سورة الزمرآياتها خمس وسبعون- وقيل اثنان وسبعون وهي مكية.
ﰡ
﴿ تنزيل الكتاب ﴾ خبر مبتدأ محذوف أي هذا أو مبتدأ خبره ﴿ من الله العزيز ﴾ في ملكه ﴿ الحكيم ﴾ في صنعه وهو على الأول صلة التنزيل أو خبر ثان أو حال عمل فيها معنى الإشارة أو التنزيل، والظاهر أن الكتاب على الأول السورة وعلى الثاني القرآن.
﴿ إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق ﴾ أي متلبسا بالحق أو بسبب إثبات الحق وإظهاره وتفصيله، وليس هذا تكرار لأن الأول كالعنوان للكتاب والثاني لبيان ما فيه ﴿ فاعبد الله مخلصا له الدين ﴾ مخلصا له الدين من الشرك والرياء وتقديم الخبر لتأكيد الاختصاص المستفاد من اللام كما صرح به مؤكدا أو أجراه مجرى العلوم المقرر لكثرة حججه وظهور براهينه فقال :﴿ ألا لله الدين الخالص والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى إن الله يحكم بينهم في ما هم فيه يختلفون إن الله لا يهدي من هو كاذب كفار ﴾
﴿ ألا لله الدين الخالص ﴾ جملة معترضة للتنبيه أي أنا هو الذي وجب اختصاصه بأن يخلص له الطاعة فإنه المنفرد بصفات الألوهية والإطلاع على الأسرار والضمائر ﴿ والذين اتخذوا ﴾ يعني الكفرة الذين اتخذوا ﴿ من دونه ﴾ أي من دون الله ﴿ أولياء ما نعبدهم ﴾ أي قالوا ما نعبدهم ﴿ إلا ليقربونا إلى الله ﴾ كذلك قرأ ابن مسعود وابن عباس وحينئذ قالوا المقدر بدل من الصلة أو حال بتقدير قل من فاعل اتخذوا وقوله ﴿ زلفى ﴾ مصدر بمعنى قربى، قال البغوي اسم أقيم مقام المصدر كأنه قال ليقربونا إلى الله تقريبا أو حال والموصول مبتدأ خبره ﴿ إن الله يحكم بينهم ﴾ وبين المسلمين ﴿ في ما هم فيه يختلفون ﴾ من أمر الدين بإدخال المحق الجنة والمبطل النار والضمير للكفرة ومقابليهم وجاز أن يكون خبر الموصول جملة قالوا ما نعبدهم وجملة إن الله يحكم بينهم مستأنفة، وجاز أن يكون المراد بالموصول المعبودون بالباطل على حذف الراجع يعني الذين اتخذوهم من دونه أولياء من الملائكة وعيسى والأصنام إن الله يحكم بينهم، وجملة ما نعبدهم بتقدير القول حال، أو بدل للصلة ولا يحتمل كونه خبرا أخرج جويبر عن ابن عباس في هذه الآية قال أنزلت في ثلاثة أحياء عامر وكنانة وبني سلمة، كانوا يعبدون الأوثان ويقولون الملائكة بناته فقالوا ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى، قال البغوي إنهم كانوا إذا قيل لهم من ربكم ومن خلقكم ومن خلق السماوات والأرض قالوا الله فيقال لهم ما معنى عبادتكم الأوثان قالوا ليقربونا إلى الله زلفى ﴿ إن الله لا يهدي من هو كاذب ﴾ بنسبة الولد إلى الله وبقوله الأصنام تشفع عند الله ﴿ كفار ﴾ لإنعام الله حيث يشرك به غيره، يعني إن الله لم يريد ولا يريد أن يهديهم ولو شاء لهداهم فلم يكذبوا ولم يكفروا جملة معترضة.
﴿ لو أراد الله أن يتخذ ولدا ﴾ كما زعموا ﴿ لاصطفى مما يخلق ما يشاء ﴾ العائد إلى الموصول ضمير منصوب محذوف والموصول مع الصلة مفعول لاصطفى ومما يخلق حال منه والعائد إلى الموصول فيه أيضا ضمير منصوب يعني لو أراد الله اتخاذ الولد لاصطفى ما يشاءه مما خلق إذ لا موجود إلا وهو مخلوقه لقيام الأدلة على امتناع وجود واجبين ووجوب استناد ما عدا الواجب إليه ومن البين أن المخلوق لا يماثل الخالق فيقول مقام الولد له، فهذا الكلام في قوة أن يقال لو أراد الله أن يتخذ ولدا لا يتصور ذلك فحذف الجزاء وأقيم دليله مقامه وجاز أن يكون العائد إلى الموصول في مما يخلق الضمير للمرفوع، والمعنى لو أراد الله أن يتخذ ولدا إلا أصطفى ولدا يقدر على خلق الأشياء وذا الحال لأنه يستلزم تعدد الآلهة فهو دليل على امتناع إرادة الله أن يتخذ ولدا ثم قرر ذلك بقوله ﴿ سبحانه ﴾ أن يكون له ولد ﴿ هو الله الواحد ﴾ يعني أن الألوهية التي تتبع الوجوب مستلزم للتوحد في ذاته وصفاته وتنافي المماثلة والمشاركة فأنى يكون له ولد والولد لا يكون إلا من جنس الوالد ناشئا من بعض أجزائه ﴿ القهار ﴾ القهارية المطلقة ينافي المشاركة وقبول الزوال المحوج إلى الولد ثم استدل على ذلك بقوله ﴿ خلق السماوات والأرض بالحق يكور الليل على النهار ويكور النهار على الليل وسخر الشمس والقمر كل يجري لأجل مسمى ألا هو العزيز الغفار { ٥ ﴾ }
﴿ خلق السماوات والأرض بالحق ﴾ أي متلبسا بالحق غير عابث، بل ليكون دليلا على الصانع ﴿ يكور الليل على النهار ويكور النهار على الليل ﴾ يغشي كل واحد منهما الآخر كأنه يلف عليه لف اللباس باللابس أو يغيب به كما يغيب الملفوف باللفاف أو يجعله كارا عليه كرورا متتابعا مثل أكوار العمامة، والحاصل أنه يخلق كل واحد منهما عقيب الآخر، قال الحسن والكلبي ينقص من الليل ويزيد في النهار وينقص من النهار ويزيد في الليل ﴿ وسخر الشمس والقمر كل يجري ﴾ في الفلك ﴿ لأجل مسمى ﴾ أي ليوم القيامة ﴿ ألا هو العزيز ﴾ الغالب القادر على كل شيء ﴿ الغفار ﴾ حيث لم يعاجل في العقوبة ولم يسلب ما في هذه الصنائع من الرحمة والمنفعة.
﴿ خلقكم من نفس واحدة ﴾ يعني آدم عليه السلام خلقها من غير أب وأم ﴿ ثم جعل منها زوجها ﴾ استدلال آخر بما أوجده في العالم السفلي، وثم للعطف على محذوف هو صفة نفس أعني خلقها أو على معنى واحدة أي من نفس وحدت ثم جعل منها زوجها فشفعها بها أو على خلقكم والعطف بثم لتفاوت ما بين الآيتين فإن الأول عادة مستمرة دون الثانية، وقيل معنى قوله : خلقكم من نفس إنه أخرجكم من ظهره كل ذرية ذرأها حين أخذ الميثاق ثم خلق منها حواء زوجها ﴿ وأنزل لكم ﴾ أي قضى وقسم لكم فإن قضاياه وقسمه يوصف بالنزول من السماء لما كتب في اللوح أو المعنى أحدث لكم بأسباب نازلة من السماء كأشعة الكواكب والأمطار، وقيل معناه خلق في الجنة مع آدم عليه السلام ثم أنزل منها لكم ﴿ من الأنعام ثمانية أزواج ﴾ ذكر وأنثى من الإبل والبقر والضأن والمعز حال من الأنعام ﴿ يخلقكم ﴾ جملة مبينة لما سبق أي يخلق الإنس والأنعام فيه تغليب لذوي العقول على غيرهم ﴿ في بطون أمهاتكم خلقا من بعد خلق ﴾ نطفة ثم علقة ثم مضغة ثم عظاما ثم يكسى لحما، ثم ينفخ فيه الروح ﴿ في ظلمات ثلاث ﴾ ظلمة البطن والرحم والمشيمة أو الصلب والرحم والبطن ﴿ ذلكم ﴾ أي الذي فعل هذه الأفعال مبتدأ خبره ﴿ الله ربكم ﴾ خبر ثان ﴿ له الملك ﴾ خبر ثالث ﴿ لا إله إلا هو ﴾ خبر رابع، أي لا يستحق العبادة أحد غيره لعدم اشتراك أحد في الخلق ﴿ فأنى تصرفون ﴾ الفاء للسببية والاستفهام للاستبعاد والتعجب يعني كيف تصرفون عن طريق الحق بعد هذا البيان الشافي وعن عبادته إلى عبادة غيره.
﴿ إن تكفروا فإن الله غني عنكم ﴾ وعن إيمانكم شرط حذف جزاؤه وأقيم دليله مقامه تقديره إن تكفروا يعود وبال كفركه إليكم لا إلى الله تعالى : فإن الله غني عنكم ومن إيمانكم وإنما أنتم تحتاجون إليه لتضرركم بالكفر وانتفاعكم بالإيمان ﴿ ولا يرضى لعباده الكفر ﴾ عطف على الشرطية يعني الكفر مبغوض غير مرضي له تعالى وإن كان بإرادته حيث قال :﴿ من يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا ﴾ وهو قول السلف، وعليه إجماع أهل السنة والجماعة خلافا للمعتزلة، وذكر البغوي أنه قال ابن عباس والسدي معناه لا يرضى لعباده المؤمنين الكفر وهم الذين قال الله تعالى فيهم :﴿ إن عبادي ليس لك عليهم سلطان ﴾ وهذا القول مبني على أن يكون الرضاء بمعنى الإرادة مجازا وإلا فالحق أنه لا يستلزم إفرادة ولا يرادفه، فإن إرادته يتعلق بالخير والشر كله ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن ويستحيل تخلف المراد عن إرادته قال الله تعالى :﴿ إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون ﴾ ﴿ وإن تشكروا ﴾ أي تؤمنوا بربكم وتطيعوه ﴿ يرضه لكم ﴾ قيل في تفسيره يثيبكم به وهذا حاصل المعنى فإن الرضاء يستلزم الإثابة أصله يرضاه سقط الألف بالجزم فقرأ نافع وعاصم وحمزة وهشام باختلاس حركة هاء الضمير إبقاء على ما كان لأن ما قبله ساكن تقديرا وأبو عمرو وابن كثير وابن ذكوان والكسائي بإشباع الحركة لأنها صارت بحذف الألف موصولة بمتحرك وهي رواية أبي حمدان وغيره عن اليزيدي وفي رواية عن أبي عمرو بإسكان الهاء وبه قرأ يعقوب ﴿ ولا تزر ﴾ نفس ﴿ وازرة وزر ﴾ نفس ﴿ أخرى ﴾ أي لا تحمله فيه إشارة إلى أن وبال كفركم لا يتجاوز عنكم إلى غيركم فلا يتضرر به النبي صلى الله عليه وسلم فدعوته إياكم إلى الإيمان ليس إلا لأجل أن ينفعكم ﴿ ثم إلى ربكم مرجعكم فينبئكم بما كنتم تعملون ﴾ بالمجازاة ﴿ إنه عليم بذات الصدور ﴾ فيجازي على أعمالكم على حسب نياتكم.
﴿ وإذا مس الإنسان ﴾ الكافر ﴿ ضر دعا ربه منيبا ﴾ أي راجعا ﴿ إليه ﴾ مستغيثا ﴿ ثم إذا خوله ﴾ أي أعطاه أو جعله ذا حشم وأتباع والخول الحشم والأتباع قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في العبيد :" إخوانكم خولكم جعل الله تحت أيديكم " أو تعهده كما في الحديث " كان عليه السلام يتخولنا " أي يتعهدنا بالموعظة من قولهم فلان خائل مال وهو الذي يصلحه ويقوم به كذا في النهاية والقاموس ﴿ نعمة منه ﴾ إما مفعول ثان لخوله إن كان بمعنى أعطاه أو مفعول له ﴿ نسي ما كان يدعو إليه ﴾ أي الضر الذي كان يدعو الله إلى إزالته أو نسي ربه الذي كان يتضرع إليه وما حينئذ بمعنى من كما في قوله تعالى :﴿ وما خلق الذكر والأنثى { ٣ ﴾ } ﴿ من قبل ﴾ النعمة ﴿ وجعل لله أندادا ﴾ أي شركاء ﴿ ليضل عن سبيله ﴾ أي دين الإسلام، قرأ ابن كثير وأبو عمرو ودويس بفتح الياء والباقون بضمها والضلال والإضلال لما ترتب على ذلك شبه بالعلة الغائبة كما في قوله تعالى :﴿ فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدوا وحزنا ﴾ ﴿ قل ﴾ يا محمد لهذا الكافر ﴿ تمتع بكفرك قليلا ﴾ في الدنيا إلى أجلك أمر تهديد وفيه إقناط للكافرين من التمتع في الآخرة ولذلك علله على سبيل الاستئناف بقوله ﴿ إنك من أصحاب النار ﴾ قيل نزلت في عيينة بن ربيعة، وقال مقاتل نزلت في أبي حذيفة بن المغيرة المخزومي.
﴿ أمن هو قانت ﴾ أي قائم بوظائف الطاعات، قال ابن عمر القنوت قراءة القرآن وطول القيام قرأ ابن كثير ونافع وحمزة بتخفيف الميم فالتقدير أمن من هو قانت لله كمن جعل له أندادا، وقرأ الباقون بتشديد الميم فأم حينئذ منقطعة والمعنى أمن هو قانت كمن جعل له أندادا أو متصلة بمحذوف تقديره أمن جعل لله أنداد ولم يشكر نعمته خير أم من هو قانت ﴿ آناء الليل ﴾ ساعاته ﴿ ساجدا وقائما ﴾ في الصلاة حالان من الضمير في قانت ﴿ يحذر الآخرة ﴾ أي يخاف عذاب الآخرة استقصارا لنفسه في العمل ﴿ ويرجو رحمة ربه ﴾ غير معتمد على عمله يعني يجمع بين الخوف والرجاء ولا يجاوز في الخوف حده حتى يكون ﴿ آيسا فإنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون ﴾ ولا في الرجاء حده حتى يكون آمنا فإنه لا يأمن من مكر الله إلا القوم الخاسرون، والجملتان واقعتان موقع الحال أو الاستئناف للتعليل، قال البغوي قال ابن عباس في رواية الضحاك نزلت هذه الآية في أبي بكر الصديق.
