ﰡ
من أدلة الوحدانية والقدرة على البعث وغيره
في الكون عجائب المخلوقات والخلق، ففيه الملائكة ذوو الصفات والمهام المتعددة، وفيه السماوات والأرضون، وفي السماء الكواكب الكبيرة والصغيرة التي تزيّن بها السماء الدنيا، وفي السماوات من الكواكب أكبر بكثير مما نشاهده، وفي البشر أناس أشداء الخلق والتكوين، وذلك كله من المظاهر الدالة على وجود الله ووحدانيته وقدرته وعظمته، والعقلاء: هم الذين يقدّرون هذا ويوقنون به، وهذا ما افتتحت به سورة الصافات المكية النزول، والتي تدل بجملها وتراكيبها الموجزة على إعجاز القرآن وفصاحته، وتأثيره البليغ في النفوس، تأثيرا يهز المشاعر، ويحرّك العواطف، قال الله تعالى:
[سورة الصافات (٣٧) : الآيات ١ الى ٢١]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَالصَّافَّاتِ صَفًّا (١) فَالزَّاجِراتِ زَجْراً (٢) فَالتَّالِياتِ ذِكْراً (٣) إِنَّ إِلهَكُمْ لَواحِدٌ (٤)رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَرَبُّ الْمَشارِقِ (٥) إِنَّا زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ (٦) وَحِفْظاً مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ مارِدٍ (٧) لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جانِبٍ (٨) دُحُوراً وَلَهُمْ عَذابٌ واصِبٌ (٩)
إِلاَّ مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ ثاقِبٌ (١٠) فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمْ مَنْ خَلَقْنا إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِنْ طِينٍ لازِبٍ (١١) بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ (١٢) وَإِذا ذُكِّرُوا لا يَذْكُرُونَ (١٣) وَإِذا رَأَوْا آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ (١٤)
وَقالُوا إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (١٥) أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (١٦) أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ (١٧) قُلْ نَعَمْ وَأَنْتُمْ داخِرُونَ (١٨) فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ فَإِذا هُمْ يَنْظُرُونَ (١٩)
وَقالُوا يا وَيْلَنا هذا يَوْمُ الدِّينِ (٢٠) هذا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (٢١)
«١» «٢» «٣»
(٢) أي دائم.
(٣) أي يطلبون أن يكونوا ممن يسخر، أو بمعنى: يسخر، مثل:
(واستغنى الله) فيكون فعل واستفعل بمعنى واحد.
أقسم الله تعالى في هذه الآيات بالملائكة المتصفين بصفات ثلاث: وهي وقوفهم صفوفا للعبادة، أو في الهواء تصفّ أجنحتها انتظارا لأمر الله تعالى، وتزجر السحاب زجرا، أي تسوقه وتحركه سوقا، وتتلو أو تقرأ ذكر الله أي كتبه. وجواب القسم أن الله واحد لا شريك له، وأنه رب السماوات والأرض وما بينهما من سائر المخلوقات، ورب مشارق الشمس وهي أماكن طلوعها بعدد أيام السنة، ولها أيضا مغارب مماثلة، مفهومة بدلالة الآية، فلكل مشرق ومغرب كما جاء في آية أخرى: فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشارِقِ وَالْمَغارِبِ إِنَّا لَقادِرُونَ (٤٠) [المعارج: ٧٠/ ٤٠].
ثم أخبر الله تعالى عن قدرته بتزيين السماء الدنيا بالكواكب الكثيرة، وانتظم التزيين بجعلها حفظا وحرزا من الشياطين المردة، وهم مسترقو السمع، فإذا أراد شيطان استراق السمع انقضّ عليه شهاب ثاقب فأحرقه. ولا يقدر الشياطين أن يتسمعوا لحديث الملأ الأعلى: وهم الملائكة، في السماء الدنيا وما فوقها، لأنهم يرمون بالشهب.
ومرادهم أن يسترقوا شيئا مما يوحيه الله تعالى لملائكته من الشرع والقدر. والملأ الأعلى: أهل السماء الدنيا فما فوقها.
فيكون للشهب والكواكب السماوية فائدتان كبيرتان: تزيين السماء الدنيا، وحفظها من مردة الشياطين. والمارد: المتجرد للشر. وحض الله السماء الدنيا بالذكر
وحفظا: منصوب على المصدر.
إن الشياطين يرمون بالشهب من كل جانب أو جهة يتجهون إلى السماء منها، إذا أرادوا الصعود لاستراق السمع. ويبعدون ويطردون طردا ويمنعون من الوصول إلى مقاصدهم، ولهم في الآخرة عذاب دائم مستمر موجع. والدحور: الإصغار والإهانة حال الطرد، لأن الزجر: الدفع بعنف.
وطرد الشياطين هي الحال الغالبة على جميع الشياطين إلا من شذ، فخطف خبرا أو نبأ، فأتبعه شهاب فأحرقه.
فاسأل أيها الرسول منكري البعث: أيهم أشد خلقا، أي أصعب إيجادا، هم أم السماوات والأرض وما بينهما من الأمم والملائكة والشياطين والمشارق والمخلوقات العظيمة؟
وقد نزلت الآية في الأشد بن كلدة وأمثاله، سمي بالأشد لشدة بطشه وقوته.
والسؤال بقصد التوبيخ والتقريع.
إنا خلقنا أصلهم: وهو آدم من طين لزج يلتصق باليد، فإذا كانوا مخلوقين من هذا الشيء الضعيف، فكيف يستبعدون المعاد؟ وهو إعادة الخلق من التراب أيضا.
واللازب: اللازم، أي يلازم ما جاوره ويلصق به، وهو الصلصاص.
بل في الواقع لا حاجة لاستفتائهم، فهم قوم أهل تكبر وعناد، وأنت يا محمد تتعجب من تكذيب هؤلاء المنكرين للبعث، لإيقانك بقدرة الله العظمى، وهم إذا وعظوا لا يتعظون ولا ينتفعون بالموعظة. وإذا شاهدوا دليلا واضحا، أو معجزة أو علامة ترشدهم إلى الإيمان يبالغون في السخرية والاستهزاء، ويتنادون للتهكم والتضاحك.
وقالوا: ما هذا الذي تأتينا به من الدلائل إلا سحر واضح ظاهر، فلا يؤبه به، ولا ننخدع به. وتساءلوا منكرين: كيف نبعث أحياء بعد أن صرنا أمواتا، وترابا مفتتا، وعظاما بالية؟ وهل يبعث معنا أسلافنا القدامى من الآباء والأجداد. فأجابهم الله تعالى: قل لهم أيها الرسول: نعم تبعثون أحياء مرة أخرى، وأنتم ذليلون صاغرون. والأمر سهل جدا على قدرة الله، فما البعث إلا صيحة واحدة من إسرافيل بالنفخ في الصور بأمر الله تعالى للخروج من القبور. وقال منكرو البعث. لنا الويل والهلاك، فقد حل يوم الجزاء والعقاب، على ما قدمنا من أعمال. فأجابتهم الملائكة: هذا يوم الحكم والقضاء المبرم الذي كنتم تكذبون به في الدنيا، ويعرف فيه المؤمن من الكافر.
