تفسير سورة الأنفال

مختصر تفسير ابن كثير
تفسير سورة سورة الأنفال من كتاب تيسير العلي القدير لاختصار تفسير ابن كثير المعروف بـمختصر تفسير ابن كثير .
لمؤلفه محمد نسيب الرفاعي . المتوفي سنة 1412 هـ

قال البخاري : الأنفال المغانم، عن سعيد بن جبير قال، قلت لابن عباس رضي الله عنهما وسورة الأنفال، قال : نزلت في بدر، وروي عن ابن عباس أنه قال : الأنفال الغنائم، كانت لرسول الله ﷺ خالصة ليس لأحد منها شيء؛ قال فيها لبيد :
إن تقوى ربنا خير نَقَلْ وبإذن الله رَيْثى والعجل
وقال ابن جرير عن القاسم بن محمد قال : سمعت رجلاً يسأل ابن عباس عن الأنفال؟ فقال ابن عباس رضي الله عنهما : الفرس من النفل والسلب من النفل، ثم عاد لمسألته، فقال ابن عباس أيضاً، ثم قال الرجل : الأنفال التي قال الله في كتابه ما هي؟ قال القاسم : فلم يزل يسأله حتى كاد يحرجه، فقال ابن عباس : أتدرون ما مثل هذا؟.. مثل صبيغ الذي ضربه عمر بن الخطاب. وهذا إسناد صحيح إلى ابن عباس أنه فسر النفل بما ينفله الإمام لبعض الأشخاص من سلب أو نحوه بعد قسم أصل المغنم، وهو المتبادر إلى فهم كثير من الفقهاء من لفظ النفل، والله أعلم. وقال مجاهد : إنهم سألوا رسول الله ﷺ عن الخمس بعد الأربعة من الأخماس، فنزلت :﴿ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأنفال ﴾، وقال ابن مسعود : لا نفل يوم الزحف، إنما النفل قبل التقاء الصفوف، وقال ابن المبارك عن عطاء بن أبي رباح في الآية ﴿ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأنفال ﴾ قال : يسألونك فيما شذ من المشركين إلى المسلمين في غير قتال من دابة أو عبد أو أمة أو متاع، فهو نفل للنبي ﷺ صنع به ما يشاء، قال ابن جرير وقال آخرون : هي أنفال السرايا، بلغني في قوله تعالى :﴿ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأنفال ﴾ قال : السرايا، ومعنى هذا ما ينفله الإمام لبعض السرايا زيادة على قسمهم مع بقية الجيش، وقد صرح بذلك الشعبي، واختار ابن جرير أنها الزيادة على القم ويشهد بذلك ما ورد في سبب نزول الآية وهو ما روي عن سعد بن أبي وقاص قال :« لما كان يوم بدر قتل أخي ( عمير ) وقتلت ( سعيد بن العاص ) وأخذت سيفه، وكان يسمى ذا الكتيفة، فأتيت به النبي ﷺ فقال :» اذهب فاطرحه في القبض «، قال : فرجعت وبي ما لا يعلمه الله من قتل أخي وأخذ سلبي، قال : فما جاوزت إلا يسيراً، حتى نزلت سورة الأنفال فقال لي رسول الله ﷺ :» اذهب فخذ سلبك «.
سبب آخر في نزول الآية
وقال الإمام أحمد عن أبي أمامة قال : سألت ( عبادة ) عن الأنفال، فقال : فينا أصحاب بدر نزلت، حين اختلفنا في النفل وساءت فيه أخلاقنا، فانتزعه الله من أيدينا، وجعله إلى رسول الله ﷺ فقسمه رسول الله ﷺ بين المسلمين عن بواء، يقول : عن سواء، وقال الإمام أحمد أيضاً عن عبادة بن الصامت قال :
946
« خرجنا مع رسول الله ﷺ فشهدت معه بدراً، فالتقى الناس فهزم الله تعالى العدو، فانطلقت طائفة في آثارهم يهزمون ويقتلون، وأقبلت طائفة على العسكر يحوزونه ويجمعونه، وأحدقت طائفة برسول الله ﷺ لا يصيب العدو منه غرة حتى إذا كان الليل، وفاء الناس بعضهم إلى بعض، قال الذين جمعوا الغنائم : نحن حويناها فليس لأحد فيها نصيب، وقال الذين خرجوا في طلب العدو : لستم بأحق به منا، نحن منعنا عنه العدو وهزمناهم، وقال الذين أحدقوا برسول الله ﷺ : خفنا أن يصيب العدو منه غرة فاشتغلنا به، فنزلت ﴿ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأنفال قُلِ الأنفال للَّهِ والرسول فاتقوا الله وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْنِكُمْ ﴾، فقسمها رسول الله ﷺ بين المسلمين، وكان رسول الله ﷺ بين المسلمين »، وكان رسول الله ﷺ إذا أغار في أرض العدو نفل الربع، فإذا أقبل راجعاً نفل الثلث، وكان يكره الأنفال. وروى أبو داود والنسائي وابن مردويه واللفظ له، عن عكرمة عن ابن عباس قال :« لما كان يوم بدر قال رسول الله ﷺ :» من صنع كذا وكذا فله كذا وكذا « فتسارع في ذلك شبان القوم وبقي الشيوخ تحت الرايات، فلما كانت المغانم جاءوا يطلبون الذي جعل لهم، فقال الشيوخ لا تستأثروا علينا فإنا كنا ردءاً لكم لو انشكفتم لفئتم إلينا؛ فتنازعوا »، فأنزل الله تعالى :﴿ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأنفال... ﴾ إلى قوله ﴿ وَأَطِيعُواْ الله وَرَسُولَهُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ﴾، وقال الإمام القاسم بن سلام رحمه الله في كتاب ( الأموال الشرعية ) : أما الأنفال فهي المغانم، وكل نيل ناله المسلمون من أموال أهل الحرب، فكانت الأنفال الأولى لرسول الله ﷺ، يقول الله تعالى :﴿ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأنفال قُلِ الأنفال للَّهِ والرسول ﴾ فقسمها يوم بدر على ما أراه الله من غير أن يخمسها، ثم نزلت بعد ذلك آية الخمس فنسخت الأولى، قلت : هكذا روي عن ابن عباس، وبه قال مجاهد وعكرمة والسدي، وقال ابن زيد : ليست منسوخة بل هي محكمة، والأنفال أصلها جماع الغنائم إلا أن الخمس منها مخصوص لأهله على ما نزل به الكتاب وجرت به السنّة. ومعنى الأنفال في كلام العرب : كل إحسان فعله فاعل تفضلاً من غير أن يجب ذلك عليه، فذلك النفل الذي أحله الله للمؤمنين من أموال عدوهم، وإنما هو شيء خصهم الله به تفضلاً منه عليهم، بعد أن كانت الغنائم محرمة على الأمم قبلهم، فنفلها الله تعالى هذه الأمة فهذا أصل النفل.
947
وشاهد هذا ما في « الصحيحين » « وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي » وذكر تمام الحديث.
وقوله تعالى :﴿ فاتقوا الله وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْنِكُمْ ﴾ أي اتقوا الله في أموركم وأصلحوا فيما بينكم ولا تظالموا ولا تخاصموا ولا تشاجروا، فما آتاكم الله من الهدى والعلم خير مما تختصمون بسببه، ﴿ وَأَطِيعُواْ الله وَرَسُولَهُ ﴾ أي في قسمه بينكم على ما أراده الله، فإنه إنما يقسمه كما أمره الله من العدل والإنصاف، وقال ابن عباس : هذا تحريج من الله ورسوله أن يتقوا ويصلحوا ذات بينهم، وقال السدي ﴿ وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْنِكُمْ ﴾ أي لا تستبوا، ولنذكر هاهنا حديثاً أورده الحافظ أبو يعلى الموصلي رحمه الله في « مسنده » عن أنس رضي الله عنه قال :« بينا رسول الله ﷺ جالس إذ رأيناه ضحك حتى بدت ثناياه، فقال عمر : ما أضحكك يا رسول الله بأبي أنت وأمي؟ فقال :» رجلان من أمتي جثيا بين يدي رب العزة تبارك وتعالى، فقال أحدهما : يا رب خذ لي مظلمتي من أخي، قال الله تعالى : أعط أخاك مظلمته، قال : يا رب لم يبق من حسناتي شيء، قال : رب فليحمل عني من أوزاري «، قال : ففاضت عينا رسول الله ﷺ بالبكاء، ثم قال :» إن ذلك ليوم عظيم، يوم يحتاج الناس إلى من يتحمل عنهم من أوزارهم، فقال الله تعالى للطالب : ارفع بصرك وانظر في الجنان فرفع رأسه فقال : يا رب أرى مدائن من فضة وقصوراً من ذهب مكللة باللؤلؤ، لأي نبي هذا؟ لأي صديق هذا؟ لأي شهيد هذا؟ قال : هذا لمن أعطى ثمنه؟ قال : رب ومن يملك ثمنه؟ قال : أنت تملكه، قال : ماذا يا رب؟ قال تعفو عن أخيك، قال : يا رب فإني قد عفوت عنه. قال الله تعالى : خذ بيد أخيك فادخلا الجنة « ثم قال رسول الله ﷺ :﴿ فاتقوا الله وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْنِكُمْ ﴾، فإن الله تعالى يصلح بين المؤمنين يوم القيامة ».
948
قال مجاهد :﴿ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ ﴾ فرقت أي فزعت وخافت، وهذه صفة المؤمن حق المؤمن الذي إذا ذكر الله وجل قلبه أي أخاف منه، ففعل أوامره، وترك زواجره، كقوله تعالى :﴿ والذين إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظلموا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ الله فاستغفروا لِذُنُوبِهِمْ ﴾ [ آل عمران : ١٣٥ ] الآية، وكقوله تعالى :﴿ وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النفس عَنِ الهوى * فَإِنَّ الجنة هِيَ المأوى ﴾ [ النازعات : ٤٠-٤١ ] ولهذا قال سفيان الثوري، سمعت السدي يقول في قوله تعالى :﴿ إِنَّمَا المؤمنون الذين إِذَا ذُكِرَ الله وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ ﴾ قال : هو الرجل يريد أن يظلم، أو قال يهم بمعصية، فيقال له : اتق الله فيجل قلبه؛ وعن أم الدرداء في قوله :﴿ إِنَّمَا المؤمنون الذين إِذَا ذُكِرَ الله وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ ﴾ قالت : الوجل في القلب كاحتراق السَّعْفة. أما تجد له قشعريرة؟ قال : بلى، قالت : إذا وجدت ذلك فادع الله عند ذلك فإن الدعاء يذهب ذلك، وقوله :﴿ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً ﴾، كقوله :﴿ فَأَمَّا الذين آمَنُواْ فَزَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ ﴾ [ التوبة : ١٢٤ ] وقد استدل البخاري وغيره من الأئمة بهذه الآية وأشباهها على زيادة الإيمان وتفاضله في القلوب، كما هو مذهب جمهور الأمة، بل قد حكى الإجماع عليه غير واحد من الأئمة كالشافعي وأحمد بن حنبل وأبي عبيد كما بينا ذلك مستقصى في أول شرح البخاري ولله الحمد والمنة. ﴿ وعلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ﴾ أي لا يرجون سواه، ولا يقصدون إلا إياه، ولا يلوذون إلا بجنابه، ولا يطلبون الحوائج إلا منه، ولا يرغبون إلا إليه، ويعلمون أنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، وأنه المتصرف في الملك وحده لا شريك له، ولا معقب لحكمه وهو سريع الحساب، ولهذا قال سعيد بن جبير : التوكل على الله جماع الإيمان، وقوله :﴿ الذين يُقِيمُونَ الصلاة وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ ﴾، ينبه تعالى بذلك على أعمالهم بعدما ذكر اعتقادهم، وهذه الأعمال تشمل أنواع الخير كلها، وهو إقامة الصلاة وهو حق الله تعالى، وقال قتادة : إقامة الصلاة المحافظة على مواقيتها ووضوئها وركوعها وسجودها، وقال مقاتل : إقامتها المحافظة على مواقيتها، وإسباغ الطهور فيها، وتمام ركوعها وسجودها، وتلاوة القرآن فيها، والتشهد، والصلاة على النبي ﷺ، هذا إقامتها، والإنفاق مما رزقهم الله يشمل إخراج الزكاة وسائر الحقوق للعباد من واجب ومستحب، والخلق كلهم عيال الله فأحبهم إلى الله أنفعهم لخلقه. قال قتادة في قوله :﴿ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ ﴾ فأنفقوا مما رزقكم الله، فإنما هذه الأموال عواري وودائع عندك يا ابن آدم أوشكت أن تفارقها.
وقوله تعالى :﴿ أولائك هُمُ المؤمنون حَقّاً ﴾ أي المتصفون بهذه الصفات هم المؤمنون حق الإيمان، « عن الحارث بن مالك الأنصاري : أنه مر برسول الله ﷺ فقال له :» كيف أصبحت يا حارث «؟ قال : أصبحت مؤمناً حقاً، قال :» انظر ما تقول فإن لكل شيء حقيقة فما حقيقة إيمانك «؟ فقال : عزفت نفسي عن الدنيا، فأسهرت ليلي، وأظمأت نهاري، وكأني أنظر إلى عرش ربي بارزاً، وكأني أنظر إلى أهل الجنة يتزاورون فيها، وكأني أنظر إلى أهل النار يتضاغون فيها، فقال :» يا حارث عرفت فالزم « ثلاثاً »
قال الطبري : اختلف المفسرون في السبب الجالب لهذه الكاف في قوله :﴿ كَمَآ أَخْرَجَكَ رَبُّكَ ﴾ فقال بعضهم شبهبه في الصلاح للمؤمنين؛ والمعنى : أن الله تعالى يقول : كما أنكم لما اختلفتم في المغانم وتشاححتم فيها، فانتزعها الله منكم، فكان هذه هو المصلحة التامة لكم، كذلك لما كرهتم الخروج إلى الأعداء وهم النفير الذين خرجوا لإحراز عيرهم، فكان عاقبة كراهتكم للقتال بأن قدره لكم على غير ميعاد رشداً وهدى، ونصراً وفتحاً، كما قال تعالى :﴿ كُتِبَ عَلَيْكُمُ القتال وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ وعسى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ ﴾ [ البقرة : ٢١٦ ]، وقال آخرون : معنى ذلك ﴿ كَمَآ أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِن بَيْتِكَ بالحق ﴾ على كره من فريق من المؤمنين، كذلم هم كارهون للقتال، فهم يجادلونك فيه بعدما تبين لهم، قال مجاهد :﴿ كَمَآ أَخْرَجَكَ رَبُّكَ ﴾ كذلك يجادلونك في الحق. وقال بعضهم : يسألونك عن الأنفال مجادلة كما جادلوك يوم بدر، فقالوا : أخرجتنا للعير ولم تعلمنا قتالاً فنستعد له. قلت : رسول الله ﷺ إنما خرج من المدينة طالباً لعير أبي سفيان التي بلغه خبرها أنها صادرة من الشام فيها أموال جزيلة لقريش، فاستنهض رسول الله ﷺ المسلمين، فخرج في ثلثمائة وبضعة عشر رجلاً وجمع الله بين المسلمين والكافرين على غير ميعاد، لما يريد الله تعالى من إعلاء كلمة المسلمين ونصرهم على عدوهم والتفرقة بين الحق والباطل، والغرض أن رسول الله ﷺ لما بلغه خروج النفير أوحى الله إليه، يعده إحدى الطائفتين إما العير وإما النفير، ورغب كثير من المسلمين إلى العير، لأنه كسب بلا قتال، كما قال تعالى :﴿ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشوكة تَكُونُ لَكُمْ ﴾.
روى ابن أبي حاتم قال :« خرج رسول الله ﷺ إلى بدر، حتى إذا كان بالروحاء خطب الناس فقال :» كيف ترون «؟ فقال أبو بكر : يا رسول الله بلغنا أنهم بمكان كذا وكذا، قال : ثم خطب الناس فقال :» كيف ترون «؟ فقال عمر : مثل قول أبي بكر، ثم خطب الناس فقال :» كيف ترون «؟ فقال سعد بن معاذ : يا رسول الله إيانا تريد؟ فوالذي أكرمك وأنزل عليك الكتاب ما سلكتها قط ولا لي بها علم، ولئن سرت حتى تأتي برك الغماد من ذي يمن لنسيرن معك، ولا نكون كالذين قالوا لموسى :﴿ فاذهب أَنتَ وَرَبُّكَ فقاتلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ ﴾ [ المائدة : ٢٤ ]، ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون، ولعلك أن تكون خرجت لأمر، وأحدث الله إليك غيره، فانظر الذي أحدث الله إليك فامض له، فصل حبال من شئت، واقطع حبال من شئت، وعاد من شئت، وسالم من شئت، وخذ من أموالنا ما شئت، فنزل القرآن على قول سعد :﴿ كَمَآ أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِن بَيْتِكَ بالحق وَإِنَّ فَرِيقاً مِّنَ المؤمنين لَكَارِهُونَ ﴾ »
950
الآيات، وقال ابن عباس : لما شاور النبي ﷺ في لقاء العدو، وقال له سعد بن عبادة ما قال، وذلك يوم بدر أمر الناس أن يتهيأو للقتال وأمرهم بالشوكة، فكره ذلك أهل الإيمان، فأنزل الله :﴿ كَمَآ أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِن بَيْتِكَ بالحق وَإِنَّ فَرِيقاً مِّنَ المؤمنين لَكَارِهُونَ ﴾، وقال مجاهد : يجادلونك في الحق : في القتال للقاء المشركين. عن عكرمة عن ابن عباس قال، قيل لرسول الله ﷺ حين فرغ من بدر : عليك بالعير ليس دونها شيء، فناداه العباس بن عبد المطلب وهو أسير في وثاقه : إنه لا يصلح لك، قال : ولم؟ قال : لأن الله عزَّ وجلَّ إنما وعدك إحدى الطائفتين وقد أعطاك الله ما وعدك. ومعنى قوله تعالى :﴿ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشوكة تَكُونُ لَكُمْ ﴾ أي يحبون أن الطائفة التي لا منعة ولا قتال تكون لهم وهي العير، ﴿ وَيُرِيدُ الله أَن يُحِقَّ الحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ ﴾ أي هو يريد أن يجمع بينكم وبين الطائفة التي لها الشوكة والقتال ليظفركم بهم وينصركم عليهم، ويظهر دينه، ويرفع كلمة الإسلام، ويجعله غالباً على الأديان، وهو أعلم بعواقب الأمور، وهو الذي يدبركم بحسن تدبيره، وإن كان العباد يحبون خلاف ذلك فيما يظهر لهم.
