدَةً: كَصِلَةِ الأَرْحَامِ، وَإِغَاثَةِ المَلْهُوفِ، والمَنِّ عَلَى الأًَسِيرِ.. مِمَّا لَوْ كَانُوا عَملُوهُ مَعَ الإِيْمَانِ لَنَالُوا ثَوَابَهُ، فَعَمَدَ اللهُ تَعَالَى إٍِلى مَحَاسِنِ أَعْمَالِهِمْ هَذِهِ فًَجَلَهَا كَالهَبَاءِ المَنْثُورِ الذي لاَ يُفْيدُ ولا يَجْمَعُ.
(وَقَدْ مَثَّلَ اللهُ حَالَهُمْ بِحَالِ قَوْمٍ خَالَفُوا سُلْطَانَهُمْ، واسْتَعْصَوا عَلَيْهِ، فَقَصَدَ إِلى مَا بينَ أيديهِمْ فأفْسَدَهُ وَبَعْثَرَهُ وَلَمْ يَتْرُكْ لَهُ أَثَراً).
الهَبَاءُ - الرَّمَادُ أو ما تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ.
المَنْثُورُ - المُفَرَّقُ المُبَعْثَرُ.
﴿أَصْحَابُ﴾ ﴿يَوْمَئِذٍ﴾
(٢٤) - وَيَوْمَ القيامَةِ يَصِيرُ المُؤْمِنُونَ الصَّالِحُونَ فِي الجَنَّاتِ العَالِيَاتِ والغَرَفِ الآمِنَاتِ، فَهُمْ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ حَسَنِ المَنْظَرِ، طَيِّب المُقَامِ، والكُفَارُ يَكُونُونَ فِي دَرَكَاتِ النارِ السَّافِلاَتِ، فَأصْحَابُ الجَنَةِ خَيْرٌ مَنْزِلاً وَمْسْتقرّاً مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ الذينَ كَانُوا يَفْتَخِرُونَ بِأَمْوَالِهِمْ ومَنَازِلِهِمْ فِي الدُّنْيَا.
مَقِيلاً - مَكَانَ اسْتِرْوَاحٍ وَتَمَتُّعٍ وَقْتَ الظَّهِيرَةِ.
﴿بالغمام﴾ ﴿الملائكة﴾
(٢٥) - وَاذكُرْ أَيَّهَا الرَّسُولُ لِقَوْمِكَ أهوالَ يومِ القِيَامَةِ، ومَا يَقَعُ فيهِ مِنَ الأُمُورِ العِظَامِ، إِذْ تَتَفَتَّتُ الشُّمُوسُ والكَوَاكِبُ، وَتَنْتَشِرُ فِي جَوِّ السَّمَاءِ كَالغَمَامِ المُتَشَقِّقِ، وَتَنْزِلُ المَلاَئِكَةُ نُزُولاً مُؤَكَّداً بِصَحَائِفِ أعمَالِ العِبَادِ، لِتُقَدَّمَ لدى العَرْضِ والحِسَابِ، وَتَكُونَ شاهِدَةً عَلَيْهِمْ لدَى الفَصْلِ والقَضَاءِ، وتُحِيطُ بِالخَلاَئِقِ فِي مَقَامِ المَحْشَرِ.
نُزِّلَ المَلاَئِكَةُ تَنْزِيلاً - نُزِّلَتِ المَلاَئِكَةُ نُزُولاً مُؤَكَّداً.
تَتَشَّقَق السَّمَاءُ بالغَمَامِ - تَتَفَتَّحُ السَّمَاوَاتُ بالسَّحَابِ الأَبْيَضِ الرَّقِيقِ.
﴿يَوْمَئِذٍ﴾ ﴿الكافرين﴾
(٢٦) -وَيَكُونُ المالِكُ الحقُّ فِي ذَلِكَ اليومِ هُوَ الله وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، ولاَ مَلِكَ غَيْرُهُ. وَهُوَ يَوْمٌ صَعْبٌ شَدِيدُ الهَوْلِ عَلَى الكَافِرِينَ، لأَنَّهُ يَوْمُ عدلٍ، وَقَضَاءٍ، وَفَصْلٍ، وَيَعْلَمُونِ فِي ذَلِكَ اليومِ مَا قَدَّمُوا مِنْ سَيِّئِ العَمَلِ، وَمَا أَسْلَفُوا مِنْ كُفْرٍ بِرَبِّ العِبَادِ، وَتَكْذِيبٍ لأَنْبِيائِهِ، وَمِنْ عَمَلٍ أَثِيمٍ.
﴿ياليتني﴾
(٢٧) - وَيَنْدَمُ فِي ذَلِكَ اليومِ الظَّالِمُونَ الكَافِرُونَ، الذين تَرَكُوا طَريقَ الرَّسُولِ، وَكَفُرُوا بِمَا جَاءَهُمْ بِهِ مِنْ عِنْدِ اللهِ تَعَالَى مِنَ الحَقِّ المُبِينِ، وَيَعَضُّونَ عَلَى أَيْدِيهِمْ نَدَماً عَلَى مَا فَرَّطُوا فِي جَنْبِ اللهِ، وَيَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا اتَّبَعْنَا طَرِيقَ الرَّسُولِ المُوصِلِ إِلى الجَنَّةِ، وَلَكِنَّ النَّدَمَ لاَ يَنْفَعُهُمْ حِيْنَئِذٍ.
(وَيُرَوَى أَنَّ هَذِهِ الآيَةَ نَزَلَتْ فِي عُقْبَةَ بن أَبِي مُعَيْطٍ، إِذْ كَانَ يَزْجُرُ أُبَيَّ بْنَ خَلَفَ لِحَضُورِهِ مَجْلِسَ رَسُولِ اللهِ ﷺ).
﴿ياويلتى﴾
(٢٨) - وَيَقُولَ الظَالِمُ فِي ذَلِكَ اليَوْمِ مُتَحَسِّراً: يَا خَسَارَهُ وَيَا هَلاَكَهُ، وَيَا لَيْتَهُ لَمْ يَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً وَصَدِيقاً (وَيَذْكُرُ اسمَ من أَضَلَّهُ وَصَرَفَهُ عَنِ الحَقِّ والهُدَى)، وَيَتَمَّنى لَوْ أَنَّهُ لَمْ يَسْتَمِعْ إِلَيْهِ، وَلَمْ يَسْتَجِبْ لِدَعْوَتِهِ.