مسئولية المشركين في الآخرة
إن كل إنسان في الآخرة مسئول عن أعماله خيرها وشرها، وتكون المسؤولية شديدة، وصعبة على المشركين، حيث يحاسبون عن شركهم وضلالهم، وتركهم الواجبات المفروضة عليهم من الإيمان بالله ورسله أولا، ثم أداء الفرائض، وحيث لا يجدون أحدا يشفع لهم أو ينصرهم، ولأنهم كانوا متكبرين في الدنيا، لا يسمعون لنداء الحق، وكلمة التوحيد، ويتهمون النبي صلّى الله عليه وسلّم بالاتهام الباطل كالقول: بأنه شاعر مجنون، وهذا محض الكذب والافتراء، وصف الله تعالى مسئولية المشركين وأسبابها في الآخرة، فقال الله تعالى:
[سورة الصافات (٣٧) : الآيات ٢٢ الى ٣٧]
احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْواجَهُمْ وَما كانُوا يَعْبُدُونَ (٢٢) مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلى صِراطِ الْجَحِيمِ (٢٣) وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ (٢٤) ما لَكُمْ لا تَناصَرُونَ (٢٥) بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ (٢٦)وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ (٢٧) قالُوا إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنا عَنِ الْيَمِينِ (٢٨) قالُوا بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (٢٩) وَما كانَ لَنا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ بَلْ كُنْتُمْ قَوْماً طاغِينَ (٣٠) فَحَقَّ عَلَيْنا قَوْلُ رَبِّنا إِنَّا لَذائِقُونَ (٣١)
فَأَغْوَيْناكُمْ إِنَّا كُنَّا غاوِينَ (٣٢) فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ (٣٣) إِنَّا كَذلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ (٣٤) إِنَّهُمْ كانُوا إِذا قِيلَ لَهُمْ لا إِلهَ إِلاَّ اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ (٣٥) وَيَقُولُونَ أَإِنَّا لَتارِكُوا آلِهَتِنا لِشاعِرٍ مَجْنُونٍ (٣٦)
بَلْ جاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ (٣٧)
[الصافات: ٣٧/ ٢٢- ٣٧].
موقف الحشر في القيامة رهيب وشديد، يأمر الله الملائكة بجمع أصناف ثلاثة في موقف الحساب: وهم الظالمون المشركون، وأمثالهم أو أزواجهم ومعبود وهم الذين عبدوهم من دون الله من الأصنام والأوثان وغيرهم من بني آدم، زيادة في تخجيلهم وتوبيخهم، وحسرتهم وإظهار سوء حالهم. والمقصود بكلمة وَأَزْواجَهُمْ أي أنواعهم وأشباههم.
ويقال للملائكة: أرشدوا هؤلاء المشركين وعرّفوهم طريق جهنم، زيادة في لومهم، واحتقارهم، والتهكم بهم. وقوله: فَاهْدُوهُمْ أي قوّموهم واحملوهم على طريق الجحيم. والجحيم: طبقة من طبقات جهنم، يقال: إنها الرابعة.
واحبسوهم في ساحة الموقف للحساب والسؤال، عن عقائدهم وأقوالهم وأعمالهم التي صدرت منهم في الدنيا، ويقال لهم على سبيل التقريع والتوبيخ: ما بالكم لا ينصر بعضكم بعضا، كما كنتم في الدنيا؟ بل إنهم اليوم منقادون لأمر الله، لا يخالفونه، ولا يحيدون عنه، لعجزهم عن العذر أو الحيلة.
وفي هذا الموقف يتساءل المشركون مع بعضهم سؤال توبيخ وتقريع وخصام، كما يتخاصمون في دركات النار.
فوجب علينا وعليكم حكم ربنا، ولزمنا قول ربنا وتعيّن العذاب لنا، وهو قوله تعالى: لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ (٨٥) [ص: ٣٨/ ٨٥]. فنحن جميعا ذائقو العذاب حتما في الآخرة. والذوق هنا: مستعار.
إننا أضللناكم، ودعوناكم إلى ما نحن فيه من الضلالة، فاستجبتم لنا.
ثم أخبر الله تعالى: أنهم، أي التابعين والمتبوعين والقادة مشتركون جميعا في العذاب، وحصلوا فيه، كما اشتركوا في الضلال والكفر، والجميع في نار جهنم، كل بحسبه، وبمثل ذلك الجزاء نفعل بالمشركين، ويجازى كل عامل بما قدم.
هؤلاء الذين أجرموا، وجهلوا الله سبحانه، وعظّموا أصناما وأوثانا، إذا دعوا إلى كلمة التوحيد: وهي لا إله إلا الله، استكبروا عن القبول، وأعرضوا عن قولها، كما يقولها المؤمنون.
ويقولون: أنحن نترك عبادة آلهتنا وآلهة آبائنا لقول شاعر مجنون، قاصدين بذلك النبي صلّى الله عليه وسلّم، فهم بهذا أنكروا أولا وحدانية الله، ثم أنكروا الرسالة النبوية، وهؤلاء هم جماعة من قريش.
فرد الله عليهم تكذيبا: بل إن النبي جاء بالحق في جميع ما شرعه الله له، وأول
ومن حوادث عرض كلمة التوحيد على غير المؤمنين:
أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال لأبي طالب: «أي عم، قل: لا إله إلا الله، أحاجّ لك بها عند الله» فقال أبو جهل:
أيرغب عن ملة عبد المطلب؟ فقال آخر ما قال: أنا على ملة عبد المطلب. وبعرضه عليه الصلاة والسّلام قول: لا إله إلا الله، جرت السنة في تلقين الموتى المحتضرين، ليخالفوا الكفرة في نهاية العمر، ويخضعوا لكلمة التوحيد.
جزاء المؤمن والكافر
العدل الإلهي المطلق: هو أساس الجزاء والحساب في الآخرة، وليس هناك تمييز ولا استئناف، وإنما القرار مبرم حاسم، والتنفيذ محقق وسريع، فمن آمن بالله ربا، وبالإسلام دينا، وبالقرآن دستورا ومنهاجا، وبمحمد نبيا ورسولا، وبالكعبة المشرفة قبلة، كان من الناجين السعداء في جنان الخلد، ذات النعيم المادي المترف ذي الألوان المختلفة، والنعيم النفسي التام، حيث لا همّ ولا قلق، ولا حزن ولا تعب، ومن جحد بالله أو أشرك به، ولم يؤمن برسوله، ولا بالقرآن الكريم، فهو في عذاب مستمر في نيران جهنم، مع المعاناة الدائمة والقلاقل المستمرة، وجزاء الفريق بحسب العمل في الدنيا، قال الله تعالى مبينا ذلك:
[سورة الصافات (٣٧) : الآيات ٣٨ الى ٦١]
إِنَّكُمْ لَذائِقُوا الْعَذابِ الْأَلِيمِ (٣٨) وَما تُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٣٩) إِلاَّ عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (٤٠) أُولئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ (٤١) فَواكِهُ وَهُمْ مُكْرَمُونَ (٤٢)
فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (٤٣) عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ (٤٤) يُطافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (٤٥) بَيْضاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ (٤٦) لا فِيها غَوْلٌ وَلا هُمْ عَنْها يُنْزَفُونَ (٤٧)
وَعِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ عِينٌ (٤٨) كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ (٤٩) فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ (٥٠) قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كانَ لِي قَرِينٌ (٥١) يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ (٥٢)
أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَدِينُونَ (٥٣) قالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ (٥٤) فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَواءِ الْجَحِيمِ (٥٥) قالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ (٥٦) وَلَوْلا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (٥٧)
أَفَما نَحْنُ بِمَيِّتِينَ (٥٨) إِلاَّ مَوْتَتَنَا الْأُولى وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (٥٩) إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (٦٠) لِمِثْلِ هذا فَلْيَعْمَلِ الْعامِلُونَ (٦١)
يخاطب الله تعالى خطابا مباشرا للناس بما معناه: إنكم أيها الجاحدون لتذوقن العذاب المؤلم الدائم في نار جهنم، وليس جزاؤكم إلا بالحق والعدل الذي لا ظلم فيه، وهو عقابكم على أعمالكم من الكفر والمعاصي، فهي سبب الجزاء. لكن عباد الله وهم المؤمنون الذين أخلصهم الله تعالى لنفسه، وهم الطائعون ربهم، المخلصون في عملهم لله تعالى، هم ناجون لا يذوقون العذاب، ولا يناقشون الحساب، ولهم رزق معلوم حسنه وطيبه ودوامه عندهم، ويأتيهم في حين تطلعهم إليه، يشتمل على الفواكه أو الثمار المتنوعة، وبإكرام بليغ متمم للنعم، حيث يخدمون ويرفهون.