وأخرج ابن أبي سعيد من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس أنه قال نزلت في عمار بن ياسر وأخرج جويبر عن ابن عباس أنه قال نزلت في ابن مسعود وعمار بن ياسر وسالم مولى أبي حذيفة وأخرج جويبر عن عكرمة قال نزلت في عمار بن ياسر.
وقال البغوي قال الضحاك نزلت في أبي بكر وعمر رضي الله عنهما وعن ابن عمر أنها نزلت في عثمان وكذا أخرج ابن أبي حاتم عنه، وعن الكلبي أنها نزلت في ابن مسعود وعمار وسلمان ووجه الجمع بين الأقوال أنها نزلت في جميعهم ﴿ قل هل يستوي الذين يعلمون ﴾ الله تعالى متصفا بصفات الجلال والجمال فيحذر عذابه ويرجو رحمته فيعمل في طاعته ويتقي عن معاصيه ﴿ والذين لا يعلمون ﴾ ذلك والاستفهام للإنكار أي لا يستوون فهذه الجملة تقرير للأول على سبيل التعليل، وقيل تقرير له على سبيل التشبيه يعني كما لا يستوي العالم والجاهل كذلك لا يستوي المطيع والعاصي، وقيل نفي لاستواء الفريقين باعتبار القوة العلمية بعد نفيهما باعتبار القوة العملية على وجه الأبلغ لمزيد الفضل قيل الذين يعلمون عمار والذين لم يعلموا أبو حذيفة المخزومي ﴿ إنما يتذكر أولوا الألباب ﴾ بأمثال هذه البيانات.
﴿ قل يا عباد الذين آمنوا اتقوا ربكم للذين أحسنوا ﴾ أي آمنوا لو أحسنوا العمل يعني أتوه بالخشوع والخضوع كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( الإحسان أن تعبد ربك كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك ) ﴿ في هذه الدنيا ﴾ متعلق بقوله أحسنوا ﴿ حسنة ﴾ في الآخرة يعني الجنة مبتدأ خبره للذين أحسنوا والجملة تعليل بقوله اتقوا ربكم وقيل في الدنيا ظرف مستقر حال من حسنة، وهو فاعل للظرف المستقر أعني قوله :﴿ للذين أحسنوا ﴾ قال السدي في هذه الدنيا حسنة الصحة والعافية وهذا القول ليس بسديد فإن الصحة والعافية كما يعطى المؤمن يعطى الكافر أيضا قد ينعكس الأمر ﴿ وأرض الله واسعة ﴾ فلا عذر للمقصرين في الطاعة لمزاحمة الكفار ففيه كناية عن طاب الهجرة من البلد الذي يتعسر فيه الإحسان، ومن ثم قال ابن عباس في تفسيره ارتحلوا من مكة وعن مجاهد أنه قال في هذه الآية قال الله تعالى أرضي واسعة فهاجروا واعتزلوا، وقال سعيد بن جبير يعني من أمر بالمعاصي فليهرب والجملة إما معطوفة على قوله ﴿ للذين أحسنوا في هذه الدنيا حسنة ﴾ وإما على قوله ﴿ اتقوا ربكم ﴾ لكونها بمعنى هاجروا ﴿ إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب ﴾ قيل يعني الذين صبروا على دينهم فلم يتركوه للأذى من الكفار أو صبروا على مفارقة الأوطان والمعارف، قيل نزلت الآية في جعفر بن أبي طالب وأصحابه مهاجري الحبشة حيث لم يتركوا دينهم فإذا اشتد فيهم البلاء صبروا وهاجروا واللفظ عام يعمهم وكل من صبر على البلاء وعلى مشقة الطاعة وحبس النفس عن المعصية، قال البغوي قال علي رضي الله عنه كل مطيع يكال له كيلا ويوزن له وزنا إلا الصابرون فإنهم يحثى عليهم حثيا، وروى الأصفهاني عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( تنصب الموازين ويؤتى بأهل الصلاة فيوفون أجورهم بالموازين ويؤتى بأهل الصيام فيوفون أجورهم بالموازين ويؤتى بأهل الصدقة فيوفون أجورهم بالموازين ويؤتى بأهل الحج فيوفون أجورهم بالموازين ويؤتى بأهل البلاء فلا تنصب لهم ميزان ولا ينشر لهم ديوان ويصب عليهم الأجر صبا بغير حساب حتى يتمنى أهل العافية أنهم كانوا في الدنيا تقرض أجسادهم بالمقاريض مما يذهب به أهل البلاء وذلك قوله تعالى ﴿ إنما يوفى الصابرون أجورهم بغير حساب ﴾ وذكر البغوي نحوه وأخرج الطبراني وأبو يعلى بسند لا بأس به عن ابن عباس قال :( يؤتى بالشهيد يوم القيامة فينصب للحساب ثم يؤتى بالمصدق فينصب للحساب ثم يؤتى بأهل البلاء فلا ينصب لهم ميزان ولا ينشر لهم ديوان فيصب لهم الأجر صبا حتى أن أهل العافية ليتمنون بالموقف أن أجسادهم قرضت بالمقاريض من حيث ثواب الله لهم ) وأخرج الترمذي وابن أبي الدنيا عن جابر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( يود أهل العافية يوم القيامة حين يعطى أهل البلاء الثواب لو أن جلودهم قرضت بالمقاريض ) قلت : لعل المراد بأهل البلاء أهل العشق بالله بدليل أن الشهيد لم يعد من أهل البلاء مع أن أشد بلاء الدنيا القتل وهو قد صبر على بذل نفسه في سبيل الله.
﴿ قل إني ﴾ قرأ نافع بفتح الياء والباقون بإسكانها ﴿ أمرت أن أعبد الله مخلصا له الدين ﴾ أي موحدا له
﴿ وأمرت لأن أكون أول المسلمين ﴾ أي أمرت بالإخلاص لأجل أن أكون مقدمهم في الدنيا والآخرة لأن قصب السبق إنما هو بإخلاص أو لكوني أول من أسلم من قريش ومن دان بدينهم والعطف لمغايرة الثاني الأول بتقيده بالعلة وللإشعار بأن، العبادة المقرونة بالإخلاص، وإن اقتضت لذاتها كونها مأمورا بها فهي أيضا مقتضية لما يلزمه من السبق في الدين وجاز أن يكون اللام زائدة كما في أردت لأن أفعل فيكون أمرا بالتقدم في الإسلام والبدء بنفسه في الدعاء إليه بعد الأمر به فإنه بعث داعيا للناس إلى الإسلام وذلك يقتضي كونه أول المسلمين فإن دعوة غيره فرع اتصافه بنفسه وفيه إمالة لغيره إلى الإسلام يعني أني لا أدعوكم إلا إلى ما هو خير إذ لو لم يكن خيرا لما اخترته لنفسي وقد اخترته أولا
﴿ قل إني ﴾ قرأ نافع وأبو عمرو وابن كثير بفتح الياء والباقون بإسكانها ﴿ أخاف إن عصيت ربي ﴾ بترك الإخلاص والميل إلى ما أنتم عليه من الشرك وسوء الأعمال ﴿ عذاب يوم عظيم ﴾ فيه تحذير للمخاطبين عن العصيان، كما في الآية السابقة وإمالة إلى الإسلام، قال البغوي هذه الآية نزلت حين دعي إلى دين آبائه
﴿ قل الله أعبد مخلصا له ديني ﴾ أمر بالأخبار عن إخلاصه في العبادة بعد الأمر بالإخبار عن كونه مأمورا بالعبادة والإخلاص خائفا على المخالفة من العقاب قطعا لأطماعهم ولذلك رتب عليه قوله :﴿ فاعبدوا ما شئتم من دونه قل إن الخاسرين الذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة ألا ذلك هو الخسران المبين { ١٥ ﴾ }
﴿ فاعبدوا ما شئتم من دونه ﴾ تهديدا أو خذلانا لهم وهذا جواب شرط محذوف تقديره إن لم توافقوني في العبادة لله خالصا فاعبدوا ما شئتم فسترون ما يترتب عليه من العذاب والخسران ﴿ قل إن الخاسرين الذين خسروا أنفسهم ﴾ بالضلال ﴿ وأهليهم ﴾ يعني أتباعهم من الأزواج والأولاد والخدم بالإضلال ﴿ يوم القيامة ﴾ حين أوردهم النار ظرف لخسروا من خسر التاجر إذا غبن في تجارته فإنهم بالضلالة والإضلال بدلوا نصيبهم من الجنة بنصيبهم من النار وهو لازم وجاء هاهنا متعديا، قال البغوي قال ابن عباس : وذلك ( يعني خسران الأهل ) أن الله جعل لكل إنسان منزلا في الجنة وأهلا فمن عمل بطاعة الله كان ذلك المنزل والأهل له ومن عمل بمعصية كان ذلك المنزل والأهل لغيره ممن عمل بالطاعة، قلت : فعلى هذا معنى خسر أهله أنه فوت أهله وقيل خسران الأهل إن كانوا من أهل النار فبالإضلال وإن كانوا من أهل الجنة فلذهابه عنهم ذهابا لا رجوع بعده ﴿ ألا ذلك ﴾ أي خسران يوم القيامة ﴿ هو الخسران المبين ﴾ دون غير ذلك من أصناف الخسران، فإن خسران الدنيا سهل ويبتدل وفيه مبالغة في خسرانهم لما فيه من الاستئناف والتصدير بألا وتوسيط ضمير الفصل وتعريف الخسران ووصفه بالمبين ثم شرح الخسران بقوله :﴿ لهم من فوقهم ظلل من النار ومن تحتهم ظلل ذلك يخوف الله به عباده يا عباد فاتقون { ١٦ ﴾ }
﴿ لهم من فوقهم ظلل من النار ﴾ إطباق سرادقات من النار ودخانها ﴿ ومن تحتهم ظلل ﴾ فرش ومهاد من الدار إلى أن ينتهي إلى القعر، سمى السافلة ظللا لكونها ظللا لمن تحتهم ﴿ ذلك ﴾ العذاب هو الذي ﴿ يخوف الله به عباده ﴾ ليجتنبوا ما يوقعهم فيه ﴿ يا عباد فاتقون ﴾ أي اتقوني ولا تتعرضوا لما يوجب سخطي وعذابي.
﴿ والذين اجتنبوا الطاغوت ﴾ البالغ في الطغيان فعلوت منه بتقديم اللام على العين بني للمبالغة في المصدر كالرحموت ثم وصف به للمبالغة في النعت ولذلك اختص بالشيطان وفسره البغوي بالأوثان لأن تأنيث الضمير في قوله ﴿ أن يعبدوها ﴾ وهو بدل اشتمال من الطاغوت يدل على أن المراد به الأوثان ﴿ وأنابوا ﴾ أي قبلوا بشراشرهم ﴿ إلى الله ﴾ عما سواه ﴿ لهم البشرى ﴾ بالثواب على ألسنة الرسل في الدنيا وعلى ألسنة الملائكة عند حضور الموت يعني هم استحقوا أن يبشروا ولذلك فرع قوله ﴿ فبشر ﴾ يا محمد ﴿ عباد ﴾ قرأ أبو شعيب بياء مفتوحة وصلا ساكنة وقفا وأبو حمدون وغيره عن اليزيدي مفتوحة في الوصل محذوفة في الوقف وهو قياس قول أبي عمرو حيث يتبع الرسم في الوقف والباقون يحذفونها في الحالين.
أخرج جويبر بسنده عن جابر بن عبد الله قال لما نزلت ﴿ لها سبعة أبواب ﴾ الآية أتى رجل من الأنصار النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله إن لي سبعة مماليك وإني قد أعتقت لكل باب منها مملوكا فنزلت ﴿ فبشر عبادي الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه ﴾ يعني يستمعون القرآن وغيره فيتبعون القرآن ويستمعون كلام الرسول، وكلام الكفار فيتبعون كلام الرسول كان حق الكلام فبشرهم فوضع الظاهر أعني عبادي الذين يستمعون الخ موضعه للدلالة على أن مبدأ اجتنابهم من الطاغوت أنهم نقادون للأقوال يميزون بين الخبيث والطيب والقبيح والحسن وبين الحسن والأحسن، قال عطاء عن ابن عباس آمن أبو بكر رضي الله عنه بالنبي صلى الله عليه وسلم فجاءه عثمان وعبد الرحمان بن عوف وطلحة بن عبيد الله والزبير بن العوام وسعد بن أبي وقاص وسعيد بن زيد فسألوه فأخبرهم بإيمانه فآمنوا فنزلت فيهم هذه الآية، والأحسن حينئذ بمعنى الحسن إذ لا حسنى في أقوال الكفار، قال ابن زيد نزلت الآيتان في ثلاثة نفر كانوا من الجاهلية يقولون لا إله إلا الله زيد بن عمرو بن نفيل أو سعيد بن زيد وأبي ذر الغفاري وسلمان الفارسي والأحسن قول لا إله إلا الله، وقال السدي يتبعون أحسن ما يؤمرون به فيعملون به قيل هو أن الله ذكر في القرآن الانتصار من الظالم والعفو أحسن الأمرين وذكر العزائم والرخص والعزائم أحسن ﴿ أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولوا الألباب ﴾ أي ذوي العقول السليمة عن معارضة الأوهام والعادات وفي ذلك دلالة على أن الهداية تحصل بخلق الله تعالى وقبول النفس لها.
﴿ أفمن حق عليه ﴾ في علم الله القديم كذا قال ابن عباس ﴿ كلمة العذاب ﴾ يعني خلقت هؤلاء للنار ولا أبالي ﴿ أفأنت ﴾ يا محمد ﴿ تنقذ من في النار ﴾ يعني لا تقدر عليه، قال ابن عباس يريد أبا لهب وولده، الجملة الشرطية معطوفة على جملة محذوفة دل عليه الكلام تقديره وأنت مالك أمرهم فمن حق عليه كلمة العذاب فأنت تنقذه من النار كررت الهمزة في الجزاء لتأكيد الإنكار والاستبعاد ووضع من في النار موضع الضمير لذلك، وللدلالة على أن من حكم عليه بالعذاب كالواقع فيه لامتناع الخلف فيه وأن اجتهاد الرسول صلى الله عليه وسلم في دعائهم إلى الإيمان سعي في إنقاذهم من النار ويجوز أن يكون أفأنت تنقذ جملة مستأنفة للدلالة على ذلك والإشعار بالجزاء المحذوف تقديره أفمن حق عليهم كلمة العذاب تهديد أفأنت تنقذ من في النار فإن من حق عليه كلمة العذاب كأنه في النار حالا، ثم استدرك لدفع توهم كون سعيه صلى الله عليه وسلم غير مفيد مطلقا بقوله ﴿ لكن الذين اتقوا ربهم لهم غرف من فوقها غرف مبنية تجري من تحتها الأنهار وعد الله لا يخلف الله الميعاد ﴾
﴿ لكن الذين اتقوا ربهم ﴾ يعني لكن الذين حق لهم كلمة الرحمة وسبق في علم الله أنهم يتقون ربهم في إيراده بصيغة الماضي أيضا إشعار بأن من حكم بأنهم يتقون فهم كالذين وقع منهم التقوى ﴿ لهم غرف ﴾ منازل رفيعة في الجنة ﴿ من فوقها غرف ﴾ منازل أرفع من الأولى ﴿ مبنية تجري من تحتها ﴾ أي من تحت كل الفوقانية والتحتانية ﴿ الأنهار وعد الله ﴾ أي وعدهم الله تلك الغرف وعدا مصدر مؤكد لنفسه لأن قوله لهم غرف في معنى الوعد ﴿ لا يخلف الله الميعاد ﴾ لأن الخلف نقص، وهو على الله محال، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم ( إن أهل الجنة يتراءون أهل الغرف من فوقهم كما تتراءون الكواكب الدري الغابر في الأفق المشرق والمغرب لتفاضل ما بينهم، قالوا يا رسول الله تلك منازل الأنبياء لا يبلغهم غيرهم قال بلى والذي نفسي بيده رجال آمنوا بالله ورسوله وصدقوا المرسلين ) وقد ذكرنا الأحاديث الواردة في الباب في تفسير سورة الفرقان في تفسير قوله تعالى :﴿ أولئك يجزون الغرفة بما صبروا ﴾.
