تفسير سورة سورة يوسف من كتاب اللباب في علوم الكتاب
المعروف بـاللباب
.
لمؤلفه
ابن عادل الحنبلي
.
المتوفي سنة 775 هـ
ﰡ
رب يسر برحمتك. سورة يوسف - عليه السلام - وهي مكية وفي قول ابن عباس، وقتادة: إلا أربع آيات منها. وهي مائة وإحدى عشرة آية، وعدد كلماتها: ألف، وتسعمائة، وست وتسعون كلمة، وعدد حروفها سبعة آلاف، ومائة، وست وستون حرفا قوله تعالى: ﴿الر تِلْكَ آيَاتُ الكتاب المبين﴾ قد تقدم الكلام على قوله: ﴿الر تِلْكَ آيَاتُ الكتاب المبين﴾ في أول سورة يونس، فالإشارة ب «تِلْكَ» إلى آيات هذه السورة على الابتداء اةلخبر.
وقيل: «الر» اسم للسورة، أي: هذه السورة المسمَّاة: ﴿الر تِلْكَ آيَاتُ الكتاب المبين﴾ والمراد ب «الكِتَاب» : القرآن، وأما قوله: «المُبِين» فيحتمل أن يكون من بانَ، بمعنى: ظهر، أي: المبين حلاله، وحرامه، وحدوده، وأحكامه قال قتادة رَحِمَهُ اللَّهُ: «المبين والله بركته، وهداه ورشده».
وقال الزجاج: «من أبَان بمعنى: أظهر، أي: أبان الحقَّ من الباطل، والحلال من الحرام، وقصص الأولين والآخرين». ويحتمل أن يكون من البينونة بمعنى: التَّفريق، أي: فرَّق بين الحق والباطل، والحلال والحرام.
قوله تعالى: ﴿إِنَّآ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً﴾ يعنى: الكتاب، في نصب: «قُرْآناً» ثلاثة أوجه:
وقيل: «الر» اسم للسورة، أي: هذه السورة المسمَّاة: ﴿الر تِلْكَ آيَاتُ الكتاب المبين﴾ والمراد ب «الكِتَاب» : القرآن، وأما قوله: «المُبِين» فيحتمل أن يكون من بانَ، بمعنى: ظهر، أي: المبين حلاله، وحرامه، وحدوده، وأحكامه قال قتادة رَحِمَهُ اللَّهُ: «المبين والله بركته، وهداه ورشده».
وقال الزجاج: «من أبَان بمعنى: أظهر، أي: أبان الحقَّ من الباطل، والحلال من الحرام، وقصص الأولين والآخرين». ويحتمل أن يكون من البينونة بمعنى: التَّفريق، أي: فرَّق بين الحق والباطل، والحلال والحرام.
قوله تعالى: ﴿إِنَّآ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً﴾ يعنى: الكتاب، في نصب: «قُرْآناً» ثلاثة أوجه:
3
أحدها: أن يكون بدلاً من ضمير «أنْزلْنَاهُ» أو حالاً موطئة منه، والضمير في: «أنْزَلْنَاهُ» على هذين القولين يعود على الكتاب، وقيل: «قُرْآناً» مفعول به، والضمير في «أنْزَلْنَاهُ» ضمير المصدر، و «عربياً» نعت للقرآنِ، وجوَّز أبو البقاء: أن يكون حالاً من الضمير في: «قُرْآناً» إذا تحمَّل ضميراً، يعنى: إذا حعلناهُ حالاً مؤولاً بمشتقِّ، أي: أنزَلنَاه مُجْتمعاً في حال كونهِ عَربيًّا
والعربيّ منسُوب إلى العرب؛ لأنَّه نزل بلغتهم، وواحد العرب: عربيٌّ، كما أن واحد الرُّوم: رُومِيٌّ، أي: أنزلناه بلغتكم، لكي تعلمُوا مَعانيَهُ، وتفهَمُوا ما فيه، و «عَرَبَة» بفتح الرَّاء ناحية دار إسماعيل عليه السلام قال الشاعر: [الطويل]
سكن راءها ضرورة؛ فيجوزُ أن يكون العربي منسُوباً إلى هذه البقعة.
احتج الجُبَّائيُّ بهذه الآية: على كون القرآن مخلوقاً، لقوله تعالى: ﴿إِنَّآ أَنزَلْنَاهُ﴾ والقديم لا يجوزُ إنزالهُ وتحويله من حالٍ إلى حالٍ؛ ولأنَّه تعالى وصفهُ بكونه: «عَرَبيًّا» والقديم لا يكون عربيًّا؛ ولأنَّ قوله تعالى ﴿إِنَّآ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً﴾ يدلُّ على أنَّه سبحانه وتعالى قادرٌ على أن ينزله لا عربيًّا؛ ولأنَّ قوله: ﴿تِلْكَ آيَاتُ الكتاب المبين﴾ يدلُّ على أنَّه مركبٌ من الآيات والكلمات، والمركَّبُ محدثٌ.
قال ابن الخطيب: «والجواب عن هذه الوجوه أن نقول: المركَّب من الحروف والكلمات محدثٌن وذلك لا نزاع فيه، إنَّما الذي ندَّعي قدمه شيء آخر، فسقط هذا الاستدلال».
قوله: ﴿لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾ : قال الجبائي: «كلمة» لعَلَّ «نحملها على اللاَّم، والتقدير: إنَّا أنزلناهُ قُرآناً عربيًّا لتعقلُوا معانيه في أمْر الدِّين، إذ لايجوز أن يراد ب» لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ «: الشَّكح لأنَّه على الله تعالى محالٌ، فثبت أنَّ المراد: لكي تعرفوا الأدلَّة، وذلك يدلُّ على أنَّهُ سبحانه وتعالى ت أراد من كلِّ العباد أن يعقلوا توحيده، وأمر دينه، من عرف منهم، ومن لم يعرف». قال ابن الخطيب: «والجواب: هَبْ أنَّ الأمْر كمَا ذَكْرتُمْ، إلاَّ أنَّهُ يدلُّ على أنه تعالى أنزل هذه السورة وأراد منهم معرفة كيفيَّة هذه القصَّة، لكن لِمَ قلتم: إنَّها تدلُّ على أنه تعالى أراد من الكُلِّ الإيمان والعمل الصالح» ؟.
والعربيّ منسُوب إلى العرب؛ لأنَّه نزل بلغتهم، وواحد العرب: عربيٌّ، كما أن واحد الرُّوم: رُومِيٌّ، أي: أنزلناه بلغتكم، لكي تعلمُوا مَعانيَهُ، وتفهَمُوا ما فيه، و «عَرَبَة» بفتح الرَّاء ناحية دار إسماعيل عليه السلام قال الشاعر: [الطويل]
٣٠٤٣ - وعَرْبَةُ أرْضٍ مَا يُحِلُّ حَرامَهَا | مِنَ النَّاسِ إلاَّ اللَّوذَعِيُّ الحُلاحِلُ |
فصل
احتج الجُبَّائيُّ بهذه الآية: على كون القرآن مخلوقاً، لقوله تعالى: ﴿إِنَّآ أَنزَلْنَاهُ﴾ والقديم لا يجوزُ إنزالهُ وتحويله من حالٍ إلى حالٍ؛ ولأنَّه تعالى وصفهُ بكونه: «عَرَبيًّا» والقديم لا يكون عربيًّا؛ ولأنَّ قوله تعالى ﴿إِنَّآ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً﴾ يدلُّ على أنَّه سبحانه وتعالى قادرٌ على أن ينزله لا عربيًّا؛ ولأنَّ قوله: ﴿تِلْكَ آيَاتُ الكتاب المبين﴾ يدلُّ على أنَّه مركبٌ من الآيات والكلمات، والمركَّبُ محدثٌ.
قال ابن الخطيب: «والجواب عن هذه الوجوه أن نقول: المركَّب من الحروف والكلمات محدثٌن وذلك لا نزاع فيه، إنَّما الذي ندَّعي قدمه شيء آخر، فسقط هذا الاستدلال».
قوله: ﴿لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾ : قال الجبائي: «كلمة» لعَلَّ «نحملها على اللاَّم، والتقدير: إنَّا أنزلناهُ قُرآناً عربيًّا لتعقلُوا معانيه في أمْر الدِّين، إذ لايجوز أن يراد ب» لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ «: الشَّكح لأنَّه على الله تعالى محالٌ، فثبت أنَّ المراد: لكي تعرفوا الأدلَّة، وذلك يدلُّ على أنَّهُ سبحانه وتعالى ت أراد من كلِّ العباد أن يعقلوا توحيده، وأمر دينه، من عرف منهم، ومن لم يعرف». قال ابن الخطيب: «والجواب: هَبْ أنَّ الأمْر كمَا ذَكْرتُمْ، إلاَّ أنَّهُ يدلُّ على أنه تعالى أنزل هذه السورة وأراد منهم معرفة كيفيَّة هذه القصَّة، لكن لِمَ قلتم: إنَّها تدلُّ على أنه تعالى أراد من الكُلِّ الإيمان والعمل الصالح» ؟.
4
قوله تعالى :﴿ إِنَّآ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً ﴾ يعنى : الكتاب، في نصب :" قُرْآناً " ثلاثة أوجه :
أحدها : أن يكون بدلاً من ضمير " أنْزلْنَاهُ " أو حالاً موطئة منه، والضمير في :" أنْزَلْنَاهُ " على هذين القولين يعود على الكتاب، وقيل :" قُرْآناً " مفعول به، والضمير في " أنْزَلْنَاهُ " ضمير المصدر، و " عربياً " نعت للقرآنِ، وجوَّز أبو البقاء : أن يكون حالاً من الضمير في :" قُرْآناً " إذا تحمَّل ضميراً، يعنى : إذا حعلناهُ حالاً مؤولاً بمشتقِّ، أي : أنزَلنَاه مُجْتمعاً في حال كونهِ عَربيًّا
والعربيّ منسُوب إلى العرب ؛ لأنَّه نزل بلغتهم، وواحد العرب : عربيٌّ، كما أن واحد الرُّوم : رُومِيٌّ، أي : أنزلناه بلغتكم، لكي تعلمُوا مَعانيَهُ، وتفهَمُوا ما فيه، و " عَرَبَة " بفتح الرَّاء ناحية دار إسماعيل عليه السلام قال الشاعر :[ الطويل ]
سكن راءها ضرورة ؛ فيجوزُ أن يكون العربي منسُوباً إلى هذه البقعة.
احتج الجُبَّائيُّ بهذه الآية : على كون القرآن مخلوقاً، لقوله تعالى :﴿ إِنَّآ أَنزَلْنَاهُ ﴾ والقديم لا يجوزُ إنزالهُ وتحويله من حالٍ إلى حالٍ ؛ ولأنَّه تعالى وصفهُ بكونه :" عَرَبيًّا " والقديم لا يكون عربيًّا ؛ ولأنَّ قوله تعالى ﴿ إِنَّآ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً ﴾ يدلُّ على أنَّه سبحانه وتعالى قادرٌ على أن ينزله لا عربيًّا ؛ ولأنَّ قوله :﴿ تِلْكَ آيَاتُ الكتاب المبين ﴾ يدلُّ على أنَّه مركبٌ من الآيات والكلمات، والمركَّبُ محدثٌ.
قال ابن الخطيب :" والجواب عن هذه الوجوه أن نقول : المركَّب من الحروف والكلمات محدثٌن وذلك لا نزاع فيه، إنَّما الذي ندَّعي قدمه شيء آخر، فسقط هذا الاستدلال ".
قوله :﴿ لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ﴾ : قال الجبائي :" كلمة " لعَلَّ " نحملها على اللاَّم، والتقدير : إنَّا أنزلناهُ قُرآناً عربيًّا لتعقلُوا معانيه في أمْر الدِّين، إذ لايجوز أن يراد ب " لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ " : الشَّكح لأنَّه على الله تعالى محالٌ، فثبت أنَّ المراد : لكي تعرفوا الأدلَّة، وذلك يدلُّ على أنَّهُ سبحانه وتعالى ت أراد من كلِّ العباد أن يعقلوا توحيده، وأمر دينه، من عرف منهم، ومن لم يعرف ". قال ابن الخطيب :" والجواب : هَبْ أنَّ الأمْر كمَا ذَكْرتُمْ، إلاَّ أنَّهُ يدلُّ على أنه تعالى أنزل هذه السورة وأراد منهم معرفة كيفيَّة هذه القصَّة، لكن لِمَ قلتم : إنَّها تدلُّ على أنه تعالى أراد من الكُلِّ الإيمان والعمل الصالح " ؟.
أحدها : أن يكون بدلاً من ضمير " أنْزلْنَاهُ " أو حالاً موطئة منه، والضمير في :" أنْزَلْنَاهُ " على هذين القولين يعود على الكتاب، وقيل :" قُرْآناً " مفعول به، والضمير في " أنْزَلْنَاهُ " ضمير المصدر، و " عربياً " نعت للقرآنِ، وجوَّز أبو البقاء : أن يكون حالاً من الضمير في :" قُرْآناً " إذا تحمَّل ضميراً، يعنى : إذا حعلناهُ حالاً مؤولاً بمشتقِّ، أي : أنزَلنَاه مُجْتمعاً في حال كونهِ عَربيًّا
والعربيّ منسُوب إلى العرب ؛ لأنَّه نزل بلغتهم، وواحد العرب : عربيٌّ، كما أن واحد الرُّوم : رُومِيٌّ، أي : أنزلناه بلغتكم، لكي تعلمُوا مَعانيَهُ، وتفهَمُوا ما فيه، و " عَرَبَة " بفتح الرَّاء ناحية دار إسماعيل عليه السلام قال الشاعر :[ الطويل ]
٣٠٤٣ وعَرْبَةُ أرْضٍ مَا يُحِلُّ حَرامَهَا | مِنَ النَّاسِ إلاَّ اللَّوذَعِيُّ الحُلاحِلُ |
فصل
احتج الجُبَّائيُّ بهذه الآية : على كون القرآن مخلوقاً، لقوله تعالى :﴿ إِنَّآ أَنزَلْنَاهُ ﴾ والقديم لا يجوزُ إنزالهُ وتحويله من حالٍ إلى حالٍ ؛ ولأنَّه تعالى وصفهُ بكونه :" عَرَبيًّا " والقديم لا يكون عربيًّا ؛ ولأنَّ قوله تعالى ﴿ إِنَّآ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً ﴾ يدلُّ على أنَّه سبحانه وتعالى قادرٌ على أن ينزله لا عربيًّا ؛ ولأنَّ قوله :﴿ تِلْكَ آيَاتُ الكتاب المبين ﴾ يدلُّ على أنَّه مركبٌ من الآيات والكلمات، والمركَّبُ محدثٌ.
قال ابن الخطيب :" والجواب عن هذه الوجوه أن نقول : المركَّب من الحروف والكلمات محدثٌن وذلك لا نزاع فيه، إنَّما الذي ندَّعي قدمه شيء آخر، فسقط هذا الاستدلال ".
قوله :﴿ لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ﴾ : قال الجبائي :" كلمة " لعَلَّ " نحملها على اللاَّم، والتقدير : إنَّا أنزلناهُ قُرآناً عربيًّا لتعقلُوا معانيه في أمْر الدِّين، إذ لايجوز أن يراد ب " لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ " : الشَّكح لأنَّه على الله تعالى محالٌ، فثبت أنَّ المراد : لكي تعرفوا الأدلَّة، وذلك يدلُّ على أنَّهُ سبحانه وتعالى ت أراد من كلِّ العباد أن يعقلوا توحيده، وأمر دينه، من عرف منهم، ومن لم يعرف ". قال ابن الخطيب :" والجواب : هَبْ أنَّ الأمْر كمَا ذَكْرتُمْ، إلاَّ أنَّهُ يدلُّ على أنه تعالى أنزل هذه السورة وأراد منهم معرفة كيفيَّة هذه القصَّة، لكن لِمَ قلتم : إنَّها تدلُّ على أنه تعالى أراد من الكُلِّ الإيمان والعمل الصالح " ؟.
قوله تعالى: ﴿نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ القصص﴾ الآية.
﴿نَحْنُ نَقُصُّ﴾ : مبتدأ وخبر، والقاصُّك الذي يتتبَّعُ الآثار ويأتي بالخبر على وجهه، قال تعالى: ﴿وَقَالَتْ لأُخْتِهِ قُصِّيهِ﴾ [القصص: ١١]، أي: أتَّبعي أثره، ﴿فارتدا على آثَارِهِمَا قَصَصاً﴾ [الكهف: ٦٤]، أي اتِّباعاًنن وسميت الحكايةَ قصصاً؛ لأنَّ الذي يقصُّ الحديث، يذكرُ تلك القصَّة شيئاً فشيئاً، كما يقال: تلا القرآنَ إذا قرأهُ؛ لأنَّه يتلُو، أي: يتبعُ ما حَفِظَ مِنهُ آيةً بعد آيةٍ، والمعنى: نُبين لكَ أخبارَ الأممِ السَّالفةِ، والقرُونِ الماضية.
روى سعدُ بن أبي وقَّاصٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قال: لمَّا أنْ نَزلَ القُرآنُ على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فتَلاهُ عَليْهِمْ زمَاناً، فقالوا: يَا رسُولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لوْ حَدَّثتنَا ت فأنْزَل اللهُ عَزَّ وَجَلَّ ذكره ﴿الله نَزَّلَ أَحْسَنَ الحديث﴾ [الزمر: ٢٣] فقالوا: يا رسول الله، لو ذكرتنَا، فأنزل الله عزَّ وجلَّ ﴿أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمنوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ الله﴾ [الحديد: ١٦].
قوله: ﴿أَحْسَنَ القصص﴾ في انتصابه وجهان:
أحدهما: أن يكُونَ منصُوباً على المفعول به، وذلك إذا جعلتَ القصص مصدراً واقعاً موقع المفعول، كالخلقِ بمعنى: المخلُوقِ، أو جعلته فعلاً بمعنى: مفعُول، كالقَبْضِ، والنَّقْضِ بمعنى: المَقْبُوض، والمَنْقُوض، أي: نقصُّ عليك أحسن الأشياءِ المقتصةن فيكون معنى قوله: ﴿أَحْسَنَ القصص﴾ : لِمَا فيه من العبرة، والنُّكتة، والحكمةِ، والعجائب التي ليست في غيرها.
﴿نَحْنُ نَقُصُّ﴾ : مبتدأ وخبر، والقاصُّك الذي يتتبَّعُ الآثار ويأتي بالخبر على وجهه، قال تعالى: ﴿وَقَالَتْ لأُخْتِهِ قُصِّيهِ﴾ [القصص: ١١]، أي: أتَّبعي أثره، ﴿فارتدا على آثَارِهِمَا قَصَصاً﴾ [الكهف: ٦٤]، أي اتِّباعاًنن وسميت الحكايةَ قصصاً؛ لأنَّ الذي يقصُّ الحديث، يذكرُ تلك القصَّة شيئاً فشيئاً، كما يقال: تلا القرآنَ إذا قرأهُ؛ لأنَّه يتلُو، أي: يتبعُ ما حَفِظَ مِنهُ آيةً بعد آيةٍ، والمعنى: نُبين لكَ أخبارَ الأممِ السَّالفةِ، والقرُونِ الماضية.
روى سعدُ بن أبي وقَّاصٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قال: لمَّا أنْ نَزلَ القُرآنُ على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فتَلاهُ عَليْهِمْ زمَاناً، فقالوا: يَا رسُولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لوْ حَدَّثتنَا ت فأنْزَل اللهُ عَزَّ وَجَلَّ ذكره ﴿الله نَزَّلَ أَحْسَنَ الحديث﴾ [الزمر: ٢٣] فقالوا: يا رسول الله، لو ذكرتنَا، فأنزل الله عزَّ وجلَّ ﴿أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمنوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ الله﴾ [الحديد: ١٦].
قوله: ﴿أَحْسَنَ القصص﴾ في انتصابه وجهان:
أحدهما: أن يكُونَ منصُوباً على المفعول به، وذلك إذا جعلتَ القصص مصدراً واقعاً موقع المفعول، كالخلقِ بمعنى: المخلُوقِ، أو جعلته فعلاً بمعنى: مفعُول، كالقَبْضِ، والنَّقْضِ بمعنى: المَقْبُوض، والمَنْقُوض، أي: نقصُّ عليك أحسن الأشياءِ المقتصةن فيكون معنى قوله: ﴿أَحْسَنَ القصص﴾ : لِمَا فيه من العبرة، والنُّكتة، والحكمةِ، والعجائب التي ليست في غيرها.
5
فإحدى الفوائد في هذه القصة: أنه لا دافع لقضاءِ الله، ولا مانع من قدر الله، وأنَّهُ تعالى إذا قضى لإنسان بخير؛ فلو اجتمع العالمُ، لمْ يقدروا على دفعه.
والفائدة الثانية: أنََّهَا تدلُّ على أنَّ الحسد سببُ الخُذلانِ، والنُقصَانِ.
والفائدة الثالثة: أنَّ الصَّبر مفتاحُ الفرج، كما في حقِّ يعقُوب عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ؛ فإنَّه لما صبر، نال مقصُوده، وكذلك يُوسُف صلوات الله وسلامه عليه.
والوجه الثاني: أن يكون منصوباً على المصدر المبين، إذا جعلتَ القصص مصدراً غير مراد به المفعُول، ويكون المقصُوص على هذا محذوفاً، أي: نقُصُّ عليك أحسن الاقتصاص.
وعلى هذا؛ فالحسنُ يعُود إلى حسن البيان، لا إلى القصَّة، والمراد بهذا الحسن: كون هذه الألفاظ فصيحة بالغة في الفصاحة إلى حدِّ الإعجاز، ألا ترى أنَّ هذه القصَّة مذكورةٌ في كمتب التَّواريخ، مع أنَّ شيئاً منها لا يشبه هذه السورة في الفصاحة، والبلاغة.
و «أحْسَنَ» : يجوز أن يكون: أفعل تفضيل على بابها، وأن يكُون لمُجرَّد الوصف بالحسن، وتكون من باب إضافة الصِّفة لموصوفها، أي: القصص الحسن.
قال العلماء رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم: ذكر الله أقاصيصَ الأنبياء في القرآن، وكرَّرها بمعنى واحدٍ، في وجوهٍ مختلفة، بألفاظ متباينة على درجات المبالغة، وقد ذكر قصة يوسف عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ ولم يكرِّرها؛ فلم يقدر مخالفٌ على معارضة ما تكرر، ولا على معارضة غير المتكرِّر.
قال القرطبي: وذكر العُلماءُ لكَوْنِ هذه القصَّة أحسنَ القصصِ وجوهاً:
أحدها: أنه ليست قصَّة في القرآن تتضمنُ من العبر والحكم، ما تتضمن هذه القصَّة؛ لقوله تعالى في آخرها ﴿لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُوْلِي الألباب﴾ [يوسف: ١١١].
وثانيها: لحُسن مجاوزة يوسف إخوته، وصبْرِه على أذاهُم، وعفوه عنهُم بعد التقائهم عن ذكر فعلهم، وكرمه في العفو عنهُم، حتَّى قال: ﴿لاَ تَثْرَيبَ عَلَيْكُمُ اليوم﴾ [يوسف: ٩٢].
وثالثها: أن فيها ذكر الأنبياء عليهم الصلاة والسلام والصَّالحين، والملائكة، والجنِّ، والشياطين، والإنس، والطيرِ، وسير الملوكِ، والمماليكِ، والتُّجارِ، والعلماءِ، والجهال، والرِّجال، والنِّساء وحيلهنَّ ومكرهنَّ، وذكر التَّوحيد، والفقهِ، والسِّير، وتعبيرِ الرُّؤيا، والسِّياسةِ، والمعاشرةِ، وتدبير المعاشِ، وجُمَل الفوائد تصلُح للدِّين والدُّنيا.
والفائدة الثانية: أنََّهَا تدلُّ على أنَّ الحسد سببُ الخُذلانِ، والنُقصَانِ.
والفائدة الثالثة: أنَّ الصَّبر مفتاحُ الفرج، كما في حقِّ يعقُوب عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ؛ فإنَّه لما صبر، نال مقصُوده، وكذلك يُوسُف صلوات الله وسلامه عليه.
والوجه الثاني: أن يكون منصوباً على المصدر المبين، إذا جعلتَ القصص مصدراً غير مراد به المفعُول، ويكون المقصُوص على هذا محذوفاً، أي: نقُصُّ عليك أحسن الاقتصاص.
وعلى هذا؛ فالحسنُ يعُود إلى حسن البيان، لا إلى القصَّة، والمراد بهذا الحسن: كون هذه الألفاظ فصيحة بالغة في الفصاحة إلى حدِّ الإعجاز، ألا ترى أنَّ هذه القصَّة مذكورةٌ في كمتب التَّواريخ، مع أنَّ شيئاً منها لا يشبه هذه السورة في الفصاحة، والبلاغة.
و «أحْسَنَ» : يجوز أن يكون: أفعل تفضيل على بابها، وأن يكُون لمُجرَّد الوصف بالحسن، وتكون من باب إضافة الصِّفة لموصوفها، أي: القصص الحسن.
قال العلماء رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم: ذكر الله أقاصيصَ الأنبياء في القرآن، وكرَّرها بمعنى واحدٍ، في وجوهٍ مختلفة، بألفاظ متباينة على درجات المبالغة، وقد ذكر قصة يوسف عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ ولم يكرِّرها؛ فلم يقدر مخالفٌ على معارضة ما تكرر، ولا على معارضة غير المتكرِّر.
فصل
قال القرطبي: وذكر العُلماءُ لكَوْنِ هذه القصَّة أحسنَ القصصِ وجوهاً:
أحدها: أنه ليست قصَّة في القرآن تتضمنُ من العبر والحكم، ما تتضمن هذه القصَّة؛ لقوله تعالى في آخرها ﴿لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُوْلِي الألباب﴾ [يوسف: ١١١].
وثانيها: لحُسن مجاوزة يوسف إخوته، وصبْرِه على أذاهُم، وعفوه عنهُم بعد التقائهم عن ذكر فعلهم، وكرمه في العفو عنهُم، حتَّى قال: ﴿لاَ تَثْرَيبَ عَلَيْكُمُ اليوم﴾ [يوسف: ٩٢].
وثالثها: أن فيها ذكر الأنبياء عليهم الصلاة والسلام والصَّالحين، والملائكة، والجنِّ، والشياطين، والإنس، والطيرِ، وسير الملوكِ، والمماليكِ، والتُّجارِ، والعلماءِ، والجهال، والرِّجال، والنِّساء وحيلهنَّ ومكرهنَّ، وذكر التَّوحيد، والفقهِ، والسِّير، وتعبيرِ الرُّؤيا، والسِّياسةِ، والمعاشرةِ، وتدبير المعاشِ، وجُمَل الفوائد تصلُح للدِّين والدُّنيا.
6
ورابعها: أنَّ فيها ذكر الحبيب، والمحبُوب، وسيرهما.
وخامسها: أنَّ «أحْسنَ» هنا بمعنى: أعجب.
وسادسها: سُمِّيت أحسن القصص؛ لأنَّ كل من ذكر فيها كان مآله إلى السَّعادة، وانظُر إلى يوسف، وأبيه وإخوته، وامرأة العزيز، قيل: والملكُ أيضاً أسلم بيُوسُف، وحسن إسلامهُ، ومستعبر الرؤيا، والسَّاقي، والشَّاهد فيما يقال، فما كان أمْر الجَمِيع إلاَّ إلى خير، والله تعالى أعلم.
قوله: ﴿بِمَآ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ﴾ «الباء سببيَّة»، وهي متعلقةٌ ب «نَقُصُّ» و «مَا» مصدريَّة، أيك بسبب إيحائنا «.
قوله: ﴿هذا القرآن﴾ يجوز فيه وجهان:
أظهرهما: أن ينتصب على المفعولية ب» أَوْحَيْنَا «.
والثاني: أن تكون المسألة من باب التنازع، أعني: بَيْن» نَقُصُّ «وبين» أوْحَيْنَا «فإن كلاًّ منهما يطلب» هذا القُرآنَ «وتكون المسألةُ من إعمال الثاني، وهذا إنما يتأتَّى على جعلنا» أحْسنَ «: منصوباً على المصدر، ولم يقدَّر ل» نَقُصُّ «مفعولاً محذوفاً.
قوله: ﴿وَإِن كُنتَ مِن قَبْلِهِ لَمِنَ الغافلين﴾ [يوسف: ٣] تقدّم إعراب نظيره، والمعنى: قد كنت من قبله، أي: من قبل وحينان لمن الغافلين، أي: لمن الساهين عن هذه القصَّة لا تعلمُهَا.
وقيل: لمن الغافلين: عن الدِّين والشَّريعة قبل ذلك، كقوله تعالى: ﴿مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الكتاب وَلاَ الإيمان﴾ [الشورى: ٥٢].
قال بعض المفسرين: سمى قصَّة يُوسف خاصَّة أحسن القصص؛ لما فيها من العبر، والحكم، والنُّكتِ، والفوائد التي تصلْح للدِّين والدُّنيا، من سير الملوكِ، والمماليكِ، والعلماء، ومكرِ النِّساء، والصبْر على أذى الأعداء، وحسن التَّجاوزِ عنهم بعد الالتقاء، وغير ذلك من الفوائد.
قال خالد بن معدان:» سورة يوسف، وسورة مريم يتفكَّه بهما أهل الجنَّة في الجنَّة «.
وقال عطاء رَحِمَهُ اللَّهُ:» لا يَسْمع سُورةَ يُوسف محْزُونُ إلا استراح لهَا «.
قوله تعالى: ﴿إِذْ قَالَ يُوسُفُ لأَبِيهِ﴾ الآية.
رُوِي أن علماء اليهود قالوا لكبراء المشركين: سلْوا محمَّداً لم انتقل يعقوب من الشَّام إلى مصر؟ وعن كيفيَّة قصَّة يوسف؟ فأنز الله تعالى هذه السورة.
وخامسها: أنَّ «أحْسنَ» هنا بمعنى: أعجب.