وقال محمد بن إسحاق رحمه الله :« لما سمع رسول الله ﷺ بأبي سفيان مقبلاً من الشام ندب المسلمين إليهم، وقال : هذه عير قريش فيها أموالهم، فاخرجوا إليها لعل الله أن ينفلكموها، فانتدب الناس فخف بعضهم، وثقل بعضهم، وذلك أنهم لم يظنوا أن رسول الله ﷺ يلقى حرباً، وكان أبو سفيان قد استنفر حين دنا من الحجاز، يتجسس الأخبار، ويسأل من لقي من الركبان تخوفاً على أمر الناس حتى أصاب خبراً من بعض الركبان أن محمداً قد استنفر أصحابه لك ولعيرك فحذر عند ذلك، فاستأجر ( ضمضم بن عمرو الغفاري ) فبعثه إلى أهل مكة وأمره أن يأتي قريشاً، فيستنفرهم إلى أموالهم، ويخبرهم أن محمداً قد عرض لها في أصحابه، فخرج ضمضم بن عمرو سريعاً إلى مكة، وخرج رسول الله ﷺ في أصحابه حتى بلغ وادياً يقال له ذفران، فخرج منه، حتى إذا كان ببعضه نزل، وأتاه الخبر عن قريش بمسيرهم ليمنعوا عيرهم، فاستشار رسول الله ﷺ الناس، وأخبرهم عن قريش، فقام أبو بكر رضي الله عنه فقال فأحسن، ثم قام عمر رضي الله عنه، فقال فأحسن، ثم قام المقداد بن عمرو فقال : يا رسول الله امض لما أمرك الله به فنحن معك، والله لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى :﴿ فاذهب أَنتَ وَرَبُّكَ فقاتلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ ﴾ [ المائدة : ٢٤ ]، ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون، فوالذي بعثك بالحق لو سرت بنا إلى برك الغماد - يعني مدينة الحبشة - لجالدنا معك من دونه حتى تبلغه، فقال له رسول الله ﷺ خيراً، ودعا له بخير، ثم قال رسول الله ﷺ :» أشيروا علي أيها الناس « وإنما يريد الأنصار، وذلك أنهم كانوا عدد الناس، وذلك أنهم حين بايعوه بالعقبة قالوا : يا رسول الله، إنا برآء من ذمامك حتى تصل إلى دارنا، فإذا وصلت إلينا فأنت في ذمامنا نمنعك مما نمنع منه أبناءنا، ونساءنا وكان رسول الله ﷺ يتخوف أن لا تكون الأنصار ترى عليها نصرته إلا ممن دهمه بالمدينة من عدوه، وأن ليس عليهم أن يسير بهم إلى عدو قال :» أجل «، فقال : قد آمنا بك وصدقناك وشهدنا أن ما جئت به هو الحق، وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا على السمع والطاعة، فامض يا رسول الله لما أمرك الله، فوالذي بعثك بالحق إن استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك، ما يتخلف منا رجل واحد، وما نكره أن تلقى بنا عدونا غداً، إنا الصبر عند الحرب، صدق عند اللقاء، ولعل الله يريك ما تقر به عينك، فسر بنا على بركة الله، فسر رسول الله ﷺ بقول سعد : ونشطه ذلك، ثم قال :» سيروا على بركة الله وأبشروا فإن الله قد وعدني إحدى الطائفتين، والله لكأني الآن أنظر إلى مصارع القوم «، وروى العوفي عن ابن عباس نحو هذا، وكذلك قال السدي وقتادة وعبد الرحمن بن أسلم وغير واحد من علماء السلف والخلف، اختصرنا أقوالهم اكتفاء بسياق محمد بن إسحاق ».
951
« لما كان يوم بدر نظر النبي ﷺ إلى أصحابه وهم ثلثمائة ونيف، ونظر إلى المشركين، فإذا هم ألف وزيادة، فاستقبل النبي ﷺ القبلة وعليه رداؤه وإزاره، ثم قال :» اللهم أنجز لي ما وعدتني، اللهم إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام فلا تعبد في الأرض أبداً « قال : فما زال يستغيث ربه ويدعوه حتى سقط رداؤه عن منكبيه، فأتاه أبو بكر فأخذ رداءه فردّاه ثم التزمه من ورائه ثم قال : يا نبي الله كفاك مناشدتك ربك، فإنه سينجز لك ما وعدك، فأنزل الله عزَّ وجلَّ :﴿ إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فاستجاب لَكُمْ ﴾، فلما كان يؤمئذ التقوا فهزم الله المشركين، فقتل منهم سبعون رجلاً، وأسر منهم سبعون رجلاً، واستشار رسول الله ﷺ أبا بكر وعمر وعلياً فقال أبو بكر : يا رسول الله هؤلاء بنو العم والعشيرة والإخوان وإني أرى أن تأخذ منهم الفدية فيكون ما أخذناه منهم قوة لنا على الكفار، وعسى أن يهديهم الله فيكونوا لنا عضداً، فقال رسول الله ﷺ :» ما ترى يا ابن الخطاب «؟ قلت : والله ما أرى ما رأى أبو بكر، ولكني أرى أن تمكنني من فلان - قريب لعمر - فأضرب عنقه، وتمكن علياً من عقيل فيضرب عنقه، وتمكن حمزة من فلان - أخيه - فيضرب عنقه، حتى يعلم الله أن ليس في قلوبنا هوادة للمشركين، هؤلاء صناديدهم وأئمتهم وقادتهم، فهوي رسول الله ﷺ ما قال أبو بكر ولم يهو ما قلت، وأخذ منهم الفداء، فلما كان من الغد قال عمر : فغدوت إلى النبي ﷺ وأبي بكر وهما يبكيان، فقلت : يا رسول الله ما يبكيك أنت وصاحبك؟ فإن وجدت بكاء بكيت وإن لم أجد بكاء تباكيت لبكائكما، قال النبي ﷺ :» للذي عرض عليَّ أصحابك من أخذهم الفداء، لقد عرض عليَّ عذابكم أدنى من هذه الشجرة « لشجرة قريبة من النبي ﷺ، وأنزل الله عزَّ وجلَّ :﴿ مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أسرى حتى يُثْخِنَ فِي الأرض... ﴾ [ الأنفال : ٦٧ ] إلى قوله ﴿ فَكُلُواْ مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلاَلاً طَيِّباً ﴾ [ الأنفال : ٦٩ ]، فأحل لهم الغنائم، فلما كان يوم أُحُد من العام المقبل عوقبوا بما صنعوا يوم بدر من أخذهم الفداء، فقتل منهم سبعون، وفر أصحاب النبي ﷺ عن النبي ﷺ، وكسرت رباعيته، وهشمت البيضة على رأسه، وسال الدم على وجهه، فأنزل الله :﴿ أَوَ لَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أنى هذا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ الله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾
952
[ آل عمران : ١٦٥ ] بأخذكم الفداء.
قال البخاري في كتاب « المغازي » باب قول الله تعالى :﴿ إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فاستجاب لَكُمْ ﴾ الآية، عن طارق بن شهاب قال : سمعت ابن مسعود يقول : شهدت من المقداد بن الأسود مشهداً لأن أكون صاحبه أحب إليَّ مما عدل به، أتى النبي ﷺ وهو يدعو على المشركين فقال : لا نقول كما قال قوم موسى ﴿ فاذهب أَنتَ وَرَبُّكَ فقاتلا ﴾ [ المائدة : ٢٤ ]، ولكنا نقاتل عن يمينك وعن شمالك وبين يديك ومن خلفك، فرأيت النبي ﷺ أشرق وجهه وسره، يعني قوله، وعن ابن عباس قال، « قال النبي ﷺ يوم بدر :» اللهم أنشدك عهدم ووعدك، اللهم إن شئت لم تعبد « فأخذ أبو بكر بيده فقال : حسبك، فخرج وهو يقول :» سيهزم الجمع ويولون الدبر « وقوله تعالى :﴿ بِأَلْفٍ مِّنَ الملائكة مُرْدِفِينَ ﴾ أي يردف بعضهم بعضاً، كما قال ابن عباس ﴿ مُرْدِفِينَ ﴾ : متتابعين، ويحتمل أن المراد ﴿ مُرْدِفِينَ ﴾ لكم أي نجدة لكم، كما قال العوفي عن ابن عباس ﴿ مُرْدِفِينَ ﴾ يقول : المدد، كما تقول أنت للرجل زده كذا وكذا. وفي رواية ﴿ مُرْدِفِينَ ﴾ قال : بعضهم على أثر بعض، وقال ابن جرير : نزل جبريل في ألف من الملائكة عن ميمنة النبي ﷺ وفيها أبو بكر، ونزل ميكائيل في ألف من الملائكة عن مسيرة النبي ﷺ، وهذا يقتضي - إن صح إسناده - أن الألف مردفة بمثلها، ولهذا قرأ بعضهم :﴿ مُرْدِفِينَ ﴾ بفتح الدال والله أعلم، والمشهور ما روي عن ابن عباس قال : وأمد الله نبيه ﷺ والمؤمنين بألف من الملائكة، فكان جبريل في خمسمائة من الملائكة مجنبة، ومكائيل في خمسمائة مجنبة، وروي عن ابن عباس قال : بينا رجل من المسلمين يشتد في أثر رجل من المشركين أمامه إذ سمع ضربة بالسوط فوقه، وصوت الفارس يقول : أقدم حيزوم، إذ نظر إلى المشرك أمامه فخر مستلقياً، قال : فنظر إليه، فإذا هو قد حطم وشق وجهه كضربة السوط فاخضر ذلك أجمع، فجاء الأنصاري فحدث ذلك رسول الله ﷺ فقال : صدقت، ذلك من مدد السماء الثالثة، فقتلوا يومئذ سبعين وأسروا سبعين.
وفي »
البخاري « قال : جاء جبريل إلى النبي ﷺ فقال : ما تعدون أهل بدر فيكم؟ قال :» من أفضل المسلمين « أو كلمة نحوها قال : وكذلك من شهد بدراً من الملائكة، وفي الصحيحين » أن رسول الله ﷺ قال لعمر لما شاوره في قتل ( حاطب بن أبي بلتعة ) « إنه قد شهد بدراً وما يدريك لعل الله قد اطلع على أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم »؟ «
953
، وقوله تعالى :﴿ وَمَا جَعَلَهُ الله إِلاَّ بشرى ﴾ الآية، أي وما جعل الله بعث الملائكة إلا بشرى ﴿ وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ ﴾، وإلا فهو تعالى قادر على نصركم على أعدائكم ﴿ وَمَا النصر إِلاَّ مِنْ عِندِ الله ﴾ أي بدون ذلك، ولهذا قال :﴿ ذَلِكَ وَلَوْ يَشَآءُ اللَّهُ لاَنْتَصَرَ مِنْهُمْ ولكن لِّيَبْلُوَاْ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ ﴾ [ محمد : ٤ ] كما قال تعالى :﴿ وَتِلْكَ الأيام نُدَاوِلُهَا بَيْنَ الناس ﴾ [ آل عمران : ١٤٠ ]، فهذه حكم شرع الله جهاد الكفار بأيدي المؤمنين لأجلها، وقد كان تعالى إنما يعاقب الأمم السالفة المكذبة للأنبياء بالقوارع التي تعم تلك الأمم المكذبة، كما أهلك قوم نوح بالطوفان، وعادا الأولى بالدبور، وثمود بالصيحة، وقوم لوط بالخسف والقلب وحجارة السجيل، وقوم شعيب بيوم الظلة، فلما بعث الله تعالى موسى وأهلك عدوه وأنزل على موسى التوراة شرع فيها قتال الكفار واستمر الحكم في بقية الشرائع بعده على ذلك، كما قال تعالى :﴿ وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الكتاب مِن بَعْدِ مَآ أَهْلَكْنَا القرون الأولى بَصَآئِرَ ﴾ [ القصص : ٤٣ ]، وقتل المؤمنين للكافرين أشد إهانة للكافرين، وأشفى لصدور المؤمنين، كما قال تعالى للمؤمنين :﴿ قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ الله بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ ﴾ [ التوبة : ١٤ ]، ولهذا كان قتل صناديد قريش بأيدي أعدائهم، أنكى لهم وأشفى لصدور حزب الإيمان، وقتل أبي جهل في معركة القتال أشد إهانة له من موته على فراشه بقارعة أو صاعقة أو نحو ذلك، ولهذا قال تعالى :﴿ إِنَّ الله عَزِيزٌ ﴾ أي له العزة ولرسوله وللمؤمنين بهما في الدنيا والآخرة، ﴿ حَكِيمٌ ﴾ فيما شرعه من قتال الكفار مع القدرة على دمارهم وإهلاكهم بحوله وقوته سبحانه وتعالى.
954
يذكرهم الله تعالى بما أنعم به عليهم، من إلقائه النعاس عليهم أماناً، أمّنهم به من خوفهم الذي حصل لهم، من كثرة عدوهم وقلة عددهم، وكذلك فعل تعالى بهم يوم أُحد، كما قال تعالى :﴿ ثُمَّ أَنزَلَ عَلَيْكُمْ مِّن بَعْدِ الغم أَمَنَةً نُّعَاساً ﴾ [ آل عمران : ١٥٤ ] الآية. قال أبو طلحة : كنت ممن أصابه النعاس يوم أحد، ولقد سقط السيف من يدي مراراً؛ يسقط وآخذه، ويسقط وآخذه، ولقد نظرت إليهم يميدون وهم تحت الحَجَف، وقال الحافظ أبو يعلى عن علي رضي الله عنه قال : ما كان فينا فارس يوم بدر غير المقداد، ولقد رأيتنا وما فينا إلا نائم إلا رسول الله ﷺ يصلي تحت شجرة ويبكي حتى أصبح، وقال عبد الله بن مسعود : النعاس في القتال أمنة من الله، وفي الصلاة من الشيطان. وقال قتادة : النعاس في الرأس، والنوم في القلب. وكأن ذلك كان المؤمنين عند شدة البأس لتكون قلوبهم آمنة مطمئنة بنصر الله، وهذا من فضل الله ورحمته بهم ونعمته عليهم، ولهذا جاء في الصحيح أن رسول الله ﷺ لما كان يوم بدر في العريش مع الصديق رضي الله عنه وهما يدعوان أخذت رسول الله ﷺ سنة من النوم ثم استيقظ متبسماً فقال :« أبشر يا أبا بكر هذا جبريل على ثناياه النقع »، ثم خرج من باب العريش وهو يتلو قوله تعالى :﴿ سَيُهْزَمُ الجمع وَيُوَلُّونَ الدبر ﴾ [ القمر : ٤٥ ].
وقوله تعالى :﴿ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُم مِّن السمآء مَآءً ﴾، قال ابن عباس : إن المشركين من قريش لما خرجوا لينصروا العير وليقاتلوا عنها، نزلوا على الماء يوم بدر، فغلبوا المؤمنين عليه، فأصاب المؤمنين الظمأ فجعلوا يصلون مجنبين محدثين، حتى تعاطوا ذلك في صدورهم، فأنزل الله من السماء ماء حتى سال الوادي، فشرب المؤمنون، وملأوا الأسقية، وسقوا الركاب واغتسلوا من الجنابة، فجعل الله في ذلك طهوراً وثبت به الأقدام، وذلك أنه كانت بينهم وبين القوم رملة فبعث الله المطر عليها، والمعروف « أن رسول الله ﷺ لما سار إلى بدر نزل على أدنى ماء هناك أي أول ماء وجده، فتقدم إليه الحباب بن المنذر فقال : يا رسول الله هذا المنزل الذي نزلته منزل أنزلك الله إياه فليس لنا أن نجاوزه أو منزل نزلته للحرب والمكيدة؟ فقال :» بل منزل نزلته للحرب والمكيدة « فقال : يا رسول الله إن هذا ليس بمنزل، ولكن سر بنا حتى ننزل على أدنى ماء يلي القوم ونغور ما وراءه من القلب، ونستقي الحياض فيكون لنا ماء وليس لهم ماء، فسار رسول الله ﷺ ففعل ذلك »
955
وقال مجاهد : أنزل الله عليهم المطر قبل النعاس فأطفأ بالمطر الغبار وتلبدت به الأرض وطابت نفوسهم وثبتت به أقدامهم، وقوله :﴿ لِّيُطَهِّرَكُمْ بِهِ ﴾ أي من حدث أصغر أو أكبر وهو تطهير الظاهر، ﴿ وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ الشيطان ﴾ أي من وسوسة أو خاطر سيء وهو تطهير الباطن، كما قال تعالى في حق أهل الجنة ﴿ عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُندُسٍ خُضْرٌ ﴾ ﴿ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَاباً طَهُوراً ﴾ [ الإنسان : ٢١ ] أي مطهراً لما كان من غل أو حسد أو تباغض وهو زينة الباطن وطهارته، ﴿ وَلِيَرْبِطَ على قُلُوبِكُمْ ﴾ : أي بالصبر والإقدام على مجالدة الأعداء وهو شجاعة الباطن ﴿ وَيُثَبِّتَ بِهِ الأقدام ﴾ وهو شجاعة الظاهر والله أعلم.
وقوله تعالى :﴿ إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الملائكة أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُواْ الذين آمَنُواْ ﴾ وهذه نعمة خفية أظهرها الله تعالى لهم ليشكروه عليها، وهو أنه تعالى لهم ليشكروه عليها، وهو أنه تعالى وتقدس أوحى إلى الملائكة الذين أنزلهم لنصر نبيه ودينه أن يثبتوا الذين آمنوا، قال ابن جرير : أي ثبتوا المؤمنين وقووا أنفسهم على أعدائهم سألقي الرعب والذلة والصغار على من خالف أمري وكذب رسولي، ﴿ فاضربوا فَوْقَ الأعناق واضربوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ ﴾ أي اضربوا الهام فأفلقوها واحتزوا الرقاب فقطعوها، وقطعوا الأطراف منهم وهي أيديهم وأرجلهم، وقد اختلف المفسرون في معنى ﴿ فَوْقَ الأعناق ﴾ فقيل : معناه اضربوا الرؤوس، قاله عكرمة. وقيل معناه أي على الأعناق وهي الرقاب، قاله الضحاك. ويشهد لهذا المعنى قوله تعالى :﴿ فَإِذَا لَقِيتُمُ الذين كَفَرُواْ فَضَرْبَ الرقاب ﴾ [ محمد : ٤ ] وقال القاسم، قال النبي ﷺ :« إني لم أبعث لأعذب بعذاب الله، إنما بعثت لضرب الرقاب وشد الوثاق »، وقال الربيع بن أنس : كان الناس يوم بدر يعرفون قتلى الملائكة بضرب فوق الأعناق وعلى البنان مثل سمة النار قد أحرق به، وقوله :﴿ واضربوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ ﴾، قال ابن جرير : معناه واضربوا من عدوكم أيها المؤمنون كل طرف ومفصل من أطراف أيديهم وأرجلهم، والبنان جمع بنانه كما قال الشاعر :
ألا ليتني قطعت مني بنانة ولاقيته في البيت يقظان حاذراً
وقال ابن عباس :﴿ واضربوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ ﴾ يعني بالبنان الأطراف، وقال السدي : البنان الأطراف، ويقال كل مفصل، وقال الأوزاعي : اضرب منه الوجه والعين، وارمه بشهاب من نار فإذا أخذته حرم ذلك كله عليك، وقال العوفي عن ابن عباس فأوحى الله إلى الملائكة :﴿ فَثَبِّتُواْ الذين آمَنُواْ ﴾ الآية، فقتل أبو جهل لعنه الله في تسعة وستين رجلاً، وأسر عقبة بن أبي معيط، فقتل صبراً فوفى ذلك سبعين يعني قتيلاً، ولهذا قال تعالى :﴿ ذلك بِأَنَّهُمْ شَآقُّواْ الله وَرَسُولَهُ ﴾ أي خالفوهما، فساروا في شق، وتركوا الشرع والإيمان به واتباعه في شق، ومأخوذ أيضاً من شق العصا وهو جعلها فرقتين ﴿ وَمَن يُشَاقِقِ الله وَرَسُولَهُ فَإِنَّ الله شَدِيدُ العقاب ﴾ أي هو الطالب الغالب لمن خالفه وناوأه لا يفوته شيء، ولا يقوم لغضبه شيء تبارك وتعالى لا إله غيره ولا رب سواه، ﴿ ذلكم فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابَ النار ﴾ هذا خطاب للكفار، أي ذوقوا هذا العذاب والنكال في الدنيا واعلموا أيضاً أن للكافرين عذاب النار في الآخرة.