﴿ ألمْ تر أنّ اللّه أنزل من السّماء ماء ﴾ مطرا، الاستفهام للإنكار وإنكار النفي إثبات وأن مع جملتها قائم مقام المفعولين لألم تر ﴿ فسلكه ﴾ فأدخله ﴿ ينابيع في الأرض ﴾ الظرف متعلق بسلكه عن طريقة قوله تعالى :﴿ كذلك سلكناه في قلوب المجرمين ﴾ وينابيع حال من الضمير المنصوب، قال الشعبي كل ماء في الأرض فمن السماء، وجاز أن يكون ينابيع مفعولا ثانيا لسلكه على التوسع على طريقة أدخلته بيتا في الدار والينبوع جاء للمنبع والنابع فعلى الأول للنابع وعلى الثاني للمنبع ﴿ ثم يخرج به ﴾ أي أخرج بالماء زرعا مختلفا ﴿ ألوانه ﴾ أصنافه من بر وشعير وغيرهما أو كيفياته من خضرة وحمرة وغيرهما ﴿ ثم يهيج ﴾ أي يبس فتراه بعد خضرته ونضرته ﴿ مصفرا ثم يجعله حطاما ﴾ فتاتا منكسرا ﴿ إن في ذلك ﴾ الأحداث والتغير ﴿ لذكرى ﴾ أي تذكيرا على وجود الصانع القديم القادر الحكيم الذي دبره وسواه وعلى أنه مثل الحياة الدنيا فلا ينبغي أن يغتر بها ﴿ لأولي الباب ﴾ إذ لا يتذكر بها غيره ومن لم يتذكر فليس من أولي الألباب بل كالأنعام بل أضل منها.
﴿ أفمن شرح الله صدره للإسلام ﴾ يعني أفاض في قلبه نورا أدرك به الحق حقا والباطل باطلا فأذعن بكل ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم بلا ارتياب، عبر عن تلك الحالة بشرح الصدر لأن الصدر محل القلب والروح القابل للإسلام فإذا كان قلبه قابلا لأحكام الإسلام صار كظرف انشرح وتفسح حتى حال فيه المظروف ﴿ فهو ﴾ أي ذلك الشخص ﴿ على نور ﴾ أي بصيرة ﴿ من ربه ﴾ الهمزة للإنكار والفاء للعطف على ما فهم مما سبق من قوله تعالى :﴿ أفمن حق عليه كلمة العذاب أفأنت تنقذ من في النار لكن الذين اتقوا ربهم ﴾ فإنه يفهم منه الفرق بين المؤمن والكافر والموصول مبتدأ وخبره محذوف يدل عليه ما بعده والإنكار راجع إلى مضمون الفاء كأنه قال لما ثبت الفرق بين المؤمن والكافر فليس من شرح الله صدره للإسلام وترتب عليه كونه على نور من ربه فآمن واهتدى كمن طبع الله على قلبه فقسى. عن ابن مسعود قال :( تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم أفمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه " قلنا يا رسول الله كيف انشرح صدره ؟ قال إذا دخل النور القلب انشرح صدره وانفسح، قلنا يا رسول الله فما علامة ذلك ؟ قال : الإنابة إلى دار الخلود والتجافي عن دار الغرور والتأهب للموت قبل نزوله " رواه البغوي والحاكم والبيهقي في شعب الإيمان ﴿ فويل للقاسية قلوبهم ﴾ الفاء للسببية ﴿ من ذكر الله ﴾ متعلق بالقاسية والمعنى من أجل ذكر الله أي إذا ذكر الله عندهم أو تليت عليهم آياته اشتدت قساوتهم وهو أبلغ من أن يكون عن مكان من لأن القاسية من أجل الشيء أشد تأبيا من القبول من القاسي عنه بسبب آخر وللمبالغة في وصف أولئك بالقبول وهؤلاء بالامتناع ذكر شرح الصدر وأسنده إلى الله وقابله بقساوة القلب وأسنده إلى القلب فهذه الآية في معنى قوله تعالى :﴿ وأما الذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجسا إلى رجسهم وماتوا وهم كافرون ﴾، وقيل بحذف المضاف تقديره من ترك ذكر الله ﴿ أولئك في ضلال مبين ﴾ قال مالك بن دينار ما ضرب عبد بعقوبة أعظم من قسوة القلب وما غضب الله على قوم إلا نزع منهم الرحمة.
روى الحاكم وغيره عن سعد بن أبي وقاص قال : أنزل على النبي صلى الله عليه وسلم القرآن فتلا عليهم زمانا فقالوا يا رسول الله لو حدثتنا، وأخرج ابن جرير عن عون بن عبد الله أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ملوا ملة فقالوا لو حدثتنا فنزلت ﴿ الله نزل أحسن الحديث ﴾ تقرير لقوله :﴿ إنا أنزلنا إليك الكتاب ﴾ وما بينهما معترضات وفي الابتداء باسم الله وبناء نزل عليه تأكيد للإسناد إليه وتفخيم للمنزل واستشهاد على حسنه ﴿ كتابا ﴾ بدل من أحسن الحديث أوحال منه﴿ متشابها ﴾ صفة لكتابا يعني يشبه بعضه بعضا ﴿ مثاني ﴾ صفة أخرى جمع مثناة اسم الظرف فإنه ثنى فيه ذكر الوعد والوعيد والأمر والنهي والأخبار والأحكام وصف به الكتاب باعتبار تفاصيله فهو كقولك القرآن سورة وآيات والإنسان عروق وعظام ولحم وأعصاب أو جعل تميزا من متشابها كقولك رأيت رجلا جسيما حسنا شمائل، أو جمع مثنية اسم الفاعل فإن آياته تثني على الله لصفاته الكمال ﴿ تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ﴾ خوفا لما فيه من الوعيد الجملة صفة ثالثة لكتابا ﴿ ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله ﴾ أي لذكر الله بالرحمة وعموم المغفرة، والإطلاق للإشعار بأن أصل أمره الرحمة وأن رحمته سبقت غضبه والتعدية بإلى لتضمين معنى السكون والاطمئنان وذكر القلوب لتقدم الخشية التي هي من عوارضها يعني إذا ذكر عذاب الله في آيات الوعيد من القرآن يخاف قلوب المؤمنين وتقشعر جلودهم، والاقشعرار انقباض وتغير في جلد الإنسان عند الخوف وإذا ذكر الله بالرحمة في آيات الوعد من القرآن تلين جلودهم وتسكن قلوبهم، لما وصف الله القرآن بكونه مثاني ثنى فيه ذكر الوعيد والوعد وصفة بما يتأثر به المؤمنون عند الوعيد والوعد فكان تقدير الكلام يخاف منه قلوب الذين يخشون ربهم وتقشعر جلودهم ثم تلين جلودهم وتطمئن قلوبهم إلى ذكر الله، عن العباس رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( إذا اقشعر جلد العبد من خشية الله تحاتت عنه ذنوبه كما يتحاتت عن الشجر اليابسة ورقها ) رواه الطبراني بسند ضعيف ورواه البغوي، وفي رواية للبغوي إذا اقشعر جلد العبد من خشية الله حرمه الله على النار.
فإن قيل بعض أهل العشق من الصوفية الكرام يغشى عليه عند استماع القرآن فهل هو من الأحوال الحميدة أو القبيحة وقد شنع عليهم الإمام محيي السنة البغوي رحمة الله عليه في تفسيره فقال : قال قتادة هذا يعني ما ذكر من اقشعرار الجلد من خشية الله نعت أولياء الله نعتهم الله بأن تقشعر جلودهم وتطمئن قلوبهم بذكر الله ولم ينعتهم بذهاب عقولهم والغشيان عليهم إنما ذلك في أهل البدع وهو من الشيطان، أخبرنا عن عبد الله بن الزبير قال قلت لجدتي أسماء بنت أبي بكر كيف كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعلون إذا قرئ عليهم القرآن قالت كانوا كما نعتهم الله عز وجل تدمع عيونهم وتقشعر جلودهم قال فقلت لها إن ناسا إذا قرئ عليهم القرآن خر أحدهم مغشيا عليه فقالت أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، وروى البغوي أن ابن عمر مر على رجل ( من أهل العراق ) ساقط فقال ابن عمر ما بال هذا ؟ قالوا إنه إذا قرئ القرآن وسمع ذكر الله سقط فقال ابن عمر إنا لنخشى الله وما نسقط وقال ابن عمر إن الشيطان يدخل في جوف أحدهم ما كان هكذا صنيع رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قلت وجه طريان هذه الحالة كثرة نزول البركات والتجليات مع ضيق حوصلة الصوفي وضعف استعداده وإنما لم يوجد هذه الحالة في الصحابة رضي الله عنهم مع وفود بركاتهم لأجل سعة حواصلهم وقوة استعداداتهم ببركة صحبة النبي صلى الله عليه وسلم وأما غير الصحابة من الصوفية فعدم طريان تلك الحالة عليهم إما لقلة نزول البركات وإما لسعة الحوصلة والعجب من الإمام الهمام محيي السنة البغوي رحمه الله كيف أنكر على أصحاب تلك الحالة وشنع عليهم ونسي قوله تعالى :﴿ حتى إذا فزع عن قلوبهم قالوا ماذا قال ربكم قالوا الحق وهو العلي الكبير ﴾ وقد روى في تفسيره تلك الآية عن النواس بن سمعان رضي الله عنه إذا أراد الله بالأمر تكلم بالوحي أخذت السماوات منه رجفة أو قال رعدة شديدة خوفا من الله فإذا سمع ذلك أهل السماوات صعقوا وخروا لله سجدا فيكون أول من يرفع رأسه جبرئيل الحديث، وروى البخاري عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم نحوه بلفظ ( إذا قضى الله الأمر في السماء ضربت الملائكة بأجنحتها خضعانا لقوله كأنه سلسلة على صفوان فإذا فزع عن قلوبهم قالوا ماذا قال ربكم قالوا الحق ) الحديث، وقوله تعالى :{ فلما تجلى ربه للجبل جعله دكا وخر موسى صعقا ).
وقول ابن عمر إن الشيطان يدخل في جوف أحدهم وكذا استعاذة أسماء محمول على أنهما زعما غشي ذلك الرجل تكلفا ومكرا ولذا نسباه إلى الشيطان وإنما كان إنكار تلك الحالة منهما لعدم طريان الحالة عليهما وعلى أمثالهما بناء على وسعة الحوصلة وقوة الاستعداد، ويدل على ما قلت أنه ذكر عند ابن سيرين الذين يصرعون إذا قرئ عليهم القرآن من أوله إلى آخره فإن رمى بنفسه فهو صادق حيث علق صدقه على رمي نفسه من ظهر بنية مرتفعة فعلم منه أنه حمل صرعه على الكذب والتكلف، إعلم أن البشر أقوى استعدادا وأوسع حوصلة من الملائكة كما يشهد عليه قوله تعالى :﴿ إني جاعل في الأرض خليفة ﴾ إلى قوله ﴿ إني أعلم ما لا تعلمون ﴾ وقوله تعالى :﴿ إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض ﴾
الآية، ولأجل ذلك يأتي حالة الغشي على الملائكة كلما سمعوا الوحي دون البشر وأما البشر فإذا تم نزوله لا يتغير حاله إلا نادرا وإذا تم عروجه وقصر نزوله يتغير غالبا وأعلم أن الصوفي متى كان في السكر يتغير حاله غالبا عنه ذكر المحبوب في الشعر والتغني ولذلك يستحبون السماع لكن تغير الحال عند سماع القرآن أشرف منه حالا لأن عند استماع القرآن وتلاوته تتنزل البركات الأصلية المتعلقة بالتجليات الذاتية والصفات الحقيقية ولا سبيل إليها لأكثر الصوفية المحتبسين في مقام ولأجل ذلك تراهم يتغير حالهم عند السماع ما لا يتغير عند تلاوة القرآن وأما الذين صعدوا ذروة الأفق الأعلى ثم دنى رب العزة وتدلى فكان قاب قوسين أو أدنى، لا يتغير أحوالهم إلا كما كان يتغير حال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم رضي الله عنهم تدمع عيونهم، تقشعر جلودهم ثم تلين جلودهم وتطمئن قلوبهم إلى ذكر الله ﴿ ذلك ﴾ الخوف والرجاء أو حسن الحديث ﴿ هدى الله يهدي به من يشاء ﴾ هدايته ﴿ ومن يضلل الله ﴾ أي يخذله ﴿ فما له من هاد ﴾ يخرجه من الضلالة.