وسادسها: سُمِّيت أحسن القصص؛ لأنَّ كل من ذكر فيها كان مآله إلى السَّعادة، وانظُر إلى يوسف، وأبيه وإخوته، وامرأة العزيز، قيل: والملكُ أيضاً أسلم بيُوسُف، وحسن إسلامهُ، ومستعبر الرؤيا، والسَّاقي، والشَّاهد فيما يقال، فما كان أمْر الجَمِيع إلاَّ إلى خير، والله تعالى أعلم.
قوله: ﴿بِمَآ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ﴾ «الباء سببيَّة»، وهي متعلقةٌ ب «نَقُصُّ» و «مَا» مصدريَّة، أيك بسبب إيحائنا «.
قوله: ﴿هذا القرآن﴾ يجوز فيه وجهان:
أظهرهما: أن ينتصب على المفعولية ب» أَوْحَيْنَا «.
والثاني: أن تكون المسألة من باب التنازع، أعني: بَيْن» نَقُصُّ «وبين» أوْحَيْنَا «فإن كلاًّ منهما يطلب» هذا القُرآنَ «وتكون المسألةُ من إعمال الثاني، وهذا إنما يتأتَّى على جعلنا» أحْسنَ «: منصوباً على المصدر، ولم يقدَّر ل» نَقُصُّ «مفعولاً محذوفاً.
قوله: ﴿وَإِن كُنتَ مِن قَبْلِهِ لَمِنَ الغافلين﴾ [يوسف: ٣] تقدّم إعراب نظيره، والمعنى: قد كنت من قبله، أي: من قبل وحينان لمن الغافلين، أي: لمن الساهين عن هذه القصَّة لا تعلمُهَا.
وقيل: لمن الغافلين: عن الدِّين والشَّريعة قبل ذلك، كقوله تعالى: ﴿مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الكتاب وَلاَ الإيمان﴾ [الشورى: ٥٢].
قال بعض المفسرين: سمى قصَّة يُوسف خاصَّة أحسن القصص؛ لما فيها من العبر، والحكم، والنُّكتِ، والفوائد التي تصلْح للدِّين والدُّنيا، من سير الملوكِ، والمماليكِ، والعلماء، ومكرِ النِّساء، والصبْر على أذى الأعداء، وحسن التَّجاوزِ عنهم بعد الالتقاء، وغير ذلك من الفوائد.
قال خالد بن معدان:» سورة يوسف، وسورة مريم يتفكَّه بهما أهل الجنَّة في الجنَّة «.
وقال عطاء رَحِمَهُ اللَّهُ:» لا يَسْمع سُورةَ يُوسف محْزُونُ إلا استراح لهَا «.
قوله تعالى: ﴿إِذْ قَالَ يُوسُفُ لأَبِيهِ﴾ الآية.
رُوِي أن علماء اليهود قالوا لكبراء المشركين: سلْوا محمَّداً لم انتقل يعقوب من الشَّام إلى مصر؟ وعن كيفيَّة قصَّة يوسف؟ فأنز الله تعالى هذه السورة.
7
وفي العامل في «إذْ» أوجهٌ:
أظهرها: أنه منصُوب ب «قَالَ يَا بُنَيَّ» أي: قال يعقوب: يا بني وقت قول يُوسف لهُ: كَيْتَ وكَيْتَ، وهذا أسهل الوجوه؛ إذ فيه إبقاء «إذْ» كونها ظرفاً ماضياً.
وقيل: الناسب له: «الغَالفينَ» قاله مكيٌّ.
وقيل: هو منصوبٌ ب «نَقُصُّ» أي: نقصُّ عليك وقتَ قوله كَيْتَ وكَيْتَ، وهذا فيه [إخراج] «إذْ» عن المضيِّ، وعن الظرفيَّة، وإن قدَّرت المفعول محذوفاً، أي: نقصُّ عليك الحال وقت قوله، لزم أخراجها عن المضيِّ.
وقيل: هو منصوب بمضمر، أي: اذكُر.
وقيل: هو منصُوب على أنَّه بدل من «أحسن القصص» بدل اشتمال.
قال الزمخشري: «لأنَّ الوقت يشتمل على القصص وهو المقصوص» و «يُوسفُ» اسم عبرانيٌّ، ولذلك لا ينصرف، وقيل: هو عربيٌّ، فقال الزمخشريُّ: «الصَحيحُ أنه اسم عبرانيٌّ؛ لأنه لو كان عربيًّا، لانصرف» وسئل أبو الحسن الأقطع عن الأسف فقال: «الأسف في اللغة: الحُزن، والأسف: العَبْد، واجتمعا في يوسف؛ فسُمِّي بهما».
روي ابن عمر عن النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال: «الكَرِيمُِ ابنُ الكَريمِ ابْنِ الكريمِ ابن الكريم، يُوسف بنُ يعقُوبَ بنِ إسحاقَ بنِ إبْراهيمَ صَلواتُ اللهِ وسلامه عليهم أجمعين».
قوله: «يَا أبَتِ» قرأ ابن عامر: بفتح التَّاء، والباقون بكسرها، وهذه التَّاء عوض عن ياء المتكلم؛ ولذلك لا يجوز الجمع بينهما.
أظهرها: أنه منصُوب ب «قَالَ يَا بُنَيَّ» أي: قال يعقوب: يا بني وقت قول يُوسف لهُ: كَيْتَ وكَيْتَ، وهذا أسهل الوجوه؛ إذ فيه إبقاء «إذْ» كونها ظرفاً ماضياً.
وقيل: الناسب له: «الغَالفينَ» قاله مكيٌّ.
وقيل: هو منصوبٌ ب «نَقُصُّ» أي: نقصُّ عليك وقتَ قوله كَيْتَ وكَيْتَ، وهذا فيه [إخراج] «إذْ» عن المضيِّ، وعن الظرفيَّة، وإن قدَّرت المفعول محذوفاً، أي: نقصُّ عليك الحال وقت قوله، لزم أخراجها عن المضيِّ.
وقيل: هو منصوب بمضمر، أي: اذكُر.
وقيل: هو منصُوب على أنَّه بدل من «أحسن القصص» بدل اشتمال.
قال الزمخشري: «لأنَّ الوقت يشتمل على القصص وهو المقصوص» و «يُوسفُ» اسم عبرانيٌّ، ولذلك لا ينصرف، وقيل: هو عربيٌّ، فقال الزمخشريُّ: «الصَحيحُ أنه اسم عبرانيٌّ؛ لأنه لو كان عربيًّا، لانصرف» وسئل أبو الحسن الأقطع عن الأسف فقال: «الأسف في اللغة: الحُزن، والأسف: العَبْد، واجتمعا في يوسف؛ فسُمِّي بهما».
روي ابن عمر عن النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال: «الكَرِيمُِ ابنُ الكَريمِ ابْنِ الكريمِ ابن الكريم، يُوسف بنُ يعقُوبَ بنِ إسحاقَ بنِ إبْراهيمَ صَلواتُ اللهِ وسلامه عليهم أجمعين».
قوله: «يَا أبَتِ» قرأ ابن عامر: بفتح التَّاء، والباقون بكسرها، وهذه التَّاء عوض عن ياء المتكلم؛ ولذلك لا يجوز الجمع بينهما.
8
وهذا مختصٌّ بلفظتين: يا أبَتِ ويَا أمَّتِ، ولا يجُوز في غيرهما من الأسماء، لو قلت: «يَا صَاحِبتِ» لم يجُز ألبتَّة؛ كما اختصَّت لفظة الأم والعم بحكم في نحو: «يا ابْنَ أمَّ» ويجوز الجمع بين هذه التَّاء، وبين كلِّ من الياءِ والألفِ ضرورةً؛ كقوله: [الرجز]
٣٠٤٤ - يَا أبَتَا عَلَّكَ أوْ عَسَاكَا... وقول الآخر: [المتقارب]
وقول الآخر: [الطويل]
وكلامُ الزمخشريِّ يؤذن بأنَّ الجمع بين التَّاء والألفِ ليس ضرورةً؛ فإنَّه قال: «فإن قلت: فما هَذه الكسْرة؟ قلتُ: هي الكسْرة الَّتي كَانتْ قبل الياءِ في قولك:» يا أبي «قد زُحلقَتْ إلى التاء؛ لاقتضاء تاءِ التَّأنيث أن يكُون ما قبْلَها مفتوحاً.
فإن قلت: فما بالُ الكسرة لم تَسْقُطْ بالفَتْحَة الَّتي اقْتَضَتْهَا التَّاء، وتبقَى التَّاءُ ساكنةً؟.
قلت: امتنع ذلك فيها؛ لأنَّها اسم، والأسماءُ حقُّها التحريكُ؛ لأصالتها في الإعراب، وإنما جاز تسكينُ الياء، وأصلها أن تحرَّك تخفيفاً؛ لأنها حرف لين، وأما التاء، فحرفٌ صحيحٌ، نحو كافِ الضمير؛ فلزم تحريكها.
فإن قلت: يشبه الجمع بين هذه التَّاء وبين هذه الكسرة الجمع بين العوض والمعوَّض منه؛ لأنَّها في حكم الياء، إذا قلت: يا غُلام، فكَمَا لا يَجُوز: «يا أبتي» لا يجوز «يا أبتِ» قلت: الياءُ والكسرة قبلها شيئان، والتَّاء عوض من أحد الشيئين، وهو الياء، والكسرة متعرَّض لها؛ فلا يجمع بين العوض والمعوَّض منه، إلا إذا جُمِعَ بين التَّاء والياء لاغير؛ ألا ترى إلى قولهم: «يَا أبَتَا» مع كونِ الألف فيه بدلاً من الياءِ، كيف
٣٠٤٤ - يَا أبَتَا عَلَّكَ أوْ عَسَاكَا... وقول الآخر: [المتقارب]
٣٠٤٥ - أيَا أبَتَا لا تَزْلْ عِنْدنَا | فإنَّا نَخافُ بأنْ تُخْتَرَمْ |
٣٠٤٦ - أيَا أبَتِي لا زلْتَ فينَا فإنَّمَا | لنَا أمَلٌ فِي العَيْشِ ما دُمْتَ عَائِشَا |
فإن قلت: فما بالُ الكسرة لم تَسْقُطْ بالفَتْحَة الَّتي اقْتَضَتْهَا التَّاء، وتبقَى التَّاءُ ساكنةً؟.
قلت: امتنع ذلك فيها؛ لأنَّها اسم، والأسماءُ حقُّها التحريكُ؛ لأصالتها في الإعراب، وإنما جاز تسكينُ الياء، وأصلها أن تحرَّك تخفيفاً؛ لأنها حرف لين، وأما التاء، فحرفٌ صحيحٌ، نحو كافِ الضمير؛ فلزم تحريكها.
فإن قلت: يشبه الجمع بين هذه التَّاء وبين هذه الكسرة الجمع بين العوض والمعوَّض منه؛ لأنَّها في حكم الياء، إذا قلت: يا غُلام، فكَمَا لا يَجُوز: «يا أبتي» لا يجوز «يا أبتِ» قلت: الياءُ والكسرة قبلها شيئان، والتَّاء عوض من أحد الشيئين، وهو الياء، والكسرة متعرَّض لها؛ فلا يجمع بين العوض والمعوَّض منه، إلا إذا جُمِعَ بين التَّاء والياء لاغير؛ ألا ترى إلى قولهم: «يَا أبَتَا» مع كونِ الألف فيه بدلاً من الياءِ، كيف
9
جاز بينها وبين التاء، ولم يعدَّ ذلك جمعاً بين العوض والمعوَّض منه؟ فالكسرة أبعد من ذلك.
فإن قلت: قد دلَّت الكسرة في «يا غُلام» على الإضافة؛ لأنَّها قرينة الياءِ ولصيقتها، فإن دلَّت على مثل ذلك في: «يا أبت» فالتَّاء الَمعوَّة لغو، وجودها كعدمها.
قلت: [بل] حالها مع التَّاء كحالها مع الياءِ إذا قلت: «يا أبِي».
وكذا عبارة أبي حيَّان، فإنه قال: وهذه التَّاء عوض من ياءِ الإضافة فلا تجتمعان، وتجامع الألف التي هي بدل من التاء، كما قال: [الرجز]
٣٠٤٧ - يَا أبَتَا عَلَّكَ أوْ عَسَاكَا... وفيه نظر؛ من حيث إن الألف كالتاء لكونها بدلاً منها، فينبغي أن لا يجمع بينهما، وهذا تاء أصلها للتأَنيث.
قال الزمخشريُّ: «فإن قلتك ما هذه التَّاء؟ قلتك تاءُ التأنيث وقعت عوضاً من ياء الإضافة، والدَّليل على أنَّها تاء التَّأنيث: قلبُهَا هاءً في الوقف».
قال شهاب الدِّين: وما ذكرهُ من كونها تقلب هاءً في الوقف، قرأ به ابنُ كثير، وابن عامرٍ، والباقُون وقفوا عليها بالتَّاء، كأَنَّهم أجروها مجرى تاء الإلحاق في «بِنْت وأخْت» وممن نصَّ على كونهخا للتَّأنيث: سيبويه؛ فإنه قال: «سَألْت الخليل عن التَّاء في:» يَا أبتِ «فقال: هي بِمنزِلَة التَّاء في تاء» يا خالة وعمَّة «يعنى: أنَّها للتَّأنيث» ويدلُّ أيضاً على كونها للتأنيث: كتبُهم إيَّاها هاءً، وقياس من وقف بالتَّاء: أن يكُبهَا تاء، ك «بِنْت وأخْت».
ثم قال الزمخشري: فإن قلت: كيف جاز إلحاق تاءِ التَّأنيث بالمذكَّر؟.
قلت: كما جاز نحو قولك: حمامة ذكر، وشاةٌ ذكر، ورجل ربعة، وغلامٌ يفعة قلت: يعني: أنها جيء بهَا لمُجرَّد تأنيث اللفظ، كما في الأسماء المستشهد بها.
ثم قال الزمخشري: «فإن قلت: فلم ساغ تعويض تاءِ التأنيث من ياءِ الإضافة؟.
قلت: لأن التأنيث والإضافة تناسبان؛ في أنَّ كل واحدٍ منهما زيادة مضمومة إلى الاسم في آخره».
قال شهاب الدين: «وهذا قياسٌ بعيدٌ لا يعمل به عند الحُذاق، فإنَّه يسمَّى الشَّبه الطَّردِي، أي: أنه شَبَهٌ في الصُّورة».
وقال الزمخشري: «إنه قرىء» يَا أبتِ «بالحركات الثلاث:
فإن قلت: قد دلَّت الكسرة في «يا غُلام» على الإضافة؛ لأنَّها قرينة الياءِ ولصيقتها، فإن دلَّت على مثل ذلك في: «يا أبت» فالتَّاء الَمعوَّة لغو، وجودها كعدمها.
قلت: [بل] حالها مع التَّاء كحالها مع الياءِ إذا قلت: «يا أبِي».
وكذا عبارة أبي حيَّان، فإنه قال: وهذه التَّاء عوض من ياءِ الإضافة فلا تجتمعان، وتجامع الألف التي هي بدل من التاء، كما قال: [الرجز]
٣٠٤٧ - يَا أبَتَا عَلَّكَ أوْ عَسَاكَا... وفيه نظر؛ من حيث إن الألف كالتاء لكونها بدلاً منها، فينبغي أن لا يجمع بينهما، وهذا تاء أصلها للتأَنيث.
قال الزمخشريُّ: «فإن قلتك ما هذه التَّاء؟ قلتك تاءُ التأنيث وقعت عوضاً من ياء الإضافة، والدَّليل على أنَّها تاء التَّأنيث: قلبُهَا هاءً في الوقف».
قال شهاب الدِّين: وما ذكرهُ من كونها تقلب هاءً في الوقف، قرأ به ابنُ كثير، وابن عامرٍ، والباقُون وقفوا عليها بالتَّاء، كأَنَّهم أجروها مجرى تاء الإلحاق في «بِنْت وأخْت» وممن نصَّ على كونهخا للتَّأنيث: سيبويه؛ فإنه قال: «سَألْت الخليل عن التَّاء في:» يَا أبتِ «فقال: هي بِمنزِلَة التَّاء في تاء» يا خالة وعمَّة «يعنى: أنَّها للتَّأنيث» ويدلُّ أيضاً على كونها للتأنيث: كتبُهم إيَّاها هاءً، وقياس من وقف بالتَّاء: أن يكُبهَا تاء، ك «بِنْت وأخْت».
ثم قال الزمخشري: فإن قلت: كيف جاز إلحاق تاءِ التَّأنيث بالمذكَّر؟.
قلت: كما جاز نحو قولك: حمامة ذكر، وشاةٌ ذكر، ورجل ربعة، وغلامٌ يفعة قلت: يعني: أنها جيء بهَا لمُجرَّد تأنيث اللفظ، كما في الأسماء المستشهد بها.
ثم قال الزمخشري: «فإن قلت: فلم ساغ تعويض تاءِ التأنيث من ياءِ الإضافة؟.
قلت: لأن التأنيث والإضافة تناسبان؛ في أنَّ كل واحدٍ منهما زيادة مضمومة إلى الاسم في آخره».
قال شهاب الدين: «وهذا قياسٌ بعيدٌ لا يعمل به عند الحُذاق، فإنَّه يسمَّى الشَّبه الطَّردِي، أي: أنه شَبَهٌ في الصُّورة».
وقال الزمخشري: «إنه قرىء» يَا أبتِ «بالحركات الثلاث:
10
فأما الفتح والكسر فقد تقدَّم ذكر من قرأ بهما.
وأما الضم فغريبٌ جدًّا وهو يشبه من يبني المنادى المضاف لياء المتكلِّم على الضمِّ؛ كقراءة من قرأ: ﴿قَالَ رَبِّ احكم بالحق﴾ [الأنبياء: ١١٢] بضم الباء، وسيأتي توجيهها هناك إن شاء الله تعالى ولما قلنا: إنَّه مضافٌ للياءِ، ولم نجعله مفرداً من غير إضافةٍ. وقد تقدَّم توجيهُ كسر هذه التَّاء بما ذكره الزمخشريُّ من كونها هي الكسرة التي قبل الياء زحلقت إلى التاء وهذا أحدُ المذهبين.
والمذهبُ الآخر: أنَّها كسرة أجنبيَّة، جيء بها لتدُلَّ على الياءِ المعوَّض منها. فأما الفتح ففيه أربعة أوجه، ذكر الفارسي منها وجهين:
أحدهما: أنه اجتزأ بالفتحة عن الألف المنقلبة عن الياءِ؛ كما اجتزَأ عنها الآخرْ بقوله: [الوافر]
وكما اجتزأ بها في:» يَا بْنَ أمَّ «و» يَا بْنَ عَمّ «.
والثاني: أنه رخم بحذف التاء، ثم اقحمت التَّاءُ مفتوحة؛ كقول النابغة الجعديِّ: [الطويل]
بفتح تاء أميمة.
الثالث: ما ذكره الفرَّاء، وأبو عبيدة، وأبو حاتم، وقطرب في أحد قوليه: وهو أن الألف في:» يَا أبَتَا «للنُّدبة، ثم حذفها مجتزئاً عنها بالفتحة، وهذا قد ينفع في الجواب بين العوض والمعوض منه، ورد بعضهم هذاح بأنَّ المضع ليس موضع نُدبة.
الرابع: أن الأصل» يا أبَة «بالتنوين، فحذف التنوين، لأنَّ النداء بابُ حذفٍ، وإلى هذا ذهب قطرُب في القول الثاني.
وردَّ هذا: بأ، التَّنوين لا يحذف من المنادى المنصُوب نحو:» يَا ضَارِباً رجُلاً «.
وقرأ أبو جعفر:» يا أبِي «بالياءِ ولم يعوض منها التَّاء، وقرأ الحسن، والحسين، وطلحة بن سليمان، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم» أحَدَ عَشَر «بسُكُون العين؛
وأما الضم فغريبٌ جدًّا وهو يشبه من يبني المنادى المضاف لياء المتكلِّم على الضمِّ؛ كقراءة من قرأ: ﴿قَالَ رَبِّ احكم بالحق﴾ [الأنبياء: ١١٢] بضم الباء، وسيأتي توجيهها هناك إن شاء الله تعالى ولما قلنا: إنَّه مضافٌ للياءِ، ولم نجعله مفرداً من غير إضافةٍ. وقد تقدَّم توجيهُ كسر هذه التَّاء بما ذكره الزمخشريُّ من كونها هي الكسرة التي قبل الياء زحلقت إلى التاء وهذا أحدُ المذهبين.
والمذهبُ الآخر: أنَّها كسرة أجنبيَّة، جيء بها لتدُلَّ على الياءِ المعوَّض منها. فأما الفتح ففيه أربعة أوجه، ذكر الفارسي منها وجهين:
أحدهما: أنه اجتزأ بالفتحة عن الألف المنقلبة عن الياءِ؛ كما اجتزَأ عنها الآخرْ بقوله: [الوافر]
٣٠٤٨ - ولَسْتُ بِراجِعٍ ما فَاتَ منِّي | بِلهْفَ ولا بِليْتَ ولا لَوَنِّي |
والثاني: أنه رخم بحذف التاء، ثم اقحمت التَّاءُ مفتوحة؛ كقول النابغة الجعديِّ: [الطويل]
٣٠٤٩ - كِلِينِي لِهمِّ يا أمَيْمةَ نَاصبِ | وليْلٍ أقَاسيهِ بَطيءِ الكَواكبِ |
الثالث: ما ذكره الفرَّاء، وأبو عبيدة، وأبو حاتم، وقطرب في أحد قوليه: وهو أن الألف في:» يَا أبَتَا «للنُّدبة، ثم حذفها مجتزئاً عنها بالفتحة، وهذا قد ينفع في الجواب بين العوض والمعوض منه، ورد بعضهم هذاح بأنَّ المضع ليس موضع نُدبة.
الرابع: أن الأصل» يا أبَة «بالتنوين، فحذف التنوين، لأنَّ النداء بابُ حذفٍ، وإلى هذا ذهب قطرُب في القول الثاني.
وردَّ هذا: بأ، التَّنوين لا يحذف من المنادى المنصُوب نحو:» يَا ضَارِباً رجُلاً «.
وقرأ أبو جعفر:» يا أبِي «بالياءِ ولم يعوض منها التَّاء، وقرأ الحسن، والحسين، وطلحة بن سليمان، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم» أحَدَ عَشَر «بسُكُون العين؛
11
كأنهم قصدّوا التنبيه بهذا التَّخفيفِ على أنَّ الاسمين جُعِلا اسماً واحداً.
قوله ﴿والشمس والقمر﴾ يجوز فيه وجهان:
أحدهما: أن تكون الواو عاطفة، وحينئذ: يحتمل أن يكُون من باب ذكر الخاصِّ بعد ذكر العام تفصيلاً له؛ لأن الشَّمس والقمر دخلا في قوله: ﴿أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً﴾ فهذا كقوله: ﴿وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ﴾ [البقرة: ٩٨] بعد قوله:» ومَلائِكتهِ «ويحتمل أن لا تكون كذلك، وتكون الواوُ لعطف المغايرة؛ فيكون قد رأى الشمس والقمر زيادة على ال» أحَدَ عَشَرَ «ومن جملتها الشمس والقمر، وهذان الاحتمالان نقلهما الزمخشريُّ.
والوجه الثاني: أن تكون الواو بمعنى:» مَعَ «إلا أنَّه مرجوحٌ؛ لأنَّه متى أمكن العطف من غير ضعفٍ، ولا أخلال بمعنى، رُجِّح على المعيَّة؛ وعلى هذا فيكون كالوجه الذي قبله، بمعنى: أنه رأى الشمس، والقمر زيادةً على الأحد عشر كوكباً.
قوله: ﴿رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ﴾ يحتمل وجهين:
أحدهما: أنَّها جملة كُرِّرت للتوكيد؛ لما طال الفصل بالمفاعيل، كما كُرِّرت «أنكُم» في قوله تعالى: ﴿أَنَّكُمْ إِذَا مِتٌّمْ وَكُنتُمْ تُرَاباً وَعِظاماً أَنَّكُمْ مُّخْرَجُونَ﴾ [المؤمنون: ٣٥]. كذا قالهُ أبو حيَّان، وسيأتي تحقيقه إن شاء الله تعالى.
والثاني: أنه ليس [بتأكيد]، وإليه نحا الزمخشريُّ؛ فإنه قال: «فإن قلت: ما معنى تكرار» رَأيْتُمْ «؟ قلتُ: ليس بتكرار؛ إنَّما هو كلام مُستأنَف على تقدير سؤال وقع جواباً له؛ كأنَّ يعقُوب عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ قال لهُ عند قوله: ﴿إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً والشمس والقمر﴾ كيف رأيتها؟ سائلاً عن حال رؤيتها، فقال: (رأيتهم لي ساجدين) وهذا أظهر؛ لأنَّه متى دار الكلام بين الحمل على التأكيد والتأسيس، فحمله على التَّأسيس أولى».
و «سَاجِدينَ» : صفة جُمِعَ جَمْ العقلاء، فقيل: لأنَّه لما عاملهُم معاملة العقلاء في إسناد فعلهم إليهم، جمعهم جمع العقلاء، فقيل: لأنَّ الشيء قد يعامل مُعالمة شيء آخر، إذا شاركه في صفةٍ ما؛ كما قال في صفة الأصنام: ﴿وَتَرَاهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ﴾ [الأعراف: ١٩٨]، وكقوله عَزَّ وَجَلَّ: ﴿يا أيها النمل ادخلوا مَسَاكِنَكُمْ﴾ [النمل: ١٨].
والرُّؤية هنا: مناميَّة، وقد تقدم أنَّها تنصب مفعولين؛ كالعلميَّة؛ وعلى هذا قد حذف المعفول الثاني من قوله: ﴿رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً﴾، ولكن حذفه اقتصاراً ممتنع، فلم يبق إلا اختصاراً، وهو قليلٌ، أو ممتنع عند بعضهم.
وقال بعضهم: إن إحداهما من الرُّؤية، والأخرى من الرُّؤيا.
قوله ﴿والشمس والقمر﴾ يجوز فيه وجهان:
أحدهما: أن تكون الواو عاطفة، وحينئذ: يحتمل أن يكُون من باب ذكر الخاصِّ بعد ذكر العام تفصيلاً له؛ لأن الشَّمس والقمر دخلا في قوله: ﴿أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً﴾ فهذا كقوله: ﴿وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ﴾ [البقرة: ٩٨] بعد قوله:» ومَلائِكتهِ «ويحتمل أن لا تكون كذلك، وتكون الواوُ لعطف المغايرة؛ فيكون قد رأى الشمس والقمر زيادة على ال» أحَدَ عَشَرَ «ومن جملتها الشمس والقمر، وهذان الاحتمالان نقلهما الزمخشريُّ.
والوجه الثاني: أن تكون الواو بمعنى:» مَعَ «إلا أنَّه مرجوحٌ؛ لأنَّه متى أمكن العطف من غير ضعفٍ، ولا أخلال بمعنى، رُجِّح على المعيَّة؛ وعلى هذا فيكون كالوجه الذي قبله، بمعنى: أنه رأى الشمس، والقمر زيادةً على الأحد عشر كوكباً.
قوله: ﴿رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ﴾ يحتمل وجهين:
أحدهما: أنَّها جملة كُرِّرت للتوكيد؛ لما طال الفصل بالمفاعيل، كما كُرِّرت «أنكُم» في قوله تعالى: ﴿أَنَّكُمْ إِذَا مِتٌّمْ وَكُنتُمْ تُرَاباً وَعِظاماً أَنَّكُمْ مُّخْرَجُونَ﴾ [المؤمنون: ٣٥]. كذا قالهُ أبو حيَّان، وسيأتي تحقيقه إن شاء الله تعالى.
والثاني: أنه ليس [بتأكيد]، وإليه نحا الزمخشريُّ؛ فإنه قال: «فإن قلت: ما معنى تكرار» رَأيْتُمْ «؟ قلتُ: ليس بتكرار؛ إنَّما هو كلام مُستأنَف على تقدير سؤال وقع جواباً له؛ كأنَّ يعقُوب عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ قال لهُ عند قوله: ﴿إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً والشمس والقمر﴾ كيف رأيتها؟ سائلاً عن حال رؤيتها، فقال: (رأيتهم لي ساجدين) وهذا أظهر؛ لأنَّه متى دار الكلام بين الحمل على التأكيد والتأسيس، فحمله على التَّأسيس أولى».
و «سَاجِدينَ» : صفة جُمِعَ جَمْ العقلاء، فقيل: لأنَّه لما عاملهُم معاملة العقلاء في إسناد فعلهم إليهم، جمعهم جمع العقلاء، فقيل: لأنَّ الشيء قد يعامل مُعالمة شيء آخر، إذا شاركه في صفةٍ ما؛ كما قال في صفة الأصنام: ﴿وَتَرَاهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ﴾ [الأعراف: ١٩٨]، وكقوله عَزَّ وَجَلَّ: ﴿يا أيها النمل ادخلوا مَسَاكِنَكُمْ﴾ [النمل: ١٨].
والرُّؤية هنا: مناميَّة، وقد تقدم أنَّها تنصب مفعولين؛ كالعلميَّة؛ وعلى هذا قد حذف المعفول الثاني من قوله: ﴿رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً﴾، ولكن حذفه اقتصاراً ممتنع، فلم يبق إلا اختصاراً، وهو قليلٌ، أو ممتنع عند بعضهم.
وقال بعضهم: إن إحداهما من الرُّؤية، والأخرى من الرُّؤيا.
12
قال القفَّال: ذكر الرُّؤية الأولى؛ ليدل على أنَّه شاهد الكواكبِ، والشَّمس والقمر، والثانية؛ ليدل لا على مشاهدة كونها ساجدة لهُ.
ذكر المفسرون: أنَّ يوسف عليه السلام رأى في المنام أحد عشر كوكباً، والشمس والقمر يسجدون لهُ، كان لهُ احد عشر من الإخوة يُسْتضاء بهم؛ كما يُسْتضاء بالنُّجوم، ففسَّر الكواكب: بالإخوة، والشمس والقمر: بالأب والأم، والسجُود: بتواضعهم له، ودخولهم تحت أمره، وإنما حملنا الرُّؤية على رُؤية المنام؛ لأن الكواكب لا تسجُج في الحقيقَةن ولقول يعقوب عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: ﴿لاَ تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ على إِخْوَتِكَ﴾.