﴿الشيطان﴾ ﴿لِلإِنْسَانِ﴾
(٢٩) - لَقَدْ أَضْلَّنِي هَذَا الصَّدِيقُ عَنِ الإِيْمَانِ بالقُرْآنِ بَعْدَ بُلُوغِهِ إِلَيَّ، وَمَنَّانِي بالنَّصْرِ والفَلاَحِ، وَمِنْ عَادَةِ الشَّيْطَانِ أَنْ يُمَنِّي وَيَعِدَ، وَيُمَنِّي كَذِباً وَغُرُوراً، وَأَنْ يَخْذُلَ الإِنْسَانَ يَوْمَ القِيَامَةِ، وَيَتْرِكَهُ لِمَصِيرِهِ، وَيَقُولَ لأَوْلِيَائِهِ: ﴿إِنَّ الله وَعَدَكُمْ وَعْدَ الحق وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ.﴾ (وَقِيلَ بَلْ إِنَّ المَقْصُودَ مِنْ هَذِهِ الآيَةِ: أَنَّ الشَّيْطَانَ يُخَذِّلُ الإِنْسَانَ عَنِ الحَقِّ، وَيَصْرِفُهُ عَنْهُ، وَيَسْتَعْمِلُهُ فِي البَاطِل وَيَدْعُوهُ إٍِلَيْهِ).
خَذُولاً - كَثِيرَ الخِذْلاَن لِمَنْ يُوَالِيهِ.
﴿يارب﴾ ﴿القرآن﴾
(٣٠) - وَقَالَ الرَّسُولُ مُشْتَكِياً إِلَى رَبِّهِ: يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمي اتَّخُذُوا هَذَا القُرْآنَ مَهْجُوراً، أَيْ أَنَّ قَوْمِي الّذِينَ بَعَثْتَني إِلَيْهِمْ لأَدْعُوَهُمْ إِلى تَوْحِيدِكَ، وَأَمَرْتَني بِإِبْلاَغِ القُرْآنِ إِلَيْهِم، قَدْ هَجرُوا كِتَابَكَ، وَتَرَكُوا الإِيمانَ بِكَ، وَلَمْ يَأَبَهُوا بِوَعِيدِكَ، بل أعْرَضُوا عنِ استماعِهِ واتِّبَاعِهِ.
مَهْجُوراً - مَتْرُوكاً مُهْمَلاً.
(٣١) - وكَمَا جَعَلْنَا لَكَ أعْدَاءً من المُشْرِكينَ يَتَقَوَّلُونَ عليكَ الترّهَاتِ والأبَاطِيلَ، كذلكَ جعَلْنَا لكلِّ نَبيٍّ من الأنبياءِ السَّابِقِينَ أعداءً لهُمْ من شَياطينِ الإِنسِ والجنِّ، يُقَاوِمُون دعْوَتَهم، ويُزْعِجُونَهم، وَيُكَذِّبُونَهُمْ، فلا تَحْوَنْ يَا مُحَمَّدُ عَلَيهِمْ، فَهَذا دَأْبُ الأنبياءِ قَبْلَكَ، فاصبِرْ كما صَبَرُوا. وحَسْبُكَ بِرَبِّكَ هادِياً لَكَ إلى مَصَالِح الدين والدُّنْيَا، وسينصُرُك على أعدائِكَ، ويُبَلِّغُكَ غايةَ ما تَطْلُبُ، ولا يَهُولَنَّكَ كَثْرَةُ عَدَدِهِم فإِنَّه تعالى جَاعلٌ كلمَتَه هي العُلْيا لا مَحَالَة.
﴿القرآن﴾ ﴿وَاحِدَةً﴾ ﴿وَرَتَّلْنَاهُ﴾
(٣٢) - وقالً اليَهُودُ: هَلاَّ أُنْزِلَ القرآنُ على مُحَمدٍ دُفَعةً واحِدةُ كما أُنْزِلت الكُتبُ السابقةُ على الأنبيَاءِ. وَيُرُدُّ اللهُ تَعالى عَلى قَوْلِهِمْ هذا، قائلاً: إنهُ إنما أُنزلَ القُرآنُ مُنَجًَّماً في ثَلاثٍ وعِشرينَ سَنةً بحَسَبِ الوَقَائِعِ، وما يُحْتَاجَ إليه منَ الأَحكَامِ لِيُثَبِّتَ قُلوبَ المُؤمنينَ بهِ، ويُثَبِّتَ قَلْبَ الرّسولِ ﷺ، وقد أنزَلَهُ اللهُ على مَهْلٍ هكَذا على رَسُوله، وقَرَأَهُ عليهِ، بلِسانِ جِبريلَ عليهِ السَّلامُ، شَيئاً فَشَيئاً لِيتَمَكنَّ مِنْ حِفْظَهِ واسْتِيعابِهِ.
رتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً - فَرَقْنَاه آيةً بعدَ آيةٍ، أَو بَيَّنَّاهُ.
﴿جِئْنَاكَ﴾
(٣٣) - ويَقُولُ اللهُ تَعَالى لنبيهِ: إِنَّ هؤلاءِ الكُفَّارَ لا يَأْتُونَ بِحُجَّةٍ وشُبْهَةٍ (مَثَلٍ)، ولا يقُولُونَ قَوْلاً يُعارِضُونَ بهِ الحَقَّ، إلا آتَى اللهُ نَبيَّهُ من الحَقِّ ما يَدْحَضُ بِه شُبَهَهُمْ، ويدْفَعُ بِهِ حُجَجَهُمْ وتَعَنُّتُهمْ، ويكُونُ ذلكَ أوْضَحَ وأفْصَحَ مِنْ مَقَالَتِهِمْ.
(وقالَ ابنُ عَبَّاسٍ: ولا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ يَلْتَمسُونَ بِهِ عَيْبَ القُرآنِ والرَّسُولِ إِلاَّ أَنْزَلَ جِبْرِيلَ بِجَوَارِيِهِمْ).
أحْسَنَ تَفْسيراً - أصدقَ بيَاناً وَتْفْصِيلاً.
﴿أولئك﴾ (٣٤) - وإنِّي لا أقولُُ لَكُمْ كما تَقُولونَ، ولا أصِفُكُمْ بمِثْلِ ما تَصِفُونَنِي بهِ، بلْ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ الذينَ يُسْحَبُون إِلى جَهنَّمَ، ويُجَرُّونَ فيها بالسَلاسِلِ والأغْلاَلِ على وُجُوهِهمْ، هُمْ شَرُّ مَكَاناً، وأضلُّ سَبيلاً. فَفَكِّرُوا وقُولوا قَوْلَ مُنِصِفٍ: مَنْ هُوَ الأَوْلَى مِنَّا ومِنْكُم بهذهِ الأوصَافِ.
﴿آتَيْنَا﴾ ﴿الكتاب﴾ ﴿هَارُونَ﴾
(٣٥) - ولقَدْ أنْزَلنا التوراةَ على مُوسَى، كما أنزلْنَا عليكَ القرآنَ يا مُحمدُ، وجعلنا مَعَهُ أخَاهُ هارونَ وزيراً وظَهِيراً ومُعِيناً.
