تفسير سورة هود

السراج المنير في الإعانة على معرفة بعض معاني كلام ربنا الحكيم الخبير
تفسير سورة سورة هود من كتاب السراج المنير في الإعانة على معرفة بعض معاني كلام ربنا الحكيم الخبير .
لمؤلفه الشربيني . المتوفي سنة 977 هـ
مكية إلا ﴿ وأقم الصلاة ﴾ الآية وإلا ﴿ فلعلك تارك ﴾ الآية و﴿ أولئك يؤمنون به ﴾ الآية مائة وثنتان أو ثلاث وعشرون آية، وكلماتها ألف وسبعمائة وخمس عشرة، وحروفها سبعة آلاف وستمائة وخمسة أحرف. وعن أبي بكر رضي الله عنه قال : قلت : يا رسول الله، عجل إليك الشيب ؟ قال :" شيبتني هود وأخواتها. الحاقة والواقعة وعمّ يتساءلون هل أتاك حديث الغاشية ".
﴿ بسم الله ﴾ أي : الذي له تمام العلم وكمال الحكمة وجميع القدرة ﴿ الرحمن ﴾ لجميع خلقه بعموم البشارة والنذارة ﴿ الرحيم ﴾ لأهل ولايته بالحفظ في سلوك سبيله.

وقوله تعالى :
﴿ الر كتاب ﴾ مبتدأ وخبر، أو كتاب خبر مبتدأ محذوف، وتقدم الكلام على أوائل السور أول سورة البقرة. وقرأ أبو عمرو وابن عامر وشعبة وحمزة والكسائي بالإمالة، والباقون بالفتح. وقوله تعالى :﴿ أحكمت آياته ﴾ صفة للكتاب وفسر الأحكام بوجوه :
الأوّل : أحكمت آياته، أي : نظمت نظماً محكماً لا يقع فيه نقص ولا خلل كالبناء المحكم المرصف، ولا يعتريه إخلال من جهة اللفظ، والمعنى : ولا يستطيع أحد نقض شيء منه ولا الطعن في شيء من بلاغته أو فصاحته.
الثاني : أنّ الأحكام عبارة عن منع الفساد من الشيء فقوله :﴿ أحكمت آياته ﴾ أي : لم تنسخ بكتاب كما نسخت الكتب والشرائع به كما قال ابن عباس.
الثالث : أنها أحكمت بالحجج والدلائل، أو جعلت حكيمة منقول من حكم بالضم إذا صار حكيماً ؛ لأنها مشتملة على أمهات الحكم النظرية والعملية وقوله تعالى :﴿ ثم فصلت ﴾ صفة أخرى للكتاب، أي : بينت بالأحكام والقصص والمواعظ والأخبار، وبالإنزال نجماً نجماً، أو فصل فيها ولخص ما يحتاج إليه، أو بجعلها سوراً.
وقال الحسن أحكمت بالأمر والنهي ثم فصلت بالوعد والوعيد.
تنبيه : معنى ثم في قوله :﴿ ثم فصلت ﴾ ليس للتراخي في الوقت لكن في الحال كما تقول : هي محكمة أحسن الإحكام ثم مفصلة أحسن التفصيل وفلان كريم الأصل ثم كريم الفعل. وقوله تعالى ﴿ من لدن حكيم خبير ﴾ أي : الله تعالى صفة أخرى للكتاب، والتقدير : الر كتاب من حكيم خبير أو خبر بعد خبر والتقدير : الر من لدن حكيم خبير أو صلة لأحكمت وفصلت، أي : أحكمت وفصلت من لدن حكيم خبير. وعلى هذا التقدير قد حصل بين أوائل هذه السورة وبين آخرها مناسبة لطيفة، كأنه يقول تعالى : أحكمت آياته من لدن حكيم وفصلت من لدن خبير عالم بكيفيات الأمور.
وقوله تعالى :﴿ أن لا تعبدوا إلا الله ﴾ يحتمل وجوهاً : الأوّل : أن تكون مفعولاً له والتقدير : كتاب أحكمت آياته ثم فصلت لأجل أن لا تعبدوا إلا الله. الثاني : أن تكون مفسرة ؛ لأنّ في تفصيل الآيات معنى القول، قال الرازي : والحمل على هذا أولى ؛ لأنّ قوله تعالى :﴿ وأن استغفروا ﴾ معطوف على قوله تعالى :﴿ أن لا تعبدوا ﴾ فيجب أن يكون معناه، أي : لا تعبدوا ليكون الأمر معطوفاً على النهي، فإنّ كونه بمعنى لأن لا تعبدوا يمنع عطف الأمر عليه. الثالث : أن يكون كلاماً مبتدأ منقطعاً عما قبله على لسان النبيّ صلى الله عليه وسلم إغراءً منه على اختصاص الله تعالى بالعبادة، ويدلّ عليه قوله صلى الله عليه وسلم ﴿ إنني لكم منه ﴾ أي : الله ﴿ نذير ﴾ بالعقاب على الشرك ﴿ وبشير ﴾ بالثواب على التوحيد، كأنه قيل ترك عبادة غير الله تعالى بمعنى اتركوها إنني لكم منه نذير وبشير كقوله تعالى :﴿ فضرب الرقاب ﴾ [ محمد، ٤ ].
تنبيه : هذه الآية الكريمة مشتملة على أشياء مترتبة : الأوّل : أنه تعالى أمر أن لا تعبدوا إلا الله لأنّ ما سواه محدث مخلوق مربوب، وإنما حصل بتكوين الله وإيجاده، والعبادة عبارة عن إظهار الخضوع والخشوع ونهاية التواضع والتذلل، وذلك لا يليق إلا بالخالق المدبر الرحيم المحسن، فثبت أن عبادة غير الله تعالى منكرة.
المرتبة الثانية : قوله تعالى :﴿ وأن استغفروا ربكم ﴾ المرتبة الثالثة : قوله ﴿ ثم توبوا إليه ﴾ واختلفوا في بيان الفرق بين هاتين المرتبتين على وجوه : الأوّل : أنّ معنى قوله ﴿ وأن استغفروا ﴾، أي : اطلبوا من ربكم المغفرة لذنوبكم، ثم بين الشيء الذي يطلب به ذلك وهو التوبة. فقال : ثم توبوا إليه ؛ لأنّ الداعي إلى التوبة والمحرك عليها هو الاستغفار الذي هو عبارة عن طلب المغفرة فالاستغفار مطلوب بالذات والتوبة مطلوبة لكونها من مهمات الاستغفار، وما كان آخراً في الحصول كان أولاً في الطلب، فلهذا السبب قدم ذكر الاستغفار على التوبة.
الثاني : وأن استغفروا من الشرك والمعاصي ثم توبوا، أي : ارجعوا إليه بالطاعة. الثالث : الاستغفار طلب من الله تعالى لإزالة ما لا ينبغي والتوبة سعي من الإنسان في إزالة ما لا ينبغي فقدم الاستغفار ليدل على أنّ المؤمن يجب عليه أن لا يطلب الشيء إلا من مولاه فإنه هو الذي يقدر على تحصيله، ثم بعد الاستغفار ذكر التوبة ؛ لأنها عمل يأتي به الإنسان ويتوسل به إلى دفع المكروه، والاستعانة بفضل الله تعالى تقدم على الاستعانة بسعي النفس، ثم إنه تعالى لما ذكر هذه المراتب الثلاثة ذكر بعدها ما يرتب عليها من الآثار المطلوبة، ومن المعلوم أنّ المطالب محصورة في نوعين ؛ لأنه إنما يكون حصولها في الدنيا أو في الآخرة أما المنافع الدنيوية فهي المرادة من قوله تعالى :﴿ يمتعكم متاعاً حسناً ﴾ أي : بطيب عيش وسعة رزق ﴿ إلى أجل مسمى ﴾ وهو الموت. فإن قيل : إنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قال :«الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر ». وقال أيضاً :«خص البلاء بالأنبياء ثم الأولياء ثم الأمثل فالأمثل ». وقال تعالى :﴿ ولولا أن يكون الناس أمّة واحدة لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم سقفاً من فضة ﴾ [ الزخرف، ٣٣ ] فهذه النصوص دالة على أن نصيب المشتغل بالطاعات في الدنيا هو الشدّة والبلية، ومقتضى هذه الآية أن نصيب المشتغل بالطاعات الراحة في الدنيا فكيف الجمع بينهما ؟
أجيب : بأن المشتغل بعبادة الله ومحبته مشتغل بحب شيء يمتنع تغيره وزواله وفناؤه، فكلما كان إمعانه في ذلك الطريق أكثر وتوغله فيه أتمّ كان انقطاعه عن الخلق أتمّ وأكمل، وكلما كان الكمال في هذا الباب أكثر كان الابتهاج والسرور أكمل ؛ لأنه أمن من تغير مطلوبه وأمن من زوال محبوبه، وأمّا من كان مشتغلاً بحب غير الله كان أبداً في ألم الخوف من فوات المحبوب وزواله، وكان عيشه منغصاً وقلبه مضطرباً. ولذلك قال تعالى في صفة المشتغلين بخدمته ﴿ فلنحيينه حياة طيبة ﴾ [ النحل، ٩٧ ]. وقيل : المراد بالمتاع الحسن : عدم العذاب بعذاب الاستئصال كما استأصل أهل القرى الذين كفروا. وسمى سبحانه وتعالى منافع الدنيا بالمتاع لأجل التنبيه على حقارتها وقلتها، ونبه تعالى على كونها منقضية بقوله تعالى :﴿ إلى أجل مسمى ﴾ فصارت هذه الآية دالة على كونها حقيرة خسيسة منقضية. وأمّا المنافع الأخروية فقد ذكرها تعالى بقوله تعالى :﴿ ويؤت ﴾ أي : في الآخرة ﴿ كل ذي فضل ﴾ أي : في العمل ﴿ فضله ﴾ أي : جزاءه ؛ لأنّ مراتب السعادات في الآخرة مختلفة ؛ لأنها متقدرة بمقدار الدرجات الحاصلة في الدنيا، فلما كان الإعراض عن غير الحق والإقبال على عبودية الحق درجات غير متناهية فكذلك مراتب السعادة الأخروية غير متناهية، فلهذا السبب قال تعالى :﴿ ويؤت كل ذي فضل فضله ﴾. وقال أبو العالية : من كثرت طاعاته في الدنيا زادت درجاته في الآخرة. وقال ابن عباس : من زادت حسناته على سيئاته دخل الجنة، ومن زادت سيئاته على حسناته دخل النار، ومن استوت سيئاته وحسناته كان من أهل الأعراف ثم يدخلون الجنة. وقال ابن مسعود : من عمل سيئة كتبت له سيئة، ومن عمل حسنة كتبت له عشر حسنات، فإن عوقب بالسيئة التي عملها في الدنيا بقيت له عشر حسنات وإن لم يعاقب بها في الدنيا أخذ من حسناته العشر واحدة وبقي له تسع حسنات، ثم يقول ابن مسعود : هلك من غلب آحاده أعشاره. وقوله تعالى :﴿ وإن تولوا ﴾ فيه حذف إحدى التاءين، أي : وإن تعرضوا عما جئتكم به من الهدى ﴿ فإني ﴾ أي : فقل لهم إني ﴿ أخاف عليكم عذاب يوم كبير ﴾ هو يوم القيامة وصف بالكبر كما وصف بالعظم والثقل. وقيل يوم الشدائد وقد ابتلوا بالقحط حتى أكلوا الجيف.
﴿ إلى الله مرجعكم ﴾ أي : رجوعكم في ذلك اليوم فيثيب المحسن على إحسانه، ويعاقب المسيء على إساءته ﴿ وهو على كل شيء قدير ﴾ أي : قادر على جميع المقدورات لا دافع لقضائه ولا مانع لمشيئته، ومنه الثواب والعقاب، وفي ذلك دلالة على قدرة عالية وجلالة عظيمة لهذا الحاكم وعلى ضعف لهذا العبد، والملك القاهر العالي إذا رأى عاجزاً مشرفاً على الهلاك فإنه يخلصه من الهلاك، ومنه المثل المشهور : ملكت فأسحج، أي : فاعف، يقول مصنف هذا الكتاب : قد أفنيت عمري في خدمة العلم ومطالعة الكتب ولا رجاء لي في شيء إلا أني في غاية الذلة والقصور. والكريم إذا قدر عفا. فأسألك يا أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين وساتر عيوب المعيوبين أن تفيض سجال رحمتك عليّ وعلى والديّ وأولادي وإخواني وأحبابي، وأن تخصني وإياهم بالفضل والتجاوز والجود والكرم.
واختلفوا في سبب نزول قوله تعالى :﴿ ألا إنهم يثنون صدورهم ﴾ فقال ابن عباس : نزلت في الأخنس بن شريق وكان رجلاً حلو الكلام حلو المنظر يلقى رسول الله صلى الله عليه وسلم بما يحب وينطوي بقلبه على ما يكره فمعنى قوله تعالى :﴿ يثنون صدورهم ﴾ يخفون ما في صدورهم من الشحناء والعداوة. وقال عبد الله بن شدّاد : نزلت في بعض المنافقين كان إذا مرّ برسول الله صلى الله عليه وسلم ثنى صدره وظهره وطأطأ رأسه وغطى وجهه كي لا يراه النبيّ صلى الله عليه وسلم وقال قتادة : كانوا يحنون ظهورهم كي لا يسمعوا كلام الله تعالى ولا ذكره. وروى البخاري عن ابن عباس أنها نزلت فيمن كان يستحي أن يتخلى أو يجامع فيفضي إلى السماء. وقيل : كان الرجل من الكفار يدخل بيته ويرخي ستره ويتغشى بثوبه ويقول : هل يعلم الله ما في قلبي. وقال السدي : يثنون صدورهم : أي : يعرضون بقلوبهم من قولهم ثنيت عناني ﴿ ليستخفوا منه ﴾ أي : من الله تعالى بسرهم فلا يطلع رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنون عليه. وقيل : من رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد قيل : إنها نزلت في طائفة من المشركين قالوا : إن أرخينا علينا ستوراً واستغشينا ثياباً وطوينا صدورنا على عداوة محمد كيف يعلم ﴿ ألا حين يستغشون ثيابهم ﴾ أي : يأوون إلى فراشهم ويتغطون بثيابهم ﴿ يعلم ﴾ تعالى ﴿ ما يسرّون ﴾ في قلوبهم ﴿ وما يعلنون ﴾ بأفواههم، أي : أنه لا تفاوت في علمه تعالى بين إسرارهم وإعلانهم، فلا وجه لتوصلهم إلى ما يريدون من الإخفاء ﴿ إنه ﴾ تعالى ﴿ عليم بذات الصدور ﴾ أي : بالقلوب وأحوالها.
ولما أعلم تعالى ما يسرّون وما يعلنون أردفه بما يدل على كونه عالماً بجميع المعلومات بقوله تعالى :
﴿ وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها ﴾ فذكر تعالى أن رزق كل حيوان إنما يصل إليه من الله تعالى، فلو لم يكن عالماً بجميع المعلومات لما حصلت هذه المهمات، والدابة اسم كل حيوان دب على وجه الأرض، ولا شك أن أقسام الحيوانات وأنواعها كثيرة وهي الأجناس التي تكون في البرّ والبحر والجبال، والله تعالى عالم بكيفية طباعها وأعضائها وأحوالها وأغذيتها ومساكنها وما يوافقها ويخالفها، فالإله المدبر لأطباق السماوات والأرض ولطبائع الحيوانات والنبات كيف لا يكون عالماً بأحوالها روي أن موسى عليه السلام عند نزول الوحي عليه تعلق قلبه بأحوال أهله فأمره الله تعالى أن يضرب عصاه على صخرة، فانشقت وخرج منها صخرة ثانية، ثم ضرب عصاه عليها فانشقت وخرج منها صخرة ثالثة، ثم ضرب بعصاه عليها فانشقت فخرجت منها دودة كالذرة وفي فيها شيء يجري مجرى الغذاء لها، ورفع الله تعالى الحجاب عن سمع موسى عليه السلام فسمع أنّ الدودة كانت تقول : سبحان من يراني ويسمع كلامي ويعرف مكاني ويذكرني ولا ينساني. فإن قيل : إن كلمة ﴿ على ﴾ للوجوب فيدل على أنّ إيصال الرزق إلى الدابة واجب على الله تعالى. أجيب : بأنه تعالى إنما أتى بذلك تحقيقاً لوصوله بحسب الوعد والفضل والإحسان وحملاً على التوكل فيه. وفي هذه الآية دليل على أنّ الرزق إلى كل حيوان واجب على الله تعالى بحسب الوعد والله تعالى لا يخل به، ثم قد نرى أنّ إنساناً لا يأكل من الحلال طول عمره، فلو لم يكن الحرام رزقاً لكان الله تعالى ما أوصل رزقه إليه فيكون الله تعالى قد أخل بالواجب، وذلك محال فعلمنا أنّ الحرام قد يكون رزقاً ﴿ ويعلم ﴾ تعالى ﴿ مستقرّها ﴾ قال ابن عباس : هو المكان الذي تأوي إليه وتستقر فيه ليلاً ونهاراً ﴿ ومستودعها ﴾ هو الذي تدفن فيه إذا ماتت. وقال عبد الله بن مسعود : المستقر : أرحام الأمهات، والمستودع : المكان الذي تموت فيه. وقال عطاء : المستقر : أرحام الأمهات، والمستودع : أصلاب الآباء. وقيل : الجنة أو النار والمستودع القبر. لقوله تعالى في صفة الجنة والنار :﴿ حسنت مستقرّا ﴾ [ الفرقان : ٧٦ ] ﴿ وساءت مستقرّا ومقاماً ﴾ [ الفرقان : ٦٦ ] ولا مانع أن يفسر ذلك بهذا كله ﴿ كل ﴾ أي : كل واحدة من الدواب ورزقها ومستقرّها ومستودعها ﴿ في كتاب ﴾ أي : ذكرها مثبت في اللوح المحفوظ ﴿ مبين ﴾ أي : بيّن كما قال تعالى ﴿ ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين ﴾ [ الأنعام، ٥٩ ].
ولما أثبت تعالى بالدليل المتقدّم كونه عالماً بالمعلومات أثبت كونه تعالى قادراً على كل المقدورات بقوله تعالى :﴿ وهو الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ﴾ أي : من أيام الدنيا أوّلها الأحد وآخرها الجمعة، وتقدّم الكلام على تفسير ذلك في سورة الأعراف ﴿ وكان عرشه على الماء ﴾ قال كعب : خلق ياقوتة خضراء، ثم نظر إليها بالهيبة فصارت ماء يرتعد، ثم خلق الريح فجعل الماء على متنها، ثم وضع العرش على الماء. وقال أبو بكر الأصمّ : ومعنى قوله تعالى :﴿ وكان عرشه على الماء ﴾ كقولهم : السماء على الأرض، وليس ذلك على سبيل كون أحدهما ملتصقاً بالآخر. وقال حمزة : إن الله عز وجل كان عرشه على الماء ثم خلق السماوات والأرض وخلق القلم، فكتب به ما هو خالقه، وما هو كائن من خلقه، ثم إن ذلك الكتاب سبح الله تعالى ومجده ألف عام قبل أن يخلق شيئاً من خلقه، ففي هذا دلالة على كمال قدرته تعالى ؛ لأنّ العرش مع كونه أعظم من السماوات والأرض كان على الماء، وقد أمسكه الله تعالى من غير دعامة تحته ولا علامة فوقه. وقوله تعالى ﴿ ليبلوكم ﴾ متعلق بخلق، أي : خلقها وما فيها منافع لكم ومصالح ليختبركم وهو أعلم بكم منكم ﴿ أيكم أحسن عملاً ﴾ أي : أطوع لله وأورع عن محارم الله، وهذا القيام الحجة عليهم. وقد مرّ أمثال ذلك، ولما بين تعالى أنه إنما خلق هذا العالم لأجل ابتلاء المكلفين وامتحانهم، وهذا يوجب القطع بحصول الحشر والنشر ؛ لأنّ الابتلاء والامتحان يوجب تخصيص المحسن بالرحمة والثواب وتخصيص المسيء بالعقاب وذلك لا يتم إلا مع الاعتراف بالمعاد والقيامة. خاطب تعالى محمداً صلى الله عليه وسلم فقال جلا وعلا :﴿ ولئن قلت ﴾ يا محمد لهؤلاء الكفار من قومك ﴿ إنكم مبعوثون من بعد الموت ﴾ أي : للحساب والجزاء ﴿ ليقولن الذي كفروا إن ﴾ أي : ما ﴿ هذا ﴾ أي : القرآن بالبعث أو الذي تقوله ﴿ إلا سحر مبين ﴾ أي : بين. وقرأ حمزة والكسائي بفتح السين وألف بعدها وكسر الحاء، فيكون ذلك راجعاً للنبيّ صلى الله عليه وسلم والباقون بكسر السين وسكون الحاء.
ولما حكى تعالى عن الكفار أنهم يكذبون رسول الله صلى الله عليه وسلم حكى عنهم نوعاً آخر بقوله تعالى :
﴿ ولئن أخرنا عنهم العذاب إلى ﴾ مجيء ﴿ أمّة ﴾ أي : جماعة من الأوقات ﴿ معدودة ﴾ أي : قليلة ﴿ ليقولنّ ﴾ أي : استهزاء ﴿ ما يحبسه ﴾ أي : ما يمنعه من الوقوع قال الله تعالى :﴿ ألا يوم يأتيهم ﴾ كيوم بدر ﴿ ليس مصروفاً ﴾ أي : مدفوعاً العذاب ﴿ عنهم وحاق ﴾ أي : نزل ﴿ بهم ﴾ من العذاب ﴿ ما كانوا به يستهزؤون ﴾ أي : الذي كانوا يستعجلون، فوضع يستهزؤون موضع يستعجلون ؛ لأنّ استعجالهم كان استهزاء. فإن قيل : لم قال تعالى :﴿ وحاق ﴾ على لفظ الماضي مع أنّ ذلك لم يقع ؟ أجيب : بأنه وضع الماضي موضع المستقبل تحقيقاً ومبالغة في التأكيد والتقرير والتهديد.
ولما ذكر تعالى أنّ عذاب الكفار وإن تأخر إلا أنه لا بدّ وأن يحيق بهم ذكر بعده ما يدل على كفرهم وعلى كونهم مستحقين لذلك العذاب بقوله تعالى :﴿ ولئن أذقنا ﴾ أي : أعطينا ﴿ الإنسان ﴾ أي : الكافر ﴿ منا رحمة ﴾ أي : نعمة كغنى وصحة بحيث يجد لذتها ﴿ ثم نزعناها ﴾ أي : سلبنا تلك النعمة ﴿ منه إنه ليؤس ﴾ أي : قنوط من رحمة الله تعالى لقلة صبره وعدم ثقته به ﴿ كفور ﴾ أي : جحود لنعمتنا عليه، وأمّا المسلم الذي يعتقد أنّ تلك النعمة من جود الله وفضله وإحسانه فإنه لا يحصل له اليأس بل يقول : لعله تعالى يردها عليّ بعد ذلك أحسن وأكمل وأفضل مما كانت.
﴿ ولئن أذقناه ﴾ أي : الكافر ﴿ نعماء بعد ضرّاء مسته ﴾ كصحة بعد سقم وغنى بعد عدم، وفي اختلاف الفعلين وهما أذقناه ومسته من حيث الإسناد إليه تعالى في الأوّل وإلى الضرّاء في الثاني نكتة عظيمة وهي أنّ النعمة صادرة من الله تعالى تفضلاً منه لخبر :«ما أحد يدخل الجنة إلا برحمة الله تعالى. قيل : ولا أنت يا رسول الله ؟ قال : ولا أنا ». والضرر صادر من العبد كسباً ؛ لأنه السبب فيه باجتلابه إياه بالمعاصي غالباً لقوله تعالى :﴿ ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك ﴾ [ النساء، ٧٩ ] ولا ينافي ذلك قوله تعالى :﴿ قل كل من عند الله ﴾ [ النساء، ٧٨ ] فإن الكلّ منه إيجاداً، غير أنّ الحسنة إحسان وامتحان، والسيئة مجازاة وانتقام لخبر :«ما من مسلم يصيبه وصب ولا نصب حتى الشوكة يشاكها وحتى انقطاع شسع نعله إلا بذنب وما يعفو الله أكثر ». ﴿ ليقولنّ ﴾ أي : الذي أصابه الصحة والغنى ﴿ ذهب السيئات ﴾ أي : المصائب التي أصابتني ﴿ عني ﴾ ولم يتوقع زوالها ولا يشكر عليها ﴿ إنه لفرح ﴾ أي : فرح بطر ﴿ فخور ﴾ على الناس بما أذاقه الله تعالى من نعمائه، وقد شغله الفرح والفخر عن الشكر فبيّن سبحانه وتعالى في هذه الآية أنّ أحوال الدنيا غير باقية بل هي أبداً في التغير والزوال والتحوّل والانتقال، فإنّ الإنسان إمّا أن يتحوّل من النعمة إلى المحنة، ومن اللذات إلى الآفات كالقسم الأوّل، وإمّا أن يكون بالعكس من ذلك وهو أن ينتقل من المكروه إلى المحبوب كالقسم الثاني.
ولما بيّن تعالى أنّ الكافر عند الابتلاء لا يكون من الصابرين، وعند الفوز بالنعماء لا يكون من الشاكرين بين حال المتقين بقوله تعالى :﴿ إلا ﴾ أي : لكن ﴿ الذين صبروا ﴾ على الضرّاء ﴿ وعملوا الصالحات ﴾ أي : في النعماء، أي : فإنهم إن أصابتهم شدّة صبروا، وإن نالتهم نعمة شكروا ﴿ أولئك لهم مغفرة وأجر كبير ﴾ فجمع لهم تعالى بين هذين المطلوبين، أحدهما : زوال العقاب والخلاص منه وهو المراد من قوله تعالى :﴿ لهم مغفرة ﴾، والثاني : الفوز بالثواب ودخول الجنة وهو المراد من قوله تعالى :﴿ وأجر كبير ﴾.
﴿ فلعلك ﴾ يا محمد ﴿ تارك بعض ما يوحى إليك ﴾ فلا تبلغهم إياه لتهاونهم به، فإنهم كانوا يستهزؤون بالقرآن ويضحكون منه. وقرأ حمزة والكسائي بالإمالة محضة وورش بين اللفظين والباقون بالفتح. ﴿ وضائق به صدرك ﴾ أي : بتلاوته عليهم لأجل ﴿ أن يقولوا لولا ﴾ أي : هلا ﴿ أنزل عليه كنز ﴾ ينفقه في الاستتباع كالملوك ﴿ أو جاء معه ملك ﴾ يصدقه كما اقترحنا، وروي عن ابن عباس :«أنّ رؤساء مكة قالوا : يا محمد اجعل لنا جبال مكة ذهباً إن كنت رسولاً وقال آخرون : ائتنا بالملائكة ليشهدوا بنبوّتك فقال : لا أقدر على ذلك » فنزل ﴿ إنما أنت نذير ﴾ فلا عليك إلا البلاغ لا الإتيان بما اقترحوه ﴿ والله على كل شيء وكيل ﴾ فتوكل عليه إنه عالم بحالهم وفاعل بهم جزاء أقولهم وأفعالهم.