وقال السديُّ: «القمر: خالته، والشَّمسُ: أبُوه؛ لأن أمَّه راحِيل كانت قد ماتت».
وقال ابن جريج: القَمَر: أبُوه، والشَّمسُ أمُّه؛ لأن الشمس مؤنثة، والقمر مذكَّر.
وقال وهب بن مُنبِّه رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: «إن يُوسفُ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ ت رأى وهو ابنُ سبع سنين، إحدى عشرة عصاً طوالاً كانت مركُوزة في الأرض كهيئة الدَّائرة، وإذا عَصاً صغيرة وثبت عليها حتى اقتلعتها، فذكر ذلك لأبيه؛ فقال: إيَّاك أن تذكر هذا لإخوتك، ثمَّ رأى وهو ابن اثنتي عشرة سنة، الشَّمس، والقمر والكواكب، تسجُد له؛ فقصَّها على أبيه؛ فقال: لا تذكرها له فيَكيدُوا لَك كَيْداً».
روى الزمخشريُّ: رَحِمَهُ اللَّهُ: «أن يهُودِيًّا جاء إلى النبيِّ صلى الله عليه سولمن فقال يا محمَّد: أخبرني عن النُّجُوم التي رآهُن يوسف، فسكت النبي عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ؛ فنزل جبريل عليها لسلام فأخبره بذلك؛ فقال عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ لليهوديَّ: إن أخبرتك بذلك هل تسلم؟ قال: نَعمْ؛ فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وشرف وكرم ومجد وبجل وعظم: حرثان، والطارق والذيال، وقابس، وعمودان، والفليق، والمصبح، والقرع، والضروح ووثاب، وذو الكتفين رآها يوسف، والشمس والقمر [نَزلْنَ] من السَّماء، وسجدن لهُ، فقال اليهوديُّ: أي والله إنَّها لأسماؤها».
فصل
ذكر المفسرون: أنَّ يوسف عليه السلام رأى في المنام أحد عشر كوكباً، والشمس والقمر يسجدون لهُ، كان لهُ احد عشر من الإخوة يُسْتضاء بهم؛ كما يُسْتضاء بالنُّجوم، ففسَّر الكواكب: بالإخوة، والشمس والقمر: بالأب والأم، والسجُود: بتواضعهم له، ودخولهم تحت أمره، وإنما حملنا الرُّؤية على رُؤية المنام؛ لأن الكواكب لا تسجُج في الحقيقَةن ولقول يعقوب عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: ﴿لاَ تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ على إِخْوَتِكَ﴾.
وقال السديُّ: «القمر: خالته، والشَّمسُ: أبُوه؛ لأن أمَّه راحِيل كانت قد ماتت».
وقال ابن جريج: القَمَر: أبُوه، والشَّمسُ أمُّه؛ لأن الشمس مؤنثة، والقمر مذكَّر.
وقال وهب بن مُنبِّه رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: «إن يُوسفُ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ ت رأى وهو ابنُ سبع سنين، إحدى عشرة عصاً طوالاً كانت مركُوزة في الأرض كهيئة الدَّائرة، وإذا عَصاً صغيرة وثبت عليها حتى اقتلعتها، فذكر ذلك لأبيه؛ فقال: إيَّاك أن تذكر هذا لإخوتك، ثمَّ رأى وهو ابن اثنتي عشرة سنة، الشَّمس، والقمر والكواكب، تسجُد له؛ فقصَّها على أبيه؛ فقال: لا تذكرها له فيَكيدُوا لَك كَيْداً».
روى الزمخشريُّ: رَحِمَهُ اللَّهُ: «أن يهُودِيًّا جاء إلى النبيِّ صلى الله عليه سولمن فقال يا محمَّد: أخبرني عن النُّجُوم التي رآهُن يوسف، فسكت النبي عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ؛ فنزل جبريل عليها لسلام فأخبره بذلك؛ فقال عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ لليهوديَّ: إن أخبرتك بذلك هل تسلم؟ قال: نَعمْ؛ فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وشرف وكرم ومجد وبجل وعظم: حرثان، والطارق والذيال، وقابس، وعمودان، والفليق، والمصبح، والقرع، والضروح ووثاب، وذو الكتفين رآها يوسف، والشمس والقمر [نَزلْنَ] من السَّماء، وسجدن لهُ، فقال اليهوديُّ: أي والله إنَّها لأسماؤها».
13
واعلم ان كثيراً من هذه الأسماء غير مذكورة في الكتب المصنفة في صُور الكواكب.
زعمت طائفةٌ من العلماء: أ، هـ لم يكن في أولاد يعقُوب نبيٌّ غير يُوسف عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ وباقي إخوته لم يوح إليهم، واستدلُّوا بظاهر ما ذُكر من أفعالهم، وأحوالهم في هذه القصَّة، ومن استدلَّ على نُبوتهم، استدلَّ قوله تعالى: ﴿آمَنَّا بالله وَمَآ أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَآ أُنزِلَ إلى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ والأسباط﴾ [البقرة: ١٣٦] وزعم أنَّ هؤلاء: هم الأسباط، وهذا استدلال ضعيفٌ؛ لأن المراد بالأسباط: شُعوب بني إسرائيل، ما كان يوجد فيهم من الأنبياء الذين نزل عليهم الوحي، وأيضاً: فإنَّ يوسف عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ هو المخصُوص من بين إخوته بالنبوة والرسالة؛ لأنَّه نصَّ على نُبوَّته، والإيحاء إليه في آيات من القرآن ولم ينصَّ على أحد إخوته سواه؛ فدلَّ على ما ذكرنا.
في الآية دليل على تحذير المسلم أخاهُ المسلم، ولا يكُون ذلك داخلاً في معنى الغيبة؛ لأنَّ يعقُوب قد حذَّر يوسف أن يقُصَّ رُؤياه على إخوته؛ فيَكِيدُوا لهُ كيْداً، وفيها أيضاً: دليل على جواز ترك إظهار النِّعمة عند من يخشى غائلته حسداً، وفيها أيضاً: دليلٌ على مع رفة يعقُوب عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ بتأويلِ الرُّؤيا؛ فإنه علم من تأويلها: أنَّه سيظهر عليْهم.
قوله ﴿لاَ تَقْصُصْ﴾ قرأ حفص: «يا بُنيَّ» بفتح الياء، والباقون بكسرها، وقرأ العامة: بفك الصادين، وهي لغةُ الحجاز، وقرأ زيد بن عليك بصادٍ واحدةٍ مشددة، والإدغام لغة تميم، وقد تقدَّم تحقيق هذا في المائدة، عند قوله: ﴿مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ﴾ [المائدة: ٥٤] والرُّؤيا مصدر كالبُقْيَا.
وقال الزمخشريٌّ: «الرُّؤيا بمعنى: الرُّؤية، إلا أنَّها ختصةٌ بما كان في النَّوم دون اليقظة، فُرِّق بينهما بحرفي التأنيث؛ كما قيل: القربة والقربى».
وقرأ العامَّة: «الرُّؤيا» مهموزة من غير إمالة، وقرأها الكسائيُّ في رواية الدُّوريِّ عنه بالإمالةِ: وأما (الرؤيا) [يوسف: ١٠٠] : و «رُؤيَاي» الاثنتان في هذه السورة، فأمالهما الكسائيُّ من غير خلافِ في المشهور، وأبو عمرو يبدل هذه الهمزة واواً في طريق السوسيِّ.
وقال الزمخشري: وسمع الكسائيُّ: «رُيَّايَ وريَّاكَ» بالادغام، وضم الرَّاء،
فصل
زعمت طائفةٌ من العلماء: أ، هـ لم يكن في أولاد يعقُوب نبيٌّ غير يُوسف عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ وباقي إخوته لم يوح إليهم، واستدلُّوا بظاهر ما ذُكر من أفعالهم، وأحوالهم في هذه القصَّة، ومن استدلَّ على نُبوتهم، استدلَّ قوله تعالى: ﴿آمَنَّا بالله وَمَآ أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَآ أُنزِلَ إلى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ والأسباط﴾ [البقرة: ١٣٦] وزعم أنَّ هؤلاء: هم الأسباط، وهذا استدلال ضعيفٌ؛ لأن المراد بالأسباط: شُعوب بني إسرائيل، ما كان يوجد فيهم من الأنبياء الذين نزل عليهم الوحي، وأيضاً: فإنَّ يوسف عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ هو المخصُوص من بين إخوته بالنبوة والرسالة؛ لأنَّه نصَّ على نُبوَّته، والإيحاء إليه في آيات من القرآن ولم ينصَّ على أحد إخوته سواه؛ فدلَّ على ما ذكرنا.
فصل
في الآية دليل على تحذير المسلم أخاهُ المسلم، ولا يكُون ذلك داخلاً في معنى الغيبة؛ لأنَّ يعقُوب قد حذَّر يوسف أن يقُصَّ رُؤياه على إخوته؛ فيَكِيدُوا لهُ كيْداً، وفيها أيضاً: دليل على جواز ترك إظهار النِّعمة عند من يخشى غائلته حسداً، وفيها أيضاً: دليلٌ على مع رفة يعقُوب عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ بتأويلِ الرُّؤيا؛ فإنه علم من تأويلها: أنَّه سيظهر عليْهم.
قوله ﴿لاَ تَقْصُصْ﴾ قرأ حفص: «يا بُنيَّ» بفتح الياء، والباقون بكسرها، وقرأ العامة: بفك الصادين، وهي لغةُ الحجاز، وقرأ زيد بن عليك بصادٍ واحدةٍ مشددة، والإدغام لغة تميم، وقد تقدَّم تحقيق هذا في المائدة، عند قوله: ﴿مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ﴾ [المائدة: ٥٤] والرُّؤيا مصدر كالبُقْيَا.
وقال الزمخشريٌّ: «الرُّؤيا بمعنى: الرُّؤية، إلا أنَّها ختصةٌ بما كان في النَّوم دون اليقظة، فُرِّق بينهما بحرفي التأنيث؛ كما قيل: القربة والقربى».
وقرأ العامَّة: «الرُّؤيا» مهموزة من غير إمالة، وقرأها الكسائيُّ في رواية الدُّوريِّ عنه بالإمالةِ: وأما (الرؤيا) [يوسف: ١٠٠] : و «رُؤيَاي» الاثنتان في هذه السورة، فأمالهما الكسائيُّ من غير خلافِ في المشهور، وأبو عمرو يبدل هذه الهمزة واواً في طريق السوسيِّ.
وقال الزمخشري: وسمع الكسائيُّ: «رُيَّايَ وريَّاكَ» بالادغام، وضم الرَّاء،
14
وكسرها، وهي ضعيفة؛ لأن الواو في تقدير الهمزة؛ فلم يقو إدغامها؛ كما لم يقو إدغام «اتَّزَر» من الإزراِ، و «اتَّجرَ» من «الأجْر».
يعنى: أن العارض لا يعتدُّ به، وهذا هو الغالبُ، وقد اعتدَّ القراء بالعارض في مواضع يأتي بعضها إن شاء الله تعالى نحو قوله: «رِئْياً» في قوله: ﴿أَحْسَنُ أَثَاثاً وَرِءْياً﴾ [مريم: ٧٤] عند حمزة، و ﴿عَاداً الأولى﴾ [النجم: ٥٠] وأما كسر «ريَّاكَ» فلئلا يُؤدِّي إلى ياء ساكنة بعد ضمَّة، وأما الضمُّ فهو الأصل، والياء قد استهلكت بالإدغام.
قوله «فيَكِيدُوا» : منصُوب في جواب النَّهي، وهو في تقدَير شرطٍ وجزاءٍ، وذلك قدَّره الزمخشريُّ بقوله: «إن قصَصْتهَا عليْهِم كادُوكَ».
و «كَيْداً» فيه وجهان:
أظهرهما: أنه مصدر مؤكدٌ، وعلى هذا ففي اللام في قوله: «لَكَ» خمسة أوجه:
أحدها: أن يكون «يَكيدُ» ضمن معنى ما يتعدَّى باللاَّم؛ لأنَّه في الأصل يتعدَّى بنفسه، وقال: ﴿فَكِيدُونِي جَمِيعاً﴾ [هود: ٥٥] والتقدير: فيحتالوا لك بالكيد.
قال الزمخشري مقدِّراً لهذا الوجه: «فإن قلت: هلا قيل: فَيَكيدُوكَ» كما قيل: الفعل المضمَّن، فيكون آكد وأبلغ في التَّخويف، وذلك نحو: فيَحْتالُوا لك؛ ألا ترى إلى تأكيده بالمصدر «.
الوجه الثاني من أوجه اللاَّم: أن تكون اللاَّم معدية، ويكون هذا الفعل ممَّا يعتدَّى بحرف الجرِّ تارة، وبنفسه أخرى؛ ك» نَصَحَ «و» شَكَرَ «كذا قالهُ أبو حيَّان، وفيه نظر؛ لأنَّ ذلك باب لا ينقاس، إنَّما يقتصر فيه على ما ذكره النُّحاة، ولم ْ يذكُروا منه كَادَ.
والثالث: أن تكون اللاَّمُ زائدة في المفعول به؛ كزيادتها في قوله: ﴿رَدِفَ لَكُم﴾ [النمل: ٧٢]، قاله أبو البقاء؛ وهو وضعيفٌ؛ لأن اللام لا تزاد إلا بأحد شرطين: تقديم المعمول، أو كون العامل فرعاً.
الرابع: أن تكون اللام للعلَّة، أي: فيَكِيدوا لأجْلِك؛ وعلى هذا فالمفعُول محذوفٌ اقتصاراً، أو اختصاراً.
الخامس: أن تتعلَّق بمحذُوف؛ لأنَّها حالٌ من» كَيْداً «إذ هي في الأصل يجوز أن تكون صفة له لو تأخَّرت.
يعنى: أن العارض لا يعتدُّ به، وهذا هو الغالبُ، وقد اعتدَّ القراء بالعارض في مواضع يأتي بعضها إن شاء الله تعالى نحو قوله: «رِئْياً» في قوله: ﴿أَحْسَنُ أَثَاثاً وَرِءْياً﴾ [مريم: ٧٤] عند حمزة، و ﴿عَاداً الأولى﴾ [النجم: ٥٠] وأما كسر «ريَّاكَ» فلئلا يُؤدِّي إلى ياء ساكنة بعد ضمَّة، وأما الضمُّ فهو الأصل، والياء قد استهلكت بالإدغام.
قوله «فيَكِيدُوا» : منصُوب في جواب النَّهي، وهو في تقدَير شرطٍ وجزاءٍ، وذلك قدَّره الزمخشريُّ بقوله: «إن قصَصْتهَا عليْهِم كادُوكَ».
و «كَيْداً» فيه وجهان:
أظهرهما: أنه مصدر مؤكدٌ، وعلى هذا ففي اللام في قوله: «لَكَ» خمسة أوجه:
أحدها: أن يكون «يَكيدُ» ضمن معنى ما يتعدَّى باللاَّم؛ لأنَّه في الأصل يتعدَّى بنفسه، وقال: ﴿فَكِيدُونِي جَمِيعاً﴾ [هود: ٥٥] والتقدير: فيحتالوا لك بالكيد.
قال الزمخشري مقدِّراً لهذا الوجه: «فإن قلت: هلا قيل: فَيَكيدُوكَ» كما قيل: الفعل المضمَّن، فيكون آكد وأبلغ في التَّخويف، وذلك نحو: فيَحْتالُوا لك؛ ألا ترى إلى تأكيده بالمصدر «.
الوجه الثاني من أوجه اللاَّم: أن تكون اللاَّم معدية، ويكون هذا الفعل ممَّا يعتدَّى بحرف الجرِّ تارة، وبنفسه أخرى؛ ك» نَصَحَ «و» شَكَرَ «كذا قالهُ أبو حيَّان، وفيه نظر؛ لأنَّ ذلك باب لا ينقاس، إنَّما يقتصر فيه على ما ذكره النُّحاة، ولم ْ يذكُروا منه كَادَ.
والثالث: أن تكون اللاَّمُ زائدة في المفعول به؛ كزيادتها في قوله: ﴿رَدِفَ لَكُم﴾ [النمل: ٧٢]، قاله أبو البقاء؛ وهو وضعيفٌ؛ لأن اللام لا تزاد إلا بأحد شرطين: تقديم المعمول، أو كون العامل فرعاً.
الرابع: أن تكون اللام للعلَّة، أي: فيَكِيدوا لأجْلِك؛ وعلى هذا فالمفعُول محذوفٌ اقتصاراً، أو اختصاراً.
الخامس: أن تتعلَّق بمحذُوف؛ لأنَّها حالٌ من» كَيْداً «إذ هي في الأصل يجوز أن تكون صفة له لو تأخَّرت.
15
الوجه الثاني من وجهي» كَيْداً «: أن يكون مفعولاً به، أي: فيصنعوا لك كيداً، أي: أمراً يكيدُونك به، وهو مصدر في موضع الاسم، ومنه: ﴿فَأَجْمِعُواْ كَيْدَكُمْ﴾ [طه: ٦٤]، أي: ما تكيدُون به؛ ذكره أبو البقاء، وعلى هذا ففِي اللاَّم في:» لَكَ «وجهان فقط: كونُها صفة في الأصل، ثم صارت حالاً، أو هي للعلَّة، وأما الثلاثة الباقية، فلا تتأتَّى بعد، فامتناعها واضحٌ.
ثمّ قال: ﴿إِنَّ الشيطان لِلإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُّبِينٌ﴾ أي: يزيِّن لهم الشيطان، ويحملهم على الكيد بعداوته القديمة.
قال أبو سلمة: كنت أرى الرُّؤيا تهُمُّنِي، حتى سمعتُ أبا قتادة يقول: كنت أرى الرُّؤيا، فتُمْرضُنِي، حتى سمعت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يقول: «الرُّؤيا الصَّالحة من الله، فإذا رأى أحَدكُمْ ما يُحِبُّ، فلا يُحدِّثْ به إلاَّ من يحبُّ، وإذا رَأى ما يكرهُ، فلا يُحدِّثْ به، وليتفُل عن يساره، وليَتَعوَّذْ باللهِ من الشيطانِ الرَّجيم، من شر ما رأى فإنَّها لنْ تَضْره» وقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «الرُّؤيا جُزءٌ من أربعينَ أو ستَّة وأربعينَ جُزءاً من النُّبوَّةِ، وهيَ على رجل طائرْ فإذا حدَّث بها وقعتْ». قال الراوي: وأحسبه قال: «لاتُحدِّثْ بِهَا حَبِيباً، أوْ لَبِيباً».
قال الحكماء: الرؤيا الرَّديئة يظهرُ تعبيرُها عن قُرب، والرُّؤيا الجيَّدة، إنَّما يظهر تعبيرُها بعد حين، قالوا: والسَّبب فيه أنَّ رحمة الله تقتضي ألاَّ يحصل الإعلام بوصُول الشَّر، إلا عند قُرب وصُوله حتى يقل الحُزْنُ، والغَمُّ الحاصِل بسبب توقُّعِه، وأمَّا الإعلام بالخير، فإنه يحصُل متدِّماً على ظهوره، بزمانٍ طويلٍ؛ حتى يكون السُّرورُ الحاصِل بسبب توقُّع حصُولهِ كَثِيراً.
قال القرطبيُّ: «الرُّؤيا حالةٌ شريفة، ومنزِلةٌ رفيعَةٌ، قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ:» لَمْ يَبقَ بعدي من
ثمّ قال: ﴿إِنَّ الشيطان لِلإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُّبِينٌ﴾ أي: يزيِّن لهم الشيطان، ويحملهم على الكيد بعداوته القديمة.
فصل
قال أبو سلمة: كنت أرى الرُّؤيا تهُمُّنِي، حتى سمعتُ أبا قتادة يقول: كنت أرى الرُّؤيا، فتُمْرضُنِي، حتى سمعت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يقول: «الرُّؤيا الصَّالحة من الله، فإذا رأى أحَدكُمْ ما يُحِبُّ، فلا يُحدِّثْ به إلاَّ من يحبُّ، وإذا رَأى ما يكرهُ، فلا يُحدِّثْ به، وليتفُل عن يساره، وليَتَعوَّذْ باللهِ من الشيطانِ الرَّجيم، من شر ما رأى فإنَّها لنْ تَضْره» وقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «الرُّؤيا جُزءٌ من أربعينَ أو ستَّة وأربعينَ جُزءاً من النُّبوَّةِ، وهيَ على رجل طائرْ فإذا حدَّث بها وقعتْ». قال الراوي: وأحسبه قال: «لاتُحدِّثْ بِهَا حَبِيباً، أوْ لَبِيباً».
قال الحكماء: الرؤيا الرَّديئة يظهرُ تعبيرُها عن قُرب، والرُّؤيا الجيَّدة، إنَّما يظهر تعبيرُها بعد حين، قالوا: والسَّبب فيه أنَّ رحمة الله تقتضي ألاَّ يحصل الإعلام بوصُول الشَّر، إلا عند قُرب وصُوله حتى يقل الحُزْنُ، والغَمُّ الحاصِل بسبب توقُّعِه، وأمَّا الإعلام بالخير، فإنه يحصُل متدِّماً على ظهوره، بزمانٍ طويلٍ؛ حتى يكون السُّرورُ الحاصِل بسبب توقُّع حصُولهِ كَثِيراً.
فصل
قال القرطبيُّ: «الرُّؤيا حالةٌ شريفة، ومنزِلةٌ رفيعَةٌ، قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ:» لَمْ يَبقَ بعدي من
16
المبشراتِ إلاَّ الرُّؤيا الصَّالحة، يَراهَا [الرجل] الصَّالحُ، أو ترى له «وقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: [أصْدقُكم رُؤيَا، أصدقكُمْ حَديثاً، وحكم صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ] بأنَّها جزءٌ من ستَّةٍ وأرْبعينَ جُزءاً من النُّبوَّة وروي: من سبعين، وروي: من [تسعة] وأرْبعينَ، وروي: من خَمسِينَ جُزءاًن ورويك من ستَّةٍ وعشْرينَ جُزءاً من النُبوَّةِ، وروي: من أرْبعينَ، والصحيح: حديث السِّت والأربعين، ويتلوه في الصِّحة حديث السَّبعين.
فإن قيل: إن يوسف عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ ت كان صغيراً، والصغير لا حكم لفعله، فكيف يكون لرُّؤياه حكم، حتى يقول له أبو: ﴿لاَ تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ على إِخْوَتِكَ﴾.
فالجواب: أن الرُّؤيا إدراكُ حقيقةٍ، فتكون من الصَّغير كما يكُون منه الإدراك الحقيقيُّ في اليقظة، وإذا أخبر عمَّا رأى في اليقظة، صدق؛ فكذلك إذا أخبر عمَّا رأى في المنامِ، ورُوِي: أن يوسف عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ كان ابن اثنتي عشر سنة.
في الآية دليلٌ على أن الرُّؤيا لا تقصُّ على غير شقيق ولا ناصح، ولا على امرىءٍ لا يحسن التأويل فيها.
وروى الترمذيُّ: أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال:» الرُّؤيا برجْل طائرْ، ما لَمْ يحدِّث بها صَاحبُهَا، فإذا حدَّث بها، وقعتْ، فلا تُحدِّثُوا بهَا إلا عارفاً، أو مُحبًّا، أوْ ناصحاً «.
قوله ﴿وكذلك يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ﴾ الكاف في موضع نصب، أو رفع.
فالنَّصبُ إما على الحال من ضمير المصدر المقدَّر، وقد تقدم أنه رأي سيبويه، وإمَّا على النعت لمصدر محذوف، والمعنى: مثل ذلك الاجتباء العظيم يجتبيك.
والرَّفع على أنَّه خبر ابتداء مضمر، يعني: الأمر كذلك، وقد تقدم نظيره.
قوله: ﴿وَيُعَلِّمُكَ مِن تَأْوِيلِ الأحاديث﴾ مستأنف ليس داخلاً في حيِّز التشبيه، والتقدير: وهو يعلمك، والأحاديث: جمع تكسير، فقيل: لواحد ملفوظٍ به، وهو «حَدِيث» ولكنَّه شذَّ جمعه على: أحاديث، وله أخوات في الشُّذُوذ؛ كأباطيلنو أقَاطِيع، وأعَارِيض، في «بَاطل وقَطيع وعَروض».
[وزعم] أبو زيد: «أن لهَا واحداً مقدراً، وهو» أحْدُوثة «ونحوه، وليس باسم
فإن قيل: إن يوسف عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ ت كان صغيراً، والصغير لا حكم لفعله، فكيف يكون لرُّؤياه حكم، حتى يقول له أبو: ﴿لاَ تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ على إِخْوَتِكَ﴾.
فالجواب: أن الرُّؤيا إدراكُ حقيقةٍ، فتكون من الصَّغير كما يكُون منه الإدراك الحقيقيُّ في اليقظة، وإذا أخبر عمَّا رأى في اليقظة، صدق؛ فكذلك إذا أخبر عمَّا رأى في المنامِ، ورُوِي: أن يوسف عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ كان ابن اثنتي عشر سنة.
فصل
في الآية دليلٌ على أن الرُّؤيا لا تقصُّ على غير شقيق ولا ناصح، ولا على امرىءٍ لا يحسن التأويل فيها.
وروى الترمذيُّ: أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال:» الرُّؤيا برجْل طائرْ، ما لَمْ يحدِّث بها صَاحبُهَا، فإذا حدَّث بها، وقعتْ، فلا تُحدِّثُوا بهَا إلا عارفاً، أو مُحبًّا، أوْ ناصحاً «.
قوله ﴿وكذلك يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ﴾ الكاف في موضع نصب، أو رفع.
فالنَّصبُ إما على الحال من ضمير المصدر المقدَّر، وقد تقدم أنه رأي سيبويه، وإمَّا على النعت لمصدر محذوف، والمعنى: مثل ذلك الاجتباء العظيم يجتبيك.
والرَّفع على أنَّه خبر ابتداء مضمر، يعني: الأمر كذلك، وقد تقدم نظيره.
قوله: ﴿وَيُعَلِّمُكَ مِن تَأْوِيلِ الأحاديث﴾ مستأنف ليس داخلاً في حيِّز التشبيه، والتقدير: وهو يعلمك، والأحاديث: جمع تكسير، فقيل: لواحد ملفوظٍ به، وهو «حَدِيث» ولكنَّه شذَّ جمعه على: أحاديث، وله أخوات في الشُّذُوذ؛ كأباطيلنو أقَاطِيع، وأعَارِيض، في «بَاطل وقَطيع وعَروض».
[وزعم] أبو زيد: «أن لهَا واحداً مقدراً، وهو» أحْدُوثة «ونحوه، وليس باسم
17
جمع؛ لأن هذه الصِّغة مختصًّة بالتكسير، وإذا كانوا قد التزمُوا ذلك فيما لم يصرح له مفردٌ من لفظه، نحو:» شَماطِيط «، و ﴿أَبَابِيلَ﴾ [الفيل: ٣] ففي أحاديث أولى».
ولهذا ردَّ على الزمخشري قوله: «وهي اسمُ جمع للحديث، وليس بجمع أحدوثة» بما ذكرنا، ولكن قوله: «ليس بجمع أحدُوثة» صحيح؛ لأن مذهب الجمهُور خلافه، على أنَّ كلامه قد يُريد به غير ظاهره من قوله: «اسم جمع».
قال الزجاج: الاجتباء مشتقٌّ من جببتُ الشيء: إذا أخلصته لنفسِك، ومنه: جَبُبت الماء في الحوض، والمعنى: كما رفع منزلتك بهذه الرُّؤيَا العظيمة الدَّالة على الشَّرفِ والعز، كذلك يَجْتَبِيك ربُّك، ويصْطَفِيك ربُّك بالنُّبوَّة.
وقيل: بإعلاء الدَّرجة (ويعلمك من تأويل الأحاديث) : يريد تعبير الرُّؤيا، وسُمِّي تأويلاً؛ لأنَّه يئول أمره إلى ما رأى في منامه، والتأويل: ما يئول إليه عاقبة الأمْر، كان عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ غاية في علم التَّعبير.
وقيل: في تأويل الأحاديثِ في كتبه تعالى، والأخبار المرويَّة عن الأنبياء المتقدمين عليهم الصلاة والسلام.
وقيل: الأحاديث: جمع «حَدِيث»، والحديث هو الحَادثُ، وتأويلُها: مآلهُا ومآل الحوادث إلى قُدرَة الله تعالى، وتكوينه، وحكمته، والمراد من تأويل الأحاديث: كيفية الاستدلالِ بأصناف المخلوقات على قدرة الله تعالى وحمته، وجلاله.
قوله: ﴿وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ﴾ يجوز أن يتعلق «عَليْكَ» ب «يُتِمُّ» وأن يتعلق ب «نِعْمتَهُ»، وكرَّر «عَلَى في قوله:» وعَلى آلِ «لتمكنِ العطف على الضمير المجرورنن وهذا مذهبُ البصريِّين.
وقوله ﴿مِن قَبْلُ﴾ أي: من قبلك: واعلم: أنَّ من فسر الاجتباء بالنُّبوَّة، لا يمكِنُه أن يفسِّر إتمام النِّعمة ههنا بالنبوة، وإلا لزم التكرارن بل يفسر إتمام النِّعمة ههنا: بسعادات الدنيا والآخرة.
أما سعادات الدنيا؛ فالإكثار من الولدِ، والخدمِ، والأتباع، والتَّوسُّع في المال والجاه، والجلال في قلوب الخلقِ، وحسن الثَّناء وَالحمد، وَأما سعادات الآخرة، فالعُلُوم الكثيرةن والأخلاق الفاضلة.
ولهذا ردَّ على الزمخشري قوله: «وهي اسمُ جمع للحديث، وليس بجمع أحدوثة» بما ذكرنا، ولكن قوله: «ليس بجمع أحدُوثة» صحيح؛ لأن مذهب الجمهُور خلافه، على أنَّ كلامه قد يُريد به غير ظاهره من قوله: «اسم جمع».
فصل
قال الزجاج: الاجتباء مشتقٌّ من جببتُ الشيء: إذا أخلصته لنفسِك، ومنه: جَبُبت الماء في الحوض، والمعنى: كما رفع منزلتك بهذه الرُّؤيَا العظيمة الدَّالة على الشَّرفِ والعز، كذلك يَجْتَبِيك ربُّك، ويصْطَفِيك ربُّك بالنُّبوَّة.