﴿بِآيَاتِنَا﴾ ﴿فَدَمَّرْنَاهُمْ﴾
(٣٦) - وأرْسَلَهُمَا اللهُ تَعالى إلى فِرعَونَ وقَوْمِهِ، فَكَذَّبُوا بآياتِ اللهِ، فَدَمَّرَهُمُ اللهُ تَدْمِيراً، وأغْرَقَهُمْ في صَبيحةٍ واحدةٍ.
التَّدْمِيرُ - كَسْرُ الشَّيءِ كَسْراً لا جَبْرَ لَهُ.
﴿أَغْرَقْنَاهُمْ﴾ ﴿وَجَعَلْنَاهُمْ﴾ ﴿آيَةً﴾ ﴿لِلظَّالِمِينَ﴾
(٣٧) - وَاذْكُرْ قَوْمَ نُوحٍ حِينَ كَذَّبُوا رَسُولَهُمْ نُوحاً عليهِ السَّلامُ، وقَدْ لَبِثَ فيهمْ أمَداً طَويلاً يَدْعُوهُم إلى اللهِ، ويُحَذِّرُهُمْ نِقَمَهُ، فلَم يُؤْمِنْ لَهُ إلا قليلٌ منهمْ (كما جَاءَ في آيةٍ أُخْرى)، فأغْرَقَهُمُ اللهُ جَمِيعاً بالطُّوفان، ولمْ يُبْقِ مِنْهُم إلا مَنْ كَانَ في السَّفينةِ مَعَ نُوحٍ، وَجَعَلُهُمُ اللهُ عِبْرَةً للنَّاسِ، وقَدْ أعَدَّ اللهُ للكَافرينَ الظَّالمينَ عَذَاباً أليماً في الدُّنيا والآخِرَةِ.
(وفي هذا تَحْذيرٌ لقُرَيِشٍ بأَنَّهُمْ سَيَحِلُّ بهِمْ ما حَلَّ بالأُمَمِ السَّالِفَةِ).
﴿وَثَمُودَاْ﴾ ﴿وَأَصْحَابَ﴾
(٣٨) - وقَدْ كَذَّبَ قومُ عَادٍ رَسُولَهُمْ هُوداً عليهِ السَّلامُ، وكَذَّبَ قومُ ثَمُودَ نَبيَّهمْ صَالحاً، وكذَّبَ أصحابُ الرَّسِّ رسولَهُم، وقد كَذَّبَتْ جميعُ هذه الأقوامِ رسُلَهَا فأهْلَكَها الله، كما أهْلَكَ أُمَماً وأقْواماً آخَرينَ (قُروناً) غيرَ هؤلاءِ لَمَّا كَذَّبُوا رسُلَهُمْ.
الرَّسذُ - البِئْرُ غيرُ المَطْوِيَّةِ أي غَيْرُ المَبْنِيَّةِ.
وقِيل الرَّسُّ وادٍ - مِنْ قَوْلِهِمْ " فَعُنَّ ووادي الرَّسِ كاليَدِ للْفَمِ "؟
وَقَالَ ابنُ عَبَّاسٍ: الرَّسُّ قَرْيَةٌ مِنْ قُرى ثَمودَ.
﴿ضَرَبْنَا﴾
(٣٩) - وقد بَيَّنَ اللهُ تعالى لهؤلاءِ الأقْوَامِ جميعاً الآياتِ والحُجَجَ والبراهينِ الدَّالةَ عَلى صِدْقِ مما جَاءَتْهُم بهِ النُّبُّواتُ، فلَمْ يَتَّعِظُوا ولم يُؤْمنوا، فأَهْلَكَهُمُ اللهُ إهْلاكاً عَجِيباً.
التَّتْبِيرُ - التَفْتِيتُ والتَّكْسِيرُ والإِهْلاَكُ.
(٤٠) - ويقولُ اللهُ تَعالى لرَسُولِه الكريم: إِنَّ قَوْمَكَ يا مُحَمدُ مَرُّوا بقُرَى قومِ لوطٍ، ورَأَوْا كيفَ أَهْلَكَها اللهُ ودمَّرَها، وأَمْطَرَ عليها حِجَارَةً من سِجِّيْلٍ (قِرْمِيدٍ مَشْوِيٍّ) بسََبَبِ ظُلمِ أهْلِها، وكُفْرِهِمْ، وفَسَادِهِمْ، فَهَلاَّ اعتَبَرُوا بما حَلَّ بِهؤلاءِ مِنَ العَذَابِ والنَّكَالِ؟ إِنَّ الذين مرُّوا بها رَأَوْا بأعْيُنِهِمْ ما حَلَّ بها ولكنَّهُمْ لم يَعْتَبِرُوا لأنَّهُمْ لا يُؤْمِنُونَ بالآخِرَةِ والمَعَادِ يومَ القيامةِ، ولاَ يَعتقِدُون أنهُمْ سيُنْشَرُون، وأنّ الله تَعالى سَيُعيدُ خَلْقَهُم ليحاسِبَهُم على أعمالِهمْ في الحياةِ الدُّنْيا، ولذِلكَ فإِنَّهُمْ لا يُوقِنِون بأنهُ سَيكونُ هناكَ ثوابٌ وعقابٌ وحسابٌ فَيَرْدَعُهُمْ عن كفْرِهِمْ ومعاصِيهِمْ.
مَطَرَ السَّوْءِ - حجارةً مُهْلِكَةً من السَّماءِ.
لا يَرْجُونَ نُشُوراً - يُنْكِرُون البَعْثَ ولا يَتَوقَّعُونَهُ.
(٤١) - وإذا رآك هَؤلاءِ المُشْرِكُونَ الذينَ قَصَصْتُ عليكَ قِصَّتَهُمْ اتَّخَذُوكَ مَوْضِعَ هُزْءٍ وَسُخْرِيَةٍ، وقالوا مستهزئين: أهذا الذي بعثَهُ اللهُ إلينا رسُولاً لِنَتَّبِعَهُ ونُؤمِنَ برسالَتِهِ؟
هُزُواً - مَهْزَوءاً بِه.
﴿آلِهَتِنَا﴾
(٤٢) - ويَقُولُ بعضُهُم لِبَعضٍ: إِنَّ هذا الرَّسولَ كادَ أَن يَثْنِيَهُمْ عن عبادةِ أصْنَامِهِم، بقوَّةِ حُجَّتِهِ، وحُسْنِ بَيَانِهِ، لَولا أنَّهُمْ صَبَرُوا وتَجَلَّدُوا واستَمَرَّوا على عبادَتِها.
ويردُّ اللهُ تعالى على قولِهِمْ هذا مُتَوَعِّداً: إنَّهُم يُكذِّبُون الآنَ بما جَاءَهُمْ بهِ الرَّسُولُ من دَعْوَةٍ إلى الإيمانِ باللهِ وكُتُبِه ورُسُلِهِ، ولكنَّهُم حِين يَرَوْنَ العَذَابَ الأليمَ في نارِ جهنَم، يُدْرِكون أنَّ الرّسولَ صَدَقَهُمُ القَوْلَ، والدَّعوةَ والتَّحذيرَ، وأنهُ كَانَ عَلى هُدىً وحَقٍّ، وأَنَّهم كَانُوا عَلى ضَلالٍ بِرَفْضِهِمُ الاستجَابةَ إليهِ، واتباعَ رسَالَتِه.