﴿ أم ﴾ أي : بل ﴿ يقولون ﴾ كفار مكة ﴿ افتراه ﴾ أي : اختلقه من تلقاء نفسه وليس هو من عند الله، قال الله تعالى :﴿ قل ﴾ لهم يا محمد ﴿ فأتوا بعشر سور مثله ﴾ في البيان وحسن النظم ﴿ مفتريات ﴾ فإنكم عربيون مثلي. قال ابن عباس : هذه السور التي وقع بها هذا التحدي معينة وهي سورة البقرة، وآل عمران، والنساء، والمائدة، والأنعام، والأعراف، والأنفال، والتوبة، ويونس، وهود، وقيل : التحدي وقع بمطلق السور وهو متقدّم على التحدّي بسورة واحدة، والتحدّي بسورة واحدة وقع في سورة البقرة، وفي سورة يونس، أمّا تقدم هذه السورة على سورة البقرة فظاهر ؛ لأن هذه السورة مكية وسورة البقرة مدنية، وأمّا في سورة يونس فلأنّ كل واحدة من هاتين السورتين مكية، فتكون سورة هود متقدّمة في النزول على سورة يونس كما قاله الرازي، وأنكر المبرد هذا وقال : بل سورة يونس أولاً وقال معنى قوله في سورة يونس ﴿ فأتوا بسورة مثله ﴾ [ يونس، ٣٨ ] أي : مثله في الخبر عن الغيب والأحكام والوعد والوعيد، فعجزوا، فقال لهم في سورة هود : إن عجزتم عن الإتيان بسورة مثله في الأخبار والأحكام والوعد والوعيد فأتوا بعشر سور من غير وعد ولا وعيد، وإنما هي مجرّد البلاغة ﴿ وادعوا ﴾ أي : وقل لهم يا محمد ادعوا للمعاونة على ذلك ﴿ من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين ﴾ في أنه مفترى.
والضمير في قوله تعالى :﴿ فإن لم يستجيبوا لكم ﴾ أي : بإتيان ما دعوتموهم إليه للنبيّ صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين ؛ لأنه صلى الله عليه وسلم والمؤمنين كانوا يتحدونهم، وقال تعالى في موضع آخر :﴿ فإن لم يستجيبوا لك فاعلم ﴾ [ القصص، ٥٠ ] والتعظيم للنبيّ صلى الله عليه وسلم ﴿ فاعلموا أنما أنزل ﴾ ملتبساً ﴿ بعلم الله ﴾ أي : بما لا يعلمه إلا الله تعالى من نظم يعجز الخلق وإخبار بغيوب لا سبيل لهم إليه ولا يقدر عليه سواه، وقوله تعالى :﴿ وأن ﴾ مخففة من الثقيلة، أي : وأنه ﴿ لا إله إلا هو ﴾ وحده وأن توحيده واجب والإشراك به ظلم عظيم ﴿ فهل أنتم مسلمون ﴾ أي : ثابتون على الإسلام راسخون مخلصون فيه إذ تحقق عندكم إعجازه مطلقاً. وقيل : الخطاب للمشركين والضمير في لم يستجيبوا لمن استطعتم، أي : فإن لم يستجب لكم من تدعونه من دون الله إلى المظاهرة على معارضته لعلمهم بالعجز عنه، وأنّ طاقتهم أقصر من أن تبلغه فاعلموا أنه منزل من عند الله، وأنّ ما دعاكم إليه من التوحيد حق، فهل أنتم بعد هذه الحجة القاطعة مسلمون، أي : أسلموا وفي مثل هذا الاستفهام إيجاب بليغ لما فيه من معنى الطلب والتنبيه على قيام الموجب وزوال العذر.
واختلف في سبب نزول قوله تعالى :﴿ من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها ﴾ أي : بعمله الذي يعمل من أعمال البرّ ﴿ نوف إليهم أعمالهم ﴾ أي : التي عملوها من خير كصدقة وصلة رحم ﴿ فيها ﴾ أي : في الدنيا ﴿ وهم فيها لا يبخسون ﴾ أي : نوصل إليهم أجور أعمالهم وافية كاملة من غير بخس في الدنيا وهو ما يرزقون فيها من الصحة والرياسة وسعة الرزق وكثرة الأولاد ونحو ذلك.
﴿ أولئك الذين ليس لهم في الآخرة إلا النار وحبط ﴾ أي : بطل ﴿ ما صنعوا ﴾ أي : عملوا ﴿ فيها ﴾ أي : الآخرة فلا ثواب لهم ﴿ وباطل ما كانوا يعملون ﴾ لأنه لغير الله تعالى، فقال مجاهد : نزلت في أهل الرياء قال صلى الله عليه وسلم «إن أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر قالوا : يا رسول الله، وما الشرك الأصغر ؟ قال : الرياء ». والرياء هو أن يظهر الإنسان الأعمال الصالحة لتحمده الناس ويعتقدوا فيه الصلاح، فهذا هو العمل الذي لغير الله تعالى نعوذ بالله من الخذلان وقال أكثر المفسرين : إنّها نزلت في الكافر، وأمّا المؤمن فيريد الدنيا والآخرة، وإرادته الآخرة غالبة فيجازى بحسناته في الدنيا ويثاب عليها في الآخرة. وعن أنس أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :«إنّ الله لا يظلم المؤمن حسنة يثاب عليها الرزق في الدنيا ويجزى بها في الآخرة. وأمّا الكافر فيطعم بحسناته في الدنيا حتى إذا أفضى إلى الآخرة لم تكن له حسنة يعطى بها خيراً ». وقيل : نزلت في المنافقين الذين يطلبون بغزوهم مع النبيّ صلى الله عليه وسلم الغنائم من غير أن يؤمنوا بالآخرة وثوابها. وقيل في اليهود والنصارى وهو منقول عن أنس.
ولما ذكر تعالى الذين يريدون بأعمالهم الحياة الدنيا وزينتها ذكر من كان يريد بعمله وجه الله تعالى والدار الآخرة بقوله تعالى :﴿ أفمن كان على بيّنة من ربه ﴾ قيل : هو النبيّ صلى الله عليه وسلم والبينة هي القرآن ﴿ ويتلوه ﴾ أي : يتبعه ﴿ شاهد ﴾ يصدقه ﴿ منه ﴾ أي : من الله تعالى وهو جبريل عليه السلام ﴿ ومن قبله ﴾ أي : القرآن ﴿ كتاب موسى ﴾ وهو التوراة شاهد له أيضاً وقوله تعالى ﴿ إماماً ﴾ أي : كتاباً مؤتماً به في الدين ﴿ ورحمة ﴾ أي : على المنزل عليهم ؛ لأنه الوصلة إلى الفوز بسعادة الدارين حال من كتاب موسى، والجواب محذوف لظهوره، والتقدير : أفمن كان على بينة من ربه كمن يريد الحياة الدنيا وزينتها وليس لهم في الآخرة إلا النار ليس مثله بل بينهم تفاوت بعيد وتباين بين. وقيل : هو من آمن من اليهود كعبد الله بن سلام وغيره، والمراد بالبينة : هو البيان والبرهان والمراد بالشاهد هو القرآن و﴿ منه ﴾ أي : من الله ﴿ ومن قبله كتاب موسى ﴾، أي : ويتلو ذلك البرهان من قبل مجيء القرآن كتاب موسى، أي : في دلالته على هذا المطلوب لا في الوجود. قال الرازي : وهذا القول هو الأظهر لقوله تعالى :﴿ أولئك يؤمنون به ﴾ وهذه صفة جمع ولا يجوز رجوعه إلى محمد صلى الله عليه وسلم انتهى. ويجوز أن تكون للتعظيم أو له صلى الله عليه وسلم ومن تبعه وربما يكون هذا أولى كما جرى عليه بعض المفسرين، والإشارة إلى من كان على بينة، والضمير في به للقرآن وإذا كان هذا الفريق ليس له في الآخرة إلا النار فهذا الفريق ليس له في الآخرة إلا الجنة ﴿ ومن يكفر به ﴾ أي : بالنبيّ صلى الله عليه وسلم أو القرآن ﴿ من الأحزاب ﴾ أي : أصناف الكفار فيدخل فيهم اليهود والنصارى والمجوس ﴿ فالنار موعده ﴾ يعني في الآخرة.
روى سعيد بن جبير عن أبي موسى أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قال :«لا يسمع بي يهوديّ ولا نصرانيّ فلا يؤمن بي إلا كان من أهل النار ». قال أبو موسى : فقلت في نفسي : إنّ النبي صلى الله عليه وسلم لا يقول مثل هذا إلا عن القرآن فوجدت الله تعالى يقول :﴿ ومن يكفر به من الأحزاب فالنار موعده ﴾ قال بعض العلماء : ولما دلت الآية على أنّ من يكفر به كانت النار موعده دلّ على أنّ من لا يكفر به كانت الجنة موعده وقوله تعالى :﴿ فلا تك في مرية ﴾ أي : في شك ﴿ منه ﴾ أي : القرآن أو الموعد ﴿ إنه الحق من ربك ﴾ الخطاب للنبيّ صلى الله عليه وسلم والمراد غيره لأنه صلى الله عليه وسلم لم يشك قط ويؤيد ذلك قوله تعالى :﴿ ولكن أكثر الناس لا يؤمنون ﴾ أي : لا يصدقون بما أوحينا إليك أو بأن موعد الكفار النار.
ثم وصف الله تعالى هؤلاء المنكرين الجاحدين بصفات كثيرة في معرض الذم. الصفة الأولى : كونهم مفترين على الله كما قال تعالى :﴿ ومن ﴾ أي : لا أحد ﴿ أظلم ممن افترى على الله كذباً ﴾ بنسبة الشريك والولد إليه، أو أسند إليه ما لم ينزله، أو نفى عنه ما أنزله. الصفة الثانية : أنهم يعرضون على الله تعالى في موقف الذل والهوان كما قال تعالى :﴿ أولئك يعرضون على ربهم ﴾ أي : يوم القيامة. فإن قيل : هم لا يختصون بهذا العرض لأنّ العرض عامّ في كل العباد كما قال تعالى :﴿ وعرضوا على ربك صفاً ﴾ [ الكهف، ٤٨ ] أجيب : بأنهم يعرضون فيفتضحون بشهادة الأشهاد عليهم كما قال تعالى :﴿ ويقول الأشهاد هؤلاء الذين كذبوا على ربهم ﴾ فيحصل لهم من الخزي والنكال ما لا مزيد عليه، وهذه هي الصفة الثالثة، واختلف في هؤلاء الأشهاد، فقال مجاهد : هم الملائكة الذين يحفظون أعمالهم عليهم في الدنيا، وقال مقاتل : هم الناس كما يقال على رؤوس الأشهاد، أي : على رؤوس الناس، وقال قوم : هم الأنبياء كما قال تعالى :﴿ فلنسألنّ الذين أرسل إليهم ولنسألنّ المرسلين ﴾ [ الأعراف، ٦ ]. والفائدة في اعتبار قول الأشهاد المبالغة في إظهار الفضيحة. فإن قيل : العرض على الله يقتضي أن يكون الله تعالى في حيز وهو تعالى منزه عن ذلك. أجيب : بأنهم يعرضون على الأماكن المعدّة للحساب والسؤال، أو يكون ذلك عرضاً على من يوبخ بأمر الله تعالى من الأنبياء والمؤمنين. والأشهاد جمع شاهد كصاحب وأصحاب، أو جمع شهيد كشريف وأشراف. قال أبو علي الفارسي : وكان هذا أرجح ؛ لأنّ ما جاء من ذلك في التنزيل جاء على فعيل كقوله تعالى :﴿ وجئنا بك شهيداً على هؤلاء ﴾ [ النحل، ٨٩ ]. وعن عبد الله بن عمر أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :«إنّ الله تعالى يدني المؤمن يوم القيامة فيستره من الناس فيقول : أي عبدي تعرف ذنب كذا وكذا فيقول : نعم، حتى إذا قرّره بذنوبه قال تعالى : سترتها عليك في الدنيا وقد سترتها لك اليوم، ثم يعطى كتاب حسناته »، وأمّا الكافر والمنافق فتقول الأشهاد : هؤلاء الذين كذبوا على ربهم ولما أخبر الله تعالى عن حالهم في عقاب القيامة أخبر عن حالهم في الحال بقوله تعالى :﴿ ألا لعنة الله على الظالمين ﴾ فبيّن تعالى أنهم في الحال ملعونون من عند الله، وهذه هي الصفة الرابعة.
ثم وصفهم بالصفة الخامسة بقوله تعالى :﴿ الذين يصدّون عن سبيل الله ﴾ أي : دينه، ثم وصفهم بالصفة السادسة بقوله تعالى :﴿ ويبغونها ﴾ أي : يطلبون السبيل ﴿ عوجاً ﴾ أي : معوجة، أي : كأنهم ظلموا أنفسهم بالتزام الكفر والضلال فقد أضافوا إليه المنع من الدين الحق وإلقاء الشبهات وتعويج الدلائل المستقيمة ؛ لأنه لا يقال في العامّي : إنه يبغي عوجاً، وإنما يقال ذلك فيمن يعرف كيف الاستقامة، وكيفية العوج بسبب إلقاء الشبهات وتقرير الضلالات، ثم وصفهم بالصفة السابعة بقوله تعالى :﴿ وهم ﴾ أي : والحال أنهم ﴿ بالآخرة هم كافرون ﴾ وتكرير لفظ هم لتأكيد كفرهم وتوغلهم فيه.
الصفة الثامنة : كونهم عاجزين عن الفرار من عذاب الله كما قال تعالى :﴿ أولئك لم يكونوا معجزين في الأرض ﴾ أي : ما كانوا معجزين الله في الدنيا أن يعاقبهم إذ لا يمكنهم أن يهربوا من عذابه، فإنّ هرب العبد من عذاب الله تعالى محال ؛ لأنه تعالى قادر على جميع الممكنات ولا تتفاوت قدرته بالقرب والبعد، والقوة والضعف. الصفة التاسعة : أنهم ليس لهم أولياء يدفعون عقاب الله تعالى عنهم كما قال تعالى :﴿ ما كان لهم من دون الله ﴾ أي : غيره ﴿ من أولياء ﴾ أي : أنصار يمنعوهم من عذابه. الصفة العاشرة : مضاعفة العذاب كما قال تعالى :﴿ يضاعف لهم العذاب ﴾ أي : بسبب إضلالهم غيرهم، وقيل : لأنّهم كفروا بالله وكفروا بالبعث والنشور. الصفة الحادية عشرة : قوله تعالى :﴿ وما كانوا يستطيعون السمع ﴾ قال قتادة : صم عن سماع الحق فلا يسمعون خيرا فينتفعون به ﴿ وما كانوا يبصرون ﴾ خيراً فيأخذوا به. قال ابن عباس : أخبر الله تعالى أنه أحال بين أهل الشرك وبين طاعة الله تعالى في الدنيا وفي الآخرة، أمّا في الدنيا فإنه قال :﴿ ما كانوا يستطيعون السمع وما كانوا يبصرون ﴾ وأمّا في الآخرة فإنه قال :﴿ فلا يستطيعون ٤٢ خاشعة أبصارهم ﴾ [ القلم، ٤٢، ٤٣ ].
الصفة الثانية عشرة : قوله تعالى :﴿ أولئك الذين خسروا أنفسهم ﴾ فإنهم اشتروا عبادة الآلهة بعبادة الله تعالى فكان مصيرهم إلى النار المؤبدة عليهم وذلك أعظم وجوه الخسرانات. الصفة الثالثة عشرة : قوله تعالى :﴿ وضلّ ﴾ أي : غاب ﴿ عنهم ما كانوا يفترون ﴾ على الله تعالى من دعوى الشريك وأنّ لآلهة تشفع لهم.
الصفة الرابعة عشرة : قوله تعالى :﴿ لا جرم أنهم في الآخرة هم الأخسرون ﴾ أي : لا أحد أبين وأكثر خسراناً منهم.
تنبيه : قال الفرّاء : إنّ ﴿ لا جرم ﴾ بمنزلة قولنا لا بدّ ولا محالة، ثم كثر استعمالها حتى صارت بمنزلة حقاً. تقول العرب : لا جرم إنك محسن على معنى حقاً إنك محسن. وقال الزجاج : إنّ كلمة ﴿ لا ﴾ نفي لما ظنوا أنه ينفعهم، و﴿ جرم ﴾ معناه : كسب ذلك الفعل والمعنى : لا ينفعهم ذلك وكسب ذلك الفعل لهم الخسران في الدنيا والآخرة. قال الأزهري : وهذا من أحسن ما قيل في هذا الباب. وقال سيبويه :﴿ لا ﴾ ردّ على أهل الكفر كما مرّ. و﴿ جرم ﴾ معناه : أحق والمعنى : أنه أحق كفرهم وقوع العذاب والخسران بهم واحتج سيبويه بقول الشاعر :
ولقد طعنت أبا عيينة طعنة جرمت فزارة بعدها أن يغضبوا
أراد أحقت الطعنة فزارة أن يغضبوا.
ولما ذكر تعالى عقوبة الكفار وخسرانهم أتبعه بذكر أحوال المؤمنين في الدنيا وربحهم في الآخرة بقوله تعالى :﴿ إنّ الذين آمنوا وعملوا الصالحات وأخبتوا إلى ربهم ﴾ أي : اطمأنوا إليه وخشعوا، إذ الإخبات في اللغة هو الخشوع والخضوع وطمأنينة القلب، ويتعدّى بإلى وباللام فإذا قلت : أخبت فلان إلى كذا، فمعناه اطمأن إليه، وإذا قلت : أخبت له فمعناه خشع وخضع له، فقوله تعالى :﴿ إنّ الذين آمنوا وعملوا الصالحات ﴾ إشارة إلى جميع عمل الجوارح. وقوله تعالى :﴿ وأخبتوا ﴾ إشارة إلى أعمال القلوب وهي الخشوع والخضوع لله تعالى، وإن هذه الأعمال الصالحة لا تنفع في الآخرة إلا بحصول أعمال القلب وهي الخشوع والخضوع ﴿ أولئك ﴾ أي : الذين هذه صفتهم ﴿ أصحاب الجنة هم خالدون ﴾ فأخبر تعالى عن حالهم في الآخرة بأنهم من أهل الجنة التي لا انقطاع لنعيمها ولا زوال.
ولما ذكر سبحانه وتعالى أحوال الكفار وما كانوا عليه من العمى عن طريق الحق ومن الصمم عن سماعه وذكر أحوال المؤمنين وما كانوا عليه من البصيرة وسماع الحق والانقياد للطاعة ذكر فيهما مثالاً مطابقاً بقوله تعالى :﴿ مثل ﴾ أي : صفة ﴿ الفريقين ﴾ أي : الكفار والمؤمنين ﴿ كالأعمى والأصم ﴾ هذا مثل الكافر شبه بالأعمى لتعاميه عن آيات الله، وبالأصم لتصامه عن استماع كلام الله تعالى وتأبيه عن تدبر معانيه ﴿ والبصير والسميع ﴾ هذا مثل المؤمن شبه بالبصير والسميع ؛ لأنّ أمره بالضدّ من الكافر فيكون كل منهما مشبهاً باثنين باعتبار وصفين، أو يشبه الكافر بالجامع بين العمى والصمم والمؤمن بالجامع بين ضدّيهما على أن تكون الواو في الأصم وفي السميع لعطف الصفة على الصفة، بخلافه على التشبيه الأوّل فإنه لعطف الموصوف على الموصوف، ويعبر عنه بعطف الذات على الذات ﴿ هل يستويان ﴾ أي : هل يستوي الفريقان ﴿ مثلاً ﴾ أي : تشبيهاً لا يستويان، ويصح أن يكون مثلاً صفة لمصدر محذوف، أي : استواء مثلاً، وأن يكون حالاً من فاعل يستويان وقوله تعالى :﴿ أفلا تذكّرون ﴾ فيه إدغام التاء في الأصل في الذال، أي : تتعظون بضرب الأمثال، والتأمّل فيها. وقرأ حفص وحمزة والكسائي بتخفيف الذال والباقون بالتشديد، وقد جرت عادة الله تعالى بأنه إذا أورد على الكفار أنواع الدلائل أتبعها بالقصص ليصير ذكرها مؤكداً لتلك الدلائل. وفي هذه السورة ذكر أنواعاً من القصص.
القصة الأولى : قصة نوح عليه السلام المذكورة في قوله تعالى :﴿ ولقد أرسلنا نوحاً إلى قومه ﴾ وقوله :﴿ إني لكم ﴾ قرأه ابن كثير وأبو عمرو والكسائي بفتح الهمزة، أي : بأني والباقون بكسرها على إرادة القول ﴿ نذير مبين ﴾ أي : بين النذارة أخوّف من العقاب لمن خالف أمر الله تعالى.
وقوله :﴿ أن لا تعبدوا إلا الله ﴾ بدل من إني لكم أو مفعول مبين ﴿ إني أخاف عليكم ﴾ أي : إن عبدتم غيره ﴿ عذاب يوم أليم ﴾ أي : مؤلم موجع في الدنيا أو الآخرة. قال ابن عباس : بعث نوح بعد أربعين سنة ولبث يدعو قومه تسعمائة وخمسين سنة. وقال مقاتل : وهو ابن مائة سنة. وقيل : وهو ابن خمسين سنة. وقيل : وهو ابن مائتين وخمسين سنة. ومكث يدعو قومه تسعمائة وخمسين سنة، وعاش بعد الطوفان مائتين وخمسين سنة. فكان عمره ألف سنة وأربعمائة وخمسين.
ولما حكى تعالى عن نوح عليه السلام أنه دعا قومه إلى عبادة الله تعالى حكى عنهم أنهم طعنوا في نبوّته بثلاثة أنواع من الشبهات بقوله تعالى :﴿ فقال الملأ الذين كفروا من قومه ﴾ وهم الأشراف ﴿ ما نراك إلا بشراً مثلنا ﴾ هذه الشبهة الأولى، أي : أنك بشر مثلنا لا مزية لك علينا تخصك بالنبوّة ووجوب الطاعة، وإنما قالوا هذه المقالة وتمسكوا بهذه الشبهة جهلاً منهم ؛ لأنّ الله تعالى إذا اصطفى عبداً من عباده وأكرمه بنبوّته ورسالته وجب على من أرسله إليهم اتباعه. الشبهة الثانية : ما ذكره الله تعالى عنهم بقوله تعالى :﴿ وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا ﴾ أي : أسافلنا كالحاكة وأهل الصنائع الخسيسة، وهو جمع أرذل بفتح الهمزة كقوله تعالى :﴿ أكابر مجرميها ﴾ [ الأنعام، ١٢٣ ] وقوله صلى الله عليه وسلم :«أحاسنكم أخلاقاً » أو جمع أرذل بضم الذال جمع رذل بسكونها، فهو على الأوّل جمع مفرد وعلى الثاني جمع جمع، ثم قالوا : ولو كنت صادقاً لاتبعك الأكابر من الناس والأشراف منهم، وإنما قالوا ذلك جهلاً منهم أيضاً ؛ لأنّ الرفعة بالدين واتباع الرسول لا بالمناصب العالية والمال ﴿ بادي الرأي ﴾ أي : اتبعوك في أوّل الرأي من غير تثبت وتفكر في أمرك ولو تفكروا ما اتبعوك. ونصبه على الظرف، أي : وقت حدوث أوّل رأيهم. وقرأ أبو عمرو بادئ بهمزة مفتوحة بعد الدال والباقون بياء مفتوحة، وأبدل السوسي همزة الرأي ألفاً وقفاً ووصلاً. وأمّا حمزة فأبدلها وقفاً لا وصلاً. الشبهة الثالثة : ما ذكره الله تعالى عنهم في قوله تعالى :﴿ وما نرى لكم ﴾ أي : لك ولمن اتبعك ﴿ علينا من فضل ﴾ أي : بالمال والشرف والجاه تستحقون به الاتباع منا وهذا أيضاً جهل منهم ؛ لأنّ الفضيلة المعتبرة عند الله تعالى بالإيمان والطاعة لا بالشرف والرياسة. وقولهم :﴿ بل نظنكم كاذبين ﴾ خطاب لنوح عليه السلام في دعوى الرّسالة وأدرجوا قومه معه في الخطاب. وقيل : خاطبوه بلفظ الجمع على سبيل التعظيم. وقيل : كذبوه في دعوى النبوّة وكذبوا قومه في دعوى العلم بصدقه، فغلب المخاطب على الغائبين. ولما ذكروا هذه الشبهة لنوح عليه السلام.
﴿ قال ﴾ لهم ﴿ يا قوم أرأيتم ﴾ أي : أخبروني ﴿ إن كنت على بينة ﴾ أي : نبوّة ورسالة ﴿ من ربي وآتاني رحمة ﴾ أي : نبوّة ورسالة ﴿ من عنده ﴾ من فضله وإحسانه ﴿ فعميت ﴾ أي : خفيت والتبست ﴿ عليكم ﴾ ووحد الضمير إمّا لأنّ البينة في نفسها هي الرحمة وإمّا لأنه لكل واحدة منهما. وقرأ حفص وحمزة والكسائي بضم العين وتشديد الميم والباقون بفتح العين وتخفيف الميم ﴿ أنلزمكموها ﴾ أي : أنكرهكم على قبولها ﴿ وأنتم لها كارهون ﴾ أي : لا تختارونها ولا تتأمّلون فيها لا نقدر على ذلك. قال قتادة : والله لو استطاع نبيّ الله لألزمها قومه ولكنه لا يملك ذلك، واتفق القراء على ضم النون من أنلزمكموها لاتصالها باللام رسماً، وحيث اجتمع ضميران وليس أحدهما مرفوعاً وقدم الأعرف منهما جاز في الثاني الوصل كما في الآية، والفصل كأن يقال : أنلزمكم إياها.
﴿ ويا قوم لا أسألكم عليه ﴾ أي : على تبليغ الرسالة وهو وإن لم يذكر معلوم مما ذكر ﴿ مالاً ﴾ أي : جعلا تعطونيه ﴿ إن ﴾ أي : ما ﴿ أجري إلا على الله ﴾ أي : ما ثواب تبليغي إلا عليه فإنه المأمول منه تعالى. وقرأ ابن كثير وشعبة وحمزة والكسائي بسكون الياء والباقون بالفتح. وقول نوح عليه السلام :﴿ وما أنا بطارد الذين آمنوا ﴾ جواب لهم حين طلبوا طردهم، فإنهم طلبوا من نوح عليه السلام قبل أن يطرد الذين آمنوا وهم الأرذلون في زعمهم فقال : ما يجوز لي ذلك. ﴿ إنهم ملاقو ربهم ﴾ أي : بالبعث فيخاصمون طاردهم عنده ويأخذ لهم ممن ظلمهم وطردهم أو أنهم يلاقونه ويفوزون بقربه فكيف أطردهم ﴿ ولكني أراكم قوماً تجهلون ﴾ أي : إنّ هؤلاء المؤمنين خير منكم أو عاقبة أمركم أو تسفهون عليهم بأن تدعوهم أراذل.