ومساكنهم في جنان النعيم الدائم، على أسرّة يتكئون عليها، ينظر بعضهم إلى وجوه بعض، بسرور وابتهاج. وشرابهم يدار عليهم بآنية من عيون جارية، فيها الخمر التي لا تسكر وغيرها من الأنبذة ونحوها، يطوف بها عليهم ولدان مخلدون.
وتلك الخمر شديدة البياض، لذيذة الطعم، طيبة الرائحة، ليس فيها أذى أو فساد، ولا تذهب بالعقول، خلافا لخمر الدنيا. وقوله: مِنْ مَعِينٍ أي من جار مطّرد.
وعندهم زوجات عفيفات، لا ينظرن إلى غير أزواجهن، ذوات عيون واسعة
(٢) أي في الجنة حوريات عفيفات لا ينظرن إلى غيرهن، واسعات الأعين مع الحسن.
(٣) أي في وسط الجحيم.
ومن تساؤلاتهم: قال مؤمن من أهل الجنة: كان لي صاحب كافر بالبعث مقارن في الدنيا يقول: أنحن إذا صرنا أمواتا وترابا وعظاما بالية، أنكون محاسبين بعدئذ على أعمالنا ونجازى عليها؟ ذلك أمر غير ممكن ولا معقول، فهل تصدق هذا؟ ثم قال المؤمن لجلسائه: انظروا معي إلى أهل النار، لأريكم ذلك القرين الذي قال لي هذا القول، كيف يعذب ويجازى؟ فنظر المؤمن إلى أهل النار، بالرغم من كثرتهم، فرأى قرينه يتلظى بحرّ جهنم. قال المؤمن لقرينه الكافر موبخا: لقد قاربت أن توقعني في الهلاك، ولولا رحمة ربي وعصمته من الضلال، وتوفيقي للحق، وهدايتي للإسلام، لكنت من المحضرين معك في العذاب في النار.
ثم قال المؤمن لجلسائه ابتهاجا وسرورا بنعيم الجنة: ألسنا مخلّدين في نعيم الجنان إلى الأبد، فلا نموت إلا موتتنا السابقة في الدنيا، ولسنا بمعذبين كما يعذب أصحاب النار؟
إن هذا النعيم الدائم الخالد، لهو الفوز الأكبر الذي لا يوصف، ولمثل هذا النعيم والفوز، ليعمل العاملون في الدنيا، ليحظوا به، لا أن يعملوا لحظوظ الدنيا الفانية فقط، المقترنة بالمخاطر والآلام، والمتاعب الكثيرة، والمراد: أن المطلوب من كل عاقل هو العمل للآخرة وللجنة الخالدة، لا أن يقتصر العمل على مكاسب الدنيا وشهواتها الفانية المؤقتة، فإن عمل الآخرة هو الباقي الخالد، وعمل الدنيا فإن زائل.
تتنوع ألوان النعيم للمؤمنين الصالحين في الجنان، كما تتنوع ألوان العذاب في جهنم للظالمين المشركين والجاحدين، والتفاوت قائم في كلا الحالين، وبدهي أن النفس ترتاح للنعيم، وتتضايق للعذاب، وقد جاء الوصف القرآني لتعذيب الكفار بما لا يوصف ولا يحتمل، ولكن رحمة الله تعالى قدّمت الإنذار به قبل وقوعه، للاحتراز منه، وتجنب كل الأسباب المؤدية إليه، فلا يبقى بعدئذ عذر لمقصر أو معاند أو جاحد، لأن سبق الإنذار يوجب التعقل، وتقدير الحساب والمخاطر، وهذا ما وصفته الآيات القرآنية الآتية:
[سورة الصافات (٣٧) : الآيات ٦٢ الى ٧٤]
أَذلِكَ خَيْرٌ نُزُلاً أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ (٦٢) إِنَّا جَعَلْناها فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ (٦٣) إِنَّها شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ (٦٤) طَلْعُها كَأَنَّهُ رُؤُسُ الشَّياطِينِ (٦٥) فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْها فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ (٦٦)
ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْها لَشَوْباً مِنْ حَمِيمٍ (٦٧) ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ (٦٨) إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آباءَهُمْ ضالِّينَ (٦٩) فَهُمْ عَلى آثارِهِمْ يُهْرَعُونَ (٧٠) وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ (٧١)
وَلَقَدْ أَرْسَلْنا فِيهِمْ مُنْذِرِينَ (٧٢) فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ (٧٣) إِلاَّ عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (٧٤)
«١» [الصافات: ٣٧/ ٦٢- ٧٤].
هذه تساؤلات تقريرية لقريش والكفار، ليست للاستفهام، يراد بها إعلامهم بأن هذا المذكور من أوصاف نعيم الجنة وطيباتها في القرآن خير ضيافة وعطاء، أم شجرة الزقوم ذات الطعم المرّ الشنيع التي في جهنم، وهذا نوع من التهكم والسخرية بهم، فهو طعام أهل النار يتزقمونه. إنا جعلنا تلك الشجرة اختبارا للكافرين، حين افتتنوا بها وكذبوا بوجودها، فقالوا: كيف تكون تلك الشجرة في النار، والنار تحرق ما فيها؟.
وأوصاف تلك الشجرة: أنها شجرة تخرج أو تنبت في قعر النار وقرار جهنم، أي ملاصق أساسها الذي لها كالجدران. ويشبه ثمرها في تناهي قبحه، وبشاعة منظره، رؤوس الشياطين، تكريها لذكرها. فقد شبه ثمرها بما استقر في النفوس من كراهة رؤوس الشياطين وقبحها، وإن كانت لم تر.
وهذه الشجرة يأكل الكفار من ثمرها القبيح الرائحة والطعم، فيملئون منها بطونهم، بالإكراه والاضطرار، لأنهم لا يجدون غير هذه الشجرة ونحوها من كل مرّ عسر المذاق.
ثم إن لهم بعد الأكل منها لشرابا من ماء شديد الحرارة يخالط طعامهم، أي إن حال المشروب في البشاعة أعظم من حال المأكول. ثم إن مرجعهم بعد شرب الحميم وأكل الزقوم إلى دار الجحيم، أي إن الحميم يكون في موضع خارج عن الجحيم، فهم يوردون الحميم لشربه، كما تورد الإبل إلى الماء، ثم يردّون إلى الجحيم.
وعلة عذابهم على هذا النحو: أنهم وجدوا آباءهم على الضلال، فاقتدوا بهم وقلّدوهم، من غير تعقل ولا تدبر، ولا حجة ولا برهان، فهم يتّبعون آباءهم في سرعة. وذلك يدل على أن الكفر ظاهرة قديمة، وأتباعه كثيرون، فلقد كان أكثر الأمم الماضية ضالين، يجعلون مع الله آلهة أخرى، وليس قريشا وحدهم في هذا الضلال.
ولكن رحمة الله تعالى لم تتركهم بدون إنذار، فلقد أرسل الله في الأمم كلها أنبياء ورسلا ينذرونهم بأس الله، ويحذرونهم سطوته ونقمته ممن كفر به، وعبد غيره، لكنهم تمادوا في تكذيب رسلهم، فأهلكهم الله تعالى، كما قال سبحانه: فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ أي فانظر أيها الرسول وكل مخاطب بالرسالة الإلهية كيف
مثّل الله تعالى في هذا المثل لقريش بالأمم التي ضلّت قديما، وجاءها الإنذار الإلهي، وأهلكها الله بعدله. وهو إخبار بأن الله عذّب الضالين في الدنيا، ولهم عذاب شديد آخر في الآخرة.