﴿أَرَأَيْتَ﴾ ﴿هَوَاهُ﴾
(٤٣) - انْظُرْ إلى حَالِ الذي جَعَلَ هَوَاهُ إلهَهُ، بأَنْ أطَاعَهُ وبَنَى عليهِ أمرَ دِينهِ، وأعْرَضَ عن استماع الحَقِّ، والحُجَجِ، والبَراهِينِ الواضِحَةِ الدَّالَّةِ على وَحْدَانِيَّةِ اللهِ، وعظيمِ قُدْرَتِه، واعْجَبْ منْهُ، ولا تَعْبَأْ بِهِ فإِنَّكَ لستَ حَفيظاً عليهِ، وليسَ عَلَيْكَ هُدَاهُ، وإِنّما عَليكَ إبلاغُهُ الرِّسَالَةَ، ثُمّ إِنْ شَاءَ اللهُ هَدَاه، وإِنْ شَاءَ أضَلَّهُ.
(وقالَ ابنُ عَباسٍ: كانَ الرجلُ في الجَاهليةِ يَعْبُدُ الحَجَرَ الأَبْيَضَ، فإِذَا مَا رَأَى أحْسَنَ منهُ عبدَ الثانيَ، وتَرَكَ الأَوَّلَ، فأنزَلَ اللهُ تَعالى هذهِ الآيةَ).
وَكِيلاً - حَفيظاً تَمْنَعُهُ مِنْ عِبَادَةِ ما يَهْوَاهُ.
أَرَأَيْتَ - أخْبِرِنِي.
﴿كالأنعام﴾
(٤٤) - هَلْ تَطُنُّ يا محمدُ أنَّ هؤلاءِ المُشرِكينَ يَسمَعُون أو يَعْقِلونَ؟ إنهم في الحَقيقَةِ لا يَسْمعُونَ حقَّ السَّماعِ، ولا يُدْرِكُون حقَّ الإِدْرَاكِ ولا يفْهَمُونَ فَهْما صَحِيحاً ما تَتْلُوه عليْهِمْ مِنَ الآياتِ والمواعظِ الداعِيَةِ إلى الإيمانِ وإلى الخَيْرِ، حَتَّى تَجْتَهِدَ في دَعْوَتِهِمْ، وتَحْفِلَ بِإرشَادِهِمْ، وتذكيرِهِمْ، وتَطْمَعَ في إيمَانِهِمْ، فَهُمْ أَسْوَأُ من الأنْعَامِ السَّارِحَةِ، وأضَلُّ سَبيلاً، لأنَّ الأنْعَامَ السَّارِحَةَ تنقَادُ لصَاحِبِها الذي يَتَعَهَّدُهَا، وتعرفُ مَنْ يُحْسِنُ إليها ومن يُسيءُ، وتطلبُ ما يَنفَعُها، وتَجتنبُ ما يَضرُّها، وتَهتدِي لمَرْعَاها ومَشْرَبِها.
أما هؤلاءِ المُشركونَ فإنهمْ لا يَنْقادُونَ لَخَالِقِهِمْ وبارِئِهم، ولا يَعْرِفُونَ إحْسَانَهُ إليهم، ولا يعْرِفُونَ إساءَةَ الشيطانِ وعَدَاوتَهُ لَهُم، وهوَ الذي يزيِّنُ لهمُ الكُفْرَ واتِّباعَ الشَّهَواتِ.
(٤٥) - يبينُ اللهُ تعالى الأدلةَ على وجُودِه، وعلى قُدْرَتِهِ التَّامَّةِ على خَلْقِ الأشياءِ المُتضَادَّةِ فقالَ: أَلا تَرى يا أيُّها الرسُولُ كيفَ جعَلَ ربُّكَ لِكلِّ شيءٍ مُظِلٍّ مُنْذُ طُلوعِ الشَّمسِ حتَّى مَغيبها، فاستَخْدَمَهُ الإِنسانُ للوقايَة من لَفْحِ الشّمسِ وَحرِّهَا، ولو شَاءَ اللهُ لجعلَهُ ثابِتاً على حَالٍ واحدةٍ، ولكنُّهُ جعلَهُ مُتَغَيِّراً في ساعاتِ النهارِ المخْتَلِفَةِ، لذلك اتُّخِذَ دليلاً على قياس الزَّمان. ثمَّ جَعَلَ طلوعَ الشَّمسِ دلِيلاً على ظُهورِ الظِّلِّ ومُشَاهَدَتِهِ بِالحِسِّ والمُعَايَنَةِ، فَلولا الشَّمسُ لما عُرِفَ الظِّلُّ.
(وقالَ ابنُ عباسٍ ومُجَاهِدٌ: الظِّلُّ ما بينَ طلوعِ الفجرِ إلى طُلوعِ الشَّمسِ) وهَذا هُو الشَّفَقُ.
﴿قَبَضْنَاهُ﴾
(٤٦) - ثمَّ يَقْبِضُ اللهُ تَعالى الظِّلَّ قَبْضَاً سَهْلاً خَفِيفاً، ويجعَلُهُ مُنْكَمِشاً بِحَسَبِ سَيْرِ الشَّمْسِ، حَتَّى لا يَبْقَى في الأرضِ ظِّلٌّ إلا تَحْتَ سَقْفٍ أو شجرةٍ.
﴿الليل﴾
(٤٧) - ومِنْ آثارِ قُدرتِه تَعالى، ورَوائعِ رَحْمَتِه الفائِضَةِ على خَلْقِه، أنه جَعَلَ الليلَ يلْبَسُ الوجودَ ويَغْشَاهُ، ويسْتُرُهُ بِظَلاَمِه، كما يَسْتُرُ اللبَاسُ جَسَد الإِنْسَانِ، وجَعَلَ النَّوْمَ كالمَوتِ قَاطِعاً للحَرَكَةِ لِتَرْتَاحَ الأَبْدَانُ (سُبَاتاً)، فإن الأجْسَادَ تَكِلُّ مِنْ كَثْرَةِ الحَرَكَةِ، فإذا جَاءَ الليلُ سَكَنَتْ الحَرَكَاتُ فاسْتراحَت الأجْسَادُ ونَامَتْ، وفي النَّومِ راحةٌ، وهو الذي جعَل الناسَ يَنْبَعِثُونَ في النَّهَارِ، ويْنْتَشِرُون لكَسْبِ مَعَايِشِهِمْ، وتَأْمِينِ رِزْقِهِمْ ولِبَاسِهِمْ.
الليل لِباساً - ساتِراً لكُمْ بظَلامهِ كاللبَّاسِ.