﴿ ويا قوم من ينصرني ﴾ أي : يمنعني ﴿ من الله ﴾ أي : من عقابه ﴿ إن طردتهم ﴾ عني وهم مؤمنون مخلصون ﴿ أفلا ﴾ أي : فهلا ﴿ تذكرون ﴾ أي : تتعظون. وقرأ حفص وحمزة والكسائي بتخفيف الذال والباقون بالتشديد بإدغام التاء في الأصل في الذال.
﴿ ولا أقول لكم عندي خزائن الله ﴾ أي : خزائن رزقه، فكما أني لا أسألكم مالاً فكذلك لا أدعي أني أملك مالاً ولا غرض لي في المال لا أخذاً ولا دفعاً، وقوله :﴿ ولا أعلم الغيب ولا أقول إني ملك ﴾ فأتعاظم به عليكم حتى تقولوا ما أنت إلا بشر مثلنا بل طريقتي التواضع والخضوع، ومن كان هذا شأنه وطريقته كذلك فإنه لا يستنكف عن مخالطة الفقراء والمساكين ولا يطلب مجالسة الأمراء والسلاطين، ثم أكد ذلك بقوله :﴿ ولا أقول للذين تزدري ﴾ أي : تحتقر ﴿ أعينكم ﴾ أي : لا أقول في حقهم ﴿ لن يؤتيهم الله خيراً ﴾ فإن ما أعدّ الله تعالى لهم في الآخرة خير مما آتاكم في الدنيا ﴿ الله أعلم بما في أنفسهم ﴾ وهذا كالدلالة على أنهم كانوا ينسبون أتباعه مع الفقر والذلة إلى النفاق ﴿ إني إذاً ﴾ أي : إن فعلت ذلك ﴿ لمن الظالمين ﴾ لنفسي ومن الظالمين لهم. فإن قيل : هذه الآية تدل على تفضيل الملائكة على الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، فإن الإنسان إذا قال : لا أدعي كذا وكذا إنما يحسن إذا كان ذلك الشيء أشرف من أحوال ذلك القائل ؟ أجيب : بأن نوحاً عليه السلام إنما ذكر ذلك جواباً عما ذكروه من الشبه، فإنهم طعنوا في أتباعه بالفقر فقال :﴿ ولا أقول لكم عندي خزائن الله ﴾ حتى أجعلهم أغنياء وطعنوا فيهم أيضاً بأنهم منافقون فقال :﴿ ولا أعلم الغيب ﴾ حتى أعرف كيفية باطنهم وإنما تكليفي بناء الأحوال على الظاهر، وطعنوا فيه أنه من البشر فقال :﴿ ولا أقول إني ملك ﴾ حتى تنفوا عني ذلك وحينئذٍ فالآية ليس فيها ذلك. فإن قيل : في هذه الآية دلالة على أنّ طرد المؤمنين لطلب مرضاة الكفار من أصول المعاصي فكيف طرد محمد صلى الله عليه وسلم بعض فقراء المؤمنين لطلب مرضاة الله حتى عاتبه الله تعالى في قوله :﴿ ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشيَّ ﴾ [ الأنعام، ٥٢ ] ؟ أجيب : بأنّ الطرد المذكور في هذه الآية محمول على الطرد المطلق على سبيل التأبيد، والطرد المذكور في واقعة محمد صلى الله عليه وسلم محمول على التبعيد في أوقات معينة رعاية للمصلحة.
ولما أنّ الكفار أوردوا تلك الشبهة وأجاب نوح عليه السلام عنها بالجوابات الموافقة الصحيحة أوردوا عليه كلامين : الأوّل ما حكاه الله تعالى عنهم بقوله تعالى :﴿ قالوا يا نوح قد جادلتنا ﴾ أي : خاصمتنا ﴿ فأكثرت جدالنا ﴾ أي : فأطنبت فيه، وهذا يدل على أنه عليه السلام كان قد أكثر في الجدال معهم، وذلك الجدال ما كان إلا في إثبات التوحيد والنبوّة والمعاد، وهذا يدل على أنّ الجدال في تقرير الدلائل، وإزالة الشبهات حرفة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وعلى أنّ التقليد والجهل حرفة الكفار، والثاني : ما ذكره الله تعالى عنهم بقوله :﴿ فائتنا بما تعدنا ﴾ أي : من العذاب ﴿ إن كنت من الصادقين ﴾ في الدعوى والوعيد فإنّ مناظرتك لا تؤثر فينا.
﴿ قال ﴾ لهم نوح عليه السلام في جواب ذلك ﴿ إنما يأتيكم به الله إن شاء ﴾ تعجيله لكم فإن أمره إليه إن شاء عجله، وإن شاء أخره لا إليّ ﴿ وما أنتم بمعجزين ﴾ أي : بفائتين الله تعالى.
ولما أجاب نوح عليه السلام عن شأنهم ختم الكلام بخاتمة قاطعة فقال :﴿ ولا ينفعكم نصحي إن أردت أن أنصح لكم إن كان الله يريد أن يغويكم ﴾ أي : يضلكم وجواب الشرط محذوف دل عليه ﴿ ولا ينفعكم نصحي ﴾. وتقدير الكلام : إن كان الله يريد أن يغويكم فإن أردت أن أنصح لكم فلا ينفعكم نصحي، فهو من باب اعتراض الشرط. على الشرط ونظير ذلك ما لو قال رجل لزوجته : أنت طالق إن دخلت الدار إن كلمت زيداً، فدخلت ثم كلمت لم تطلق فيشترط في وجوب الحكم وقوع الشرط الثاني قبل وقوع الأوّل. وفي الآية دليل على أنّ الله تعالى قد يريد الكفر من العبد فإنه إذا أراد منه ذلك فإنه يمتنع صدور الإيمان منه ﴿ هو ربكم ﴾ أي : خالقكم والمتصرف فيكم وفق إرادته ﴿ وإليه ترجعون ﴾ فيجازيكم على أعمالكم.
قال تعالى :﴿ أم ﴾ أي : بل ﴿ يقولون افتراه ﴾ أي : اختلقه وجاء به من عند نفسه، والهاء ترجع إلى الوحي الذي بلغه إليهم ﴿ قل ﴾ لهم ﴿ إن افتريته فعليّ إجرامي ﴾ وهذا من باب حذف المضاف ؛ لأنّ المعنى فعليّ إثم إجرامي، والإجرام اقتراف المحظور. وفي الآية محذوف آخر وهو أنّ المعنى إن كنت افتريته فعليّ عقاب جرمي وإن كنت صادقاً وكذبتموني فعليكم عقاب ذلك التكذيب، إلا أنه حذف هذه البقية لدلالة الكلام عليها ﴿ وأنا بريء مما تجرمون ﴾ أي : من عقاب جرمكم في إسناد الافتراء إليّ.
تنبيه : أكثر المفسرين على أنّ هذا من بقية كلام نوح عليه السلام مع قومه. وقال مقاتل :﴿ أم يقولون ﴾ أي : المشركون من كفار مكة : افتراه، أي : محمد صلى الله عليه وسلم اختلق القرآن من عند نفسه. وهذه الآية وقعت في قصة محمد صلى الله عليه وسلم في أثناء قصة نوح عليه السلام. قال الرازي : وقوله بعيد جدًّا.
﴿ وأوحي إلى نوحٍ أنه لن يؤمن من قومك ﴾ أي : لن يستمرّ على الإيمان لقوله تعالى :﴿ إلا من قد آمنّ ﴾. قال ابن عباس : إنّ قوم نوح كانوا يضربون نوحاً حتى يسقط فيلفونه في لبد ويلقونه في بيت يظنون أنه قد مات، فيخرج في اليوم الثاني ويدعوهم إلى الله تعالى. وروي أنّ شيخاً منهم جاء متوكئاً على عصاه ومعه ابنه فقال لابنه : لا يغوينك هذا الشيخ المجنون فقال : يا أبتاه مكني من العصا فأخذها من أبيه وضرب بها نوحاً عليه السلام حتى شجه شجةً منكرةً، فأوحى الله تعالى إليه أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن ﴿ فلا تبتئس ﴾ أي : لا تحزن عليهم فإني مهلكهم ﴿ بما ﴾ أي : بسبب ما ﴿ كانوا يفعلون ﴾ من الشرك وننقذك منهم، فحينئذ دعا عليهم نوح عليه السلام فقال :﴿ رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا ﴾ [ نوح، ٢٦ ]. وحكى محمد بن إسحاق عن عبيد بن عمير الليثي : إنه بلغه أنهم يبطشون به فيخنقونه حتى يغشى عليه فإذا أفاق قال : رب اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون، حتى تمادوا في المعصية، واشتدّ عليه منهم البلاء، وهو ينظر من الجيل إلى الجيل، فلا يأتي قرن إلا كان أنجس من الذين قبلهم، ولقد كان يأتي القرن الآخر منهم فيقول : قد كان هذا الشيخ مع آبائنا وأجدادنا هكذا مجنوناً فلا يقبلون منه شيئاً فشكى إلى الله تعالى، فقال :﴿ رب إني دعوت قومي ليلاً ونهاراً ﴾ [ نوح، ٥ ] حتى قال :﴿ رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا ﴾ [ نوح، ٢٦ ].
فأوحى الله تعالى إليه :﴿ واصنع الفلك ﴾ أي : السفينة ﴿ بأعيننا ﴾ قال ابن عباس بمرأى منا. وقال مقاتل : بعلمنا. وقيل : بحفظنا. ﴿ ووحينا ﴾ أي : بأمرنا لك كيف تصنعها ﴿ ولا تخاطبني في الذين ظلموا ﴾ أي : ولا تراجعني في الكفار، ولا تدعني في استدفاع العذاب عنهم ﴿ إنهم مغرقون ﴾ أي : محكوم عليهم بالإغراق فلا سبيل إلى كفه. وقيل : لا تخاطبني في ابنك كنعان وامرأتك راعلة فإنهما هالكان مع القوم، ويروى أنّ جبريل عليه السلام أتى نوحاً فقال : إنّ ربك يأمرك أن تصنع الفلك. قال : كيف أصنع ولست بنجار. قال : إنّ ربك يقول اصنع فإنك بأعيينا، فأخذ القدوم فجعل ينجر ولا يخطئ وصنعها فعملها مثل جؤجؤ الطير.
وفي قوله تعالى :﴿ ويصنع الفلك ﴾ قولان : أحدهما : أنه حكاية حال ماضية، أي : في ذلك الوقت كان يصدق عليه أنه يصنع الفلك. الثاني : التقدير فأقبل يصنع الفلك فاقتصر على قوله :﴿ ويصنع الفلك ﴾ ثم إنّ نوحاً عليه السلام أقبل على عملها وَلَهَى عن قومه وجعل يقطع الخشب ويضرب الحديد ويهيئ عدّة الفلك من القار وغيره، وجعل قومه يمرّون عليه ويسخرون منه كما قال تعالى :﴿ وكلما مرّ عليه ملأ ﴾ أي : جماعة ﴿ من قومه سخروا منه ﴾ أي : استهزؤوا به ويقولون يا نوح قد صرت نجاراً بعدما كنت نبياً، فأعقم الله أرحام نسائهم فلا يولد لهم. قال ابن عباس رضي الله عنهما : اتخذ نوح عليه السلام السفينة في سنتين وكان طول السفينة ثلاثمائة ذراع، وكانت من خشب الساج، وجعل لها ثلاثة بطون، فجعل في البطن الأوّل الوحوش والهوامّ، وفي البطن الأوسط الدوابّ وركب هو ومن معه البطن الأعلى مع ما يحتاج إليه من الزاد. وقال قتادة : كان في بابها في عرضها.
وروي عن أنس : كان طولها ألف ذراع ومائتي ذراع وعرضها ستمائة. وقيل : إنّ الحواريين قالوا لعيسى عليه السلام : لو بعثت لنا رجلاً شهد السفينة يحدّثنا عنها، فانطلق بهم حتى انتهى بهم إلى كثيب من تراب فأخذ كفاً من ذلك التراب فقال : أتدرون من هذا ؟ قالوا : الله ورسوله أعلم. قال كعب بن حام، قال فضرب الكثيب بعصاه فقال : قم بإذن الله، فإذا هو قائم ينفض عن رأسه التراب وقد شاب، فقال له عيسى عليه السلام : هكذا هلكت. قال : لا ولكن مت وأنا شاب ولكنني ظننت أنها الساعة فمن ثم شبت قال : حدّثنا عن سفينة نوح ؟ قال : كان طولها ألف ذراع وعرضها ستمائة ذراع وكانت ثلاث طبقات ؛ طبقة للدواب والوحوش وطبقة للإنس وطبقة للطير، ثم قال له : عد بإذن الله تعالى كما كنت فعاد تراباً. قال البغوي : والمعروف أن طولها ثلاثمائة ذراع. وعن زيد بن أسلم قال : مكث نوح مائة سنة يغرس الأشجار ومائة سنة يعمل الفلك.
وعن كعب الأحبار : أنّ نوحاً عمل السفينة في ثلاثين سنة. وروي أنها كانت ثلاث طبقات : الطبقة السفلى للدواب والوحوش، والطبقة الوسطى فيها الإنس، والطبقة العليا فيها الطير، فلما كثرت أرواث الدواب أوحى الله تعالى إلى نوح عليه السلام أن اغمز ذنب الفيل فغمزه فوقع منه خنزير وخنزيرة فأقبلا على الروث، ولما أفسد الفأر في السفينة فجعل يقرض حبالها ؛ أوحى الله تعالى إليه أن اضرب بين عيني الأسد فضرب فخرج من منخره سنور وسنورة وهو القط فأقبلا على الفأر فأكلاه. قال الرازي : واعلم أنّ أمثال هذه المباحث لا تعجبني لأنها أمور لا حاجة إلى معرفتها البتة، ولا يتعلق بمعرفتها فائدة البتة، فكان الخوض فيها من باب الفضول، لاسيما مع القطع بأنه ليس هاهنا ما يدل على الجانب الصحيح، والذي نعلمه أنها كانت في السعة بحيث تسع المؤمنين من قومه، وما يحتاجون إليه ولحصول زوجين من كل حيوان ؛ لأنّ هذا القدر مذكور في القرآن. وما آمن معه إلا قليل، فأما تعيين ذلك القدر فغير معلوم.
﴿ قال ﴾ لهم لما سخروا منه ﴿ إن تسخروا منا فإنا نسخر منكم كما تسخرون ﴾ إذا نجونا وغرقتم. فإن قيل : السخرية لا تليق بمنصب النبوّة ؟ أجيب : بأنّ ذلك ذكر على سبيل الازدواج في مشاكلة الكلام كما في قوله تعالى :﴿ وجزاء سيئة سيئة مثلها ﴾ [ الشورى، ٤٠ ] والمعنى إن تسخروا منا فسترون عاقبة سخريتكم وهو قوله تعالى :﴿ فسوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه ﴾.
﴿ فسوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه ﴾ أي : يهينه في الدنيا وهو الغرق ﴿ ويحلّ عليه ﴾ في الآخرة ﴿ عذاب مقيم ﴾ وهو النار التي لا انقطاع لها.
وقوله تعالى :﴿ حتى إذا جاء أمرنا ﴾ أي : بإهلاكهم غاية لقوله ويصنع الفلك، وما بينهما حال من الضمير فيه أو حتى هي التي يبتدأ بعدها الكلام. واختلف في التنور في قوله تعالى :﴿ وفار التنور ﴾ فقال عكرمة والزهريّ : هو وجه الأرض. وذلك أنه قيل لنوح عليه السلام إذا رأيت الماء فار على وجه الأرض فاركب السفينة. وروي عن عليّ رضي الله عنه أنه قال : فار التنور وقت طلوع الفجر ونور الصبح. وقال الحسن ومجاهد والشعبيّ : أنه التنور الذي يخبز فيه. وهو قول أكثر المفسرين ورواية عطية وابن عباس : لأنه حمل الكلام على حقيقته، ولفظ التنور حقيقته هو الموضع الذي يخبز فيه وهو قول أكثر المفسرين فوجب حمل اللفظ عليه، وهؤلاء اختلفوا فمنهم من قال : إنه تنور لنوح. ومنهم من قال : إنه كان لآدم عليه السلام. قال الحسن : كان تنوراً من حجارة كانت حواء تخبز فيه فصار إلى نوح فقيل لنوح عليه السلام : إذا رأيت الماء يفور من التنور فاركب السفينة أنت وأصحابك. واختلفوا أيضاً في موضعه فقال مجاهد والشعبيّ : كان في ناحية الكوفة، وكان الشعبيّ يحلف بالله ما فار التنور إلا من ناحية الكوفة، وقال : اتخذ نوح السفينة في جوف مسجد الكوفة، وكان التنور على يمين الداخل مما يلي باب كندة، وكان فوران الماء منه علماً لنوح. وقال مقاتل : كان تنور آدم عليه السلام وكان بالشأم بموضع يقال له عين وردة. وروي عن ابن عباس أنه كان بالهند، ومعنى فار نبع على قوّة وشدّة تشبيهاً بغليان القدر عند قوّة النار، ولا شبهة أنّ التنور لا يفور.
والمراد : فار الماء من التنور فلما فار أمر الله تعالى نوحاً عليه السلام أن يحمل في السفينة ثلاثة أنواع من الأشياء الأول قوله تعالى :﴿ قلنا احمل فيها ﴾ أي : السفينة ﴿ من كل زوجين اثنين ﴾ والزوجان عبارة عن كل شيئين يكون أحدهما ذكراً والآخر أنثى، والتقدير من كل شيئين هما كذلك، فاحمل منهما في السفينة اثنين واحد ذكر وواحد أنثى. وفي القصة أنّ نوحاً عليه السلام قال : يا رب كيف احمل من كل زوجين اثنين، فحشر الله تعالى إليه السباع والطير، فجعل يضرب بيديه في كل جنس فيقع الذكر في يده اليمنى والأنثى في يده اليسرى، فيحملهما في السفينة. وقرأ حفص بتنوين لام كل، أي : واحمل من كل شيء زوجين اثنين : الذكر زوج والأنثى زوج. فإن قيل : ما الفائدة في قوله زوجين اثنين والزوجان لا يكونان إلا اثنين ؟ أجيب : بأنّ هذا على مثال قوله تعالى :﴿ لا تتخذوا إلهين اثنين ﴾ [ النحل، ٥١ ]. وقوله تعالى :﴿ نفخة واحدة ﴾ [ الحاقة، ١٣ ] والباقون بغير تنوين فهذا السؤال غير وارد.
النوع الثاني من الأشياء التي أمر الله تعالى نوحاً عليه السلام أن يحملها في السفينة قوله تعالى :﴿ وأهلك ﴾ وهم أبناؤه وزوجته. وقوله تعالى :﴿ إلا من سبق عليه القول ﴾ بأنه من المغرقين وهو ابنه كنعان وأمّه راعلة وكانا كافرين حكم الله تعالى عليهما بالهلاك بخلاف سام وحام ويافث وزوجاتهم ثلاثة وزوجته المسلمة.
فإن قيل : الإنسان أشرف من سائر الحيوانات فلم بدأ بالحيوان ؟ أجيب : بأنّ الإنسان عاقل فهو لعقله مضطر إلى دفع أسباب الهلاك عن نفسه فلا حاجة فيه إلى المبالغة في الترغيب بخلاف السعي في تخليص سائر الحيوانات فلهذا السبب وقع الابتداء به.
النوع الثالث : من الأشياء التي أمر الله تعالى نوحاً عليه السلام بحملها في السفينة قوله تعالى :﴿ ومن آمن ﴾ أي : واحمل معك من آمن معك من قومك، واختلف في العدد الذي ذكره الله تعالى في قوله تعالى :﴿ وما آمن معه إلا قليل ﴾ فقال قتادة وابن جريج : لم يكن معه في السفينة إلا ثمانية نفر نوح وامرأته المسلمة وثلاثة بنين له هم : سام وحام ويافث ونساؤهم. وقال ابن إسحاق : كانوا عشرة سوى نسائهم نوح وبنوه الثلاثة وستة أناس ممن كان آمن به وأزواجهم جميعاً. وقال مجاهد كانوا اثنين وسبعين نفراً رجلاً وامرأة. وعن ابن عباس قال : كان في سفينة نوح ثمانون نصفهم رجال ونصفهم نساء. وقال الطبري : والصواب من القول في ذلك أن يقال كما قال الله تعالى :﴿ وما آمن معه إلا قليل ﴾ فوصفهم بالقلة فلم يحد عدداً بمقدار فلا ينبغي أن يجاوز في ذلك حد الله تعالى، إذ لم يرد عدد في كتاب الله تعالى، ولا في خبر صحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وتقدّم نحو ذلك عن الرازي. وقال مقاتل : حمل نوح عليه السلام جميع الدواب والطير ليحملها. قال ابن عباس أوّل ما حمل نوح الدرّة، وآخر ما حمل الحمار، فلما دخل الحمار أدخل صدره وتعلق إبليس بذنبه فلم تستقل رجلاه فجعل نوح يقول : ويحك ادخل فينهض فلا يستطيع حتى قال : ويحك ادخل وإن كان الشيطان معك، كلمة زلت على لسانه، فلما قالها خلى الشيطان سبيله فدخل ودخل الشيطان معه فقال نوح : ما أدخلك عليّ يا عدوّ الله ؟ قال : ما لك بد أن تحملني معك فكان معه على ظهر السفينة. هكذا نقله البغويّ. قال الرازيّ : وأمّا الذي يروى أنّ إبليس دخل السفينة فبعيد لأنّه من الجنّ وهو جسم ناري أو هوائي، فكيف يؤثر الغرق فيه، وأيضاً كتاب الله تعالى لم يدل عليه ولم يرد في ذلك خبر صحيح فالأولى ترك الخوض في ذلك. قال البغويّ : وروي أنّ بعضهم قال : إنّ الحية والعقرب أتيا نوحاً عليه السلام فقالتا احملنا معك، فقال : إنكما سبب البلاء فلا أحملكما فقالتا : احملنا فإنا نضمن لك أن لا نضر أحداً ذكرك. فمن قرأ حين يخاف مضرتهما ﴿ سلام على نوح في العالمين ﴾ [ الصافات، ٧٩ ] لم يضراه. وقال الحسن : لم يحمل نوح في السفينة إلا ما يلد ويبيض، فأمّا ما يتولد من الطين من حشرات الأرض كالبق والبعوض فلم يحمل منها شيئاً.
﴿ وقال ﴾ نوح لمن معه ﴿ اركبوا ﴾ أي : صيروا ﴿ فيها ﴾ أي : السفينة وجعل ذلك ركوباً ؛ لأنها في الماء كمركوب في الأرض، وقوله تعالى :﴿ بسم الله مجراها ومرساها ﴾ متصل باركبوا حال من الواو في اركبوا، أي : اركبوا فيها مسمين الله أو قائلين بسم الله وقت إجرائها وإرسائها. قال الضحاك : كان نوح إذا أراد أن تجري السفينة قال : بسم الله جرت، وإذا أراد أن ترسو قال : بسم الله رست. وقرأ حفص وحمزة والكسائي بنصب الميم من جرت ورست، أي : جريها ورسوها وهما مصدران، والباقون بضم الميم من أجريت وأرسيت أي بسم الله إجراؤها وإرساؤها وأمال الألف بعد الراء أبو عمرو وحفص وحمزة والكسائي محضة وورش بين اللفظين والباقون بالفتح، وذكروا في عامل الإعراب في بسم الله وجوهاً : الأول : اركبوا بسم الله، الثاني : ابدؤوا بسم الله، الثالث : بسم الله إجراؤها ﴿ إنّ ربي لغفور رحيم ﴾ أي : لولا مغفرته لفرطاتكم ورحمته إياكم لما نجاكم.
وقوله تعالى :﴿ وهي تجري بهم ﴾ متعلق بمحذوف دلّ عليه اركبوا، أي : فركبوا مسمين الله تعالى وهي تجري وهم فيها ﴿ في موج ﴾ وهو ما ارتفع من الماء إذا اشتدّت عليه الريح ﴿ كالجبال ﴾ في عظمه وارتفاعه على الماء، قال العلماء : بالسير أرسل الله تعالى المطر أربعين يوماً وليلة. وخرج الماء من الأرض فذلك قوله تعالى :﴿ ففتحنا أبواب السماء بماء منهمر ١١ وفجرنا الأرض عيونا فالتقى الماء على أمر قد قدر ﴾ [ القمر، ١١، ١٢ ] فصار الماء نصفين نصف من السماء ونصف من الأرض وارتفع الماء على أعلى جبل وأطوله أربعين ذراعاً، وقيل : خمسة عشر ذراعاً حتى أغرق كل شيء، وروي أنه لما كثر الماء في السكك خافت امرأة على ولدها من الغرق وكانت تحبه حباً شديداً فخرجت به إلى الجبل حتى بلغت ثلثه، فلما بلغها الماء ارتفعت حتى بلغت ثلثيه، فلما بلغها الماء ذهبت حتى استوت على الجبل، فلما بلغ الماء رقبتها رفعت الصبيّ بيديها حتى ذهب بهما الماء، فلو رحم الله تعالى منهم أحداً لرحم هذه المرأة. وما قيل من أنّ الماء طبق ما بين السماء والأرض وكانت السفينة تجري في جوفه كما تسبح السمكة فليس بثابت. قال البيضاويّ : والمشهور أنه علا شوامخ الجبال خمسة عشر ذراعاً. فإن صح، أي : أنه طبق ما بين السماء والأرض فلعل ذلك أي : ما ذكر من علو الموج قبل التطبيق ﴿ ونادى نوح ابنه ﴾ كنعان وكان كافراً كما مرّ، وقيل : اسمه يام ﴿ وكان في معزل ﴾ عزل فيه نفسه إمّا عن أبيه أو دينه ولم يركب معه، وإمّا عن السفينة، وإمّا عن الكفار كأنه انفرد عنهم. وظنّ نوح عليه السلام أنّ ذلك إنما كان لأنه أحب مفارقتهم ولذلك ناداه بقوله ﴿ يا بني اركب معنا ﴾ في السفينة. وقرأ عاصم بفتح الياء اقتصاراً على الفتح من الألف المبدلة ياء الإضافة في قولك يا بنيا. والباقون بالكسر في الوصل ليدل على ياء الإضافة المحذوفة كما قال الشاعر :
يا ابنة عم لا تلومي واهجعي ***
ثم حذف الألف للتخفيف ﴿ ولا تكن مع الكافرين ﴾ أي : في دين ولا مكان فتهلك ولما قال له ذلك ﴿ قال سآوي ﴾.