﴿ أفمن يتّقِي ﴾ الاستفهام للإنكار والفاء للعطف على محذوف تقديره أيستوي الفريقان فمن يتقي ﴿ بوجهه ﴾ أي يجعله وقاية لنفسه ومعناه أن الإنسان إذا لقي مخوفا من المخاوف استقبله بيديه يتقي بهما وجهه لأنه أعز أعضائه والكافر حين يلقى في النار تكون يداه مغلولتين إلى عنقه فلا يستطيع أن يتقي إلا بوجهه، قال مجاهد يجر على وجهه في النار منكوسا فأول شيء منه تمسه النار وجهه، وقال مقاتل هو أن الكافر يرمى في النار مغلولة يده إلى عنقه وفي عنقه صخرة مثل جبل عظيم من الكبريت فيشتعل النار في الحجر وهو معلق في عنقه ويده ﴿ سوء العذاب يوم القيامة ﴾ كمن هو آمن من العذاب فحذف الخبر كما حذف في نظائره ﴿ وقيل للظالمين ﴾ أي لهم وضع الظاهر موضع الضمير تسجيلا عليهم بالظلم وإشعارا بموجب ما يقال وهو﴿ ذوقوا ما كنتم تكسبون ﴾ أي وباله وجملة ﴿ وقيل للظالمين ﴾ حال بتقدير قل من فاعل يتقون وجاز أن يكون معطوفا على مفهوم ما سبق أعني عذب
﴿ كذب الذين من قبلهم ﴾ أي قبل كفار مكة كذبوا الرسل في إتيان العذاب ﴿ فأتاهم العذاب من حيث لا يشعرون ﴾ أي من الجهة التي لا يخطر ببالهم إتيان الشر منها
﴿ فأذاقهم الله الخزي ﴾ أي الذل ﴿ في الحياة الدنيا ﴾ كالمسخ والخسف والقتل وتسليط الريح والصيحة والرمي بالحجارة والغرق وغير ذلك ﴿ ولعذاب الآخرة ﴾ المعد لهم ﴿ أكبر ﴾ من عذاب الدنيا لشدته ودوامه ﴿ لو كانوا يعلمون ﴾ أي لو كان أهل مكة من أهل العلم والنظرة اعتبروا بمن قبلهم أو المعنى لو كان المكذبون يعلمون وبال التكذيب ما كذبوا.
﴿ ولقد ضربنا للناس ﴾ أي لأجل إنتفاعهم وتبصرهم ﴿ في هذا القرآن من كل مثل ﴾ يحتاج إليه الناظر في أمر دينه ﴿ لعلهم يتذكرون ﴾ يتعظون به
﴿ قرآنا عربيا ﴾ منصوب على المدح أو الحال من هذا إن قلنا أن المجرور مفعول به أو بتقدير في تنزيل هذا القرآن حتى يكون مفعولا لتنزيل المقدر والاعتماد فيها على الصفة كقوله جاء في زيد رجلا صالحا ﴿ غير ذي عوج ﴾ لا اختلال فيه بوجه ما فهو أبلغ من المستقيم واختص بالمعاني، قال ابن عباس غير مختلف، وقال مجاهد غير ذي لبس يعني لا ريب فيه، وقال السدي غير مخلوق، ويروى ذلك عن مالك بن أنس قال البغوي وحكي عن سفيان بن عيينه عن سبعين من التابعين أن القرآن ليس بخالق ولا مخلوق يعنون أنه صفة من صفات الله تعالى ليس عين ذاته تعالى فيكون خالقا ولا غيره منفكا عنه فيكون حادثا مخلوقا، وهذا يدل على أن الكلام اللفظي قديم صفة من صفات الله تعالى إذ الكلام النفسي الذي يدل عليه الكلام اللفظي لا يوصف بكونه عربيا وأما تعاقب حروف الكلام اللفظي الدال على حدثه فإنما لضيق المحل وحدوثه وأما الكلام القائم بذاته فتوهم التعاقب فيه قياس للغائب على الشاهد كما يتوهم النافون للرؤية اشتراط الجهة والمسافة وغير ذلك في رؤية البصر ليس كمثله شيء في ذاته ولا في اتصافه بصفاته ولا في شيء من صفاته وله المثل الأعلى وهو العزيز الحكيم ﴿ لعلهم يتقون ﴾ الكفر والمعاصي علة أخرى مرتبة على الأولى أو بدل أو بيان للأولى.
﴿ ضرب الله مثلا ﴾ للمشرك والموحد ﴿ رجلا ﴾ بدل من مثل بتقدير المضاف أي مثل رجل ﴿ فيه شركاء متشاكسون ﴾ أي مختلفون صفة لشركاء وهو فاعل للظرف المستقر أو مبتدأ خبره الظرف والجملة صفة لرجلا يعني مثل الشرك على زعمه حيث يدعي آلهة متعددة مثل عبد مشترك في جماعة مختلفين يتجاذبونه ويتعاودونه في مهامهم المختلفة فهو في تحير وتوزع قلب ﴿ ورجلا سلما ﴾ أي خالصا ومسلما ﴿ لرجل ﴾ لا منازع له فيه، قرأ ابن كثير وأبو عمر وسالما على وزن فاعلا والباقون من غير ألف على وزن حسن يعني مثل المؤمن الموحد مثل عبد لواحد لا شريك فيه وليس لغيره إليه سبيل ﴿ هل يستويان ﴾ أي ذلك العبدان ﴿ مثلا ﴾ أي صفة وحالا ونصبه على التميز ولذلك وحده فالاستفهام للإنكار والتقرير يعني حمل المخاطب على الإقرار بأنهما لا يستويان حالا، فإن الموحد حسن حالا من المشرك وجملة هل يستويان تقديره قال الله هل يستويان مثلا بيان لمقصود قوله : ضرب الله مثلا الحمد لله يعني الحمد كله لله لا يشاركه فيه على الحقيقة أحد غيره لأنه المنعم بالذات والمالك على الإطلاق ﴿ بل أكثرهم لا يعلمون ﴾ ذلك فيشركون به غيره من فرط جهلهم، وقيل تقدير الكلام قل الحمد لله على نعمة التوحيد والاختصاص بالمولى الواحد الحميد وبل حينئذ ليست للإضراب بل هي ابتدائية حكاية عن حال الجاهلين.
﴿ إنك ميت ﴾ أي ستموت أبرز بلفظ الصفة المشبهة الدالة على الثبوت حالا لكونه متيقن الوقوع ﴿ وإنهم ميتون ﴾ أي كفار مكة أو جميع الناس بصدد الموت فلا شماتة بالموت، قال المحلي نزلت لما استبطؤا موت النبي صلى الله عليه وسلم، قال الفراء والكسائي الميت بالتشديد من لم يمت وسيموت والميت بالتخفيف من فارقه الروح ولذلك لم يخفف ها هنا
﴿ ثم إنكم ﴾ يعني أنت وكفار مكة، أو الناس أجمعون ﴿ يوم القيامة عند ربكم تختصمون ﴾ فتحتج عليهم وتقول :﴿ يا رب إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجورا ﴾ وإنهم كذبوني وكنت على الحق في التوحيد وكانوا على الباطل في التشريك واجتهدت في الإرشاد والتبليغ ولجوا في العناد والتكذيب ويعتذرون بالأباطيل مثل قولهم :﴿ والله ربنا ما كنا مشركين ﴾ وقولهم ﴿ ما جاءنا من بشير ولا نذير ﴾ ﴿ إنا أطعنا سادتنا وكبرائنا ﴾﴿ ما وجدنا عليه آباءنا ﴾ ويختصم الناس بعضهم مع بعض فأول ما يقضى فيه الدماء أخرج الشيخان في الصحيحين عن ابن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( أول ما يقضى بين الناس يوم القيامة بالدماء ) وأخرج الترمذي وحسنه وابن ماجه والطبراني وابن مردويه عن ابن عباس قال سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول :( يأتي المقتول متعلق رأسه بإحدى يديه قاتله باليد الأخرى وتشخب أوداجه دما حتى يأتي العرش فيقول المقتول لرب العالمين هذا قتلني فيقول الله للقاتل تعست ويذهب به إلى النار ) وأخرج الطبراني في الأوسط عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :( يجيء المقتول آخذا قاتله وأوداجه تشخب دما فيقول رب سل هذا فلم قتلني فيقول قتلته ليكون العزة لفلان قال هي لله تبارك وتعالى ) وروى ابن أبي حاتم عن ابن مسعود عن فذكر أنه يؤتى بالقاتل والمقتول فيقفان بين يدي الرحمان فيقال له لم قتلته فإن كان قتله لله قتلته ليكون العزة لله فيقال فإنها لله فإن كان قتله لخلقه من خلق الله يقول قتلته ليكون العزة لفلان فيقال فإنها ليست له فيقتل يومئذ كل خلق الله قتله ظالم غير أنه يذاق الموت عدة الأيام التي أذاقها الأخر في الدنيا، وأخرج أحمد والترمذي والحاكم وصححه عن عبد الله بن الزبير عن أبيه لما نزلت ﴿ إنك ميت وإنهم ميتون ثم إنكم يوم القيامة عند ربكم تختصمون ﴾ قال الزبير يا رسول الله أيكرر علينا ما بيننا في الدنيا مع خواص للذنوب ؟ قال نعم ليكررن عليكم ذلك حتى يصل إلى كل ذي حق حقه " قال الزبير والله إن الأمر لشديد.
وأخرج الطبراني بسند لا بأس به عن أبي أيوب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :( أول من يختصم يوم القيامة الرجل والمرأة والله ما يتكلم لسانه ولكن يداها ورجلاها يشهدن عليها بما كانت تعيب لزوجها وتشهد يداه ورجلاه بما كان يوليها ثم يدعى الرجل وخدمه مثل ذلك ثم يدعى أهل الأسواق وما يوجد ثمة دوانيق ولا قراريط ولكن حسنات هذا يدفع إلى هذا الذي ظلم وسيئات هذا الذي ظلمه يوضع عليه ثم يِؤتى بالجبارين في مقامع من حديد فيقال أوردوهم إلى النار ) وأخرج أحمد بسند حسن عن عقبة بن عامر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( أول خصمين يوم القيامة الجاران ) وأخرج البخاري عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :( من كان عنده مظلمة لأخيه فليحلله منها في الدنيا فإنه ليس ثمة دينار ولا درهم إن كان له عمل صالح أخذ منه بقدر مظلمته وإن لم يكن حسنات أخذ من سيئات صاحبه فتحمل عليه ) وأخرج مسلم والترمذي عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :( أتدرون من المفلس ؟ قالوا المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة وقد شتم هذا وقذف هذا وأكل مال هذا وسفك دم هذا وضرب هذا فيقتص ويقتص هذا من حسناته وهذا من حسناته فإن فنيت حسناته قبل أن يقتص ما عليه من الخطايا أخذ من خطاياهم فيطرح عليه ثم طرح في النار ).
قلت : أراد بالحسنات التي يأخذها المظلوم من الظالم أجر حسناته ما سوى الإيمان إذ المظالم وغيرها من السيئات ما عدا الكفر جزاؤه متناه على أصول أهل السنة والجماعة فإن مرتكب الكبيرة عندهم لا يخلد في النار، والإيمان جزاؤه الخلود في الجنة وهو غير متناه فلا يأتي ما هو فنيت على ما ليس بمتناه، فالحاصل أنه إذا فنيت حسنات الظالم قبل أن يقتص ما عليه من الخطايا وبقي عنده الإيمان المجرد أخذ من خطايا المظلومين ما عدا الكفر لكونه غير متناه الجزاء فلا يوازن ما هو متناه الجزاء فيطرح على الظالم ثم طرح في النار إن لم يعف عنه حتى إذا انتهت عقوبة تلك الخطايا أدخل الجنة بإيمانه ويخلد فيها وقال البيهقي مثل ما قلت، وأخرج مسلم عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :( لتؤدن الحقوق إلى أهلها يوم القيامة حتى تعاد للشاة الجماء من الشاة القرناء ) وفيه حتى للجماء من القرناء وللذرة من الذرة، وفي الباب أحاديث كثيرة لم أذكرها، وروى البيهقي عن الزبير بن العوام قال لما نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم ﴿ ثم إنكم يوم القيامة عند ربكم تختصمون ٣١ ﴾ قلنا كيف نختصم وديننا وكتابنا واحد حتى رأيت بعضنا يضرب وجوه بعض بالسيف فعرفت أنه نزلت فينا، وعن ابن عمر نحوه وعن أبي سعيد الخدري في هذه الآية قال كنا نقول ربنا واحد ونبينا واحد وكتابنا واحد فما هذه الخصومة فلما كان يوم الصفين وشد بعضنا على بعض بالسيوف قلنا نعم هو هذا، وعن إبراهيم قال لما نزلت ثم إنكم يوم القيامة عند ربكم تختصمون قالوا كيف نختصم ونحن إخوان فلما قتل عثمان قالوا هذا خصومتنا، ومقتضى هذه الأقوال أنهم كانوا يزعمون أن الاختصام في الدماء لا يكون إلا بين المؤمنين والكافرين فلما ظهر البغي والفساد بين المسلمين واتضح لهم أنه يكون بين المؤمنين أيضا.
﴿ فمن أظلم ﴾ الفاء للسببية فإن اختصام الكفار مع النبي صلى الله عليه وسلم سبب لكونهم أظلم الناس، والاستفهام لإنكار يعني لا أحد أظلم ﴿ ممن كذب على الله ﴾ فزعم أن له ولدا وشريكا ﴿ وكذب بالصدق ﴾ أي بما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم من القرآن وغيره ﴿ إذ جاءه ﴾ من غير لوقف وتفكر في أمره بل من الشواهد والأدلة القاطعة على صدقه ﴿ أليس في جهنم مثوى ﴾ أي منزلا ومقاما ﴿ للكافرين ﴾ استفهام للتقرير فقوله تعالى :﴿ إنك ميت وإنهم ميتون { ٣٠ ﴾ } مع ما يتلوه تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم على تكذيب القوم حتى لا تهتم في الانتقام منهم فإن جهنم يكفيهم مجازاة لأعمالهم.
﴿ والذي جاء بالصدق وصدق به ﴾ أراد به الجنس ليتناول الرسل والمؤمنين يدل عليه قوله تعالى :﴿ أولئك هم المتقون ﴾ بصيغة الجمع ويؤيده قراءة ابن مسعود الذين جاءوا بالصدق وصدقوا به، قال ابن عباس يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم جاء بلا إله إلا الله وصدق به أيضا أي بلغه إلى الخلق وعلى هذا جمعية الخبر بناء على أن المراد هو ومن تبعه كما في قوله تعالى :﴿ ولقد آتينا موسى الكتاب لعلهم يهتدون { ٤٩ ﴾ } وقال السدي الذي جاء بالصدق جبرئيل وصدق به محمد لله تلقاه بالقبول، وقال الكلبي وأبو العالية الذي جاء بالصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم وصدق به أبو بكر الصديق رضي الله عنه، وكذا ذكر الزجاج قول علي رضي الله عنه وكذا روى عن أبي هريرة وقال عطاء والذي جاء بالصدق الأنبياء وصدق به الأتباع، قال صاحب المدارك والبيضاوي والوجه في العربية أن يكون جاء صدق لفاعل واحد لأن التغاير يستدعي إضمار الذي وذا غير جائز أو إضمار الفاعل من غير تقدم ذكر بعيد، قلت وكيف يحكم بعدم جواز حذف الموصول وقد روى عن علماء التفسير من الكلبي وأبي العالية وقتادة ومقاتل ما ذكرنا وورد في شعر حسان بن ثابت رضي الله عنه فمن يهجو رسول الله منهم ويمدحه وينصره سواء فإن التقدير أمن يهجو ومن يمدحه سواء وقال صاحب البحر المواج يمكن أن يقال أنه من باب اللف والنشر الإجمالي على طريقة ﴿ قالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى ﴾ ويقال تقديره والفريق الذي جاء بالصدق وصدق به وهو شامل للنبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وضمير جاء بالصدق راجع إلى الموصول نظرا إلى النبي صلى الله عليه وسلم وضمير صدق به راجع إليه نظرا إلى أبي بكر
﴿ لهم ما يشاءون عند ربهم ﴾ في الجنة ﴿ ذلك جزاء المحسنين ﴾ على إحسانهم
﴿ ليكفر الله عنهم أسوأ الذي عملوا ﴾ يسترها عليهم بالمغفرة خص الأسوأ بالذكر للمبالغة فإنه كفر الأسوأ فغيره أولى فيه، ولمذهب المعتزلة حيث يدل على عفو الكبيرة الإشعار بأنهم لاستعظامهم الذنوب يحسبون كل سيئة عملوها أسوأ الذنوب ويقال أفعل ها هنا للتفضيل مطلقا لا على ما أضيف إليه ﴿ ويجزيهم أجرهم ﴾ أي يعطيهم ثوابهم أي ثواب أعمالهم ﴿ بأحسن الذي كانوا يعملون ﴾ يعني يعدلهم محاسن أعمالهم بأحسنها في زيادة الأجر وعظمه لفرط إخلاصهم أو يقال أحسن هاهنا للزيادة المطلقة، قال مقاتل يجزيهم بمحاسن أعمالهم ولا يجزيهم بالمساوئ.