دعاء نوح عليه السّلام
الأنبياء والرسل عليهم السّلام في مرصد العناية والرعاية الإلهية، فهم يقومون بتبليغ دعوة الله تعالى لتوحيده وعبادته، والله تعالى يراقب ردود أفعالهم لدى أقوامهم، فإن تعرضوا لسوء، أو وقعوا في محنة مستعصية لا سبيل إلى تذليلها، دعوا ربهم بوحي منه لإنجائهم، وقهر عدوهم، وإهلاك معارضيهم، وهذا منهج واضح في حياة الرسل، وفي طليعتهم نوح عليه السّلام أول رسول إلى قومه، وأبو البشر الثاني، فإنه دعا ربه حين يئس من هداية قومه، كما في الآيات الآتية:
[سورة الصافات (٣٧) : الآيات ٧٥ الى ٨٢]
وَلَقَدْ نادانا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ (٧٥) وَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (٧٦) وَجَعَلْنا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْباقِينَ (٧٧) وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (٧٨) سَلامٌ عَلى نُوحٍ فِي الْعالَمِينَ (٧٩)
إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (٨٠) إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (٨١) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ (٨٢)
[الصافات: ٣٧/ ٧٥- ٨٢].
المعنى: تالله لقد دعانا نوح عليه السّلام واستغاث بنا، ودعا على قومه بالهلاك لما أيس منهم، قائلا: وَقالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً (٢٦) [نوح: ٧١/ ٢٦]. بعد أن مضى دهر طويل يدعوهم إلى الإيمان بالله تعالى، فكذبوه وآذوه وهموا
١- نجينا نوحا ومن آمن معه وهم ثمانون من الغم الشديد: وهو الغرق وتكذيب الكفرة.
٢- وجعلنا ذريته وحدهم دون غيرهم هم الباقين على قيد الحياة، وأهلكنا من كفر بدعائه. قال ابن عباس رضي الله عنهما، وقتادة: أهل الأرض كلهم من ذرية نوح، وقال الطبري: العرب: من أولاد سام، والسودان: من أولاد حام، والترك والصّقلب: من آل يافث.
٣- وأبقينا عليه ثناء حسنا فيمن يأتي بعده إلى آخر الدهر.
وقلنا: عليك يا نوح سلام منا في أوساط العالمين من الملائكة وعالمي الإنس والجن، وفي الباقين غابر الدهر، قال الطبري عن هذا السّلام: هذه أمنة لنوح في العالمين: أن يذكره أحد بسوء. وقال ابن عطية: هذا جزاء ما صبر طويلا على أقوال الكفرة الفجرة.
وأسباب هذه النعم التي أسبغها الله تعالى على نوح عليه السّلام ثلاثة أشياء:
١- مجازاته على إحسانه، وهكذا نجزي من أحسن من العباد في طاعة الله عز وجل. وهذا ثناء من الله تعالى على نوح بالإحسان، لصبره على أذى قومه، ومطاولته لهم، وغير ذلك من عبادته وأفعاله الطيبة.
٢- وسبب كون نوح محسنا: هو كونه من عباد الله المؤمنين، وهذا دليل على أن الإيمان بالله تعالى وإطاعته أعظم الدرجات وأشرف المقامات.
إن من مقتضيات الإيمان الصحيح بالله تعالى الإنجاء من المهالك والإسعاد في الدنيا والآخرة، وبقاء الأثر والسمعة الطيبة والذّكر الجميل إلى آخر الدهر.
وعلى عكس ذلك إن من مقتضيات الكفر بالله تعالى: الإيقاع في أنواع العذاب الأليم، والشقاء في الدنيا والآخرة، وسوء السمعة ومحل العظة والعبرة، والسعيد:
من اتعظ بغيره، والشقي: من كان عبرة وأثرا يذكر لغيره.
تحطيم إبراهيم عليه السّلام الأصنام
على الرغم من تطهير البشرية من لوثات الشرك والوثنية بإغراق الكافرين في طوفان نوح، وإنجاء المؤمنين، فقد ظهرت نزعة الشر في بعض ذرية نوح عليه السّلام، فأرسل الله تعالى إليهم إبراهيم الخليل عليه السّلام أبا الأنبياء وإمام الحنفاء، وسار على منهاج نوح في الدين والدعوة إلى توحيد الله تعالى، فكان الإعراض من قومه عن دعوته، وآل مصيرهم كقوم نوح إلى أن غلبوا وذلّوا ونالتهم العقوبات الشديدة، ونجى الله تعالى إبراهيم عليه السّلام من النار التي ألقي فيها،
[سورة الصافات (٣٧) : الآيات ٨٣ الى ١٠١]
وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْراهِيمَ (٨٣) إِذْ جاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (٨٤) إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ماذا تَعْبُدُونَ (٨٥) أَإِفْكاً آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ (٨٦) فَما ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ (٨٧)
فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ (٨٨) فَقالَ إِنِّي سَقِيمٌ (٨٩) فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ (٩٠) فَراغَ إِلى آلِهَتِهِمْ فَقالَ أَلا تَأْكُلُونَ (٩١) ما لَكُمْ لا تَنْطِقُونَ (٩٢)
فَراغَ عَلَيْهِمْ ضَرْباً بِالْيَمِينِ (٩٣) فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ (٩٤) قالَ أَتَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ (٩٥) وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ (٩٦) قالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْياناً فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ (٩٧)
فَأَرادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْناهُمُ الْأَسْفَلِينَ (٩٨) وَقالَ إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي سَيَهْدِينِ (٩٩) رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ (١٠٠) فَبَشَّرْناهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ (١٠١)
«١» «٢» [الصافات: ٣٧/ ٨٣- ١٠١].
المعنى: وإن إبراهيم عليه السّلام من شيعة نوح عليه السّلام، أي على منهاجه في الدين والتوحيد. واذكر أيها النبي محمد حين أقبل إبراهيم على ربه بقلب مخلص سليم من الشك والشرك وجميع النقائص التي تلحق قلوب بني آدم كالغلّ والحسد والكبر ونحوه. وحين قال لأبيه وقومه: ما الذي تعبدونه من هذه الأصنام من دون الله تعالى؟ وهو توبيخ على منهجهم.
أتريدون آلهة من دون الله تعبدونها إفكا وكذبا، دون حجة ولا دليل، وما ظنكم حين تلقون ربكم أنه فاعل بكم، وقد عبدتم معه غيره؟ وهو استفهام بمعنى التقرير، لا النفي، أي أكذبا ومحالا آلهة دون الله تريدون؟
ثم أخبر الله تعالى عن نظرة إبراهيم عليه السّلام في نجوم السماء، فإنه تأمل في علوم النجوم وفي معانيها، مريدا بذلك إيهام قومه أنه يعلم ما يعملون ويعلمون.
روي أن علم النجوم كان عندهم منظورا فيه مستعملا، فأوهمهم هو من تلك الجهة،
(٢) أي مال إليها.
ومراعاة للظاهر في أنها كذبة،
قال النبي صلّى الله عليه وسلّم فيما أخرجه البخاري ومسلم وغيرهما عن أبي هريرة: «لم يكذب إبراهيم النبي عليه السّلام قط إلا ثلاث كذبات، ثنتين في ذات الله: قوله: إني سقيم، وقوله: بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا [الأنبياء: ٢١/ ٦٣] وواحدة في شأن سارّة، قال عنها: هي أختي»
أي أختي في الإسلام ليخلصها من اعتداء ملك جبار في مصر.