السُّبَاتُ - قَطْعُ الحَرَكَةِ لترْتاحَ الأبْدانُ.
نُشُوراً - انْبعاثاً منَ النَّومِ للسَعيِ والعَمَلِ.
﴿الرياح﴾
(٤٨) - ومِنْ دلائلِ قُدرتِه تَعالى أَنَّهُ يُرسِلُ الرِّياحَ مُبَشِّراتٍ بمَجيءِ، السَّحابِ بَعدَها (بين يديْ رحمتِهِ)، ومن الرياحِ ما يُثير السَّحابَ، ومنها ما يَحْمِلُه، ومنها ما يَسُوقُه، ومنها ما يَلْقَحُ السَّحابَ ليُمْطِرَ، ويُنزلُ اللهُ تعالى مَطراً من السَّماءِ يَتَطَهَّرُ بهِ الناسُ.
بُشْراً - مُبَشِّرات بالرَّحمةِ وهيَ المَطرُ.
طَهُوراً - طَاهِراً بنفسِهِ مُطَهِّراً لِغَيِرِهِ.
﴿أَنْعَاماً﴾
(٤٩) - فيُحْيِي اللهُ بالمَطرِ أرضاً طَالَ انتِظَارُها لِلغيثِ، فهيَ هَامدَةٌ لا نبَاتَ فيها (مَيْتاً)، فلما جَاءَها المَطرُ عاشَتْ، وأنْبَتَتْ، واكْتَسَتْ رُبَاهَا بالخُضرةِ، والأزَاهيرِ. ويِشْرَبُ من هذا الماء المُنْزَلِ من السماءِ، الحيوانُ، من أَنعَامٍ وبَشَرٍ مُحْتَاجينَ إليهِ لشُرْبِهِمْ، ولِرَيِّ أرْضِهِم وزُرُوعِهِمْ.
﴿صَرَّفْنَاهُ﴾
(٥٠) - ولَقَد صَرَّفْنَا المَطَر بينَ النَّاسِ عَلى أوضَاعٍ شَتَّى، فَخَصَّصْنَا بهِ أَرْضاً دُونَ غيرها، وسُقْنَا السَّحَابَ فيمُرُّ فوقَ الأرضِ، ويتعَدَّاها ويَتَجَاوزُها إلى الأرضِ الأُخْرى فيُمْطِرُها اللهُ، ويَكْفِيها، ويجعلُهَا غَدَقاً، والتي وَرَاءَها لم يَنزِلْ فيها قطْرةُ مطرٍ واحدةٍ، ولقد أرادَ اللهُ تعالى ذلكَ لعلَّ الناسَ يَتَذَكَّرُون، وهُمْ يَرَوْنَ إحْياءَ الأَرضِ المَيْتَةِ، أنَّ اللهَ قادرٌ عَلَى إحياءِ الأمواتِ والعِظَامِ والرُّفَاتِ، وَليَذْكُر مَنْ مَنَعَهُ اللهُ المَطَرَ أَنَّ ما أصابَهُ إِنَّمَا كَان بِذَنْبِهِ، فَيُقْلِعَ عَمَّا هوَ فيهِ. وحينَ تُمطِرُ السَّماءُ يقولُ المؤمنونَ: أُمْطِرْنا بفضِلِ اللهِ ورَحْمَتِهِ. ويقولُ الكافرون: أُمُطِرْنا بِنَوْءِ كَذا. وذلك مَعنى قولِهِ تَعَالى (فأبى أكثرُ الناسِ إلا كُفُوراً).
(وقِيل إنَّ المَقْصُودَ بقولِه تَعالى (صَرَّفْنَاهُ) هُنا هُو القُرآنُ، أيْ إنَّ اللهَ بَيّنَ آياتِهِ ووضَّحَها للناسِ، والأولُ أظهرُ لأنه يَتَّفِقُ مع السِّيَاقِ).
(٥١) - ولو شاءَ اللهُ لَبَعَثَ في كلِّ قَرْيَةٍ رَسُولاً، يَدْعُوهُمْ إلى اللهِ تعالى، ولكنَّهُ خَصَّ رَسولَهُ مُحمداً بِالْبِعْثَةِ إلى جميعِ أَهْلِ الأرضِ، وأمَرَهُ بأنْ يُبْلِّغَهُمْ هذا القُرآنَ.
﴿الكافرين﴾ ﴿َجَاهِدْهُمْ﴾
(٥٢) - ثم يدعُو اللهُ تَعالى رَسُولَه ﷺ إلى مُجاهَدةِ الكَافرينَ بالقُرآنِ دُونَ هَوَادَةٍ، وإلى عَدمِ إطاعَتِهم فيما يَدْعُونه إليهِ مِنْ مُوافَقَتِهم على مَذَاهِبِهم وَآرَائِهِمْ.
(٥٣) - واللهُ تَعالى هَو الذي خَلَقَ المِياهَ في الأَنْهَارِ، والينَابِيعِ والعُيونِ، والآبارِ، لِيَشْرَبَ منها الإِنسانُ والحَيوانُ والنَّباتُ، وَتَنتفِعَ بها المَخلُوقَاتُ، وهوَ الذي خَلَق المِياهَ المَلِحةَ في البِحَار، ومَنَعَهَا منْ أَنْ يَخْتَلِطَ بعضُها ببعضٍ، وجَعَلَ بينها حَواجِزَ من الأرضِ الياَبِسَةِ، ومَانعاً أنْ يَصِلَ ماءُ أحدِهِمِا إلى الآخَرِ.
مَرَجَ البحرين - مَنَعَهُما من الاخْتِلاطِ - أو أرْسَلَهُما في مَجَارِيهِما.
عَذْبٌ فُرَاتٌ - عَذْبٌ شَديدٌ العُذُوبَةِ.
مِلْحٌ أُجَاجٌ - شَديدُ المُلُوحَةِ.
حِجْراً مَحْجُوراً - حَرامٌ ومُحَرَّمٌ تَغييرُ صِفَاتِهِما أو اخْتِلاَطُهُما.
(٥٤) - واللهُ تَعالى خلقَ الإِنسانَ مِنْ نُطْفَةِ ضَعِيفةٍ (ماءٍ مَهينٍ) فَسَوَّاهُ وَعَدَّلَهُ، وَجَعَلَهُ كَامِلَ الخِلْقَةِ، ذَكَراً وأُنثى كَما يشاءُ، فالذُّكور هُم ذَوُو النَّسَبِ، والنِّساءُ هنَّ ذواتُ الصِّهْرِ يُصَاهَرُ بِهِنَّ، وكُلُّ ذلكَ مِنْ ماءٍ مَهينٍ، واللهُ قادرٌ على كُلِّ شيءٍ.
(وقَال مُفسِّرونَ: إِن المَعْنى هوَ أنَّ الله جَعَلَ الماءَ جُزْءاً منَ المَادَّةِ المُكَوِّنة لِجسْمِ الإِنسانِ).