956
يقول تعالى متوعداً على الفرار من الزحف بالنار لمن فعل ذلك ﴿ يَآأَيُّهَا الذين آمنوا إِذَا لَقِيتُمُ الذين كَفَرُواْ زَحْفاً ﴾ أي تقاربتم منهم ودنوتم إليهم ﴿ فَلاَ تُوَلُّوهُمُ الأدبار ﴾ أي تفروا وتتركوا أصحابكم، ﴿ وَمَن يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفاً لِّقِتَالٍ ﴾ أي يفر بين يدي قرنه مكيدة ليريه أن خاف منه، فيتبعه، ثم يكر عليه فيقتله فلا بأس عليه في ذلك. وقال الضحاك : أن يتقدم عن أصحابه ليرى غرة من العدو فيصيبها ﴿ أَوْ مُتَحَيِّزاً إلى فِئَةٍ ﴾ أي فر من هاهنا إلى فئة أخرى من المسلمين يعاونهم ويعاونوه، فيجوز له ذلك، حتى لو كان في سرية ففر إلى أميره أو إلى الإمام الأعظم دخل في هذه الرخصة. قال الإمام أحمد عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال :« كنت في سرية من سرايا رسول الله ﷺ، فحاص الناس حيصة، فكنت فيمن حاص، فقلنا : كيف نصنع وقد فررنا من الزحف وبؤنا بالغضب؟ ثم قلنا : لو دخلنا المدينة ثم بتنا، ثم قلنا : لو عرضنا أنفسنا على رسول الله ﷺ فإذا كانت لنا تبوة وإلا ذهبنا، فأتيناه قبل صلاة الغداة، فخرج فقال :» مَنْ القوم «؟ فقلنا : نحن الفرارون، فقال :» لا، بل أنتم العكّارون أنا فئتكم وأنا فئة المسلمين « قال : فأتيناه حتى قبَّلنا يده. وقرأ رسول الله ﷺ هذه الآية :﴿ أَوْ مُتَحَيِّزاً إلى فِئَةٍ ﴾ » قال أهل العلم : معنى قوله « العكارون » : أي العرافون، وكذلك قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه في أبي عبيدة لما قُتل بأرض فارس لكثرة الجيش من المجوس فقال عمر : لو تحيز إليَّ لكنت له فئة، ويروى عنه أنا فئة كل مسلم. وقال الضحاك في قوله ﴿ أَوْ مُتَحَيِّزاً إلى فِئَةٍ ﴾ : المتحيز الفار إلى النبي وأصحابه، وكذلك من فر اليوم إلى أميره أو أصحابه، فأما إن كان الفرار لا عن سبب من هذه الأسباب فإنه حرام وكبيرة من الكبائر، لما رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال، قال رسول الله ﷺ :« اجتنبوا السبع الموبقات » قيل يا رسول الله وما هن؟ قال :« الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات » ولهذا قال تعالى :﴿ فَقَدْ بَآءَ ﴾ أي رجع ﴿ بِغَضَبٍ مِّنَ الله وَمَأْوَاهُ ﴾ أي مصيره ومنقلبه يوم ميعاده ﴿ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ المصير ﴾.
وقال الإمام أحمد عن بشير بن معبد قال :« أتيت النبي ﷺ لأبايعه فاشترط عليَّ شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً عبده ورسوله، وأن أقيم الصلاة، وأن أؤدي الزكاة، وأن أحج حجة الإسلام، وأن أصوم شهر رمضان، وأن أجاهد في سبيل الله؛ فقلت يا رسول الله أما اثنتان فوالله لا أطيقهما : الجهاد، فإنهم زعموا أنه من ولى الدبر فقد باء بغضب من الله، فأخاف إن حضرت ذلك خشعت نفسي وكرهت الموت. والصدقة، فوالله ما لي إلا غنيمة وعشر ذودهن رسل أهلي وحمولهم، فقبض رسول الله ﷺ يده ثم حرك يده ثم قال :» فلا جهاد ولا صدقة فبم تدخل الجنة إذاً «؟ قلت : يا رسول الله أنا أبايعك، فبايعته عليهن كلهن »
957
وقد ذهب ذاهبون إلى أن الفرار إنما كان حراماً على الصحابة، لأن الجهاد كان فرض عين عليهم، وقيل : على الأنصار خاصة لأنهم بايعوا على السمع والطاعة في المنشط والمكره، وقيل : المراد بهذه الآية أهل بدر خاصة. وحجتهم في هذا أنه لم تكن عصابة لها شوكة يفيئون إليها إلا عصابتهم تلك كما قال النبي ﷺ :« اللهم إن تهلك هذه العصابة لا تعبد في الأرض »، ولهذا قال الحسن في قوله :﴿ وَمَن يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ ﴾ قال : ذلك يوم بدر، فأما اليوم فإن انحاز إلى فئة أو مصر فلا بأس عليه، وقال ابن المبارك عن يزيد بن أبي حبيب : أوجب الله تعالى لمن فر يوم بدر النار، قال :﴿ وَمَن يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفاً لِّقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إلى فِئَةٍ فَقَدْ بَآءَ بِغَضَبٍ مِّنَ الله ﴾، فلما كان يوم أُحد بعد ذلك قال :﴿ إِنَّ الذين تَوَلَّوْاْ مِنكُمْ يَوْمَ التقى الجمعان... ﴾ [ آل عمران : ١٥٥ ]، إلى قوله :﴿ وَلَقَدْ عَفَا الله عَنْهُمْ ﴾ [ آل عمران : ١٥٥ ]، ثم كان يوم حنين بعد ذلك بسبع سنين، قال :﴿ ثُمَّ وليِتُم مدبرين * ثُمَّ يَتُوبُ الله مِن بَعْدِ ذلك على مَن يَشَآءُ ﴾ [ التوبة : ٢٧ ]. وعن أبي سعيد أنه قال في هذه الآية :﴿ وَمَن يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ ﴾ إنما أنزلت في أهل بدر، وهذا كله لا ينفي أن يكون الفرار من الزحف حراماً على غير أهل بدر وإن كان سبب نزول الآية فيهم كما دل عليه حديث أبي هريرة المتقدم من أن الفرار من الزحف من الموبقات كما هو مذهب الجماهير، والله أعلم.
958
يبين تعالى أنه خالق أفعال العباد، وأنه المحمود على جميع ما صدر منهم من خير، لأنه هو الذي وفقهم لذلك وأعانهم عليه، ولهذا قال :﴿ فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ ولكن الله قَتَلَهُمْ ﴾ أي ليس بحولكم وقوتكم قتلتم أعداءكم، مع كثرة عددهم وقلة عددكم، بل هو الذي أظفركم عليهم كما قال :﴿ وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ الله بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ ﴾ [ آل عمران : ١٢٣ ] الآية، وقال تعالى :﴿ لَقَدْ نَصَرَكُمُ الله فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئاً ﴾ [ التوبة : ٢٥ ] يعلم تبارك وتعالى أن النصر ليس بكثرة العَدَد والعُدَد، وإنما النصر من عنده تعالى، كما قال تعالى :﴿ كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ الله والله مَعَ الصابرين ﴾ [ البقرة : ٢٤٩ ]، ثم قال تعالى لنبيه ﷺ أيضاً في شأن القبضة من التراب التي حصب بها وجوه الكافرين يوم بدر ﴿ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ ولكن الله رمى ﴾ أي هو الذي بلغ ذلك إليهم وكبتهم بها لا أنت، قال ابن عباس :« رفع رسول الله ﷺ يديه يعني يوم بدر فقال :» يا رب إن تهلك هذه العصابة فلن تعبد في الأرض أبداً « فقال له جبريل : خذ قبضة من التراب فارم بها في وجوههم، فأخذ قبضة من التراب فرمى بها في وجوههم، فما من المشركين أحد إلا أصاب عينيه ومنخريه وفمه تراب من تلك القبضة فولوا مدبرين » وقال محمد بن قيس ومحمد بن كعب القرظي :« لما دنا القوم بعضهم من بعض أخذ رسول الله ﷺ قبضة من تراب فرمى بها في وجوه القوم وقال :» شاهت الوجوه «، فدخلت في أعينهم كلهم »، وأقبل أصحاب رسول الله ﷺ يقتلونهم ويأسرونهم وكانت هزيمتهم في رمية رسول الله ﷺ، فأنزل الله :﴿ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ ولكن الله رمى ﴾. وقال عروة بن الزبير في قوله :﴿ وَلِيُبْلِيَ المؤمنين مِنْهُ بلاء حَسَناً ﴾ أي ليعرف المؤمنين نعمته عليهم، من إظهارهم على عدوهم مع كثرة عدوهم وقلة عددهم، ليعرفوا بذلك حقه، ويشكروا بذلك نعمته، ﴿ إِنَّ الله سَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴾ أي سميع الدعاء ﴿ عَلِيمٌ ﴾ بمن يستحق النصر والغلب، وقوله :﴿ ذلكم وَأَنَّ الله مُوهِنُ كَيْدِ الكافرين ﴾ هذه بشارة أخرى مع ما حصل من النصر أنه أعلمهم تعالى بأنه مضعف كيد الكافرين، فيما يستقبل مصغر أمرهم، وأنهم كل ما لهم في تبار ودمار.
يقول تعالى للكفار :﴿ إِن تَسْتَفْتِحُواْ ﴾ أي تستنصروا وتستقضوا الله وتستحكموه أن يفصل بينكم وبين أعدائكم المؤمنين فقد جاءكم ما سألتم؛ كما قال أبو جهل، قال حين التقى القوم : اللهم أقطعنا للرحم وآتانا بما لا نعرف فأحنه الغداة؛ فكان المستفتح؛ وقال السدي : كان المشركون حين خرجوا من مكة إلى بدر أخذوا بأستار الكعبة فاستنصروا الله وقالوا : اللهم انصر أعلى الجندين وأكرم الفئتين وخير القبيلتين، فقال الله :﴿ إِن تَسْتَفْتِحُواْ فَقَدْ جَآءَكُمُ الفتح ﴾ يقول : قد نصرت ما قلتم، وهو محمد ﷺ. وقوله :﴿ وَإِن تَنتَهُواْ ﴾ أي عما أنتم فيه من الكفر بالله والتكذيب لرسوله ﴿ وَإِن تَعُودُواْ نَعُدْ ﴾ أي في الدنيا والآخرة، وقوله تعالى :﴿ وَإِنْ عُدتُّمْ عُدْنَا ﴾ [ الإسراء : ٨ ]، كقوله :﴿ وَإِن تَعُودُواْ ﴾، معناه وإن عدتم إلى ما كنتم فيه من الكفر والضلالة نعد لكم بمثل هذه الواقعة، وقال السدي :﴿ وَإِن تَعُودُواْ ﴾ أي إلى الاستفتاح ﴿ نَعُدْ ﴾ أي إلى الفتح لمحمد ﷺ والنصر له وتظفيره على أعدائه، والأول أقوى. ﴿ وَلَن تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئاً وَلَوْ كَثُرَتْ ﴾ أي ولو جمعتم من الجموع ما عسى أن تجمعوا، فإن كان الله معه فلا غالب له، ﴿ وَأَنَّ الله مَعَ المؤمنين ﴾ وهم الحزب النبوي والجناب المصطفوي.
يأمر تعالى عباده المؤمنين بطاعته وطاعة رسوله، ويزجرهم عن مخالفته والتشبه بالكافرين به المعاندين له، ولهذا قال :﴿ وَلاَ تَوَلَّوْا عَنْهُ ﴾ أي تتركوا طاعته وامتثال أومراه وترك زواجره، ﴿ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ ﴾ أي بعدما علمتم ما دعاكم إليه، ﴿ وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ ﴾ قيل. المراد المشركون، واختاره ابن جرير، وقال ابن إسحاق : هم المنافقون فإنهم يظهرون أنهم قد سمعوا واستجابوا وليسوا كذلك، ثم أخبر تعالى أن هذا الضرب من بني آدم شر الخلق والخليقة فقال :﴿ إِنَّ شَرَّ الدواب عِندَ الله الصم ﴾ أي عن سماع الحق، ﴿ البكم ﴾ عن فهمه، ولهذا قال :﴿ الذين لاَ يَعْقِلُونَ ﴾ فهؤلاء شر البرية لأن كل دابة مما سواهم مطيعة لله فيما خلقها له، وهؤلاء خلقوا للعبادة فكفروا، ولهذا شبههم بالأنعام في قوله :﴿ أولئك كالأنعام بَلْ هُمْ أَضَلُّ أولئك هُمُ الغافلون ﴾ [ الأعراف : ١٣٩ ] وقيل : المراد بهؤلاء المذكورين نفر من بني عبد الدار من قريش؛ ثم أخبر تعالى بأنهم لا فهم لهم صحيح ولا قصد لهم صحيح - لو فرض أن لهم فهماً - فقال ﴿ وَلَوْ عَلِمَ الله فِيهِمْ خَيْراً ﴾ أي لأفهمهم وتقدير الكلام ( و ) لكن لا خير فيهم فلم يفهمهم لأنه يعلم أنه ﴿ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ ﴾ أي أفهمهم ﴿ لَتَوَلَّواْ ﴾ عن ذلك قصداً وعناداً بعد فهمهم ذلك ﴿ وَّهُمْ مُّعْرِضُونَ ﴾ عنه.
قال البخاري :﴿ استجيبوا ﴾ أجيبوا ﴿ لِمَا يُحْيِيكُمْ ﴾ لما يصلحكم، عن أبي سعيد بن المعلى رضي الله عنه قال : كنت أصلي فمر بي النبي ﷺ فدعاني، فلم آته حتى صليت، ثم أتيته فقال :« ما منعك أن تأتيني؟ ألم يقل الله :﴿ ياأيها الذين آمَنُواْ استجيبوا للَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ ﴾، ثم قال : لأعلمنك أعظم سورة في القرآن قبل أن أخرج »، فذهب رسول الله ﷺ ليخرج فذكرت له، فقال :﴿ الحمد للَّهِ رَبِّ العالمين ﴾ [ الفاتحة : ٢ ] هي السبع المثاني. وقال مجاهد ﴿ لِمَا يُحْيِيكُمْ ﴾ قال : للحق، وقال قتادة ﴿ لِمَا يُحْيِيكُمْ ﴾ هو هذا القرآن فيه النجاة والبقاء والحياة؛ وقال السدي :﴿ لِمَا يُحْيِيكُمْ ﴾ ففي الإسلام إحياؤهم بعد موتهم بالكفر، وقوله تعالى :﴿ وَاعْلَمُواْ أَنَّ الله يَحُولُ بَيْنَ المرء وَقَلْبِهِ ﴾، قال ابن عباس : يحول بين المؤمن وبين الكفر، وبين الكافر وبين الإيمان؛ وقال السدي : لا يستطيع أن يؤمن ولا يكفر إلا بإذنه، وقد وردت الأحاديث عن رسول الله ﷺ بما يناسب هذه الآية؛ قال الإمام أحمد عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال :« كان النبي ﷺ يكثر أن يقول :» يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك « قال : فقلنا يا رسول الله آمنا بك وبما جئت به فهل تخاف علينا؟ قال :» نعم إن القلوب بين إصبعين من أصابع الله تعالى يقلبها «.
( حديث آخر ) : قال الإمام أحمد عن النواس بن سمعان رضي الله عنه قال : سمعت النبي ﷺ يقول :»
ما من قلب إلا وهو بين أصبعين من أصابع الرحمن رب العالمين إذا شاء أن يقيمه أقامه، وإذا شاء أن يزيغه أزاغه «، وكان يقول :» يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك « قال :» والميزان بيد الرحمن يخفضه ويرفعه « ( حديث آخر ) : قال الإمام أحمد عن أم سلمة أن رسول ﷺ كان يكثر في دعائه يقول :» اللهم مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك « قالت، فقلت : يا رسول الله أو إن القلوب لتقلب؟ قال :» نعم ما خلق الله من بشر من بني آدم إلا أن قلبه بين أصبعين من أصابع الله عزَّ وجلَّ، فإن شاء أقامه، وإن شاء أزاغه، فنسأل الله ربنا أن لا يزيغ قلوبنا بعد إذ هدانا، ونسأله أن يهب لنا من لدنه رحمة إنه هو الوهاب « قالت : فقلت : يا رسول الله ألا تعلمني دعوة أدعو بها لنفسي؟ قال :» بلى، قولي اللهم رب النبي محمد اغفر لي ذنبي، وأذهب غيظ قلبي، وأجرني من مضلات الفتن ما أحييتني «.
يحذر تعالى عباده المؤمنين ﴿ فِتْنَةً ﴾ أي اختباراً ومحنة يعم بها المسيء وغيره، لا يخص بها أهل المعاصي، ولا من باشر الذنب، بل يعمهما حيث لم تدفع وترفع، كما قال الإمام أحمد عن مطرف، قال : قلنا للزبير يا أبا عبد الله ما جاء بكم؟ ضيّعتم الخليقة الذي قتل، ثم جئتم تطلبون بدمه؟ فقال الزبير رضي الله عنه : إنا قرأنا على عهد رسول الله ﷺ وأبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم :﴿ واتقوا فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الذين ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً ﴾، لم نكن نحسب أنا أهلها حتى وقعت منا حيث وقعت. وروى ابن جرير عن الحسن قال، قال الزبير : لقد خوفنا - يعني قوله تعالى :﴿ واتقوا فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الذين ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً ﴾ ونحن مع رسول الله ﷺ، وما ظننا أنا خصصنا بها خاصة؛ وقال الحسن في هذه الآية : نزلت في ( علي، وعمار، وطلحة، والزبير ) رضي الله عنهم، وقال الزبير : لقد قرأت هذه الآية زماناً وما أرانا من أهلها فإذا نحن المعنيون بها ﴿ واتقوا فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الذين ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً ﴾، وقال السدي : نزلت في أهل بدر خاصة فأصابتهم يوم الجمل فاقتتلوا، وقال ابن عباس :﴿ لاَّ تُصِيبَنَّ الذين ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً ﴾ يعني أصحاب النبي ﷺ خاصة، وقال في رواية له عن ابن عباس في تفسير هذه الآية : أمر الله المؤمنين أن يقروا المنكر بين ظهرانيهم فيعمهم الله بالعذاب، وهذا تفسير حسن جداً، ولهذا قال مجاهد : هي أيضاً لكم، والقول بأن هذا التحذير يعم الصحابة وغيرهم وإن كان الخطاب معهم هو الصحيح ويدل عليه الأحاديث الواردة في التحذير من الفتن، عن عدي بن عميرة قال : سمعت رسول الله ﷺ يقول :« إن الله عزَّ وجلَّ لا يعذب العامة بعمل الخاصة حتى يروا المنكر بين ظهرانيهم وهم قادرون على أن ينكروه فلا ينكروه، فإذا فعلوا ذلك عذّب الله الخاصة والعامة ».
( حديث آخر ) : قال الإمام أحمد عن حذيفة بن اليمان أن رسول الله ﷺ قال :« والذي نفسي بيده لتأمرن بالمعروف ولتنهن عن المنكر أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عقاباً من عنده، ثم لتدعنه فلا يستجيب لكم »، وقال حذيفة رضي الله عنه : إن كان الرجل ليتكلم بالكلمة على عهد رسول الله ﷺ فيصير منافقاً، وإني لأسمعها من أحدكم من المقعد الواحد أربع مرات، لتأمرن بالمعروف ولتنهن عن المنكر، ولتحاضُنَّ على الخير، أو ليسحتكم الله جميعاً بعذاب، أو ليؤمرن عليكم شراركم ثم يدعو خياركم فلا يستجاب لهم. ( حديث آخر ) : قال الإمام أحمد أيضاً عن عامر رضي الله عنه قال : سمعت النعمان بن بشير يخطب يقول - وأومأ بأصبعيه إلى أذنيه - يقول : مثل القائم على حدود الله والواقع فيها والمدهن فيها كمثل قوم ركبوا سفينة فأصاب بعضهم أسفلها وأوعرها وشرها، وأصاب بعضهم أعلاها، فكان الذين في أسفلها إذا استقوا الماء مروا على من فوقهم فآذوهم، فقالوا : لو خرقنا في نصيبنا خرقاً فاستقينا منه ولم نؤذ من فوقنا! فإن تركوهم وأمرهم هلكوا جميعاً، وإن أخذوا على أيديهم نجوا جميعاً.
963
( حديث آخر ) : عن أم سلمة زوج النبي ﷺ قالت : سمعت رسول الله ﷺ يقول :« إذا ظهرت المعاصي في أمتي عمهم الله بعذاب من عنده » فقلت؟ يا رسول الله أما فيهم أنا صالحون؟ قال :« بلى » قالت : فكيف يصنع أولئك؟ قال :« يصيبهم ما أصاب الناس ثم يصيرون إلى مغفرة من الله ورضوان » وفي رواية :« ما من قوم يعملون بالمعاصي وفيهم رجل أعز منهم وأمنع لا يغيّره، إلا عمهم الله بعقاب أو أصابهم العقاب » وفي أخرى عن عائشة ترفعه :« إذا ظهر السوء في الأرض أنزل الله بأهل الأرض بأسه » فقلت : وفيهم أهل طاعة الله؟ قال :« نعم ثم يصيرون إلى رحمة الله ».