﴿ أليس الله بكاف ﴾ استفهام للنفي مبالغة في الإثبات يعني الله كان ﴿ عبده ﴾ محمدا صلى الله عليه وسلم وقرأ أبو جعفر وحمزة والكسائي عباده يعني أنبياءه أو محمدا صلى الله عليه وسلم وأصحابه ﴿ ويخوفونك ﴾ عطف على معنى ﴿ أليس الله بكاف ﴾.
تقديره الله كان عبده ويخوفونك، وجاز أن يكون حالا بتقدير وهم يخوفونك ﴿ بالذين من دونه ﴾ قال البغوي وذلك أنهم خوفوا النبي صلى الله عليه وسلم معرة الأوثان وقالوا لتكفن عن شتم آلهتنا أو ليصيبنك منهم خبل أو جنون وكذا أخرج عبد الرزاق ﴿ ومن يضلل الله ﴾ حتى غفل عن كفاية الله له وخوفه بما لا يضر ولا ينفع ﴿ فماله من هاد ﴾ يهديهم إلى الرشاد
﴿ ومن يهد الله فما له من مضل ﴾ إذ لا راد لفضله ﴿ أليس الله بعزيز ﴾ الاستفهام للإنكار يعني الله غالب ينفع ﴿ ذي انتقام ﴾ منتقم من أعدائه.
﴿ ولئن ﴾ سألتهم يعني كفار مكة ﴿ من خلق السماوات والأرض ليقولن الله ﴾ لوضوح البرهان على تفرده بالخالقية وبداهة عدم صلاح الأوثان لما وكان أهل مكة يعترفون بذلك ﴿ قل ﴾ يا محمد بعد اعترافهم لذلك ﴿ أفرأيتم ﴾ يعني أخبروني، بعدما اعترفتم بأن الخالق هو الله لا غير ﴿ ما تدعون من دون الله إن أرادني ﴾ قرأ حمزة بسكون الياء والباقون بفتحها ﴿ الله بضر ﴾ أي بشدة وبلاء ﴿ هل هن ﴾ يعني أوثانكم ﴿ كاشفات ضره ﴾ عني ﴿ أو ﴾ إن أرادني برحمة هل هن ممسكات رحمته } عني، قرأ أبو عمرو كاشفات ممسكات بالتنوين فيهما ونصب ضره ورحمته على المفعولية والباقون بالإضافة استفهام إنكار يعني يلزمهم باعترافهم السابق إنكار كون الأصنام قادرة على كشف ضر أو إمساك برحمة، قال مقاتل فسألهم النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك فسكنوا فقال الله تعالى لرسوله ﴿ قل حسبي الله ﴾ يكفيني في إصابة الخير ودفع الضر ﴿ عليه يتوكل المتوكلون ﴾ أي المؤمنون لعلمهم بأنه نافع ولا ضار إلا هو، عبر المؤمنين بالمتوكلين لأن شانهم التوكل على الله
﴿ قل يا قوم اعملوا على مكانتكم ﴾ أي حالكم اسم للمكان أستعير هنا للحال كما أن حيث وهنا اسمان للزمان وقد يستعار أحدهما للمكان ﴿ إني عامل ﴾ أي على مكانتي فحذف للاختصار والمبالغة في الوعيد والإشعار بأن حاله صلى الله عليه وسلم لا يقف على حد بل الله سبحانه سيزيده على مر الدهور قوة ونصرة ولذلك توعدهم بكونه منصورا عليهم في الدارين فقال
﴿ فسوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه ﴾ فإن خزي أعدائه دليل على غلبته وقد أخزاهم يوم بدر.
﴿ فسوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه ﴾ فإن خزي أعدائه دليل على غلبته وقد أخزاهم يوم بدر.
﴿ ويحل عليه عذاب مقيم ﴾ دائم وهو عذاب النار
﴿ إنا أنزلنا عليك الكتاب للناس ﴾ لأن يهتدوا به إلى مصالحهم في المعاش والمعاد ﴿ بالحق ﴾ أي متلبسا به هذه الجملة متصلة بقوله :﴿ ولقد ضربنا للناس في هذا القرآن ﴾ وما بينهما معترضات ﴿ فمن اهتدى ﴾ بالكتاب ﴿ فلنفسه ﴾ ينتفع نفسه به ﴿ ومن ضل ﴾ طريق مصالح ﴿ فإنما يضل عليها ﴾ لا يتجاوز عنها وبال ضلاله ﴿ وما أنت عليهم بوكيل ﴾ أي ما وكلت عليهم لتجبرهم على الاهتداء به إنما أمرت بالبلاغ وقد بلغت فلا يضرك ضلالهم.
﴿ الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها ﴾ أي يقبضها عن الأبدان إما بأن يقطع تعلقها عنها بالكلية فلا يمكن لها التصرف فيها ظاهرا ولا باطنا وذلك حين موتها ونزعها عنها وإما بأن يقبضها ظاهرا بعض القبض بأن يسلب عنها الحسن والحركة الإرادية وذلك بأن يجعله الله تعالى متوجها إلى مطالعة عالم المثال عاطلا عن عالم الشهادة ليستريح وذلك في المنام، فالتوفي بالمعنى الأول حقيقة بالثاني مجاز فيحمل الكلام هاهنا إما على عموم المجاز وهو القبض مطلقا إما ظاهرا فقط أو ظاهرا أو باطنا وإما على تقدير الفعل كأنه قال والتي لم تمت يقبضها في منامها أي يقبض حسها وحركتها وما قيل إن للإنسان نفسا وروحا فعند النوم تخرج النفس ويبقى الروح أريد بالنفس قوتها التي بها العقل والتميز يعني يسلب عنه تلك القوة ويبقى الروح التي بها الحياة والنفس، قال البغوي عن علي كرم الله وجهه قال يخرج الروح عند نومه ويبقى شعاعه في الجسد فبذلك يرى الرؤيا فإذا انتبه من النوم عاد الروح إلى جسده بأسرع من لحظة، إن صح هذا الأثر فالمعنى عندي أن الروح يتوجه إلى مطالعة عالم المثال خارج البدن في عالم الملكوت وذلك خروجه عند نومه ويبقى شعاعه يعني تعلقه بالجسد كما كان فبذلك أي بخروجه يرى الرؤيا فإذا انتبه من النوم عاد الروح أي توجه إلى جسده بأسرع من لحظة ﴿ فيمسك التي قضى عليها الموت ﴾ ولا يردها إلى البدن حتى ينفخ نفخة البعث، قرأ حمزة والكسائي قضي بضم الفاء وكسر الضاد على البناء للمفعول والموت بالرفع والباقون على البناء للفاعل مسندا إلى المستكن الراجع إلى الله والموت بالنصب على المفعولية ﴿ ويرسل الأخرى ﴾ أي النفس النائمة إلى الإفاقة والإحساس ﴿ إلى أجل مسمى ﴾ أي الوقت المضروب لموته، في الصحيحين عن البراء بن عازب قال : كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أخذ مضجعه من الليل وضع يده تحت خده ثم يقول ( اللهم بك أموت وأحيى وإذا استيقظ قال الحمد لله الذي أحيانا بعدما أماتنا وإليه النشور ) عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" إذا أوى أحدكم إلى فراشه فلينفض فراشه بداخلة إزاره فإنه لا يدري ما خلفه عليه ثم يقول باسمك ربي وضعت جنبي وبك أرفعه إن أمسكت نفسي فارحمها وإن أرسلتها فاحفظها بما تحفظ به عبادك الصالحين " وفي رواية ثم ليضطجع على شقه الأيمن ثم ليقل، وفي رواية فلينفضه بصنفة ثوبه ثلاث مرات إن أمسكت نفسي فاغفر لها ﴿ إن في ذلك ﴾ التوفي والإمساك والإرسال ﴿ لآيات ﴾ أي دلالات على كمال قدرته وحكمته وشمول رحمته ﴿ لقوم يتفكرون ﴾ في كيفية تعلقها بالأبدان وتوفيها عنها بالكلي عند الموت وإمساكها باقية لا تفنى بفنائها وما يعتريها من السعادة والشقاوة والحكمة في توفيها على ظواهرها وإرسالها حينا بعد حين إلى توفي آجالها فيعلمون أن القادر على ذلك قادر على البعث، وهذه الآية في مقام التعليل لقوله :﴿ وعلى الله فليتوكل المتوكلون ﴾.
﴿ أم اتخذوا من دون الله شفعاء ﴾ أم ابتدائية بمعنى الهمزة للإنكار أو متصلة معطوفة على جملة محذوفة تقديره أجعلوا لله شركاء أم تخذوا من دونه شفعاء أو منقطعة بمعنى بل للإضراب، عن مضمون قوله تعالى :﴿ إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون ﴾ والهمزة للإنكار ﴿ قل ﴾ يا محمد ﴿ أو لو كانوا لا يملكون شيئا ولا يعقلون ﴾ الهمزة للإنكار والتقدير أيشفعون لكم ولو كانوا على هذه الصفة التي تشاهدونهم عليها جمادات لا تعقل ولا تقدر، ولما كان ها هنا مظنة أن يقولوا إنا نعبد أشخاصا مقربين لله تعالى وتلك الأصنام تماثيلهم قال الله تعالى رد لهذا القول وتعليلا لقوله :﴿ لا يملكون ﴾ ﴿ قل لله الشفاعة جميعا ﴾ ثم قرر ذلك بقوله :﴿ له ملك السماوات والأرض ﴾ لا يملك أحد أن يتكلم في أمر إلا بإذنه ورضائه فهو مالك الشفاعة كلها ﴿ ثم إليه ترجعون ﴾ يوم القيامة فيكون له الملك أيضا حينئذ
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٤٣:﴿ أم اتخذوا من دون الله شفعاء ﴾ أم ابتدائية بمعنى الهمزة للإنكار أو متصلة معطوفة على جملة محذوفة تقديره أجعلوا لله شركاء أم تخذوا من دونه شفعاء أو منقطعة بمعنى بل للإضراب، عن مضمون قوله تعالى :﴿ إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون ﴾ والهمزة للإنكار ﴿ قل ﴾ يا محمد ﴿ أو لو كانوا لا يملكون شيئا ولا يعقلون ﴾ الهمزة للإنكار والتقدير أيشفعون لكم ولو كانوا على هذه الصفة التي تشاهدونهم عليها جمادات لا تعقل ولا تقدر، ولما كان ها هنا مظنة أن يقولوا إنا نعبد أشخاصا مقربين لله تعالى وتلك الأصنام تماثيلهم قال الله تعالى رد لهذا القول وتعليلا لقوله :﴿ لا يملكون ﴾ ﴿ قل لله الشفاعة جميعا ﴾ ثم قرر ذلك بقوله :﴿ له ملك السماوات والأرض ﴾ لا يملك أحد أن يتكلم في أمر إلا بإذنه ورضائه فهو مالك الشفاعة كلها ﴿ ثم إليه ترجعون ﴾ يوم القيامة فيكون له الملك أيضا حينئذ
﴿ وإذا ذكر الله وحده اشمأزت ﴾ أي نفرت وانقبضت ﴿ قلوب الذين لا يؤمنون بالآخرة وإذا ذكر الذين من دونه ﴾ يعني الأوثان ﴿ إذا هم يستبشرون ﴾ أي يعرجون، قال البغوي قال مجاهد ومقاتل وذلك حين قرأ النبي صلى الله عليه وسلم والنجم وألقى الشيطان في أمنيته تلك الغرانيق العلى وأن شفاعتهن لترتجى ففرح به الكفار، وكذا أخرج ابن المنذر عن مجاهد، قال البيضاوي لقد بالغ في الأمرين حتى بلغ الغاية فإن الاستبشار أن يمتلئ قلبه سرورا حتى ينبسط له بشرة وجهه والاشمئزاز أن يمتلئ غما وغضبا حتى ينقبض أديم وجهه العامل في إذا معنى المفاجأة.
﴿ قل اللهم فاطر السماوات والأرض عالم الغيب والشهادة ﴾ أمر الله سبحانه ورسوله بالالتجاء إلى الله بالدعاء لما تحير في أمرهم وعجز في عنادهم وشدة شكيمتهم فإن القادر على الأشياء كلها العالم بالأحوال جميعها ما غاب عنا وما شاهدناه ﴿ أنت تحكم بين عبادك ﴾ فتنصر المحق وتخذل المبطل ﴿ فيما كانوا فيه يختلفون ﴾ عن أبي سلمة قال سألت عائشة بما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفتح الصلاة من الليل قالت : كان يقول ( اللهم رب جبرئيل وميكائيل وإسرافيل فاطر السماوات والأرض عالم الغيب الشهادة أنت تحكم بين عبادك في ما كانوا فيه يختلفون اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم ).