وقيل: بإعلاء الدَّرجة (ويعلمك من تأويل الأحاديث) : يريد تعبير الرُّؤيا، وسُمِّي تأويلاً؛ لأنَّه يئول أمره إلى ما رأى في منامه، والتأويل: ما يئول إليه عاقبة الأمْر، كان عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ غاية في علم التَّعبير.
وقيل: في تأويل الأحاديثِ في كتبه تعالى، والأخبار المرويَّة عن الأنبياء المتقدمين عليهم الصلاة والسلام.
وقيل: الأحاديث: جمع «حَدِيث»، والحديث هو الحَادثُ، وتأويلُها: مآلهُا ومآل الحوادث إلى قُدرَة الله تعالى، وتكوينه، وحكمته، والمراد من تأويل الأحاديث: كيفية الاستدلالِ بأصناف المخلوقات على قدرة الله تعالى وحمته، وجلاله.
قوله: ﴿وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ﴾ يجوز أن يتعلق «عَليْكَ» ب «يُتِمُّ» وأن يتعلق ب «نِعْمتَهُ»، وكرَّر «عَلَى في قوله:» وعَلى آلِ «لتمكنِ العطف على الضمير المجرورنن وهذا مذهبُ البصريِّين.
وقوله ﴿مِن قَبْلُ﴾ أي: من قبلك: واعلم: أنَّ من فسر الاجتباء بالنُّبوَّة، لا يمكِنُه أن يفسِّر إتمام النِّعمة ههنا بالنبوة، وإلا لزم التكرارن بل يفسر إتمام النِّعمة ههنا: بسعادات الدنيا والآخرة.
أما سعادات الدنيا؛ فالإكثار من الولدِ، والخدمِ، والأتباع، والتَّوسُّع في المال والجاه، والجلال في قلوب الخلقِ، وحسن الثَّناء وَالحمد، وَأما سعادات الآخرة، فالعُلُوم الكثيرةن والأخلاق الفاضلة.
18
وقيل: المراد من إتمام النِّعمة: خلاصته من المحن، ويكون وجه التَّشبيه ب» إبراهيم وإسحاق عليهما الصلاة والسلام «وهو إنعام الله تعالى على إبراهيم بإنجائه من النَّارن وعلى ابنه إسحاق بتخليصه من الذَّبح
وقيل: إن إتْمَام النَّعمة هو: وصْل نعم الدُّنْيَا بنِعَم الآخرة؛ بأن جعلهُم في الدُّنيَا أنبياء مُلُوكاً، ونقلهُم عنها إلى الدَّرجات العُلَى في الآخرة.
وقيل:: إتمام النِّعمة على إبراهيم: خُلَّتهُ، ونعلى إسحاق بأخراج يعقُوب والأسباط من صلبه.
ومن فسر الاجتباء: بالدَّرجات العالية؛ فسَّر: إتمام النِّعمة: بالنُّبوَّة؛ لأنَّ الكمال المطلق، والتَّمام المطلق في حقَّ البشرِ ليْس إلاَّ النُّبوَّة، يدلُّ عليه قوله تعالى: ﴿وعلى آلِ يَعْقُوبَ﴾ أي: على أولاده؛ لأن أولاده كلهم كانُوا أنبياء، وقوله: ﴿كَمَآ أَتَمَّهَآ على أَبَوَيْكَ مِن قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ﴾ والنِّعمة التَّامة التي بها حصل امتياز إبراهيم وإسحاق من سائر النَّاس ليس إلا النبوة؛ فوجب أن يكون المرادُ بإتمام النِّعمة: هو النبوة، وعلى هذا فيلزم الحكم بأنَّ أولاده يعقوبكلهم كانوا أنبياء؛ كقوله تعالى: ﴿وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وعلى آلِ يَعْقُوبَ﴾.
فإن قيل: كيف يجوز أن يكُونُوا أنبياء، وقد أقدموا على ما أقدمُوا عليه في حقِّ يُوسُف عليه السلام؟.
فالجواب: أنَّ ذلك وقع قبل النبوَّة، العصمة، إنَّما تثبتُ في وقتِ النُّبوَّة، لا قبلها.
قوله ﴿إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ﴾ «يجُوز أن يكونا بدلاً من» أبَويْكَ «أو عطف بيان، أو على إضمار أعني»، ثم لما وعد عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ بهذه الدرجات الثلاث، ختم [الآية] بقوله: ﴿إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾ فقوله «عَلِيمٌ» إشارة إلى قوله: ﴿الله أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ﴾ [الأنعام: ١٢٤]، وقوله: «حَكِيمٌ» إشارة إلى أنه مقدَّس عن العبث، فلا يضع النبوة إلا في نفسٍ قُدسيَّة ط
فإن قيل: هذه البشارات التي ذكرها يعقوب هل كان قاطعاً بصحَّتها، أم لا؟ فإن كان قاطعاً بصحَّتها، فيكف حزن على يوسف؟ وكيف جاز أن يشتبه عليه أنَّ الذئب أكلهُ؟ وكيف خاف عليه من إخوته أن يهلكوه؟ وكيف قال لإخوته: ﴿وَأَخَافُ أَن يَأْكُلَهُ الذئب وَأَنْتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ﴾ [يوسف: ١٣] مع علمه بأن الله تعالى سيُنَجِّيه، ويبعثُه رسولاً؟.
وإن قلت: إنه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ ما كان عالماً بهذه الأحوال، فكيف قطع بها؟ وكيف حكم بوقوعها جزماً من غير تردُّدٍ؟.
فالجواب قال ابنُ الخطيب: «لا يبعُد أن يكون: قوله: ﴿وكذلك يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ﴾ مشروطاً
وقيل: إن إتْمَام النَّعمة هو: وصْل نعم الدُّنْيَا بنِعَم الآخرة؛ بأن جعلهُم في الدُّنيَا أنبياء مُلُوكاً، ونقلهُم عنها إلى الدَّرجات العُلَى في الآخرة.
وقيل:: إتمام النِّعمة على إبراهيم: خُلَّتهُ، ونعلى إسحاق بأخراج يعقُوب والأسباط من صلبه.
ومن فسر الاجتباء: بالدَّرجات العالية؛ فسَّر: إتمام النِّعمة: بالنُّبوَّة؛ لأنَّ الكمال المطلق، والتَّمام المطلق في حقَّ البشرِ ليْس إلاَّ النُّبوَّة، يدلُّ عليه قوله تعالى: ﴿وعلى آلِ يَعْقُوبَ﴾ أي: على أولاده؛ لأن أولاده كلهم كانُوا أنبياء، وقوله: ﴿كَمَآ أَتَمَّهَآ على أَبَوَيْكَ مِن قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ﴾ والنِّعمة التَّامة التي بها حصل امتياز إبراهيم وإسحاق من سائر النَّاس ليس إلا النبوة؛ فوجب أن يكون المرادُ بإتمام النِّعمة: هو النبوة، وعلى هذا فيلزم الحكم بأنَّ أولاده يعقوبكلهم كانوا أنبياء؛ كقوله تعالى: ﴿وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وعلى آلِ يَعْقُوبَ﴾.
فإن قيل: كيف يجوز أن يكُونُوا أنبياء، وقد أقدموا على ما أقدمُوا عليه في حقِّ يُوسُف عليه السلام؟.
فالجواب: أنَّ ذلك وقع قبل النبوَّة، العصمة، إنَّما تثبتُ في وقتِ النُّبوَّة، لا قبلها.
قوله ﴿إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ﴾ «يجُوز أن يكونا بدلاً من» أبَويْكَ «أو عطف بيان، أو على إضمار أعني»، ثم لما وعد عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ بهذه الدرجات الثلاث، ختم [الآية] بقوله: ﴿إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾ فقوله «عَلِيمٌ» إشارة إلى قوله: ﴿الله أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ﴾ [الأنعام: ١٢٤]، وقوله: «حَكِيمٌ» إشارة إلى أنه مقدَّس عن العبث، فلا يضع النبوة إلا في نفسٍ قُدسيَّة ط
فإن قيل: هذه البشارات التي ذكرها يعقوب هل كان قاطعاً بصحَّتها، أم لا؟ فإن كان قاطعاً بصحَّتها، فيكف حزن على يوسف؟ وكيف جاز أن يشتبه عليه أنَّ الذئب أكلهُ؟ وكيف خاف عليه من إخوته أن يهلكوه؟ وكيف قال لإخوته: ﴿وَأَخَافُ أَن يَأْكُلَهُ الذئب وَأَنْتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ﴾ [يوسف: ١٣] مع علمه بأن الله تعالى سيُنَجِّيه، ويبعثُه رسولاً؟.
وإن قلت: إنه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ ما كان عالماً بهذه الأحوال، فكيف قطع بها؟ وكيف حكم بوقوعها جزماً من غير تردُّدٍ؟.
فالجواب قال ابنُ الخطيب: «لا يبعُد أن يكون: قوله: ﴿وكذلك يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ﴾ مشروطاً
19
بألا يكيدُوه؛ لأن ذكر ذلك قد تقدَّم، وأيضاً: فيبعُد أن يقال: إنه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ سيصلُ إلى هذه المناصب، إلا أنه لا يمتنعُ أن يقع في المضايق الشديدة، ثم يتخلَّص منها، أو يصل إلى تلك المناصب، وكان خوفه بهذا السَّبب، ويكُون معنى قوله: ﴿وَأَخَافُ أَن يَأْكُلَهُ الذئب﴾ [يوسف: ١٣] الزَّجز عن التهاون في حقِّه وإن كان يعلم أن الذئب لا يصل إليه».
20
قوله تعالى :﴿ إِذْ قَالَ يُوسُفُ لأَبِيهِ ﴾ الآية.
رُوِي أن علماء اليهود قالوا لكبراء المشركين : سلْوا محمَّداً لم انتقل يعقوب من الشَّام إلى مصر ؟ وعن كيفيَّة قصَّة يوسف ؟ فأنز الله تعالى هذه السورة.
وفي العامل في " إذْ " أوجهٌ :
أظهرها : أنه منصُوب ب " قَالَ يَا بُنَيَّ " أي : قال يعقوب : يا بني وقت قول يُوسف لهُ : كَيْتَ وكَيْتَ، وهذا أسهل الوجوه ؛ إذ فيه إبقاء " إذْ " كونها ظرفاً ماضياً.
وقيل : الناسب له :" الغَالفينَ " قاله مكيٌّ.
وقيل : هو منصوبٌ ب " نَقُصُّ " أي : نقصُّ عليك وقتَ قوله كَيْتَ وكَيْتَ، وهذا فيه [ إخراج ] " إذْ " عن المضيِّ، وعن الظرفيَّة، وإن قدَّرت المفعول محذوفاً، أي : نقصُّ عليك الحال وقت قوله، لزم أخراجها عن المضيِّ.
وقيل : هو منصوب بمضمر، أي : اذكُر.
وقيل : هو منصُوب على أنَّه بدل من " أحسن القصص " بدل اشتمال.
قال الزمخشري :" لأنَّ الوقت يشتمل على القصص وهو المقصوص " و " يُوسفُ " اسم عبرانيٌّ، ولذلك لا ينصرف، وقيل : هو عربيٌّ، فقال الزمخشريُّ :" الصَحيحُ أنه اسم عبرانيٌّ ؛ لأنه لو كان عربيًّا، لانصرف " وسئل أبو الحسن الأقطع عن الأسف فقال :" الأسف في اللغة : الحُزن، والأسف : العَبْد، واجتمعا في يوسف ؛ فسُمِّي بهما ".
روي ابن عمر عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال :" الكَرِيمُِ ابنُ الكَريمِ ابْنِ الكريمِ ابن الكريم، يُوسف بنُ يعقُوبَ بنِ إسحاقَ بنِ إبْراهيمَ صَلواتُ اللهِ وسلامه عليهم أجمعين ".
قوله :" يَا أبَتِ " قرأ ابن عامر : بفتح التَّاء، والباقون بكسرها، وهذه التَّاء عوض عن ياء المتكلم ؛ ولذلك لا يجوز الجمع بينهما.
وهذا مختصٌّ بلفظتين : يا أبَتِ ويَا أمَّتِ، ولا يجُوز في غيرهما من الأسماء، لو قلت :" يَا صَاحِبتِ " لم يجُز ألبتَّة ؛ كما اختصَّت لفظة الأم والعم بحكم في نحو :" يا ابْنَ أمَّ " ويجوز الجمع بين هذه التَّاء، وبين كلِّ من الياءِ والألفِ ضرورةً ؛ كقوله :[ الرجز ]
٣٠٤٤ يَا أبَتَا عَلَّكَ أوْ عَسَاكَا *** وقول الآخر :[ المتقارب ]
٣٠٤٥ أيَا أبَتَا لا تَزْلْ عِنْدنَا *** فإنَّا نَخافُ بأنْ تُخْتَرَمْ
وقول الآخر :[ الطويل ]
٣٠٤٦ أيَا أبَتِي لا زلْتَ فينَا فإنَّمَا *** لنَا أمَلٌ فِي العَيْشِ ما دُمْتَ عَائِشَا
وكلامُ الزمخشريِّ يؤذن بأنَّ الجمع بين التَّاء والألفِ ليس ضرورةً ؛ فإنَّه قال :" فإن قلت : فما هَذه الكسْرة ؟ قلتُ : هي الكسْرة الَّتي كَانتْ قبل الياءِ في قولك :" يا أبي " قد زُحلقَتْ إلى التاء ؛ لاقتضاء تاءِ التَّأنيث أن يكُون ما قبْلَها مفتوحاً.
فإن قلت : فما بالُ الكسرة لم تَسْقُطْ بالفَتْحَة الَّتي اقْتَضَتْهَا التَّاء، وتبقَى التَّاءُ ساكنةً ؟.
قلت : امتنع ذلك فيها ؛ لأنَّها اسم، والأسماءُ حقُّها التحريكُ ؛ لأصالتها في الإعراب، وإنما جاز تسكينُ الياء، وأصلها أن تحرَّك تخفيفاً ؛ لأنها حرف لين، وأما التاء، فحرفٌ صحيحٌ، نحو كافِ الضمير ؛ فلزم تحريكها.
فإن قلت : يشبه الجمع بين هذه التَّاء وبين هذه الكسرة الجمع بين العوض والمعوَّض منه ؛ لأنَّها في حكم الياء، إذا قلت : يا غُلام، فكَمَا لا يَجُوز :" يا أبتي " لا يجوز " يا أبتِ " قلت : الياءُ والكسرة قبلها شيئان، والتَّاء عوض من أحد الشيئين، وهو الياء، والكسرة متعرَّض لها ؛ فلا يجمع بين العوض والمعوَّض منه، إلا إذا جُمِعَ بين التَّاء والياء لاغير ؛ ألا ترى إلى قولهم :" يَا أبَتَا " مع كونِ الألف فيه بدلاً من الياءِ، كيف جاز بينها وبين التاء، ولم يعدَّ ذلك جمعاً بين العوض والمعوَّض منه ؟ فالكسرة أبعد من ذلك.
فإن قلت : قد دلَّت الكسرة في " يا غُلام " على الإضافة ؛ لأنَّها قرينة الياءِ ولصيقتها، فإن دلَّت على مثل ذلك في :" يا أبت " فالتَّاء الَمعوَّة لغو، وجودها كعدمها.
قلت :[ بل ] حالها مع التَّاء كحالها مع الياءِ إذا قلت :" يا أبِي ".
وكذا عبارة أبي حيَّان، فإنه قال : وهذه التَّاء عوض من ياءِ الإضافة فلا تجتمعان، وتجامع الألف التي هي بدل من التاء، كما قال :[ الرجز ]
٣٠٤٧ يَا أبَتَا عَلَّكَ أوْ عَسَاكَا *** وفيه نظر ؛ من حيث إن الألف كالتاء لكونها بدلاً منها، فينبغي أن لا يجمع بينهما، وهذا تاء أصلها للتأَنيث.
قال الزمخشريُّ :" فإن قلتك ما هذه التَّاء ؟ قلتك تاءُ التأنيث وقعت عوضاً من ياء الإضافة، والدَّليل على أنَّها تاء التَّأنيث : قلبُهَا هاءً في الوقف ".
قال شهاب الدِّين : وما ذكرهُ من كونها تقلب هاءً في الوقف، قرأ به ابنُ كثير، وابن عامرٍ، والباقُون وقفوا عليها بالتَّاء، كأَنَّهم أجروها مجرى تاء الإلحاق في " بِنْت وأخْت " وممن نصَّ على كونهخا للتَّأنيث : سيبويه ؛ فإنه قال :" سَألْت الخليل عن التَّاء في :" يَا أبتِ " فقال : هي بِمنزِلَة التَّاء في تاء " يا خالة وعمَّة " يعنى : أنَّها للتَّأنيث " ويدلُّ أيضاً على كونها للتأنيث : كتبُهم إيَّاها هاءً، وقياس من وقف بالتَّاء : أن يكُبهَا تاء، ك " بِنْت وأخْت ".
ثم قال الزمخشري : فإن قلت : كيف جاز إلحاق تاءِ التَّأنيث بالمذكَّر ؟.
قلت : كما جاز نحو قولك : حمامة ذكر، وشاةٌ ذكر، ورجل ربعة، وغلامٌ يفعة قلت : يعني : أنها جيء بهَا لمُجرَّد تأنيث اللفظ، كما في الأسماء المستشهد بها.
ثم قال الزمخشري :" فإن قلت : فلم ساغ تعويض تاءِ التأنيث من ياءِ الإضافة ؟.
قلت : لأن التأنيث والإضافة تناسبان ؛ في أنَّ كل واحدٍ منهما زيادة مضمومة إلى الاسم في آخره ".
قال شهاب الدين :" وهذا قياسٌ بعيدٌ لا يعمل به عند الحُذاق، فإنَّه يسمَّى الشَّبه الطَّردِي، أي : أنه شَبَهٌ في الصُّورة ".
وقال الزمخشري :" إنه قرىء " يَا أبتِ " بالحركات الثلاث :
فأما الفتح والكسر فقد تقدَّم ذكر من قرأ بهما.
وأما الضم فغريبٌ جدًّا وهو يشبه من يبني المنادى المضاف لياء المتكلِّم على الضمِّ ؛ كقراءة من قرأ :﴿ قَالَ رَبِّ احكم بالحق ﴾ [ الأنبياء : ١١٢ ] بضم الباء، وسيأتي توجيهها هناك إن شاء الله تعالى ولما قلنا : إنَّه مضافٌ للياءِ، ولم نجعله مفرداً من غير إضافةٍ. وقد تقدَّم توجيهُ كسر هذه التَّاء بما ذكره الزمخشريُّ من كونها هي الكسرة التي قبل الياء زحلقت إلى التاء وهذا أحدُ المذهبين.
والمذهبُ الآخر : أنَّها كسرة أجنبيَّة، جيء بها لتدُلَّ على الياءِ المعوَّض منها. فأما الفتح ففيه أربعة أوجه، ذكر الفارسي منها وجهين :
أحدهما : أنه اجتزأ بالفتحة عن الألف المنقلبة عن الياءِ ؛ كما اجتزَأ عنها الآخرْ بقوله :[ الوافر ]
٣٠٤٨ ولَسْتُ بِراجِعٍ ما فَاتَ منِّي *** بِلهْفَ ولا بِليْتَ ولا لَوَنِّي
وكما اجتزأ بها في :" يَا بْنَ أمَّ " و " يَا بْنَ عَمّ ".
والثاني : أنه رخم بحذف التاء، ثم اقحمت التَّاءُ مفتوحة ؛ كقول النابغة الجعديِّ :[ الطويل ]
٣٠٤٩ كِلِينِي لِهمِّ يا أمَيْمةَ نَاصبِ *** وليْلٍ أقَاسيهِ بَطيءِ الكَواكبِ
بفتح تاء أميمة.
الثالث : ما ذكره الفرَّاء، وأبو عبيدة، وأبو حاتم، وقطرب في أحد قوليه : وهو أن الألف في :" يَا أبَتَا " للنُّدبة، ثم حذفها مجتزئاً عنها بالفتحة، وهذا قد ينفع في الجواب بين العوض والمعوض منه، ورد بعضهم هذاح بأنَّ المضع ليس موضع نُدبة.
الرابع : أن الأصل " يا أبَة " بالتنوين، فحذف التنوين، لأنَّ النداء بابُ حذفٍ، وإلى هذا ذهب قطرُب في القول الثاني.
وردَّ هذا : بأ، التَّنوين لا يحذف من المنادى المنصُوب نحو :" يَا ضَارِباً رجُلاً ".
وقرأ أبو جعفر :" يا أبِي " بالياءِ ولم يعوض منها التَّاء، وقرأ الحسن، والحسين، وطلحة بن سليمان، رضي الله عنهم " أحَدَ عَشَر " بسُكُون العين ؛ كأنهم قصدّوا التنبيه بهذا التَّخفيفِ على أنَّ الاسمين جُعِلا اسماً واحداً.
قوله ﴿ والشمس والقمر ﴾ يجوز فيه وجهان :
أحدهما : أن تكون الواو عاطفة، وحينئذ : يحتمل أن يكُون من باب ذكر الخاصِّ بعد ذكر العام تفصيلاً له ؛ لأن الشَّمس والقمر دخلا في قوله :﴿ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً ﴾ فهذا كقوله :﴿ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ ﴾ [ البقرة : ٩٨ ] بعد قوله :" ومَلائِكتهِ " ويحتمل أن لا تكون كذلك، وتكون الواوُ لعطف المغايرة ؛ فيكون قد رأى الشمس والقمر زيادة على ال " أحَدَ عَشَرَ " ومن جملتها الشمس والقمر، وهذان الاحتمالان نقلهما الزمخشريُّ.
والوجه الثاني : أن تكون الواو بمعنى :" مَعَ " إلا أنَّه مرجوحٌ ؛ لأنَّه متى أمكن العطف من غير ضعفٍ، ولا أخلال بمعنى، رُجِّح على المعيَّة ؛ وعلى هذا فيكون كالوجه الذي قبله، بمعنى : أنه رأى الشمس، والقمر زيادةً على الأحد عشر كوكباً.
قوله :﴿ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ ﴾ يحتمل وجهين :
أحدهما : أنَّها جملة كُرِّرت للتوكيد ؛ لما طال الفصل بالمفاعيل، كما كُرِّرت " أنكُم " في قوله تعالى :﴿ أَنَّكُمْ إِذَا مِتٌّمْ وَكُنتُمْ تُرَاباً وَعِظاماً أَنَّكُمْ مُّخْرَجُونَ ﴾ [ المؤمنون : ٣٥ ]. كذا قالهُ أبو حيَّان، وسيأتي تحقيقه إن شاء الله تعالى.
والثاني : أنه ليس [ بتأكيد ]، وإليه نحا الزمخشريُّ ؛ فإنه قال :" فإن قلت : ما معنى تكرار " رَأيْتُمْ " ؟ قلتُ : ليس بتكرار ؛ إنَّما هو كلام مُستأنَف على تقدير سؤال وقع جواباً له ؛ كأنَّ يعقُوب عليه الصلاة والسلام قال لهُ عند قوله :﴿ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً والشمس والقمر ﴾ كيف رأيتها ؟ سائلاً عن حال رؤيتها، فقال :( رأيتهم لي ساجدين ) وهذا أظهر ؛ لأنَّه متى دار الكلام بين الحمل على التأكيد والتأسيس، فحمله على التَّأسيس أولى ".
و " سَاجِدينَ " : صفة جُمِعَ جَمْ العقلاء، فقيل : لأنَّه لما عاملهُم معاملة العقلاء في إسناد فعلهم إليهم، جمعهم جمع العقلاء، فقيل : لأنَّ الشيء قد يعامل مُعالمة شيء آخر، إذا شاركه في صفةٍ ما ؛ كما قال في صفة الأصنام :﴿ وَتَرَاهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ ﴾ [ الأعراف : ١٩٨ ]، وكقوله عز وجل :﴿ ياأيها النمل ادخلوا مَسَاكِنَكُمْ ﴾ [ النمل : ١٨ ].
والرُّؤية هنا : مناميَّة، وقد تقدم أنَّها تنصب مفعولين ؛ كالعلميَّة ؛ وعلى هذا قد حذف المعفول الثاني من قوله :﴿ رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً ﴾، ولكن حذفه اقتصاراً ممتنع، فلم يبق إلا اختصاراً، وهو قليلٌ، أو ممتنع عند بعضهم.
وقال بعضهم : إن إحداهما من الرُّؤية، والأخرى من الرُّؤيا.
قال القفَّال : ذكر الرُّؤية الأولى ؛ ليدل على أنَّه شاهد الكواكبِ، والشَّمس والقمر، والثانية ؛ ليدل لا على مشاهدة كونها ساجدة لهُ.
ذكر المفسرون : أنَّ يوسف عليه السلام رأى في المنام أحد عشر كوكباً، والشمس والقمر يسجدون لهُ، كان لهُ احد عشر من الإخوة يُسْتضاء بهم ؛ كما يُسْتضاء بالنُّجوم، ففسَّر الكواكب : بالإخوة، والشمس والقمر : بالأب والأم، والسجُود : بتواضعهم له، ودخولهم تحت أمره، وإنما حملنا الرُّؤية على رُؤية المنام ؛ لأن الكواكب لا تسجُج في الحقيقَةن ولقول يعقوب عليه الصلاة والسلام :{ لاَ تَقْصُصْ ر
رُوِي أن علماء اليهود قالوا لكبراء المشركين : سلْوا محمَّداً لم انتقل يعقوب من الشَّام إلى مصر ؟ وعن كيفيَّة قصَّة يوسف ؟ فأنز الله تعالى هذه السورة.
وفي العامل في " إذْ " أوجهٌ :
أظهرها : أنه منصُوب ب " قَالَ يَا بُنَيَّ " أي : قال يعقوب : يا بني وقت قول يُوسف لهُ : كَيْتَ وكَيْتَ، وهذا أسهل الوجوه ؛ إذ فيه إبقاء " إذْ " كونها ظرفاً ماضياً.
وقيل : الناسب له :" الغَالفينَ " قاله مكيٌّ.
وقيل : هو منصوبٌ ب " نَقُصُّ " أي : نقصُّ عليك وقتَ قوله كَيْتَ وكَيْتَ، وهذا فيه [ إخراج ] " إذْ " عن المضيِّ، وعن الظرفيَّة، وإن قدَّرت المفعول محذوفاً، أي : نقصُّ عليك الحال وقت قوله، لزم أخراجها عن المضيِّ.
وقيل : هو منصوب بمضمر، أي : اذكُر.
وقيل : هو منصُوب على أنَّه بدل من " أحسن القصص " بدل اشتمال.
قال الزمخشري :" لأنَّ الوقت يشتمل على القصص وهو المقصوص " و " يُوسفُ " اسم عبرانيٌّ، ولذلك لا ينصرف، وقيل : هو عربيٌّ، فقال الزمخشريُّ :" الصَحيحُ أنه اسم عبرانيٌّ ؛ لأنه لو كان عربيًّا، لانصرف " وسئل أبو الحسن الأقطع عن الأسف فقال :" الأسف في اللغة : الحُزن، والأسف : العَبْد، واجتمعا في يوسف ؛ فسُمِّي بهما ".
روي ابن عمر عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال :" الكَرِيمُِ ابنُ الكَريمِ ابْنِ الكريمِ ابن الكريم، يُوسف بنُ يعقُوبَ بنِ إسحاقَ بنِ إبْراهيمَ صَلواتُ اللهِ وسلامه عليهم أجمعين ".
قوله :" يَا أبَتِ " قرأ ابن عامر : بفتح التَّاء، والباقون بكسرها، وهذه التَّاء عوض عن ياء المتكلم ؛ ولذلك لا يجوز الجمع بينهما.
وهذا مختصٌّ بلفظتين : يا أبَتِ ويَا أمَّتِ، ولا يجُوز في غيرهما من الأسماء، لو قلت :" يَا صَاحِبتِ " لم يجُز ألبتَّة ؛ كما اختصَّت لفظة الأم والعم بحكم في نحو :" يا ابْنَ أمَّ " ويجوز الجمع بين هذه التَّاء، وبين كلِّ من الياءِ والألفِ ضرورةً ؛ كقوله :[ الرجز ]
٣٠٤٤ يَا أبَتَا عَلَّكَ أوْ عَسَاكَا *** وقول الآخر :[ المتقارب ]
٣٠٤٥ أيَا أبَتَا لا تَزْلْ عِنْدنَا *** فإنَّا نَخافُ بأنْ تُخْتَرَمْ
وقول الآخر :[ الطويل ]
٣٠٤٦ أيَا أبَتِي لا زلْتَ فينَا فإنَّمَا *** لنَا أمَلٌ فِي العَيْشِ ما دُمْتَ عَائِشَا
وكلامُ الزمخشريِّ يؤذن بأنَّ الجمع بين التَّاء والألفِ ليس ضرورةً ؛ فإنَّه قال :" فإن قلت : فما هَذه الكسْرة ؟ قلتُ : هي الكسْرة الَّتي كَانتْ قبل الياءِ في قولك :" يا أبي " قد زُحلقَتْ إلى التاء ؛ لاقتضاء تاءِ التَّأنيث أن يكُون ما قبْلَها مفتوحاً.
فإن قلت : فما بالُ الكسرة لم تَسْقُطْ بالفَتْحَة الَّتي اقْتَضَتْهَا التَّاء، وتبقَى التَّاءُ ساكنةً ؟.
قلت : امتنع ذلك فيها ؛ لأنَّها اسم، والأسماءُ حقُّها التحريكُ ؛ لأصالتها في الإعراب، وإنما جاز تسكينُ الياء، وأصلها أن تحرَّك تخفيفاً ؛ لأنها حرف لين، وأما التاء، فحرفٌ صحيحٌ، نحو كافِ الضمير ؛ فلزم تحريكها.