964
ينبه تعالى عباده المؤمنين على نعمه عليهم وإحسانه إليهم، حيث كانوا قليلين فكثرهم، ومستضعفين خائفين فقواهم ونصرهم، وفقراء عالة فرزقهم من الطيبات، وهذا كان حال المؤمنين حال مقامهم بمكة، قليلين مستخفين مضطهدين، يخافون أن يتخطفهم الناس من سائر بلاد الله، لقلتهم وعدم قوتهم، فلم يزل ذلك دأبهم حتى أذن الله لهم في الهجرة إلى المدينة فآواهم إليها، وقيض لهم أهلها آووا ونصروا وواسوا بأموالهم، وبذلوا مهجهم في طاعة الله وطاعة رسوله ﷺ، قال قتادة : كان هذا الحي من العرب أذل الناس ذلاً، وأشقاه عيشاً، وأجوعه بطوناً، وأعراه جلوداً، وأبينه ضلالاً، من عاش منهم عاش شقياً، ومن مات منهم ردي في النار، يؤكلون ولا يأكلون، والله ما نعلم قبيلاً من حاضر أهل الأرض يومئذ كانوا أشر منزلاً منهم، حتى جاء الله بالإسلام فمكن به في البلاد، ووسع به في الرزق، وجعلهم به ملوكاً على رقاب الناس، وبالإسلام أعطى الله ما رأيتم، فاشكروا الله على نعمه، فإن ربكم منعم يحب الشكر، وأهل الشكر في مزيد من الله.
« أنزلت في أبي لبابة بن عبد المنذر، حين بعثه رسول الله ﷺ إلى بني قريظة لينزلوا على حكم رسول الله ﷺ، فاستشاروه في ذلك، فأشار عليهم بذلك، وأشار بيده إلى حلقه أي إنه الذبح، ثم فطن أبو لبابة، ورأى أنه قد خان الله ورسوله، فحلف لا يذوق ذواقاً حتى يموت أو يتوب الله عليه، وانطلق إلى مسجد المدينة، فربط نفسه في سارية منه، فمكث كذلك تسعة أيام، حتى كان يخر مغشياً عليه من الجهد، حتى أنزل الله توبته على رسوله، فجاء الناس يبشرونه بتوبة الله عليه، وأرادوا أن يحلوه من السارية، فحلف لا يحله منها إلا رسول الله ﷺ بيده فحله، فقال : يا رسول الله إني كنت نذرت أن أنخلع من مالي صدقة، فقال :» يجزيك الثلث أن تصدق به « وقال ابن جرير :» نزلت هذه الآية في قتل عثمان رضي الله عنه ﴿ ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ تَخُونُواْ الله والرسول ﴾ الآية. وفي « الصحيحين » « قصة ( حاطب بن أبي بلتعة ) أنه كتب إلى قريش يعلمهم بقصد رسول الله ﷺ إياهم عام الفتح، فأطلع الله رسوله على ذلك، فبعث في إثر الكتاب فاسترجعه، واستحضر حاطباً فأقر بما صنع، وفيها فقام عمر بن الخطاب فقال : يا رسول الله، ألا أضرب عنقه فإنه قد خان الله ورسوله والمؤمنين؟ فقال :» دعه فإنه قد شهد بدراً وما يدريك لعل الله اطلع على أهل بدر فقال :« اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم »، والصحيح أن الآية عامة، وإن صح أنها وردت على سبيل خاص، فالأخذ بعموم اللفظ لا بخصوص السبب عند الجماهير من العلماء والخيانة تعم الذنوب الصغار والكبار اللازمة والمتعدية، وقال ابن عباس :﴿ وتخونوا أَمَانَاتِكُمْ ﴾ : الأمانة الأعمال التي ائتمن الله عليها العبد يعني الفريضة، يقول : لا تخونوا لا تنقضوها، وقال في رواية : لا تخونوا الله والرسول يقول : بترك سنته وارتكاب معصيته.
وقال السدي : إذا خانوا الله ورسوله فقد خانوا أماناتهم. وقال أيضاً : كانوا يسمعون من النبي ﷺ الحديث فيفشونه حتى يبلغ المشركين، وقال ابن زيد : نهاكم أن تخونوا الله والرسول كما صنع المنافقون، وقوله :﴿ واعلموا أَنَّمَآ أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ ﴾ أي اختبار وامتحان منه لكم إذ أعطاكموها ليعلم أتشكرونه عليها وتطيعونه فيها أو تشتغلون بها عنه وتعتاضون بها منه كما قال تعالى :﴿ أَنَّمَآ أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ الله عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ ﴾، وقال :﴿ وَنَبْلُوكُم بالشر والخير فِتْنَةً ﴾ [ الأنبياء : ٣٥ ]، وقال تعالى :﴿ ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلاَ أَوْلاَدُكُمْ عَن ذِكْرِ الله ﴾
966
[ المنافقون : ٩ ]، وقوله :﴿ وَأَنَّ الله عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ ﴾ أي ثوابه وعطاؤه وجناته خير لكم من الأموال والأولاد، فإنه قد يوجد منهم عدو، وأكثرهم لا يغني عنك شيئاً، والله سبحانه هو المتصرف المالك للدنيا والآخرة، ولديه الثواب الجزيل يوم القيامة، وفي الأثر يقول الله تعالى : يا ابن آدم اطلبني تجدني، فإن وجدتني وجدت كل شيء، وإ فتُّكَ فاتك كل شيء، وأنا أحب إليك من كل شيء، وفي « الصحيح » عن رسول الله ﷺ أنه قال :« ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان : من كان الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، ومن كان يحب المرء لا يحبه إلا الله، ومن كان أن يلقى في النار أحب إليه من أن يرجع إلى الكفر بعد إذ أنقذه الله منه »، بل حب رسول الله ﷺ مقدم على الأولاد والأموال والنفوس كما ثبت في الصحيح أنه ﷺ قال :« والذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من نفسه وأهله وماله والناس أجمعين ».
967
قال ابن عباس وغير واحد ﴿ فُرْقَاناً ﴾ مخرجاً، زاد مجاهد : في الدنيا والآخرة، وفي رواية عن ابن عباس :﴿ فُرْقَاناً ﴾ عنه : نصراء. وقال محمد بن إسحاق :﴿ فُرْقَاناً ﴾ أي فصلاً بين الحق والباطل؛ وهذا التفسير أعم مما تقدم، وهو يستلزم ذلك كله، فإن من اتقى الله بفعل أوامره وترك زواجره، وفّق لمعرفة الحق من الباطل، فكان ذلك سبب نصره ونجاته ومخرجه من أمور الدنيا وسعادته يوم القيامة وتكفير ذنوبه وهو محوها، وغفرها : سترها عن الناس، وسبباً لنيل ثواب الله الجزيل كقوله تعالى :﴿ ياأيها الذين آمَنُواْ اتقوا الله وَآمِنُواْ بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ وَيَجْعَل لَّكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ والله غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴾ [ الحديد : ٢٨ ]
قال ابن عباس ومجاده وقتادة :﴿ لِيُثْبِتُوكَ ﴾ ليقيدوك؛ وقال عطاء وابن زيد : ليحبسوك، وقال السدي : الإثبات هو الحبس والوثاق، وهذا يشمل ما قاله هؤلاء وهؤلاء، وهو مجمع الأقوال، وهو الغالب من صنيع من أراد غيره بسوء، وقال عطاء : سمعت ( عبيد بن عمير ) يقول :« لما ائتمروا بالنبي ﷺ ليثبتوه أو يقتلوه أو يخرجوه، قال له عمه أبو طالب : هل تدري ما ائتمروا بك؟ قال : الرب ربك استوص به خيراً، قال :» أنا استوصي به؟ بل هو يستوصي بي «، قال فنزلت :﴿ وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الذين كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ ﴾ الآية. والدليل على صحة ما قلنا، ما روى محمد بن إسحاق صاحب المغازي عن مجاهد عن ابن عباس : أن نفراً من قريش من أشراف كل قبيلة اجتمعوا ليدخلوا دار الندوة، فاعترضهم إبليس في صورة شيخ جليل، فلما رأوه قالوا له من أنت؟ قال شيخ من أهل نجد سمعت أنكم اجتمعتم فأردت أن أحضركم، ولن يعدمكم رأيي ونصحيي قالوا : أجل أدخل فدخل معهم، فقال : انطروا في شأن هذا الرجل، والله ليوشكن أن يواثبكم في أمركم بأمره، فقال قائل منهم : احبسوه في وثاق ثم تربصوا به ريب المنون حتى يهلك كما هلك من كان قبله من الشعراء زهير والنابغة، قال : فصرخ عدو الله فقال : والله ما هذا برأي، والله ليخرجنه ربه من محبسه إلى أصحابه، فليوشكن أن يثبوا عليه حتى يأخذوه من أيديكم فيمنعوه منكم، فما آمن عليكم أن يخرجوكم من بلادكم، قالوا صدق الشيخ فانظروا في غير هذا؛ قال قائل منهم : أخرجوا من بين أظهركم فتستريحوا منه، فإنه إذا خرج لن يضركم ما نصع إذا غاب عنكم أذاه، فقال الشيخ النجدي : والله ما هذا لكم برأي ألم تروا حلاوة قوله، وطلاقة لسانه، وأخذ القلوب ما تسمع من حديثه؟ والله لئن فعلتم ثم استعرض العرب ليجتمعن عليه، ثم ليأتين إليكم حتى يخرجكم من بلادكم ويقتل أشرافكم، قالوا صدق والله، فانظروا رأياً غير هذا؛ قال : فقال أبو جهل لعنه الله : والله لأشيرن عليكم برأي ما أراكم أبصرتموه بعد، لا أرى غيره، قالوا : وما هو؟ قال : تأخذون من كل قبيلة غلاماً شاباً وسيطاً نهداً، ثم يعطى كل غلام منهم سيفاً صارماً، ثم يضربونه ضربة رجل واحد، فإذا قتلوه تفرق دمه في القبائل كلها، فام أظن هذا الحي من بني هاشم يقوون على حرب قريش كلها، فإنهم إذا رأوا ذلك قبلوا العقل ( الدية ) واسترحنا وقطعنا عنا أذاه، قال : فقال الشيخ النجدي، هذا والله الرأي، القول ما قال الفتى، ولا أرى غيره؛ قال : فتفرقوا على ذلك وهم مجمعون له، فأتى جبريل النبي ﷺ فأمره أن لا يبيت في مضجعه الذي كان يبيت فيه، وأخبره بمكر القوم، فلم يبت رسول الله ﷺ في بيته تلك الليلة، وأذن الله له عند ذلك بالخروج، وأنزل الله عليه بعد قدومه المدينة الأنفال يذكر نعمه عليه وبلاءه عنده :﴿ وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الذين كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ الله والله خَيْرُ الماكرين ﴾، وأنزل في قولهم تربصوا به ريب المنون :
969
﴿ أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَّتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ المنون ﴾ [ الطور : ٣٠ ].
قال ابن إسحاق : أتاه جبريل عليه السلام فأمره أن لا يبيت في مكانه الذي كان يبيت فيه، فدعا رسول الله ﷺ ( علي بن أبي طالب ) فأمره أن يبيت على فراشه ويتسجى ببرد له أخضر، ففعل ثم خرج رسول الله ﷺ على القوم، وهم على بابه، وخرج معه بحفنة من تراب فجعل يذروها على رؤوسهم، وأخذ الله بأبصارهم عن نبيه ﷺ وهو يقرأ :﴿ يس * والقرآن الحكيم ﴾ [ يس : ١-٢ ] إلى قوله :﴿ فَأغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ ﴾ [ يس : ٩ ]. وقد روى ابن حبان في « صحيحه » والحاكم في « مستدركه » عن ابن عباس قال :« دخلت فاطمة على رسول الله ﷺ وهي تبكي، فقال :» ما يبكيك يا بنية «؟ قالت : يا أبت ومالي لا أبكي وهؤلاء الملأ من قريش في الحِجْر يتعاهدون باللات والعزى ومناة الثالثة لو قد رأوك لقاموا إليك فيقتلونك، وليس منهم إلا من قد عرف نصيبه من دمك، فقال : يا بنية ائتني بوضوء »، فتوضأ رسول الله ﷺ، ثم خرج إلى المسجد، فلما رأوه قالوا : ها هو ذا، فطأطأ رؤوسهم، وسقطت رقابهم بين أيديهم فلم يرفعوا أبصارهم، فتناول رسول الله ﷺ قبضة من تراب فحصبهم بها، وقال :« شاهت الوجوه » فما أصاب رجلاً منهم حصاة من حصياته إلا قتل يوم بدر كافراً « وعن ابن عباس في قوله :﴿ وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ ﴾ الآية. قال :» تشاورت قريش ليلة بمكة فقال بعضهم : إذا أصبح فأثبتوه بالوثاق يريدون النبي ﷺ، وقال بعضهم : بل اقتلوه، وقال بعضهم : بل اخرجوه، فأطلع الله نبيه ﷺ على ذلك فبات علي رضي الله عنه على فراش رسول الله ﷺ، وخرج النبي ﷺ حتى لحق بالغار، وبات المشركون يحرسون علياً يحسبونه النبي ﷺ، فلما أصبحوا ثاروا إليه، فلما رأوا علياً رد الله تعالى مكرهم، فقالوا : أين صاحبك هذا؟ قال : لا أدري، فاقتصوا أثره، فلما بلغوا الجبل اختلط عليهم، فصعدوا في الجبل، فمروا بالغار، فرأوا على بابه نسج العنكبوت، فقالوا : لو دخل هاهنا لم يكن نسج العنكبوت على بابه، فمكث فيه ثلاث ليال « وقال عروة بن الزبير في قوله :﴿ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ الله ﴾ أي فمكرت بهم بكيدي المتين حتى خلصتك منهم.
970
يخبر تعالى عن كفر قريش وعتوهم وتمردهم وعنادهم، ودعواهم الباطل عند سماع آياته، إذا تتلى عليهم أنهم يقولون :﴿ قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَآءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هذا ﴾ وهذا منهم قول بلا فعل، وإلا فقد تحدوا غير ما مرة أن يأتوا بسورة من مثله فلا يجدون إلى ذلك سبيلاً، وقد قيل : إن القائل لذلك هو ( النضير بن الحارث )، فإنه لعنه الله كان قد ذهب إلى بلاد فارس، وتعلم من أخبار ملوكهم رستم وأسفنديار، ولما قدم وجد رسول الله ﷺ قد بعثه الله، وهو يتلو على الناس القرآن، فكان ﷺ إذا قام من مجلس، جلس فيه النضر فحدثهم من أخبار أولئك، ثم يقول : بالله أينا أحسن قصصاً أنا أو محمداً؟ ولهذا لما أمكن الله تعالى منه يوم بدر ووقع في الأسارى أمر رسول الله ﷺ أن تضرب رقبته صبراً بين يديه، ففعل ذلك ولله الحمد، وكان الذي أسره ( المقداد بن الأسود ) رضي الله عنه كما قال ابن جرير. ومعنى ﴿ أَسَاطِيرُ الأولين ﴾ جمع أسطورة : أي كتبهم، اقتبسها فهو يتعلم منها ويتلوها على الناس، وهذا هو الكذب البحث، كما أخبر الله عنهم في الآية الأخرى :﴿ وقالوا أَسَاطِيرُ الأولين اكتتبها فَهِيَ تملى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً ﴾ [ الفرقان : ٥ ] إلى ﴿ إِنَّهُ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً ﴾ [ الفرقان : ٦ ] أي لمن تاب إليه وأناب فإنه يتقبل منه ويصفح عنه.
وقوله تعالى :﴿ وَإِذْ قَالُواْ اللهم إِن كَانَ هذا هُوَ الحق مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السمآء أَوِ ائتنا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ﴾ هذا من كثرة جهلهم وشدة تكذيبهم وعنادهم وعتوهم، وهذا مما عيبوا به، وكان الأولى لهم أن يقولوا : اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فاهدنا له ووفقنا لاتباعه، ولكن استفتحوا على أنفسهم واستعجلوا العذاب وتقديم العقوبة، كقوله تعالى :﴿ وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بالعذاب وَلَوْلاَ أَجَلٌ مُّسَمًّى لَّجَآءَهُمُ العذاب ﴾ [ العنكبوت : ٥٣ ]، ﴿ وَقَالُواْ رَبَّنَا عَجِّل لَّنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الحساب ﴾ [ ص : ١٦ ]، وقوله :﴿ سَأَلَ سَآئِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ ﴾ [ المعارج : ١ ]، وكذلك قال الجهلة من الأمم السالفة كما قال قوم شعيب له :﴿ فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفاً مِّنَ السمآء إِن كُنتَ مِنَ الصادقين ﴾ [ الشعراء : ١٨٧ ]. عن أنس بن مالك قال أبو جهل ابن هشام :﴿ اللهم إِن كَانَ هذا هُوَ الحق مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السمآء أَوِ ائتنا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ﴾، فنزلت :﴿ وَمَا كَانَ الله لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ الله مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ ﴾ وقال الأعمش عن ابن عباس في قوله ﴿ وَإِذْ قَالُواْ اللهم ﴾ الآية، قال : هو النضر بن الحارث بن كلدة قال : فأنزل الله :﴿ سَأَلَ سَآئِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ * لِّلْكَافِرِينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ ﴾ [ المعارج : ١-٢ ].
وقوله تعالى :﴿ وَمَا كَانَ الله لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ الله مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ ﴾، قال ابن عباس : كان المشركون يطوفون بالبيت ويقولون : لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك، إلا شريك هو لك، تملكه وما ملك، ويقولون : غفرانك غفرانك، فأنزل الله ﴿ وَمَا كَانَ الله لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ ﴾ الآية.
971
قال ابن عباس : كان فيهم أمانان النبي ﷺ والاستغفار، فذهب النبي ﷺ وبقي الاستغفار. وعن ابن عباس :﴿ وَمَا كَانَ الله لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ ﴾ يقول ما كان الله ليعذب قوماً وأنبياؤهم بين أظهرهم حتى يخرجهم، ثم قال :﴿ وَمَا كَانَ الله مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ ﴾ يقول : وفيهم ممن قد سبق له من الله الدخول في الإيمان، وهو الاستغفار، يستغفرون يعني يصلون، يعني بهذا أهل مكة، وقال الضحاك :﴿ وَمَا كَانَ الله مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ ﴾ يعني المؤمنين الذين كانوا بمكة، وقال رسول الله ﷺ :« أنزل الله عليّ أمانين لأمتي :﴿ وَمَا كَانَ الله لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ الله مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ ﴾، فإذا مضيت تركت فيهم الاستغفار إلى يوم القيامة » ويشهد لهذا ما رواه الإمام أحمد عن أبي سعيد أن رسول الله ﷺ قال :« إن الشيطان قال : وعزتك يا رب لا أبرح أغوي عبادك ما دامت أرواحهم في أجسادهم، فقال الرب وعزتي وجلالي، لا أزال أغفر لهم ما استغفروني ».