﴿ قال سآوي ﴾ أي : ألتجئ وأصير ﴿ إلى جبل يعصمني ﴾ أي : يمنعني ﴿ من الماء قال ﴾ له نوح عليه السلام :﴿ لا عاصم ﴾ أي : لا مانع ﴿ اليوم من أمر الله ﴾ أي : من عذابه وقوله ﴿ إلا من رحم ﴾ استثناء منقطع كأنه قيل : ولكن من رحمه الله فهو المعصوم كقوله تعالى :﴿ ما لهم به من علم إلا اتباع الظنّ ﴾ [ النساء، ١٥٧ ] وقيل :﴿ إلا من رحم ﴾ أي : إلا الراحم وهو الله تعالى، وقيل : إلا مكان من رحمه الله تعالى فإنه مانع من ذلك وهو السفينة. ﴿ وحال بينهما ﴾ أي : بين نوح وابنه أو بين ابنه والجبل ﴿ الموج ﴾ المذكور في قوله :﴿ موج كالجبال ﴾ [ هود، ٤٢ ] ﴿ فكان ﴾ ابنه ﴿ من المغرقين ﴾ أي : فصار من المهلكين بالماء.
﴿ و ﴾ لما تناهى الطوفان وأغرق قوم نوح ﴿ قيل ﴾ أي : قال الله تعالى أو ملك بأمره تعالى ﴿ يا أرض ابلعي ماءك ﴾ أي : اشربيه ﴿ ويا سماء أقلعي ﴾ أي : أمسكي ماءك، ناداهما بما ينادى به الحيوان المميز على لفظ التخصيص والإقبال عليهما بالخطاب من بين سائر المخلوقات ثم أمرهما بما يؤمر به أهل التمييز والعقل تمثيلاً لكمال انقيادهما لما يشاء تكوينه فيهما، وهاهنا همزتان مختلفتان من كلمتين الأولى مضمومة والثانية مفتوحة. قرأ أبو عمرو ونافع وابن كثير بإبدال الثانية واواً خالصة والباقون بالتخفيف ﴿ وغيض الماء ﴾ أي : نقص وذهب، وقرأ هشام والكسائي بإشمام الغين وهو ضم الغين قبل الياء والباقون بالكسر وكذا ﴿ وقيل ﴾ ﴿ وقضي الأمر ﴾ أي : وأنجز ما وعد من إهلاك الكافرين وإنجاء المؤمنين ﴿ واستوت ﴾ أي : استقرّت السفينة ﴿ على الجودي ﴾ وهو جبل بالجزيرة قريب من الموصل. وقيل، أي : قال الله تعالى أو ملك بأمره تعالى :﴿ بعداً ﴾ أي : هلاكاً ﴿ للقوم الظالمين ﴾ ومجيء أخباره على الفعل المبني للمفعول للدلالة على الجلال والكبرياء وأنّ تلك الأمور العظام لا تكون إلا بفعل فاعل قادر وبكون مكون قاهر، وأن فاعلها واحد لا يشارك في أفعاله فلا يذهب الوهم إلى أن يقول غيره :﴿ يا أرض ابلعي ماءك ويا سماء أقلعي ﴾ ولا أن يقضي ذلك الأمر الهائل غيره ولا أن تستوي على متن الجودي وتستقر عليه إلا بتسويته وإقراره.
وروي أنّ السفينة لما استقرت بعث نوح عليه السلام الغراب ليأتيه بخبر الأرض فوقع على جيفة فلم يرجع، فبعث الحمامة فجاءت بورق زيتون في منقارها، ولطخت رجليها بالطين فعلم نوح أنّ الماء قد نقص، فقيل : إنه دعا على الغراب بالخوف فلذا لا يألف البيوت، وطوّق الحمامة الخضرة التي في عنقها ودعا لها بالأمان فمن ثم تألف البيوت. وروي أنّ نوحاً ركب السفينة لعشر مضت من رجب وجرت بهم السفينة ستة أشهر ومرّت بالبيت العتيق، وقد رفعه الله تعالى من الغرق وبقي موضعه، فطافت به السفينة سبعاً. وأودع الحجر الأسود في جبل أبي قبيس، وهبط نوح ومن معه في السفينة يوم عاشوراء فصامه نوح وأمر من معه بصيامه شكراً لله تعالى. وبنوا قرية بقرب الجبل وسميت سوق ثمانين فهي أوّل قرية عمرت على وجه الأرض بعد الطوفان. وقيل : إنه لم ينج أحد من الكفار من الغرق غير عوج بن عنق وكان الماء يصل إلى حجزته وهذا لا يأتي على القول بإطباق الماء. قال هذا القائل : وسبب نجاته أنّ نوحاً احتاج إلى خشب ساج للسفينة فلم يمكنه نقله، فحمله عوج إليه من الشام فنجاه الله تعالى من الغرق بذلك. فإن قيل : كيف أغرق الله تعالى من لم يبلغ الحلم من الأطفال ؟ أجيب : بأنه تعالى يتصرف في خلقه لا يسأل عما يفعل. وقيل : إنّ الله تعالى أعقم أرحام نسائهم أربعمائة سنة فلم يولد لهم تلك المدّة.
﴿ ونادى نوح ربه ﴾ أي : دعاه وسأله ﴿ فقال رب إنّ ابني من أهلي ﴾ وقد وعدتني أن تنجيني وأهلي ﴿ وإن وعدك الحق ﴾ أي : الصدق الذي لا خلف فيه ﴿ وأنت أحكم الحاكمين ﴾ لأنك أعلمهم وأعدلهم. فإن قيل : إذا كان النداء هو قوله ربّ فكيف عطف ﴿ قال رب ﴾ على ﴿ نادى ﴾ بالفاء ؟ أجيب : بأن الفاء تفصيل لمجمل نادى، مثلها في : توضأ فغسل. وقيل :﴿ نادى ﴾ أي : أراد نداءه فقال رب.
﴿ قال ﴾ الله تعالى له ﴿ يا نوح إنه ﴾ أي : هذا الابن الذي سألت نجاته ﴿ ليس من أهلك ﴾ أي : المحكوم بنجاتهم لإيمانهم وكفره، ولهذا علل بقوله تعالى :﴿ إنه عمل غير صالح ﴾ وقرأ الكسائي بكسر الميم ونصب اللام بغير تنوين ونصب الراء، أي : عمل الكفر والتكذيب وكل هذا غير صالح والباقون بفتح الميم ورفع اللام منونة ورفع الراء، أي : ذو عمل غير صالح أو صاحب عمل غير صالح، فجعل ذات العمل للمبالغة كقول الخنساء تصف ناقة ترتع :
فإنما هي إقبال وإدبار ***
واختلف علماء التفسير هل كان ذلك الولد ابن نوح أو لا على أقوال : الأوّل : وهو قول ابن عباس وعكرمة وسعيد بن جبير والضحاك والأكثرين : إنه ابنه حقيقة ويدل عليه أنه تعالى نص عليه فقال :﴿ ونادى نوح ابنه ﴾ ونوح أيضاً نص عليه فقال :﴿ يا بنيّ ﴾ وصرف هذا اللفظ إلى أنه رباه وأطلق عليه اسم الابن لهذا السبب صرف للكلام عن حقيقته إلى مجازه من غير ضرورة. القول الثاني : أنه كان ابن امرأته وهو قول محمد بن علي الباقر، وقول الحسن البصري. والقول الثالث : وهو قول مجاهد والحسن : أنه ولد حنث ولد على فراشه ولم يعلم نوح بذلك، واحتج هذا القائل بقوله تعالى في امرأة نوح وامرأة لوط ﴿ فخانتاهما ﴾ [ التحريم، ١٠ ]. قال الرازي : وهذا قول واهٍ حيث يجب صون منصب الأنبياء عن هذه الفضيحة لاسيما وهو خلاف نص القرآن. وقد قيل لابن عباس : ما كانت تلك الخيانة ؟ فقال : كانت امرأة نوح تقول : زوجي مجنون، وامرأة لوط تدل الناس على ضيفه إذا نزل به. ﴿ فلا تسألني ما ليس لك به علم ﴾ أي : بما لا تعلم أصواب هو أم لا ؟ لأنّ اللائق بأمثالك من أولي العزم بناء أمورهم على التحقيق. وقرأ نافع وابن كثير وابن عامر بفتح اللام وتشديد النون والباقون بسكون اللام وتخفيف النون وأثبت الياء بعد النون. في الوصل دون الوقف ورش وأبو عمرو وحذفها الباقون وقفاً ووصلاً ﴿ إني أعظك ﴾ أي : بمواعظي كراهة ﴿ أن تكون من الجاهلين ﴾ فتسأل كما يسألون. وإنما سمى نداءه سؤالاً لتضمن ذكر الوعد بنجاة أهله واستنجازه في شأن ولده.
﴿ قال ﴾ نوح ﴿ رب إني أعوذ بك أن ﴾ أي : من أن ﴿ أسألك ﴾ في شيء من الأشياء ﴿ ما ليس لي به علم ﴾ تأدباً بأدبك واتعاظاً بوعظك ﴿ وإلا تغفر لي ﴾ أي : الآن ما فرط مني وفي المستقبل ما يقع مني ﴿ وترحمني ﴾ أي : تستر زلاتي وتمحها وتكرمني ﴿ أكن من الخاسرين ﴾ أي : الغريقين في الخسارة. فإن قيل : هذا يدل على عصمة الأنبياء لوقوع هذه الزلة من نوح عليه السلام ؟ أجيب : بأنّ الزلة الصادرة من نوح إنما هي كونه لم يستقص ما يدل على نفاق ابنه وكفره ؛ لأنّ قومه كانوا على ثلاثة أقسام : كافر يظهر كفره، ومؤمن يخفي إيمانه، ومنافق لا يعلم حاله في نفس الأمر. وقد كان حكم المؤمنين هو النجاة وحكم الكافرين هو الغرق، وكان ذلك معلوماً، وأما أهل النفاق فبقي أمرهم مخفياً، وكان ابن نوح منهم، وكان يجوز فيه كونه مؤمناً، وكانت الشفقة المفرطة التي تكون للأب في حق الابن تحمله على حمل أعماله وأفعاله لا على كونه كافراً بل على الوجوه الصحيحة فأخطأ في ذلك الاجتهاد كما وقع لآدم عليه السلام في الأكل من الشجرة فلم يصدر عنه إلا الخطأ في الاجتهاد، فلم تصدر منه معصية، فلجأ إلى ربه تعالى وخشع له ودعاه وسأله المغفرة والرحمة كما قال آدم عليه السلام :﴿ ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين ﴾ [ الأعراف، ٢٣ ] لأنّ حسنات الأبرار سيئات المقرّبين.
﴿ قيل ﴾ أي : قال الله تعالى أو ملك بأمره تعالى :﴿ يا نوح اهبط ﴾ أي : انزل من السفينة أو من الجبل إلى الأرض المستوية ﴿ بسلام ﴾ أي : بعظم وأمن وسلامة ﴿ منا ﴾ وذلك أنّ الغرق لما كان عاماً في جميع الأرض فعندما خرج نوح عليه السلام من السفينة علم أنه ليس في الأرض شيء مما ينتفع به من النبات والحيوان فكان كالخائف في أنه كيف يعيش وكيف يدفع جهات الحاجات عن نفسه من المأكول والمشروب، فلما قال الله تعالى :﴿ اهبط بسلام منا ﴾ زال عنه ذلك الخوف ؛ لأنّ ذلك يدل على حصول السلامة وأن لا يكون إلا مع الأمن وسعة الرزق. ثم إنه تعالى لما وعده بالسلامة أردفه بأن وعده بالبركة بقوله تعالى :﴿ وبركات عليك ﴾ وهو عبارة عن الدوام والبقاء والثبات ؛ لأنّ الله تعالى صير نوحاً عليه السلام أبا البشر ؛ لأنّ جميع من بقي كانوا من نسله ؛ لأنّ نوحاً لما خرج من السفينة مات كل من كان معه ممن لم يكن من ذريته ولم يحصل النسل إلا من ذريته فالخلق كلهم من نسله، أو أنه لم يكن معه في السفينة إلا من كان من نسله وذريته، وعلى التقديرين فالخلق كلهم من ذريته. ويدل على ذلك قوله تعالى :﴿ وجعلنا ذريته هم الباقين ﴾ [ الصافات، ٧٧ ] فثبت أنّ نوحاً كان آدم الأصغر فكان أبا الأنبياء والخلق بعد الطوفان كلهم منه ومن ذريته وكان بين نوح وآدم ثمانية أجداد. وقوله تعالى :﴿ وعلى أمم ممن معك ﴾ يحتمل أن تكون من للبيان فيراد الأمم الذين كانوا معه في السفينة ؛ لأنهم كانوا جماعات أو قيل لهم أمم ؛ لأنّ الأمم تتشعب منهم، وأن تكون لابتداء الغاية، أي : على أمم ناشئة ممن معك وهي الأمم إلى آخر الدهر. قال في «الكشاف » : وهو الوجه، وقوله تعالى :﴿ وأمم ﴾ بالرفع على الابتداء، وقوله تعالى :﴿ سنمتعهم ﴾ أي : في الدنيا صفة والخبر محذوف تقديره : وممن معك أمم سنمتعهم. وإنما حذف لأنّ قوله :﴿ ممن معك ﴾ يدل عليه، والمعنى أنّ السلام منا والبركات عليك وعلى أمم مؤمنين ينشؤون ممن معك، وممن معك أمم ممتعون في الدنيا ﴿ ثم يمسهم منا عذاب أليم ﴾ في الآخرة وهم الكفار. وعن محمد بن كعب القرظي : دخل في ذلك السلام كل مؤمن ومؤمنة إلى يوم القيامة، وفيما بعده من المتاع والعذاب كل كافر وقيل : المراد بالأمم الممتعة قوم هود وصالح ولوط وشعيب.
ولما شرح تعالى قصة نوح عليه السلام على التفصيل قال تعالى :﴿ تلك ﴾ أي : قصة نوح التي شرحناها، ومحلّ تلك رفع على الابتداء وخبرها ﴿ من أنباء الغيب ﴾ أي : من الأخبار التي كانت غائبة عن الخلق. وقوله تعالى :﴿ نوحيها إليك ﴾ خبر ثان والضمير لها، أي : موحاة إليك. وقوله تعالى :﴿ ما كنت تعلمها أنت ولا قومك من قبل هذا ﴾ أي : نزول القرآن خبر آخر، والمعنى أنّ هذه القصة مجهولة عندك وعند قومك من قبل إيحائنا إليك، ونظير هذا أن يقول إنسان لآخر : لا تعرف هذه المسألة لا أنت ولا أهل بلدك. فإن قيل : قد كانت قصة طوفان نوح مشهورة عند أهل العلم. أجيب : بأنّ ذلك كان بحسب الإجمال، وأمّا التفاصيل المذكورة فما كانت معلومة، أو بأنه صلى الله عليه وسلم كان أمّياً لم يقرأ الكتب المتقدّمة ولم يعلمها. وكذلك كانت أمته.
ثم قال تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم ﴿ فاصبر ﴾ أي : أنت وقومك على أذى هؤلاء الكفار كما صبر نوح وقومه على أذى أولئك الكفار. ﴿ إنّ العاقبة للمتقين ﴾ الشرك والمعاصي وفي هذا تنبيه على أنّ عاقبة الصبر لنبينا صلى الله عليه وسلم النصر والفرج، أي : السرور كما كان لنوح ولقومه. فإن قيل : هذه القصة ذكرت في يونس فما الحكمة والفائدة في إعادتها ؟ أجيب : بأنّ القصة الواحدة قد ينتفع بها من وجوه، ففي السورة الأولى كان الكفار يستعجلون نزول العذاب فذكر تعالى قصة نوح في بيان أنّ قومه كانوا يكذبونه بسبب أنّ العذاب ما كان يظهر ثم في العاقبة ظهر فكذا في واقعة محمد صلى الله عليه وسلم وفي هذه السورة ذكرت لأجل أنّ الكفار كانوا يبالغون في الإيحاش فذكرها الله تعالى لبيان أنّ إقدام الكفار على الإيذاء والإيحاش كان حاصلاً في زمان نوح عليه السلام، فلما صبر فاز وظفر، فكن يا محمد كذلك لتنال المقصود، ولما كان وجه الانتفاع بهذه القصة في كل سورة من وجه آخر لم يكن تكريرها خالياً عن الحكمة والفائدة.
القصة الثانية : من القصص التي ذكرها الله تعالى في هذه السورة قصة هود عليه السلام المذكورة في قوله تعالى :﴿ وإلى عاد ﴾ أي : وأرسلنا إلى عاد ﴿ أخاهم ﴾ فهو معطوف على قوله تعالى نوحاً، وقوله تعالى :﴿ هوداً ﴾ عطف بيان ومعلوم أنّ تلك الأخوة ما كانت في الدين، وإنما كانت في النسب لأنّ هوداً كان رجلاً من قبيلة عاد قبيلة من العرب كانوا بناحية اليمن. فإن قيل : إنه تعالى قال في ابن نوح :﴿ إنه ليس من أهلك ﴾ فبيّن أنّ قرابة النسب لا تفيد إذا لم تحصل قرابة الدين، وهنا أثبت هذه الأخوة مع الاختلاف في الدين ؟ أجيب : بأنّ قوم محمد صلى الله عليه وسلم كانوا يستبعدون أن يكون رسولاً من عند الله تعالى مع أنه واحد من قبيلتهم، فذكر الله تعالى أنّ هوداً كان واحداً من عاد، وأنّ صالحاً كان واحداً من ثمود لإزالة هذا الاستبعاد، ولما تقدّم أمر نوح عليه السلام مع قومه استشرف السامع إلى معرفة ما قال هود عليه السلام هل هو مثل قوله أولاً ؟ فاستأنف الجواب بقوله :﴿ قال يا قوم اعبدوا الله ﴾ أي : وحدوه ولا تشركوا معه شيئاً في العبادة. ﴿ ما لكم من إله غيره ﴾ أي : هو إلهكم ؛ لأنّ هذه الأصنام التي تعبدونها حجارة لا تضر ولا تنفع. فإن قيل : كيف دعاهم إلى عبادة الله تعالى قبل إقامة الدليل على ثبوت الإله ؟ أجيب : بأنّ دلائل وجود الله تعالى ظاهرة وهي دلائل الآفاق والأنفس وقلما يوجد في الدنيا طائفة ينكرون وجود الإله، ولذلك قال تعالى في صفة الكفار :﴿ ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولنّ الله ﴾ [ لقمان، ٢٥ ]. وقرأ الكسائي بكسر الراء والهاء صفة على اللفظ والباقون بالرفع صفة على محل الجار والمجرور ومن زائدة ﴿ إن أنتم إلا مفترون ﴾ أي : كاذبون في عبادتكم غيره.
وكرر قوله :﴿ يا قوم ﴾ للاستعطاف، وقوله :﴿ لا أسألكم عليه أجراً إن أجري إلا على الذي فطرني ﴾ أي : خلقني، خاطب به كل رسول قومه إزالة للتهمة وتمحيضاً للنصيحة فإنها لا تنجع ما دامت مشوبة بالمطامع ﴿ أفلا تعقلون ﴾ أي : أفلا تستعملون عقولكم فتعرفوا المحق من المبطل والصواب من الخطأ فتتعظون.
ثم قال :﴿ ويا قوم ﴾ أيضاً لما ذكر ﴿ استغفروا ربكم ﴾ أي : آمنوا به ﴿ ثم توبوا إليه ﴾ من عبادة غيره ؛ لأنّ التوبة لا تصح إلا بعد الإيمان ﴿ يرسل السماء ﴾ أي : المطر ﴿ عليكم مدراراً ﴾ أي : كثير الدر ﴿ ويزدكم قوّة إلى قوّتكم ﴾ أي : ويضاعف قوّتكم، وإنما رغبهم بكثرة المطر وزيادة القوّة ؛ لأنّ القوم كانوا أصحاب زرع وبساتين وعمارات حراصاً عليها أشدّ الحرص، فكانوا أحوج شيء إلى الماء، وكانوا مذلين غيرهم بما أوتوا من شدّة القوّة والبطش والبأس والنجدة، مهابين في كل ناحية، وقيل : أراد القوّة في المال. وقيل : القوة على النكاح. وقيل : حبس عنهم المطر ثلاث سنين وعقمت أرحام نسائهم. وعن الحسن بن علي رضي الله تعالى عنهما أنه وفد على معاوية، فلما خرج تبعه بعض حجابه فقال : إني رجل ذو مال ولا يولد لي فعلمني شيئاً لعل الله يرزقني ولداً. فقال : عليك بالاستغفار. فكان يكثر الاستغفار حتى ربّما استغفر في يوم واحد سبعمائة مرّة فولد له عشر بنين، فبلغ ذلك معاوية فقال : هلا سألته ممّ قال ذلك ؟ فوفد مرّة أخرى فسأله الرجل فقال : ألم تسمع قول هود :﴿ ويزدكم قوّة إلى قوّتكم ﴾ وقول نوح :﴿ ويمددكم بأموالٍ وبنين ﴾ [ نوح، ١٣ ]. ﴿ ولا تتولوا ﴾ أي : ولا تعرضوا عن قبول قولي ونصحي حالة كونكم ﴿ مجرمين ﴾ أي : مشركين.
ولما حكى الله تعالى عن هود ما ذكره لقومه حكى أيضاً ما ذكره قومه له وهو أشياء : أوّلها : ذكره تعالى بقوله :﴿ قالوا يا هود ما جئتنا ببينة ﴾ أي : بحجة تدل على صحة دعواك. وسميت بينة ؛ لأنها تبين الحق، ومن المعلوم أنه عليه الصلاة والسلام كان قد أظهر لهم المعجزات إلا أن القوم لجهلهم أنكروها وزعموا أنه ما جاء بشيء من المعجزات. وثانيها : قولهم :﴿ وما نحن بتاركي آلهتنا ﴾ أي : عبادتها، وقولهم :﴿ عن قولك ﴾ أي : صادرين عن قولك حال من الضمير في تاركي، وهذا أيضاً من جهلهم فإنهم كانوا يعرفون أنّ النافع والضارّ هو الله تعالى وأن الأصنام لا تضر ولا تنفع وذلك حكم فطرة العقل وبديهة النفس، وثالثها : قولهم :﴿ وما نحن لك بمؤمنين ﴾ أي : مصدّقين، وفي ذلك إقناط له من الإجابة والتصديق.
ورابعها : قولهم :﴿ إن ﴾ أي : ما ﴿ نقول ﴾ في شأنك ﴿ إلا اعتراك ﴾ أي : أصابك ﴿ بعض آلهتنا بسوء ﴾ لسبك إياها فجعلتك مجنوناً وأفسدت عقلك، ثم إنه تعالى ذكر أنهم لما قالوا ذلك ﴿ قال ﴾ هود عليه السلام مجيباً لهم :﴿ إني أشهد الله ﴾ عليّ ﴿ واشهدوا ﴾ أنتم أيضاً عليّ ﴿ أني بريء مما تشركون ﴾.
﴿ من دونه ﴾ أي : الله وهو الأصنام التي كانوا يعبدونها ﴿ فكيدوني ﴾ أي : احتالوا في هلاكي ﴿ جميعاً ﴾ أنتم وأصنامكم التي تعتقدون أنها تضر وتنفع فإنها لا تضرّ ولا تنفع.
فائدة : اتفق القراء على إثبات الياء في كيدوني هنا وقفاً ووصلاً لثباتها في المصحف ﴿ ثم لا تنظرون ﴾ أي : تمهلون، وهذا فيه معجزة عظيمة لهود عليه السلام ؛ لأنه كان وحيداً في قومه وقال لهم هذه المقالة ولم يهبهم ولم يخف منهم مع ما هم فيه من الكفر والجبروت ثقة بالله تعالى كما قال تعالى :﴿ إني توكلت على الله ربي وربكم ﴾
﴿ إني توكلت على الله ربي وربكم ﴾ أي : فوضت أمري إليه واعتمدت عليه ﴿ ما من دابة ﴾ تدب على الأرض ويدخل في هذا جميع بني آدم والحيوان ؛ لأنّهم يدبون على الأرض. ﴿ إلا هو آخذ بناصيتها ﴾ أي : مالكها وقاهرها فلا يقع نفع ولا ضر إلا بإذنه والناصية كما قال الأزهري : عند العرب منبت الشعر في مقدّم الرأس، وسمي الشعر النابت هنا ناصية باسم منبته، والعرب إذا وصفوا إنساناً بالذلة والخضوع قالوا : ما ناصية فلان إلا بيد فلان، وكانوا إذا أسروا الأسير وأرادوا إطلاقه والمنّ عليه جزوا ناصيته ليكون ذلك علامة لقهره، فخوطبوا في القرآن بما يعرفون من كلامهم ﴿ إن ربي على صراط مستقيم ﴾ أي : طريق الحق والعدل فلا يظلمهم ولا يعمل إلا بالإحسان والإنصاف فيجازي المحسن بإحسانه والمسيء بعصيانه.
وقوله تعالى :﴿ فإن تولّوا ﴾ فيه حذف إحدى التاءين، أي : تعرضوا ﴿ فقد أبلغتكم ﴾ جميع ﴿ ما أرسلت به إليكم ﴾ فإن قيل : الإبلاغ كان قبل التولي فكيف وقع جزاء للشرط ؟ أجيب : بأنّ معناه فإن تتولوا لم أعاتب على تقصير من جهتي وصرتم محجوجين ؛ لأنكم أنتم الذين أصررتم على التكذيب وقوله ﴿ ويستخلف ربي قوماً غيركم ﴾ استئناف بالوعيد لهم بأنّ الله تعالى يهلكهم ويستخلف قوماً آخرين في ديارهم وأموالهم يوحدونه تعالى ويعبدونه ﴿ ولا تضرّونه ﴾ أي : الله بإشراككم ﴿ شيئاً ﴾ من الضرر إنما تضرون أنفسكم. وقيل : لا تنقصونه شيئاً إذا أهلككم ؛ لأنّ وجودكم وعدمكم عنده سواء ﴿ إنّ ربي على كلِّ شيء ﴾ صغير أو كبير، حقير أو جليل.
﴿ حفيظ ﴾، أي : رقيب عالم بكل شيء وقادر على كل شيء فيحفظني أن تنالوني بسوء أو حفيظ لأعمال العباد حتى يجازيهم عليها، أو حفيظ على كل شيء يحفظه من الهلاك إذا شاء ويهلكه إذا شاء.