فمال إبراهيم خفية إلى أصنام القوم، وقد خرجوا خارج البلد في عيد لهم، ووضعوا الطعام للأصنام لتباركه، فقال لها تهكما وسخرية: ألا تأكلون من هذا الطعام المقدم لكم؟ وذلك على جهة الاستهزاء بعبدة تلك الأصنام، ما الذي يمنعكم من النطق والجواب عن سؤالي؟ ومراده: التهكم والاحتقار، لأنه يعلم أنها جمادات لا تنطق.
فمال عليهم يضربهم بقوة وشدة، حتى حطّمهم إلا كبيرا لهم، فأقبل إليه القوم بعد عودتهم من عيدهم مسرعين، يسألون عمن كسرها، وقد قيل: إنه إبراهيم، وعرفوا أنه هو، فقالوا له: نحن نعبدها وأنت تكسرها؟! فقال: أتعبدون من دون الله أصناما أنتم تصنعونها من حجر وعود، وتنحتونها بأيديكم؟ والله الذي خلقكم وخلق أعمالكم هو الأحق بالعبادة، وأجدر بالتعظيم، فكيف تعبدون غيره؟ وقوله تعالى: وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ (٩٦) دليل على أن الله تعالى هو خالق أفعال العباد وهو مذهب أهل السنة، وهو أن الأفعال خلق لله عز وجل واكتساب للعباد. وفي
أخرج الثعلبي عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «إن الله خالق كل صانع وصنعته». ولفظ حذيفة عند البيهقي: «إن الله عز وجل صنع كل صانع وصنعته، فهو الخالق، وهو الصانع سبحانه».
فتواطأ قوم إبراهيم على قتله، وقالوا: ابنوا له بنيانا واسعا، وأضرموا فيه نارا عظيمة، ثم ألقوه في تلك النار المستعرة. فأرادوا به سوءا بحيلة ومكر، فأنجاه الله تعالى، وجعل النار بردا وسلاما عليه، ونصره الله عليهم، وجعلهم مغلوبين أذلة بإبطال كيدهم، ومعاقبين على أفعالهم.
ولما نجا إبراهيم عليه السّلام من إحراق النار، وأيس من إيمان قومه، قال: إني مهاجر من بلد قومي الذين آذوني، تعصبا للأصنام، وتكذيبا لرسله، إلى حيث أمرني بالمهاجرة إليه، وسيهديني الله لما فيه صلاح ديني ودنياي، وذلك إلى بلاد الشام المقدسة. رب هب لي ولدا صالحا عونا على طاعتك، وإيناسا في الغربة. فبشره الله بغلام متميز بالحلم الكثير، وهذا الغلام هو إسماعيل عليه السّلام، فإنه أول ولد بشرّ به إبراهيم عليه السّلام، وهو أكبر من إسحاق باتفاق المسلمين وأهل الكتاب.
الذبيح إسماعيل عليه السّلام
بعد أن ترك إبراهيم الخليل عليه السّلام ديار قومه عبدة الأصنام، وهاجر من أرض بابل حيث كانت مملكة نمرود إلى بلاد الشام، بشره الله بغلام حليم، وهو إسماعيل عليه السّلام الابن الأكبر لإبراهيم، ولما كبر إسماعيل وشبّ وبلغ ابن ثلاث عشرة سنة، امتحن الله تعالى الأب إبراهيم والابن إسماعيل بقصة الذبح، وأعقب ذلك الامتحان بشارة أخرى بإسحاق نبيا من الصالحين، مباركا عليه وعلى إبراهيم،
[سورة الصافات (٣٧) : الآيات ١٠٢ الى ١١٣]
فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قالَ يا بُنَيَّ إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ ماذا تَرى قالَ يا أَبَتِ افْعَلْ ما تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ (١٠٢) فَلَمَّا أَسْلَما وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (١٠٣) وَنادَيْناهُ أَنْ يا إِبْراهِيمُ (١٠٤) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (١٠٥) إِنَّ هذا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ (١٠٦)
وَفَدَيْناهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ (١٠٧) وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (١٠٨) سَلامٌ عَلى إِبْراهِيمَ (١٠٩) كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (١١٠) إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (١١١)
وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (١١٢) وَبارَكْنا عَلَيْهِ وَعَلى إِسْحاقَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِما مُحْسِنٌ وَظالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ (١١٣)
«١» «٢» [الصافات: ٣٧/ ١٠٢- ١١٣].
هذه آي المحنة لإبراهيم بعد محنته بإلقائه في النار، وكل من المحنتين في غاية القسوة واختبار الإيمان بالله تعالى، فلما كبر إسماعيل عليه السّلام قال له أبوه إبراهيم عليه السّلام: يا بني، إني رأيت في المنام أني أذبحك، فما رأيك؟ أخبره بذلك ليستعدّ لتنفيذ أمر الله، ويثاب على انقياده وطاعته لربه، وليعلم صبره لأمر الله. فأجابه إسماعيل قائلا: امض لما أمرك الله من ذبحي، وافعل ما أوحي إليك، سأصبر على القضاء الإلهي، وأحتسب ذلك عند الله عز وجل. والمراد بقوله: فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ السعي على القدم، يريد سعيا متمكنا، أو العمل والعبادة والمعونة. وبدأ تنفيذ أمر الله تعالى، فلما استسلم الأب وابنه لأمر الله وطاعته، وأسلما أنفسهما، أي فوّضا إلى الله في قضائه وقدره وألقى إبراهيم على الأرض ابنه على جنبه وجانب جبهته وهو الجبين، ومعنى وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ وضعه بقوة، ونادى الملك إبراهيم من الخلف بعدئذ. قد حصل المقصود من رؤياك، وتحقق المطلوب،
(٢) أحد جانبي الجبهة.
١- الإحسان إليه: والمعنى: مثلما جازينا إبراهيم بالعفو عن الذبح، نجزي كل محسن على طاعته، وتفريج كربته ومحنته، وإن هذه المحنة أو الاختبار بالشدة لهو الاختبار الصعب الواضح الذي لا يوجد أصعب منه، حيث اختبر الله إبراهيم في مدى طاعته بذبح ولده، فصبر محتسبا الأجر عند ربه.
٢- وافتداء الذبح، فلقد جعلنا لإبراهيم فداء ولده بتقديم كبش عظيم الجثة سمين.
والذّبح: اسم لما يذبح، وهو الكبش، ووصفه بالعظم لأنه متقبّل يقينا. ويرى أهل السنة: أن هذه القصة نسخ فيها العزم على الفعل. والمعتزلة تقول: إنه لا يصح نسخ إلا بعد وقوع الفعل، وهو مجرد إمرار الشفرة على العنق فقط، وهو ما رآه إبراهيم في منامه، فظن أنه ذبح مجهز، منفّذ لذلك، فلما وقع الذي رآه، وقع النسخ.
٣- الثناء الحسن عليه: وأبقينا لإبراهيم في الأمم المتلاحقة ثناء حسنا، وذكرا جميلا، فأحبه أتباع الملل كلها، من اليهود والنصارى والمسلمين، وأهل الشرك قاطبة، كما جاء في آية أخرى: وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ (٨٤) وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ (٨٥) [الشعراء: ٢٦/ ٨٤- ٨٥]. ومثل هذا الجزاء نجزي جميع المحسنين بالفرج بعد الشدة.
٤- البشارة بإسحاق: ووهبنا لإبراهيم ولدا آخر بعد إسماعيل هو إسحاق، وجعلناه نبيا صالحا من زمرة الصالحين. والبشارة بولادة إسحاق بعد قصة الذّبح دليل على أن إسماعيل هو الذبيح. وكان الذّبح بمنى.