فإن قلت : يشبه الجمع بين هذه التَّاء وبين هذه الكسرة الجمع بين العوض والمعوَّض منه ؛ لأنَّها في حكم الياء، إذا قلت : يا غُلام، فكَمَا لا يَجُوز :" يا أبتي " لا يجوز " يا أبتِ " قلت : الياءُ والكسرة قبلها شيئان، والتَّاء عوض من أحد الشيئين، وهو الياء، والكسرة متعرَّض لها ؛ فلا يجمع بين العوض والمعوَّض منه، إلا إذا جُمِعَ بين التَّاء والياء لاغير ؛ ألا ترى إلى قولهم :" يَا أبَتَا " مع كونِ الألف فيه بدلاً من الياءِ، كيف جاز بينها وبين التاء، ولم يعدَّ ذلك جمعاً بين العوض والمعوَّض منه ؟ فالكسرة أبعد من ذلك.
فإن قلت : قد دلَّت الكسرة في " يا غُلام " على الإضافة ؛ لأنَّها قرينة الياءِ ولصيقتها، فإن دلَّت على مثل ذلك في :" يا أبت " فالتَّاء الَمعوَّة لغو، وجودها كعدمها.
قلت :[ بل ] حالها مع التَّاء كحالها مع الياءِ إذا قلت :" يا أبِي ".
وكذا عبارة أبي حيَّان، فإنه قال : وهذه التَّاء عوض من ياءِ الإضافة فلا تجتمعان، وتجامع الألف التي هي بدل من التاء، كما قال :[ الرجز ]
٣٠٤٧ يَا أبَتَا عَلَّكَ أوْ عَسَاكَا *** وفيه نظر ؛ من حيث إن الألف كالتاء لكونها بدلاً منها، فينبغي أن لا يجمع بينهما، وهذا تاء أصلها للتأَنيث.
قال الزمخشريُّ :" فإن قلتك ما هذه التَّاء ؟ قلتك تاءُ التأنيث وقعت عوضاً من ياء الإضافة، والدَّليل على أنَّها تاء التَّأنيث : قلبُهَا هاءً في الوقف ".
قال شهاب الدِّين : وما ذكرهُ من كونها تقلب هاءً في الوقف، قرأ به ابنُ كثير، وابن عامرٍ، والباقُون وقفوا عليها بالتَّاء، كأَنَّهم أجروها مجرى تاء الإلحاق في " بِنْت وأخْت " وممن نصَّ على كونهخا للتَّأنيث : سيبويه ؛ فإنه قال :" سَألْت الخليل عن التَّاء في :" يَا أبتِ " فقال : هي بِمنزِلَة التَّاء في تاء " يا خالة وعمَّة " يعنى : أنَّها للتَّأنيث " ويدلُّ أيضاً على كونها للتأنيث : كتبُهم إيَّاها هاءً، وقياس من وقف بالتَّاء : أن يكُبهَا تاء، ك " بِنْت وأخْت ".
ثم قال الزمخشري : فإن قلت : كيف جاز إلحاق تاءِ التَّأنيث بالمذكَّر ؟.
قلت : كما جاز نحو قولك : حمامة ذكر، وشاةٌ ذكر، ورجل ربعة، وغلامٌ يفعة قلت : يعني : أنها جيء بهَا لمُجرَّد تأنيث اللفظ، كما في الأسماء المستشهد بها.
ثم قال الزمخشري :" فإن قلت : فلم ساغ تعويض تاءِ التأنيث من ياءِ الإضافة ؟.
قلت : لأن التأنيث والإضافة تناسبان ؛ في أنَّ كل واحدٍ منهما زيادة مضمومة إلى الاسم في آخره ".
قال شهاب الدين :" وهذا قياسٌ بعيدٌ لا يعمل به عند الحُذاق، فإنَّه يسمَّى الشَّبه الطَّردِي، أي : أنه شَبَهٌ في الصُّورة ".
وقال الزمخشري :" إنه قرىء " يَا أبتِ " بالحركات الثلاث :
فأما الفتح والكسر فقد تقدَّم ذكر من قرأ بهما.
وأما الضم فغريبٌ جدًّا وهو يشبه من يبني المنادى المضاف لياء المتكلِّم على الضمِّ ؛ كقراءة من قرأ :﴿ قَالَ رَبِّ احكم بالحق ﴾ [ الأنبياء : ١١٢ ] بضم الباء، وسيأتي توجيهها هناك إن شاء الله تعالى ولما قلنا : إنَّه مضافٌ للياءِ، ولم نجعله مفرداً من غير إضافةٍ. وقد تقدَّم توجيهُ كسر هذه التَّاء بما ذكره الزمخشريُّ من كونها هي الكسرة التي قبل الياء زحلقت إلى التاء وهذا أحدُ المذهبين.
والمذهبُ الآخر : أنَّها كسرة أجنبيَّة، جيء بها لتدُلَّ على الياءِ المعوَّض منها. فأما الفتح ففيه أربعة أوجه، ذكر الفارسي منها وجهين :
أحدهما : أنه اجتزأ بالفتحة عن الألف المنقلبة عن الياءِ ؛ كما اجتزَأ عنها الآخرْ بقوله :[ الوافر ]
٣٠٤٨ ولَسْتُ بِراجِعٍ ما فَاتَ منِّي *** بِلهْفَ ولا بِليْتَ ولا لَوَنِّي
وكما اجتزأ بها في :" يَا بْنَ أمَّ " و " يَا بْنَ عَمّ ".
والثاني : أنه رخم بحذف التاء، ثم اقحمت التَّاءُ مفتوحة ؛ كقول النابغة الجعديِّ :[ الطويل ]
٣٠٤٩ كِلِينِي لِهمِّ يا أمَيْمةَ نَاصبِ *** وليْلٍ أقَاسيهِ بَطيءِ الكَواكبِ
بفتح تاء أميمة.
الثالث : ما ذكره الفرَّاء، وأبو عبيدة، وأبو حاتم، وقطرب في أحد قوليه : وهو أن الألف في :" يَا أبَتَا " للنُّدبة، ثم حذفها مجتزئاً عنها بالفتحة، وهذا قد ينفع في الجواب بين العوض والمعوض منه، ورد بعضهم هذاح بأنَّ المضع ليس موضع نُدبة.
الرابع : أن الأصل " يا أبَة " بالتنوين، فحذف التنوين، لأنَّ النداء بابُ حذفٍ، وإلى هذا ذهب قطرُب في القول الثاني.
وردَّ هذا : بأ، التَّنوين لا يحذف من المنادى المنصُوب نحو :" يَا ضَارِباً رجُلاً ".
وقرأ أبو جعفر :" يا أبِي " بالياءِ ولم يعوض منها التَّاء، وقرأ الحسن، والحسين، وطلحة بن سليمان، رضي الله عنهم " أحَدَ عَشَر " بسُكُون العين ؛ كأنهم قصدّوا التنبيه بهذا التَّخفيفِ على أنَّ الاسمين جُعِلا اسماً واحداً.
قوله ﴿ والشمس والقمر ﴾ يجوز فيه وجهان :
أحدهما : أن تكون الواو عاطفة، وحينئذ : يحتمل أن يكُون من باب ذكر الخاصِّ بعد ذكر العام تفصيلاً له ؛ لأن الشَّمس والقمر دخلا في قوله :﴿ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً ﴾ فهذا كقوله :﴿ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ ﴾ [ البقرة : ٩٨ ] بعد قوله :" ومَلائِكتهِ " ويحتمل أن لا تكون كذلك، وتكون الواوُ لعطف المغايرة ؛ فيكون قد رأى الشمس والقمر زيادة على ال " أحَدَ عَشَرَ " ومن جملتها الشمس والقمر، وهذان الاحتمالان نقلهما الزمخشريُّ.
والوجه الثاني : أن تكون الواو بمعنى :" مَعَ " إلا أنَّه مرجوحٌ ؛ لأنَّه متى أمكن العطف من غير ضعفٍ، ولا أخلال بمعنى، رُجِّح على المعيَّة ؛ وعلى هذا فيكون كالوجه الذي قبله، بمعنى : أنه رأى الشمس، والقمر زيادةً على الأحد عشر كوكباً.
قوله :﴿ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ ﴾ يحتمل وجهين :
أحدهما : أنَّها جملة كُرِّرت للتوكيد ؛ لما طال الفصل بالمفاعيل، كما كُرِّرت " أنكُم " في قوله تعالى :﴿ أَنَّكُمْ إِذَا مِتٌّمْ وَكُنتُمْ تُرَاباً وَعِظاماً أَنَّكُمْ مُّخْرَجُونَ ﴾ [ المؤمنون : ٣٥ ]. كذا قالهُ أبو حيَّان، وسيأتي تحقيقه إن شاء الله تعالى.
والثاني : أنه ليس [ بتأكيد ]، وإليه نحا الزمخشريُّ ؛ فإنه قال :" فإن قلت : ما معنى تكرار " رَأيْتُمْ " ؟ قلتُ : ليس بتكرار ؛ إنَّما هو كلام مُستأنَف على تقدير سؤال وقع جواباً له ؛ كأنَّ يعقُوب عليه الصلاة والسلام قال لهُ عند قوله :﴿ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً والشمس والقمر ﴾ كيف رأيتها ؟ سائلاً عن حال رؤيتها، فقال :( رأيتهم لي ساجدين ) وهذا أظهر ؛ لأنَّه متى دار الكلام بين الحمل على التأكيد والتأسيس، فحمله على التَّأسيس أولى ".
و " سَاجِدينَ " : صفة جُمِعَ جَمْ العقلاء، فقيل : لأنَّه لما عاملهُم معاملة العقلاء في إسناد فعلهم إليهم، جمعهم جمع العقلاء، فقيل : لأنَّ الشيء قد يعامل مُعالمة شيء آخر، إذا شاركه في صفةٍ ما ؛ كما قال في صفة الأصنام :﴿ وَتَرَاهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ ﴾ [ الأعراف : ١٩٨ ]، وكقوله عز وجل :﴿ ياأيها النمل ادخلوا مَسَاكِنَكُمْ ﴾ [ النمل : ١٨ ].
والرُّؤية هنا : مناميَّة، وقد تقدم أنَّها تنصب مفعولين ؛ كالعلميَّة ؛ وعلى هذا قد حذف المعفول الثاني من قوله :﴿ رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً ﴾، ولكن حذفه اقتصاراً ممتنع، فلم يبق إلا اختصاراً، وهو قليلٌ، أو ممتنع عند بعضهم.
وقال بعضهم : إن إحداهما من الرُّؤية، والأخرى من الرُّؤيا.
قال القفَّال : ذكر الرُّؤية الأولى ؛ ليدل على أنَّه شاهد الكواكبِ، والشَّمس والقمر، والثانية ؛ ليدل لا على مشاهدة كونها ساجدة لهُ.
فصل
ذكر المفسرون : أنَّ يوسف عليه السلام رأى في المنام أحد عشر كوكباً، والشمس والقمر يسجدون لهُ، كان لهُ احد عشر من الإخوة يُسْتضاء بهم ؛ كما يُسْتضاء بالنُّجوم، ففسَّر الكواكب : بالإخوة، والشمس والقمر : بالأب والأم، والسجُود : بتواضعهم له، ودخولهم تحت أمره، وإنما حملنا الرُّؤية على رُؤية المنام ؛ لأن الكواكب لا تسجُج في الحقيقَةن ولقول يعقوب عليه الصلاة والسلام :{ لاَ تَقْصُصْ ر
في الآية دليل على تحذير المسلم أخاهُ المسلم، ولا يكُون ذلك داخلاً في معنى الغيبة ؛ لأنَّ يعقُوب قد حذَّر يوسف أن يقُصَّ رُؤياه على إخوته ؛ فيَكِيدُوا لهُ كيْداً، وفيها أيضاً : دليل على جواز ترك إظهار النِّعمة عند من يخشى غائلته حسداً، وفيها أيضاً : دليلٌ على مع رفة يعقُوب عليه الصلاة والسلام بتأويلِ الرُّؤيا ؛ فإنه علم من تأويلها : أنَّه سيظهر عليْهم.
قوله ﴿ لاَ تَقْصُصْ ﴾ قرأ حفص :" يا بُنيَّ " بفتح الياء، والباقون بكسرها، وقرأ العامة : بفك الصادين، و هي لغةُ الحجاز، وقرأ زيد بن عليك بصادٍ واحدةٍ مشددة، والإدغام لغة تميم، وقد تقدَّم تحقيق هذا في المائدة، عند قوله :﴿ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ ﴾ [ المائدة : ٥٤ ] والرُّؤيا مصدر كالبُقْيَا.
وقال الزمخشريٌّ :" الرُّؤيا بمعنى : الرُّؤية، إلا أنَّها ختصةٌ بما كان في النَّوم دون اليقظة، فُرِّق بينهما بحرفي التأنيث ؛ كما قيل : القربة والقربى ".
وقرأ العامَّة :" الرُّؤيا " مهموزة من غير إمالة، وقرأها الكسائيُّ في رواية الدُّوريِّ عنه بالإمالةِ : وأما ( الرؤيا ) [ يوسف : ١٠٠ ] : و " رُؤيَاي " الاثنتان في هذه السورة، فأمالهما الكسائيُّ من غير خلافِ في المشهور، وأبو عمرو يبدل هذه الهمزة واواً في طريق السوسيِّ.
وقال الزمخشري : وسمع الكسائيُّ :" رُيَّايَ وريَّاكَ " بالادغام، وضم الرَّاء، وكسرها، وهي ضعيفة ؛ لأن الواو في تقدير الهمزة ؛ فلم يقو إدغامها ؛ كما لم يقو إدغام " اتَّزَر " من الإزراِ، و " اتَّجرَ " من " الأجْر ".
يعنى : أن العارض لا يعتدُّ به، وهذا هو الغالبُ، وقد اعتدَّ القراء بالعارض في مواضع يأتي بعضها إن شاء الله تعالى نحو قوله :" رِئْياً " في قوله :﴿ أَحْسَنُ أَثَاثاً وَرِءْياً ﴾ [ مريم : ٧٤ ] عند حمزة، و ﴿ عَاداً الأولى ﴾ [ النجم : ٥٠ ] وأما كسر " ريَّاكَ " فلئلا يُؤدِّي إلى ياء ساكنة بعد ضمَّة، وأما الضمُّ فهو الأصل، والياء قد استهلكت بالإدغام.
قوله " فيَكِيدُوا " : منصُوب في جواب النَّهي، وهو في تقدَير شرطٍ وجزاءٍ، وذلك قدَّره الزمخشريُّ بقوله :" إن قصَصْتهَا عليْهِم كادُوكَ ".
و " كَيْداً " فيه وجهان :
أظهرهما : أنه مصدر مؤكدٌ، و على هذا ففي اللام في قوله :" لَكَ " خمسة أوجه :
أحدها : أن يكون " يَكيدُ " ضمن معنى ما يتعدَّى باللاَّم ؛ لأنَّه في الأصل يتعدَّى بنفسه، وقال :﴿ فَكِيدُونِي جَمِيعاً ﴾ [ هود : ٥٥ ] والتقدير : فيحتالوا لك بالكيد.
قال الزمخشري مقدِّراً لهذا الوجه :" فإن قلت : هلا قيل : فَيَكيدُوكَ " كما قيل : الفعل المضمَّن، فيكون آكد وأبلغ في التَّخويف، وذلك نحو : فيَحْتالُوا لك ؛ ألا ترى إلى تأكيده بالمصدر ".
الوجه الثاني من أوجه اللاَّم : أن تكون اللاَّم معدية، ويكون هذا الفعل ممَّا يعتدَّى بحرف الجرِّ تارة، وبنفسه أخرى ؛ ك " نَصَحَ " و " شَكَرَ " كذا قالهُ أبو حيَّان، وفيه نظر ؛ لأنَّ ذلك باب لا ينقاس، إنَّما يقتصر فيه على ما ذكره النُّحاة، ولم ْ يذكُروا منه كَادَ.
والثالث : أن تكون اللاَّمُ زائدة في المفعول به ؛ كزيادتها في قوله :﴿ رَدِفَ لَكُم ﴾ [ النمل : ٧٢ ]، قاله أبو البقاء ؛ وهو وضعيفٌ ؛ لأن اللام لا تزاد إلا بأحد شرطين : تقديم المعمول، أو كون العامل فرعاً.
الرابع : أن تكون اللام للعلَّة، أي : فيَكِيدوا لأجْلِك ؛ وعلى هذا فالمفعُول محذوفٌ اقتصاراً، أو اختصاراً.
الخامس : أن تتعلَّق بمحذُوف ؛ لأنَّها حالٌ من " كَيْداً " إذ هي في الأصل يجوز أن تكون صفة له لو تأخَّرت.
الوجه الثاني من وجهي " كَيْداً " : أن يكون مفعولاً به، أي : فيصنعوا لك كيداً، أي : أمراً يكيدُونك به، وهو مصدر في موضع الاسم، ومنه :﴿ فَأَجْمِعُواْ كَيْدَكُمْ ﴾ [ طه : ٦٤ ]، أي : ما تكيدُون به ؛ ذكره أبو البقاء، وعلى هذا ففِي اللاَّم في :" لَكَ " وجهان فقط : كونُها صفة في الأصل، ثم صارت حالاً، أو هي للعلَّة، وأما الثلاثة الباقية، فلا تتأتَّى بعد، فامتناعها واضحٌ.
ثمّ قال :﴿ إِنَّ الشيطان لِلإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُّبِينٌ ﴾ أي : يزيِّن لهم الشيطان، ويحملهم على الكيد بعداوته القديمة.
قال أبو سلمة : كنت أرى الرُّؤيا تهُمُّنِي، حتى سمعتُ أبا قتادة يقول : كنت أرى الرُّؤيا، فتُمْرضُنِي، حتى سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :" الرُّؤيا الصَّالحة من الله، فإذا رأى أحَدكُمْ ما يُحِبُّ، فلا يُحدِّثْ به إلاَّ من يحبُّ، وإذا رَأى ما يكرهُ، فلا يُحدِّثْ به، وليتفُل عن يساره، وليَتَعوَّذْ باللهِ من الشيطانِ الرَّجيم، من شر ما رأى فإنَّها لنْ تَضْره " وقال صلى الله عليه وسلم :" الرُّؤيا جُزءٌ من أربعينَ أو ستَّة وأربعينَ جُزءاً من النُّبوَّةِ، وهيَ على رجل طائرْ فإذا حدَّث بها وقعتْ ". قال الراوي : وأحسبه قال :" لاتُحدِّثْ بِهَا حَبِيباً، أوْ لَبِيباً ".
قال الحكماء : الرؤيا الرَّديئة يظهرُ تعبيرُها عن قُرب، والرُّؤيا الجيَّدة، إنَّما يظهر تعبيرُها بعد حين، قالوا : والسَّبب فيه أنَّ رحمة الله تقتضي ألاَّ يحصل الإعلام بوصُول الشَّر، إلا عند قُرب وصُوله حتى يقل الحُزْنُ، والغَمُّ الحاصِل بسبب توقُّعِه، وأمَّا الإعلام بالخير، فإنه يحصُل متدِّماً على ظهوره، بزمانٍ طويلٍ ؛ حتى يكون السُّرورُ الحاصِل بسبب توقُّع حصُولهِ كَثِيراً.
قال القرطبيُّ :" الرُّؤيا حالةٌ شريفة، ومنزِلةٌ رفيعَةٌ، قال صلى الله عليه وسلم :" لَمْ يَبقَ بعدي من المبشراتِ إلاَّ الرُّؤيا الصَّالحة، يَراهَا [ الرجل ] الصَّالحُ، أو ترى له " وقال صلى الله عليه وسلم :[ أصْدقُكم رُؤيَا، أصدقكُمْ حَديثاً، وحكم صلى الله عليه وسلم ] بأنَّها جزءٌ من ستَّةٍ وأرْبعينَ جُزءاً من النُّبوَّة وروي : من سبعين، وروي : من [ تسعة ] وأرْبعينَ، وروي : من خَمسِينَ جُزءاًن ورويك من ستَّةٍ وعشْرينَ جُزءاً من النُبوَّةِ، وروي : من أرْبعينَ، والصحيح : حديث السِّت والأربعين، ويتلوه في الصِّحة حديث السَّبعين.
فإن قيل : إن يوسف عليه الصلاة والسلام ت كان صغيراً، والصغير لا حكم لفعله، فكيف يكون لرُّؤياه حكم، حتى يقول له أبو :﴿ لاَ تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ على إِخْوَتِكَ ﴾.
فالجواب : أن الرُّؤيا إدراكُ حقيقةٍ، فتكون من الصَّغير كما يكُون منه الإدراك الحقيقيُّ في اليقظة، وإذا أخبر عمَّا رأى في اليقظة، صدق ؛ فكذلك إذا أخبر عمَّا رأى في المنامِ، ورُوِي : أن يوسف عليه الصلاة والسلام كان ابن اثنتي عشر سنة.
في الآية دليلٌ على أن الرُّؤيا لا تقصُّ على غير شقيق ولا ناصح، ولا على امرىءٍ لا يحسن التأويل فيها.
وروى الترمذيُّ : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :" الرُّؤيا برجْل طائرْ، ما لَمْ يحدِّث بها صَاحبُهَا، فإذا حدَّث بها، وقعتْ، فلا تُحدِّثُوا بهَا إلا عارفاً، أو مُحبًّا، أوْ ناصحاً ".
قوله ﴿ لاَ تَقْصُصْ ﴾ قرأ حفص :" يا بُنيَّ " بفتح الياء، والباقون بكسرها، وقرأ العامة : بفك الصادين، و هي لغةُ الحجاز، وقرأ زيد بن عليك بصادٍ واحدةٍ مشددة، والإدغام لغة تميم، وقد تقدَّم تحقيق هذا في المائدة، عند قوله :﴿ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ ﴾ [ المائدة : ٥٤ ] والرُّؤيا مصدر كالبُقْيَا.
وقال الزمخشريٌّ :" الرُّؤيا بمعنى : الرُّؤية، إلا أنَّها ختصةٌ بما كان في النَّوم دون اليقظة، فُرِّق بينهما بحرفي التأنيث ؛ كما قيل : القربة والقربى ".
وقرأ العامَّة :" الرُّؤيا " مهموزة من غير إمالة، وقرأها الكسائيُّ في رواية الدُّوريِّ عنه بالإمالةِ : وأما ( الرؤيا ) [ يوسف : ١٠٠ ] : و " رُؤيَاي " الاثنتان في هذه السورة، فأمالهما الكسائيُّ من غير خلافِ في المشهور، وأبو عمرو يبدل هذه الهمزة واواً في طريق السوسيِّ.
وقال الزمخشري : وسمع الكسائيُّ :" رُيَّايَ وريَّاكَ " بالادغام، وضم الرَّاء، وكسرها، وهي ضعيفة ؛ لأن الواو في تقدير الهمزة ؛ فلم يقو إدغامها ؛ كما لم يقو إدغام " اتَّزَر " من الإزراِ، و " اتَّجرَ " من " الأجْر ".
يعنى : أن العارض لا يعتدُّ به، وهذا هو الغالبُ، وقد اعتدَّ القراء بالعارض في مواضع يأتي بعضها إن شاء الله تعالى نحو قوله :" رِئْياً " في قوله :﴿ أَحْسَنُ أَثَاثاً وَرِءْياً ﴾ [ مريم : ٧٤ ] عند حمزة، و ﴿ عَاداً الأولى ﴾ [ النجم : ٥٠ ] وأما كسر " ريَّاكَ " فلئلا يُؤدِّي إلى ياء ساكنة بعد ضمَّة، وأما الضمُّ فهو الأصل، والياء قد استهلكت بالإدغام.
قوله " فيَكِيدُوا " : منصُوب في جواب النَّهي، وهو في تقدَير شرطٍ وجزاءٍ، وذلك قدَّره الزمخشريُّ بقوله :" إن قصَصْتهَا عليْهِم كادُوكَ ".
و " كَيْداً " فيه وجهان :
أظهرهما : أنه مصدر مؤكدٌ، و على هذا ففي اللام في قوله :" لَكَ " خمسة أوجه :
أحدها : أن يكون " يَكيدُ " ضمن معنى ما يتعدَّى باللاَّم ؛ لأنَّه في الأصل يتعدَّى بنفسه، وقال :﴿ فَكِيدُونِي جَمِيعاً ﴾ [ هود : ٥٥ ] والتقدير : فيحتالوا لك بالكيد.
قال الزمخشري مقدِّراً لهذا الوجه :" فإن قلت : هلا قيل : فَيَكيدُوكَ " كما قيل : الفعل المضمَّن، فيكون آكد وأبلغ في التَّخويف، وذلك نحو : فيَحْتالُوا لك ؛ ألا ترى إلى تأكيده بالمصدر ".
الوجه الثاني من أوجه اللاَّم : أن تكون اللاَّم معدية، ويكون هذا الفعل ممَّا يعتدَّى بحرف الجرِّ تارة، وبنفسه أخرى ؛ ك " نَصَحَ " و " شَكَرَ " كذا قالهُ أبو حيَّان، وفيه نظر ؛ لأنَّ ذلك باب لا ينقاس، إنَّما يقتصر فيه على ما ذكره النُّحاة، ولم ْ يذكُروا منه كَادَ.
والثالث : أن تكون اللاَّمُ زائدة في المفعول به ؛ كزيادتها في قوله :﴿ رَدِفَ لَكُم ﴾ [ النمل : ٧٢ ]، قاله أبو البقاء ؛ وهو وضعيفٌ ؛ لأن اللام لا تزاد إلا بأحد شرطين : تقديم المعمول، أو كون العامل فرعاً.
الرابع : أن تكون اللام للعلَّة، أي : فيَكِيدوا لأجْلِك ؛ وعلى هذا فالمفعُول محذوفٌ اقتصاراً، أو اختصاراً.
الخامس : أن تتعلَّق بمحذُوف ؛ لأنَّها حالٌ من " كَيْداً " إذ هي في الأصل يجوز أن تكون صفة له لو تأخَّرت.
الوجه الثاني من وجهي " كَيْداً " : أن يكون مفعولاً به، أي : فيصنعوا لك كيداً، أي : أمراً يكيدُونك به، وهو مصدر في موضع الاسم، ومنه :﴿ فَأَجْمِعُواْ كَيْدَكُمْ ﴾ [ طه : ٦٤ ]، أي : ما تكيدُون به ؛ ذكره أبو البقاء، وعلى هذا ففِي اللاَّم في :" لَكَ " وجهان فقط : كونُها صفة في الأصل، ثم صارت حالاً، أو هي للعلَّة، وأما الثلاثة الباقية، فلا تتأتَّى بعد، فامتناعها واضحٌ.
ثمّ قال :﴿ إِنَّ الشيطان لِلإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُّبِينٌ ﴾ أي : يزيِّن لهم الشيطان، ويحملهم على الكيد بعداوته القديمة.
فصل
قال أبو سلمة : كنت أرى الرُّؤيا تهُمُّنِي، حتى سمعتُ أبا قتادة يقول : كنت أرى الرُّؤيا، فتُمْرضُنِي، حتى سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :" الرُّؤيا الصَّالحة من الله، فإذا رأى أحَدكُمْ ما يُحِبُّ، فلا يُحدِّثْ به إلاَّ من يحبُّ، وإذا رَأى ما يكرهُ، فلا يُحدِّثْ به، وليتفُل عن يساره، وليَتَعوَّذْ باللهِ من الشيطانِ الرَّجيم، من شر ما رأى فإنَّها لنْ تَضْره " وقال صلى الله عليه وسلم :" الرُّؤيا جُزءٌ من أربعينَ أو ستَّة وأربعينَ جُزءاً من النُّبوَّةِ، وهيَ على رجل طائرْ فإذا حدَّث بها وقعتْ ". قال الراوي : وأحسبه قال :" لاتُحدِّثْ بِهَا حَبِيباً، أوْ لَبِيباً ".
قال الحكماء : الرؤيا الرَّديئة يظهرُ تعبيرُها عن قُرب، والرُّؤيا الجيَّدة، إنَّما يظهر تعبيرُها بعد حين، قالوا : والسَّبب فيه أنَّ رحمة الله تقتضي ألاَّ يحصل الإعلام بوصُول الشَّر، إلا عند قُرب وصُوله حتى يقل الحُزْنُ، والغَمُّ الحاصِل بسبب توقُّعِه، وأمَّا الإعلام بالخير، فإنه يحصُل متدِّماً على ظهوره، بزمانٍ طويلٍ ؛ حتى يكون السُّرورُ الحاصِل بسبب توقُّع حصُولهِ كَثِيراً.
فصل
قال القرطبيُّ :" الرُّؤيا حالةٌ شريفة، ومنزِلةٌ رفيعَةٌ، قال صلى الله عليه وسلم :" لَمْ يَبقَ بعدي من المبشراتِ إلاَّ الرُّؤيا الصَّالحة، يَراهَا [ الرجل ] الصَّالحُ، أو ترى له " وقال صلى الله عليه وسلم :[ أصْدقُكم رُؤيَا، أصدقكُمْ حَديثاً، وحكم صلى الله عليه وسلم ] بأنَّها جزءٌ من ستَّةٍ وأرْبعينَ جُزءاً من النُّبوَّة وروي : من سبعين، وروي : من [ تسعة ] وأرْبعينَ، وروي : من خَمسِينَ جُزءاًن ورويك من ستَّةٍ وعشْرينَ جُزءاً من النُبوَّةِ، وروي : من أرْبعينَ، والصحيح : حديث السِّت والأربعين، ويتلوه في الصِّحة حديث السَّبعين.
فإن قيل : إن يوسف عليه الصلاة والسلام ت كان صغيراً، والصغير لا حكم لفعله، فكيف يكون لرُّؤياه حكم، حتى يقول له أبو :﴿ لاَ تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ على إِخْوَتِكَ ﴾.
فالجواب : أن الرُّؤيا إدراكُ حقيقةٍ، فتكون من الصَّغير كما يكُون منه الإدراك الحقيقيُّ في اليقظة، وإذا أخبر عمَّا رأى في اليقظة، صدق ؛ فكذلك إذا أخبر عمَّا رأى في المنامِ، ورُوِي : أن يوسف عليه الصلاة والسلام كان ابن اثنتي عشر سنة.
فصل
في الآية دليلٌ على أن الرُّؤيا لا تقصُّ على غير شقيق ولا ناصح، ولا على امرىءٍ لا يحسن التأويل فيها.
وروى الترمذيُّ : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :" الرُّؤيا برجْل طائرْ، ما لَمْ يحدِّث بها صَاحبُهَا، فإذا حدَّث بها، وقعتْ، فلا تُحدِّثُوا بهَا إلا عارفاً، أو مُحبًّا، أوْ ناصحاً ".