﴿ ولما ﴾ لم يرجعوا ولم يرعووا ببينة ولا رغبة ولا رهبة ﴿ جاء أمرنا ﴾ أي : عذابنا، وذلك هو ما نزل بهم من الريح العقيم عذبهم الله تعالى بها سبع ليالٍ وثمانية أيام حسوماً تدخل في مناخرهم وتخرج من أدبارهم وترفعهم وتضربهم على الأرض على وجوههم حتى صاروا كأعجاز نخل خاوية، وهنا همزتان مفتوحتان من كلمتين. قرأ قالون والبزي وأبو عمرو بإسقاط الأولى، وقرأ ورش وقنبل بتحقيق الأولى وتسهيل الثانية والباقون بتحقيقهما، ﴿ نجينا هوداً والذين آمنوا معه ﴾، أي : من هذا العذاب وكانوا أربعة آلاف ﴿ برحمةٍ منا ﴾ لأنّ العذاب إذا نزل قد يعمّ المؤمن والكافر، فلما أنجى الله تعالى المؤمنين من ذلك العذاب كان برحمته وفضله وكرمه ﴿ ونجيناهم من عذاب غليظ ﴾ هو عذاب الآخرة. ووصفه بالغلظ ؛ لأنه أغلظ من عذاب الدنيا أو نجينا هوداً والذين آمنوا معه من أن يصل إليهم الكفار بسوء مع اجتهادهم في ذلك، ونجيناهم من عذاب غليظ هو الريح المذكورة.
ولما ذكر الله تعالى قصة عاد خاطب أمة محمد صلى الله عليه وسلم فقال :﴿ وتلك عاد ﴾ وهو إشارة إلى قبورهم وآثارهم كأنه تعالى قال : سيحوا في الأرض فانظروا إليها واعتبروا، ثم إنه تعالى جمع أوصافهم ثم ذكر عاقبة أحوالهم في الدنيا والآخرة، أمّا أوصافهم فثلاثة : الصفة الأولى : قوله تعالى :﴿ جحدوا بآيات ربهم ﴾، أي : بالمعجزات التي أتى بها هود عليه السلام. الصفة الثانية : قوله تعالى :﴿ وعصوا رسله ﴾، أي : هوداً وحده، وإنما أتى به بلفظ الجمع إمّا للتعظيم، أو لأنّ من عصى رسولاً فقد عصى جميع الرسل لقوله تعالى :﴿ لا نفرّق بين أحد من رسله ﴾ [ البقرة، ٢٨٥ ]. الصفة الثالثة : قوله تعالى :﴿ واتبعوا أمر كل جبارٍ عنيد ﴾، أي : أنّ السفلة كانوا يقلدون الرؤساء في قولهم :﴿ ما هذا إلا بشر مثلكم ﴾ [ المؤمنون، ٢٤ ] فأطاعوا من دعاهم إلى الكفر وما يرديهم، وعصوا من دعاهم إلى الإيمان ولا يرديهم، والجبار : المرتفع المتمرد، والعنيد والعنود والمعاند هو المنازع المعارض.
ولما
ذكر تعالى أوصافهم ذكر أحوالهم بقوله تعالى :﴿ وأتبعوا في هذه الدنيا لعنةً ويوم القيامة ﴾، أي : جعل اللعن رديفاً لهم ومتابعاً ومصاحباً في الدنيا والآخرة. ومعنى اللعنة : الإبعاد من رحمة الله تعالى ومن كل خير، وقيل : اللعنة في الدنيا من الناس وفي الآخرة لعنة على رؤوس الأشهاد. ثم إنه تعالى بين السبب الأصلي في نزول هذه الأحوال المكروهة بهم بقوله تعالى :﴿ ألا إن عاداً كفروا ربهم ﴾، أي : كفروا بربهم، فحذف الباء أو أنّ المراد بالكفر الجحد، أي : جحدوا ربهم. وقيل : هو من باب حذف المضاف، أي : كفروا نعمة ربهم.
تنبيه : ألا أداة استفتاح لا تذكر إلا بين كلام يعظم موقعه ويجل خطبه، ثم قال :﴿ ألا بعداً لعاد ﴾ دعاء عليهم بالهلاك. والمراد به الدلالة على أنهم كانوا مستوجبين لما نزل بهم بسبب ما حكي عنهم، وإنما كرر ألا وأعاد ذكرهم تفظيعاً لأمرهم وحثاً على الاعتبار بحالهم. وقوله تعالى :﴿ قوم هود ﴾ عطف بيان لعاد وفائدته تمييزهم من عاد الثانية عاد إرم والإيماء إلى استحقاقهم للبعد بما جرى بينهم وبين هود.
القصة الثالثة : التي ذكرها الله تعالى في هذه السورة قصة صالح عليه السلام المذكورة في قوله تعالى :﴿ وإلى ثمود ﴾ وهم سكان الحجر، أي : وأرسلنا إلى ثمود ﴿ أخاهم ﴾ فهو معطوف على قوله تعالى :﴿ نوحاً ﴾ كما عطف عليه ﴿ وإلى عاد ﴾ وقوله تعالى :﴿ صالحاً ﴾ عطف بيان، وتلك الأخوة كانت في النسب لا في الدين، كما مرّ في هود، ثم أخرج قوله عليه السلام على تقدير سؤال بقوله :﴿ قال يا قوم ﴾، أي : يا من يعز عليّ أن يحصل لهم سوء ﴿ اعبدوا الله ﴾، أي : وحدوه وخصوه بالعبادة ﴿ ما لكم من إله غيره ﴾ هو إلهكم المستحق للعبادة لا هذه الأصنام، ثم ذكر الدلائل الدالة على وحدانيته تعالى بقوله :﴿ هو أنشاكم ﴾، أي : ابتدأ خلقكم ﴿ من الأرض ﴾ وذلك أنهم من بني آدم وآدم خلق من الأرض، أو أنّ الإنسان مخلوق من المني وهو متولد من الدم والدم متولد من الأغذية وهي إمّا حيوانية وإمّا نباتية، فأمّا الحيوانية فحالها كحال الإنسان فوجب انتهاء الكل إلى النبات والنبات متولد من الأرض، فثبت أنه تعالى أنشأ الإنسان من الأرض. وقيل : من بمعنى في كما في قوله تعالى :﴿ إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة ﴾ [ الجمعة، ٩ ]. ﴿ واستعمركم فيها ﴾، أي : جعلكم عمارها وسكانها، وقال الضحاك : أطال أعماركم فيها حتى أنّ الواحد منهم كان يعيش ثلاثمائة سنة إلى ألف سنة وكذا كان قوم عاد، وروي أنّ ملوك فارس قد أكثروا من حفر الأنهار وغرس الأشجار وحصلت لهم الأعمار الطويلة، فسأل نبيّ من أنبياء زمانهم ربه ما سبب تلك الأعمار فأوحى الله إليه أنهم عمروا بلادي فعاش فيها عبادي، وأخذ معاوية في إحياء الأرض في آخرة عمره فقيل له ذلك فقال : ما حملني عليه إلا قول القائل :
ليس الفتى بفتى لا يستضاء به ولا يكون له في الأرض آثار
وقال مجاهد : استعمركم من العمرى، أي : جعلها لكم ما عشتم فإذا متم انتقلت إلى غيركم.
ولما بيّن لهم عليه السلام عظمة الله تعالى بين لهم طريق الرجوع إليه بقوله :﴿ فاستغفروه ﴾، أي : آمنوا به ﴿ ثم توبوا إليه ﴾ من عبادة غيره ؛ لأنّ التوبة لا تصح إلا بعد الإيمان وقد مرّ مثل ذلك ﴿ إنّ ربي قريب ﴾ من خلقه بعلمه لكل من أقبل عليه من غير حاجة إلى حركة ﴿ مجيب ﴾ لكل من ناداه لا كمعبوداتكم في الأمرين. ولما قرّر لهم عليه السلام هذه الدلائل.
﴿ قالوا ﴾ له ﴿ يا صالح قد كنت فينا مرجواً قبل هذا ﴾، أي : القول الذي جئت به لما نرى فيك من مخايل الرشد والسداد، فإنك كنت تعطف على فقيرنا وتعين ضعيفنا وتعود مرضانا، فقوي رجاؤنا فيك أن تنصر ديننا فكيف أظهرت العداوة ؟ !. ثم إنهم أضافوا إلى هذا التعجب الشديد فقالوا :﴿ أتنهانا أن نعبد ما ﴾ كان ﴿ يعبد آباؤنا ﴾ من الآلهة، ومقصودهم بذلك التمسك بطرف التقليد ووجوب متابعة الآباء والأسلاف، ونظير هذا التعجب ما حكاه الله تعالى عن كفار مكة حيث قالوا :﴿ أجعل الآلهة إلهاً واحداً إنّ هذا لشيء عجاب ﴾ [ ص، ٥ ] ثم قالوا :﴿ وإننا لفي شك مما تدعونا إليه ﴾ من التوحيد وترك عبادة الأصنام ﴿ مريب ﴾، أي : موقع في الريبة وهي قلق النفس وانتفاء الطمأنينة باليقين، والرجاء : تعلق النفس بمجيء الخير على جهة الظنّ، ونظيره الأمل والطمع، والنهي : المنع من الفعل بصيغة لا تفعل. وقولهم هذا مبالغة في تزييف كلامه.
﴿ قال ﴾ صالح عليه السلام مجيباً لهم ﴿ يا قوم أرأيتم ﴾، أي : أخبروني ﴿ إن كنت على بيّنة ﴾، أي : بيان وبصيرة ﴿ من ربي ﴾ وأتى بحرف الشك على سبيل الجزم ليلائم الخطاب حال المخاطبين ﴿ وآتاني منه رحمة ﴾، أي : نبوّة ورسالة ﴿ فمن ينصرني ﴾، أي : يمنعني ﴿ من الله ﴾، أي : عذابه ﴿ إن عصيته ﴾، أي : إن خالفت أمره في تبليغ رسالته والمنع عن الإشراك به ﴿ فما تزيدونني ﴾، أي : بأمركم لي بذلك ﴿ غير تخسير ﴾، أي : غير تضليل. قال الحسن بن الفضل : لم يكن صالح في خسارة حتى يقول :﴿ فما تزيدونني غير تخسير ﴾ وإنما المعنى فما تزيدونني بما تقولون إلا نسبتي إياكم إلى الخسارة.
ولما كانت العادة فيمن يدعي النبوّة عند قوم يعبدون الأصنام أن يطلبوا المعجزة وأمر صالح عليه السلام. هكذا كان يروى أن قومه خرجوا في عيد لهم فسألوه أن يأتيهم بآية وأن يخرج لهم من صخرة معينة أشاروا إليها ناقة، فدعا ربه فخرجت كما سألوا. أشار إليها بقوله :﴿ ويا قوم هذه ناقة الله ﴾ وإضافتها إلى الله إضافة تشريف كبيت الله ﴿ لكم آية ﴾، أي : معجزة من وجوه : أحدها : أنه خلقها الله تعالى من الصخرة. ثانيها : أنه تعالى خلقها في جوف الجبل ثم شق الجبل عنها. ثالثها : أنه تعالى خلقها حاملاً من غير ذكر ثم ولدت فصيلاً يشبهها. رابعها : أنه تعالى خلقها على تلك الصورة دفعة واحدة. خامسها : ما روي أنه كان لها شرب يوم ولكل القوم شرب يوم آخر. سادسها : أنه كان يحصل منها لبن كثير فيكفي الخلق العظيم به، فكل واحد من هذه الوجوه معجز قويّ، وليس في القرآن إلا أنّ هذه الناقة كانت آية معجزة، وأمّا بيان أنها كانت آية معجزة من أي الوجوه فليس فيه بيانه.
تنبيه :﴿ آية ﴾ نصب على الحال وعاملها معنى الإشارة و﴿ لكم ﴾ حال منها تقدّمت عليها لتنكيرها ولو تأخرت لكانت صفة لها فلما تقدّمت انتصبت على الحال ثم قال لهم :﴿ فذروها ﴾، أي : اتركوها على، أي : حالة كان ترككم لها ﴿ تأكل ﴾ مما أرادت ﴿ في أرض الله ﴾ من العشب والنبات فليس عليكم مؤنتها فصارت مع كونها آية لهم تنفعهم ولا تضرّهم ؛ لأنهم كانوا ينتفعون بلبنها ثم إنه عليه السلام خاف عليها منهم لما شاهد من إصرارهم على الكفر فإنّ الخصم لا يحب ظهور حجة خصمه بل يسعى في إخفائها وإبطالها بأقصى الإمكان، فلهذا السبب كان يخاف من إقدامهم على قتلها فلهذا احتاط وقال :﴿ ولا تمسوها بسوء ﴾، أي : بعقر أو غيره ثم توعدهم بقوله :﴿ فيأخذكم ﴾ إن مسستموها بسوء ﴿ عذاب قريب ﴾، أي : في الدنيا لا يتأخر عن مسكم لها إلا يسيراً وذلك تحذير شديد لهم في الإقدام على قتلها فخالفوه.
﴿ فعقروها ﴾ وذبحوها ﴿ فقال ﴾ لهم عند بلوغه الخبر ﴿ تمتعوا ﴾، أي : عيشوا ﴿ في داركم ﴾ والتمتع التلذذ بالمنافع والملاذ التي تدرك بالحواس وذلك لا يحصل إلا للحي. وفي المراد من الدار وجهان : أحدهما : البلد وتسمى البلد الديار لأنه يدار فيها، أي : يتصرّف فيها، يُقال ديار بكر لبلادهم. الثاني : دار الدنيا، أي : تمتعوا في الدنيا ﴿ ثلاثة أيام ﴾ وذلك أنهم لما عقروا الناقة أنذرهم صالح عليه الصلاة والسلام بنزول العقاب بعد هذه المدّة قال ابن عباس : إنه تعالى لما أمهلهم تلك الأيام الثلاثة فقد رغبهم في الإيمان ثم قالوا لصالح عليه السلام وما علامة ذلك ؟ قال : تصير وجوهكم في اليوم الأول مصفرة وفي الثاني محمرة وفي الثالث مسودّة ثم يأتيكم العذاب في اليوم الرابع، فلما رأوا وجوههم مسودّة أيقنوا حينئذٍ بالعذاب فتحنطوا واستعدوا للعذاب فصبحهم اليوم الرابع كما قال تعالى :﴿ ذلك ﴾، أي : الوعد العالي الرتبة في الصدق ﴿ وعد غير مكذوب ﴾، أي : فيه فاتسع في الظرف بحذف الحرف وإجرائه مجرى المفعول به كقوله :
ويومٍ شهدناه أي : ورب يوم شهدنا فيه سليماً وعامراً. أو غير مكذوب على المجاز أو وعد غير كذب على أنه مصدر.
قوله تعالى :﴿ فلما جاء أمرنا نجينا صالحاً والذين آمنوا معه برحمة منا ﴾ في تفسيره، وقراءة الهمزتين وعدد الذين آمنوا معه مثل ما تقدّم في قصة عاد ﴿ و ﴾ نجيناهم ﴿ من خزي يومئذ ﴾ وهو هلاكهم بالصيحة أو ذلهم أو فضيحتهم يوم القيامة. وقرأ نافع والكسائي بفتح الميم من يومئذ على البناء لإضافتها إلى مبني، وكسرها الباقون على الإعراب والأوّل أكثر ﴿ إنّ ربك هو القويّ ﴾ فهو يغلب كل شيء ﴿ العزيز ﴾، أي : القادر على منع غيره من غير أن يقدر أحد عليه.
ثم أخبر تعالى عن عذاب قوم صالح بقوله :﴿ وأخذ الذين ظلموا ﴾، أي : أنفسهم بالكفر ﴿ الصيحة ﴾، أي : صيحة جبريل عليه السلام، صاح بهم صيحة واحدة فهلكوا جميعاً أو أتتهم صيحة من السماء فتقطعت قلوبهم في صدورهم فماتوا جميعاً، كما قال تعالى :﴿ فأصبحوا في ديارهم جاثمين ﴾، أي : باركين على الركب ميتين.
تنبيه : إنما قال تعالى :﴿ وأخذ ﴾ ولم يقل وأخذت ؛ لأنّ الصيحة محمولة على الصياح، وأيضاً فصل بين الفعل والاسم المؤنث بفاصل فكان الفاصل كالعوض من تاء التأنيث.
وقوله تعالى :﴿ كأن ﴾ مخففة من الثقيلة واسمها محذوف، أي : كأنهم ﴿ لم يغنوا ﴾، أي : يقيموا ﴿ فيها ﴾، أي : ديارهم ولم يسكنوها مدة من الدهر يقال : غنيت بالمكان إذا أقمت به. وقوله تعالى :﴿ ألا إنّ ثمود كفروا ربهم ألا بعداً لثمود ﴾ تفسيره ما تقدّم في قوله تعالى :﴿ ألا إن عاداً كفروا ربهم ﴾ [ هود، ٦٠ ] الآية. وقرأ حفص وحمزة ﴿ ألا إن ثمود ﴾ بغير تنوين للتعريف والتأنيث بمعنى القبيلة، والباقون بالتنوين للذهاب إلى الحيّ أو إلى الأب الأكبر. ومَنْ نوّن وقف على ألف بعد الدال، ومن لم ينون وقف على الدال ساكنة. وقرأ الكسائي بعداً لثمودٍ بتنوين ثمود مع الكسر لما مرّ، والباقون بغير تنوين مع الفتح لما مرّ أيضاً.
القصة الرابعة : التي ذكرها الله تعالى في هذه السورة قصة إبراهيم عليه الصلاة والسلام المذكورة في قوله تعالى :﴿ ولقد جاءت رسلنا إبراهيم بالبشرى ﴾، أي : بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب، والمراد بالرسل الملائكة، ولفظ رسلنا جمع وأقله ثلاثة، واختلف في الزائد على ذلك وأجمعوا على أنّ الأصل فيهم كان جبريل عليه السلام، واقتصر ابن عباس وعطاء على أقل الجمع فقالا : كانوا ثلاثة : جبريل وميكائيل وإسرافيل وهم الذين ذكرهم الله تعالى في سورة الذاريات بقوله تعالى :﴿ هل أتاك حديث ضيف إبراهيم المكرمين ﴾ [ الذاريات، ٢٤ ]، وفي الحجر :﴿ ونبئهم عن ضيف إبراهيم ﴾ [ الحجر، ٥١ ]. وقال الضحاك : كانوا تسعة. وقال محمد بن كعب القرظي : كان جبريل ومعه سبعة أملاك. وقال السدي : كان جبريل ومعه أحد عشر ملكاً على صورة الغلمان الذين يكونون في غاية الحسن. قال النحويون : ودخلت كلمة قد هاهنا ؛ لأنّ السامع لقصص الأنبياء يتوقع قصة بعد قصة، وقد للتوقع، ودخلت اللام في ﴿ لقد ﴾ لتأكيد الخبر. ﴿ قالوا سلاماً ﴾، أي : سلمنا عليك سلاماً، ويجوز نصبه بقالوا على معنى ذكروا سلاماً، أي : سلموا ﴿ قال سلام ﴾، أي : أمركم أو جوابي سلام أو وعليكم سلام.
تنبيه : قوله :﴿ سلام ﴾ أكمل من قوله السلام، لأنّ التنكير يفيد الكمال والمبالغة والتمام، ولهذا صح وقوعه مبتدأ ؛ لأنّ النكرة إذا كانت موصوفة جاز جعلها مبتدأ، أو لفظ السلام فإنه لا يفيد إلا الماهية. فإن قيل : فلأي شيء ما كفى الأوّل في التحلل من الصلاة عند النوويّ ؟ أجيب : بأنّ ذلك سنة متبعة. وقرأ حمزة والكسائي بكسر السين وسكون اللام ولا ألف بعدها، والباقون بفتح السين واللام وبعدها ألف. قال الفراء : ولا فرق بين القراءتين كما يقال حل وحلال وحرم وحرام. وقيل سلم هو بمعنى الصلح، أي : نحن سلم صلح غير حرب. ﴿ فما لبث أن جاء بعجل حنيذ ﴾، أي : فما أبطأ مجيئه به. والحنيذ : المشوي على الحجارة المحماة في حفرة من الأرض، وكان سميناً يقطر ودكه. كما قال تعالى في موضع آخر :﴿ فجاء بعجل سمين ﴾ [ الذاريات، ٢٦ ]. قال قتادة : كان عامة مال إبراهيم البقر. روي أنّ إبراهيم عليه السلام مكث خمس عشرة ليلة لم يأته ضيف فاغتمّ لذلك وكان يحب الضيف ولا يأكل إلا معه، فلما جاءته الملائكة رأى أضيافاً لم ير مثلهم فعجل قراهم وجاء بعجل سمين مشوي.
﴿ فلما رأى أيديهم ﴾، أي : الأضياف ﴿ لا تصل إليه ﴾، أي : لا يمدّون أيديهم إليه ﴿ نكرهم ﴾ أي : أنكرهم وأنكر حالهم لامتناعهم من الطعام ﴿ وأوجس ﴾، أي : أضمر في نفسه ﴿ منهم خيفة ﴾، أي : خوفاً. قال قتادة : وذلك أنهم كانوا إذا نزل بهم ضيف فلم يأكل من طعامهم ظنوا أنه لم يأت بخير وإنما جاء بشر. ﴿ قالوا لا تخف ﴾ يا إبراهيم ﴿ إنا ﴾ ملائكة الله ﴿ أرسلنا إلى قوم لوط ﴾ بالعذاب وإنما لم نمد له أيدينا لأنا لا نأكل.
﴿ وامرأته ﴾، أي : إبراهيم سارّة وهي ابنة عمّ إبراهيم ﴿ قائمة ﴾ وراء الستر تسمع محاورتهم أو على رؤوسهم للخدمة فسمعت البشارة بالولد التي دل عليها فيما مضى قوله :﴿ بالبشرى ﴾ ﴿ فضحكت ﴾ سروراً من تلك البشرى لزوجها مع كبره وربما ظنته من غيرها ؛ لأنها كانت عجوزاً عقيماً فأزيل ذلك الظنّ عنها بقوله تعالى :﴿ فبشرناها ﴾، أي : على لسان الملائكة تشريفاً لها وتفخيماً لشأنها. ﴿ بإسحاق ﴾ تلده ﴿ ومن وراء إسحاق يعقوب ﴾، أي : يكون يعقوب عليه السلام ابنا لإسحاق عليه السلام فتعيش حتى ترى ولد ولدها. قال البقاعي : والذي يدل على هذا التقدير من أنهم بشروه بالولد قبل امرأته فسمعت فعجبت ما يأتي عن نص التوراة، وساق عن التوراة عبارة مطوّلة. وقيل : سبب سرورها زوال الخيفة أو هلاك أهل الفساد. وقيل : فضحكت فحاضت كما قال الشاعر :
عهدي بسلمى ضاحكاً في لبانة ***
أي : حائضاً في جماعة من النساء.
وهذا يرد على الفراء حيث قال : ضحكت بمعنى حاضت لم نسمعه من ثقة، وقال آخر : تضحك الضبع لقتلى هذيل. أراد أنها تحيض فرحاً.
تنبيه : هاهنا همزتان مكسورتان من كلمتين، قرأ قالون والبزي بتسهيل الأولى مع المد والقصر، وقرأ ورش وقنبل بتسيهل الثانية وإبدالها أيضاً حرف مد. وقرأ أبو عمرو بإسقاط أحدهما مع المد والقصر، والباقون بتحقيق الهمزتين ولا ألف بينهما.
﴿ قالت يا ويلتا ﴾ هذه كلمة تقال عند أمر عظيم، والألف مبدلة من ياء الإضافة. ﴿ أألد وأنا عجوز ﴾ وكانت ابنة تسعين سنة في قول ابن إسحاق، وقول مجاهد : تسع وتسعين سنة، ﴿ وهذا بعلي ﴾، أي : زوجي سُمِّيَ بذلك لأنه قيّم أمرها، وقولها ﴿ شيخاً ﴾ نصب على الحال. قال الواحدي : وهذا من لطيف النحو وغامضه فإنّ كلمة ﴿ هذا ﴾ للإشارة فكان قولها :﴿ وهذا بعلي شيخاً ﴾ قائم مقام أن يقال : أشير إلى بعلي حال كونه شيخاً، والمقصود تعريف هذه الحالة المخصوصة وهي الشيخوخة، وكان ابن مائة وعشرين سنة في قول ابن إسحاق. وقال مجاهد : مائة سنة وكان بين البشارة والولادة سنة ﴿ إن هذا لشيء عجيب ﴾، أي : إنّ الولد من هرمين فهو استعجاب من حيث العادة دون القدرة ولذلك ﴿ قالوا ﴾.
ولذلك
﴿ قالوا ﴾، أي : الملائكة لسارة ﴿ أتعجبين من أمر الله ﴾ منكرين عليها ذلك، أي : لا تعجبين من ذلك فإنّ الله تعالى قادر على كل شيء، وإذا أراد شيئاً كان سريعاً فإن خوارق العادات باعتبار أهل بيت النبوّة ومهبط المعجزات، وتخصيصهم بمزيد النعم والكرامات ليس بمستغرب ﴿ رحمة الله وبركاته عليكم أهل البيت ﴾، أي : بيت إبراهيم وأهل منصوب على المدح أو النداء لقصد التخصيص كقولهم : اغفر لنا أيتها العصابة وهذا على معنى الدعاء من الملائكة لهم بالخير والبركة، وفيه دليل على أنّ أزواج الرجل من أهل بيته ﴿ إنه ﴾ تعالى ﴿ حميدٌ ﴾، أي : محمود على كل حال أو فاعل ما يستوجب به الحمد ﴿ مجيد ﴾، أي : كثير الخير والإحسان.
القصة الخامسة : التي ذكرها الله تعالى في هذه السورة قصة لوط عليه السلام المذكورة قوله تعالى :﴿ فلما ذهب عن إبراهيم الروع ﴾، أي : الخوف وهو ما أوجس من الخيفة حين أنكر أضيافه واطمأن قلبه بعرفانهم ﴿ وجاءته البشرى ﴾ بدل الروع بالولد أخذ ﴿ يجادلنا ﴾، أي : يجادل رسلنا ﴿ في ﴾ شأن ﴿ قوم لوط ﴾ وجواب «لما » أخذ يجادلنا إلا أنه حذف اللفظ لدلالة الكلام عليه. وقيل : تقديره لما ذهب عن إبراهيم الروع جادلنا. فإن قيل : كيف جادل إبراهيم الملائكة مع علمه بأنهم لا يمكنهم مخالفة أمر الله وهذا منكر ؟ أجيب : بأنّ المراد من هذه المجادلة تأخير العذاب عنهم لعلهم يؤمنون ويرجعون عما هم فيه من الكفر والمعاصي، لأنّ الملائكة قالوا :﴿ إنا مهلكوا أهل هذه القرية ﴾ [ العنكبوت، ٣١ ] أو أنّ مجادلته إنما كانت في قوم لوط بسبب مقام لوط فيهم، ولهذا قال إبراهيم عليه السلام : أرأيتم لو كان فيها خمسون رجلاً من المؤمنين أتهلكونها ؟ قالوا : لا قال : أو أربعون ؟ قالوا : لا. قال : فثلاثون. قالوا : لا. قال : فعشرون ؟ قالوا : لا حتى بلغ خمسة قالوا : لا. قال : أرأيتم لو كان فيها رجل مسلم أتهلكونها ؟ قالوا : لا. فعند ذلك قال : إنّ فيها لوطاً. وقد ذكر الله تعالى هذا في سورة العنكبوت، فقال :﴿ ولما جاءت رسلنا إبراهيم بالبشرى قالوا إنا مهلكوا أهل هذه القرية إنّ أهلها كانوا ظالمين ٣١ قال إنّ فيها لوطاً قالوا نحن أعلم بمن فيها لننجينه وأهله إلا امرأته كانت من الغابرين ﴾ [ العنكبوت، ٣١، ٣٢ ] قال ابن جريج : وكان في قرى لوط أربعة آلاف ألف، ولو كانت هذه المجادلة مذمومة لما مدحه بقوله تعالى :﴿ إنّ إبراهيم لحليم ﴾.