٥- مباركة إبراهيم وإسحاق: وجعلنا البركة والنعمة الدنيوية والأخروية في إبراهيم وإسحاق، ومنها كثرة الولد والذرية، وجعل أكثر الأنبياء من نسلهما ونسل
وبعض ذريتهما محسن فاعل للخيرات، وبعضها ظالم لنفسه بالكفر والمعاصي، واضح الظلم والانحراف.
وهذا دليل على أن النسب لا أثر له في الهدى والضلال، وأن النفع ليس بالوراثة والنسب، وإنما الانتفاع بالأعمال، وأنه لا يعيب الأصول ولا ينتقصهم سوء بعض ذريتهم، لقوله تعالى: وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى [الأنعام: ٦/ ١٦٤].
نعم الله على موسى وهارون وإلياس عليهم السّلام
امتن الله تعالى على أنبيائه الكرام بنعم كثيرة بسبب تضحياتهم وجهودهم في سبيل نشر الدعوة إلى الله سبحانه، وإصلاح الناس، ومن هؤلاء الأنبياء الصفوة: موسى وهارون عليهم السّلام، ومضمون هذه النعم: النبوة وعلوّ المكانة، ونجاتهم من المآزق والمحن، ونصرهم على معارضيهم، وهدايتهم إلى الطريق القويم، وإبقاء الثناء الحسن والسمعة العالية والتحية لهم على ممر الزمان إلى آخر الدهر، وبهذا النوع من الجزاء على إخلاصهم وطاعتهم لربهم، يجزي الله تعالى كل المحسنين، وهذا صريح في الآيات الآتية:
[سورة الصافات (٣٧) : الآيات ١١٤ الى ١٣٢]
وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلى مُوسى وَهارُونَ (١١٤) وَنَجَّيْناهُما وَقَوْمَهُما مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (١١٥) وَنَصَرْناهُمْ فَكانُوا هُمُ الْغالِبِينَ (١١٦) وَآتَيْناهُمَا الْكِتابَ الْمُسْتَبِينَ (١١٧) وَهَدَيْناهُمَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ (١١٨)
وَتَرَكْنا عَلَيْهِما فِي الْآخِرِينَ (١١٩) سَلامٌ عَلى مُوسى وَهارُونَ (١٢٠) إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (١٢١) إِنَّهُما مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (١٢٢) وَإِنَّ إِلْياسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (١٢٣)
إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَلا تَتَّقُونَ (١٢٤) أَتَدْعُونَ بَعْلاً وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخالِقِينَ (١٢٥) اللَّهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (١٢٦) فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ (١٢٧) إِلاَّ عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (١٢٨)
وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (١٢٩) سَلامٌ عَلى إِلْ ياسِينَ (١٣٠) إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (١٣١) إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (١٣٢)
تالله لقد أنعمنا على موسى وهارون بالنبوة وغيرها من العطاءات والمنافع التي تؤدي إلى رفع مكانتهما في الدنيا والآخرة. ونجيناهما وقومهما الإسرائيليين من الكرب العظيم، أي الاستعباد الفرعوني ومحاولة قتلهم ومتابعتهم، وإنجائهم من الغرق في البحر. ونصرناهم، أي موسى وهارون وقومهما على أعدائهم، فكانوا هم المتغلبين أصحاب السيادة والسلطة. وأنعمنا على موسى وهارون بالتوراة الكتاب المنظّم لشؤون الدنيا والآخرة. وأرشدناهما إلى الطريق المستقيم: وهو طريق الشرع والنبوة المؤدي إلى الله تعالى.
وأبقينا لهما من بعدهما ثناء حسنا جميلا باقيا آخر الدهر. وهذا هو ما تركه الله عليهما في الآخرين، حيث فسره بقوله تعالى: سَلامٌ عَلى مُوسى وَهارُونَ (١٢٠) والمراد به الثناء الحسن في الأمم الباقية المتأخرة. ومثل هذا الجزاء على الإخلاص والطاعة من النبيين الرسولين موسى وهارون نجزي بالخلاص من الشدائد والمحن كل من أحسن عمله، فأطاع الله وانقاد له، لأنهما من فئة عباد الله المؤمنين المصدقين تصديقا صحيحا كاملا.
وإن إلياس بن ياسين الذي هو نبي من أنبياء الله تعالى، والذي ينتهي نسبه إلى أخي موسى عليهما السّلام، بعثه الله في بني إسرائيل بعد حزقيل عليه السّلام، وكان قومه الإسرائيليون قد عبدوا صنما، يقال له (بعل) فدعاهم إلى توحيد الله تعالى، ونهاهم عن عبادة ما سواه. ومضمون قصته: اذكر أيها الرسول محمد حين قال إلياس لقومه: أَلا تَتَّقُونَ. أي هلّا تخافون الله تعالى في عبادتكم غيره، وتتركون ما نهاكم عنه من الشرك والعصيان!
فكذبوا دعوته ونبوته، فصاروا بسبب تكذيبه لمحضرون، أي لمجموعون للعذاب يوم القيامة، ومجازون على ما قدموا من الأعمال المنكرة، والأفعال والعقائد الفاسدة.
ثم استثنى الله تعالى من ذلك الجزاء: من كان مؤمنا فقال: إِلَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (١٢٨) أي إلا عباد الله الذين وحّدوه توحيدا خالصا من الشرك وشوائبه، وعبدوه حق العبادة، وأخلصوا العمل لله، فهؤلاء في كل زمان ناجون من العذاب، مثابون ثوابا حسنا على صالح أعمالهم، لا يتعرضون لشيء من عقاب المشركين.
واستحق إلياس النبي عليه السّلام مثلما استحق موسى وهارون: أن يبقي الله عليه ثناء حسنا جميلا آخر الدهر وعلى ممر الزمان، وهو السّلام عليه، سلاما مباركا من الملائكة والإنس والجن، لأنه سليم الإيمان بما أمره الله به، وهو الذي قاوم الشرك والوثنية. وإل ياسين: اسم أيضا لإلياس، فهو اسم واحد له، وهذه لغة، كما يقال: إبراهيم وإبراهام، وإدريس وإدراسين.
ومثل ذلك الجزاء على الإخلاص والطاعة من إلياس، يجازي الله جميع المحسنين أعمالهم لله تعالى، وعلة الجزاء أنه، أي إلياس مؤمن من جملة عباد الله المصدّقين بوجود الله وتوحيده واتصافه، أي الله بصفات الكمال والجلال والجمال والإحسان.
الفضل الإلهي ذو معيار ثابت واحد، فكما أنعم الله تعالى في آيات سابقة من سورة الصافات على موسى وهارون وإلياس عليهم السّلام، أنعم أيضا على لوط ويونس عليهما السّلام، من إنجاء لوط وأهله إلا امرأته من العذاب، وتدمير بقية القوم، وإخراج يونس حيا من بطن الحوت، وحمايته من هضمه، وإنبات شجرة يقطين عليه يحتمي بأوراقها العريضة، وتسخير سبيل إعادة القوة والصحة له، وذلك كله للعظة والعبرة، قال الله تعالى مبينا هذه النعم:
[سورة الصافات (٣٧) : الآيات ١٣٣ الى ١٤٨]
وَإِنَّ لُوطاً لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (١٣٣) إِذْ نَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ (١٣٤) إِلاَّ عَجُوزاً فِي الْغابِرِينَ (١٣٥) ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ (١٣٦) وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ (١٣٧)
وَبِاللَّيْلِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (١٣٨) وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (١٣٩) إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (١٤٠) فَساهَمَ فَكانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ (١٤١) فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ (١٤٢)
فَلَوْلا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ (١٤٣) لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (١٤٤) فَنَبَذْناهُ بِالْعَراءِ وَهُوَ سَقِيمٌ (١٤٥) وَأَنْبَتْنا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ (١٤٦) وَأَرْسَلْناهُ إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ (١٤٧)
فَآمَنُوا فَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ (١٤٨)
«١» «٢» «٣» [الصافات: ٣٧/ ١٣٣- ١٤٨].