قوله ﴿ وكذلك يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ ﴾ الكاف في موضع نصب، أو رفع.
فالنَّصبُ إما على الحال من ضمير المصدر المقدَّر، وقد تقدم أنه رأي سيبويه، وإمَّا على النعت لمصدر محذوف، والمعنى : مثل ذلك الاجتباء العظيم يجتبيك.
والرَّفع على أنَّه خبر ابتداء مضمر، يعني : الأمر كذلك، وقد تقدم نظيره.
قوله :﴿ وَيُعَلِّمُكَ مِن تَأْوِيلِ الأحاديث ﴾ مستأنف ليس داخلاً في حيِّز التشبيه، والتقدير : وهو يعلمك، والأحاديث : جمع تكسير، فقيل : لواحد ملفوظٍ به، وهو " حَدِيث " ولكنَّه شذَّ جمعه على : أحاديث، وله أخوات في الشُّذُوذ ؛ كأباطيلنو أقَاطِيع، وأعَارِيض، في " بَاطل وقَطيع وعَروض ".
[ وزعم ] أبو زيد :" أن لهَا واحداً مقدراً، وهو " أحْدُوثة " ونحوه، وليس باسم جمع ؛ لأن هذه الصِّغة مختصًّة بالتكسير، وإذا كانوا قد التزمُوا ذلك فيما لم يصرح له مفردٌ من لفظه، نحو :" شَماطِيط "، و ﴿ أَبَابِيلَ ﴾ [ الفيل : ٣ ] ففي أحاديث أولى ".
ولهذا ردَّ على الزمخشري قوله :" وهي اسمُ جمع للحديث، وليس بجمع أحدوثة " بما ذكرنا، ولكن قوله :" ليس بجمع أحدُوثة " صحيح ؛ لأن مذهب الجمهُور خلافه، على أنَّ كلامه قد يُريد به غير ظاهره من قوله :" اسم جمع ".
قال الزجاج : الاجتباء مشتقٌّ من جببتُ الشيء : إذا أخلصته لنفسِك، ومنه : جَبُبت الماء في الحوض، والمعنى : كما رفع منزلتك بهذه الرُّؤيَا العظيمة الدَّالة على الشَّرفِ والعز، كذلك يَجْتَبِيك ربُّك، ويصْطَفِيك ربُّك بالنُّبوَّة.
وقيل : بإعلاء الدَّرجة ( ويعلمك من تأويل الأحاديث ) : يريد تعبير الرُّؤيا، وسُمِّي تأويلاً ؛ لأنَّه يئول أمره إلى ما رأى في منامه، والتأويل : ما يئول إليه عاقبة الأمْر، كان عليه الصلاة والسلام غاية في علم التَّعبير.
وقيل : في تأويل الأحاديثِ في كتبه تعالى، والأخبار المرويَّة عن الأنبياء المتقدمين عليهم الصلاة والسلام.
وقيل : الأحاديث : جمع " حَدِيث "، والحديث هو الحَادثُ، وتأويلُها : مآلهُا ومآل الحوادث إلى قُدرَة الله تعالى، وتكوينه، وحكمته، والمراد من تأويل الأحاديث : كيفية الاستدلالِ بأصناف المخلوقات على قدرة الله تعالى وحمته، وجلاله.
قوله :﴿ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ ﴾ يجوز أن يتعلق " عَليْكَ " ب " يُتِمُّ " وأن يتعلق ب " نِعْمتَهُ "، وكرَّر " عَلَى في قوله :" وعَلى آلِ " لتمكنِ العطف على الضمير المجرورنن وهذا مذهبُ البصريِّين.
وقوله ﴿ مِن قَبْلُ ﴾ أي : من قبلك : واعلم : أنَّ من فسر الاجتباء بالنُّبوَّة، لا يمكِنُه أن يفسِّر إتمام النِّعمة ههنا بالنبوة، وإلا لزم التكرارن بل يفسر إتمام النِّعمة ههنا : بسعادات الدنيا والآخرة.
أما سعادات الدنيا ؛ فالإكثار من الولدِ، والخدمِ، والأتباع، والتَّوسُّع في المال والجاه، والجلال في قلوب الخلقِ، وحسن الثَّناء وَالحمد، وَأما سعادات الآخرة، فالعُلُوم الكثيرةن والأخلاق الفاضلة.
وقيل : المراد من إتمام النِّعمة : خلاصته من المحن، ويكون وجه التَّشبيه ب " إبراهيم وإسحاق عليهما الصلاة والسلام " وهو إنعام الله تعالى على إبراهيم بإنجائه من النَّارن وعلى ابنه إسحاق بتخليصه من الذَّبح
وقيل : إن إتْمَام النَّعمة هو : وصْل نعم الدُّنْيَا بنِعَم الآخرة ؛ بأن جعلهُم في الدُّنيَا أنبياء مُلُوكاً، ونقلهُم عنها إلى الدَّرجات العُلَى في الآخرة.
وقيل :: إتمام النِّعمة على إبراهيم : خُلَّتهُ، ونعلى إسحاق بأخراج يعقُوب والأسباط من صلبه.
ومن فسر الاجتباء : بالدَّرجات العالية ؛ فسَّر : إتمام النِّعمة : بالنُّبوَّة ؛ لأنَّ الكمال المطلق، والتَّمام المطلق في حقَّ البشرِ ليْس إلاَّ النُّبوَّة، يدلُّ عليه قوله تعالى :﴿ وعلى آلِ يَعْقُوبَ ﴾ أي : على أولاده ؛ لأن أولاده كلهم كانُوا أنبياء، وقوله :﴿ كَمَآ أَتَمَّهَآ على أَبَوَيْكَ مِن قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ ﴾ والنِّعمة التَّامة التي بها حصل امتياز إبراهيم وإسحاق من سائر النَّاس ليس إلا النبوة ؛ فوجب أن يكون المرادُ بإتمام النِّعمة : هو النبوة، وعلى هذا فيلزم الحكم بأنَّ أولاده يعقوبكلهم كانوا أنبياء ؛ كقوله تعالى :﴿ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وعلى آلِ يَعْقُوبَ ﴾.
فإن قيل : كيف يجوز أن يكُونُوا أنبياء، وقد أقدموا على ما أقدمُوا عليه في حقِّ يُوسُف عليه السلام ؟.
فالجواب : أنَّ ذلك وقع قبل النبوَّة، العصمة، إنَّما تثبتُ في وقتِ النُّبوَّة، لا قبلها.
قوله ﴿ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ ﴾ " يجُوز أن يكونا بدلاً من " أبَويْكَ " أو عطف بيان، أو على إضمار أعني "، ثم لما وعد عليه الصلاة والسلام بهذه الدرجات الثلاث، ختم [ الآية ] بقوله :﴿ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ﴾ فقوله " عَلِيمٌ " إشارة إلى قوله :﴿ الله أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ ﴾ [ الأنعام : ١٢٤ ]، وقوله :" حَكِيمٌ " إشارة إلى أنه مقدَّس عن العبث، فلا يضع النبوة إلا في نفسٍ قُدسيَّة ط
فإن قيل : هذه البشارات التي ذكرها يعقوب هل كان قاطعاً بصحَّتها، أم لا ؟ فإن كان قاطعاً بصحَّتها، فيكف حزن على يوسف ؟ وكيف جاز أن يشتبه عليه أنَّ الذئب أكلهُ ؟ وكيف خاف عليه من إخوته أن يهلكوه ؟ وكيف قال لإخوته :﴿ وَأَخَافُ أَن يَأْكُلَهُ الذئب وَأَنْتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ ﴾ [ يوسف : ١٣ ] مع علمه بأن الله تعالى سيُنَجِّيه، ويبعثُه رسولاً ؟.
وإن قلت : إنه عليه الصلاة والسلام ما كان عالماً بهذه الأحوال، فكيف قطع بها ؟ وكيف حكم بوقوعها جزماً من غير تردُّدٍ ؟.
فالجواب قال ابنُ الخطيب :" لا يبعُد أن يكون : قوله :﴿ وكذلك يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ ﴾ مشروطاً بألا يكيدُوه ؛ لأن ذكر ذلك قد تقدَّم، وأيضاً : فيبعُد أن يقال : إنه عليه الصلاة والسلام سيصلُ إلى هذه المناصب، إلا أنه لا يمتنعُ أن يقع في المضايق الشديدة، ثم يتخلَّص منها، أو يصل إلى تلك المناصب، وكان خوفه بهذا السَّبب، ويكُون معنى قوله :﴿ وَأَخَافُ أَن يَأْكُلَهُ الذئب ﴾ [ يوسف : ١٣ ] الزَّجز عن التهاون في حقِّه وإن كان يعلم أن الذئب لا يصل إليه ".
فالنَّصبُ إما على الحال من ضمير المصدر المقدَّر، وقد تقدم أنه رأي سيبويه، وإمَّا على النعت لمصدر محذوف، والمعنى : مثل ذلك الاجتباء العظيم يجتبيك.
والرَّفع على أنَّه خبر ابتداء مضمر، يعني : الأمر كذلك، وقد تقدم نظيره.
قوله :﴿ وَيُعَلِّمُكَ مِن تَأْوِيلِ الأحاديث ﴾ مستأنف ليس داخلاً في حيِّز التشبيه، والتقدير : وهو يعلمك، والأحاديث : جمع تكسير، فقيل : لواحد ملفوظٍ به، وهو " حَدِيث " ولكنَّه شذَّ جمعه على : أحاديث، وله أخوات في الشُّذُوذ ؛ كأباطيلنو أقَاطِيع، وأعَارِيض، في " بَاطل وقَطيع وعَروض ".
[ وزعم ] أبو زيد :" أن لهَا واحداً مقدراً، وهو " أحْدُوثة " ونحوه، وليس باسم جمع ؛ لأن هذه الصِّغة مختصًّة بالتكسير، وإذا كانوا قد التزمُوا ذلك فيما لم يصرح له مفردٌ من لفظه، نحو :" شَماطِيط "، و ﴿ أَبَابِيلَ ﴾ [ الفيل : ٣ ] ففي أحاديث أولى ".
ولهذا ردَّ على الزمخشري قوله :" وهي اسمُ جمع للحديث، وليس بجمع أحدوثة " بما ذكرنا، ولكن قوله :" ليس بجمع أحدُوثة " صحيح ؛ لأن مذهب الجمهُور خلافه، على أنَّ كلامه قد يُريد به غير ظاهره من قوله :" اسم جمع ".
فصل
قال الزجاج : الاجتباء مشتقٌّ من جببتُ الشيء : إذا أخلصته لنفسِك، ومنه : جَبُبت الماء في الحوض، والمعنى : كما رفع منزلتك بهذه الرُّؤيَا العظيمة الدَّالة على الشَّرفِ والعز، كذلك يَجْتَبِيك ربُّك، ويصْطَفِيك ربُّك بالنُّبوَّة.
وقيل : بإعلاء الدَّرجة ( ويعلمك من تأويل الأحاديث ) : يريد تعبير الرُّؤيا، وسُمِّي تأويلاً ؛ لأنَّه يئول أمره إلى ما رأى في منامه، والتأويل : ما يئول إليه عاقبة الأمْر، كان عليه الصلاة والسلام غاية في علم التَّعبير.
وقيل : في تأويل الأحاديثِ في كتبه تعالى، والأخبار المرويَّة عن الأنبياء المتقدمين عليهم الصلاة والسلام.
وقيل : الأحاديث : جمع " حَدِيث "، والحديث هو الحَادثُ، وتأويلُها : مآلهُا ومآل الحوادث إلى قُدرَة الله تعالى، وتكوينه، وحكمته، والمراد من تأويل الأحاديث : كيفية الاستدلالِ بأصناف المخلوقات على قدرة الله تعالى وحمته، وجلاله.
قوله :﴿ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ ﴾ يجوز أن يتعلق " عَليْكَ " ب " يُتِمُّ " وأن يتعلق ب " نِعْمتَهُ "، وكرَّر " عَلَى في قوله :" وعَلى آلِ " لتمكنِ العطف على الضمير المجرورنن وهذا مذهبُ البصريِّين.
وقوله ﴿ مِن قَبْلُ ﴾ أي : من قبلك : واعلم : أنَّ من فسر الاجتباء بالنُّبوَّة، لا يمكِنُه أن يفسِّر إتمام النِّعمة ههنا بالنبوة، وإلا لزم التكرارن بل يفسر إتمام النِّعمة ههنا : بسعادات الدنيا والآخرة.
أما سعادات الدنيا ؛ فالإكثار من الولدِ، والخدمِ، والأتباع، والتَّوسُّع في المال والجاه، والجلال في قلوب الخلقِ، وحسن الثَّناء وَالحمد، وَأما سعادات الآخرة، فالعُلُوم الكثيرةن والأخلاق الفاضلة.
وقيل : المراد من إتمام النِّعمة : خلاصته من المحن، ويكون وجه التَّشبيه ب " إبراهيم وإسحاق عليهما الصلاة والسلام " وهو إنعام الله تعالى على إبراهيم بإنجائه من النَّارن وعلى ابنه إسحاق بتخليصه من الذَّبح
وقيل : إن إتْمَام النَّعمة هو : وصْل نعم الدُّنْيَا بنِعَم الآخرة ؛ بأن جعلهُم في الدُّنيَا أنبياء مُلُوكاً، ونقلهُم عنها إلى الدَّرجات العُلَى في الآخرة.
وقيل :: إتمام النِّعمة على إبراهيم : خُلَّتهُ، ونعلى إسحاق بأخراج يعقُوب والأسباط من صلبه.
ومن فسر الاجتباء : بالدَّرجات العالية ؛ فسَّر : إتمام النِّعمة : بالنُّبوَّة ؛ لأنَّ الكمال المطلق، والتَّمام المطلق في حقَّ البشرِ ليْس إلاَّ النُّبوَّة، يدلُّ عليه قوله تعالى :﴿ وعلى آلِ يَعْقُوبَ ﴾ أي : على أولاده ؛ لأن أولاده كلهم كانُوا أنبياء، وقوله :﴿ كَمَآ أَتَمَّهَآ على أَبَوَيْكَ مِن قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ ﴾ والنِّعمة التَّامة التي بها حصل امتياز إبراهيم وإسحاق من سائر النَّاس ليس إلا النبوة ؛ فوجب أن يكون المرادُ بإتمام النِّعمة : هو النبوة، وعلى هذا فيلزم الحكم بأنَّ أولاده يعقوبكلهم كانوا أنبياء ؛ كقوله تعالى :﴿ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وعلى آلِ يَعْقُوبَ ﴾.
فإن قيل : كيف يجوز أن يكُونُوا أنبياء، وقد أقدموا على ما أقدمُوا عليه في حقِّ يُوسُف عليه السلام ؟.
فالجواب : أنَّ ذلك وقع قبل النبوَّة، العصمة، إنَّما تثبتُ في وقتِ النُّبوَّة، لا قبلها.
قوله ﴿ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ ﴾ " يجُوز أن يكونا بدلاً من " أبَويْكَ " أو عطف بيان، أو على إضمار أعني "، ثم لما وعد عليه الصلاة والسلام بهذه الدرجات الثلاث، ختم [ الآية ] بقوله :﴿ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ﴾ فقوله " عَلِيمٌ " إشارة إلى قوله :﴿ الله أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ ﴾ [ الأنعام : ١٢٤ ]، وقوله :" حَكِيمٌ " إشارة إلى أنه مقدَّس عن العبث، فلا يضع النبوة إلا في نفسٍ قُدسيَّة ط
فإن قيل : هذه البشارات التي ذكرها يعقوب هل كان قاطعاً بصحَّتها، أم لا ؟ فإن كان قاطعاً بصحَّتها، فيكف حزن على يوسف ؟ وكيف جاز أن يشتبه عليه أنَّ الذئب أكلهُ ؟ وكيف خاف عليه من إخوته أن يهلكوه ؟ وكيف قال لإخوته :﴿ وَأَخَافُ أَن يَأْكُلَهُ الذئب وَأَنْتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ ﴾ [ يوسف : ١٣ ] مع علمه بأن الله تعالى سيُنَجِّيه، ويبعثُه رسولاً ؟.
وإن قلت : إنه عليه الصلاة والسلام ما كان عالماً بهذه الأحوال، فكيف قطع بها ؟ وكيف حكم بوقوعها جزماً من غير تردُّدٍ ؟.
فالجواب قال ابنُ الخطيب :" لا يبعُد أن يكون : قوله :﴿ وكذلك يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ ﴾ مشروطاً بألا يكيدُوه ؛ لأن ذكر ذلك قد تقدَّم، وأيضاً : فيبعُد أن يقال : إنه عليه الصلاة والسلام سيصلُ إلى هذه المناصب، إلا أنه لا يمتنعُ أن يقع في المضايق الشديدة، ثم يتخلَّص منها، أو يصل إلى تلك المناصب، وكان خوفه بهذا السَّبب، ويكُون معنى قوله :﴿ وَأَخَافُ أَن يَأْكُلَهُ الذئب ﴾ [ يوسف : ١٣ ] الزَّجز عن التهاون في حقِّه وإن كان يعلم أن الذئب لا يصل إليه ".
قوله تعالى: ﴿لَّقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ﴾ الآية.
قال الزمخشري: «أسماء إخوة يوسف عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ يهوذا ورُوبيل، وشمعُون، ولاوي، وزبالون، ويشجر، وأمهم: ليا بن ليان، وهي ابنة خال يعقوب، وولد له من سريتين تسمى إحداهما زلفة والأخرى بلهة أربعة أولاد: دان، ونفتالي، وجاد وآشر، فلما توفيت» ليا «تزوج يعقوب أختها راحيل، فولدت له يوسف وبنيامين».
قوله تعالى قرأ ابن كثير «آية» بالإفراد، والمراد بها: الجِنْس، والباقون الجمع تصريحاً بالمراد؛ لأنها كانت علامات كثيرة، وزعم بعضهم: أن ثمَّ معطوفاً محذوفاً، تقديره: للسَّائلين ولغيرهم، ولا حاجة إليه، و «للسَّائلِينَ» : متعلقٌ بمحذوفٍ نعتاً ل «آياتٌ».
معنى: ﴿آيَاتٌ لِّلسَّائِلِينَ﴾ أنه عبرة للمتعبرين؛ فإنها تشتمل على حسد إخوة يوسف، وما آل إليه أمرهم من الحسدن وتشتمل على صبر يوسف عن قضاء الشُّهُود، وعلى الرقِّ والسِّجن، ما آل إليه أمرهُ من الوُصول إلى المراد، وغير ذلك.
وقيل: ﴿آيَاتٌ لِّلسَّائِلِينَ﴾، أي دلالة على نُبُوَّة الرسول صلوات الله وسلام عليه.
قال الزمخشري: «أسماء إخوة يوسف عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ يهوذا ورُوبيل، وشمعُون، ولاوي، وزبالون، ويشجر، وأمهم: ليا بن ليان، وهي ابنة خال يعقوب، وولد له من سريتين تسمى إحداهما زلفة والأخرى بلهة أربعة أولاد: دان، ونفتالي، وجاد وآشر، فلما توفيت» ليا «تزوج يعقوب أختها راحيل، فولدت له يوسف وبنيامين».
قوله تعالى قرأ ابن كثير «آية» بالإفراد، والمراد بها: الجِنْس، والباقون الجمع تصريحاً بالمراد؛ لأنها كانت علامات كثيرة، وزعم بعضهم: أن ثمَّ معطوفاً محذوفاً، تقديره: للسَّائلين ولغيرهم، ولا حاجة إليه، و «للسَّائلِينَ» : متعلقٌ بمحذوفٍ نعتاً ل «آياتٌ».
فصل
معنى: ﴿آيَاتٌ لِّلسَّائِلِينَ﴾ أنه عبرة للمتعبرين؛ فإنها تشتمل على حسد إخوة يوسف، وما آل إليه أمرهم من الحسدن وتشتمل على صبر يوسف عن قضاء الشُّهُود، وعلى الرقِّ والسِّجن، ما آل إليه أمرهُ من الوُصول إلى المراد، وغير ذلك.
وقيل: ﴿آيَاتٌ لِّلسَّائِلِينَ﴾، أي دلالة على نُبُوَّة الرسول صلوات الله وسلام عليه.
20
وقال ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما دخل حبر من اليهُود على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فسمع منه [قراءة] سورة يوسف، فعاد إلى اليهودِ، فأعلمهم أنَّه سمع كما في التَّوراة، فانطلق نفرٌ منهم، فسَمِعُوا كما سَمِع؛ فقالوا له: من علَّمك هذه القصَّ؟ فقال عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «الله عَلَّمَنِي» فنزلت: ﴿لَّقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِّلسَّائِلِينَ﴾.
قال ابن الخطيب: «وهذا الوجه عندي بعيد؛ لأن المفهوم من الآية: أن في واقعة يُوسف عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ ت آياتٌ للسَّائلينَ، وعلى ما قلناه: ما كانت الآيات في قصَّة يُوسف، بل كانت في إخبار محمَّد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عنها، من تعلُّم ولا مطالعة.
الثاني: أن أكثر أهل مكَّة كانُوا أقارب الرَّسُول عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ، وكانُوا يُنْكِرُون نُبوَّته، ويظهرُون العداوة الشَّديدة معهُ بسبب الحسد، فذكر الله تعالى هذه القصَّة، وبيَّن أنَّ إخوة يُوسُف بالغُوا في إيذائه لأجل الحسد، وبالآخرة إن الله نصره، وقواه، وجعلهم تحت يده، ومثل هذه الواقعة إذا سمعها العاقل، كانت زاجرة له عن الإقدام على الحسد.
الثالث: أن يعقُوب عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ لما عبر رُؤيا يُوسُف، وقع ذلك التَّعبير، ودخل في الوُجُود بعد ثمانين سنة، فكذلك أن الله تعالى ت كما وعد مُحمَّداً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بالنَّصر والظفر، كان الأمر كما قدَّره الله تعالى لا كما سعى فيه الأعداء في إبطال أمره».
قوله: ﴿لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إلى أَبِينَا مِنَّا﴾ اللام في «ليُوسفُ» : لام الابتداء أفادت توكيداً لمضمون الجملة، وأرادُوا أنَّ زيادة محبَّته لهما أمر ثابتٌ لا شبهة فيه «وأخُوهُ» ك هو بنيامين، وإنَّما قالوا: «وأخُوهُ» وهُمْ جَمِيعاً إخوة؛ لأن أمُّهُمَا كانت واحدة، و «أحَبُّ» أفعل تفضيلن وهو مبنيٌّ من «حُبَّ» المبنيِّ للمفعُول، وهو شاذٌّ، وإذا بنيت أفعل التَّفضيل، من مادَّة الحُبِّ والبغضِ، تعدَّى إلى الفاعل المعنوي ب «إلى» وإلى المفعول المعنوي ب «اللام، أو ب» في «فإذا قلتَ: زيدٌ أحبُّ إِليَّ من بكرٍ، تعني: أنك تحبُّ زيداً أكثر من بكر، فالمُتكلِّم هو الفاعل، وكذلك:» هو أبغضُ إليَّ منْهُ «أنت المبغض، وإذا قلت: زيدٌ أحبُّ إليَّ من عمرو، أو أحَبُّ فيَّ مِنهُ، أي: إنَّ زيداً يُحِبُّني أكثر من عمْرِو؛ قال امرؤ القيس: [الطويل]
وعلى هذا جاءت الآية الكريمة؛ فإن الإب هو فاعل المحبَّة.
قال ابن الخطيب: «وهذا الوجه عندي بعيد؛ لأن المفهوم من الآية: أن في واقعة يُوسف عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ ت آياتٌ للسَّائلينَ، وعلى ما قلناه: ما كانت الآيات في قصَّة يُوسف، بل كانت في إخبار محمَّد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عنها، من تعلُّم ولا مطالعة.
الثاني: أن أكثر أهل مكَّة كانُوا أقارب الرَّسُول عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ، وكانُوا يُنْكِرُون نُبوَّته، ويظهرُون العداوة الشَّديدة معهُ بسبب الحسد، فذكر الله تعالى هذه القصَّة، وبيَّن أنَّ إخوة يُوسُف بالغُوا في إيذائه لأجل الحسد، وبالآخرة إن الله نصره، وقواه، وجعلهم تحت يده، ومثل هذه الواقعة إذا سمعها العاقل، كانت زاجرة له عن الإقدام على الحسد.
الثالث: أن يعقُوب عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ لما عبر رُؤيا يُوسُف، وقع ذلك التَّعبير، ودخل في الوُجُود بعد ثمانين سنة، فكذلك أن الله تعالى ت كما وعد مُحمَّداً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بالنَّصر والظفر، كان الأمر كما قدَّره الله تعالى لا كما سعى فيه الأعداء في إبطال أمره».
قوله: ﴿لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إلى أَبِينَا مِنَّا﴾ اللام في «ليُوسفُ» : لام الابتداء أفادت توكيداً لمضمون الجملة، وأرادُوا أنَّ زيادة محبَّته لهما أمر ثابتٌ لا شبهة فيه «وأخُوهُ» ك هو بنيامين، وإنَّما قالوا: «وأخُوهُ» وهُمْ جَمِيعاً إخوة؛ لأن أمُّهُمَا كانت واحدة، و «أحَبُّ» أفعل تفضيلن وهو مبنيٌّ من «حُبَّ» المبنيِّ للمفعُول، وهو شاذٌّ، وإذا بنيت أفعل التَّفضيل، من مادَّة الحُبِّ والبغضِ، تعدَّى إلى الفاعل المعنوي ب «إلى» وإلى المفعول المعنوي ب «اللام، أو ب» في «فإذا قلتَ: زيدٌ أحبُّ إِليَّ من بكرٍ، تعني: أنك تحبُّ زيداً أكثر من بكر، فالمُتكلِّم هو الفاعل، وكذلك:» هو أبغضُ إليَّ منْهُ «أنت المبغض، وإذا قلت: زيدٌ أحبُّ إليَّ من عمرو، أو أحَبُّ فيَّ مِنهُ، أي: إنَّ زيداً يُحِبُّني أكثر من عمْرِو؛ قال امرؤ القيس: [الطويل]
٣٠٥٠ - لعَمْرِي لَسعْدٌ حَيْثُ حُلِّتْ دِيَارهُ | أحَبُّ إليْنَا مِنْكَ فافرَسٍ حَمِرْ |
21
و» أحَبُّ «: خير المبتدأ، وإنَّما لم يطابق؛ لما عرفت من حكم أفعل التَّفضيل.
وقيل: اللاَّم في:» ليُوسُفُ «: جواب القسم، تقديره: والله ليُوسف وأخُوه، والواوُ في:» ونَحْنُ عُصْبَةٌ «: للحال، فالجملة بعدها في محلِّ نصب على الحال، والعامة على رفع» عُصْبةٌ «خبراً ل» نَحْن «.
وقرأ أمير المؤمنين رَضِيَ اللَّهُ عَنْه بنصبها على أنَّ الخبر محذوف، والتقدير: ونحن نرى أو نجتمع، فتكون» عُصْبَةٌ «حالاً، إلا أنَّه قليلٌ جدًّا؛ وذلك لأنَّ الحال لا يسدُّ مسدَّ الخبر إلا بشُروطٍ ذكرها النُّحاة، نحو: ضربي زيداً قَائِماً، وأكثر شُربِي السُّويق مَلْتُوتاً.
قال ابن الأنباري:» هذا كما تقُولُ العربُ: إنَّمَا العَامريُّ عمَّتهُ، أي: يتعمم عِمَّته «.
قال أبو حيَّان:» وليس مثله؛ لأن «عُصْبَةٌ» ليس بمصدر ولا هيئة، فالأجود أن يكون من باب: حُكمُكَ مُسمَّطاً «.
قال شهاب الدِّين:» ليس مراد ابن الأنباري إلاَّ التشبيه؛ من حيث إنه حذف الخبر، وسدَّ شيءٌ آخر مسدَّه في غير المواضع المُنقَاس فيها ذلكن ولا نظر لكون المنصُوب مصدراً أو غيره «.
وقال المبرد: هو من باب:» حُكمُك مُسمًّطاً «أي: لك حكمك مسمَّطاً، قال الفرزدقُ:
قال: واستعمل هذا فكثُر حتى حذفَ استخفافاً؛ لعلم ما يريد القائل؛ كقولك: الهلال والله، أي: هذا الهلال، والمُسَمَّط: المرسل غير المردُودِ وقدره غير المبرِّد: حكمُك ثبت مُسمَّطاً، وفي هذا المثال نظر؛ لأن النَّحويِّين يجعلُون من شرط سدِّ الحالِ مسدّ الخير: أن لا يصلُح جعل الحالِ خبراً لذلك المبتدأ، نحو: ضَرْبِي زيداً قائماً، بخلاف:» ضَرْبِي زيْداً شديدٌ «فإنَّها ترفع على الخبريَّة، وتخرُج المسألة من ذلك، وهذه الحال، أعني:» مُسَمَّطاً «يصلح جعلها خبراً للمبتدأ، إذ التقدير: حكم مرسل لا مردودٌ، فيكون هذا المثل على ما تقرَّر من كلامهم شاذًّا.
وقيل: اللاَّم في:» ليُوسُفُ «: جواب القسم، تقديره: والله ليُوسف وأخُوه، والواوُ في:» ونَحْنُ عُصْبَةٌ «: للحال، فالجملة بعدها في محلِّ نصب على الحال، والعامة على رفع» عُصْبةٌ «خبراً ل» نَحْن «.
وقرأ أمير المؤمنين رَضِيَ اللَّهُ عَنْه بنصبها على أنَّ الخبر محذوف، والتقدير: ونحن نرى أو نجتمع، فتكون» عُصْبَةٌ «حالاً، إلا أنَّه قليلٌ جدًّا؛ وذلك لأنَّ الحال لا يسدُّ مسدَّ الخبر إلا بشُروطٍ ذكرها النُّحاة، نحو: ضربي زيداً قَائِماً، وأكثر شُربِي السُّويق مَلْتُوتاً.
قال ابن الأنباري:» هذا كما تقُولُ العربُ: إنَّمَا العَامريُّ عمَّتهُ، أي: يتعمم عِمَّته «.