﴿ إنّ إبراهيم لحليم ﴾، أي : لا يتعجل مكافأة غيره بل يتأنى فيها فيؤخر أو يعفو. ومن هذا حاله يحب من غيره هذه الطريقة، وهذا مدح عظيم من الله تعالى لإبراهيم، ثم ضم إلى ذلك ما يتعلق بالحلم وهو قوله تعالى :﴿ أوّاه ﴾، أي : كثير التأوّه من الذنوب والتأسف على الناس. ﴿ منيب ﴾، أي : رجاع.
فلما أطال مجادلتهم قالوا له :﴿ يا إبراهيم أعرض عن هذا ﴾، أي : الجدال وإن كانت الرحمة ديدنك فلا فائدة فيه :﴿ إنه قد جاء أمر ربك ﴾، أي : قضاؤه الأزلي بعذابهم وهو أعلم بحالهم ﴿ وإنهم آتيهم عذاب غير مردود ﴾، أي : لا سبيل إلى دفعه وردّه.
﴿ ولما جاءت رسلنا لوطاً ﴾، أي : هؤلاء الملائكة الذين بشروا إبراهيم بالولد. قال ابن عباس : انطلقوا من عند إبراهيم إلى لوط وهو ابن أخي إبراهيم عليهما الصلاة والسلام وبين القريتين أربعة فراسخ ودخلوا عليه على صورة شباب مرد من بني آدم، وكانوا في غاية الحسن، ولم يعرف لوط أنهم ملائكة الله تعالى ﴿ سيء بهم ﴾، أي : حزن بسببهم ﴿ وضاق بهم ذرعاً ﴾، أي : صدراً، يقال : ضاق ذرع فلان بكذا إذا وقع في مكروه لا يطيق الخروج منه. وذلك أنّ لوطاً نظر إلى حسن وجوههم وطيب روائحهم، فخاف عليهم خبث قومه وأن يعجز عن مقاومتهم. وقيل : ساءه ذلك لأنه ؛ عرف بالآخرة أنهم ملائكة الله تعالى وأنهم جاؤوا لإهلاك قومه، فَرَقَّ قلبه على قومه ﴿ وقال هذا يوم عصيب ﴾، أي : شديد كأنه قد عصب به الشرّ والبلاء، أي : شد به مأخوذ من العصابة التي تشد بها الرأس، قال قتادة : خرجت الملائكة من عند إبراهيم نحو قرية لوط فأتوا لوطاً نصف النهار وهو في أرض له يعمل فيها، وروي أنه كان يحتطب وقد قال الله تعالى لهم : لا تهلكوهم حتى يشهد عليهم لوط أربع شهادات، فاستضافوه وانطلق بهم، فلما مضى ساعة قال لهم ما بلغكم من أمر هذه القرية ؟ قالوا : وما أمرهم قال : أشهد بالله أنها لشرّ قرية في الأرض عملاً يقول ذلك أربع مرّات. وروي أنّ الملائكة جاؤوا إلى بيت لوط فوجدوه في داره ولم يعلم بذلك أحد إلا أهل بيت لوط، فخرجت امرأته فأخبرت قومها وقالت : إنّ في بيت لوط رجالاً ما رأيت مثل وجوههم قط.
﴿ وجاءه قومه ﴾ لما علموا بهم ﴿ يهرعون ﴾، أي : يسرعون ﴿ إليه ﴾ قاله ابن عباس وقال الحسن : الإهراع المشي بين مشيين. ﴿ ومن قبل ﴾، أي : قبل مجيئهم إلى لوط وقيل من قبل مجيء الرسل إليهم ﴿ كانوا يعملون السيئات ﴾، أي : الفعلات الخبيثة والفاحشة القبيحة وهي إتيان الرجال في أدبارهم. لوطٌ ﴿ قال ﴾ لقومه حين قصدوا أضيافه وظنوا أنهم غلمان من بني آدم ﴿ يا قوم هؤلاء بناتي ﴾ قال مجاهد وسعيد بن جبير : أراد ببناته نساء قومه، وأضافهنّ إلى نفسه ؛ لأنّ كل نبي هو أبو أمّته كالوالد لهم، أي : فتزوجوا منهنّ. وقيل : أراد بنات نفسه عرضهنّ عليهم بشرط الإسلام. وقيل : كان في ذلك الوقت وفي تلك الشريعة يباح تزويج المرأة المسلمة بالكافر كما زوّج رسول الله صلى الله عليه وسلم ابنته من عتبة بن أبي لهب وأبي العاص بن الربيع قبل الوحي وهما كافران، وقيل : كان لهم سيدان مطاعان فأراد أن يزوّجهما ابنتيه ﴿ هن أطهر لكم ﴾، أي : أنظف فعلاً. فإن قيل : أفعل التفضيل يقتضي كون العمل الذي يطلبونه طاهراً ومعلوم أنه فاسد ؛ لأنه لا طهارة في إتيان الرجال ؟ أجيب : بأنّ هذا جارٍ مجرى قوله تعالى :﴿ أذلك خير نزلاً أم شجرة الزقوم ﴾ [ الصافات، ٦٢ ] ومعلوم أنّ شجرة الزقوم لا خير فيها وكقوله صلى الله عليه وسلم «لما قالوا يوم أحد : اعل هبل قال : الله أعلى وأجل ». ولا مماثلة بين الله تعالى والصنم وإنما هو كلام خرج مخرج المقابلة ولهذا نظائر كثيرة ﴿ فاتقوا الله ﴾ وراقبوه واتركوا ما أنتم عليه من الكفر والمعاصي ﴿ ولا تخزون ﴾، أي : تفضحوني ﴿ في ضيفي ﴾، أي : أضيافي ﴿ أليس منكم رجل رشيد ﴾ يهتدي إلى الحق فيأمر بالمعروف وينهى عن المنكر.
﴿ قالوا لقد علمت ما لنا في بناتك من حق ﴾، أي : حاجة ﴿ وإنك لتعلم ما نريد ﴾، أي : من إتيان الذكور وما لنا فيه الشهوة فعند ذلك.
﴿ قال ﴾، أي : لوط عليه السلام ﴿ لو أنّ لي بكم قوّة ﴾، أي : طاقة ﴿ أو آوي إلى ركن شديد ﴾، أي : عشيرة تنصرني شبهت بركن الجبل في شدّته، وعنه صلى الله عليه وسلم «رحم الله أخي لوطاً كان يأوي إلى ركن شديد »، والركن الشديد نصر الله ومعونته فكأن النبيّ صلى الله عليه وسلم استغرب من لوط عليه السلام قوله :﴿ أو آوي إلى ركن شديد ﴾ وعدّه نادرة إذ لا يمكن أشدّ من الركن الذي كان يأوي إليه، وجواب لو محذوف تقديره : لبطشت بكم أو لدفعتكم، روي أنه أغلق بابه دون أضيافه وأخذ يجادلهم من وراء الباب فتسوّروا الجدار فلما رأت الملائكة ما على لوط من الكرب.
﴿ قالوا يا لوط إنا رسل ربك لن يصلوا إليك ﴾ بسوء فافتح الباب ودعنا وإياهم، ففتح الباب فدخلوا فاستأذن جبريل ربه في عقوبتهم فأذن له، فقام في الصورة التي يكون فيها فنشر جناحه، وله جناحان، وعليه وشاح من درّ منظوم وهو براق الثنايا، فضرب بجناحه وجوههم، فطمس أعينهم كما قال تعالى :﴿ فطمسنا أعينهم ﴾ [ القمر، ٣٧ ] فصاروا لا يعرفون الطريق ولا يهتدون إلى بيوتهم، فخرجوا وهم يقولون : النجاء النجاء، فإنّ في بيت لوط قوماً سحرة.
تنبيه :﴿ لن يصلوا إليك ﴾ جملة موضحة للتي قبلها ؛ لأنهم إذا كانوا رسل الله لن يصلوا إليه، ولن يقدروا على ضرره، ثم قالوا له :﴿ فأسر بأهلك بقطع ﴾، أي : طائفة ﴿ من الليل ﴾ وقرأ نافع وابن كثير بعد الفاء بهمزة وصل من السرى والباقون بهمزة قطع من الإسراء. ﴿ ولا يلتفت منكم أحد ﴾، أي : لا ينظر إلى ورائه لئلا يرى عظيم ما نزل بهم. وقوله :﴿ إلا امرأتك ﴾ قرأه ابن كثير وأبو عمرو برفع التاء على أنه بدل من أحد، والباقون بالنصب على أنه استثناء من الأهل، أي : فلا تسر بها ﴿ إنه مصيبها ما أصابهم ﴾ فلم يخرج بها، وقيل : خرجت والتفتت فقالت : واقوماه فجاءها حجر فقتلها. روي أنه قال لهم : متى موعد هلاكهم فقالوا له :﴿ إنّ موعدهم الصبح ﴾ قال : أريد أسرع من ذلك فقالوا :﴿ أليس الصبح بقريب ﴾، أي : فأسرع الخروج بمن أمرت بهم.
﴿ فلما جاء أمرنا ﴾، أي : عذابنا بهلاكهم ﴿ جعلنا عاليها ﴾، أي : قراهم ﴿ سافلها ﴾ روي أنّ جبريل عليه السلام أدخل جناحه تحت قرى قوم لوط المؤتفكات المذكورة في سورة براءة، وكانت خمس مدائن، وفيها أربعمائة ألف، وقيل : أربعة آلاف، ألف فرفع المدائن كلها حتى سمع أهل السماء صياح الديكة ونهيق الحمير ونباح الكلاب، لم يكفأ لهم إناء ولم ينتبه نائم، ثم أسقطها مقلوبة إلى الأرض. ﴿ وأمطرنا عليها ﴾، أي : المدن بعد قلبها، وقيل : على شُذّاذها وهو بضمّ الشين المعجمة وبذالين معجمتين أولاهما مشدّدة وهم الذين ليسوا من أهلها يكونون في القوم وليسوا منهم ﴿ حجارة من سجيل ﴾، أي : من طين طبخ بالنار كما قال تعالى في موضع آخر ﴿ من طين ﴾ وقيل مثل السجل وهو الدلو العظيمة. ﴿ منضود ﴾، أي : متتابع يتبع بعضها بعضاً.
﴿ مسوّمة ﴾، أي : معلمة عليها اسم من يرمى بها. وقال أبو صالح : رأيت منها عند أم هانئ، وهي حجارة فيها خطوط حمر على هيئة الجزع. وقال الحسن : عليها أمثال الخواتيم. وقال ابن جريج : كان عليها سيما يعلم بها أنها ليست من حجارة الأرض، وقوله تعالى :﴿ عند ربك ﴾ ظرف لها ﴿ وما هي ﴾، أي : تلك الحجارة ﴿ من الظالمين ﴾، أي : مشركي مكة ﴿ ببعيد ﴾، أي : بشيء بعيداً وبمكان بعيد ؛ لأنها وإن كانت في السماء وهي مكان بعيد إلا أنها إذا وقعت منها فهي أسرع شيء لحوقاً بالمرمي، فكأنها بمكان قريب منه، وفيه وعيد لهم، وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم «سأل جبريل ؟ فقال : يعني ظالمي مكة ما من ظالم منهم إلا وهو يعرض عليه حجر فيسقط عليه من ساعة إلى ساعة » وقيل الضمير للقرى، أي : هي قريبة من ظالمي مكة يمرّون عليها في مسيرهم.
القصة السادسة : التي ذكرها الله تعالى في هذه السورة قصة شعيب عليه السلام المذكورة في قوله تعالى :
﴿ وإلى مدين ﴾، أي : وأرسلنا إلى مدين وهم قبيلة ؛ أبوهم مدين بن إبراهيم عليه السلام. وقيل : هو اسم مدينة بناها مدين المذكور، وعلى هذا فالتقدير : وأرسلنا إلى أهل مدين، فحذف المضاف لدلالة الكلام عليه، ﴿ أخاهم ﴾، أي : في النسب لا في الدين و﴿ شعيباً ﴾ عطف بيان وكأنّ قائلاً قال : فما قال لهم ؟ فقيل :﴿ قال ﴾ ما قال إخوته من الأنبياء في البداءة بأصل الدين. ﴿ يا قوم ﴾ مستعطفاً لهم مظهراً غاية الشفقة ﴿ اعبدوا الله ﴾، أي : وحدوه ولا تشركوا به شيئاً ﴿ ما لكم من إله غيره ﴾ فلقد اتفقت كما ترى كلمتهم، واتحدت إلى الله تعالى دعوتهم، وهذا وحده قطعي الدلالة على صدق كل منهم لما علم قطعاً من تباعد أعصارهم، وتنائي ديارهم، وإن بعضهم لم يلمّ بالعلوم، ولا عرف أخبار الناس إلا من الحيّ القيوم، ولما دعاهم إلى العدل فيما بينهم وبين الله تعالى دعاهم إلى العدل فيما بينهم وبين عبيده في أقبح ما كانوا اتخذوه بعد الشرك تديناً فقال :﴿ ولا تنقصوا ﴾ بوجه من الوجوه ﴿ المكيال والميزان ﴾، أي : لا الكيل ولا آلته ولا الوزن ولا آلته، والكيل تعديل الشيء بالآلة في القلة والكثرة، والوزن تعديله في الخفة والثقل، فالكيل العدل في الكمية والوزن العدل في الكيفية، ثم علل ذلك بقوله :﴿ إني أراكم بخير ﴾، أي : بثروة وسعة تغنيكم عن التطفيف. قال ابن عباس : كانوا موسرين في نعمة. وقال مجاهد : كانوا في خصب وسعة فحذرهم زوال تلك النعمة وغلاء السعر وحلول النقمة إن لم يؤمنوا ويتوبوا وهو قوله :﴿ وإني أخاف عليكم ﴾ إن لم تؤمنوا ﴿ عذاب يوم محيط ﴾، أي : يحيط بكم فيهلككم جميعاً وهو عذاب الاستئصال في الدنيا وعذاب النار في الآخرة، ومنه قوله تعالى :﴿ وإنّ جهنم لمحيطة بالكافرين ﴾ [ العنكبوت، ٥٤ ] والمحيط من صفة اليوم في الظاهر، وفي المعنى من صفة العذاب وذلك مجاز مشهور، كقوله :﴿ هذا يوم عصيب ﴾ [ هود، ٧٧ ].
﴿ ويا قوم أوفوا ﴾، أي : أتموا إتماماً حسناً ﴿ المكيال والميزان ﴾، أي : الكيل والوزن وآلتهما. فإن قيل : النهي عن النقصان أمر بالإيفاء فما فائدة قوله تعالى ﴿ أوفوا ﴾ ؟ أجيب : بأنهم نهوا أوّلاً عن القبيح الذي كانوا عليه من نقص المكيال والميزان ؛ لأنّ في التصريح بالقبيح نفياً عن المنهي وتغييراً له، ثم ورد الأمر بالإيفاء الذي هو حسن في العقول مصرحاً بلفظه لزيادة ترغيب فيه وبعث عليه وجيء به مقيداً. ﴿ بالقسط ﴾، أي : ليكون الإيفاء على وجه العدل والتسوية من غير زيادة ولا نقصان أمراً بما هو الواجب ؛ لأنّ ما جاوز العدل فضل وأمر مندوب إليه غير المأمور به، وقد يكون محظوراً كما في الربا وقوله تعالى :﴿ ولا تبخسوا الناس أشياءهم ﴾ تعميم بعد تخصيص فإنه أعم من أن يكون في المقدار أو في غيره، فإنهم كانوا يأخذون من كل شيء يباع كما تفعل السماسرة وكانوا، يمسكون الناس، وكانوا ينقصون من أثمان ما يشترون من الأشياء، فنهوا عن ذلك، فظهر بهذا البيان أنّ هذه الأشياء غير مكررة بل في كل واحد منها فائدة زائدة. والحاصل : أنه تعالى نهى في الآية الأولى عن النقصان في المكيال والميزان، وفي الثانية : أمر بإعطاء قدر الزيادة ولا يحصل الجزم واليقين بأداء الواجب إلا عند أداء ذلك القدر من الزيادة، ولهذا قال الفقهاء : إنه تعالى أمر بغسل الوجه وذلك لا يحصل إلا عند غسل جزء من الرأس، فكأنه تعالى نهى أوّلاً عن سعي الإنسان في أن يجعل مال غيره ناقصاً لتحصل له تلك الزيادة. وفي الثاني : أمر بأن يسعى في تنقيص مال نفسه ليخرج بالتعيين عن العهدة كما قيده بقوله تعالى ﴿ بالقسط ﴾، وفي الآية الثالثة نهى عن النقص في كل الأشياء وكذا قوله تعالى :﴿ ولا تعثوا في الأرض مفسدين ﴾ فإنّ العثو يعم تنقيص الحقوق وغيره من أنواع الفساد، ومفسدين حال مؤكدة لمعنى عاملها. وفائدتها : إخراج ما يقصد به الإصلاح كما فعله الخضر عليه السلام.
﴿ بقيت الله ﴾ قال ابن عباس : يعني ما أبقى الله لكم من الحلال بعد إيفاء الكيل والوزن ﴿ خير لكم ﴾ مما تأخذونه بالتطفيف. وقال مجاهد : مما يحصل لكم في الدنيا من المال الحرام ﴿ إن كنتم مؤمنين ﴾، أي : مصدّقين بما قلت لكم وأمرتكم به.
فائدة :﴿ بقيت ﴾ رسمت هنا بالتاء المجرورة وقف عليها ابن كثير وأبو عمرو والكسائي والباقون وقفوا عليها بالهاء. ﴿ وما أنا عليكم بحفيظ ﴾ أعلم جميع أعمالكم وأقدر على كفكم عما يكون منها فساداً. ولما أمرهم شعيب عليه السلام بشيئين بالتوحيد وبترك البخس.
﴿ قالوا ﴾ له ﴿ يا شعيب ﴾ سموه باسمه استخفافاً وغلظة وأنكروا عليه متهزئين به ﴿ أصلواتك تأمرك ﴾، أي : تفعل معك فعل من يأمر دائماً بتكليفنا ﴿ أن نترك ما يعبد ﴾، أي : على سبيل المواظبة ﴿ آباؤنا ﴾ من الأصنام، فحذف الذي هو التكليف ؛ لأنّ الإنسان لا يؤمر بفعل غيره، قالوا له ذلك في جواب أمره لهم بالتوحيد ﴿ أو ﴾ نترك ﴿ أن نفعل ﴾، أي : دائماً ﴿ في أموالنا ما نشاء ﴾ من قطع الدراهم والدنانير وإفساد المعاملة والمقامرة ونحوها مما يكون إفساداً للمال، قالوا ذلك في جواب النهي عن التطفيف والأمر بالإيفاء، وإنما أضافوا ذلك إلى صلاته تهكماً واستهزاء بها وإشعاراً بأن مثل هذا لا يدعو إليه داع عقلي، وإنما دعاك إليه خطرات ووساوس من جنس ما تواظب عليه، وكان شعيب عليه الصلاة والسلام كثير الصلاة في الليل والنهار، وكان قومه إذا رأوه يصلي تغامزوا وتضاحكوا. وقصدوا بقولهم :﴿ أصلواتك تأمرك ﴾ السخرية والهزء، كما أنك إذا رأيت معتوهاً يطالع كتباً ثم يذكر كلاماً فاسداً فيقال له : هذا فائدة مطالعة تلك الكتب على سبيل الهزء فكذا هنا. وقرأ حفص وحمزة والكسائي : أصلاتك بالإفراد، والباقون بالجمع والتاء بالرفع في القراءتين، وغلظ ورش اللام في أصلواتك، وقولهم له :﴿ إنك لأنت الحليم الرشيد ﴾ تهكم به، وقصدوا وصفه بضدّ ذلك كما يقال للبخيل الخسيس : لو رآك حاتم لسجد لك، وعللوا إنكار ما سمعوه منه واستبعدوه بأنه موسوم بالحلم والرشد المانعين من المبادرة إلى مثل ذلك.
ثم أخرج قوله عليه الصلاة والسلام على تقدير سؤال بقوله :﴿ قال يا قوم ﴾ مستعطفاً لهم لما بينهم من عواطف القرابة منبهاً لهم على أحسن النظر فيما ساقه على سبيل الفرض ؛ والتقدير : ليكون أدعى إلى سبيل الوفاق والإنصاف ﴿ أرأيتم ﴾، أي : أخبروني ﴿ إن كنت على بينة ﴾، أي : برهان ﴿ من ربي ﴾ وعطف على جملة الشرط المستفهم عنه قوله :﴿ ورزقني ﴾ والضمير في ﴿ منه ﴾ لله تعالى، أي : من عنده بإعانته بلا كدّ مني في تحصيله. وعظم الرزق بقوله :﴿ رزقاً حسناً ﴾ جليلاً ومالاً حلالاً لم أظلم فيه أحداً، وجواب الشرط محذوف، أي : فهل يسوغ مع هذا الإنعام الجامع للسعادات الروحانية والجسمانية أن أخون في وحيه فأخالفه في أمره ونهيه، وهذا اعتذار عما أنكروا عليه من تغيير المألوف والنهي عن دين الآباء ﴿ وما أريد أن أخالفكم ﴾، أي : وأذهب ﴿ إلى ما أنهاكم عنه ﴾ فأرتكبه ﴿ إن ﴾، أي : ما ﴿ أريد ﴾، أي : فيما آمركم به وأنهاكم عنه ﴿ إلا الإصلاح ﴾، أي : ما أريد إلا أن أصلحكم بموعظتي ونصيحتي وأمري بالمعروف ونهي عن المنكر ﴿ ما استطعت ﴾، أي : وهو الإبلاغ والإنذار فقط، ولا استطيع إجباركم على الطاعة ؛ لأنّ ذلك إلى الله تعالى فإنه يضل من يشاء ويهدي من يشاء ﴿ وما توفيقي ﴾، أي : لإصابة الحق والصواب ﴿ إلا بالله ﴾، أي : إلا بمعونته وتأييده ﴿ عليه ﴾ لا على غيره ﴿ توكلت ﴾، أي : اعتمدت في جميع أموري، فإنه القادر على كل شيء، وما عداه عاجز، وهذه الصيغة تفيد الحصر فلا ينبغي للإنسان أن يتوكل على أحد إلا على الله تعالى، وفيه إشارة إلى محض التوحيد الذي هو أقصى مراتب المبدأ وأمّا قوله :﴿ وإليه أنيب ﴾ ففيه إشارة إلى معرفة المعاد، وهو أيضاً يفيد الحصر ؛ لأنّ قوله :﴿ وإليه أنيب ﴾ يدل على أنه لا مآب للخلق إلا إلى الله تعالى، وروي عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا ذكر شعيباً قال :«خطيب الأنبياء » لحسن مراجعته قومه.
﴿ ويا قوم لا يجرمنكم ﴾، أي : لا يكسبنكم ﴿ شقاقي ﴾، أي : خلافي وهو فاعل بيجرم، والضمير مفعول أوّل، والمفعول الثاني ﴿ أن يصيبكم ﴾ عذاب العاجلة على كفركم وأفعالكم الخبيثة. قال في «الكشاف » : جرم مثل كسب في تعديه إلى مفعول واحد وإلى مفعولين، تقول : جرم ذنباً وكسبه وجرمته ذنباً وكسبته إياه. ومنه قوله تعالى ﴿ لا يجرمنكم شقاقي أن يصيبكم ﴾. ﴿ مثل ما أصاب قوم نوح ﴾ من الغرق ﴿ أو قوم هود ﴾ من الريح العقيم ﴿ أو قوم صالح ﴾ من الرجفة ﴿ وما قوم لوط منكم ببعيد ﴾ لا في الزمان ولا في المكان ؛ لأنهم كانوا حديثي عهد بهلاكهم، وكانوا جيران قوم لوط وبلادهم قريبة من بلادهم، فإن القرب في الزمان والمكان يفيد زيادة المعرفة وكمال الوقوف على الأحوال، فكأنه يقول : اعتبروا بأحوالهم واحذروا من مخالفة الله ومنازعته حتى لا ينزل بكم مثل ذلك العذاب. فإن قيل : لِمَ قال ببعيد ولم يقل ببعيدين ؟ أجيب : بأنّ التقدير : وما إهلاكهم بشيء بعيد، وأيضاً يجوز أن يسوى في قريب وبعيد وقليل وكثير بين المذكر والمؤنث لورودهما على زنة المصادر التي هي الصهيل والنهيق ونحوهما انتهى.
﴿ واستغفروا ربكم ﴾، أي : آمنوا به ﴿ ثم توبوا إليه ﴾ عن عبادة غيره ؛ لأنّ التوبة لا تصح إلا بعد الإيمان وقد مرّ مثل ذلك. ﴿ إن ربي رحيم ﴾، أي : عظيم الرحمة للتائبين ﴿ ودود ﴾، أي : محب لهم. ولما بلغ عليه السلام في التقرير والبيان أجابوه بأنواع فاسدة.
الأوّل :﴿ قالوا ﴾ له ﴿ يا شعيب ما نفقه ﴾، أي : ما نفهم ﴿ كثيراً مما تقول ﴾. فإن قيل : إنه كان يخاطبهم بلسانهم فلم قالوا ﴿ ما نفقه ﴾ ؟ أجيب : بأنهم كانوا لا يلقون إليه أذهانهم لشدّة نفرتهم عن كلامه وهو قوله تعالى :﴿ وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه ﴾ [ الأنعام، ٢٥ ] أو أنهم فهموه ولكنهم ما أقاموا له وزناً، فذكروا هذا الكلام على وجه الاستهانة، كما يقول الرجل لصاحبه إذا لم يعبأ بحديثه : ما أدري ما تقول.