﴿ ولو ﴾ ثبت ﴿ أن للذين ظلموا ما في الأرض جميعا ومثله معه لافتدوا به من سوء العذاب يوم القيامة ﴾ وعيد شديد وإقناط بليغ لهم من الخلاص ﴿ وبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون ﴾ في مراتب التعذيب فيه مبالغة بليغة في مقابلة قوله تعالى للمؤمنين ﴿ فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين ﴾ قال مقاتل ظهر لهم حين بعثوا ما لم يحتسبوا في الدنيا أنه نازل بهم في الآخرة، وجاز أن يكون المعنى أنهم يحتسبون أن الأوثان يشفع لهم أولا يكون لهم بعث ونشور أو يكونوا في الآخرة أحسن حالا من المؤمنين فيظهر خلاف ذلك، وقال السدي ظنوا أنها حسنات فبدت لهم أنها سيئات يعني كانوا يزعمون التقرب إلى الله بعبادة الأوثان فلما عوقبوا عليها ﴿ وبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون ﴾ ﴿ وبدا لهُمْ سيِّئاتُ ما كسبُوا ﴾
﴿ وبدا لهُمْ سيِّئاتُ ما كسبُوا ﴾ أي بدأ مساوئ أعمالهم من الشرك والظلم إلى أولياء الله حين يعرض عليهم صحائفهم ﴿ وحاق ﴾ أي أحاط ﴿ بِهِم مّا كانُوا بِهِ يسْتهْزِئُون ﴾ ما موصولة والمراد به العذاب أو مصدرية والمعنى حاق بهم جزاء استهزائهم.
﴿ فإذا مس الإنسان ﴾ الكافر وقيل إخبار عن الجنس بما يغلب فيه ﴿ ضر ﴾ شدة ﴿ دعانا ﴾ معطوف على قوله :﴿ وإذا ذكر الله وحده ﴾ بالفاء لبيان تناقضهم وتعكيسهم في السبب يعني يشمئزون عند ذكر الله وحده ويستبشرون عند ذكر الأصنام فإذا مسهم ضر دعوا من اشمأزوا بذكره دون من استبشروا به وما بينهما إعتراض مؤكد لإنكار ذلك ﴿ ثم إذا خولناه ﴾ أعطيناه ﴿ نعمة منا ﴾ تفضلا فإن التخويل مختص به ﴿ قال إنما أوتيته على علم ﴾ مني بوجوه كسبه أوبأني أعطيته لما لي من استحقاقه أومن الله بي وإستيجابي والضمير لما إن جعلت موصولة وإلا فلنعمة والتذكير لأن المراد شيء منها ﴿ بل هي ﴾ أي النعمة ﴿ فتنة ﴾ امتحان من الله أيشكر أم يكفر أو استدراج لهم ليكون سببا لتعذيبهم، وقيل بل الكلمة التي قالها فتنة له موجب للتعذيب ﴿ ولكن أكثرهم لا يعلمون ﴾ ذلك قال البيضاوي : هذا دليل على أن المراد بالإنسان الجنس، قلت : وإن كان المراد بالإنسان الكافر فالمراد بأكثرهم كلهم أو يقال أن بعضهم كانوا يعتقدون أنهم على الباطل كأحبار اليهود وما كانوا ليؤمنوا تعنتا وعنادا
﴿ قد قالها ﴾ أي تلك الكلمة ﴿ الذين من قبلهم ﴾ قال مقاتل يعني قارون حيث قال ﴿ إنما أوتيته على علم عندي ﴾ وصيغة الجمع بناء على شموله لمن رضي بقوله ﴿ فما أغنى عنهم ما كانوا يكسبون ﴾ ﴿ من الكنوز ما إن مفاتحه لتنوء بالعصبة أولي القوة ﴾
﴿ فأصابهم سيئات ما كسبوا ﴾ أي جزاؤها سمى جزاء السيئة سيئة نظرا للمقابلة ﴿ والذين ظلموا ﴾ أي كفروا ﴿ من هؤلاء ﴾ أي من كفار مكة ﴿ سيصيبهم سيآت ما كسبوا ﴾ كما أصاب أولئك فأصابهم بأن قحطوا سبع سنين وقتل ببدر صناديدهم وادخلوا النار إلا من تاب وآمن منهم ﴿ وما هم بمعجزين ﴾ أي فائتين.
﴿ أولم يعلموا أن الله يبسط الرزق لمن يشاء ﴾ وامتحانا ﴿ ويقدر ﴾ لمن يشاء ابتلاء، الإستفهام للإنكار والعطف على محذوف تقديره أيقولون هذا القول يعني إنما أوتيته على علم ولم يعلموا أن توسعة الرزق وتضيقه من الله تعالى قد يوسع الرزق لمن لا يعلم وجوه الكسب، وليس له استحقاق الكرامة أصلا وقد يضيقه على عكس ذلك ﴿ إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون ﴾ بأن الحوادث كلها من الله تعالى والأسباب إنما هي على مجرى العادة في الظاهر.
روى الشيخان في الصحيحين ( أن ناسا من أهل الشرك قتلوا فأكثروا وزنوا فأكثروا ثم أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا إن الذي تقول وتدعونا إليه لحسن لو تخبرنا أن لما عملنا كفارة فنزلت ما في سورة الفرقان ﴿ والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ﴾ إلى قوله :﴿ غفورا رحيما ﴾ ونزلت ﴿ قل يا عبادي ﴾ الآية. قرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي بسكون الياء وحذفها وصلا لاجتماع الساكنين والباقون بفتحها، وأخرج ابن أبي حاتم بسند صحيح عن ابن عباس أنها نزلت في مشركي مكة كذا ذكر البغوي قول عطاء عن ابن عباس وكذا أخرج الطبراني عن ابن عباس بسند ضعيف أنه بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى وحشي قاتل حمزة يدعوه إلى الإسلام فأرسل إليه كيف تدعوني إلى دينك وأنت تزعم أنه من قتل أو أشرك أو زنى يلق آثاما يضاعف له العذاب يوم القيامة وأنا قد فعلت ذلك كله فأنزل الله تعالى :﴿ إلا من تاب وآمن وعمل عملا صالحا ﴾ فقال وحشي هذا شرط شديد لعلي لا أقدر على ذلك فهل غير ذلك فأنزل الله تعالى :﴿ إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ﴾ فقال وحشي أراني بعد في شبهة فلا أدري يغفر لي أمره فأنزل الله هذه الآية، زاد البغوي فقال المسلمون هذا له خاصة أو للمسلمين عامة ؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" بل للمسلمين عامة " وأخرج الحاكم عن ابن عمر قال كنا نقول للمفتتن توبة إذا ترك دينه بعد إسلامه ومعرفته فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة أنزل فيهم ﴿ قل يا عبادي الذين أسرفوا ﴾ الآية، وذكر البغوي أنه روي عن ابن عمر أنه قال نزلت هذه الآية في عياش بن ربيعة والوليد بن الوليد ونفر من المسلمين كانوا قد أسلموا ثم فتنوا وعذبوا فافتتنوا فكنا نقول لا يقبل الله من هؤلاء صرفا ولا عدلا أبدا قوم أسلموا ثم تركوا دينهم لعذاب عذبوا فيه فأنزل الله تعالى هذه الآيات فكتبها عمر بيده، ثم بعث إلى عياش بن ربيعة والوليد بن الوليد وأولئك النفر فأسلموا وهاجروا ﴿ الذين أسرفوا على أنفسهم ﴾ أي أفرطوا بالجناية عليها بالكفر والمعاصي، قال البغوي روي عن ابن عمر أنه أراد بالإسراف الكبائر ﴿ لا تقنطوا من رحمة الله ﴾ أي لا تيئسوا من مغفرته وتفضله إذا آمنتم وتبتم عن الشرك وهذا القيد ثابت بالإجماع وبقوله تعالى :﴿ إن الله لا يغفر أن يشرك به ﴾ وبالروايات الواردة في سبب نزول الآية فالمعنى لا تتركوا الإيمان إياسا من رحمة الله بناء على ما أسرفتم من قبل ﴿ إن الله يغفر الذنوب جميعا ﴾ صغيرها وكبيرها إذا تبتم عن الشرك وآمنتم بالله وحده " فإن الإسلام يهدم ما كان قبله " رواه مسلم عن عمرو بن العاص عن النبي صلى الله عليه وسلم، ومورد هذه الآية وإن كان خاصا فإنها نزلت في من أرتكب الكبائر في حالة الشرك ثم أسلم لكن لفظها عام يدل على أن العبد إذا آمن كما يدل عليه إضافته تعالى العبد إلى نفسه بناء على عرف القرآن وإن كان ارتكب الكبائر بعد الإسلام ليرجوا أن يغفر الله له إن شاء وإن لم يتب كما يدل عليه قوله تعالى :﴿ إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ﴾ والتعليل في هذه الآية بقوله ﴿ إنه هو الغفور الرحيم ﴾ بصيغة المبالغة وإفادة الحضر والوعد بالرحمة بعد المغفرة وتقديم ما يستدعي عموم المغفرة مما في عبادي من الدلالة على الزلة والاختصاص المقتضيين للترحم وتخصيص ضرر الإسراف بأنفسهم والنهي عن القنوط مطلقا عن الرحمة فضلا عن المغفرة وإطلاقها وتعليله بأن الله يغفر الذنوب جميعا ووضع اسم الله موضع الضمير للدلالة على أنه المستغني والمنعم على الإطلاق والتأكيد بالجمع والأحاديث الواردة في هذا الباب وإجماع الأمة.
روى مقاتل بن حبان عن نافع عن ابن عمر قال كنا معشر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم نرى أو نقول ليس شيء من حسناتنا إلا وهي مقبولة حتى نزلت ﴿ يأيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول ولا تبطلوا أعمالكم { ٣٣ ﴾ قلنا ما هذا الذي يبطل أعمالنا ؟ فقلنا الكبائر والفواحش، قال فكنا إذا رأينا من أصاب شيئا منها قلنا قد هلك فنزلت هذه الآية ﴿ قل يا عبادي الذين أسرفوا ﴾ فكففنا عن القولين فكنا إذا رأينا أحدا أصاب منها شيئا خفنا عليه وإن لم يصب منها شيئا رجونا لهن وروي عن ابن مسعود أنه دخل المسجد قاص يقص وهو يذكر النار والأغلال فقام على رأسه فقال يا مذكر لم تقنط الناس ثم قرأ ﴿ قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله ﴾ الآية، وعن أسماء بنت زيد قالت سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا ولا يبالي " رواه أحمد والترمذي وقال هذا حديث حسن غريب في شرح السنة يقول بدل يقرأ، وعن أبي سعيد الخدري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :" كان في بني إسرائيل رجل قتل تسعا وتسعين إنسانا ثم خرج فأتى راهبا فسأله فقال ليس لك توبة قال فقتله وجعل يسأل فقال له رجل رأيت قرية كذا وكذا فأدركه الموت فناء بصدده نحوها فاختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب فأوحى الله إلى هذه أن تقربي وأوصى إلى هذه أن تباعدي فقال قيسوا ما بينهما فوجدوا إلى هذه أقرب بشبر فغفر له " متفق عليه، وروى مسلم بن الحجاج هذا الحديث وفيه :" فدل على راهب فأتى فقال أنه قتل تسعا وتسعين نفسا فهل لي توبة فقال لا فقتله وكمل به مائة ثم سأل عن أعلم أهل الأرض فدل على رجل عالم فقال إنه قتل مائة نفسا فهل له توبة فقال لا فقال نعم ومن يحول بينه وبين التوبة انطلق إلى أرض كذا وكذا فإن بها أناسا يعبدون الله فاعبد الله معهم فلا ترجع إلى أرضك فإنها أرض سوء، فانطلق حتى إذا نصف الطريق أتاه الموت فاختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب فأتاهم ملك في صورة فجعلوه حكما فقال قيسوا بين الأرضين فإلى أيتهما أدنى فهوله فقاسوا فوجدوه أدنى إلى الأرض التي أراد فقبضته ملائكة الرحمة " وعن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :" كان رجل لم يعمل خيرا قط فأوصى لأهله إذا مات فحرقوه ثم ذروا نصفه في البر ونصفه في البحر فوالله لئن قدر الله عليه ليعذبنه عذابا لا يعذبه أحدا من العالمين، قال فلما مات فعلوا ما أمرهم فأمر الله البحر فجمع ما فيه وأمر البر فجمع ما فيه ثم قال لم فعلت هذا ؟ قال من خشيتك يا رب وأنت أعلم فغفر له " متفق عليه.
وروى البغوي عن ضمضم بن حوش قال دخلت مسجد المدينة فناداني شيخ فقال يا يماني ﴿ تعال ولا أعرفه ﴾ فقال لا تقولن لرجل والله لا يغفر الله لك ولا يدخلك الجنة فقلت من أنت يرحمك الله قال أبو هريرة قال فقلت وإن هذه الكلمة يقولها أحدنا لبعض أهله إذا غضب أو لزوجته أو لخادمه قال فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :" إن رجلين كانا في بني إسرائيل متحابين أحدهما مجتهد في العبادة والآخر كان مذنبا فجعل يقول له إقصر عما أنت فيه، قال فيقول خلني وربي قال حتى وجده يوما على ذنب استعظمه، فقال اقصر فقال خلني وربي أبعثت علي رقيبا فقال والله لا يغفر الله لك أبدا ولا يدخلك الله الجنة أبدا، قال فبعث الله إليهما ملكا فقبض أرواحهما فاجتمعا عنده قال للمذنب أدخل الجنة برحمتي وقال للآخر أتستطيع أن تحظر على عبادي رحمتي فقال لا يا رب فقال إذهبوا به إلى النار، قال أبو هريرة والذي نفسي بيده لتكلم بكلمة أوبقت دنياه وآخرته " وروى أحمد عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" إن رجلين كانا في بني إسرائيل متحابين " ذكر الحديث إلى آخره بعينه، وعن ثوبان قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" لا أحب أن لي الدنيا وما فيها بهذه الآية يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله الآية " رواه أحمد بسند حسن وابن جرير والطبراني في الأوسط والبيهقي في شعب الإيمان وفيه " فقال رجل يا رسول الله ومن أشرك فنكس ساعة ثم قال والله لا يغفر الله لفلان وإن الله قال من الذي يتألى علي أني لا أغفر لفلان فإني قد غفرت لفلان وأحبطت عملك " أو كما قال رواه مسلم، وعن ابن عباس في قوله تعالى :﴿ إلا اللمم ﴾ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إن تغفر اللهم تغفر جما وأي عبد لك لا ألما " رواه الترمذي وقال هذا حديث حسن صحيح غريب.