قال أبو حيَّان:» وليس مثله؛ لأن «عُصْبَةٌ» ليس بمصدر ولا هيئة، فالأجود أن يكون من باب: حُكمُكَ مُسمَّطاً «.
قال شهاب الدِّين:» ليس مراد ابن الأنباري إلاَّ التشبيه؛ من حيث إنه حذف الخبر، وسدَّ شيءٌ آخر مسدَّه في غير المواضع المُنقَاس فيها ذلكن ولا نظر لكون المنصُوب مصدراً أو غيره «.
وقال المبرد: هو من باب:» حُكمُك مُسمًّطاً «أي: لك حكمك مسمَّطاً، قال الفرزدقُ:
٣٠٥١ - يا لهْذَمُ حُكْمُكَ مُسَمَّطاً | أراد لك حكمك مُسمَّطاً. |
22
والعُصْبَة: ما زاد على العشرة، عن ابن عبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما؛ وعنه: مابين العشرة إلى الأربعين.
وقيل: الثلاثة نفر، فإذا زادت على ذلك إلى تسعة؛ فهو رهطٌ، فإذا بلغُوا العشرة فصاعداً، فعُصْبَة.
وقيل: مابين الواحد إلى العشرة.
وقيل: من عشرة إلى خمسة عشر.
وقيل: ستة. وقيل: سَبْعَة. والمادَّة تدلُّ على الإحاطة من العصابة؛ لإحاطتها بالرَّأس.
بيَّنُوا السبب الذي لأجله قصدوا إيذاء يوسف: وهو أن يعقُوب عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ كان يفضِّل يوسف وأخاه على سائر أولاده في الحبِّ، فتأذَّوا منه لوجوه:
أحدها: كانوا أكبر منه سنًّا.
وثانيها: أنَّهم كانوا أكثر قوَّة، وأكثر قياماً بمصالح الأب منهما.
وثالثها: أنَّهم القائمون بدفع المضار والآفات، والمشتغلُون بتحصيل المنافع والخيرات، وإذا كانُوا كذلك لا جرم قالوا: ﴿إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ﴾.
قال ابن الخطيب: «وها هنا سؤالات:
السؤال الأول: أن من المعلُوم أن تفضيل بعض الأولاد على بعض، يُورِث الحقد والحسد، وهما يورثان الآفات، فملا كان يعقُوب عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ عالماً بذلك، فلم أقدم على التفضيل؟ وأيضاً: فالأسنُّ، والأعلم، والأنفع مقدَّم، فلم قلب هذه القضية؟.
فالجوابك أنَّه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ ما فضلهما على سائر أولاده إلا في المحبَّة، والمحبَّة ليست في وسع البشر، فكان معذُوراً فيه، ولا يلحقه بسبب ذلك لومٌ، قال عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ:» اللَّهُمَّ هذا قسمِي فيمَا أملكُ، فلا تَلُمنِي فيمَا لا أمْلك «حين كان يحبُّ عائشة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها.
السؤال الثاني: أن أولاد يعقوب كانوا قد آمنوا بكونه رسُولاً حقًّا من عند الله،
وقيل: الثلاثة نفر، فإذا زادت على ذلك إلى تسعة؛ فهو رهطٌ، فإذا بلغُوا العشرة فصاعداً، فعُصْبَة.
وقيل: مابين الواحد إلى العشرة.
وقيل: من عشرة إلى خمسة عشر.
وقيل: ستة. وقيل: سَبْعَة. والمادَّة تدلُّ على الإحاطة من العصابة؛ لإحاطتها بالرَّأس.
فصل
بيَّنُوا السبب الذي لأجله قصدوا إيذاء يوسف: وهو أن يعقُوب عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ كان يفضِّل يوسف وأخاه على سائر أولاده في الحبِّ، فتأذَّوا منه لوجوه:
أحدها: كانوا أكبر منه سنًّا.
وثانيها: أنَّهم كانوا أكثر قوَّة، وأكثر قياماً بمصالح الأب منهما.
وثالثها: أنَّهم القائمون بدفع المضار والآفات، والمشتغلُون بتحصيل المنافع والخيرات، وإذا كانُوا كذلك لا جرم قالوا: ﴿إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ﴾.
قال ابن الخطيب: «وها هنا سؤالات:
السؤال الأول: أن من المعلُوم أن تفضيل بعض الأولاد على بعض، يُورِث الحقد والحسد، وهما يورثان الآفات، فملا كان يعقُوب عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ عالماً بذلك، فلم أقدم على التفضيل؟ وأيضاً: فالأسنُّ، والأعلم، والأنفع مقدَّم، فلم قلب هذه القضية؟.
فالجوابك أنَّه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ ما فضلهما على سائر أولاده إلا في المحبَّة، والمحبَّة ليست في وسع البشر، فكان معذُوراً فيه، ولا يلحقه بسبب ذلك لومٌ، قال عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ:» اللَّهُمَّ هذا قسمِي فيمَا أملكُ، فلا تَلُمنِي فيمَا لا أمْلك «حين كان يحبُّ عائشة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها.
السؤال الثاني: أن أولاد يعقوب كانوا قد آمنوا بكونه رسُولاً حقًّا من عند الله،
23
فكَيْفَ اعتَرضُوا؟ وكيْفَ زَيَّفُوا طريقتهُ وطعنُوا في فعلِهِ؟ وإن كانُوا مُكذِّبينِ بنُبوته، غير مقرِّين بكونه رسًُولاً حقًّا من عند الله، فهذا مُوجِبُ تكفيرهم؟.
والجواب: أنَّهُم كانوا مُؤمِنين بنبوَّة أبيهم، مُقرين بكونه رسُولاً حقًّا من عند الله، إلاَّ أنَّهُم لعلَّهم جوَّزُوا من الأنبياء أن يفعلوا أفعالاً مخصوصة بمجرد اجتهادهم، ثم إنَّ الاجتهاد أدَّى إلى تخطئة أبيهم في ذلك الاجتهادح وذلك لأنَّهم كانوا يقولون: هما صبيان ما بلغا العقل الكامل، ونحن متقدِّمُون عليهما في السنِّ، والعقل، الكفاية، والمنفعة، وكثرة الخدمة، والقيام بالمهمات، فإصراره على تقديم يوسف علينا، يخالف هذا الدَّليل، وأما يعقُوب عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ فلعله كان يقُول: زيادة المحبَّة ليست في الوسع والطَّاقة، فليس لله عليًّ فيه تكليفٌ، وأما تخصيصهما بمزيد البرِّ، فيحتمل أنه كان لوجوه:
أحدها: أن أمَّهُمَا ماتتْ وهم صغار.
وثانيهما: أنه كان يرى فيه من آثار الرُّشد، والنَّجابة ما لم يجدْ في سائر الأولاد، والحاصل: أن هذه المسألة كانت اجتهاديَّة، وكانت بميْل النَّفس، وموجبات الفطرة، فلا يلزم من وقوع الاختلاف فيها طعن أحد الخصمين في دين الآخرِ، أو في عرضه.
السؤال الثالث: أنهم نسبُوا أباهم إلى الضَّلال المبين، وذلك مبالغة في الذمِّ والطَّعن، ومن بالغ في الطَّعن في الرسُول كفر، لا سيَّما إذا كان الطّاعن ابناً؛ فإن حقَّ الأبُوَّة يُوجِب مزِيد التَّعظِيم.
والجواب: المُراد من الضلال: غير رعاية مصالحِ الدِّين، لا البعد عن طريق الرُّشد، والصواب.
السؤال الرابع: أن قولهم: ﴿لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إلى أَبِينَا مِنَّا﴾ محضُ الحسد، والحسد من أمهات الكبائر، لا سيَّما وقد أقدموا بسبب ذلك الحسد على تضييع ذلك الأخ الصالح، وإلقائه في ذلِّ العبوديَّة، وتبعيده عن الأب المشفقِ، والقوا أباهم في الحُزن الدائم، والأسف العظيم، وأقدموا على الكذب، وأتوا بهذه الخصالِ المذمُومَة وكل ذلك يقدح في العصمة.
والجواب: أن المعتبر عصمة الأنبياء في وقت حًصول النُّبوَّة، فأمَّا قبلها فذلك غير واجب «.
﴿اقتلوا يُوسُفَ أَوِ اطرحوه أَرْضاً﴾ الآية.
في نصب» أرْضاً «ثلاثة أوجه:
أحدهاك أن تكون منصوبة على إسقاط الخافض تخفيفاً، أي: في أرض؛ كقوله: ﴿لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ المستقيم﴾ [الأعراف: ١٦]، وقول الشاعر: [الكامل]
والجواب: أنَّهُم كانوا مُؤمِنين بنبوَّة أبيهم، مُقرين بكونه رسُولاً حقًّا من عند الله، إلاَّ أنَّهُم لعلَّهم جوَّزُوا من الأنبياء أن يفعلوا أفعالاً مخصوصة بمجرد اجتهادهم، ثم إنَّ الاجتهاد أدَّى إلى تخطئة أبيهم في ذلك الاجتهادح وذلك لأنَّهم كانوا يقولون: هما صبيان ما بلغا العقل الكامل، ونحن متقدِّمُون عليهما في السنِّ، والعقل، الكفاية، والمنفعة، وكثرة الخدمة، والقيام بالمهمات، فإصراره على تقديم يوسف علينا، يخالف هذا الدَّليل، وأما يعقُوب عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ فلعله كان يقُول: زيادة المحبَّة ليست في الوسع والطَّاقة، فليس لله عليًّ فيه تكليفٌ، وأما تخصيصهما بمزيد البرِّ، فيحتمل أنه كان لوجوه:
أحدها: أن أمَّهُمَا ماتتْ وهم صغار.
وثانيهما: أنه كان يرى فيه من آثار الرُّشد، والنَّجابة ما لم يجدْ في سائر الأولاد، والحاصل: أن هذه المسألة كانت اجتهاديَّة، وكانت بميْل النَّفس، وموجبات الفطرة، فلا يلزم من وقوع الاختلاف فيها طعن أحد الخصمين في دين الآخرِ، أو في عرضه.
السؤال الثالث: أنهم نسبُوا أباهم إلى الضَّلال المبين، وذلك مبالغة في الذمِّ والطَّعن، ومن بالغ في الطَّعن في الرسُول كفر، لا سيَّما إذا كان الطّاعن ابناً؛ فإن حقَّ الأبُوَّة يُوجِب مزِيد التَّعظِيم.
والجواب: المُراد من الضلال: غير رعاية مصالحِ الدِّين، لا البعد عن طريق الرُّشد، والصواب.
السؤال الرابع: أن قولهم: ﴿لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إلى أَبِينَا مِنَّا﴾ محضُ الحسد، والحسد من أمهات الكبائر، لا سيَّما وقد أقدموا بسبب ذلك الحسد على تضييع ذلك الأخ الصالح، وإلقائه في ذلِّ العبوديَّة، وتبعيده عن الأب المشفقِ، والقوا أباهم في الحُزن الدائم، والأسف العظيم، وأقدموا على الكذب، وأتوا بهذه الخصالِ المذمُومَة وكل ذلك يقدح في العصمة.
والجواب: أن المعتبر عصمة الأنبياء في وقت حًصول النُّبوَّة، فأمَّا قبلها فذلك غير واجب «.
﴿اقتلوا يُوسُفَ أَوِ اطرحوه أَرْضاً﴾ الآية.
في نصب» أرْضاً «ثلاثة أوجه:
أحدهاك أن تكون منصوبة على إسقاط الخافض تخفيفاً، أي: في أرض؛ كقوله: ﴿لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ المستقيم﴾ [الأعراف: ١٦]، وقول الشاعر: [الكامل]
24
٣٠٥٢ - لَدْنٌ بِهَزِّ الكفِّ يَعْسِلُ مَتنُهُ | فِيهِ كَمَا عَسلَ الطَّريقَ الثَّعلبُ |
قال النَّحاس:» إلا أنَّه في الآية حسن كثيراً؛ لأنَّه يتعدى إلى مفعولين، أحدهما بالحرف، فإذا حذفت الحرف، تعدَّى الفعل إليه «.
والثاني: النصب على الظرفيَّة.
قال الزمخشريُّ:» أرْضاً منكُورة مجهولة بعيدة عن العمران، وهو معنى تنكيرها، وأخلائها من النَّاسِ؛ ولإبهامِها من هذا الوجه، نُصِبت نصب الظُّروف المُبْهَمة «.
وردَّ ابن عطيَّة هذا الوجه فقال:» وذلك خطأ؛ لأن الظَّرف ينبغي أن يكون مُبهماً، وهذه ليست كذلك، بل هي أرض مقيَّدة بأنَّها بعيدةٌ، أو قاصية أو نحو ذلك، فزال بذلك إبهامُهَا، ومعلُوم أن يوُسف لم يَخْل من الكون في أرض، فتبيَّن أنَّهم أرادُوا أرضاً بعيدة، غير التي هو فيها قريبة من أبيه «.
واسَتحْسَن أبو حيَّان هذا الرَّد، وقال:» وهذا الردُّ صحيحٌ، لو قلت: «جَلستُ داراً بعيدة، أوْ مكاناً بعيداً» لم يصحَّ إلا بواسطة في ولا يجوز حذفها، إلا في ضرورة شعرٍ، أو مع «دخلْت» على الخلاف في «دَخلت» أهي لازمة أم متعدِّية «.
وفي الكلامين نظر؛ إذ الظَّرف المُبْهَم: عبارة عمَّا ليس له حُدُود تحصرهن ولا أقطار تحويه، و» أرضاً «في الآية الكريمة من هذا القبيل.
الثالث: أنها مفعول ثان، وذلك أن معنى:» اطْرحُوهُ «أنزلوه، و» أنزلوه «يتعدى لاثنين، قال تعالى:
﴿أَنزِلْنِي مُنزَلاً مُّبَارَكاً﴾ [المؤمنين: ٢٩] وتقولن: أنزلت زيداً الدَّارَ. والطَّرح: الرَّميُ، ويعبرُ به عن الاقتحام في المخاوف؛ قال عروة بن الوردِ: [الطويل]
٣٠٥٣ - ومَنْ يَكُ مِثْلِي ذا عِيالٍ ومُقْتِراً | مِنَ المَالِ يَطرَحْ نَفسَهُ كُلَّ مَطْرحِ |
و «يَخْلُ لكُمْ» جوابٌ الأمر، وفيه الإظهار والإدغام، وتقدَّم تحقيقها عند قوله ﴿وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإسلام دِيناً﴾ [آل عمران: ٨٥].
قوله: ﴿وَتَكُونُواْ﴾ يجُوز أن يكُون مجزوماً نسقاً على ما قبله، أو منصوباً بإضمار «أن» بعد الواو في جواب لأمر.
25
فصل
اعلم: أنَّه لما قوي الحسد، وبلغ النِّهاية، قالوا: لا بُدَّ من تبعيد يُوسف من أبيه، وذلك لا يحصل إلا بأحد طريقين: القتل، أو التَّغريب، ثم ذكروا العلَّة فيه، وهي قوله: ﴿يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ﴾ أي: أنَّ يوسف شغله عنَّا، وصرف وجهه إليه، فإذا فقده، أقبل علينا بالميل والمحبَّة، ﴿وَتَكُونُواْ مِن بَعْدِهِ﴾ أي: من بعد قتل يوسف، ﴿قَوْماً صَالِحِينَ﴾ : أي: نتُوب بعد قتلهِ.
وقيل: يصلُح شأنكم، تتفرغوا لإصلاح شأن أمَّهاتكُم، واختلفُوا في قائل هذا القول.
فقيل: شَاورُوا أجْنَبياً؛ فأشار عليهم بقتله، ولم يقُل ذلك أحدٌ من إخوته.
وقيل: القائل بعض إخوته، واختلفوا فيه.
فقال وهب: شمعون، وقال كعب: دان، وقال مقاتل: رُوبيل.
فإن قيل: كيف يليق هذا بهم، وهم أنبياء؟
فأجاب بعضهم: بأنَّهم كانوا في هذا الوقت مراهقين لم يبلُغوا، وهذا ضعيفٌ؛ فإنه يبعد في مثل يعقُوب أن يبعث جماعة من الصِّبيان من غير أن يكون معهم قائمٌ عاقلٌ يمنعهم من القبائح.
وأيضا: فإنَّهم قالوا: ﴿وَتَكُونُواْ مِن بَعْدِهِ قَوْماً صَالِحِينَ﴾ وهذا يدلُّ على أنَّهُم قب النبوَّة لا يكونوا صالحين، وذلك يُنَافِي كونهم من الصِّبيان، وأيضاً: قولهم: ﴿ياأبانا استغفر لَنَا ذُنُوبَنَآ إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ﴾ [يوسف: ٩٧] والصغير لا ذنب له.
فأجاب بعضهم: بأنَّ هذا من باب الصَّغائر، وهذا أيضاً ضعيفٌ؛ لأن إيذاء الأبِ الذي هو نبيٌّ معصوم، والكيد معهُ، والسعي في إهلاك الأخ الصَّغير، فكل واحدٍ من ذلك من أمَّهات الكبائر، بل الجواب الصحيح: أنَّهم ما كانُوا أنبياء، وإن كانوا أنبياء، إلا أن هذه الواقعة أقدموا عليها قبل النبوة.
ثم إنَّ قائلاً منهم قال: ﴿لاَ تَقْتُلُواْ يُوسُفَ﴾.
قيل: إنه رُوبيل، وكان ابن خالة يُوسُف، وكان أحسنُهم رأياً فيه؛ فمنعهم من قتله، وقيل: يهُوذا، وكان أقدمهم في الرَّأي والفضلِ، والسِّنِّ، وهو الصحيح.
قوله: «فِي غَيَابَةِ» قرأ نافع: «غَيابَات» بالجمع في الحرفين من هذه السُّورة، جعل
26
ذلك المكان أجزاء، وسمَّى لك جزءٍ غيابة؛ لأن للجُبِّ أقطاراً ونواحِي، فيكون فيها غيابات، والباقون: بالإفراد؛ لأن المقصُود: موضع واحد من الجُبِّ يغيب فيه يوسف، وابن هُرْمز كنافع، إلا أنَّه شدَّد الياء، والأظهر في ههذه القراءة: أن يكُون سُمِّي باسم الفاعل الذي للمبالغة، فهو وصف في الأصل، وألحقه الفارسي بالاسم الجائي على فعَّال، نحو ما ذكره سيبويه من الفيَّاد قال ابن جني: «ووجدت من ذلك الفخَّار: للخَزَف».
وقال صاحب اللَّوامح: «يجوز أن يكو على» فعَّالات «كحمَّامات، ويجوز أن يكون على» فيْعَالات «، كشَيْطَانَات، جمع شَيْطَانَه، وكلٌّ للمبالغة».
وقرأ الحسن: «في غَيَبةِ» بفتح الياء، وفيه احتمالان:
أحدهما: أن يكون في الأصل مصدراً؛ كالغلبة.
والثاني: أن يكون جمع غائب، نحو: صَانِع وصنَعَة.
قال أبو حيَّانك «وفي حرف أبيَّ:» في غيْبَةِ «بسكون الياء، وهي ظلمة الرَّكيَّة».
قال شهاب الدين: «والضبط أمر حادثٌ، فكيف يعرفُ ذلك من المصحف، وتقدَّم نحو ذلك، والغيابة، قال الهروي: شبه لجف أو طاقٍ في البئر فُويْق الماء يغيب ما فيه عن العُيُون».
وقال الكلبيُّ: «الغيابة تكون في قَعْر الجُبِّ؛ لأَنَّ اسفله واسعٌ، ورأسه ضيِّق، فلا يكاد النَّاظر يرى ما في جوانبه».
وقال الزمخشري: «هي غورة، وما غب منه عن عين النَّاظر، وأظلم من أسفله».
قال المنخل: [الطويل]
أراد: غيابة حُفرته التي يدفن فيها، والجبُّ: البشر الذي لم تُطْوَ، وسمِّي بذلك: إما لكونه مَحْفُوراً في جبُوب الأرض، أي: ما غلظ منها؛ وإما لأنه قطعَ في الأرضِ والجبُّ: القطعُ، ومنه: الجبُّ في الذَّكر؛ قال الأعشى: [الطويل]
وقال صاحب اللَّوامح: «يجوز أن يكو على» فعَّالات «كحمَّامات، ويجوز أن يكون على» فيْعَالات «، كشَيْطَانَات، جمع شَيْطَانَه، وكلٌّ للمبالغة».
وقرأ الحسن: «في غَيَبةِ» بفتح الياء، وفيه احتمالان:
أحدهما: أن يكون في الأصل مصدراً؛ كالغلبة.
والثاني: أن يكون جمع غائب، نحو: صَانِع وصنَعَة.
قال أبو حيَّانك «وفي حرف أبيَّ:» في غيْبَةِ «بسكون الياء، وهي ظلمة الرَّكيَّة».
قال شهاب الدين: «والضبط أمر حادثٌ، فكيف يعرفُ ذلك من المصحف، وتقدَّم نحو ذلك، والغيابة، قال الهروي: شبه لجف أو طاقٍ في البئر فُويْق الماء يغيب ما فيه عن العُيُون».
وقال الكلبيُّ: «الغيابة تكون في قَعْر الجُبِّ؛ لأَنَّ اسفله واسعٌ، ورأسه ضيِّق، فلا يكاد النَّاظر يرى ما في جوانبه».
وقال الزمخشري: «هي غورة، وما غب منه عن عين النَّاظر، وأظلم من أسفله».
قال المنخل: [الطويل]
٣٠٥٤ - فإنْ أنَا يَوْماً غَيَّبَتْنِي غَيَابَتِي | فَسِيرُوا بسَيرِي في العَشِيرةِ والأهْلِ |
27
٣٠٥٥ - لَئِنْ كُنْتَ في جُبِّ ثَمانِينَ قَامَةً | ورُقِّيتَ أسْبَابَ السَّماءِ بسُلَّمِ |
فصل
والألف واللام في «الجُبِّ» تقتضي المعهُود السَّابق، واختلفوا فيه:
فقال قتادة: هو جُبُّ بئر بيت المقدِس، وقيل: بأرض الأرْدُن.
وقال مقاتل: هو على ثلاثة فراسِخ من منْزِل يعقُوب، وإنَّما عيَّنوا ذلك الجُبَّ؛ للعلَّة التي ذكروها، وهي قوله: «يَلتَقطهُ بَعْضُ السَّيارةِ» لأن تلك البِئْر كانت معروفة يَردُونَ عليها كثيراً، وكانوا يعلمُون أنَّه إذا طُرِحَ فيها، كان إلى السَّلامة أقْرب؛ لأن السيارة إذا ورَدُوهَا، شاهدوا ذلك الإنسان فيهن فيخرجوه، ويذهبوا به فكان إلقاءه فيها أبعد عن الهلاك.
قوله «يَلتَقِطْهُ» قرأ العامَّةك «يَلْتَقِطْهُ» بالياء من تحت، وهو الأصلُ وقرأ الحسن، ومجاهد، وأبو رجاء، وقتادة: بالتَّاء من فوقح للتَّأنيثِ المعنويِّن والإضافة إلى مؤنَّث، وقالوا: قُطِعَت بعضُ أصَابعه.
قال الشَّاعر: [الوافر]
٣٠٥٦ - إذَا بَعْضُ السِّنينَ تَعرَّقَتْنَا | كَفَى الأيْتامَ فقدَ أبِي اليَتِيمِ |
والإلتِقَاط: تناول الشيء المطروح، ومنه: اللُّقطَة واللَّقِيط؛ قال الشاعر: [الرجز]
٣٠٥٧ - ومَنْهَلٍ ورَدْتهُ التِقَاطَا.............................
قال ابن عرفة: الالتقاط وجود الشيء على غير طلب، ومنه قوله تعالى ﴿يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السيارة﴾ أي: يجده من غير أن يحتسب.
28
فصل
اختلفوا في الملقوط فقيل: إن أصله الحرية؛ لغلبة الأحرار على العبيد، وروي الحسين بن علي رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما قضى بأن اللقيط حُرٌّ، وتلا قوله تعالى: ﴿وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ﴾ [يوسف: ٢٠] وهذا قوله عمر بن الخطاب رَضِيَ اللَّهُ عَنْه ويروى عن علي وجماعته، وقال إبراهيم النخعي: إن نوى رقه فهو مملوك، وإن نوى الاحتساب فهو حر.
فصل
والسيَّارة: جمع سيَّار، وهو مثال مبالغة، وهُمُ الجماعة الذين يسيرون في الطريق للسَّفَر، وقال ابن عبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما: يريد: المارَّة، ومفعول «فَاعِلينَ» محذُوف، أي: فاعلين ما يحصل به غرضكم. وهذا إشارة إلى أن الأولى: أن لا تفعلوا شيئاً من ذلك، وأما إن كان ولا بد، فاقتصروا على هذا القدر، ونظيره قوله تعالى: ﴿وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ﴾ [النحل: ١٢٦] يعني: الأولى ألاَّ تفعلوا ذلك.
قوله تعالى: ﴿قَالُواْ يَأَبَانَا مَا لَكَ لاَ تَأْمَنَّا على يُوسُفَ﴾ الآية.
«تَأمَنَّا» حال وتقدَّم نظيره، وقرأ العامَّة: تأمنَّا بالإخفاء، وهو عبارة عن تضعيف الصَّوت بالحركة، والفصل بين النُّونين؛ لا لأن النون تسكن رأساً؛ فيكون ذلك إخفاءً، لا إدغاماً.
قال الدَّاني: «وهو قول عامَّة أئِمَّتنا، وهو الصواب؛ لتأكيد دلالته وصحَّته في القياس».
وقرأ بعضهم ذلك: بالإشمام وهو عبارة عن ضمِّ الشفتين، إشارة إلى حركة الفعل مع الإدغام الصَّريح، كما يشير إليها الواقف، وفيه عسر كثير، قالوا: وتكون الإشارة إلى الضمة بعد الإدغام، أو قبل كماله، والإشمام يقع بإزاء معانٍ هذا من جملتها.
ومنها: [إشراب] الكسرة شيئاً من الضمِّ [نحو قيل، ﴿وَغِيضَ﴾ [هود: ٤٤] وبابه، وقد تقدم في أول سورة البقرة].
ومنها إشمام أحد الحرفين شيئاً من الآخر؛ كإشمام الصاد زاياً في ﴿الصراط﴾ [الفاتحة: ٦]، ﴿وَمَنْ أَصْدَقُ﴾ [النساء: ٨٧، ١٢٢] وبابهما، وقد تقدم في الفاتحة، والنساء، فهذا خلط حرف بحرف، كما أن ماقبلهُ خلطُ حركة بحركةٍ.
ومنها: الإشارة إلى الضَّمَّة في الوقف خاصَّة، وإنما يراه البصير دُون الأعمى،
29
وقرأ أبو جعفر: الإدغام الصَّريح من غير إشمام، وقرأ الحسن ذلك: بالإظهار مبالغة في بيان إعراب الفعل. وللمحافظة على حركة الإعراب، اتَّفق الجمهُور على الإخفاء، أو الإشمام، كما تقدَّم تحقيقه.
وقرأ ابن هرمز: «لا تَأمُنَّا» بضم الميم، نقل حركة النُّون الأولى عند إرادة إداغمها، بعد سلب الميم حركتها، وخط المصحف بنون واحدة، ففي قراءة الحسن مخالفة لها. وقرأ أبو رزين، وابن وثَّابٍ: «لا تِيْمَنًّا» بكسر حرف المضارعة، إلا أنَّ ابن وثَّاب سهَّل الهمزة.
قال ابو حيَّانك «ومجيئُه بعد» مَا لَكَ «والمعنى: يرشد إلى أنَّه نفيٌ لا نهي، وليس كقولهم:» ما أحْسَنًّا «في التعجُّبح لأنه لو أدغم، لالتبس التَّعجب بالنَّفْي».
قال شهاب الدِّين: وما أبْعَد هذا عن توهُّم النَّهي، حتى ينُصَّ عليه بقوله: «لالتبس بالنَّفْي الصحيح».
هذا الكلام يدلُّ على أن يعقوب عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ كان يخافُهم على يُوسف، ولولا ذلك، لما قالوا هذا القول.
واعلم: أنَّهم لما أحكمُوا العزم، أظهروا عند أبيهم أنَّهم في غاية المحبَّة ليوسُف، ونهاية الشفقة عليه، كانت عادتهم أن يغيبُوا عنه مُدَّة إلى الرَّعين فسألوه إرساله معهم، كان يعقُوب عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ يحب تطيب قلب يوسف، فاغترَّ بقولهم، وأرسلهُ معهم حين قالوا له: ﴿وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ﴾ والنُّصْح هنا: القيام بالمصلحة.
وقيل: البرُّ والعطف، أي: عَاطِفُون عليه قَائِمُون بمصلحته، نحفظه حتَّى نردهُ إليك.
قيل للحسن: أيَحْسُد المُؤمن؟ قال: ما أنْسَاك ببَنِي يعقوب، ولهذا قيل: الأب جلاَّبٌ، والأخ سَلاَّب، وعند ذلك أجمعوا عل التًَّفريق بينه وبين ولده بضرب من الاحتيال، وقالوا ليعقوب عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ ﴿مَا لَكَ لاَ تَأْمَنَّا على يُوسُفَ﴾.
وقرأ ابن هرمز: «لا تَأمُنَّا» بضم الميم، نقل حركة النُّون الأولى عند إرادة إداغمها، بعد سلب الميم حركتها، وخط المصحف بنون واحدة، ففي قراءة الحسن مخالفة لها. وقرأ أبو رزين، وابن وثَّابٍ: «لا تِيْمَنًّا» بكسر حرف المضارعة، إلا أنَّ ابن وثَّاب سهَّل الهمزة.
قال ابو حيَّانك «ومجيئُه بعد» مَا لَكَ «والمعنى: يرشد إلى أنَّه نفيٌ لا نهي، وليس كقولهم:» ما أحْسَنًّا «في التعجُّبح لأنه لو أدغم، لالتبس التَّعجب بالنَّفْي».
قال شهاب الدِّين: وما أبْعَد هذا عن توهُّم النَّهي، حتى ينُصَّ عليه بقوله: «لالتبس بالنَّفْي الصحيح».
فصل
هذا الكلام يدلُّ على أن يعقوب عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ كان يخافُهم على يُوسف، ولولا ذلك، لما قالوا هذا القول.