النوع الثاني : قولهم له :﴿ وإنا لنراك فينا ضعيفاً ﴾، أي : لا قوّة لك فتمتنع منا إن أردناك بسوء أو ذليلاً لا عز لك، وقيل : أعمى بلغة حمير، قاله قتادة، وفي هذا تجويز العمي على الأنبياء إلا أنّ هذا اللفظ لا يحسن الاستدلال به في إثبات هذا المعنى ؛ لأنه ترك الظاهر من غير دليل، وقيل : ضعيف البصر، قاله الحسن. النوع الثالث : قولهم له :﴿ ولولا رهطك ﴾، أي : عشيرتك وعزتهم عندنا لكونهم على ملتنا لا لخوف من شوكتهم ﴿ لرجمناك ﴾ بالحجارة حتى تموت، والرهط من الثلاثة إلى عشرة، وقيل : إلى السبعة، والمقصود من هذا الكلام أنهم بينوا له أنه لا حرمة له عندهم ولا وقع له في صدورهم وأنهم إنما لم يقتلوه لأجل احترام رهطه. النوع الرابع : قولهم له :﴿ وما أنت علينا بعزيز ﴾، أي : لا تعز علينا ولا تكرم حتى نكرمك من القتل ونرفعك عن الرجم، وإنما يعز علينا رهطك ؛ لأنهم من أهل ديننا ولم يختاروك علينا ولم يتبعوك دوننا.
ولما خوّف الكفار شعيباً عليه السلام بالقتل والإيذاء حكى الله تعالى عنهم ما ذكروه في هذا المقام وهو نوعان : الأوّل :﴿ قال ﴾ لهم ﴿ يا قوم ﴾ مستعطفاً لهم مع غلظتهم عليه ﴿ أرهطي أعز عليكم من الله ﴾ المحيط بكل شيء قدرة وعلماً حتى نظرتم إليهم فيّ لقرابتي منهم، ولم تنظروا إلى الله تعالى في قربي منه لما ظهر عليّ من كرامته تعالى ﴿ واتخذتموه وراءكم ظهرياً ﴾، أي : جعلتموه كالمنسيّ المنبوذ وراء الظهر بإشراككم به، والإهانة لرسوله. قال في «الكشاف » : والظهريّ منسوب إلى الظهر والكسر من تغييرات النسب، ونظيره قولهم في النسبة إلى الأمس أمسيّ بكسر الهمزة، وقوله :﴿ إنّ ربي بما تعملون محيط ﴾، أي : إنه عليم بأحوالكم فلا يخفى عليه شيء منها.
النوع الثاني : قوله :﴿ ويا قوم اعملوا على مكانتكم ﴾ والمكانة الحالة التي يمكن صاحبها من عمله، والمعنى : اعملوا حال كونكم موصوفين بغاية المكنة والقدرة وكل ما في وسعكم وطاقتكم من إيصال الشرور إليّ، ﴿ إني ﴾ أيضاً ﴿ عامل ﴾ بما آتاني الله من القدرة والطاعة ﴿ سوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه ومن هو كاذب ﴾ فمن موصولة مفعول العلم. فإن قيل : لم لم يقل فسوف تعلمون ؟ أجيب : بأنّ إدخال الفاء وصل ظاهر بحرف موضوع للوصل وأمّا حذف الفاء فيجعله جواباً عن سؤال مقدّر وهو المسمى في علم البيان بالاستئناف البياني، تقديره أنه لما قال :﴿ ويا قوم اعملوا على مكانتكم إني عامل ﴾ فكأنهم قالوا : فماذا يكون بعد ذلك فقال : سوف تعلمون، فظهر أن حذف حرف الفاء هاهنا أكمل في بيان الفصاحة والتهويل ؛ لأنه استئناف. ﴿ وارتقبوا ﴾، أي : انتظروا عاقبة أمركم ﴿ إني معكم رقيب ﴾، أي : منتظر، والرقيب بمعنى الراقب من رقبه كالضريب والصريم، بمعنى الضارب والصارم أو بمعنى المراقب كالعشير والنديم، أو بمعنى المرتقب كالفقير والرفيع بمعنى المفتقر والمرتفع.
﴿ ولما جاء أمرنا ﴾ بعذابهم وإهلاكهم ﴿ نجينا شعيباً والذين آمنوا معه برحمة ﴾، أي : بفضل ﴿ منا ﴾ بأن هديناهم للإيمان ووفقناهم للطاعة. فإن قيل : لم جاءت قصة عاد وقصة مدين بالواو وقصة صالح ولوط بالفاء ؟ أجيب : بأنّ قصة عاد ومدين لم يسبقهما ذكر وعد يجري مجرى السبب له بخلاف قصتي صالح ولوط فإنهما ذكرا بعد الوعد وذلك قوله تعالى :﴿ وعد غير مكذوب ﴾ وقوله :﴿ إنّ موعدهم الصبح ﴾ فلذلك جاءا بفاء السببية. ﴿ أخذت الذين ظلموا ﴾، أي : ظلموا أنفسهم بالشرك والبخس. ﴿ الصيحة ﴾، أي : صيحة جبريل عليه السلام صاح بهم صيحة خرجت أرواحهم وماتوا جميعاً، وقيل : أتتهم صيحة من السماء ﴿ فأصبحوا في ديارهم جاثمين ﴾، أي : باركين على الركب ميتين.
﴿ كأن لم يغنوا ﴾، أي : كأنهم لم يقيموا ﴿ فيها ﴾، أي : ديارهم مدّة من الدهر، مأخوذ من قولهم : غني بالمكان إذا أقام فيه مستغنياً به عن غيره ﴿ ألا بعداً ﴾، أي : هلاكاً ﴿ لمدين كما بعدت ثمود ﴾ إنما شبههم بهم ؛ لأنّ عذابهم كان أيضاً بالصيحة لكن صيحتهم كانت من تحتهم وصيحة مدين كانت من فوقهم، قال ابن عباس : لم يعذب الله تعالى أمّتين بعذاب إلا قوم شعيب وقوم صالح ؛ فأمّا قوم صالح فأخذتهم الصيحة من تحتهم، وأمّا قوم شعيب فأخذتهم الصيحة من فوقهم.
القصة السابعة : التي ذكرها الله تعالى في هذه السورة وهي آخر قصصها قصة موسى عليه الصلاة والسلام المذكورة في قوله تعالى :﴿ ولقد أرسلنا موسى بآياتنا ﴾ أي : التوراة مع ما فيها من الشرائع والأحكام ﴿ وسلطان مبين ﴾ أي : برهان بيّن ظاهر على صدق نبوّته ورسالته وقيل : المراد بالآيات المعجزات وبالسلطان المبين العصا ؛ لأنها أظهر الآيات، وذلك لأنّ الله تعالى أعطى موسى تسع آيات بينات وهي العصا واليد البيضاء والطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم ونقص من الثمرات والسنين، ومنهم من أبدل نقص الثمرات والسنين بإظلال الجبل وفلق البحر. قال بعض المحققين : سميت الحجة سلطاناً لأنّ صاحب الحجة يقهر من لا حجة له، كالسلطان يقهر غيره، والعلماء سلاطين بسبب كمالهم في القوّة العلمية، والملوك سلاطين بحسب ما معهم من القدرة والمكنة إلا أن سلطنة العلماء أكمل وأقوى من سلطنة الملوك ؛ لأنّ سلطنة العلماء لا تقبل النسخ والعزل وسلطنة الملوك تقبلهما ولأنّ سلطنة الملوك تابعة لسلطنة ؛ العلماء لأنّ سلطنة العلماء من جنس سلطنة الأنبياء وسلطنة الملوك من جنس سلطنة الفراعنة.
﴿ إلى فرعون ﴾ طاغية القبط ﴿ وملئه ﴾، أي : أشراف قومه الذين تتبعهم الأذناب ؛ لأنّ القصد الأكبر رفع أيديهم عن بني إسرائيل ﴿ فاتبعوا أمر فرعون ﴾، أي : اتبعوا طريقة فرعون المنهمك في الضلال والطغيان الداعي إلى ما لا يخفى فساده على من له أدنى مسكة من العقل ولم يتبعوا موسى الهادي إلى الحق المؤيد بالمعجزات الظاهرة الباهرة لفرط جهالتهم وعدم استبصارهم ﴿ وما أمر فرعون برشيد ﴾، أي : بسديد ولا حميد العاقبة ولا يدعو إلى خير وقيل : رشيد ذو رشد، وانسلاخ فرعون من الرشد كان ظاهراً ؛ لأنه كان دهرياً نافياً للصانع والمعاد وكان يقول : لا إله للعالم وإنما يجب على أهل كل بلد أن يشتغلوا بطاعة سلطانهم وعبوديته رعاية لمصلحة العالم، وكل الرشد في عبادة الله تعالى ومعرفته، فلما كان هو نافياً لهذين الأمرين كان خالياً من الرشد بالكلية.
﴿ يقدم قومه يوم القيامة ﴾ إلى النار كما كان يقدمهم في الدنيا إلى الضلال أو كما تقدم قومه في الدنيا فأدخلهم البحر وأغرقهم فكذا يتقدمهم في القيامة فيدخلهم النار كما قال تعالى :﴿ فأوردهم النار ﴾. فإن قيل : لم لم يقل يقدم قومه فيوردهم النار بل أتى بلفظ الماضي ؟ أجيب : بأنه إنما أتى بلفظ الماضي مبالغة في تحققه، ونزل النار له منزلة الماء فسمّى إتيانها مورداً، ولهذا قال تعالى :﴿ وبئس الورد المورود ﴾ وردهم لأنّ الورد إنما يراد لتسكين العطش وتبريد الأكباد والنار ضدّه. فإن قيل : لفظ النار مؤنث فكان مقتضى ذلك أن يقال : وبئست الورد المورود ؟ أجيب : بأن لفظ الورد مذكر فكان التذكير والتأنيث جائزين كما تقول : نعم المنزل دارك ونعمت المنزل دارك، فمن ذكر غلب المنزل ومن أنث بنى على تأنيث الدار.
﴿ وأتبعوا في هذه ﴾، أي : الدنيا ﴿ لعنة ﴾، أي : طرداً وبعداً عن الرحمة ﴿ ويوم القيامة ﴾، أي : وأتبعوا يوم القيامة لعنة أخرى فهم ملعونون في الدنيا والآخرة، ونظيره قوله تعالى في سورة القصص :﴿ وأتبعناهم في هذه الدنيا لعنة ويوم القيامة هم من المقبوحين ﴾ [ القصص، ٤٢ ]. ﴿ بئس الرفد ﴾، أي : العون ﴿ المرفود ﴾ رفدهم، سأل رافع بن الأزرق ابن عباس عن ذلك فقال : هو اللعنة بعد اللعنة. وقال قتادة : ترادفت عليهم لعنتان من الله تعالى لعنة في الدنيا ولعنة في الآخرة، وكل شيء جعلته عوناً لشيء فقد رفدته به، وسميت اللعنة عوناً ؛ لأنها إذا أتبعتهم في الدنيا أبعدتهم عن الرحمة وأعانتهم على ما هم فيه من الضلال. وسميت رفداً أي عوناً لهذا المعنى على التهكم كقول القائل :
تحية بينهم ضرب وجيع ***
وسميت معاناً لأنها أردفت في الآخرة بلغة أخرى ليكونا هاديتين إلى طريق الجحيم.
ولما ذكر تعالى قصص الأوّلين قال تعالى :﴿ ذلك ﴾، أي : المذكور وهو مبتدأ خبره ﴿ من أنباء القرى ﴾، أي : أخبار أهل القرى وهم الأمم السالفة في القرون الماضية، وقوله تعالى :﴿ نقصه عليك ﴾، أي : نخبرك به يا محمد خبراً بعد خبر، وفائدة ذكر هذه القصص على النبيّ صلى الله عليه وسلم ليعلم السامع أنّ المؤمن يخرج من الدنيا مع الثناء الجميل في الدنيا والثواب الجزيل في الآخرة، وأنّ الكافر يخرج مع اللعنة في الدنيا والعقاب في الآخرة، وإذا تكرّرت هذه الأقاصيص على السمع فلا بدّ وأن يلين القلب وتخضع النفس وتزول العداوة ويحصل في القلب خوف يحمله على النظر والاستدلال. وفي أخباره صلى الله عليه وسلم بهذه القصص من غير مطالعة كتب ولا تتلمذ دلالة على نبوّته فإنّ ذلك لا يكون إلا بوحي من الله تعالى ﴿ منها ﴾، أي : القرى ﴿ قائم ﴾، أي : باقٍ كالزرع القائم هلك أهله دونه ﴿ و ﴾ منها ﴿ حصيد ﴾، أي : عافى الأثر كالزرع المحصود هلك مع أهله.
﴿ وما ظلمناهم ﴾، أي : بإهلاكهم بغير ذنب ﴿ ولكن ظلموا أنفسهم ﴾ بالكفر والمعاصي. وقال ابن عباس : يريد وما نقصناهم في الدنيا من النعيم والرزق ولكن نقصوا حظ أنفسهم حيث استخفّوا بحقوق الله تعالى ﴿ فما أغنت ﴾، أي : دفعت ﴿ عنهم آلهتهم ﴾، أي : أصنامهم ﴿ التي يدعون ﴾، أي : يعبدون ﴿ من دون الله ﴾، أي : غيره ﴿ من شيء ﴾ أي شيئاً فمن مزيدة ﴿ لما جاء أمر ربك ﴾، أي : عقابه ﴿ وما زادوهم ﴾ بعبادتهم ﴿ غير تتبيب ﴾، أي : غير تخسير، وقيل : تدمير.
ولما أخبر الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم في كتابه بما فعله بأمم من تقدّم من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام لما خالفوا الرسل وما ورد عليهم من عذاب الاستئصال وبين أنهم ظلموا أنفسهم فحل بهم العذاب في الدنيا. قال تعالى بعده :﴿ وكذلك ﴾، أي : ومثل ذلك الأخذ العظيم ﴿ أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ﴾، أي : القرى ﴿ ظالمة ﴾ والمراد أهلها ونظيره قوله تعالى :﴿ وكما أهلكنا من قرية بطرت معيشتها ﴾ [ القصص، ٥٨ ] وقوله تعالى :﴿ وكم قصمنا من قرية كانت ظالمة ﴾ [ الأنبياء، ١٢ ] فبين تعالى أنّ عذابه ليس مقصوراً على من تقدّم، بل الحال في أخذ كل الظالمين يكون كذلك. ولما بيّن تعالى كيفية أخذ الأمم المتقدّمة، ثم بين تعالى أنه إنما يأخذ جميع الظالمين على ذلك الوجه أتبعه بما يزيده تأكيداً وتقوية بقوله تعالى :﴿ إنّ أخذه أليم ﴾، أي : مؤلم ﴿ شديد ﴾، أي : صعب مفتت القوى. وعن أبي موسى الأشعري رضي الله تعالى عنه أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :«إنّ الله تعالى ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته ». ثم قرأ ﴿ وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة إنّ أخذه أليم شديد ﴾ » وفي هذه الآية الكريمة والحديث الشريف دلالة على أن من أقدم على ظلم فإنه يتداركه بالتوبة والإنابة وردّ الحقوق إلى أهلها، إن كان الظلم للغير لئلا يقع في هذا الوعيد العظيم والعذاب الشديد، ولا يظنّ أنّ هذه الآية مختصة بظالمي الأمم الماضية بل هي عامّة في كل ظالم ويعضده الحديث.
﴿ إنّ في ذلك ﴾، أي : ما ذكر من عذاب الأمم الماضية وإهلاكهم ﴿ لآية ﴾، أي : لعبرة وموعظة ﴿ لمن خاف عذاب ﴾ يوم الحياة ﴿ الآخرة ﴾ لأنه ينظر ما أحلّ الله تعالى بالمجرمين في الدنيا وما هو إلا أنموذج لما أعد لهم في الآخرة، فإذا رأى عظمه وشدّته اعتبر به عظم العذاب الموعود فيكون له عبرة وعظة ولطفاً في زيادة التقوى والخشية من الله تعالى، وقوله :﴿ ذلك ﴾ إشارة إلى يوم القيامة ؛ لأنّ عذاب الآخرة دل عليه ﴿ يوم مجموع له ﴾، أي : فيه ﴿ الناس ﴾، أي : إنّ خلق الأوّلين والآخرين كلهم يحشرون في ذلك اليوم ويجمعون، ثم وصفه تعالى بوصف آخر بقوله تعالى :﴿ وذلك يوم مشهود ﴾، أي : يشهده أهل السماوات وأهل الأرض.
﴿ وما نؤخره ﴾، أي : ذلك اليوم وهو يوم القيامة ﴿ إلا لأجل ﴾، أي : وقت ﴿ معدود ﴾، أي : معلوم محدود وذلك الوقت لا يعلمه إلا الله تعالى.
﴿ يوم يأت ﴾ ذلك اليوم ﴿ لا تكلم ﴾ فيه حذف إحدى التاءين، أي : لا تتكلم ﴿ نفس إلا بإذنه ﴾ تعالى. وقرأ نافع وأبو عمرو والكسائي بإثبات الياء بعد التاء من يأتي وصلاً ووقفاً وحذفها الباقون، وأمّا التاء من تكلم فشدّدها البزي في الوصل وخففها الباقون. فإن قيل : كيف يوفق بين قوله تعالى :﴿ يوم تأتي كل نفس تجادل عن نفسها ﴾ [ النحل، ١١١ ] وقوله تعالى :﴿ هذا يوم ينطقون ولا يؤذن لهم فيعتذرون ﴾ ؟ أجيب : بأنّ ذلك اليوم يوم طويل له مواقف ومواطن، ففي بعضها يجادلون عن أنفسهم، وفي بعضها يكفون عن الكلام ولا يؤذن لهم، وفي بعضها يؤذن لهم فيتكلمون، وفي بعضها يختم على أفواههم وتتكلم أيديهم وتشهد أرجلهم ﴿ فمنهم ﴾، أي : الناس ﴿ شقيّ و ﴾ منهم ﴿ سعيد ﴾، أي : فمنهم من سبقت له الشقاوة فوجبت له النار بمقتضى الوعيد، ومنهم من سبقت له السعادة فوجبت له الجنة بموجب الوعد، وعن عليَ رضي الله تعالى عنه قال : كنا في جنازة في بقيع الغرقد فأتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقعد وقعدنا حوله وبيده مخصرة ثم نكت بها الأرض ساعة، ثم قال :«ما من نفس منفوسة إلا قد كتب مكانها من الجنة أو النار فقالوا : يا رسول الله أفلا نتكل على كتابنا ؟ فقال : اعملوا فكل ميسر لما خلق له، أمّا من كان من أهل السعادة فسيصير إلى عمل أهل السعادة، ومن كان من أهل الشقاوة فسيصير لعمل أهل الشقاوة ثم قرأ ﴿ فأمّا من أعطى واتقى ٥ وصدّق بالحسنى ٦ فسنيسره لليسرى ﴾ [ الليل، ٥، ٦، ٧ ] الآية ». وبقيع الغرقد هو مقبرة أهل المدينة الشريفة ومدفنهم فيه، والمخصرة كالسوط والعصا مما يمسكه الإنسان بيده، والنكت بالنون والتاء المثناة من فوق ضرب الشيء بتلك المخصرة أو باليد أو نحو ذلك حتى يؤثر فيه.
﴿ فأمّا الذين شقوا ﴾ في علمه تعالى ﴿ ففي النار لهم فيها زفير ﴾ وهو صوت شديد ﴿ وشهيق ﴾ وهو صوت ضعيف. وقيل : الزفير إخراج النفس والشهيق ردّه. وقيل : الزفير بمنزلة ابتداء صوت الحمير بالنهيق، والشهيق بمنزلة آخر صوت الحمار إذا ردّده في صدره. وقيل : الزفير في الحلق والشهيق في الصدر، وعلى كل المراد منهما الدلالة على شدّة كربهم وغمهم.
﴿ خالدين فيها ﴾ وقوله تعالى :﴿ ما دامت السماوات والأرض ﴾ فيه وجهان : أحدهما : سموات الآخرة وأرضها وهي مخلوقة دائمة للأبد والدليل على أن لها سموات وأرضاً قوله تعالى :﴿ يوم تبدّل الأرض غير الأرض والسماوات ﴾ [ إبراهيم، ٤٨ ]. وقوله تعالى :﴿ وأورثنا الأرض نتبوّأ من الجنة حيث نشاء ﴾ [ الزمر، ٧٤ ]، ولأنه لا بدّ لأهل الآخرة مما يقلهم ويظلهم إمّا سماء يخلقها الله تعالى، أو يظلهم العرش وكل ما أظلك فهو سماء، وكل ما استقرّ قدمك عليه فهو أرض. والوجه الثاني : أنّ المراد مدّة دوامهما في الدنيا ﴿ إلاّ ﴾، أي : غير ﴿ ما شاء ربك ﴾ من الزيادة على مدّتهما مما لا منتهى له وذلك هو الخلود فيها أبداً ﴿ إن ربك فعال لما يريد ﴾ من غير اعتراض.
﴿ وأمّا الذين سعدوا ففي الجنة خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض إلا ما شاء ربك ﴾ كما تقدّم، ودل عليه قوله تعالى :﴿ عطاء غير مجذوذ ﴾، أي : مقطوع، وقيل الاستثناء في أهل الشقاوة يرجع إلى قوم من الموحدين يدخلهم الله تعالى إلى النار بذنوب اقترفوها ثم يخرجهم منها فيكون ذلك استثناء، وذلك كافٍ في صحة الاستثناء ؛ لأنّ زوال الحكم عن الكل يكفيه زواله عن البعض من غير الجنس لأنّ الذين أخرجوا من النار سعداء في الحقيقة استثناهم الله تعالى من الأشقياء، . لما روي عن جابر أنه صلى الله عليه وسلم قال :«يخرج قوم من النار بالشفاعة »، وفي رواية :«أن الله تعالى يخرج ما شاء من النار فيدخلهم الجنة ». وفي رواية أنه صلى الله عليه وسلم قال :«ليصيبن قوماً سفع من النار بذنوب أصابوها عقوبة ثم يدخلهم الله بفضله ورحمته الجنة » وفي رواية أنه صلى الله عليه وسلم قال :«يخرج قوم من النار بشفاعة محمد صلى الله عليه وسلم فيدخلون الجنة فيسمون الجهنميين ». وعن عبد الله بن عمرو بن العاص :«ليأتين على جهنم يوم تصفق فيه أبوابها ليس فيها أحد »، أي : من أهل الكبائر من أمّة محمد صلى الله عليه وسلم بأن تخلى طبقتهم التي كانوا فيها وإن نازع في ذلك الزمخشري على مذهبه الفاسد من أنّ أهل الكبائر يخلدون في النار، وأمّا الاستثناء في أهل السعادة فيرجع إلى مدّة لبثهم في النار قبل دخولهم الجنة أو أنّ الاستثناء راجع إلى الفريقين فإنهم مفارقوا الجنة أيام عذابهم، وأنّ التأبيد من مبدأ معين ينقص باعتبار الابتداء كما ينقص باعتبار الانتهاء، وهؤلاء وإن شقوا بعصيانهم فقد سعدوا بإيمانهم، ولا يقال فعلى هذا لم يكن قوله تعالى :﴿ فمنهم شقيّ وسعيد ﴾ تقسيماً صحيحاً ؛ لأنّ شرطه أن تكون صفة كل قسم منتفية عن قسيمه ؛ لأنّ ذلك الشرط حيث التقسيم لانفصال حقيقي، أو مانع من الجميع من الجنة والنار، مدّة تعميرهم في الدنيا واحتباسهم في البرزخ وهو ما بين الموت إلى البعث ومدّة وقوفهم للحساب، ثم يدخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار فيكون المعنى خالدين في الجنة والنار إلا هذا المقدار. وقيل : معناه لو شاء ربك لأخرجهم منها ولكنه لا يشاء ؛ لأنه تعالى حكم بالخلود. وقال الفراء : هذا الاستثناء استثناه الله تعالى ولا يفعله، كقولك : والله لأضربنك إلا أن أرى غير ذلك وعزيمتك أن تضربه.
وقال أهل المعاني : هذه عبارة عن التأبيد على عادة العرب يقولون : لا آتيك ما دامت السماوات والأرض ولا يكون كذا ما اختلف الليل والنهار يعنون أبداً. وقيل : إنّ أهل النار ينقلون منها إلى الزمهرير وغيره من العذاب أحياناً، وكذلك أهل الجنة ينعمون بما هو أعلى من الجنة وهو الفوز برضوان الله تعالى ولقائه كما قال تعالى :﴿ وعد الله المؤمنين والمؤمنات جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ومساكن طيبة في جنات عدن ورضوان من الله أكبر ﴾ [ التوبة، ٧٢ ]. وقرأ حفص وحمزة والكسائي سعدوا بضم السين على البناء للمفعول من سعده الله بمعنى أسعده والباقون بفتحها، وعطاء نصب على المصدر المؤكد، أي : أعطوا عطاء، أو الحال من الجنة،
ولما شرح الله تعالى أقاصيص عبدة الأوثان ثم أتبعه بأحوال الأشقياء وأحوال السعداء شرح للرسول صلى الله عليه وسلم أحوال الكفار من قومه فقال :
﴿ فلا تك ﴾ يا محمد ﴿ في مرية ﴾، أي : شك ﴿ مما يعبد هؤلاء ﴾ المشركون من الأصنام أننا نعذبهم كما عذبنا من قبلهم، وهذه تسلية للنبيّ صلى الله عليه وسلم ﴿ ما يعبدون إلا كما يعبد آباؤهم ﴾، أي : كعبادتهم ﴿ من قبل ﴾ وقد عذبناهم ﴿ وإنا لموفوهم ﴾ مثلهم ﴿ نصيبهم ﴾، أي : حظهم من العذاب ﴿ غير منقوص ﴾، أي : كاملاً غير ناقص.
ولما ذكر تعالى في هذه الآية إعراضهم عن الاتباع مع ما أتى به من المعجزات وأنزل عليه من الكتاب سلاه بأخيه موسى عليه السلام بقوله تعالى :﴿ ولقد آتينا موسى الكتاب ﴾، أي : التوراة الجامعة للخير ﴿ فاختلف فيه ﴾، أي : الكتاب، فآمن به قوم وكفر به قوم، كما اختلف هؤلاء في القرآن ﴿ ولولا كلمة سبقت من ربك ﴾ بتأخير الحساب والجزاء للخلائق إلى يوم القيامة ﴿ لقضي ﴾، أي : لوقع القضاء ﴿ بينهم ﴾، أي : بين من اختلف في كتاب موسى في الدنيا فيما اختلفوا فيه بإنزال ما يستحقه المبطل ليتميز به المحق، ولكن سبقت الكلمة أنّ القضاء الكامل إنما يكون يوم القيامة كما قال تعالى في سورة يونس عليه السلام :﴿ فما اختلفوا حتى جاءهم العلم ﴾ [ يونس، ٩٣ ] الآية ولما كان الاختلاف قد يكون بغير الكفر بين تعالى أنه به ؛ لأنّ كل طائفة من اليهود تنكر شكها فيه وفعلها فعل الشاك فقال تعالى مؤكداً :﴿ وإنهم لفي شك ﴾، أي : عظيم محيط بهم ﴿ منه ﴾، أي : من الكتاب والقضاء ﴿ مريب ﴾، أي : موقع في الريب والتهمة والاضطراب مع ما رأوا من الآيات التي منها سماع كلام الله تعالى ورؤية ما كان يتجلى في جبل الطور من خوارق الأحوال. وقيل : الضمير في ﴿ وإنهم ﴾ راجع لكفار مكة وفي ﴿ منه ﴾ للقرآن.