972
يخبر تعالى أنهم أهل لأن يعذبهم، ولكن لم يوقع ذلك بهم لبركة مقام الرسول ﷺ بين أظهرهم، ولهذا لما خرج من بين أظهرهم أوقع الله بهم بأسه يوم بدر فقتل صناديدهم، وأسر سراتهم، وأرشدهم تعالى إلى الاستغفار من الذنوب التي هم متلبسون بها من الشرك والفساد، قال قتادة والسدي : لم يكن القوم يستغفرون ولو كانوا يستغفرون ما عذبوا. قال ابن جرير عن عكرمة والحسن البصري قالا، قال في الأنفال :﴿ وَمَا كَانَ الله لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ الله مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ ﴾ [ الأنفال : ٣٣ ] فنسختها الآية التي تليها ﴿ وَمَا لَهُمْ أَلاَّ يُعَذِّبَهُمُ الله ﴾ إلى قوله :﴿ فَذُوقُواْ العذاب بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ ﴾ فقاتلوا بمكة فأصابهم فيها الجوع والضر، وقال ابن أبي حاتم عن ابن عباس :﴿ وَمَا كَانَ الله مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ ﴾ [ الأنفال : ٣٣ ]، ثم استثنى أهل الشرك فقال :﴿ وَمَا لَهُمْ أَلاَّ يُعَذِّبَهُمُ الله وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ المسجد الحرام ﴾، وقوله :﴿ وَمَا لَهُمْ أَلاَّ يُعَذِّبَهُمُ الله وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ المسجد الحرام وَمَا كانوا أَوْلِيَآءَهُ إِنْ أَوْلِيَآؤُهُ إِلاَّ المتقون ولكن أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ ﴾ أي وكيف لا يعذبهم وهم يصدون عن المسجد الحرام أي الذي بمكة، يصدون المؤمنين الذين هم أهله عن الصلاة فيه والطواف به، ولهذا قال :﴿ وَمَا كانوا أَوْلِيَآءَهُ إِنْ أَوْلِيَآؤُهُ إِلاَّ المتقون ﴾ أي هم ليسوا أهل المسجد الحرام وإنما أهله النبي ﷺ وأصحابه، كما قال تعالى :﴿ مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَن يَعْمُرُواْ مَسَاجِدَ الله شَاهِدِينَ على أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النار هُمْ خَالِدُونَ * إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ الله مَنْ آمَنَ بالله واليوم الآخر وَأَقَامَ الصلاة وآتى الزكاة وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ الله فعسى أولئك أَن يَكُونُواْ مِنَ المهتدين ﴾ [ التوبة : ١٧-١٨ ]، وقال تعالى :﴿ وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ الله وَكُفْرٌ بِهِ والمسجد الحرام وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِندَ الله ﴾ [ البقرة : ٢١٧ ] الآية. وقال الحافظ ابن مردويه في تفسير هذه الآية عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال :« سئل رسول الله ﷺ من أولياؤك؟ قال :» كل تقي «، وتلا رسول الله ﷺ ﴿ إِنْ أَوْلِيَآؤُهُ إِلاَّ المتقون ﴾. وقال الحاكم في مستدركه. جمع رسول الله ﷺ قريشاً فقال :» هل فيكم من غيركم « فقالوا : فينا ابن أختنا وفينا حليفنا وفينا مولانا، فقال :» حليفنا منا وابن أختنا منا ومولانا إن أوليائي منكم المتقون «.
وقال عروة والسدي في قوله تعالى :﴿ أَوْلِيَآؤُهُ إِلاَّ المتقون ﴾ قال : هم محمد ﷺ وأصحابه رضي الله عنهم، وقال مجاهد : هم المجاهدون من كانوا حيث كانوا، ثم ذكر تعالى ما كانوا يعتمدونه عند المسجد الحرام وما كانوا يعاملونه به، فقال :﴿ وَمَا كَانَ صَلاَتُهُمْ عِندَ البيت إِلاَّ مُكَآءً وَتَصْدِيَةً ﴾ المكاء هو الصفير، وزاد مجاهد : وكانوا يدخلون أصابعهم في أفواههم.
973
وقال السدي : المكاء الصفير على نحو طير أبيض يقال له المكاء ويكون بأرض الحجاز. عن ابن عباس قال : كانت قريش تطوف بالبيت عراة تصفر وتصفق، والمكاء الصفير، والتصدية التصفيق. وقال ابن جرير عن ابن عمر في قوله :﴿ وَمَا كَانَ صَلاَتُهُمْ عِندَ البيت إِلاَّ مُكَآءً وَتَصْدِيَةً ﴾ قال : المكاء الصفير، والتصدية التصفيق، وعن ابن عمر أيضاً أنه قال : إنهم كانوا يضعون خدودهم على الأرض ويصفقون ويصفرون، ويصنعون ذلك ليخلطوا بذلك على النبي ﷺ صلاته، وقال الزهري : يستهزئون بالمؤمنين. وعن سعيد بن جبير ﴿ وَتَصْدِيَةً ﴾ قال : صدهم الناس عن سبيل الله عزَّ وجلَّ، قوله :﴿ فَذُوقُواْ العذاب بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ ﴾ قال الضحّاك وابن جريج ومحمد بن إسحاق هو ما أصابهم يوم بدر من القتل والسبي، واختاره ابن جرير عن مجاهد قال : عذاب أهل الإقرار بالسيف، وعذاب أهل التكذيب بالصيحة والزلزلة.
974
قال محمد بن إسحاق : لما أصيب قريش يوم بدر ورجع فلهم إلى مكة، ورجع أبو سفيان بعيره، مشى ( عبد الله بن أبي ربيعة ) و ( عكرمة بن أبي جهل ) و ( صفوان بن أمية ) في رجال من قريش أصيب آباؤهم وأبناؤهم وإخوانهم ببدر، فكلموا أبا سفيان بن حرب ومن كانت له في تلك العير من قريش تجارة، فقالوا : يا معشر قريش إن محمداً قد وتركم وقتل خياركم، فأعينونا بهذا المال على حربه لعلنا أن ندرك منه ثأراً بمن أصيب منا، ففعلوا، قال : ففيهم أنزل الله عزَّ وجلَّ :﴿ إِنَّ الذين كَفَرُواْ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ ﴾ إلى قوله ﴿ هُمُ الخاسرون ﴾. وقال الضحاك : نزلت في أهل بدر، وعلى كل تقدير فهي عامة، وإن كان سبب نزولها خاصاً، فقد أخبر تعالى أن الكفار ينفقون أموالهم يصدوا عن اتباع الحق، فسيفعلون ذلك، ثم تذهب أموالهم، ثم تكون عليهم حسرة أي ندامة، حيث لم تجد شيئاً لأنهم أرادوا إطفاء نور الله وظهور كلمتهم على كلمة الحق، والله متم نوره ولو كره الكافرون، فهذا الخزي لهم في الدنيا، ولهم في الآخرة عذاب النار، فمن عاش منهم رأى بعينه وسمع بأذنه ما يسوؤه، ومن قتل منهم أو مات فإلى الخزي الأبدي والعذاب السرمدي، ولهذا قال :﴿ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ والذين كفروا إلى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ ﴾، وقوله تعالى :﴿ لِيَمِيزَ الله الخبيث مِنَ الطيب ﴾ قال ابن عباس : يميز أهل السعادة من أهل الشقاء، وقال السدي يميز المؤمن من الكافر؛ وهذا يحتمل أن يكون هذا التميز في الآخرة، كقوله :﴿ ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُواْ مَكَانَكُمْ أَنتُمْ وَشُرَكَآؤُكُمْ فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ ﴾ [ يونس : ٢٨ ] الآية، وقوله :﴿ وَيَوْمَ تَقُومُ الساعة يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ ﴾ [ الروم : ١٤ ]، وقال في الآية الأخرى :﴿ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ ﴾ [ الروم : ٤٣ ]، وقال تعالى :﴿ وامتازوا اليوم أَيُّهَا المجرمون ﴾ [ يس : ٥٩ ]، ويحتمل أن يكون هذا التمييز في الدنيا بما يظهر من أعمالهم للمؤمنين، أي : إنما أقدرناهم على ذلك ﴿ لِيَمِيزَ الله الخبيث مِنَ الطيب ﴾ أي من يطيعه بقتال أعدائه الكافرين، أو يعصيه بالنكول عن ذلك، كقوله :﴿ وَمَآ أَصَابَكُمْ يَوْمَ التقى الجمعان فَبِإِذْنِ الله وَلِيَعْلَمَ المؤمنين * وَلِيَعْلَمَ الذين نَافَقُواْ ﴾ [ آل عمران : ١٦٦-١٦٧ ] الآية، وقال تعالى :﴿ مَّا كَانَ الله لِيَذَرَ المؤمنين على مَآ أَنْتُمْ عَلَيْهِ حتى يَمِيزَ الخبيث مِنَ الطيب ﴾ [ آل عمران : ١٧٩ ] الآية، فمعنى الآية على هذا إنما ابتليناكم بالكفار يقاتلونكم وأقدرناهم على إنفاق الأموال وبذلها في ذلك ﴿ لِيَمِيزَ الله الخبيث مِنَ الطيب وَيَجْعَلَ الخبيث بَعْضَهُ على بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ ﴾ أي يجمعه كله، وهو جمع الشيء بعضه على بعض كما قال تعالى في السحاب ﴿ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَاماً ﴾ [ النور : ٤٣ ] أي متراكماً متراكباً، ﴿ فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أولئك هُمُ الخاسرون ﴾ أي هؤلاء هم الخاسرون في الدنيا والآخرة.
يقول تعالى لنبيه محمد ﷺ :﴿ قُل لِلَّذِينَ كفروا إِن يَنتَهُواْ ﴾ أي عما هم فيه من الكفر والمشاقة والعناد ويدخلوا في الإسلام والطاعة والإنابة يغفر لهم ما قد سلف : أي من كفرهم وذنوبهم وخطاياهم، كما جاء في « الصحيح » :« من أحسن في الإسلام لم يؤاخذ بما عمل في الجاهلية، ومن أساء في الإسلام أخذ بالاول والآخر » وفي الصحيح أيضاً، أن رسول الله ﷺ قال :« الإسلام يجبُّ ما قبله والتوبة تجبُّ ما كان قبلها » وقوله :﴿ وَإِنْ يَعُودُواْ ﴾ أي يستمروا على ما هم فيه، ﴿ فَقَدْ مَضَتْ سُنَّةُ الأَوَّلِينَ ﴾ : أي فقد مضت سنتنا في الأولين أنهم إذا كذبوا واستمروا على عنادهم أنا نعاجلهم بالعذاب والعقوبة، قال مجاهد في قوله :﴿ فَقَدْ مَضَتْ سُنَّةُ الأَوَّلِينَ ﴾ أي في قريش يوم بدر وغيرها من الأمم، وقوله تعالى :﴿ وَقَاتِلُوهُمْ حتى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لله ﴾، قال البخاري عن ابن عمر : أن رجلاص جاء فقال : يا أبا عبد الرحمن ألا تسمع ما ذكر الله في كتابه :﴿ وَإِن طَآئِفَتَانِ مِنَ المؤمنين اقتتلوا ﴾ [ المؤمنين : ٩ ] الآية، فما يمنعك أن لا تقاتل كما ذكر الله في كتابه؟ فقال : يا ابن أخي أعيَّر بهذه الآية ولا أقاتل أحب إليّ من أن أعيّر بالآية التي يقول الله، قال عزَّ وجلَّ :﴿ وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمِّداً ﴾ [ النساء : ٩٣ ] إلى آخر الآية. قال فإن الله تعالى يقول :﴿ وَقَاتِلُوهُمْ حتى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ ﴾، قال ابن عمر : قد فعلنا على عهد رسول الله ﷺ إذ كان الإسلام قليلاً، وكان الرجل يفتن في دينه، إما أن يقتلوه وإما أن يوثقوه، حتى كثر الإسلام فلم تكن فتنة، فلما رأى أنه لا يوافقه فيما يريد، قال : فما قولكم في علي وعثمان؟ قال ابن عمر : أما عثمان فكان الله قد عفا عنه وكرهتم أن يعفو الله عنه، وأما علي فابن عم رسول الله ﷺ وختنه وأشار بيده، وهذه ابنته أو بنته حيث ترون. وأتى رجلان في فتنة ابن الزبير إلى ابن عمر فقالا : إن الناس قد صنعوا ما ترى وأنت ابن عمر بن الخطاب وأنت صاحب رسول الله ﷺ فما يمنعك أن تخرج؟ قال : يمنعني الله أن حرم عليَّ دم المسلم، قالوا : أولم يقل الله :﴿ وَقَاتِلُوهُمْ حتى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لله ﴾ قال : قد قاتلنا حتى لم تكن فتنة وكان الدين كله لله، وأنتم تريدون أن تقاتلوا حتى تكون فتنة، ويكون الدين لغير الله.
وقال الضحاك عن ابن عباس :﴿ وَقَاتِلُوهُمْ حتى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ ﴾ يعني لا يكون شرك.
976
وقال عروة بن الزبير :﴿ حتى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ ﴾ حتى لا يفتن مسلم عن دينه، وقوله :﴿ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لله ﴾، وقال الضحاك عن ابن عباس : يخلص التوحيد لله؛ وقال الحسن وقتادة : أن يقال لا إله إلا الله، أن يكون التوحيد خالصاً لله فليس فيه شرك ويخلع ما دونه من الأنداد، وقال عبد الرحمن بن أسلم :﴿ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لله ﴾ لا يكون مع دينكم كفر، ويشهد لهذا ما ثبت في « الصحيحين » عن رسول الله ﷺ أنه قال :« أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله عزَّ وجلَّ » وقوله :﴿ فَإِنِ انْتَهَوْاْ ﴾ عما هم فيه من الكفر فكفوا عنه، وإن لم تعلموا بواطنهم ﴿ فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ﴾، كقوله :﴿ فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصلاة وَآتَوُاْ الزكاة فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ ﴾ [ التوبة : ٥ ] الآية. وفي الآية الأخرى :﴿ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدين ﴾ [ التوبة : ١١ ]، وقال :﴿ فَإِنِ انتهوا فَلاَ عُدْوَانَ إِلاَّ عَلَى الظالمين ﴾ [ البقرة : ١٩٣ ]. وفي الصحيح « أن رسول الله ﷺ قال لأسامة لما علا ذلك الرجل بالسيف، فقال لا إله إلا الله فضربه فقتله، فذكر ذلك لرسول الله صلى عليه وسلم، فقال لأسامة :» أقتلته بعدما قال لا إلا إلا الله؟ وكيف تصنع بلا إلا الله يوم القيامة «؟ فقال : يا رسول الله إنما قالها تعوذاً، قال :» هلا شققت عن قلبه «، وجعل يقول ويكرر عليه :» من لك بلا إله إلا الله يوم القيامة «؟ قال أسامة : حتى تمنيت أني لم أكن أسلمت إلا يومئذ »، وقوله :﴿ وَإِن تَوَلَّوْاْ فاعلموا أَنَّ الله مَوْلاَكُمْ نِعْمَ المولى وَنِعْمَ النصير ﴾ أي وإن استمروا على خلافكم ومحاربتكم ﴿ فاعلموا أَنَّ الله مَوْلاَكُمْ ﴾ سيدكم وناصركم على أعدائكم فنعم المولى ونعم النصير.
977
يبين تعالى تفصيل ما شرعه مخصصاً لهذه الآمة الشريفة من بين سائر الأمم المتقدمة إحلال الغنائم، والغنيمة هي المال المأخوذ من الكفار بإيجاف الخيل والركاب، والفيء ما أخذ منهم بغير ذلك، كالأموال التي يصالحون عليها أو يتوفون عنها ولا وارث لهم، والجزية والخراج ونحو ذلك؛ هذا مذهب الإمام الشافعي، ومن العلماء من يطلق الفيء على ما تطلق عليه الغنيمة والعكس أيضاً، ﴿ واعلموا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ للَّهِ خُمُسَهُ ﴾ توكيد لتخميس كل قليل وكثير حتى الخيط والمخيط، قال الله تعالى :﴿ وَمَن يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ القيامة ﴾ [ آل عمران : ١٦١ ] الآية، وقوله :﴿ فَأَنَّ للَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ ﴾ اختلف المفسرون هاهنا، فقال بعضهم لله نصيب من الخمس يجعل في الكعبة. وقال آخرون : ذكر الله هاهنا استفتاح كلام للتبرك، وسهم لرسوله ﷺ. قال ابن عباس : كان رسول الله ﷺ إذا بعث سرية فغنموا خمَّس الغنيمة، فضرب ذلك الخمس في خمسة، ثم قرأ :﴿ واعلموا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ للَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ ﴾، فأن لله خمسة : مفتاح كلام :﴿ وَللَّهِ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض ﴾ [ آل عمران : ١٠٩ ]، فجعل سهم الله وسهم الرسول ﷺ واحداً، ويؤيد هذا ما رواه الحافظ البيهقي بإسناد صحيح عن عبد الله بن شفيق عن رجل قال :« أتيت النبي ﷺ وهو بوادي القرى، وهو يعرض فرساً، فقلت : يا رسول الله ما تقول في الغنيمة؟ فقال :» لله خمسها وأربعة أخماسها للجيش « قلت فما أحد أولى به من أحد؟ قال :» لا ولا السهم تستخرجه من جيبك ليس أنت أحق من أخيك المسلم «.
وقال ابن جرير عن الحسن قال : أوصى الحسن بالخمس من ماله، وقال : ألا أرضى من مالي بما رضي الله لنفسه؛ وعن عطاء قال : خمس الله والرسول واحد يحمل منه ويصنع فيه ما شاء، يعني النبي ﷺ، وهذا أعم وأشمل، وهو أنه ﷺ يتصرف في الخمس الذي جعله الله له بما شاء ويرده في أمته كيف شاء. ويشهد لهذا ما رواه الإمام أحمد عن المقدام بن معد يكرب الكندي : أنه جلس مع عبادة بن الصامت وأبي الدرداء والحارث ابن معاوية الكندي رضي الله عنهم، فتذكروا حديث رسول الله ﷺ، فقال أبو الدرداء لعبادة :»
يا عبادة كلمات رسول الله ﷺ في غزوة كذا وكذا في شأن الأخماس، فقال عبادة : إن رسول الله ﷺ صلى بهم في غزوة إلى بعير من المغنم، فلما سلم قام رسول الله ﷺ فتناول وبرة بين أنملتيه فقال :« إن هذه من غنائمكم، وإنه ليس لي فيها إلا نصيبي معكم الخمس، والخمس مردود عليكم، فأدوا الخيط والمخيط، وأكبر من ذلك وأصغر، ولا تغلوا، فإن الغلول عار ونار على أصحابه في الدنيا والآخرة، وجاهدوا الناس في الله القريب والبعيد، ولا تبالوا في الله لومة لائم، وأقيموا حدود الله في السفر والحضر، وجاهدوا في الله، فإن الجهاد باب من أبواب الجنة عظيم ينجي الله به من الهم والغم »
978
وعن عمرو بن عنبسة « أن رسول الله ﷺ بهم إلى بعير من المغنم، فلما سلم أخذ وبرة من هذا البعير ثم قال :» ولا يحللي من غنمائمكم مثل هذه إلا الخمس والخمس مردود عليكم « وقد كان للنبي ﷺ من الغنائم شيء يصطفيه لنفسه عبد أو أمة أو فرس أو سيف أو نحو ذلك، كما نص عليه محمد بن سيرين وعامر الشعبي، وتبعهما على ذلك أكثر العلماء. وروى الإمام أحمد والترمذي عن ابن عباس أن رسول الله ﷺ تنقل سيفه ذا الفقار يوم بدر، وهو الذي رأى فيه الرؤيا يوم أُحد، وعن عائشة رضي الله عنها قالت : كانت صفية من الصفي، وعن يزيد بن عبد الله قال : كنا بالمربد إذ دخل رجل معه قطعة أديم فقرأناها فإذا فيها :» من محمد رسول الله إلى بني زهير بن أقيش، إنكم إن شهدتم أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وأقمتم الصلاة، وآتيتم الزكاة، وأديتم الخمس من المغنم، وسهم النبي ﷺ، وسهم الصفي، أنتم آمنون بأمان الله ورسوله «، فقلنا : من كتب لك هذا؟ فقال : رسول الله ﷺ. فهذه أحاديث تدل على تقرير هذا وثبوته؛ ولهذا جعل ذلك كثيرون من الخصائص له صلوات الله وسلامه عليه، وقال آخرون : إن الخمس يتصرف فيه الإمام بالمصلحة للمسلمين كما يتصرف في مال الفيء.