نَسَباً - ذَوِي نَسَبٍ - أي ذُكوراً يُنْتَسَبُ إِليهمْ.
صِهْراً - ذَواتِ أَصْهارٍ - أَيْ إنَاثاً يصَاهَرُ بِهِنَّ.
(٥٥) - لقَدْ قَدَّمَ اللهُ تعالى الأَدِلَّة علَى وُجودِه، ووحْدَانِيِّتِه، وقُدْرَتِهِ على خَلْقِ العبادِ، واستحَقَاقِهِ وَحدَهُ العِبادةَ منَ الخَلْقِ ومعَ ذلك فإنَّ هؤلاءِ المُشْرِكينَ يعبُدُونَ أصْناماً لا تَضُرُّ ولا تَنفَعُ، ولَيسَ لَهُمْ على عِبادَتِها دليلٌ ولا حُجَّةٌ، وإنَّما عَبَدُوها بِمُجَرَّدِ الرَّأيِ والهَوَى، فَهُمْ يُوالُون الأصنامَ ويقاتِلونَ في سبيلِها، ويُعَادُونَ الله ورسولَهُ والمُؤمنينَ فيها، وكَانَ الكافرُ عَوْناً للشَّيطانِ، ومُظَاهِراً له في مَعْصِيَةِ الخَالِقِ تَعالى وتَباركَ.
عَلى رَبِّهِ ظَهيراً - مُعِيناً للشيطانِ على رَبِّه بالشِّرْكِ.
(٥٦) - وكَيفَ يَطْلُبونَ العَوْنَ على اللهِ ورسُولِهِ، واللهُ قَدْ أَرْسَلَ رسُولَهُ لِنَفْعهِمْ، إذْ قَدْ بعثَهُ لِيُبَشِّرَهُم ويَحُثَّهُم على فِعلِ الطَّاعَاتِ، ويُنذِرَهُم ويُحَذِّرَهُم مِن ارْتِكاب المَعاصِيْ التي تستَوْجِبُ عقَابَ فاعِليها.
﴿أَسْأَلُكُمْ﴾
(٥٧) - وقُلْ يا مُحمدُ لِمَنْ أُرْسِلَتْ إليهِم: أنَا لا أسْأَلُكُم أجْراً على مَا جِئْتُكُمْ بِهِ عندِ رَبِّي، لتقُولوا إنَّما يَدْعُونا لأَخْذِ أموالِنا، ومِنْ ثَمَّ لا نَتَّبِعُهُ حَتَّى لا يكونَ لَهُ في أمْوالِنا مَطْمَعٌ. ولكنْ مَنْ شاءَ أنْ يَتقربَ إلى اللهِ تَعالى بالإِنْفاقِ في وُجوهِ الخيرِ والبِرِّ، ويَتَّخِذَ ذلكَ سَبيلاً إلى رحمةِ اللهِ، ونَيْلِ ثَوَابهِ فَلْيَفْعَلْ.
(٥٨) - وَتَوَكَّلْ عَلى ربَّكَ الدائِمِ البَاقي، رَبِّ كلِّ شيءٍ ومَلِيكِهِ واجعَلْهُ مَلْجَأكَ وذُخْرَكَ، وفَوِّضْ إليهِ أَمْرَكَ، واسْتَسْلِمْ إليهِ، واصْبِرْ على ما أصابَكَ، فإنَّهُ وناصِرُكَ ومُبَلِّغُكَ ما تُريد، وَنَزِّهْهُ عَمَّا يَقُولُ المشركونَ من الصَّاحِبَةِ والوَلَدِ، وحَسْبُكَ نَاصِراً وسَنَداً باللهِ الحَيِّ البَاقِي، الذيْ لا يَمُوتُ، وحَسْبُكَ بِهِ خَبيراً بذنُوبِ خَلْقِه، فهوَ مُحْصِيْها عَلَيْهِم، ولا يَخْفَى عليهِ من أفْعَالِهِمْ شَيءٌ، وسَيُحاسِبُهم عليها جميعاً يومَ القيامةِ، ويَجْزِيهِمْ بما يَستَحِقُّونَ.
سبِّحْ - نَزِّهِ اللهَ تَعالى عنْ جَميعِ النَّقائِصِ.
بِحَمْدِهِ - مُثْنِياً عليهِ بأَوصَافِ الكَمَالِ.
﴿السماوات﴾ ﴿فَسْئَلْ﴾
(٥٩) - واللهُ تَعَالى خَالقُ كلِّ شيءٍ، ورَبُّهُ ومَلِيكُهُ، وقدْ خَلَقَ، بقُدْرَتِه وسُلطانِه، السَّماواتِ في ارتفاعِهَا واتّساعِها، والأرضَ، خلالَ ستةِ أيام ثم استوَى عَلَى العَرشِ يُدَبِّرُ الأَمْرَ، ويقْضِي بالحقِّ، وهوَ خيرُ الحَاكمين، وهوَ تَعالى عَظيمُ الرَّحمةِ بِكُمْ فلا تَعْبُدو إلا إيَّاه، فاسْتَعْلِمْ عنهُ سُبحانه وتعالى مِمَّنْ له خِبْرَةٌ وعِلْمٌ به، واقْتَدِ بهِ واتَّبِعْهُ.
(ومحمدٌ ﷺ عليه، بمَا أعْطَاهُ اللهُ مِن عِلْمٍ، هوَ أكثرُ النَّاسِ عِلْماً ومَعرفةً باللهِ تَعالى.
(٦٠) - يُنكرُ اللهُ تَعالى على المشركينَ الذينَ يَسْجُدُونَ لغيرِ الله مِنَ الأصْنامِ والأنْدَادِ، فيقولُ تَعالى: إنَّ هَؤلاءِ المشركينَ إذا قِيلَ لَهُم اسْجُدُوا للهِ الرَّحْمَن، واخْضَعُوا له قَالُوا: وَمَا الرَّحْمنُ؟ إنَّنا لا نَعرفُهُ لِنْسجُدَ لَهُ.
(وَكَانُوا يُنْكِرون أن يُسَمّى اللهُ بِاسْمِ الرِّحْمنِ، كَمَا أنْكَروا ذلكَ يَومَ الحُدَيِبيَة)، ثُمَّ يقُولُونَ أَنَسْجُدُ لِمُجَرَّدِ قَولِكَ؟ وَزادَهُم هذا الأَمرُ نفُوراً مِنَ السُّجُودِ، وبُعْداً عنِ اللهِ تَعَالى.
وَيَرُدُّ اللهُ تعالى عليهم في آيةٍ أخرى: ﴿قُلِ ادعوا الله أَوِ ادعوا الرحمن أَيّاً مَّا تَدْعُواْ فَلَهُ الأسمآء الحسنى.﴾ زادَهُم نُفُوراً - تَبَاعُداً عنِ الإِيمَانِ.