﴿ وإن كلا ﴾، أي : كل الخلائق، وقوله تعالى ﴿ لما ﴾ ما زائدة واللام موطئة لقسم مقدّر تقديره والله ﴿ ليوفينهم ربك أعمالهم ﴾ فيجازي المصدّق على تصديقه الجنة، ويجازى المكذب على تكذيبه النار. وقرأ نافع وابن كثير وشعبة بتخفيف وإن والباقون بالتشديد، وقرأ ابن عامر وعاصم وحمزة بتشديد ميم لما والباقون بالتخفيف.
فائدة : قال بعض الفضلاء أنه تعالى لما أخبر عن توفية الأجزية على المستحقين في هذه الآية ذكر فيها سبعة أنواع من التأكيدات : أوّلها : كلمة إن وهي للتأكيد، وثانيها : لفظة كل وهي أم الباب في التأكيد. وثالثها : اللام الداخلة على خبر إن تفيد التأكيد أيضاً. ورابعها : حرف ما إذا جعلناه على قول الفراء موصولاً. وخامسها : المضمر. وسادسها : اللام الثانية الداخلة على جواب القسم. وسابعها : النون المذكورة في قوله تعالى ﴿ ليوّفينّهم ﴾ فجميع هذه الألفاظ السبعة الدالة على التوكيد في هذه الكلمة الواحدة تدلّ على أنّ أمر الربوبية والعبودية لا يتم إلا بالبعث والقيامة وأمر الحشر والنشر، ثم أردفه بقوله تعالى :﴿ إنه بما يعملون خبير ﴾ وهو من أعظم المؤكدات فإنه تعالى لا يخفى عليه شيء من أعمال عباده، ففيه وعد للمحسنين ووعيد للمكذبين الكافرين.
ولما بين تعالى أمر الوعد والوعيد قال لنبيه صلى الله عليه وسلم :﴿ فاستقم ﴾، أي : على دين ربك والعمل والدعاء إليه ﴿ كما أمرت ﴾ والأمر في ذلك للتأكيد فإنّه صلى الله عليه وسلم كان على الاستقامة لم يزل عليها، فهو كقولك للقائم : قم حتى آتيك، أي : دم على ما أنت عليه من القيام حتى آتيك، وتوطئة لقوله تعالى :﴿ ومن تاب معك ﴾، أي : وليستقم أيضاً على دين الله والعمل بطاعته من آمن معك. قال عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه : الاستقامة أن تستقيم على الأمر والنهي ولا تروغ عنه روغان الثعلب، وأشار صلى الله عليه وسلم إلى شدّة الاستقامة بقوله :" شيبتني هود وأخواتها "، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ما نزلت على النبيّ صلى الله عليه وسلم آية أشدّ ولا أشق من هذه الآية، وعن بعضهم : رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في النوم فقلت له : يروى عنك أنك قلت :«شيبتني هود » فقال : نعم. فقلت : بأيّ آية قال :«قوله تعالى :﴿ فاستقم كما أمرت ﴾. وعن سفيان بن عبد الله الثقفي قال : قلت : يا رسول الله : قل لي في الإسلام قولاً لا أسأل عنه أحد غيرك ؟ قال :«قل آمنت بالله ورسوله ثم استقم ». قال الإمام الرازي : إن هذه الآية أصل عظيم في الشريعة، وذلك لأنّ القرآن لما ورد بالأمر بأعمال الوضوء مرتبة في اللفظ وجب اعتبار الترتيب فيها لقوله تعالى :﴿ فاستقم كما أمرت ﴾ ولما ورد الأمر في الزكاة بأداء الإبل من الإبل والبقر من البقر وجب اعتبارها، وكذا القول في كل ما ورد أمر الله تعالى به انتهى.
ولما كانت الاستقامة هي التوسط بين طرفي الإفراط والتفريط نهى عن الإفراط بقوله تعالى :﴿ ولا تطغوا ﴾، أي : لا تتجاوزوا الحد فيما أمرتم به أو نهيتم عنه بالزيادة إفراطاً، فإن الله تعالى إنما أمركم ونهاكم لتهذيب أنفسكم لا لحاجته إلى ذلك، ولن تطيقوا أن تقدروا الله حق قدره والدين متين لم يشادّه أحد إلا غلبه، كما ورد عن أبي هريرة رضي الله عنه أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قال :«إنّ الدين يسر ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه فسددوا وقاربوا ويسروا واستعينوا بالغدوة والروحة وشيء من الدلجة »، فقوله صلى الله عليه وسلم : إنّ الدين يسر ضدّ العسر أراد به التسهيل في الدين وترك التشديد فإنّ هذا الدين مع يسره وسهولته قوي فلن يغالب ولن يقاوى. وقوله وسدّدوا، أي : اقصدوا السداد في الأمور وهو الصواب وقاربوا، أي : اطلبوا المقاربة وهي القصد الذي لا غلوّ فيه ولا تقصير، والغدوة الرواح بكرة، والرواح الرجوع عشاء. والمراد منه : اعملوا بالنهار واعملوا بالليل أيضاً. وقوله : واستعينوا بشيء من الدلجة إشارة إلى تقليله، ولما نهى تعالى عن الإفراط وهو الزيادة تصريحاً أفهم النهي عن التفريط وهو النقص عن المأمور تلويحاً من باب أولى، ثم علل ذلك مؤكداً تنزيلاً لمن يفرط أو يفرّط منزلة المنكر فقال :﴿ إنه بما تعملون بصير ﴾، أي : عالم بأعمالكم كلها لا يخفى عليه شيء منها فيجازيكم عليها.
﴿ ولا تركنوا ﴾، أي : تميلوا ﴿ إلى الذين ظلموا ﴾ أدنى ميل ﴿ فتمسكم النار ﴾، أي : تصيبكم بحرها والنهي متناول للانحطاط في هواهم والانقطاع إليهم ومصاحبتهم ومجالستهم وزيارتهم ومراقبتهم والرضا بأعمالهم والتشبيه بهم والتزيي بزيهم ومد العين إلى زهرتهم وذكرهم بما فيه تعظيم لهم، وتأمل قوله تعالى :﴿ ولا تركنوا ﴾ فإنّ الركون هو الميل اليسير. وحكي أنّ الموفق صلى خلف الإمام فقرأ بهذه الآية فغشي عليه فلما أفاق قيل له في ذلك فقال : هذا فيمن ركن إلى من ظلم فكيف بالظالم !
ولما خالط الزهري السلاطين كتب إليه أخ له في الدين : عافانا الله وإياك أبا بكر من الفتن فقد أصبحت بحال ينبغي لمن عرفك أن يدعو الله لك ويرحمك، أصبحت شيخاً كبيراً وقد أثقلتك نعم الله تعالى بما فهمك من كتابه وعلمك من سنة نبيه، وليس كذلك أخذ الله الميثاق على العلماء قال الله سبحانه وتعالى :﴿ لتبيننه للناس ولا تكتمونه ﴾ [ آل عمران، ١٨٧ ] واعلم أنّ أيسر ما ارتكبت وأخف ما احتملت أنك آنست وحشة الظالم وسهلت سبيل الغيّ بدونك ممن لم يؤد حقاً ولم يترك باطلاً، حين أدناك اتخذوك قطباً تدور عليك رحى باطلهم وجسراً يعبرون عليك إلى ملاذهم وسلّماً يصعدون فيك إلى ضلالهم، يدخلون بك الشك على العلماء ويقتادون بك قلوب الجهلاء، فما أيسر ما أعمروا لك في جنب ما خربوا عليك، وما أكثر ما أخذوا منك فيما أفسدوا عليك من دينك، فما يؤمنك أن تكون ممن قال الله تعالى فيهم :﴿ فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غياً ﴾ [ مريم، ٥٩ ] فإنك تعامل من لا يجهل ويحفظ عليك من لا يغفل، فداوِ دينك فقد دخله سقم، وهيئ زادك فقد حضر السفر البعيد، وما يخفى على الله من شيء في الأرض ولا في السماء والسلام.
وقال سفيان : في جهنم واد لا يسكنه إلا القرّاء الزائرون للملوك. وعن الأوزاعي ما من شيء أبغض إلى الله تعالى من عالم يزور عاملاً، أي : من الظلمة. وعن محمد بن سلمة : الذباب على العذرة أحسن من قارئ على باب هؤلاء. قال صلى الله عليه وسلم :«من دعا لظالم بالبقاء فقد أحب أن يعصي الله في أرضه ». ولقد سئل سفيان عن ظالم أشرف على الهلاك في برية هل يسقى شربة ماء فقال : لا فقيل له : يموت، فقال : دعه يموت.
وقوله تعالى :﴿ وما لكم من دون الله من أولياء ﴾، أي : أعواناً وأنصاراً يمنعوكم من عذابه حال من قوله :﴿ فتمسكم النار ﴾، أي : فتمسكم النار وأنتم على هذه الحالة ﴿ ثم لا تنصرون ﴾، أي : لا تجدون من ينصركم ويخلصكم من عذاب الله في القيامة. ففي هذه الآية وعيد لمن ركن إلى الظلمة بأن تمسه النار فكيف يكون حال الظالم في نفسه.
ولما أمر تعالى بالاستقامة أردفه بالأمر بالصلاة بقوله تعالى :﴿ وأقم الصلاة ﴾ وذلك يدلّ على أنّ أعظم العبادات بعد الإيمان بالله تعالى هو الصلاة وقوله تعالى :﴿ طرفي النهار ﴾ الغداة والعشي، أي : الصبح والظهر والعصر. وقوله تعالى :﴿ وزلفاً ﴾ جمع زلفةً، أي : طائفة ﴿ من الليل ﴾، أي : المغرب والعشاء ﴿ إنّ الحسنات ﴾ كالصلوات الخمس ﴿ يذهبن ﴾، أي : يكفرن ﴿ السيئات ﴾، أي : الذنوب الصغائر، لما رواه مسلم أنه صلى الله عليه وسلم قال :«الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة كفارة لما بينهنّ ما اجتنبت الكبائر »، وزاد في رواية أخرى :«ورمضان إلى رمضان مكفرات لما بينهنّ إذا اجتنبت الكبائر »، وعن أبي هريرة أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :«أرأيتم لو أنّ نهراً بباب أحدكم يغتسل منه كل يوم خمس مرّات ما تقولون هل يبقى من درنه شيء ؟ قالوا : لا يا رسول الله، لا يبقى من درنه شيء. فقال : ذلك مثل الصلوات الخمس يمحو الله بها الخطايا ». وعن جابر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :«مثل الصلوات الخمس كمثل نهر جار غمر على باب أحدكم يغتسل منه كل يوم خمس مرّات ». وعن الحسن أنّ الحسنات قول العبد : سبحان والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر. وسبب نزول هذه الآية ما رواه الترمذي عن أبي اليسر بن عمر وقال : أتتني امرأة وزوجها بعثه النبيّ صلى الله عليه وسلم في بعث فقالت : بعني بدرهم تمراً. قال : فأعجبتني فقلت : إنّ في البيت تمراً هو أطيب من هذا فالحقيني، فَدَخَلَتْ معي البيت فأهويت إليها فقبلتها، فأتيت أبا بكر فذكرت ذلك له فقال : استر على نفسك وتب ولا تخبر أحداً، فأتيت عمراً فذكرت له ذلك فقال : استر على نفسك وتب ولا تخبر أحداً، فأتيت النبيّ صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له فقال :«أخنت رجلاً غازياً في سبيل الله في أهله بمثل هذا » حتى تمنى أنه لم يكن أسلم إلا تلك الساعة حتى ظنّ أنه من أهل النار وأطرق رسول الله صلى الله عليه وسلم طويلاً حتى أوحي إليه :﴿ وأقم الصلاة طرفي النهار وزلفاً من الليل ﴾ إلى قوله تعالى :﴿ ذلك ذكرى للذاكرين ﴾، أي : عظة للمتقين. قال أبو اليسر : فأتيته فقرأها عليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ألهذا خاصة أم للناس عامّة ؟ قال :«بل للناس عامّة ». قال الترمذي : هذا حديث حسن غريب.
وعن عبد الله بن مسعود أنّ رجلاً أصاب من امرأة قبلة فأتى النبيّ صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له فنزلت فقال رجل : يا رسول الله، ألهذا خاصة ؟ فقال :«بل للناس كافة ». وعن معاذ بن جبل قال : أتى النبيّ صلى الله عليه وسلم رجل فقال : يا رسول الله، أرأيت رجلاً لقي امرأة ليس بينهما معرفة وليس يأتي الرجل إلى امرأة شيئاً إلا قد أتى هو إليها إلا أنه لم يجامعها ؟ قال : فأنزل الله تعالى هذه الآية، وأمره النبيّ صلى الله عليه وسلم أن يتوضأ ويصلي، فقال معاذ بن جبل فقلت : يا رسول الله، أهي له خاصة أم للمؤمنين عامّة ؟ قال :«بل للمؤمنين عامّة ».
قال العلماء : الصغائر من الذنوب تكفرها الأعمال الصالحة مثل الصلاة والصدقة والذكر والاستغفار ونحو ذلك من أعمال البر، وأمّا الكبائر من الذنوب فلا يكفرها إلا التوبة النصوح ولها ثلاث شرائط : الأوّل : الإقلاع عن الذنب بالكلية، الثاني : الندم على فعله، الثالث : العزم التام على أن لا يعود إليه في المستقبل، فإذا حصلت هذه الشرائط صحت التوبة وكانت مقبولة إن شاء الله تعالى والإشارة في قوله تعالى ﴿ ذلك ذكرى ﴾ إلى ما تقدّم ذكره من قوله تعالى :﴿ فاستقم كما أمرت ﴾ إلى هاهنا. وقيل : هو إشارة إلى القرآن.
وقوله تعالى :﴿ واصبر ﴾ خطاب للنبيّ صلى الله عليه وسلم أي : واصبر يا محمد على أذى قومك أو على الصلاة وهو قوله تعالى :﴿ وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها ﴾ [ طه، ١٣٢ ] ﴿ فإن الله لا يضيع أجر المحسنين ﴾، أي : أجر أعمالهم. وعدل عن الضمير ليكون كالبرهان على المقصود ودليلاً على أنّ الصلاة و الصبر إحسان وإيماء بأنه لا يعتد بهما دون الإخلاص.
ولما بيّن تعالى أنّ الأمم المتقدّمين حل بهم عذاب الاستئصال بين أنّ السبب فيه أمران، السبب الأوّل : أنه ما كان فيهم قوم ينهون عن الفساد في الأرض فقال تعالى :﴿ فلولا ﴾، أي : فهلا ﴿ كان من القرون ﴾، أي : من الأمم الماضية ﴿ من قبلكم أولو بقية ﴾، أي : أصحاب رأي وخير وفضل ﴿ ينهون عن الفساد في الأرض ﴾ وسمي الفضل والجود بقية ؛ لأنّ الرجل يستبقي مما يخرجه أجوده وأفضله فصار مثلاً في الجودة والفضل، و يقال : فلان من بقية القوم، أي : من خيارهم وبه فسر بيت الحماسة :
إن تذنبوا ثم يأتيني بقيتكم ***
ومنه قولهم : في الزوايا خبايا، وفي الرجال بقايا. ويجوز أن تكون البقية بمعنى البقوى كالتقية بمعنى التقوى، أي : فهلا كان منهم ذوو بقاء على أنفسهم وصيانة لها من سخط الله تعالى وعقابه.
فائدة : حكي عن الخليل أنه قال : كل ما في القرآن من كلمة لولا فمعناه هلا إلا التي في الصافات. قال صاحب «الكشاف » : وما صحت هذه الحكاية ففي غير الصافات ﴿ لولا أن تداركه نعمة من ربه ﴾ [ القلم، ٤٩ ]، ﴿ ولولا رجال مؤمنون ﴾ [ الفتح، ٢٥ ]، ﴿ ولولا أن ثبتناك ﴾ [ الإسراء، ٧٤ ] انتهى. وقوله تعالى :﴿ إلا قليلاً ممن أنجينا منهم ﴾ استثناء منقطع، معناه : ولكن قليلاً ممن أنجينا من القرون نهوا عن الفساد وسائرهم تاركون للنهي. السبب الثاني لنزول عذاب الاستئصال قوله تعالى :﴿ واتبع الذين ظلموا ما أترفوا فيه ﴾، أي : ما نعموا فيه من الشهوات واهتموا بتحصيل أسبابها وأعرضوا عما وراء ذلك ﴿ وكانوا مجرمين ﴾، أي : كافرين.
تنبيه : قوله تعالى :﴿ واتبع الذين ظلموا ﴾ إن كان معناه واتبعوا الشهوات كان معطوفاً على مضمر ؛ لأنّ المعنى إلا قليلاً ممن أنجينا منهم نهوا عن الفساد، وأتبع الذين ظلموا شهواتهم فهو عطف على نهوا، وإن كان معناه واتبعوا جزاء الإتراف فالواو للحال فكأنه قيل : أنجينا القليل وقد أتبع الذين ظلموا جزاءهم. وقوله تعالى :﴿ وكانوا مجرمين ﴾ عطف على أترفوا، أي : اتبعوا الإتراف، وكونهم مجرمين ؛ لأنّ تابع الشهوات مغمور بالآثام أو على اتبعوا، أي : اتبعوا شهواتهم وكانوا مجرمين بذلك.
ثم بيّن تعالى أنه ما أهلك أهل القرى بظلم بقوله تعالى :﴿ وما كان ربك ليهلك القرى بظلم ﴾، أي : بشرك ﴿ وأهلها مصلحون ﴾ فيما بينهم، والمعنى : أنه لا يهلك أهل القرى بمجردّ كونهم مشركين إذا كانوا مصلحين في المعاملات فيما بينهم، والحال أنّ عذاب الاستئصال لا ينزل لأجل كون القوم معتقدين الشرك بل إنما ينزل ذلك العذاب إذا أساؤوا في المعاملات وسعوا في الإيذاء والظلم، ولهذا قيل : إنّ حقوق الله تعالى مبناها على المسامحة والمساهلة، وحقوق العباد مبناها على الضيق والشح. ويقال في الأثر : الملك يبقى مع الكفر ولا يبقى مع الظلم، وإنما نزل على قوم نوح وهود وصالح ولوط وشعيب عذاب الاستئصال لما حكى الله تعالى عنهم من إيذاء الناس وظلم الخلق.
﴿ ولو شاء ربك لجعل الناس أمّة واحدة ﴾، أي : أهل ملة واحدة وهي الإسلام كقوله تعالى ﴿ إنّ هذه أمتكم أمة واحدة ﴾ [ الأنبياء، ٩٢ ] وفي هذه الآية دليل على أنّ الأمر غير الإرادة وأنه تعالى لم يرد الإيمان من كل أحد، وأن ما أراده يجب وقوعه. والمعتزلة يحملون هذه الآية على مشيئة الإلجاء والإجبار، ولهذا قال الزمخشري : يعني لاضطرهم إلى أن يكونوا أهل ملة واحدة ﴿ ولا يزالون مختلفين ﴾، أي : على أديان شتى ما بين يهودي ونصراني ومجوسي ومشرك ومسلم، فكل أهل دين من هذه الأديان اختلفوا في دينهم أيضاً اختلافاً كثيراً لا ينضبط. عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :«تفترق اليهود على إحدى وسبعين فرقة » وفي رواية «ألا إنّ من قبلكم من أهل الكتاب افترقوا على اثنتين وسبعين ملة وإنّ هذه الأمّة ستفترق على ثلاث وسبعين فرقة فثنتان وسبعون في النار وواحدة في الجنة ». والمراد بهذه الفرق : أهل البدع والأهواء كالقدرية والمعتزلة والرافضة. والمراد بالواحدة : هي ملة السنة والجماعة الذين اتبعوا الرسول صلى الله عليه وسلم في أقواله وأفعاله.
فإن قيل : ما الدليل على أنّ الاختلاف في الأديان فلم لا يجوز أن يحمل على الاختلاف في الألوان والألسنة والأرزاق والأعمال ؟ أجيب : بأنّ الدليل عليه ما قبل هذه الآية وهو قوله تعالى :﴿ ولو شاء ربك لجعل الناس أمّة واحدة ﴾ فيجب حمل الاختلاف على ما يخرجهم من أن يكونوا أمّة واحدة وما بعد هذه الآية وهو قوله تعالى :﴿ إلا من رحم ربك ﴾.
﴿ إلا من رحم ربك ﴾، أي : أراد لهم الخير فلا يختلفون فيه، فيجب حمل الاختلاف على معنى يصح أن يستثنى منه ذلك، وفي هذه الآية دلالة على أنّ الهداية و الإيمان لا تحصل إلا بتخليق الله تعالى ؛ لأنّ تلك الرحمة ليست عبارة عن إعطاء القدرة والعقل وإرسال الرسل وإنزال الكتب وإزاحة العذر، فإنّ كل ذلك حاصل في حق الكفار فلم يبق إلا أن يقال : تلك الرحمة هو أنه سبحانه وتعالى خلق فيهم تلك الهداية والمعرفة ﴿ ولذلك خلقهم ﴾، أي : خلق أهل الاختلاف للاختلاف، وخلق أهل الرحمة للرحمة. روي عن ابن عباس أنه قال : خلق الله أهل الرحمة لئلا يختلفوا، وخلق أهل العذاب لأن يختلفوا، وخلق الجنة وخلق لها أهلاً، وخلق النار وخلق لها أهلاً، والحاصل : أنّ الله تعالى خلق أهل الباطل وجعلهم مختلفين، وخلق أهل الحق وجعلهم متفقين، فحكم على بعضهم بالاختلاف وهم أهل الباطل ومصيرهم إلى النار، وحكم على بعضهم بالاتفاق وهم أهل الحق ومصيرهم إلى الجنة، ويدل لذلك قوله تعالى :﴿ وتمت كلمة ربك ﴾ وهي ﴿ لأملأنّ جهنم من الجنة ﴾، أي : الجنّ ﴿ والناس أجمعين ﴾ وهذا صريح بأنّ الله تعالى خلق أقواماً للجنة والرحمة فهداهم ووفقهم لأعمال أهل الجنة، وخلق أقواماً للضلالة والنار فخذلهم ومنعهم من الهداية.
ولما ذكر تعالى القصص الكثيرة في هذه السورة ذكر نوعين من الفائدة أوّلهما تثبيت الفؤاد بقوله تعالى :﴿ وكلاً ﴾، أي : وكل نبأ ﴿ نقص عليك ﴾ وقوله تعالى :﴿ من أنباء الرسل ﴾، أي : نخبرك به بيان لكل. وقوله تعالى :﴿ ما نثبت به فؤادك ﴾ بدل من كلاً، ومعنى تثبيت فؤاده : زيادة يقينه وطمأنينة قلبه وثبات نفسه على أداء الرسالة وعلى الصبر واحتمال الأذى، وذلك لأنّ الإنسان إذا ابتلي بمحنة وبلية فإذا رأى له فيه مشاركاً خف ذلك على قلبه كما يقال : المصيبة إذا عمت خفت، وإذا سمع الرسول صلى الله عليه وسلم هذه القصص وعلم أنّ حال جميع الأنبياء مع أتباعهم هكذا سهل عليه تحمل الأذى من قومه وأمكنه الصبر عليه.
الفائدة الثانية : قوله تعالى :﴿ وجاءك في هذه الحق ﴾، أي : في السورة وعليه الأكثر، أو في هذه الأنباء المقتصة فيها. وقال الحسن : في هذه الدنيا. قال الرازي : وهذا بعيد غير لائق بهذا الموضع ؛ لأنه لم يجر للدنيا ذكر حتى يعود الضمير لها. فإن قيل : قد جاءه الحق في غير هذه السورة بل القرآن كله حق وصدق ؟ أجيب : بأنه إنما خصها بالذكر تشريفاً لها ﴿ وموعظة وذكرى للمؤمنين ﴾ وخصهم بالذكر لانتفاعهم بذلك بخلاف الكفار، فذكر تعالى أموراً ثلاثة : الحق والموعظة والذكرى، أمّا الحق فهو إشارة إلى البراهين الدالة على التوحيد والعدل والنبوّة والمعاد، وأمّا الموعظة فهي إشارة إلى السفر عن الدنيا وتقبيح أحوالها، وأمّا الذكرى فهي إشارة إلى الإرشاد إلى الأعمال النافذة الصالحة في الدار الآخرة.
ولما بلغ تعالى الغاية والإنذار والإعذار والترغيب والترهيب أتبع ذلك بأن قال لرسوله صلى الله عليه وسلم :
﴿ وقل للذين لا يؤمنون اعملوا على مكانتكم ﴾، أي : حالتكم، وفيه وعيد وتهديد، وإن كانت صيغته صيغة الأمر فهو كقوله تعالى لإبليس :﴿ واستفزز من استطعت منهم بصوتك وأجلب عليهم بخيلك ورجلك ﴾ [ الإسراء، ٦٤ ] وقرأ شعبة بعد النون بألف على الجمع والباقون بغير ألف على الإفراد ﴿ إنا عاملون ﴾، أي : على حالتنا التي أمرنا بها ربنا.
﴿ وانتظروا ﴾، أي : ما يعدكم الشيطان به من الخذلان ﴿ إنا منتظرون ﴾، أي : ما يحل بكم من نقم الله تعالى وعذابه نحو ما نزل على أمثالكم، وقيل : إنا منتظرون ما وعدنا الرحمن من أنواع الغفران والإحسان.
ثم إنه تعالى ذكر خاتمة شريفة عالية جامعة لكل المطالب الشريفة المقدّسة فقال : ة ﴿ ولله غيب السماوات والأرض ﴾، أي : علم ما غاب فيهما فعلمه سبحانه وتعالى نافذ في جميع مخلوقاته خفيها وجليها ﴿ وإليه ﴾ أي لا إلى غيره ﴿ يرجع الأمر كله ﴾، أي : إليه يرجع أمر الخلق كلهم في الدنيا والآخرة، وقرأ نافع وحفص بضم الياء وفتح الجيم على البناء للمفعول، والباقون بفتح الياء وكسر الجيم. ولما كان أوّل درجات السير إلى الله تعالى عبوديته وآخرها التوكل عليه قال تعالى :﴿ فاعبده ﴾ ولا تشتغل بعبادة غيره ﴿ وتوكل عليه ﴾، أي : ثق به في جميع أمورك فإنه كافيك ﴿ وما ربك بغافل عما تعملون ﴾ فيحفظ على العباد أعمالهم لا يخفى عليه شيء منها فيجزي المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته، وقرأ نافع وابن عامر وحفص بالتاء على الخطاب، والباقون بالياء على الغيبة.
Icon