وقال شيخنا الإمام العلامة ابن تيمية رحمه الله : وهذا قول مالك وأكثر السلف وهو أصح الأقوال، فإذا ثبت هذا وعلم فقد اختلف أيضاً في الذي كان يناله عليه السلام من الخمس ماذا يصنع به من بعده؟ فقال قائلون : يكون لمن يلي الأمر من بعده، وقال آخرون : يصرف في مصالح المسلمين؛ وقال آخرون : بل هو مردود على بقية الأصناف ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل، اختاره ابن جرير. وقال آخرون : بل سهم النبي ﷺ وسهم ذوي القربى مردودان على اليتامى والمساكين وابن السبيل، قال ابن جرير : وذلك قول جماعة من أهل العراق، وقيل : إن الخمس جميعه لذوي القربى، ثم اختلف الناس في هذين السهمين وفاة رسول الله ﷺ فقال قائلون : سهم النبي ﷺ يُسلّم للخليفة من بعده، وقال آخرون : لقرابة النبي ﷺ، وقال آخرون : سهم القرابة لقرابة الخليفة، واجتمع رأيهم أن يجعلوا هذين السهمين في الخيل والعدة في سبيل الله، فكانا على ذلك في خلافة أبي بكر وعمر رضي الله عنهما.
979
قال الأعمش عن إبراهيم : كان أبو بكر وعمر يجعلان سهم النبي ﷺ في الكراع والسلاح، فقلت لإبراهيم : ما كان عليٌّ يقول فيه؟ قال : كان أشدهم فيه، وهذا قول طائفة كثيرة من العلماء رحمهم الله، وأما سهم ذوي القربى فإنه يصرف إلى ( بني هاشم ) و ( بني المطلب ) لأن بني المطلب وازروا بني هاشم في الجاهلية وفي أول الإسلام، ودخلوا معهم في الشعب غضباً لرسول الله ﷺ وحماية له، مسلمهم طاعة لله ولرسوله، وكافرهم حمية للعشيرة وأنفة وطاعة لأبي طالب عم رسول الله ﷺ ؛ وأما بنو عبد شمس وبنو نوفل، وإن كانوا بني عمهم فلم يوافقوهم على ذلك، بل حاربوهم ونابذوهم، ومالأوا بطون قريش على حرب الرسول.
وقال جبير بن مطعم : مشيت أنا وعثمان بن عفان، إلى رسول الله ﷺ فقلنا :« يا رسول الله أعطيت بني المطلب من خمس خيبر وتركتنا، ونحن وهم منك بمنزلة واحدة؟ فقال :» إنما بنو هاشم وبنو المطلب شيء واحد « وفي بعض روايات هذه الحديث :» إنهم لم يفارقونا في جاهلية ولا إسلام « ؛ وهذا قول جمهور العلماء أنهم بنو هاشم وبنو المطلب. قال ابن جرير : وقال آخرون : هم بنو هاشم، ثم روى عن مجاهد قال : علم الله أن في بني هاشم فقراء، فجعل لهم الخمس مكان الصدقة، وفي رواية عنه قال : هم قرابة رسول الله ﷺ الذين لا تحل لهم الصدقة؛ عن ابن عباس قال، قال رسول الله ﷺ :» رغبت لكم عن غسالة الأيدي، لأن لكم من خمس الخمس ما يغنيكم أو يكفيكم «، وقوله :﴿ واليتامى ﴾ أي أيتام المسلمين، واختلف العلماء هل يختص بالأيتام الفقراء أو يعم الأغنياء والفقراء؟ على قولين، والمساكين هم المحاويج الذين لا يجدون ما يسد خلتهم ومسكنتهم ﴿ وابن السبيل ﴾ هو المسافر أو المريد للسفر إلى مسافة تقصر فيها الصلاة وليس له ما ينفقه في سفره ذلك، وسيأتي تفسير ذلك في آية الصدقات من سورة براءة إن شاء الله تعالى.
وقوله تعالى :﴿ إِن كُنتُمْ آمَنْتُمْ بالله وَمَآ أَنزَلْنَا على عَبْدِنَا ﴾ أي امتثلوا ما شرعنا لكم من الخمس في الغنائم إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر وما أنزل على رسوله، ولهذا جاء في »
الصحيحين « من حديث عبد الله بن عباس في وفد عبد القيس أن رسول الله ﷺ قال لهم :
980
« وآمركم بأربع وأنهاكم عن أربع : آمركم بالإيمان بالله، ثم قال : هل تدرون ما الإيمان بالله؟ شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، وأن تؤدوا الخمس من المغنم » الحديث فجعل أداء الخمس من جملة الإيمان، وقوله :﴿ يَوْمَ الفرقان يَوْمَ التقى الجمعان ﴾ ينبه تعالى على نعمته وإحسانه إلى خلقه بما فرق بين الحق والباطل ببدر، ويسمى الفرقان، لأن الله أعلى فيه كلمة الإيمان على كلمة الباطل، وأظهر دينه ونصر نبيه وحزبه، قال ابن عباس : يوم الفرقان يوم بدر، فرق الله فيه بين الحق والباطل. وقال عروة بن الزبير :﴿ يَوْمَ الفرقان ﴾ يوم فرق الله بين الحق والباطل، وهو يوم الجمعان لتسع عشرة أو سبع عشرة مضت من رمضان وأصحاب رسول الله ﷺ يومئذ ثلثمائة وبضعة عشر رجلاً، والمشركون ما بين الألف والتسعمائة، فهزم الله المشركين، وقتل منهم زيادة على السبعين وأسر منهم مثل ذلك، وكانت ليلة الفرقان يوم التقى الجمعان لسبع عشة من رمضان. روى ابن مردويه عن علي قال : كانت ليلة الفرقان ليلة التقى الجمعان في صبحيتها ليلة الجمعة لسبع عشرة مضت من شهر رمضان، وهو الصحيح عند أهل المغازي والسير.
981
يقول تعالى مخبراً عن يوم الفرقان :﴿ إِذْ أَنتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدنيا ﴾ أي إذ أنتم نزول بعدوة الوادي الدنيا القريبة إلى المدينة ﴿ وَهُم ﴾ أي المشركون نزول ﴿ بالعدوة القصوى ﴾ أي البعيدة من المدينة إلى ناحية مكة ﴿ والركب ﴾ أي العير الذي فيه أبو سفيان بما معه من التجارة، ﴿ أَسْفَلَ مِنكُمْ ﴾ أي مما يلي سيف البحر ﴿ وَلَوْ تَوَاعَدتُّمْ ﴾ أي أنتم والمشركون إلى مكان ﴿ لاَخْتَلَفْتُمْ فِي الميعاد ﴾، قال محمد بن إسحاق في هذه الآية : ولو كان ذلك عن ميعاد منكم ومنهم، ثم بلغكم كثرة عددهم وقلة عددكم ما لقيتموهم ﴿ ولكن لِّيَقْضِيَ الله أَمْراً كَانَ مَفْعُولاً ﴾ أي ليقضي الله ما أراد بقدرته من اعزاز الإسلام وأهله وإذلال الشرك وأهله من غير ملأ منكم، ففعل ما أراد من ذلك بلطفه وإنما خرج رسول الله ﷺ والمسلمون يريدون عير قريش حتى جمع الله بينهم وبين عدوهم على غير ميعاد، وقال ابن جرير : أقبل أبو سفيان في الركب من الشام، وخرج أبو جهل ليمنعه من رسول الله ﷺ وأصحابه، فالتقوا ببدر، ولا يشعر هؤلاء بهؤلاء ولا هؤلاء بهؤلاء، حتى التقى السقاة ونهد الناس بعضهم لبعض، وقال محمد بن إسحاق وبعث أبو سفيان إلى قريش فقال : إن الله قد نجى عيركم وأموالكم ورجالكم فارجعوا، فقال أبو جهل : والله لا نرجع حتى نأتي بدراً - وكانت بدر سوقاً من أسواق العرب - فنقيم بها ثلاثاً فنطعم بها الطعام وننحر بها الجزر، ونسقي بها الخمر، وتعزف علينا القيان، وتسمع بنا العرب وبمسيرنا، فلا يزالون يهابوننا، بعدها أبداً. وأقبل رسول الله ﷺ على الناس فقال :« هذه مكة قد ألقت إليكم أفلاذ كبدها » قال محمد بن إسحاق وحدثني عبد الله بن أبي بكر بن حزم، أن سعد بن معاذ قال لرسول الله ﷺ لما التقى الناس يوم بدر : يا رسول الله ألا نبني لك عريشاً تكون فيه وننيخ إليك ركائبك، ونلقى عدونا؟ فإن أظفرنا الله عليهم وأعزنا فذاك ما نحب، وإن تكن الأخرى فتجلس على ركائبك وتلحق بمن وراءنا من قومنا، فقد والله تخلف عنك أقوام ما نحن بأشد لك حباً منهم، لو علموا أنك تلقى حرباً ما تخلفوا عنك ويوازرونك وينصرونك، فأثنى عليه رسول الله ﷺ خيراً، ودعا له، فبني له عريش فكان فيه رسول الله ﷺ وأبو بكر ما معهما غيرهما، قال ابن إسحاق : وارتحلت قريش حين أصبحت، فلما أقبلت ورآها رسول الله ﷺ : قال :« اللهم هذه قريش قد أقبلت بخيلائها وفخرها تحادك وتكذب رسولك، اللهم أحنهم الغداة »
982
وقوله :﴿ لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ ويحيى مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ ﴾ أي ليكفر من كفر بعد الحجة لما رأى من الآية والعبرة، ويؤمن من آمن على مثل ذلك، يقول تعالى : إنما جمعكم مع عدوكم في مكان واحد على غير ميعاد لينصركم عليهم، ويرفع كلمة الحق على الباطل، ليصير الأمر ظاهراً، والحجة قاطعة والبراهين ساطعة، ولا يبقى لأحد حجة ولا شبهة، فحينئذ يهلك من هلك، أي يستمر في الكفر من استمر فيه على بصيرة من أمره أنه مبطل لقيام الحجة عليه ﴿ ويحيى مَنْ حَيَّ ﴾ أي يؤمن من آمن ﴿ عَن بَيِّنَةٍ ﴾ أي حجة وبصيرة، والإيمان هو حياة القلوب، قال الله تعالى :﴿ أَوَ مَن كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي الناس ﴾ [ الأنعام : ١٢٢ ]، وقالت عائشة في قصة الإفك : فهلك فيّ من هلك، أي قال فيها ما قال من البهتان والإفك، وقوله :﴿ وَإِنَّ الله لَسَمِيعٌ ﴾ أي لدعائكم وتضرعكم واستغاثتكم به ﴿ عَلِيمٌ ﴾ أي بكم وأنكم تستحقون النصر على أعدائكم الكفرة المعاندين.
983
قال مجاهد : أراهم الله إياه في منامه قليلاً، وأخبر النبي ﷺ أصحابه بذلك فكان تثبيتاً لهم، وقوله :﴿ وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيراً لَّفَشِلْتُمْ ﴾ أي لجبنتم عنهم واختلفتم فيما بينكم ﴿ ولكن الله سَلَّمَ ﴾ أي من ذلك بأن رأاكهم قليلاً، ﴿ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصدور ﴾ أي بما تجنه الضمائر وتنطوي عليه الأحشاء، ﴿ يَعْلَمُ خَآئِنَةَ الأعين وَمَا تُخْفِي الصدور ﴾ [ غافر : ١٩ ]، وقوله :﴿ وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ التقيتم في أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً ﴾ وهذا أيضاً من لطفه تعالى بهم إذ أراهم إياهم قليلاً في رأي العين فيجزؤهم عليهم ويطمعهم فيهم. قال ابن مسعود رضي الله عنه : لقد قللوا في أعيننا يوم بدر حتى قلت لرجل إلى جنبي تراهم سبعين؟ قال : لا، بل هم مائة، حتى أخذنا رجلاً منهم، فسألناه فقال : كنا ألفاً، وقوله :﴿ وَيُقَلِّلُكُمْ في أَعْيُنِهِمْ ﴾، قال عكرمة : حضض بعضهم على بعض، ﴿ لِيَقْضِيَ الله أَمْراً كَانَ مَفْعُولاً ﴾ أي ليلقي بينهم الحرب للنقمة ممن أراد الانتقام منه، والإنعام على من أراد تمام النعمة عليه من أهل ولايته، ومعنى هذا أنه تعالى أعزى كلاً من الفريقين بالآخر، وقلّله في عينه ليطمع فيه، وذلك عند المواجهة، فلما التحم القتال وأيد الله المؤمنين بألف من الملائكة مردفين، بقي حزب الكفار يرى حزب الإيمان ضعيفه، كما قال تعالى :﴿ قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ التقتا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ الله وأخرى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِّثْلَيْهِمْ رَأْيَ العين ﴾ [ آل عمران : ١٣ ] وهذا هو الجمع بين هاتين الآيتين، فإن كلاً منها حق وصدق ولله الحمد والمنة.
هذا تعليم من الله تعالى لعباده المؤمنين آداب اللقاء وطريق الشجاعة عند مواجهة الأعداء فقال :﴿ ياأيها الذين آمنوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فاثبتوا ﴾. وفي « الصحيحين » :« يا أيها الناس لا تتمنوا لقاء العدو واسألوا الله العافية، فإذا لقيتموهم فاصبروا، واعلموا أن الجنة تحت ظلال السيوف »، ثم قام النبي ﷺ وقال :« اللهم منزل الكتاب، ومجري السحاب، وهازم الأحزاب، اهزمهم وانصرنا عليهم » وفي الحديث :« إن الله يحب الصمت عند ثلاث : عند تلاوة القرآن، وعند الزحف، وعند الجنازة » وفي الحديث الآخر المرفوع يقول الله تعالى :« إن عبدي كل عبدي الذي يذكرني وهو مناجزٌ قرنه » أي لا يشغله ذلك الحال عن ذكري ودعائي واستعانتي. وقال قتادة : افترض الله ذكره عند أشغل ما يكون، عند الضرب بالسيوف. وعن كعب الأحبار قال : ما من شيء أحب إلى الله تعالى من قراءة القرآن والذكر، ولولا ذلك ما أمر الناس بالصلاة والقتال، ألا ترون أنه أمر الناس بالذكر عند القتال فقال :﴿ ياأيها الذين آمنوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فاثبتوا واذكروا الله كَثِيراً لَّعَلَّكُمْ تُفْلَحُونَ ﴾. فأمر تعالى بالثبات عند قتال الأعداء والصبر على مبارزتهم، فلا يفروا ولا ينكلوا ولا يجبنوا، وأن يذكروا الله في تلك الحال ولا ينسوه. بل يستعينوا به، ويتوكلوا عليه، ويسألوه النصر على أعدائهم، ولا يتنازعوا فيما بينهم أيضاً فيختلفوا، فيكون سبباً لتخاذلهم وفشلهم. ﴿ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ ﴾ أي قوتكم وحدتكم وما كنتم فيه من الإقبال ﴿ واصبروا إِنَّ الله مَعَ الصابرين ﴾ وقد كان للصحابة رضي الله عنهم في باب الشجاعة والائتمار بما أمرهم الله ورسوله به، وامتثال ما أرشدهم إليه ما لم يكن لأحد من الأمم والقرون قبلهم، ولا يكون لأحد ممن بعدهم، فإنهم ببركة الرسول ﷺ وطاعته فيما أمرهم فتحوا القلوب والأقاليم شرقاً وغرباً في المدة اليسيرة، مع قلة عددهم بالنسبة إلى جيوش سائر الأقاليم، وقهروا الجميع حتى علت كلمة الله وظهر دينه على سائر الأديان، وامتدت الممالك الإسلامية في مشارق الأرض ومغاربها في أقل من ثلاثين سنة، فBهم وأرضاهم.
يقول تعالى بعد أمره المؤمنين بالإخلاص في القتال في سبيله وكثرة ذكره، ناهياً لهم عن التشبه بالمشركين في خروجهم من ديارهم بطراً، أي دفعاً للحق، ﴿ وَرِئَآءَ الناس ﴾ وهو المفاخرة والتكبر عليهم، كما قال أبو جهل : لا والله، لا نرجع حتى نرد ماء بدر وننحر الجزر، ونشرب الخمر وتعزف علينا القيان، فانعكس ذلك عليه أجمع. لأنهم وردوا به الحمام، وركموا في أطواء بدر مهانين أذلاء. في عذاب سرمدي أبدي، ولهذا قال :﴿ والله بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ ﴾ أي عالم بما جاءوا به، ولهذا جازاهم عليه شرا الجزاء لهم : قال ابن عباس ومجاهد : هم المشركون الذين قاتلوا رسول الله ﷺ يوم بدر، وقال محمد بن كعب، لما خرجت قريش من مكة إلى بدر خرجوا بالقيان والدفوف، فأنزل الله :﴿ وَلاَ تَكُونُواْ كالذين خَرَجُواْ مِن دِيَارِهِم بَطَراً وَرِئَآءَ الناس ﴾، وقوله تعالى :﴿ وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشيطان أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لاَ غَالِبَ لَكُمُ اليوم مِنَ الناس وَإِنِّي جَارٌ لَّكُمْ ﴾ الآية؛ حسَّن لهم لعنه الله ما جاءوا له وما هموا به، وأطمعهم أنه لا غالب لهم اليوم من الناس، ونفى عنهم الخشية من أن يؤتوا في ديارهم، كما قال تعالى عنه :﴿ يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشيطان إِلاَّ غُرُوراً ﴾ [ النساء : ١٢٠ ]، قال ابن عباس في هذه الآية : لما كان يوم بدر سار إبليس برايته وجنوده مع المشركين، وألقى في قلوب المشركين أن أحداً لن يغلبكم، وإني جار لكم، فلما التقوا ونظر الشيطان إلى إمداد الملائكة ﴿ نَكَصَ على عَقِبَيْهِ ﴾ قال : رجع مدبراً، وقال :﴿ إني أرى مَا لاَ تَرَوْنَ ﴾ الآية. وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال : جاء إبليس يوم بدر في جندٍ من الشياطين معه رأيته، في صورة رجل من بني مدلج في صورة ( سراقة بن مالك بن جعشيم ) فقال الشيطان للمشركين : لا غالب لكم اليوم من الناس وإني جار لكم، فلما اصطف الناس أخذ رسول الله ﷺ قبضة من التراب فرمى بها في وجوه المشركين، فولوا مدبرين، وأقبل جبريل عليه السلام إلى إبليس، فلما رآه وكانت يده في يد رجل من المشركين، انتزع يده ثم ولى مدبراً وشيعته، فقال الرجل يا سراقة أتزعم أنك لنا جاراً؟ فقال : إني أرى ما لا ترون إني أخاف الله والله شديد العقاب، وذلك حين رأى الملائكة، وقال قتادة : وذكر لنا أنه رأى جبريل عليه السلام تنزل معه الملائكة، فعلم عدو الله أنه لا يدان له بالملائكة فقال : إني أرى لا ترون إني أخاف الله، وكذب عدو الله، والله ما به مخافة الله، ولكن علم أن هلا قوة له ولا منعة، وتلك عادة عدو الله لمن أطاعه واستقاد له، حتى إذا التقى الحق والباطل أسلمهم شر مسلم وتبرأ منهم عند ذلك.
986
قال تعالى :﴿ كَمَثَلِ الشيطان إِذْ قَالَ لِلإِنسَانِ اكفر فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي برياء مِّنكَ إني أَخَافُ الله رَبَّ العالمين ﴾ [ الحشر : ١٦ ]، وقوله تعالى :﴿ وَقَالَ الشيطان لَمَّا قُضِيَ الأمر إِنَّ الله وَعَدَكُمْ وَعْدَ الحق وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ ﴾ [ إبراهيم : ٢٢ ] الآية.