وفي حديث قدسي طويل عن أبي ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم " أفعل ما أريد عطائي كلام وعذابي كلام إنما أمري شيء إذا أردته أن أقول له كن فيكون " رواه أحمد والترمذي وابن ماجه، وعن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" إن الله عز وجل ليرفع الدرجة للعبد الصالح في الجنة فيقول يا رب أنى لي هذا فيقول باستغفار ولدك لك " رواه أحمد، وعن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" الميت في القبر كالغريق المتغوث ينتظر دعوة يلحقه من أب أو أم أو أخ أو صديق فإذا ألحقته كان أحب إليه من الدنيا وما فيها وإن الله ليدخل على أهل القبور من دعاء أهل الأرض أمثال الجبال وإن هدية الأحياء إلى الأموات الاستغفار لهم " رواه البيهقي في شعب الإيمان، وعن أبي ذر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" إن الله ليغفر لعبده ما لم يقع الحجاب، قالوا يا رسول الله وما الحجاب ؟ قال أن تموت النفس وهي مشركة " رواه أحمد والبيهقي في كتاب البعث والنشور، وعنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" من لقي الله لا يعدل به شيئا في الدنيا ثم كان عليه مثل جبال ذنوب غفر الله له " رواه البيهقي في كتاب البعث والنشور، وعن أبي هريرة قالك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" إن لله مائة رحمة أنزل منها رحمة واحدة بين الجن والإنس والبهائم والهوام فبها يتعاطفون وبها يتراحمون وبها يعطف الوحش على ولدها وأخر الله تسعة وتسعين رحمة يرحم بها عباده يوم القيامة " متفق عليه، وروى مسلم بن سلمان نحوه وفي آخره " فإذا كان يوم القيامة أكملها بهذه الرحمة " وعن عمر بن الخطاب قال قدم على النبي صلى الله عليه وسلم " سبي فإذا امرأة من السبي قد تحلب ثديها تسعى إذا وجدت صبيا في السبي أخذته فألصقته ببطنها وأرضعته فقال لنا النبي صلى الله عليه وسلم أترون هذه طارحة ولدها في النار فقلناه وهي تقدر على أن تطرحه، فقال الله أرحم بعباده من هذه بولدها متفق عليه، وعن أبي الدرداء أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم " يقص على المنبر وهو يقول :﴿ ولمن خاف مقام ربه جنتان { ٤٦ ﴾ } قلت وإن زنى وإن سرق يا رسول الله فقال الثانية ﴿ ولمن خاف مقام ربه جنتان { ٤٦ ﴾ } فقلت الثالثة وإن زنى وإن سرق يا رسول الله قال وإن رغم أنف أبي الدرداء " رواه أحمد.
وعن عامر الرام قال بيننا نحن عنده ﴿ يعني النبي صلى الله عليه وسلم ﴾ إذ أقبل رجل عليه كساء وفي يده شيء قد التف عليه فقال يا رسول الله مررت بغيضة شجر فسمعت فيها أصوات فراخ طائر فأخذتهن فوضعهن في كسائي فجاءت أمهن فاستدارت على رأسي فكشفت لها عنهن فوقعت عنهن فلففنهن بكسائي فهن أولاء معي، قال ضعهن فوضعتهن وأبت أمهن إلا لزومهن، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" أتعجبون لرحم أم الأفراخ فراخها فوالذي بعثني بالحق لله أرحم بعباده من أم الأفراخ بفراخها إرجع بهن فضعهن من حيث أخذتهن وأمهن معهن فرجع بهن " رواه أبو داود، وعن عبد الله
﴿ وأنيبوا إلى ربكم ﴾ أي ارجعوا إليه بالتوبة من الشرك وأسلموا أي انقادوا ﴿ له من قبل أن يأتيكم العذاب ﴾ في القبر أوبعد البعث فحينئذ لا ينفع الإيمان منكم كما يدل عليه قوله ﴿ ثم لا تنصرون ﴾ عطف على جملة مستأنفة وتقديره تعذبون ثم لا تنصرون.
﴿ واتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربكم ﴾ يعني القرآن فإنه أحسن من كل كلام أو المراد به العزائم دون الرخص ﴿ من قبل أن يأتيكم العذاب بغتة وأنتم لا تشعرون ﴾ بمجيئه
﴿ أن تقول ﴾ أي كراهة أن تقول أو لئلا تقول ﴿ نفس ﴾ تنكير نفس لآن القائل به بعض الأنفس أو للتكثير وهو منصوب على العلية لقوله أنيبوا، وقال المبرد تقديره بادروا واحذروا أن تقول نفس ﴿ يا حسرتي ﴾ الحسرة الاغتمام وأصله يا حسرتي انقلبت الياء ألفا في الاستغاثة وربما ألحقوا به ياء المتكلم بعد ألف الاستغاثة كذلك قرأ أبو جعفر يا حسرتاي ﴿ على ما فرطت ﴾ ما مصدرية أي على تفريطي وتقصيري ﴿ في جنب الله ﴾، قال الحسن أي قصرت في طاعة الله وقال مجاهد في أمر الله وقال سعيد بن جبير في حق الله وقيل في ذات الله على تقدير مضاف أي في طاعته أوفي قربه وقيل معناه قصرت في الجانب الذي يردني إلى رضاء الله ﴿ وإن كنت لمن الساخرين ﴾ أن مخففة من الثقيلة واسمه ضمير الشأن واللام فارقة والجملة في محل النصب على الحال كأنه قال وأنا كنت ساخرا مستهزءا بدين الله وكتابه ورسوله والمؤمنين.
﴿ أو تقول لو ﴾ ثبت ﴿ أن الله هداني لكنت من المتقين ﴾ من الشرك والمعاصي.
﴿ أو تقول حين ترى العذاب ﴾ عيانا ﴿ لو ﴾ للتمني ﴿ أن لي كرة ﴾ أي رجعة إلى الدنيا ﴿ فأكون ﴾ منصوب بعد الفاء في جواب التمني ﴿ من المحسنين ﴾ معناه أتمنى كون بي رجعة إلى الدنيا فكوني من المحسنين في العقيدة والأعمال والعطف بأو للدلالة على أنه لا يخلو عن مثل هذه الأقوال تحيرا أو تعللا بما لا طائل تحته.
﴿ بلى قد جاءتك آياتي فكذبت بها واستكبرت وكنت من الكافرين ﴾ رد من الله عليه لما تضمنه قوله :﴿ لو أن الله هداني لكنت من المتقين ﴾ فإن معناه لم يهدني الله فإن كان المراد بها إراءة الطريق فالمعنى بلى قد هديتك حيث أرسلت إليك رسولي وجاءتك كتابي فكذبت بها وكان قوله لو أن الله هداني إنكارا لتبليغ الرسل كما جاء قي الحديث " يدعى نوح يوم القيامة فيقال له هل بلغت فبقول نعم فيدعى أمته فيقال لهم خل بلغكم فيقولون لا ما جاءنا من بشير ولا نذير وقد ذكرنا الحديث في تفسيره قوله تعالى :﴿ وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ﴾ وقوله تعالى :﴿ فلنسئلن الذين أرسل إليهم ولنسئلن المرسلين { ٦ ﴾ } وإن كان المراد بها خلق الهداية والإيصال إلى المطلوب فقولهم مبني على التشبث بالجبر وإنكار قدرتهم على كسب الإيمان والطاعة فمعنى الآية بلى قد خلقت فيك القدرة التي يترتب عليها العذاب والثواب فكذبت باختيارك لما جاءتك آياتي وهذا لا ينافي تأثير قدرة الله في أفعال العباد كما هو مذهب أهل السنة والجماعة فإن قيل فما وجه الفصل بين الرد والمردود، قلنا وجه ذلك أن تقديم هذه الآية مفرق القرائن وتأخير المردود يخل بالنظم المطابق للوجود لأنه يتحسر بالتفريط ثم يتعلل بفقد الهداية ثم يتمنى الرجعة وتذكير الخطاب نظرا إلى المعنى
﴿ ويوم القيامة ترى الذين كذبوا على الله ﴾ وصفوه بما لا يجوز كاتخاذ الولد ﴿ وجوههم مسودة ﴾ الجملة حال من مفعول ترى لأنه من رؤية البصر ﴿ أليس في جهنم مثوى للمتكبرين ﴾ عن الإيمان والجملة تقرير لكونهم يرون ذلك
﴿ وينجي الله ﴾ من جهنم ﴿ الذين اتقوا ﴾ من الشرك ﴿ بمفازتهم ﴾ قرأ حمزة والكسائي وأبو بكر بمفازتهم بالألف على الجمع والباقون بغير ألف على الإفراد أي بفلاحهم وتفسيرها بالنجاة تخصيص بأهم أقسامه وبالسعادة والعمل الصالح وإطلاق للمسبب على السبب والباء للسببية صلة لينجي أو لقوله ﴿ لا يمسهم السوء ولا هم يحزنون ﴾ حال أو استئناف لبيان المفازة.
﴿ الله خالق كل شيء ﴾ من الخير والشر والإيمان والكفر هذه الجملة متصلة بقوله ﴿ الله يتوفى الأنفس ﴾ وما بينهما معترضات ﴿ وهو على كل شيء وكيل ﴾ أي الأشياء كلها موكلة إليه وهو القائم بحفظها الجملة عطف أو حال
﴿ له مقاليد ﴾ جمع مقلاد أو مقليد كمفتاح ومفاتيح أو منديل ومناديل ﴿ السماوات والأرض ﴾ يعني له مفاتيح خزائن السماوات والأرض بيده ملكوتها لا يتمكن من التصرف فيها غيره، قال قتادة ومقاتل مفاتيح السماوات والأرض بالرزق والرحمة وقال الكلبي خزائن المطر وخزائن النبات، وعن عثمان رضي الله عنه ( أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن المقاليد قال تفسيرها لا إله إلا هو والله أكبر وسبحان الله وبحمده واستغفر الله ولا حول ولا قوة إلا بالله هو الأول والآخر والظاهر والباطن بيده الخير يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير ) أخرجه أبو يعلى في مسنده وابن أبي حاتم في تفسيره والعقيلي في الضعفاء والطبراني في الدعاء والبيهقي في الأسماء والصفات من حديث ابن عمر، وذكره ابن الجوزي في الموضوعات قلت : لعل المعنى أن صفات الله تعالى المذكورة في هذه الكلمات تفسير للمقاليد يعني من كان متصفا بتلك الصفات فهو مالك خزائن السماوات والأرض بيده ملكوتها والتصرف ومن يعتقد بها ويذكرها يتأهل أن يفتتح له الخزائن إما عاجلا أو آجلا ﴿ والذين كفروا بآيات الله ﴾ أي بالقرآن وبكلمات تمجيده وتوحيده أو بدلائل قدرته واستبداده بأمر السماوات والأرض ﴿ أولئك هم الخاسرون ﴾ حصر الخسائر بهم لأن غيرهم ذو حظ من الرحمة والثواب فإن فات عنهم شيء من حظوظ الدنيا فهم مستبدلوها بما لا عين رأت ولا أذن سمعت من الحظوظ في الآخرة وأما الكفار فإن كان لهم نصيب من خزائن الرزق والمطر في الدنيا فلا نصيب لهم في الشكر فلا نصيب لهم في خزائن الرحمة والحظوظ العاجلة تنقلب عليهم وبالا واستدراجا، وجاز أن يكون هذه الآية متصلة بقوله ﴿ وسيجزي الله الذين اتقوا ﴾ وما بينهما اعتراض للدلالة على أنه مهيمن على العباد مطلع على أفعالهم مجاز عليها وتغير النظم للإشعار بأن العمدة في فلاح المؤمنين فضل الله وفي خسران الكافرين كفرهم بآيات الله والتصريح بالوعد والتعريض بالوعيد قضية المكر والله أعلم.
أخرج الطبراني وابن أبي حاتم عن ابن عباس أن قريشا دعت رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أن يعطوه مالا فيكون أغنى رجل بمكة ويزوجوه ما أراد من النساء فقالوا هذا لك يا محمد وكف عن شتم آلهتنا ولا تذكرها بسوء فإن لم تفعل فأعيد آلهتنا سنة ونعبد إلهك سنة، قال حتى أنظر ما يأتيني من ربي فأنزل الله تعالى :﴿ قل يا أيها الكافرون ١ ﴾ إلى آخر السورة وأنزل ﴿ قل ﴾ يا محمد ﴿ أفغير الله تأمروني ﴾ قرأ نافع وابن كثير بفتح الياء والباقون بإسكانها ﴿ أعبد أيها الجاهلون ﴾ وأخرج البيهقي في الدلائل عن الحسن البصري قال : قال المشركون للنبي صلى الله عليه وسلم تضلل آباءك وأجدادك يا محمد فأنزل الله هذه الآية إلى قوله ﴿ من الشاكرين ﴾ وقال البغوي قال مقاتل أن كفار مكة دعوه إلى دين آبائه، فنزلت قرأ أهل الشام بنونين خفيفتين وأهل المدينة بنون واحدة خفيفة على الحذف فإنها تحذف كثيرا والباقون بنون واحدة مشددة على الإدغام والهمزة للإنكار والفاء للعطف على محذوف وغير مفعول لأعبد قدم عليه لأنه محل الإنكار وتأمروني جملة معترضة تقديره أكفر فغير الله أعهد تأمروني بذلك، وجاز أن ينتصب غير بما دل عليه تأمروني أعبد، لأنه بمعنى تعبدوني من التفعيل على أن أصله تأمرونني وأن أعبد غير الله فحذف إن ورفع الفعل كقوله أحضر الوعي، ويؤيده قراءة أعبد بالنصب بالتقدير ألم يتضح عليكم التوحيد بعد تلك الدلائل فتعبدونني غير الله حيث تأمرونني أن أعبد غير الله.
﴿ ولقد أوحي إليك وإلى الذين من قبلك لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين ﴾ كلام على سبيل الفرض والمراد به إقناط الكفرة والإشعار على حكم الأمة، وبهذه الآية نحكم بأن الردة محبط لثواب جميع الحسنات كما أن الإسلام يهدم ما كان قبله من السيئات فإن أسلم بعد الردة في وقت صلاة صلاها فعليه أداؤه ثانيا وكذا يجب الحج ثانيا على من حج ثم ارتد ثم أسلم كذا قال الإمام ابن الهمام وقال البيضاوي إطلاق الإحباط يحتمل أن يكون من خصائصهم لأن شركهم أقبح وأن يكون على التقييد بالموت كما صرح به في قوله تعالى :﴿ ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم ﴾ وهذا القول باطل لأن القول بكونها من خصائص الأنبياء شنيع جدا تكاد السماوات يتفطرن من هذا القول إذ الكلام إنما هو على سبيل الفرض المحال وإنما المراد به الإشعار على حكم غيرهم وقوله :﴿ ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم ﴾ لا يدل على نفي الحبط إذا لم يوجد الموت على الكفر بل المطلق عندنا يبقى على إطلاقه لا ضرورة في حمله على المقيد والله أعلم.
﴿ بل الله فاعبد ﴾ رد لما أمروه به والله منصوب باعبد والفاء إما زائدة وإما بتقدير وتقديم المعمول لقصد الحصر وبل للعطف على محذوف دل عليه قوله ﴿ لئن أشركت ﴾ الخ تقديره لا تعبد غير الله بل الله اعبد أو بل أما الله فاعبد ﴿ وكن من الشاكرين ﴾ إنعامه عليك، وفيه إشارة إلى موجب الاختصاص.