أَنَسْجُدُ لما تأمُرنا - أَنَسجُدُ بمُجَرَّد أَمرِكَ.
﴿سِرَاجاً﴾
(٦١) - يُباركُ اللهُ تَعالى نفسَهُ الكَريمةَ ويُمَجِّدُها على بَديعِ ما خَلَقَ في السَّماواتِ منَ البُروجِ (والبُروجُ منازلُ الكواكِبِ)، وعلى ما جعلَ فيها مِنْ شَمسٍ مُنيرةٍ هي كَالسِّراجِ في الوُجودِ، كَما جَعَلَ فيها قَمْراً مُشرقاً مُضيئاً.
تباركَ - تَعالى وتمجدَ وتكاثرَ خيرهُ.
بُروجاً - مَنازِلَ الكَواكِبِ.
﴿الليل﴾
(٦٢) - والرَّحمنُ جعلَ الليلَ والنَّهارَ مُتعاقِبَيْنِ يَخْلُفُ أَحدُهُما الآخرَ، وقد دَبَّرَ ذلك لِيتَذَكَّرَ مَنْ شاءَ هذا التَّدبيرَ المُحْكمَ فيتَّعِظَ، ويَعرفَ حِكْمَةَ خِلْفَةً - يَخْلُفُ أحدُهُما الآخرَ ويتعاقَبانِ.
﴿الجَاهِلُونَ﴾ ﴿سَلاَماً﴾
(٦٣) - ويَصِفُ اللهُ تَعالى عِبَادَهُ المؤمنينَ المُتَقَّينَ بأَنهُمْ مُتواضِعُون، يَسيروُن على الأرضِ بسَكِينةٍ ووَقَارٍ ورِفْقٍ (هَوْناً) مِنْ غير تَجَبُّرٍ ولا اسْتِكْبارٍ، وإذات سَفِه عليهِمُ الجاهلونَ بالقَولِ لم يُقابِلُوهم عليهِ إلا حِلْماً وقَوْلاً مَعْروفاً، ويَرُدُّونَ عليهم قائلينَ: سلامٌ عليكمٌ لا نَبْتَغِي الْجَاهِلينَ.
هَوْناً - بِسَكِينةٍ وَوَقَارٍ وتَواضُعِ.
قالُوا سَلاماً - قَوْلاً سَدِيداً يَسْلَمُون بِهِ من الأَذَى.
﴿وَقِيَاماً﴾
(٦٤) - وهُمْ يَبيتُونَ قِيَاماً في طَاعَةِ اللهِ تَعالى وعبادَتِهِ ويذكُرونَه ذِكْراً كَثيراً في رُكُوعِهِمْ وسُجُودِهمْ.
(وقالَ تَعالى في صِفَةِ عِبَادِ الرَّحمنِ في سُورةٍ أُخْرى: ﴿كَانُواْ قَلِيلاً مِّن الليل مَا يَهْجَعُونَ وبالأسحار هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ.﴾ يَبيتُونَ - أَيْ يُدْرِكُهُمْ الليلُ.
(٦٥) - وهُمُ الذين يَغْلِبُ عليهِم الخَوفُ منَ اللهِ فيدْعُونهُ، ويسأَلُونَهُ أَنْ يَصرِفَ عنهمْ عَذابَ جَهَّنمَ، فإنَّ عذَابَها مؤلمٌ ملازمٌ للإِنسَانِ، لا يَزولُ عنهُ، ولا يَحُولُ، ولا يُفارِقُهُ.
غَراماً - لازماً أو مُمْتَدّاً كَلُزُومِ الغَريم.
(٦٦) - وإنَّ جَهَنَّمَ بئسَ المنزلُ، وَبئْسَ المَقِيلُ والمقَامُ.
(٦٧) - ومِنْ صِفاتِ عِبادِ الرَّحمنِ أَيضاً الاعتدَالُ في الإِنفَاقِ على أَنْفُسِهِمْ، وأَهليهمْ، فهُمْ لَيْسُوا بِمُبَذِّرينَ في إنفاقِهِمْ فيَصْرِفُون فوقَ الحَاجَةِ، ولا بُخَلاءَ على أهليهِمْ فَيُقَصِّرُون في حقِّهِمْ، فلا يَكْفُونَهُمْ، بلْ همْ مُعْتَدِلُونَ في أمورِهِمْ.
لَمْ يَقْتُرُوا - لم يُضيِّقُوا تَضْييقَ الأشِحَّاءِ.
قوَاماً - عَدْلاً وَسَطَاً بينَ الطَّرَفَينِ.
﴿آخَرَ﴾
(٦٨) - وهمْ مُخْلِصُون في عِبادَتِهِم للهِ تَعالى وحدَهُ، لا يُشْرِكُون بهِ شَيئاً، ولا يَدْعُونَ معهُ أحَداً، ولا يَعْبُدُونَ سِوَاهُ ولا يقْتُلُونَ النَّفْسَ التي حَرَّمَ اللهُ قَتْلَها إِلا بِحَقِّها، وَفْقاً لما شَرَعَهُ اللهُ تَعالى، ولا يَرْتَكِبُون الزِّنى، ولا يَأْتُونَ ما حَرَّمَ اللهُ من الفُروجِ. ومَنْ يَرْتَكِبْ هَذِهِ الكبائرَ فإِنَّهُ يَلْقَى عَذاباً ألِيماً يومَ القيامةِ، جَزَاءً لَهُ على ما ارْتَكَبَ.
يَلْقَ أثاماً - يُلاقِي عِقَاباً في الآخرةِ.
﴿يُضَاعَفْ﴾ ﴿القيامة﴾
(٦٩) - وَيُزَادُ في عذابهِ يومَ القيامةِ، ويُغْلَظُ لهُ فيهِ، وَيخْلُدُ في جهنمَ مُهَاناً ذَلِيلاً حَقِيراً، جَزَاءً لهُ على ما ارْتَكَبَ من الأعمالِ المُنْكَرَةِ.
﴿َآمَنَ﴾ ﴿صَالِحاً﴾ ﴿فأولئك﴾ ﴿حَسَنَاتٍ﴾
(٧٠) - إلا مَنْ تَابَ في الدُّنْيا، وأخْلَصَ التوبةَ وهو مُؤْمنٌ، وقدْ عَمِلَ الصالحاتِ، ورجَعَ إلى رَبِّهِ مُسْتَغْفِراً مُنِيباً، فإنَّ اللهَ تَعالى يتوبُ عليه، ويُحْسِنُ عاقِبَتَهُ، (وفي ذلك دَلالةٌ على صِحَّةِ توبةِ القَاتل)، وهؤلاءِ هُمُ المُؤمنون، كانُوا قبلَ إيْمَانِهِمْ يَعْمَلُونَ السَّيّئاتِ، فَحَوَّلَهُمُ اللهُ تَعالى إلى الحَسَناتِ، وأبْدَلَهُمْ مَكَانَ السَّيئاتِ الحَسَنَاتِ، واللهُ غفورٌ لذُنُوبِ عِبادِه، رَحيمٌ بِهمْ.