وقوله تعالى :﴿ إِذْ يَقُولُ المنافقون والذين فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ غَرَّ هؤلاء دِينُهُمْ ﴾، وقال ابن عباس : لما دنا القوم بعضهم من بعض قلل الله المسلمين في أعين المشركين، وقلل المشركين في أعين المسلمين، فقال المشركون : غرَّ هؤلاء دينهم، وإنما قالوا ذلك من قلتهم في أعينهم، فظنوا أنهم سيهزمونهم لا يشكون في ذلك، فقال الله :﴿ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى الله فَإِنَّ الله عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴾، قال قتادة : وذكر لنا أن أبا جهل عدو الله لما أشرف على محمد ﷺ وأصحابه قال : والله لا يعبد الله بعد اليوم قسوة وعتواً، وقال ابن جريج : هم قوم كانوا من المنافقين بمكة قالوه يوم بدر، وقال الشعبي : كان ناس من أهل مكة قد تكلموا بالإسلام فخرجوا مع المشركين يوم بدر، فلما رأوا قلة المسلمين قالوا : غرَّ هؤلاء دينهم، وقال مجاهد : هم فئة من قريش خرجوا مع قريش من مكة وهم على الارتياب فحبسهم ارتيابهم، فلما رأوا قلة أصحاب رسول الله ﷺ قالوا : غرَّ هؤلاء دينهم، حتى قدموا على ما قدموا عليه مع قلة عددهم وكثرة عدوهم. وهكذا قال محمد بن إسحاق بن يسار سواء. وقال ابن جرير عن الحسن في هذه الآية قال : هم قوم لم يشهدوا القتال يوم بدر فسموا منافقين، وقوله :﴿ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى الله ﴾ أي يعتمد على جنابه ﴿ فَإِنَّ الله عَزِيزٌ ﴾ أي لا يضام من التجأ إليه، فإن الله عزيز منيع الجناب عظيم السلطان ﴿ حَكِيمٌ ﴾ في أفعاله لا يضعها إلا في مواضعها، فينصر من يستحق النصر، ويخذل من هو أهل لذلك.
987
يقول تعالى : ولو عاينت يا محمد حال توفي الملائكة أرواح الكفار، لرأيت أمراً عظيماً هائلاً فظيعاً منكراً، إذ ﴿ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُواْ عَذَابَ الحريق ﴾. قال ابن عباس : إذا أقبل المشركون بوجوههم إلى المسلمين ضربوا وجوههم بالسيوف، وإذا ولو أدركتهم الملائكة يضربون أدبارهم، وقال مجاهد في قوله :﴿ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ ﴾ يوم بدر، وقال سعيد بن جبير ﴿ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ ﴾ قال : وأستاههم، ولكنَّ الله يكني؛ والسياق وإن كان سببه وقعة بدر، ولكنه عام في حق كل كافر، ولهذا قال تعالى :﴿ وَلَوْ ترى إِذْ يَتَوَفَّى الذين كَفَرُواْ الملائكة يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ ﴾ وفي سورة القتال مثلها، وتقدم قوله تعالى :﴿ وَلَوْ ترى إِذِ الظالمون فِي غَمَرَاتِ الموت والملائكة باسطوا أَيْدِيهِمْ أخرجوا أَنْفُسَكُمُ ﴾ [ الأنعام : ٩٣ ] أي باسطو أيديهم بالضرب فيهم بأمر ربهم إذا استصعبت أنفسهم، وامتنعت من الخروج من الأجساد أن تخرج قهراً، وذلك إذا بشروهم بالعذاب والغضب من الله، كما في حديث البراء :« أن ملك الموت إذا جاء الكافر عند احتضاره في تلك الصورة المنكرة يقول : اخرجي أيتها النفس الخبيثة إلى سموم وحميم وظل من يحموم، فتتفرق في بدنه، فيستخرجونها من جسده كما يخرج السفود من الصفوف المبلول، فتخرج معها العروق والعصب »، ولهذا أخبر تعالى أن الملائكة تقول لهم : ذوقوا عذاب الحريق، وقوله تعالى :﴿ ذلك بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ ﴾ أي هذا الجزاء بسبب ما عملتم من الأعمال السيئة في حياتكم الدنيا، جازاكم الله بها هذا الجزاء، ﴿ وَأَنَّ الله لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ ﴾ : أي لا يظلم أحداً من خلقه، بل هو الحكم العدل الذي لا يجور، تبارك وتقدس الغني الحميد، ولهذا جاء في الحديث القدسي الصحيح :« يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً فلا تظالموا، يا عبادي إنما هي أعمالكم أحصيها لكم، فمن وجد خيراً فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه ».
يقول تعالى : فعل هؤلاء من المشركين المكذبين بما أرسلت به يا محمد، كما فعل الأمم المكذبة قبلهم، ففعلنا بهم ما هو دأبنا، أي عادتنا وسنتنا في أمثالهم من المكذبين من آل فرعون، ومن قبلهم من الأمم المكذبة بالرسل، الكافرين بآيات الله ﴿ فَأَخَذَهُمُ الله بِذُنُوبِهِمْ ﴾ أي بسبب ذنوبهم أهلهكم، وأخذهم أخذ عزيز مقتدر ﴿ إِنَّ الله قَوِيٌّ شَدِيدُ العقاب ﴾ أي لا يغلبه غالب ولا يفوته هارب.
يخبر تعالى عن تمام عدله وقسطه في حكمه بأنه تعالى لا يغير نعمة أنعمها على أحدٍ إلا بسبب ذنب ارتكبه، كقوله تعالى :﴿ بِأَنَّ الله لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا على قَوْمٍ حتى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ ﴾، وقوله :﴿ كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ ﴾ أي كصنعه بآل فرعون وأمثالهم حين كذبوا بآياته، أهلكهم بسبب ذنوبهم. وسلبهم تلك النعم التي أسداها إليهم من جنات وعيون، ونعمة كانوا فيها فاكهين، وما ظلمهم الله في ذلك بل كانوا هم الظالمين.
أخبر تعالى أن شر ما دب على وجه الأرض هم الذين كفروا فهم لا يؤمنون، الذين كلما عاهدوا عهداً نقضوه، وكلما أكدوه بالأيمان نكثوه، ﴿ وَهُمْ لاَ يَتَّقُونَ ﴾ : أي لا يخافون من الله في شيء ارتكبوه من الآثام، ﴿ فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الحرب ﴾ أي تغلبهم وتظفر بهم في حرب ﴿ فَشَرِّدْ بِهِم مَّنْ خَلْفَهُمْ ﴾ أي نكّل بهم، ومعناه : غلظ عقوبتهم وأثخنهم قتلاً ليخاف من سواهم من الأعداء من العرب وغيرهم، ويصيروا لهم عبرة ﴿ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ ﴾ لعلهم يحذرون أن ينكثوا فيصنع بهم مثل ذلك.
يقول تعالى لنبيه ﷺ :﴿ وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ ﴾ قد عاهدتهم ﴿ خِيَانَةً ﴾ أي نقضاً لما بينك وبينهم من المواثيق والعهود ﴿ فانبذ إِلَيْهِمْ ﴾ أي عهدهم على سواء : أي أعلمهم بأنك قد نقضت عهدم حتى يبقى علمك وعلمهم بأنك حرب لهم وهم حرب لك، وأنه لا عهد بينك وبينهم على السواء، أي تستوي أنت وهم في ذلك، قال الراجز :
فاضرب وجوه الغدر للأعداء حتى يجيبوك إلى السواء
﴿ إِنَّ الله لاَ يُحِبُّ الخائنين ﴾ ولو في حق الكفار لا يحبها أيضاً، عن سليم بن عامر قال : كان معاوية يسير في أرض الروم، وكان بينه وبينهم أمد فأراد أن يدنوا منهم، فإذا انقضى الأمد غزاهم، فإذا شيخ على دابة يقول : الله أكبر، الله أكبر، وفاء لا غدر، إن رسول الله ﷺ قال :« ومن كان بينه وبين قوم عهد فلا يحلن عقدة ولا يشدها، حتى ينقضي أمدها، أو ينبذ إليهم على سواء »، قال فبلغ ذلك معاوية، فرجع فإذا بالشيخ عمرو بن عنبسة رضي الله عنه. وقال الإمام أحمد عن سلمان الفارسي رضي الله عنه أنه انتهى إلى حصن أو مدينة، فقال لأصحابه :« دعوني أدعوهم كما رأيتُ رسول الله ﷺ يدعوهم، فقال : إنما كنت رجلاً منكم فهداني الله عزَّ وجلَّ للإسلام، فإن أسلمتم فلكم ما لنا وعليكم ما علينا، وأن أبيتم فأدوا الجزية وأنتم صاغرون، وإن أبيتم نابذناكم على سواء » ﴿ إِنَّ الله لاَ يُحِبُّ الخائنين ﴾ يفعل ذلك بهم ثلاثة أيام، فلما كان اليوم الرابع غدا الناس إليها ففتحوها بعون الله.
يقول تعالى لنبيه ﷺ :﴿ وَلاَ يَحْسَبَنَّ ﴾ يا محمد ﴿ الذين كَفَرُواْ سبقوا ﴾ أي فاتونا فلا نقدر عليهم، بل هم تحت قهر قدرتنا وفي قبضة مشيئتنا فلا يعجزوننا، كقوله تعالى :﴿ أَمْ حَسِبَ الذين يَعْمَلُونَ السيئات أَن يَسْبِقُونَا سَآءَ مَا يَحْكُمُونَ ﴾ [ العنكبوت : ٤ ] أي يظنون، وقوله تعالى :﴿ لاَ تَحْسَبَنَّ الذين كَفَرُواْ مُعْجِزِينَ فِي الأرض وَمَأْوَاهُمُ النار وَلَبِئْسَ المصير ﴾ [ النور : ٥٧ ]، وقوله تعالى :﴿ لاَ يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الذين كَفَرُواْ فِي البلاد * مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ المهاد ﴾ [ آل عمران : ١٩٦-١٩٧ ]. ثم أمر تعالى بإعداد آلات الحرب لمقاتلتهم حسب الطاقة والإمكان والاستطاعة فقال :﴿ وَأَعِدُّواْ لَهُمْ مَّا استطعتم ﴾ أي مهما أمكنكم ﴿ مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الخيل ﴾. عن عقبة بن عامر قال :« سمعت رسول الله ﷺ يقول وهو على المنبر :﴿ وَأَعِدُّواْ لَهُمْ مَّا استطعتم مِّن قُوَّةٍ ﴾، ألا إن القوة الرمي، إلا أن القوة الرمي » وروى الإمام أحمد وأهل السنن عنه قال، قال رسول الله ﷺ :« ارموا واركبوا وأن ترموا خير من أن تركبوا » وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله ﷺ قال :« الخيل لثلاثة : لرجل أجر، ولرجل ستر، وعلى رجل وزر. فأما الذي له أجر فرجل ربطها في سبيل الله فأطال لها في مرج أو روضة، فما أصابت في طيلها ذلك من المرج أو الروضة كانت له حسنات، ولو أنها قطعت طيلها فاستنت شرفاً أو شرفين كانت آثارهما، وأرواها حسنات له، ولو أنها مرت بنهر فشربت منه ولم يرد أن يسقى به كان ذلك حسنات له، فهي لذلك الرجل أجر، ورجل ربطها تغنياً وتعففاً ولم ينس حق الله في رقابها ولا ظهورها فهي له ستر، ورجل ربطها فخراً ورياء ونواء فهي على ذلك وزر ». وسئل رسول الله ﷺ عن الحمر؟ فقال :« أما أنزل الله عليّ فيها شيئاً إلا هذه الآية الجامعة الفاذة » ﴿ فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ ﴾ [ الزلزلة : ٧-٨ ]. وقد ذهب أكثر العلماء إلى أن الرمي أفضل من ركوب الخيل، وذهب الإمام مالك إلى أن الركوب أفضل من الرمي؛ وقول الجمهور أقوى للحديث والله أعلم.
« الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة، وأهلها معانون عليها، ومن ربط فرساً في سبيل الله كانت النفقة عليه كالماد يده بالصدقة لا يقبضها » وفي « صحيح البخاري » قال رسول الله ﷺ :« الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة الأجر والمغنم » وقوله :﴿ تُرْهِبُونَ ﴾ أي تخوفون ﴿ بِهِ عَدْوَّ الله وَعَدُوَّكُمْ ﴾ أي من الكفار ﴿ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ ﴾، قال مجاهد : يعني بني قريظة، وقال السدي : فارس، وقال سفيان الثوري : هم الشياطين التي في الدور، وقال مقاتل : هم المنافقون، وهذا أشبه الأقوال، ويشهد له قوله تعالى :
993
﴿ وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِّنَ الأعراب مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ المدينة مَرَدُواْ عَلَى النفاق لاَ تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ ﴾ [ التوبة : ١٠١ ]، وقوله :﴿ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ الله يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ ﴾ أي مهما أنفقتم في الجهاد فإنه يوف إليكم على التمام والكمال، ولهذا جاء في الحديث الذي رواه أبو داود أن الدرهم يضاعف ثوابه في سبيلالله إلى سبعمائة ضعف كما تقدم في قوله تعالى :﴿ مَّثَلُ الذين يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ الله كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّئَةُ حَبَّةٍ والله يُضَاعِفُ لِمَن يَشَآءُ والله وَاسِعٌ عَلِيمٌ ﴾ [ البقرة : ٢٦١ ].
994
يقول تعالى : إذا خفت من قوم خيانة فانبذ إليهم عهدهم على سواء، فإن استمروا على حربك ومنابذتك فقاتلهم ﴿ وَإِن جَنَحُواْ ﴾ أي مالوا ﴿ لِلسَّلْمِ ﴾ أي المسالمة والمصالحة والمهادنة ﴿ فاجنح لَهَا ﴾ أي فمل إليها، واقبل منهم ذلك، ولهذا لما طلب المشركون عام الحديبية الصلح ووضع الحرب بينهم وبين رسول الله ﷺ تسع سنين، أجابهم إلى ذلك مع ما اشترطوا من الشروط الآخر. قال ابن عباس ومجاهد : إن هذه الآية منسوخة بآية السيف في براءة ﴿ قَاتِلُواْ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالله وَلاَ باليوم الآخر ﴾ [ التوبة : ٢٩ ] الآية، وفيه نظر، لأن آية براءة فيها الأمر بقتالهم إذا أمكن ذلك، فأما إن كان العدو كثيفاً فإنه يجوز مهادنتهم، كما دلت عليه هذه الآية الكريمة، وكما فعل النبي ﷺ يوم الحديبية، فلا منافاة ولا نسخ ولا تخصيص والله أعلم. وقوله :﴿ وَتَوَكَّلْ عَلَى الله ﴾ أي صالحهم وتوكل على الله، فإن الله كافيك وناصرك ولو كانوا يريدون بالصلح خديعة ليتقووا ويستعدوا ﴿ فَإِنَّ حَسْبَكَ الله ﴾ أي كافيك وحده، ثم ذكر نعمته عليه بما أيده من المؤمنين المهاجرين والأنصار، فقال :﴿ هُوَ الذي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وبالمؤمنين * وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ ﴾ أي جمعها على الإيمان بك وعلى طاعتك ومناصرتك وموازرتك، ﴿ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأرض جَمِيعاً مَّآ أَلَّفَتْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ ﴾ أي لما كان بينهم من العداوة والبغضاء، فإن الأنصار كانت بينهم حروب كثيرة في الجاهلية بين الأوس والخزرج، حتى قطع الله ذلك بنور الإيمان، كما قال تعالى :﴿ واذكروا نِعْمَتَ الله عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَآءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً ﴾ [ آل عمران : ١٠٣ ].
وفي « الصحيحين » « أن رسول الله ﷺ لما خطب الأنصار في شأن غنائم حينن قال لهم :» يا معشر الأنصار ألم أجدكم ضلالاً فهداكم الله بي، وعالة فأغناكم الله بي، وكنتم متفرقين فألفكم الله بي « كلما قال شيئاً قالوا : الله ورسوله أمنّ » ؛ ولهذا قال تعالى :﴿ ولكن الله أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴾ أي عزيز الجناب فلا يخيب رجاء من توكل عليه ﴿ حَكِيمٌ ﴾ في أفعاله وأحكامه، عن ابن عباس قال : إن الرحم لتقطع، وإن النعمة لتكفر، وإن الله إذا قارب بين القلوب لم يزحزحها شيء، ثم قرأ :﴿ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأرض جَمِيعاً مَّآ أَلَّفَتْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ ﴾، وعن مجاهد قال : إذا التقى المتحابان في الله فأخذ أحدهما بيد صاحبه وضحك إليه، تحاتت خطاياهما كما تحات ورق الشجر، قال عبدة : فقلت له : إن هذا ليسير فقال : لا تقل ذلك، فإن الله يقول :﴿ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأرض جَمِيعاً مَّآ أَلَّفَتْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ ﴾ قال عبدة : فعرفت أنه أفقه مني. عن سلمان الفارسي أن رسول الله ﷺ قال :« إن المسلم إذا لقي أخاه المسلم فأخذ بيده تحاتت عنهما ذنوبهما كما تحات الورق عن الشجرة اليابسة في يوم ريح عاصف، وإلا غفر لهما ذنوبهما ولو كانت مثل زبد البحار ».
يحرض تعالى نبيه ﷺ والمؤمنين على القتال، ومناجزة الأعداء، ومبارزة الأقران، ويخبرهم أنه حسبهم : أي كافيهم ومؤيدهم على عدوهم، وإن كثرت أعدادهم وترادفت أمدادهم، ولو قل عدد المؤمنين. قال ابن أبي حاتم عن الشعبي في قوله :﴿ ياأيها النبي حَسْبُكَ الله وَمَنِ اتبعك مِنَ المؤمنين ﴾ قال : حسبك الله وحسب من شهد معك، ولهذا قال :﴿ ياأيها النبي حَرِّضِ المؤمنين عَلَى القتال ﴾ أي حثهم وذمرهم عليه، ولهذا كان رسول الله ﷺ يحرض على القتال عند صفهم ومواجهة العدو، كما قال لأصحابه يوم بدر حين أقبل المشركون في عَدَدهم وعُدَدهم :« قوموا إلى جنة عرضها السماوات والأرض » فقال ( عمير بن الحمام ) عرضها السماوات والأرض؟ فقال رسول الله ﷺ « نعم »، فقال : بخ بخ، فقال :« ما يحملك على قولك بخ بخ »؟ قال : رجاء أن أكون من أهلها، قال :« فإنك من أهلها »، فتقدم الرجل فكسر جفن سيفه، وأخرج تمرات فجعل يأكل منهن، ثم ألقى بقيتهن من يده، وقال : لئن أنا حييت حتى آكلهن إنها لحياة طويلة، ثم تقدم فقاتل حتى قتل رضي الله عنه. ثم قال تعالى مبشراً للمؤمنين وآمراً :﴿ إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ وَإِن يَكُنْ مِّنكُمْ مِّئَةٌ يغلبوا أَلْفاً مِّنَ الذين كَفَرُواْ ﴾ كل واحد بعشرة، ثم نسخ هذا الأمر وبقيت البشارة، قال عبد الله بن المبارك عن ابن عباس لما نزلت ﴿ إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ ﴾ شق ذلك على المسلمين حين فرض الله عليهم أن لا يفر واحد من عشرة، ثم جاء التخفيف، فقال :﴿ الآن خَفَّفَ الله عَنكُمْ ﴾ إلى قوله :﴿ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ ﴾ قال : خفف الله عنهم من العدة ونقص من الصبر بقدر ما خفف عنهم، وروى البخاري نحوه، وعن ابن عباس قال : لما نزلت هذه الآية ثقل على المسلمين وأعظموا أن يقاتل عشرون مائتين، ومائة ألفاً، فخفف الله عنهم فنسخها بالآية الأخرى فقال :﴿ الآن خَفَّفَ الله عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً ﴾ الآية، فكانوا إذا كانوا على الشطر من عدوهم لم يسغ لهم أن يفروا من عدوهم، وإذا كانوا دون ذلك لم يجب عليهم قتالهم وجاز لهم أن يتحرزوا عنهم. وروى الحافظ ابن مردويه عن ابن عمر رضي الله عنهما في قوله :﴿ إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ ﴾ قال : نزلت فينا أصحاب محمد ﷺ.