أخرج الترمذي عن ابن مسعود قال مسعود مر يهودي بالنبي صلى الله عليه وسلم فقال كيف تقول يا أبا القاسم إذا وضع الله السماوات على ذه والأرضين على ذه الماء على ذه والجبال على ذه والجبال على ذه فأنزل الله تعالى ﴿ وما قدروا الله حق قدره ﴾ يعني ما عرف الناس عظمة الله سبحانه حق عظمته حيث جعلوا له شركاء ووصفوه بما لا يليق به ولم يعبدوه حق عبادته ولم يشكروه حق شكره وأنكروا البعث بعد الموت ﴿ والأرض جميعا ﴾ يعني الأرضين السبع بجميع أبعاضها البادية والغارية ﴿ قبضته ﴾ القبضة المرة من القبض أطلقت على المقدار المقبوض بالكف تسمية الفعول بالمصدر، أو بتقدير ذات قبضته ﴿ يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه ﴾ لهذه الآية من المتشابهات المصروفة عن الظاهر لا يعلم تأويله إلا الله والغرض منه التنبيه على عظمته وكمال قدرته وحقارة الأفعال العظام التي يتخير فيها الأوهام بالإضافة على قدرته وعلى أن تخريب العالم أهون شيء عليه، وقال علماء البيان هذا الكلام وارد على طريقة التمثيل والتخيل من غير اعتبار القبضة واليمن حقيقة ولا مجازا كقولهم شابت لمة الليل، ووجه نزول الآية بعد قول اليهودي تصديق ما حكاه اليهودي عن التوراة فإن كتب الله تعالى مصدقة بعضها لبعض، وفي الصحيحين حديث ابن مسعود بلفظ جاء حبر من اليهود إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا محمد إن الله يمسك السماوات يوم القيامة على إصبع والأرضين على إصبع والجبال والشجر على إصبع والماء والثرى على إصبع وسائر الخلق على إصبع ثم يهزهن فيقول أنا الملك أنا الله فضحك النبي صلى الله عليه وسلم تعجبا مما قال الحبر تصديقا له ثم قرأ ﴿ وما قدروا الله حق قدره ﴾ الآية، لعل وجه التطبيق بين رواية الترمذي ورواية الصحيحين أن الآية نزلت حينئذ فقرأها النبي صلى الله عليه وسلم كما نزلت على اليهودي، وفي الصحيحين عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " يقبض الله الأرض يوم القيامة ويطوي السماء بيمينه ثم يقول أنا الملك أين ملوك الأرض " وروى مسلم عن عبد الله بن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" يطوي الله السماوات يوم القيامة ثم يأخذهن بيده اليمنى ثم يقول أين الجبارون أين المتكبرون ثم يطوي الأرضين بشماله " ، وفي رواية يأخذهن بيده الأخرى ثم يقول أنا الله أنا الرحمان أنا الملك أنا القدوس أنا المؤمن أنا المهيمن أنا العزيز أنا الجبار أنا المتكبر أنا الذي بدأت الدنيا ولم تك شيئا أنا الذي أعيدها أين الملوك أين الجبابرة، قال القاضي عياض القبض والطي والأخذ كلها بمعنى الجمع فإن السماوات مبسوطة والأرض مدحوة ممدودة ثم رجع ذلك إلى معنى الرفع والإزالة والتبديل، وقال القرطبي المراد بالطي الإذهاب والإفناء، وأخرج ابن أبي حاتم عن الحسن قال عدت اليهود فنظروا في خلق السماوات والأرض والملائكة فلما عرفوا أخذوا يقدرونه فأنزل الله تعالى :﴿ وما قدروا الله حق قدره ﴾ وأخرج عن سعيد بن جبير قال تكلمت اليهود في صفة الرب فقالوا بما لم يعلموا ولم يروا فأنزل الله تعالى :﴿ وما قدروا الله ﴾ الآية، وأخرج ابن المنذر عن الربيع بن أنس قال لما نزلت ﴿ وسع كرسيه السماوات والأرض ﴾ قالوا يا رسول الله هذا الكرسي هكذا فكيف العرش ؟ فأنزل الله تعالى :﴿ وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه ﴾ ﴿ سبحانه وتعالى عما يشركون ﴾ ما أبعد وأعلا من هذه قدرته عن إشراكهم أم ما يضاف إليه من الشركاء.
﴿ ونفخ في الصور ﴾ يعني النفخة الأولى ﴿ فصعق ﴾ أي مات ﴿ من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله ﴾ قد ذكرنا المراد بالمستثنى في هذه الآية في سورة النمل في تفسير قوله تعالى :﴿ ونفخ في الصور ففزع من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله ﴾ قال الحسن إلا من شاء الله يعني الله وحده ﴿ ثم نفخ فيه أخرى ﴾ أي نفخة أخرى يحتمل النصب والرفع ﴿ فإذا هم قيام ﴾ قائمون من قبورهم ﴿ ينظرون ﴾ يقلبون أبصارهم في الجوانب كالمبهوت أو ينتظرون ما يفعل بهم وبين النفختين أربعون يوما وقد ذكرنا ما ورد فيه من الأحاديث في سورة النازعات
﴿ وأشرقت الأرض ﴾ يعني أرض عرضات القيامة، عطف على نفخ فيه أخرى ﴿ بنور ربها ﴾ بنور خالقها، قال البغوي وذلك حين يتجلى الرب لفصل القضاء بين خلقه فما يتضارون في نوره كما لا يتضارون بالشمس في اليوم الصحو، وقال الحسن والسدي أي بعدل ربها قيل سماه نورا لأنه يزين البقاع ويظهر الحقوق كما سمى الظلم ظلمة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" الظلم ظلمات يوم القيامة " متفق عليه من حديث ابن عمر ﴿ ووضع الكتاب ﴾ أي صحائف الأعمال في أيدي العمال واكتفى باسم الجنس عن الجمع، أخرج البيهقي عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال الكتب كلها تحت العرش فإذا كان الموقف بعث الله تعالى ريحا فتطيرها بالأيمان والشمائل أول خط فيها ﴿ اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا " وأخرج أبو نعيم عن ابن مسعود موقوفا والديلمي عن أبي هريرة مرفوعا عنوان كتاب المؤمن يوم القيامة حسن ثناء الناس { وجيء بالنبيين ﴾ قال السيوطي قال العلماء يكون الحساب بمشهد من النبيين، وغيرهم، وأخرج ابن المبارك عن سعيد بن المسيب قال وليس من يوم إلا ويعرض على النبي صلى الله عليه وسلم أمته غدوة وعشية فيعرفهم بسيماهم وأعمالهم فلذلك يشهد عليهم ﴿ والشهداء ﴾ قال ابن عباس، الذين يشهدون للرسل على تبليغ الرسالة وهم أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وقال عطاء يعني الحفظة يدل عليه قوله تعالى :﴿ وجاءت كل نفس معها سائق وشهيد { ٢١ ﴾ ﴿ وقضي بينهم ﴾ أي بين العباد ﴿ بالحق ﴾ أي بالعدل ﴿ وهم لا يظلمون ﴾ أي يزاد في سيئاتهم ولا ينقص من حسناتهم.
﴿ ووفيت كل نفس ما عملت ﴾ أي جزاؤه ﴿ وهو أعلم بما يفعلون ﴾ قال عطاء يعني أنه تعالى عالم بأفعالهم لا يحتاج إلى كاتب وشاهد إنما الكتاب والشهود جريا على العادة وإلزاما للكفرة. ثم فصل الله التوفية وقال ﴿ وسيق الذين كفروا إلى جهنم زمر ﴾
﴿ وسيق الذين كفروا إلى جهنم زمر ﴾ أي أفواجا متفرقة بعضها على عقب بعض تفاوت أقدامهم في الضلالة، قال أبو عبيدة والأخفش : زمر أي جماعات في فرقة واحدتها زمرة واشتقاقها من الزمر وهو الصوت إذ الجماعة لا تخلو عنه أومن قولهم شاة زمرة أي قليلة الشعر ورجل زمر قليل المروءة وهي الجمع القليل ﴿ حتى إذا جاءوها ﴾ ليدخلوها ﴿ فتحت ﴾ قرأ الكوفيون بالتخفيف والباقون بالتشديد على التكثير أي فتحت ﴿ أبوابها ﴾ السبعة كلها وكانت مغلقة قبل ذلك ﴿ وقال لهم خزنتها ﴾ تقريعا وتوبيخا ﴿ ألم يأتكم رسل منكم ﴾ أي من جنسكم ﴿ يتلون عليكم آيات ربكم وينذرونكم لقاء يومكم هذا ﴾ أي وقتكم هذا أي وقت دخولكم النار، قال البيضاوي فيه دليل على أنه لا تكليف قبل الشرع من حيث أنهم عللوا توبيخهم بإتيان الرسل وإنذار الكتب، قلت : هذه الآية لا تدل على عدم التعذيب على الإشراك بالله عند عدم الرسل بل على كمال التوبيخ بعد تمام الحجج فإن العقل وإن لم يكن مستقلا في درك الشرائع لكن الدلائل المنصوبة على الوحدانية كاف لحكم العقل بالتوحيد فإذا أرسل الله سبحانه الرسل وأنزل الكتب وأوضح الطريق لم يبق العذر بوجه من الوجوه والله أعلم ﴿ قالوا بلى ولكن حقت كلمة العذاب ﴾ أي كلمة الله بالعذاب وحكمه في الأزل أنهم من الأشقياء ﴿ على الكافرين ﴾ وضع المظهر موضع الضمير للدلالة على اختصاص ذلك الحكم بالكفر.
﴿ قيل ادخلوا أبواب جهنم خالدين فيها ﴾ أيهم القائل لتهويل ما يقال لهم ﴿ فبئس مثوى المتكبرين ﴾ اللام للجنس والمخصوص بالذم محذوف لما سبق ذكره يعني جهنم والفاء للسببية فإن الكلام السابق سبب للذم، وفيه إشعار بأن مثواهم لتكبرهم عن الحق وذا لا ينافي كون دخولهم فيها لما حقت عليهم كلمة العذاب فإن تكبرهم وسائر مقابحهم مسببة عنه، عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : في حديث طويل :" إن الله إذا خلق العبد للجنة استعمله بعمل أهل الجنة حتى يموت على عمل من أعمال الجنة فيدخل به الجنة وإذا خلق العبد للنار استعمله بعمل أهل النار حتى يموت على عمل من أعمال أهل النار فيدخل به النار " رواه مالك وأبو داود والترمذي.
﴿ وسيق الذين اتقوا ربهم إلى الجنة ﴾ إسراعا بهم إلى دار الكرامة، وقيل سيق مراكبهم إذ لا يذهب بهم إلا راكبين ﴿ زمرا ﴾ على تفاوت مراتبهم في الشرف وعلو الطبقة ﴿ حتى إذا جاءوها وفتحت ﴾ قرأ الكوفيون بالتخفيف والباقون بالتشديد على التكثير ﴿ أبوابها ﴾ حال يعني وقد فتحت أبوابها قبل مجيئهم تعظيما لهم كيلا ينتظروا ﴿ وقال لهم خزنتها سلام عليكم ﴾ أي لا يعتريكم مكروه أبدا ﴿ طبتم ﴾ أي طهرتم من دنس المعاصي وهذا أما لعدم ارتكابهم المعاصي أو لطهارتهم عنها بالمغفرة أو بالعقوبة، قال قتادة إذا قطعوا النار حبسوا على قنطرة بين الجنة والناس فيقتص بعضهم من بعض حتى إذا هذبوا وطيبوا دخلوا الجنة وقال لهم رضوان وأصحابه ﴿ سلام عليكم طبتم فادخلوها خالدين ﴾ وعن علي رضي الله عنه قال سيقوا على الجنة وإذا انتهوا إليها وجدوا عند بابها شجرة تخرج من تحت ساقها عينان فيغتسل المؤمن من أحداهما فيظهر ظاهره ويشرب من الأخرى فيطهر باطنه وتلقته الملائكة على أبواب الجنة يقولون سلام عليكم طبتم فأدخلوها خالدين، وقال الزجاج معناه كنتم طيبين في الدنيا عن خبائث الشرك والمعاصي، وقال ابن عباس معناه طاب لكم المقام ﴿ فادخلوها ﴾ الفاء للدلالة على أن طيبهم سبب لدخولهم وخلودهم هذا على التأويلات المتقدمة وأما على قول ابن عباس فطيب مقامهم سبب لدخولهم يعني لما كانت الجنة مقاما طيبا أستاهل أن تكون محلا ﴿ خالدين ﴾ أي مقدرين الخلود.
﴿ وقالوا ﴾ عطف على محذوف وهو جواب إذا حذف للدلالة على أن لهم مع الدخول من الكرامة ما لا يسعه المقال تقديره حتى إذا جاءوها وفتحت أبوابها وقال لهم خزنتها كذا ادخلوها ووجدوا فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر ببال أحد ولا يسعه المقال وقالوا لما أنعم عليهم ﴿ الحمد لله الذي صدقنا وعده ﴾ بدخول الجنة وبما أخفى لهم من قرة أعين ﴿ وأورثنا الأرض ﴾ أي أرض الجنة وإيراثها تحليهم إياها ﴿ نتبوأ من الجنة حيث نشاء ﴾ أي يتبوأ كل منا في أي مقام أراد من جنته الواسعة وإذا أراد زيارة الأنبياء وأصحاب الدرجات العلى تيسر لهم ذلك، أخرج الطبراني وأبو نعيم والضياء وحسنه عن عائشة قالت جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم يا رسول الله إنك لأحب إلي من نفسي ومن أهلي وولدي وإني لأكون في البيت فأذكرك ولا أصبر حتى آتيك فأنظر إليك فإذا ذكرت موتي وموتك عرفت أنك إذا دخلت وقفت مع النبيين وإني إن دخلت خشيت أن لا أراك فلم يرد عليه شيئا حتى نزل جبرئيل بقوله تعالى :﴿ ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيئين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا { ٦٩ ﴾ ﴿ فنعم أجر العاملين ﴾ الجنة.
﴿ وترى الملائكة حافين ﴾ محدقين محيطين حال ﴿ من حول العرش يسبحون بحمد ربهم ﴾ قيل هذا تسبيح تلذذ لا تسبيح تعتب لأن التكليف ساقط حينئذ وجملة يسبحون حال من فاعل حافين ﴿ وقضي بينهم ﴾ أي بين الخلائق ﴿ بالحق ﴾ بالعدل، بإدخال المؤمنين الجنة والكافرين النار، قيل بين الملائكة بإقامتهم في منازلهم على حسب تفاضلهم ﴿ وقيل الحمد لله رب العالمين ﴾ يعني يقول ذلك أهل الجنة شكرا حين تم وعد الله لهم، وقيل يقول ذلك الملائكة شكرا لله على إدخال أولياء الله الجنة وأعداء الله النار عن عائشة رضي الله عنها قالت :( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ كل ليلة بني إسرائيل والزمر ) رواه الترمذي والنسائي والحاكم.