إن إيراد بعض قصص الأنبياء السابقين من أجل أن يعتبر بها مشركو العرب وقت نزول الوحي، وكذا كل من كفر وعاند ممن يأتي بعدهم، فإن الذين أمعنوا في الكفر بادوا وهلكوا، وبقي الذين آمنوا. إن لوطا ابن أخي إبراهيم أو ابن أخته أرسله الله من جملة المرسلين إلى أهل سدوم في وادي الأردن، لارتكابهم الفواحش، فنصحهم، فأبوا نصحه، فأهلكهم الله بحاصب من الحجارة المحرقة كالبراكين العاتية، فجعل بلادهم عاليها سافلها، ونجى الله تعالى لوطا عليه السّلام وأهله المؤمنين به إلا امرأته
(٢) هرب بلا إذن إلى السفينة المملوءة.
(٣) أي فاقترع فكان يونس من المغلوبين.
والغابرون: الباقون، وغبر بمعنى بقي، ومعناه هنا: بقيت في الهلاك.
ثم أهلك الله قوم لوط الذين كذبوا برسالته، وهم أهل الفاحشة الشنيعة (اللواط). ثم خاطب الله تعالى قريشا بما معناه:
قل لهم يا محمد وإنكم يا أهل مكة لتمرون على منازل قوم لوط التي فيها آثار العذاب وقت الصباح، أي بالنهار ذهابا إلى الشام، وفي الليل أثناء رجوعكم من الشام، أفلا تتدبرون بعقل واع، وتتعظون بما تشاهدونه في ديارهم من آثار التدمير، وعقوبة الله النازلة بهم، فتخافوا من أن يحل بكم نفس العذاب، وتصيروا مثلهم في مصيرهم المشؤوم، لمخالفتهم رسولهم وتكذيبهم به. وهذا توبيخ لمشركي قريش وأمثالهم.
وأشار الله تعالى إلى الصباح والليل، لأن أكثر مشي المسافر على الدواب في الليل وأوائل النهار.
ثم ذكر الله قصة نبي آخر، وهو يونس بن متّى، الذي كان من أنبياء بني إسرائيل، أرسله الله تعالى إلى قومه أهل نينوى بالموصل، ومضمون قصته: واذكر أيها النبي محمد حين هرب يونس من قومه، مغاضبا قومه، إلى سفينة مملوءة بالحمولة، بغير إذن ربه، فتعرضت السفينة للغرق، فاقترع الركاب فيما بينهم تخفيفا من الحمولة الثقيلة على إلقاء بعضهم في البحر، فأصابت القرعة ثلاث مرات يونس عليه السّلام، فألقوه في البحر، والفلك المشحون مفرد أو جمع: السفينة الموقرة.
فابتلعه الحوت الذي كان بجوار السفينة على الفور، وهو الذي أتى ما يلام عليه،
لولا أنه كان في حياته من الذاكرين الله كثيرا، المنزّهين إياه، المصلين له، لبقي ميتا في بطن الحوت إلى يوم القيامة، والتسبيح: صلاة التطوع في وقت الرخاء، نفعته في وقت الشدة، وهذا رأي جماعة من العلماء. وقال ابن جبير. هو قوله في بطن الحوت:
سبحان الله إني كنت من الظالمين. فجعل الله الحوت يلقيه، في مكان خال من الناس والنبات، على جانب نهر دجلة، وهو عليل الجسد، سقيم البدن، كهيئة الصبي حين يولد.
وأنبت الله عليه شجرة فوقه، تظلله وهي شجرة القرع، وهي سريعة النمو، وبعد استعادة عافيته، أرسله الله عائدا إلى القوم الذين هرب منهم يائسا من إيمانهم إلى ركوب البحر، وهم أهل نينوى من أرض الموصل، وعددهم مائة ألف فأكثر، حيث وجدهم قد آمنوا بالله ربهم، بعد أن رأوا أمارات العذاب، فمتّعهم الله في الدنيا إلى حين انقضاء آجالهم ومنتهى أعمارهم.
مناقشة عقائد المشركين
بعد أن أورد الله تعالى في سورة الصافات أخبار جماعة من أنبياء بني إسرائيل، من قبيل إعداد المقدمات الموطّئة لمناقشة المشركين المكيين في عقائدهم، وجه الله تعالى إنذارا يتضمن التوبيخ والتقريع للمشركين على فساد اعتقادهم وإنكارهم البعث، ونسبتهم البهتان إلى الله تعالى، وجعلهم البنات لله تعالى، تنزه الحق عن ذلك، وقالت فرقة منهم هم من بني مدلج قولا بلغ غاية الإفك والكذب: ولد الله الملائكة، لأنه نكح في سراة الجن، وهذه آيات مخبرة عن هذه الفصول الغريبة:
[سورة الصافات (٣٧) : الآيات ١٤٩ الى ١٧٠]
فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَناتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ (١٤٩) أَمْ خَلَقْنَا الْمَلائِكَةَ إِناثاً وَهُمْ شاهِدُونَ (١٥٠) أَلا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ (١٥١) وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (١٥٢) أَصْطَفَى الْبَناتِ عَلَى الْبَنِينَ (١٥٣)ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (١٥٤) أَفَلا تَذَكَّرُونَ (١٥٥) أَمْ لَكُمْ سُلْطانٌ مُبِينٌ (١٥٦) فَأْتُوا بِكِتابِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (١٥٧) وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ (١٥٨)
سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ (١٥٩) إِلاَّ عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (١٦٠) فَإِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ (١٦١) ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفاتِنِينَ (١٦٢) إِلاَّ مَنْ هُوَ صالِ الْجَحِيمِ (١٦٣)
وَما مِنَّا إِلاَّ لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ (١٦٤) وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ (١٦٥) وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ (١٦٦) وَإِنْ كانُوا لَيَقُولُونَ (١٦٧) لَوْ أَنَّ عِنْدَنا ذِكْراً مِنَ الْأَوَّلِينَ (١٦٨)
لَكُنَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (١٦٩) فَكَفَرُوا بِهِ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (١٧٠)
«١» «٢» «٣» [الصافات: ٣٧/ ١٤٩- ١٧٠].
هذه مناقشات للقرشيين المشركين في مكة في عقائدهم، حول إثبات التوحيد، ونفي الشرك، وإثبات البعث يوم القيامة. بدأت بعبارة الاستفتاء أي السؤال بمعنى التوبيخ والتقريع على أقوالهم المفتراة، فاسألهم يا محمد على سبيل التوبيخ والتأنيب:
كيف تجعلون لله البنات، وأنتم تكرهونهن أشد الكره، ولكم البنون الذين تحبونهم وتعتمدون عليهم في الغزو وتقوية القبيلة؟
إنها قسمة جائرة، وتوزيع عجيب غريب، ينسبون لله النوع الذي لا يختارونه لأنفسهم، كما جاء في آية أخرى: أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى (٢١) تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى (٢٢) [النجم: ٥٣/ ٢١- ٢٢] أي جائرة.
بل كيف حكموا على الملائكة أنهم إناث، وما شاهدوا خلقهم؟ فمثل ذلك الحكم يحتاج لمشاهدة، وهم لم يشاهدوا بدء خلق الملائكة، فلا دليل لهم على مزاعمهم. ألا إن قولهم هذا من محض الكذب والافتراء، الذي لا دليل عليه ولا شبهة دليل، وإن
(٢) بحاملين على الفتنة والإضلال.