« لما كان يوم بدر قال رسول الله ﷺ :» ما تقولون في هؤلاء الأسارى «؟ فقال أبو بكر : يا رسول الله قومك وأهلك، استبقهم واستتبهم لعل الله أن يتوب عليهم، وقال عمر : يا رسول الله كذبوك وأخرجوك فقدمهم فاضرب أعناقهم، وقال عبد الله بن رواحة : يا رسول الله أنت في واد كثير الحطب فاضرم الوادي عليهم ناراً ثم ألقهم فيه، قال : فسكت رسول الله ﷺ فلم يرد عليهم شيئاً، ثم قام فدخل، فقال ناس : يأخذ بقول أبي بكر، وقال ناس : ياخذ بقول عمر، وقال ناس يأخذ بقول عبد الله بن رواحة ثم خرج عليهم رسول الله ﷺ فقال :» إن الله ليلين قلوب رجال حتى تكون ألين من اللبن، وإن الله ليشدد قلوب رجال فيه حتى تكون أشد من الحجارة، وإن مثلك يا أبا بكر كمثل إبراهيم عليه السلام، قال :﴿ فَمَن تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴾ [ إبراهيم : ٣٦ ]، وإن مثلك يا أبا بكر كمثل عيسى عليه السلام قال :﴿ إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ العزيز الحكيم ﴾ [ المائدة : ١١٨ ]، وإن مثلك يا عمر كمثل موسى عليه السلام قال :﴿ رَبَّنَا اطمس على أَمْوَالِهِمْ واشدد على قُلُوبِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُواْ حتى يَرَوُاْ العذاب الأليم ﴾ [ يونس : ٨٨ ]، وإن مثلك يا عبد الله كمثل نوح عليه السلام قال :﴿ رَّبِّ لاَ تَذَرْ عَلَى الأرض مِنَ الكافرين دَيَّاراً ﴾ [ نوح : ٢٦ ] أنتم عاله فلا ينفكن أحد منهم إلا بفداء أو ضربة عنق «، قال ابن مسعود : قلت يا رسول الله إلا ( سهل بن بيضاء ) فإنه يذكر الإسلام، فسكت رسول الله ﷺ فما رأيتني في يوم أخوف من أن تقع عليّ حجارة من السماء مني في ذلك اليوم حتى قال رسول الله ﷺ :» إلا سهيل بن بيضاء «، فأنزل الله عزَّ وجلَّ :﴿ مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أسرى ﴾ إلى آخر الآية. » عن ابن عمر قال : لما أسر الأسارى يوم بدر أسر العباس فيمن أسر، أسره رجل من الأنصار. قال : وقد أوعدته الأنصار أن يقتلوه، فبلغ ذلك النبي ﷺ، فقال رسول الله ﷺ :« إني لم أنم الليلة من أجل عمي العباس، وقد زعمت الأنصار أنهم قاتلوه » فقال له عمر : أفآتهم؟ فقال :« نعم ». فأتى عمر الأنصار. فقال لهم : أرسلوا العباس، فقالوا : لا والله لا نرسله، فقال لهم عمر : فإن كان لرسول الله ﷺ رضى، قالو : فإن كان لرسول الله ﷺ رضى فخذه، فأخذه عمر، فلما صار في يده قال له : يا عباس أسلم، فوالله لا تسلم أحب إليّ من أن يسلم الخطاب، وما ذاك إلا لما رأيت رسول الله ﷺ يعجبه إسلامك. قال : واستشار رسول الله ﷺ أبا بكر فيهم، فقال أبو بكر : عشيرتك فأرسلهم، فاستشار عمر فقال : اقتلهم، ففاداهم رسول الله ﷺ، فأنزل الله :﴿ مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أسرى ﴾ الآية «.
997
قال ابن عباس :﴿ مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أسرى ﴾ قال : غنائم بدر قبل أن يحلها لهم، يقول : لولا أني لا أعذب من عصاني حتى أتقدم إليه، لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم، وكذا روي عن مجاهد، وقال الأعمش : سبق منه أن لا يعذب أحداً شهد بدراً، وقال شعبة عن مجاهد ﴿ لَّوْلاَ كِتَابٌ مِّنَ الله سَبَقَ ﴾ أي لهم بالمغفرة، وعن ابن عباس في قوله :﴿ لَّوْلاَ كِتَابٌ مِّنَ الله سَبَقَ ﴾ يعني في أم الكتاب الأول أن المغانم والأسارى لكم ﴿ لَمَسَّكُمْ فِيمَآ أَخَذْتُمْ ﴾ من الأسارى ﴿ عَذَابٌ عَظِيمٌ ﴾، ويستشهد لهذا القول بما أخرجاه في « الصحيحين » :« أعطيت خمساً لم يعطهن أحد من الأنبياء قبلي : نصرت بالرعب مسيرة شهر، وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً، وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي، وأعطيت الشفاعة، وكان النبي يبعث إلى قومه وبعثت إلى الناس عامة » وقد روى الإمام أبو داود في سننه عن ابن عباس : أن رسول الله ﷺ جعل فداء أهل الجاهلية يوم بدر أربعمائة، وقد استمر الحكم في الأسرى عند جمهور العلماء أن الإمام مخير فيهم، إن شاء قتل كما فعل ببني قريظة، وإن شاء فادى بمال كما فعل بأسرى بدر، أو بمن أسر من المسلمين، كما فعل رسول الله ﷺ في تلك الجارية وابنتها اللتين كانتا في سبي سلمة بن الأكوع، حيث ردهما وأخذ في مقابلتهما من المسلمين الذين كانوا عند المشركين. وإن شاء استرق من أسر، هذا مذهب الإمام الشافعي وطائفة من العلماء، وفي المسألة خلاف آخر بين الأئمة مقرر في موضعه من كتب الفقه.
998
قال محمد بن إسحاق عن ابن عباس رضي الله عنهما « أن رسول الله ﷺ قال يوم بدر :» إني قد عرفت أن ناساً من بني هاشم وغيرهم قد أخرجوا كرهاً لا حاجة لهم بقتالنا، فمن لقي منكم أحداً منهم - أي من بني هاشم - فلا يقتله، ومن لقي البختري بن هشام فلا يقتله، ومن لقي العباس بن عبد المطلب فلا يقتله، فإنه إنما أخرج مستكرهاً «، فقال أبو حذيفة بن عتبة : أنقتل آباءنا وأبناءنا وإخواننا وعشائرنا ونترك العباس؟ والله لئن لقيته لألجمنه بالسيف، فبلغت رسول الله ﷺ، فقال لعمر بن الخطاب : يا أبا حفص - قال عمر : والله إنه لأول يوم كناني فيه رسول الله ﷺ أبا حفص - أيضرب وجه عم رسول الله ﷺ بالسيف »؟ فقال عمر : يا رسول الله ائذن لي فأضرب عنقه فوالله لقد نافق، فكان أبو حذيفة يقول بعد ذلك : والله ما آمن من تلك الكلمة التي قلت ولا أزال منها خائفاً إلا أن يكفرها الله تعالى عني بشهادة، فقتل يوم اليمامة شهيداً رضي الله عنه «، قال محمد بن إسحاق : وكان أكثر الأسارى يوم بدر فداء العباس بن عبد المطلب، وذلك أنه كان رجلاً موسراً فافتدى نفسه بمائة أوقية ذهباً. وفي » صحيح البخاري « عن أنس بن مالك :» أن رجالاً من الأنصار قالوا : يا رسول الله ائذن لنا فلنترك لابن أختنا عباس فداءه. قال :« لا والله لا تذرون منه درهماً »، وبعثت قريش إلى رسول الله ﷺ في فداء أسراهم، ففدى كل قوم أسيرهم بما رضوا، وقال العباس : يا رسول الله قد كنت مسلماً، فقال رسول الله ﷺ :« الله أعلم بإسلامك، فإن يكن كما تقول فإن الله يجزيك، وأما ظاهرك فقد كان علينا، فافتد نفسك وابني أخيك نوفل وعقيل، وحليفك عتبة بن عمرو » قال : ما ذاك عندي يا رسول الله، قال :« فأين المال الذي دفنته أنت وأم الفضل؟ فقلت لها إن أصبت في سفري هذا، فهذا المال الذي دفنته لبنيّ الفضل وعبد الله وقثم »، قال : والله يا رسول الله إني لأعلم أنك رسول الله، إن هذا لشيء ما علمه أحد غيري وغير أم الفضل، فاحسب لي يا رسول الله ما أصبتم مني عشرين أوقية من مال كان معي، فقال رسول الله ﷺ :« لا، ذاك شيء أعطانا الله تعالى منك »، ففدى نفسه وابني أخويه وحليفه «
999
، فأنزل الله عزَّ وجلَّ فيه :﴿ ياأيها النبي قُل لِّمَن في أَيْدِيكُمْ مِّنَ الأسرى إِن يَعْلَمِ الله فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِّمَّآ أُخِذَ مِنكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ والله غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴾. قال العباس : فأعطاني الله مكان العشرين الأوقية في الإسلام عشرين عبداً كلهم في يده مال يضرب به، مع ما أرجو من مغفرة الله عزَّ وجلَّ. وقال أبو جعفر بن جرير : قال العباس في نزلت :﴿ مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أسرى حتى يُثْخِنَ فِي الأرض ﴾ [ الأنفال : ٦٧ ]، فأخبرت النبي ﷺ بإسلامي، وسألته أن يحاسبني بالعشرين الأوقية التي أخذت مني فأبى، فأبدلني الله بها عشرين عبداً كلهم تاجرٌ مالي في يده.
وقال ابن عباس قالوا للنبي ﷺ : آمنا بما جئت به ونشهد أنك رسول الله لننصحن لك على قومنا، فأنزل الله :﴿ إِن يَعْلَمِ الله فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِّمَّآ أُخِذَ مِنكُمْ ﴾ يخلف لكم خيراً مما أخذ منكم ﴿ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ﴾ الشرك الذي كنتم عليه، قال فكان العباس يقول : ما أحب أن هذه الآية لم تنزل فينا وإن لي الدنيا، لقد قال :﴿ يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِّمَّآ أُخِذَ مِنكُمْ ﴾، فقد أعطاني خيراً مما أخذ مني مائة ضعف، وقال :﴿ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ﴾ وأرجو أن يكون قد غفر لي. وقال قتادة : ذكر لنا أن رسول الله ﷺ لما قدم عليه مال البحرين ثمانون ألفاً، وقد توضأ لصلاة الظهر، فما أعطى يومئذ شاكياً، ولا حرم سائلاً، وما صلى يومئذ حتى فرقه، فأمر العباس أن يأخذ منه ويحتثي، فكان العباس يقول : هذا خير مما أخذ منا وأرجو المغفرة. قال الحافظ أبو بكر البيهقي عن أنس بن مالك قال :« أتى رسول الله ﷺ بمال من البحرين فقال :» انثروه في مسجدي « قال : وكان أكثر مال أتي به رسول الله ﷺ، فخرج إلى الصلاة ولم يلتفت إليه، فلما قضى الصلاة جاء فجلس إليه، فما كان يرى أحداً إلا أعطاه، إذ جاءه العباس، فقال : يا رسول الله أعطني فإني فاديت نفسي، وفاديت عقيلاً، فقال له رسول الله ﷺ :» خذ « فحثا في ثوبه، ثم ذهب يقله فلم يستطع، فقال : مر بعضهم يرفعه إليّ، قال :» لا «، قال : فارفعه أنت عليّ، قال :» لا «، فنثر منه ثم احتمله على كاهله، ثم انطلق، فما زال رسول الله ﷺ يتبعه بصره حتى خفي عنه عجباً من حرصه، فما قام رسول الله ﷺ وثَمَّ منها درهم » وقوله :﴿ وَإِن يُرِيدُواْ خِيَانَتَكَ فَقَدْ خَانُواْ الله مِن قَبْلُ ﴾ أي وإن يريدوا خيانتك فيما أظهروا لك من الأقوال ﴿ فَقَدْ خَانُواْ الله مِن قَبْلُ ﴾ أي من قبل بدر بالكفر به ﴿ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ ﴾ أي بالأسارى يوم بدر ﴿ والله عَلِيمٌ حَكِيمٌ ﴾ أي عليم بفعله حكيم فيه، قال قتادة : نزلت في ( عبد الله بن أبي سرح ) الكاتب حين ارتد ولحق بالمشركين، وقال عطاء الخراساني : نزلت في عباس وأصحابه حين قالوا : لننصحن لك على قومنا، وقال السدي بالعموم، وهو أشمل وأظهر والله أعلم.
1000
ذكر تعالى أصناف المؤمنين، وقسمهم إلى ( مهاجرين ) خرجوا من ديارهم وأموالهم، وجاءوا لنصر الله ورسوله وإقامة دينه، وبذلوا أموالهم وأنفسهم في ذلك، وإلى ( أنصار ) وهم المسلمون من أهل المدينة إذ ذاك آووا إخوانهم المهاجرين في منازلهم وواسوهم في أموالهم، ونصروا الله ورسوله بالقتال معهم فهؤلاء ﴿ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ ﴾ أي كل منهم أحق بالآخر من كل أحد، ولهذا آخى رسول الله ﷺ بين المهاجرين والأنصار، كل اثنين أخوان، فكانوا يتوارثون بذلك إرثاً مقدماً على القرابة، حتى نسخ الله تعالى ذلك بالمواريث، ثبت ذلك في « صحيح البخاري » عن ابن عباس، وقال رسول الله ﷺ :« المهاجرون والأنصار بعضهم أولياء بعض، والطلقاء من قريش والعتقاء من ثقف بعضهم أولياء بعض إلى يوم القيامة »، وقد الله ورسوله على المهاجرين والأنصار في غير ما آية في كتابه فقال :﴿ والسابقون الأولون مِنَ المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ الله عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ ﴾ [ التوبة : ١٠٠ ] الآية، وقال :﴿ لِلْفُقَرَآءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ الله وَرِضْوَاناً وَيَنصُرُونَ الله وَرَسُولَهُ أولئك هُمُ الصادقون * والذين تَبَوَّءُوا الدار والإيمان مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ ﴾ [ الحشر : ٨-٩ ] الآية، وقال تعالى :﴿ وَلاَ يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّآ أُوتُواْ ﴾ [ الحشر : ٩ ] الآية، وأحسن ما قيل في قوله :﴿ والذين آمَنُواْ وَلَمْ يُهَاجِرُواْ مَا لَكُمْ مِّن وَلاَيَتِهِم مِّن شَيْءٍ حتى يُهَاجِرُواْ ﴾ أي لا يحسدونهم على فضل ما أعطاهم الله على هجرتهم فإن ظاهر الآيات تقديم المهاجرين على الأنصار، وهذا امر مجمع عليه بين العلماء لا يختلفون في ذلك، ولهذا قال الإمام البزار عن سعيد بن المسيب عن حذيفة قال :« خيّرني رسول الله ﷺ بين الهجرة والنصرة فاخترت الهجرة »، وقوله تعالى :﴿ والذين آمَنُواْ وَلَمْ يُهَاجِرُواْ مَا لَكُمْ مِّن وَلاَيَتِهِم مِّن شَيْءٍ حتى يُهَاجِرُواْ ﴾، هذا هو الصنف الثالث من المؤمنين وهم الذين آمنوا ولم يهاجروا بل أقاموا في بواديهم، فهؤلاء ليس لهم في المغانم نصيب، ولا في خمسها إلا ما حضروا فيه القتال، كما روي عن يزيد بن الخصيب الأسلمي رضي الله عنه قال :« كان رسول الله ﷺ إذا بعث أميراً على سرية أو جيش أوصاه في خاصة نفسه بتقوى الله وبمن معه من المسلمين خيراً، وقال :» اغزوا باسم الله في سبيل الله، قاتلوا من كفر بالله، إذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى إحدى ثلاث خصال - أو خلال - فأيتهن ما أجابوك إليها فأقبل منهم، وكف عنهم، ادعهم إلى الإسلام فإن أجابوك فأقبل منهم وكف عنهم، ثم ادعهم إلى التحول من دارهم إلى دار المهاجرين وأعلمهم إن فعلوا ذلك أن لهم ما للمهاجرين وأن عليهم ما على المهاجرين، فإن أبوا واختاروا دارهم فأعلمهم أنهم يكونون كأعراب المسلمين يجري عليهم حكم الله الذي يجري على المؤمنين ولا يكون لهم في الفيء والغنيمة نصيب إلا أن يجاهدوا مع المسلمين، فإن هم أبوا فادعهم إلى إعطاء الجزية، فإن أجابوا فاقبل منهم وكف عنهم، فإن أبوا فاستعن بالله وقاتلهم «
1001
، وقوله :﴿ وَإِنِ استنصروكم فِي الدين فَعَلَيْكُمُ النصر ﴾ يقول تعالى : وإن استنصركم هؤلاء الأعراب الذين لم يهاجروا في قتال ديني على عدو لهم فانصروهم فإنه واجب عليكم نصرهم لأنهم إخوانكم في الدين إلا أن يستنصروكم على قوم من الكفار بينكم وبينهم ميثاق أي مهادنة إلى مدة فلا تخفروا ذمتكم ولا تنقضوا أيمانكم مع الذين عاهدتم.
1002
لما ذكر تعالى أن المؤمنين بعضهم أولياء بعض، قطع الموالاة بينهم وبين الكفار، كما قال الحاكم عن أسامة عن النبي ﷺ قال :« لا يتوارث أهل ملتين ولا يرث مسلم كافراً ولا كافر مسلماً، ثم قرأ :﴿ والذين كَفَرُواْ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأرض وَفَسَادٌ كَبِير ﴾ »، وفي « الصحيحين » :« لا يرث المسلم الكافر ولا الكافر المسلم » وفي « المسند » و « السنن » :« لا يتوارث أهل ملتين شتى ». وقال رسول الله ﷺ :« أنا بريء من كل مسلم بين ظهراني المشركين، لا يتراءى ناراهما » وروى أبو داود عن سمرة بن جندب : أما بعد قال رسول الله ﷺ :« من جامع المشرك وسكن معه فإنه مثله » ومعنى قوله :﴿ إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأرض وَفَسَادٌ كَبِيرٌ ﴾ أي إن لم تجانبوا المشركين وتوالوا المؤمنين وإلا وقعت فتنة في الناس، وهو التباس الأمرو اختلاط المؤمنين بالكافرين بين الناس فساد منتشر عريض طويل.
لما ذكر تعالى حكم المؤمنين في الدنيا، عطف بذكر مالهم في الآخرة، فأخبر عنهم بحقيقة الإيمان، وأنه سبحانه سيجازيهم بالمغفرة والصفح عن الذنوب إن كانت، وبالرزق الكريم وهو الحسن الكثير الطيب الشريف الذي لا ينقطع ولا ينقضي، ولا يسأم ولا يمل لحسنه وتنوعه، ثم ذكر أن الأتباع لهم في الدنيا على ما كانوا عليه من الإيمان والعمل الصالح فهم معهم في الآخرة كما قال :﴿ والسابقون الأولون ﴾ [ التوبة : ١٠٠ ] الآية. وقال :﴿ والذين جَآءُوا مِن بَعْدِهِمْ ﴾ [ الحشر : ١٠ ] الآية، وفي الحديث المتفق عليه :« المرء مع أحب »، وفي الحديث الآخر :« ومن أحب قوماً فهو منهم » وفي رواية :« حشر معهم »، وأما قوله تعالى :﴿ وَأْوْلُواْ الأرحام بَعْضُهُمْ أولى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ الله ﴾ أي في حكم الله، وليس المراد بقوله :﴿ وَأْوْلُواْ الأرحام ﴾ خصوصية ما يطلقه علماء الفرائض، على القرابة الذين لا فرض لهم ولا هم عصبة، بل يدلون بوارث كالخالة والخال والعمة ونحوهم، كما قد يزعمه بعضهم. بل الحق أن الآية عامة تشمل جميع القرابات. كما نص عليه عليه ابن عباس ومجاهد وعكرمة وغير واحد. على أنها ناسخة للإرث بالحلف والإخاء اللذين كانوا يتوارثون بهما أولاً، وعلى هذا فتشمل ذوي الأرحام بالاسم الخاص والله أعلم.
Icon