(وقيلَ بلْ مَعْنَاهُ: إِنَّ السَّيئاتِ السَّابِقةَ تَنْقَلبُ بِنَفْسِ التَّوبَةِ إلى حَسَناتٍ).
﴿صَالِحاً﴾
(٧١) - ويَعِدُ اللهُ التَّائِبينَ إليهِ وَعْدَاً جَميلاً، فيقولُ تَعالى: إنَّهُ مَنْ تَاب عَنِ المَعَاصي التي عَمِلَها ونَدِمَ على ما فَرَطَ منهُ، وأكْمَلَ نفسَهُ بصَالِحِ الأعْْمَالِ، فإِنَّهُ يتوبُ إلى اللهِ تَوبةً نَصُوحاً مَقْبُولَة لَدَيْهِ، ماحِيةً للعِقَابِ، مُحَصِّلَةً لِجَزِيلِ الثوابِ.
(٧٢) - ومنْ صفاتِ عبادِ الرحمنِ أنهمْ لا يَشْهَدونَ الزُّورَ، ولا يَحْضرُونَ مَجَالِسَ الفِسْق واللَّغْوِ والبَاطِلِ، ومَجَالِسَ السُّوءِ، وإذا مَرُّوا بمَنْ يَلْغُونَ ويَهْذُرُونَ ويَفْسُقُونَ لم يتوقَّفوا عليهِمْ واسْتَمَرُّوا في سيْرِهِمْ مُسْرِعِين.
(وقيل إِنَّ المَقْصُودَ بالزُّورِ هُنَا شَهادةُ الزُّورِ وهِيَ الكَذِبُ عَمْداً في الشَّهادَةِ).
مَرُّوا باللَّغْو - بما يَنْبَغِي أنْ يُلغَى ويُطْرَحَ منَ الكَلاَمِ.
مَرُّوا كِرَاماً - مُسْرعِينَ أو مُكَرِّمِينَ أنفسَهُمْ عن المشاركَة والخَوْضِ فيما يَخوُضُونَ.
﴿بِآيَاتِ﴾
(٧٣) - ومنْ صِفاتِ المؤمنينَ أنهمْ إذا ذَكَرُوا اللهَ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ، وإذا تُلِيَتْ عليهِمْ آياتَهُ زادَتْهُم إيماناً ويَقِيناً بِصِدْقِ ما جاءَتْهُمْ بِهِ النُّبُّواتُ، ولم يكُونُوا كالكُفَّارِ الذين لا يَتَأَثَّرُون بما يَسْمعُون ويُبْصِرُونَ من آياتِ اللهِ ومُعْجِزَاتِه، ويَسْتَمِرُّونَ وكأنهمْ صُمٌّ لا يَسْمعونَ، وعُمْيٌ لا يُبْصِرونَ.
لَمْ يَخْرُّوا - لمْ يَقَعُوا ولَمْ يَسْقُطُوا.
﴿أَزْوَاجِنَا﴾ ﴿َذُرِّيَّاتِنَا﴾
(٧٤) - ومن صِفَاتِ المُؤمنينَ أَيضاً أنهمْ يَسْألُونَ اللهَ تَعالى أَنْ يُخْرِجَ مِنْ أصْلاَبِهمْ وذُرِّياتهمْ مَنْ يُطيعُ الله ويعبُدُهُ وحْدَه لا شريكَ له، لِتَقَرَّ بِهِ أعيُنُهُمْ في الدنيا والآخرةِ، وأنْ يجعلَ لهمْ مِنْ أزواجِهِمْ منْ يطيعُ الله تعالى، ويَهْتَدي بِهُدَاه، ويسألونَ ربَّهُمْ أن يجْعَلَهم أَئِمَّةً يُقْتَدى بِهم في الخَيرِ.
قُرَّةَ أَعْينُ - مَسَرَّةً وفَرَحاً.
إماماً - قُدْوَةً وحُجَّةً أو أَئِمَّةً.
﴿أولئك﴾ ﴿وَسَلاَماً﴾
(٧٥) - وهؤُلاءِ المؤمِنُونَ المُتَّصِفُون بالصِّفَاتِ السَّابِقَةِ، يُجْزَوْنَ، يومَ القِيامةِ، بالدَّرَجاتِ العَالية، والمنَازِلِ الرَّفيعةِ، في الجَنَّةِ، لصَبْرِهِمْ على القِيَامِ بِمَا أَمَرَ اللهُ، وتَتلقاهُمُ المَلائِكَةُ في الجَنَّةِ بالتَّحِيةِ والسَّلامِ، فلهُمُ السَّلامُ، وعليهمُ السَّلامُ.
الغُرْفَةَ - أَمَاكنُ عاليةٌ في الجَنَّةِ.
﴿خَالِدِينَ﴾
(٧٦) - ويَبْقَوْنَ في الجَنَّةِ خَالدينَ في مُقَامِهِمْ، لا يَحُولُونَ عَنها ولا يَزولُونَ ولا يَرْتَحِلُونَ، ونِعْمَتِ الجَنَّةُ مُسْتَقراً ومُقاماً.
﴿يَعْبَأُ﴾
(٧٧) - قُلْ يا محمدُ لهؤلاءِ الذينَ أُرْسِلْتَ إليهم: إنَّ الفائزينَ بِنِعَمِ الله الجَليلةِ، التي يَتَنَافَسُ فيها المُتنافِسُونَ إِنما نَالُوها بما ذُكِرَ من الصِّفاتِ الحميدةِ التي اتَّصَفُوا بها، وَلَوْلاها لم يَهْتَمَّ بهم ربُّهم، ولم يَعْتَدَّ. ولذلكَ فإنَّهُ لا يَعْبَأُ بِكُمْ إذا لم تَعْبُدُوه، فما خَلَقَ اللهُ الخَلْقَ إِلا لِيَعْبُدُوا ربَّهُمْ ويُطِيعُوه وحْدَه لا شريكَ له، وما دُمْتُمْ قد خَالَفْتُم أمرَ ربِّكم، وَعَصَيْتُمْ حُكْمَهُ، وكَذَّبْتُم رَسُولَهُ، فَسَوْفَ يَلْزَمُكُمْ أَثَر تَكْذِيبِكُمْ، وهو العقابُ الذي لا مَنَاصَ منهُ، فاسْتَعِدُّوا له، وهَيِّئُوا أنفسَكُمْ لذلكَ اليومِ العصيبِ، وهو آتٍ قَريبٌ.
ما يَعْبَأُ بكم - ما يَكْتَرِثُ وما يُبَالي.
دعاؤُكم - عِبادَتُكُمْ.
يكونُ لِزَاماً - يكونُ جِزاءُ تكذِيبكُم عذَاباً دائِماً مُلازماً لكُمْ.
Icon