(٣) أي الداخل النار. [.....]
وتكرار هذه الاستفهامات لتكرار التوبيخ والتبكيت والإنكار الشديد على أقوال المشركين في مكة. ومن أعظم افتراءات بعضهم وهم بنو مدلج أنهم جعلوا مصاهرة ونسبا بين الله تعالى وبين الجنّة، أي الملائكة، فقالوا: الملائكة بنات الله، ووصفوا بالجنّة، لاستتارهم عن الأبصار. وتالله لقد علمت الملائكة علما يقينيا أن أولئك المشركين لمجموعون للحساب والعذاب في النار، لكذبهم وافترائهم هذا.
تنزيها لله تعالى، وتقديسا له، عن كينونة ولد له، وعما يصفه به الظالمون المشركون، من أوصاف مفتراة.
نزلت هذه الآية كما نقل الواحدي عن المفسرين في قريش وأجناس من العرب:
جهينة وبني سلمة وخزاعة، وبني مدلج أو بني مليح قالوا: الملائكة بنات الله. لكن عباد الله المخلصين وهم المتبعون للحق المنزل على رسله الكرام هم ناجون، فلا يساقون إلى عذاب النار، وهذا استثناء منقطع.
ثم أعلن الله تعالى مدى عجز المشركين عن إضلال أحد، حيث خاطبهم: فإنكم وآلهتكم التي تعبدونها من دون الله لا تقدرون على فتنة أحد عن دينه، وإضلاله، إلا من هو أضل منكم، ممن هو داخل نيران الجحيم، في علم الله تعالى، وهم المصرّون على الكفر.
ثم نزّه الله تعالى الملائكة مما نسبوا إليه من الكفر بهم والكذب عليهم، حيث أورد الله تعالى ذلك على لسان الملائكة بما قالوه: ليس منا ملك إلا له مرتبة معلومة
أخرج ابن أبي حاتم عن يزيد بن أبي مالك قال: كان الناس يصلّون متبددين، فأنزل الله: وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ (١٦٥) فأمرهم النبي صلّى الله عليه وسلّم أن يصفّوا.
ثم أورد الله تعالى ما كان يقوله المشركون قبل البعثة النبوية إذا عيّروا بالجهل فهم كانوا يقولون: لو كان عندنا كتاب من كتب الأولين كالتوراة والإنجيل، لأخلصنا العبادة لله، ولم نكفر به، فجاءهم النبي محمد صلّى الله عليه وسلّم بالقرآن المجيد، فكفروا به، فسوف يرون عاقبة كفرهم. وهذا وعيد محض، وتهديد على كفرهم بالله ورسوله وقرآنه، لأنهم تمنوا أمرا، فلما جاءهم الله به، كفروا واستهواهم الحسد.
مناصرة الرسل عليهم السّلام
سبق القضاء الإلهي الحاسم، وتقرّر فصل الأمر بأن الله ناصر رسله المرسلين، وكذلك جنده المؤمنين في الغالب، إذا نصروا دين الله تعالى، واستقاموا على أمره، وابتعدوا عن نهيه، وكلّ ما يؤدي لسخطه وغضبه. ونصر أهل الحق والإيمان يقابله هزيمة أهل الكفر والعصيان، والضلال والخذلان، وسيجد كل فريق عاقبته، ونتيجة طريقته، وهذا حق وعدل، وإقرار لما يستوجبه فعل كل إنسان من خير أو شر، وإيمان أو كفر، وإعلان هذا القرار: إعذار وبعد عن أي لوم أو عتاب، قال الله تعالى مبينا هذا الحكم الأزلي الثابت:
[سورة الصافات (٣٧) : الآيات ١٧١ الى ١٨٢]
وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ (١٧١) إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ (١٧٢) وَإِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ (١٧٣) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ (١٧٤) وَأَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ (١٧٥)
أَفَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ (١٧٦) فَإِذا نَزَلَ بِساحَتِهِمْ فَساءَ صَباحُ الْمُنْذَرِينَ (١٧٧) وَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ (١٧٨) وَأَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ (١٧٩) سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ (١٨٠)
وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ (١٨١) وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (١٨٢)
آنس الله تعالى نبيه صلّى الله عليه وآله وسلّم وأولياءه بأن القضاء قد سبق، وأن الوعد بالنصر والظفر لرسل الله الكرام على من جحد برسالتهم قد فرغ منه، سواء في الدنيا أو في الآخرة، ففي الدنيا تكون الغلبة والقهر للرسل العباد: بأسر أعدائهم وتقتيلهم وتشريدهم، أو بإجلائهم، أو بتغلب الحجة والبرهان عليهم ونحو ذلك.
وفي الآخرة بالظفر بالجنة والنجاة من النار. وهذا الحكم مقرّر في الغالب، وإن كان النادر هو العكس. وجند الله: حزبه والمجاهدون في سبيله لإعلاء كلمة الله، وهم الرسل وأتباعهم. والنصر مشروط بنصرة دين الله وشرعه، واتباع أوامره، واجتناب نواهيه، والعمل بالقرآن والسنة النبوية، لقول الله تعالى: كانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ
[الروم: ٣٠/ ٤٧].
وسبق الكلمة: هو في الأزل بأن رسل الله إلى أرضه وجنود الله هم المنصورون على من ناوأهم، المظفّرون بإرادتهم، المستوجبون الفلاح في الدارين.
فأعرض عنهم أيها النبي، واصبر على أذاهم لك، إلى مدة معلومة عند الله تعالى، فإنا سنجعل لك النصر في النهاية. وهذا وعد للنبي صلّى الله عليه وسلّم، وأمر له بموادعة أو مهادنة المشركين إلى أمد معلوم. والحين أو الأمد: إما يوم بدر، ورجحه الطبري، أو موتهم، أو يوم القيامة.
ووعد آخر للنبي صلّى الله عليه وسلّم ووعيد لهم، مفاده: أمهل هؤلاء المشركين، وانظر ماذا يحل بهم من العذاب بمخالفتك وتكذيبك، كالأسر والقتل. وسوف يبصرون كل ما وعدتهم به من العقاب ويرون عقبى طريقتهم، وما وعدناك به من النصر وانتشار الإسلام، وكرّر الله تعالى هذا للتأكيد.
ثم كرر الله تعالى أمر نبيه صلّى الله عليه وسلّم بالإعراض عن هؤلاء المشركين إلى أجل آخر، يحين فيه هلاكهم، فسوف يرون ما يحل بهم من عقاب. وإعادة الأمر بالتولي أو الإعراض عن المشركين تحقيق لتأنيس النبي والعناية به.
وتنزيها لله ربك أيها الرسول تنزيها مطلقا عن جميع ما يمكن أن يصفه به أهل الضلالات، فالله هو رب العزة المطلقة، والمراد بالعزة هنا: أنه ربّ العزة المخلوقة الكائنة للأنبياء والمؤمنين. والتحية من الله على المرسلين. وتوفير الثناء الحسن الجميل آخر الدهر، لسلامة ما قالوه في ربهم وصحته وحقيقته، والحمد التام والشكر الكامل لله في الأولى والآخرة في كل حال، فهو سبحانه رب الثقلين: الإنس والجن، دون سواه. وهذا تعليم من الله للمؤمنين أن يقولوا ذلك.
أخرج ابن سعد وابن مردويه عن أنس عن أبي طلحة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «إذا سلّمتم على المرسلين، فسلّموا علي، فإنما أنا بشر من المرسلين».
والعزة في هذه الآية: ليست هي صفة الله تعالى، والتي من حلف بها كان ذلك يمينا، وإنما المراد بها عزته التي خلق بين عباده، فمن حلف بالعزة المخلوقة الكائنة للأنبياء والمؤمنين، فليس ذلك بيمين.