واعلم: أنَّهم لما أحكمُوا العزم، أظهروا عند أبيهم أنَّهم في غاية المحبَّة ليوسُف، ونهاية الشفقة عليه، كانت عادتهم أن يغيبُوا عنه مُدَّة إلى الرَّعين فسألوه إرساله معهم، كان يعقُوب عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ يحب تطيب قلب يوسف، فاغترَّ بقولهم، وأرسلهُ معهم حين قالوا له: ﴿وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ﴾ والنُّصْح هنا: القيام بالمصلحة.
وقيل: البرُّ والعطف، أي: عَاطِفُون عليه قَائِمُون بمصلحته، نحفظه حتَّى نردهُ إليك.
قيل للحسن: أيَحْسُد المُؤمن؟ قال: ما أنْسَاك ببَنِي يعقوب، ولهذا قيل: الأب جلاَّبٌ، والأخ سَلاَّب، وعند ذلك أجمعوا عل التًَّفريق بينه وبين ولده بضرب من الاحتيال، وقالوا ليعقوب عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ ﴿مَا لَكَ لاَ تَأْمَنَّا على يُوسُفَ﴾.
30
وقيل: لما تفاوضوا وافترقوا على راي المتكلِّم الثاني، عادوا إلى يعقوب عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ وقالوا هذا القول، إذ فيه دليلٌ على أنَّهُم سألوه قبل ذلك أن يخرج معهم يوسف، فأبى.
قوله: ﴿أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَداً يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ﴾ في: «يرْتَعْ ويَلعَبْ» أربع عشرة قراءة:
أحدها: قراءة نافع: بالياء من تحت، وكسر العين.
الثانية: قراءة البزِّي، عن ابن كثيرٍ: «نَرْتَعِ ونلعب» بالنُّون وكسر العين.
الثالثة: قراءة قنبل، وقد اختلف عليه، فنقل عه ثُبُوت الياء بعد العين وصلاً ووقفاً، وحذفها وصلاً ووقفاً، فيوافق البزِّي في أحد الوجهين عنه، فعنه قراءتان.
الخامسة: قراءة أبي عمرو، وابن عامر: «نَرتَعْ ونَلعَبْ» بالنُّون، وسكون العين، والباء.
السادسة: قراءة الكوفيين: «يَرْتَعْ ويَلعبْ» بالياء من تحت وسكون العين والباءِ.
وقرأ جعفر بن محمد: «نَرْتَعْ» بالنُّون، «ويَلْعَبْ» بالياء، ورُويت عن ابن كثيرٍ.
وقرأ العلاء بن سيابة: «يَرْتَعِ ويَلْعَبُ» بالياء فيهما، وكسر العين وضمّ الباء.
وقرأ أبو رجاء كذلك، إلا أنَّه بالياء من تحت فيهما.
والنخعي ويعقوبك «نَرْتَع» بالنون، «ويَلْعَب» بالياء.
وقرأ مجاهدٌ، وقتادةُ، وابن محيصِن: «يَرْتَعْ ويَلْعَب» بالياء، والفعلان في هذه القراءات كلها مبنيان للفاعل.
وقرأ زيد بن علي: «يُرْتَع ويُلْعَب» بالياء من تحت فيهما مبنيين للمعفول.
وقرىء: «نَرْتَعِي ونَلْعَبُ» بثبوت الياء، ورفع الباء.
قوله: ﴿أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَداً يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ﴾ في: «يرْتَعْ ويَلعَبْ» أربع عشرة قراءة:
أحدها: قراءة نافع: بالياء من تحت، وكسر العين.
الثانية: قراءة البزِّي، عن ابن كثيرٍ: «نَرْتَعِ ونلعب» بالنُّون وكسر العين.
الثالثة: قراءة قنبل، وقد اختلف عليه، فنقل عه ثُبُوت الياء بعد العين وصلاً ووقفاً، وحذفها وصلاً ووقفاً، فيوافق البزِّي في أحد الوجهين عنه، فعنه قراءتان.
الخامسة: قراءة أبي عمرو، وابن عامر: «نَرتَعْ ونَلعَبْ» بالنُّون، وسكون العين، والباء.
السادسة: قراءة الكوفيين: «يَرْتَعْ ويَلعبْ» بالياء من تحت وسكون العين والباءِ.
وقرأ جعفر بن محمد: «نَرْتَعْ» بالنُّون، «ويَلْعَبْ» بالياء، ورُويت عن ابن كثيرٍ.
وقرأ العلاء بن سيابة: «يَرْتَعِ ويَلْعَبُ» بالياء فيهما، وكسر العين وضمّ الباء.
وقرأ أبو رجاء كذلك، إلا أنَّه بالياء من تحت فيهما.
والنخعي ويعقوبك «نَرْتَع» بالنون، «ويَلْعَب» بالياء.
وقرأ مجاهدٌ، وقتادةُ، وابن محيصِن: «يَرْتَعْ ويَلْعَب» بالياء، والفعلان في هذه القراءات كلها مبنيان للفاعل.
وقرأ زيد بن علي: «يُرْتَع ويُلْعَب» بالياء من تحت فيهما مبنيين للمعفول.
وقرىء: «نَرْتَعِي ونَلْعَبُ» بثبوت الياء، ورفع الباء.
31
وقرأ ابن أبي عبلة: «نَرْعَى ونَلْعَب».
فهذه اربع عشرة قراءة منها ستٌّ في السَّبع المتواتر وثمان في الشواذٍّ.
فمن قرأ بالنُّون، فقد أسند الفعل إلى إخوة يوسف.
سُئل أبو عمرو بن العلاء: كيف قالوا: نلعب وهم أنبياء؟ قال: كان ذلك قبل أن يُنَبِّئهُم الله عزَّ وجلَّ.
قال ابن الأعرابي: الرَّتْع: الأكل بشدة، وقيل: إنه الخَصْبُ.
وقيل: المراد من اللَّعب: الإقدام على المُباحات، وهذا يوصف به الإنسان، كما رُوِي عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أنه قال لجابر: «هَلاَّ بِكْراً تُلاعِبُهَا وتُلاعِبُك».
وقيل: كان لعبهم الاستباق، والغرض منه: تعليم المحاربة، والمقاتلة مع الكُفَّار، ويدلُّ عليه قولهم: «إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتبِقُ» وإنما سمَّوه لعباً؛ لأنه في صُورة اللَّعِب.
وأما من قرأ بالياءِ، فقد أسند الفعل إليه دونهم، فالمعنى: أنه يبصر رَعْي الإبلِ؛ لتيدرَّب بذلك، فمرَّة يرتع، ومرَّة يلعب؛ كفعل الصِّبيان.
ومن كسر العين، اعتقد أنه جزم بحذف حرف العلَّة، وجعلهُ مأخُوذاً من يفتعِل من الرَّعي؛ كيَرْتَمِي من الرَّمْي، ومن سكن العين، واعتقد أنه جزم بحذق الحركة، وجعلهُ مأخوذاً من: رَتَعَ يَرْتَعُ، إذا اتَّسع في الخِصْب قال:
٣٠٥٨ -....................... وإذَا يَحْلُولَهُ الحِمَى رَتَعْ
ومن سكَّن الباء جعلهُ مَجزُوماً، ومن رفعها، جعله مرفوعاً على الاستئناف، أي: وهو يلعبُ، ومن غاير بين الفعلين، فقرأ بالباء من تحت في «يَلْعَب» دون «نَرْتَع» ؛ فلأن رَعْياً، إذا أكلته فالارتعاء للمواشِي، وأضافوه إلى أنفسهم؛ لأنه السَّبب، والمعنى: نرتع إبلنا، فنسبُوا الارتعاء والقيام بحفظ المال إلى أنفسهم؛ لأنهم بالغون.
ومن قرأ: «نُرْتع» رُباعياً، جعل مفعُوله محذوفاً، أي: يَرْعى مَواشينا، ومن بناها للمفعول، فالوجه: أنه أضمر المفعُول الذي لم يُسمَّ فاعله، وهو ضمير الغدِ، والأصل:
نُرْتَع فيه، ونُلعَبُ فيه، ثم اتسع فيه؛ فحذف حرف الجرِّ، فتعدى إليه الفعل بنفسه، فصار
فهذه اربع عشرة قراءة منها ستٌّ في السَّبع المتواتر وثمان في الشواذٍّ.
فمن قرأ بالنُّون، فقد أسند الفعل إلى إخوة يوسف.
سُئل أبو عمرو بن العلاء: كيف قالوا: نلعب وهم أنبياء؟ قال: كان ذلك قبل أن يُنَبِّئهُم الله عزَّ وجلَّ.
قال ابن الأعرابي: الرَّتْع: الأكل بشدة، وقيل: إنه الخَصْبُ.
وقيل: المراد من اللَّعب: الإقدام على المُباحات، وهذا يوصف به الإنسان، كما رُوِي عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أنه قال لجابر: «هَلاَّ بِكْراً تُلاعِبُهَا وتُلاعِبُك».
وقيل: كان لعبهم الاستباق، والغرض منه: تعليم المحاربة، والمقاتلة مع الكُفَّار، ويدلُّ عليه قولهم: «إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتبِقُ» وإنما سمَّوه لعباً؛ لأنه في صُورة اللَّعِب.
وأما من قرأ بالياءِ، فقد أسند الفعل إليه دونهم، فالمعنى: أنه يبصر رَعْي الإبلِ؛ لتيدرَّب بذلك، فمرَّة يرتع، ومرَّة يلعب؛ كفعل الصِّبيان.
ومن كسر العين، اعتقد أنه جزم بحذف حرف العلَّة، وجعلهُ مأخُوذاً من يفتعِل من الرَّعي؛ كيَرْتَمِي من الرَّمْي، ومن سكن العين، واعتقد أنه جزم بحذق الحركة، وجعلهُ مأخوذاً من: رَتَعَ يَرْتَعُ، إذا اتَّسع في الخِصْب قال:
٣٠٥٨ -....................... وإذَا يَحْلُولَهُ الحِمَى رَتَعْ
ومن سكَّن الباء جعلهُ مَجزُوماً، ومن رفعها، جعله مرفوعاً على الاستئناف، أي: وهو يلعبُ، ومن غاير بين الفعلين، فقرأ بالباء من تحت في «يَلْعَب» دون «نَرْتَع» ؛ فلأن رَعْياً، إذا أكلته فالارتعاء للمواشِي، وأضافوه إلى أنفسهم؛ لأنه السَّبب، والمعنى: نرتع إبلنا، فنسبُوا الارتعاء والقيام بحفظ المال إلى أنفسهم؛ لأنهم بالغون.
ومن قرأ: «نُرْتع» رُباعياً، جعل مفعُوله محذوفاً، أي: يَرْعى مَواشينا، ومن بناها للمفعول، فالوجه: أنه أضمر المفعُول الذي لم يُسمَّ فاعله، وهو ضمير الغدِ، والأصل:
نُرْتَع فيه، ونُلعَبُ فيه، ثم اتسع فيه؛ فحذف حرف الجرِّ، فتعدى إليه الفعل بنفسه، فصار
32
نُرْتعه ونَلْعَبُه، فلما بناهُ للمفعول، قام الضمير المنصُوب مقام فاعله، فانقلب مرفوعاً فاستتر في رافعه، فهو في الاتِّساع كقوله: [الطويل]
٣٠٥٩ - ويَوْمٍ شَهِدْنَا سَلِمياً وعَامِراً........................
ومن رفع الفعلين، جعلهما حالين، وتكون مقدَّرة، وأمَّا إثبات الياء في «نَرْتَعي» مع جزم «يَلْعَب» وهي قراءة قنبل، فقد تجرَّأ بعضُ النَّاس وردَّها.
وقال ابن عطيَّة: هي قراءة ضعيفةٌ لا تجوز إلا في الشِّعْر، وقيل: هي لغة من يجز بالحركة المقدَّرة، وأنشد:
٣٠٦٠ - ألَمْ يَأتِيكَ والأنْبَاءُ تَنْمِي.........................
وقد تقدَّمت هذه المسألة.
و «نَرْتَع» يحتمل أن يكون وزنه: «نَفْتَعِل من الرَّعْي وهي أكلُ المرعى؛ كما تقدَّم، ويكون على حذف مضاف، أي: نرتع مواشينا، أو من المراعاة للشيء؛ قال: [الخفيف]
ويحتمل أن يكون وزنه» نَفْعَل «من رَتَعَ يَرْتَع: إذا أقام في خصب وسعة، ومنهُ قول الغضبان بن القبعثرى:» القَيْدُ والرَّتعة وقِلَّة المَنعَة «؛ وقال الشاعر: [الوافر]
قوله: ﴿وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾ جلمة حالية، والعاملُ فيها أحد شيئين: إمَّا الأمر، وإمَّا جوابه.
فإن قيل: هل يجوز أن تكون المسألة من الإعمال؛ لأن كلاًّ من العاملين يصح تسلُّطه على الحال؟.
فالجواب: لا يجُوز ذلك؛ لأنَّ الإمال يستلزم الإضمار، والحالُ لا تضمر؛ لأنَّها لا تكون إلا نكرةً، أو مؤولةً بها.
قوله: ﴿أَن تَذْهَبُواْ بِهِ﴾ فاعل: «يَحْزُنُنِي»، أي: يَحْزُننِي ذهابُكم، وفي هذه الآية دلالة على أنَّ المضارع المقترن بلام الابتداء لا يكون حالاً، والنُّحاة جعلوها من القرائن المخصصة للحال، ووجه الدلالة: أنَّ «أن تذْهَبُوا» مستقبل؛ لاقترانه بحرف الاستقبال، وهي وما في حيِّزها فاعل، فلو جعلنا «ليَحْزُنُنِي» حالاً، لزم سبق الفعل لفاعله، وهو
٣٠٥٩ - ويَوْمٍ شَهِدْنَا سَلِمياً وعَامِراً........................
ومن رفع الفعلين، جعلهما حالين، وتكون مقدَّرة، وأمَّا إثبات الياء في «نَرْتَعي» مع جزم «يَلْعَب» وهي قراءة قنبل، فقد تجرَّأ بعضُ النَّاس وردَّها.
وقال ابن عطيَّة: هي قراءة ضعيفةٌ لا تجوز إلا في الشِّعْر، وقيل: هي لغة من يجز بالحركة المقدَّرة، وأنشد:
٣٠٦٠ - ألَمْ يَأتِيكَ والأنْبَاءُ تَنْمِي.........................
وقد تقدَّمت هذه المسألة.
و «نَرْتَع» يحتمل أن يكون وزنه: «نَفْتَعِل من الرَّعْي وهي أكلُ المرعى؛ كما تقدَّم، ويكون على حذف مضاف، أي: نرتع مواشينا، أو من المراعاة للشيء؛ قال: [الخفيف]
٣٠٦١ - تَرْتعِي السَّفحَ فالكَثِيبَ فَذا قَارِ | فَروضَ القَطَا فَذاتَ الرِّئالِ |
٣٠٦٢ - أكُفْراً بَعْدَ ردِّ المَوْتِ عَنِّي | وبَعدَ عَطائِكَ المِائة الرِّتاعَا |
فإن قيل: هل يجوز أن تكون المسألة من الإعمال؛ لأن كلاًّ من العاملين يصح تسلُّطه على الحال؟.
فالجواب: لا يجُوز ذلك؛ لأنَّ الإمال يستلزم الإضمار، والحالُ لا تضمر؛ لأنَّها لا تكون إلا نكرةً، أو مؤولةً بها.
قوله: ﴿أَن تَذْهَبُواْ بِهِ﴾ فاعل: «يَحْزُنُنِي»، أي: يَحْزُننِي ذهابُكم، وفي هذه الآية دلالة على أنَّ المضارع المقترن بلام الابتداء لا يكون حالاً، والنُّحاة جعلوها من القرائن المخصصة للحال، ووجه الدلالة: أنَّ «أن تذْهَبُوا» مستقبل؛ لاقترانه بحرف الاستقبال، وهي وما في حيِّزها فاعل، فلو جعلنا «ليَحْزُنُنِي» حالاً، لزم سبق الفعل لفاعله، وهو
33
مُحل وأجيبَ عن ذلك بإنَّ الفاعل في الحَقيقَة مقدَّر، حذف هو وقام المضاف إليه مقامه، والتقدير: ليَحْزُوننِي توقع ذهابكم، وقرأ زيد بن علي وابن هرمز، وابن محيصن: «ليَحْزُنِّي» بالإدغام.
وقرأ زيد بن علي: «تُذْهِبُوا بِهِ» بضم التَّاء من «أذْهَبَ» وهو كقوله: ﴿تَنبُتُ بالدهن﴾ [المؤمنون: ٢٠] في قراءة من ضمَّ التَّاء، فتكون التاء زائدة أو حالية.
والذئبُ يُهْمز ولا يُهْمزُ، وبعدم الهمز قرأ السُّوسيُّ، والكسائيُّ، وورش، وفي الوقف لا يهمزه حمزة، قالوا وهو مشتقٌّ من: تَذاءَبتٍ الرِّيحُ إذَا هَبَّت من كُلِّ جهةٍ؛ لأنه يأتي كذلك، ويجمع على ذائب، وذُؤبان، وأذْؤبح قال: [الطويل]
وأرضٌ مذْأبة: كثيرة الذِّئاب، وذُؤابةٌ الشَّعر؛ لتحرُّكها، وتقلبها من ذلك.
وقوله: ﴿وَأَنْتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ﴾ : جملة حاليَّة، العامل فيها: «يَأكلهُ».
لما طلبوا منه إرسال يوسف عليه السلام معهم اعتذر إليهم بشيئين:
أحدهما: ليُبَيِّن لهم أنَّ ذهابهم به مما يُحزنُه؛ لأنه كان لا يصبر عنه ساعةً.
والثاني: خَوْفه عليه من الذِّب إذا غفلوا عنه برعهيم، أو لعبهم أو لقلة اهتامهم به.
فقيل: إنه رأى في النَّوم أن الذِّئب شدَّ على يوسف فكان يحذره، فألأجل هذا ذكر ذلك. وقيل: إن الذِّئاب كانت كثيرة في أرضهم، فلما قال بعقوب عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ هذا الكلام، أجابوه بقولهم: ﴿لَئِنْ أَكَلَهُ الذئب وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّآ إِذَاً لَّخَاسِرُونَ﴾ وفائدة اللام في «لَئِنْ» من وجهين:
أحدهما: أن كلمة «إنْ» تفيد كون الشِّرط مستلزماً للجزاء، أي: إن وقعت هذه الواقعة، فنحن خاسرون، فهذه اللام خلت؛ لتأكيد هذا الاستلزام.
والثاني: قال الزمخشري رَحِمَهُ اللَّهُ «هذه اللام تدلُّ على إضمار القسم، [تقديره:] والله لئن أكلهُ الذئب، لكنَّا خاسرين».
والواوُ في: «ونَحْنُ عُصْبَةٌ» واو الحال؛ فتكون الجملة من قوله: «وَنحْنُ عُصْبةٌ» : جملة حاليَّة. وقيل: معترضة، و ﴿إِنَّآ إِذَاً لَّخَاسِرُونَ﴾ جواب القسم، و «إذاً» : حرف
وقرأ زيد بن علي: «تُذْهِبُوا بِهِ» بضم التَّاء من «أذْهَبَ» وهو كقوله: ﴿تَنبُتُ بالدهن﴾ [المؤمنون: ٢٠] في قراءة من ضمَّ التَّاء، فتكون التاء زائدة أو حالية.
والذئبُ يُهْمز ولا يُهْمزُ، وبعدم الهمز قرأ السُّوسيُّ، والكسائيُّ، وورش، وفي الوقف لا يهمزه حمزة، قالوا وهو مشتقٌّ من: تَذاءَبتٍ الرِّيحُ إذَا هَبَّت من كُلِّ جهةٍ؛ لأنه يأتي كذلك، ويجمع على ذائب، وذُؤبان، وأذْؤبح قال: [الطويل]
٣٠٦٣ - وأزْوَرَ يَمْشِي في بلادٍ بَعيدَةٍ | تَعَاوَى بِهِ ذُؤبَانُهُ وثَعالِبُهْ |
وقوله: ﴿وَأَنْتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ﴾ : جملة حاليَّة، العامل فيها: «يَأكلهُ».
فصل
لما طلبوا منه إرسال يوسف عليه السلام معهم اعتذر إليهم بشيئين:
أحدهما: ليُبَيِّن لهم أنَّ ذهابهم به مما يُحزنُه؛ لأنه كان لا يصبر عنه ساعةً.
والثاني: خَوْفه عليه من الذِّب إذا غفلوا عنه برعهيم، أو لعبهم أو لقلة اهتامهم به.
فقيل: إنه رأى في النَّوم أن الذِّئب شدَّ على يوسف فكان يحذره، فألأجل هذا ذكر ذلك. وقيل: إن الذِّئاب كانت كثيرة في أرضهم، فلما قال بعقوب عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ هذا الكلام، أجابوه بقولهم: ﴿لَئِنْ أَكَلَهُ الذئب وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّآ إِذَاً لَّخَاسِرُونَ﴾ وفائدة اللام في «لَئِنْ» من وجهين:
أحدهما: أن كلمة «إنْ» تفيد كون الشِّرط مستلزماً للجزاء، أي: إن وقعت هذه الواقعة، فنحن خاسرون، فهذه اللام خلت؛ لتأكيد هذا الاستلزام.
والثاني: قال الزمخشري رَحِمَهُ اللَّهُ «هذه اللام تدلُّ على إضمار القسم، [تقديره:] والله لئن أكلهُ الذئب، لكنَّا خاسرين».
والواوُ في: «ونَحْنُ عُصْبَةٌ» واو الحال؛ فتكون الجملة من قوله: «وَنحْنُ عُصْبةٌ» : جملة حاليَّة. وقيل: معترضة، و ﴿إِنَّآ إِذَاً لَّخَاسِرُونَ﴾ جواب القسم، و «إذاً» : حرف
34
جواب، وحذف جوابُ الشرط، وقد تقدَّم الكلام فيه مشبعاً.
ونقل أبو البقاء: أنه قرىء «عُصْبَةً» بالنصب، وقدر ما تقدم في الآية الأولى. في المراد بقولهم: ﴿إِنَّآ إِذَاً لَّخَاسِرُونَ﴾ وجوه: الأول: [عاجزون] ضعفاء، نظيره قوله تعالى: ﴿وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَراً مِّثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذاً لَّخَاسِرُونَ﴾ [المؤمنون: ٣٤] أي: لعاجزون.
الثاني: أنهم يكونون مستحقِّين لأن يدعى عليهم بالخسارة والدَّمار، وأن يقال: أخسرهُم الله، ودمَّرهُم حين أكل الذِّئب أخاهُم وهم حاضرون عُصبةٌ: عشرةٌ تعصب بهم الأمُور، تكفي الخطوب بمثلهم.
الثالث: إذا لم نقدر على حفظ أخينا، فقد هلكت مواشينا، وخسرنا.
الرابع: أنَّهم كانوا قد أتبعوا أنفسهم في خدمة أبيهم، واجتهدوا في القيام بمهمَّاته، ليفوزوا منه بالدعاء والثناء، فقالوا: لو قصَّرنا في هذه الخدمة، فقد أحبطنا كل تلك الأعمال، وخسرنا كمل ما صدر منَّا من أنواع الخدمة.
فإن قيل: إنَّ يعقُوب عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ اعتذر بعذرين: شدة حبِّه، وأكل الذئب له، فلم أجابُوا عن أحدهما دون الآخر؟
فالجواب: أن حقدهم، وغيظهم كان بسبب المحبَّة، فتغافلوا عنه.
فصل
ونقل أبو البقاء: أنه قرىء «عُصْبَةً» بالنصب، وقدر ما تقدم في الآية الأولى. في المراد بقولهم: ﴿إِنَّآ إِذَاً لَّخَاسِرُونَ﴾ وجوه: الأول: [عاجزون] ضعفاء، نظيره قوله تعالى: ﴿وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَراً مِّثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذاً لَّخَاسِرُونَ﴾ [المؤمنون: ٣٤] أي: لعاجزون.
الثاني: أنهم يكونون مستحقِّين لأن يدعى عليهم بالخسارة والدَّمار، وأن يقال: أخسرهُم الله، ودمَّرهُم حين أكل الذِّئب أخاهُم وهم حاضرون عُصبةٌ: عشرةٌ تعصب بهم الأمُور، تكفي الخطوب بمثلهم.
الثالث: إذا لم نقدر على حفظ أخينا، فقد هلكت مواشينا، وخسرنا.
الرابع: أنَّهم كانوا قد أتبعوا أنفسهم في خدمة أبيهم، واجتهدوا في القيام بمهمَّاته، ليفوزوا منه بالدعاء والثناء، فقالوا: لو قصَّرنا في هذه الخدمة، فقد أحبطنا كل تلك الأعمال، وخسرنا كمل ما صدر منَّا من أنواع الخدمة.
فإن قيل: إنَّ يعقُوب عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ اعتذر بعذرين: شدة حبِّه، وأكل الذئب له، فلم أجابُوا عن أحدهما دون الآخر؟
فالجواب: أن حقدهم، وغيظهم كان بسبب المحبَّة، فتغافلوا عنه.
35
قوله :﴿ لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إلى أَبِينَا مِنَّا ﴾ اللام في " ليُوسفُ " : لام الابتداء أفادت توكيداً لمضمون الجملة، وأرادُوا أنَّ زيادة محبَّته لهما أمر ثابتٌ لا شبهة فيه " وأخُوهُ " ك هو بنيامين، وإنَّما قالوا :" وأخُوهُ " وهُمْ جَمِيعاً إخوة ؛ لأن أمُّهُمَا كانت واحدة، و " أحَبُّ " أفعل تفضيلن وهو مبنيٌّ من " حُبَّ " المبنيِّ للمفعُول، وهو شاذٌّ، وإذا بنيت أفعل التَّفضيل، من مادَّة الحُبِّ والبغضِ، تعدَّى إلى الفاعل المعنوي ب " إلى " وإلى المفعول المعنوي ب " اللام، أو ب " في " فإذا قلتَ : زيدٌ أحبُّ إِليَّ من بكرٍ، تعني : أنك تحبُّ زيداً أكثر من بكر، فالمُتكلِّم هو الفاعل، وكذلك :" هو أبغضُ إليَّ منْهُ " أنت المبغض، وإذا قلت : زيدٌ أحبُّ إليَّ من عمرو، أو أحَبُّ فيَّ مِنهُ، أي : إنَّ زيداً يُحِبُّني أكثر من عمْرِو ؛ قال امرؤ القيس :[ الطويل ]
وعلى هذا جاءت الآية الكريمة ؛ فإن الإب هو فاعل المحبَّة.
و " أحَبُّ " : خير المبتدأ، وإنَّما لم يطابق ؛ لما عرفت من حكم أفعل التَّفضيل.
وقيل : اللاَّم في :" ليُوسُفُ " : جواب القسم، تقديره : والله ليُوسف وأخُوه، والواوُ في :" ونَحْنُ عُصْبَةٌ " : للحال، فالجملة بعدها في محلِّ نصب على الحال، والعامة على رفع " عُصْبةٌ " خبراً ل " نَحْن ".
وقرأ أمير المؤمنين رضي الله عنه بنصبها على أنَّ الخبر محذوف، والتقدير : ونحن نرى أو نجتمع، فتكون " عُصْبَةٌ " حالاً، إلا أنَّه قليلٌ جدًّا ؛ وذلك لأنَّ الحال لا يسدُّ مسدَّ الخبر إلا بشُروطٍ ذكرها النُّحاة، نحو : ضربي زيداً قَائِماً، وأكثر شُربِي السُّويق مَلْتُوتاً.
قال ابن الأنباري :" هذا كما تقُولُ العربُ : إنَّمَا العَامريُّ عمَّتهُ، أي : يتعمم عِمَّته ".
قال أبو حيَّان :" وليس مثله ؛ لأن " عُصْبَةٌ " ليس بمصدر ولا هيئة، فالأجود أن يكون من باب : حُكمُكَ مُسمَّطاً ".
قال شهاب الدِّين :" ليس مراد ابن الأنباري إلاَّ التشبيه ؛ من حيث إنه حذف الخبر، وسدَّ شيءٌ آخر مسدَّه في غير المواضع المُنقَاس فيها ذلكن ولا نظر لكون المنصُوب مصدراً أو غيره ".
وقال المبرد : هو من باب :" حُكمُك مُسمًّطاً " أي : لك حكمك مسمَّطاً، قال الفرزدقُ :
قال : واستعمل هذا فكثُر حتى حذفَ استخفافاً ؛ لعلم ما يريد القائل ؛ كقولك : الهلال والله، أي : هذا الهلال، والمُسَمَّط : المرسل غير المردُودِ وقدره غير المبرِّد : حكمُك ثبت مُسمَّطاً، وفي هذا المثال نظر ؛ لأن النَّحويِّين يجعلُون من شرط سدِّ الحالِ مسدّ الخير : أن لا يصلُح جعل الحالِ خبراً لذلك المبتدأ، نحو : ضَرْبِي زيداً قائماً، بخلاف :" ضَرْبِي زيْداً شديدٌ " فإنَّها ترفع على الخبريَّة، وتخرُج المسألة من ذلك، وهذه الحال، أعني :" مُسَمَّطاً " يصلح جعلها خبراً للمبتدأ، إذ التقدير : حكم مرسل لا مردودٌ، فيكون هذا المثل على ما تقرَّر من كلامهم شاذًّا.
والعُصْبَة : ما زاد على العشرة، عن ابن عبَّاسٍ رضي الله عنهما ؛ وعنه : مابين العشرة إلى الأربعين.
وقيل : الثلاثة نفر، فإذا زادت على ذلك إلى تسعة ؛ فهو رهطٌ، فإذا بلغُوا العشرة فصاعداً، فعُصْبَة.
وقيل : مابين الواحد إلى العشرة.
وقيل : من عشرة إلى خمسة عشر.
وقيل : ستة. وقيل : سَبْعَة. والمادَّة تدلُّ على الإحاطة من العصابة ؛ لإحاطتها بالرَّأس.
بيَّنُوا السبب الذي لأجله قصدوا إيذاء يوسف : وهو أن يعقُوب عليه الصلاة والسلام كان يفضِّل يوسف وأخاه على سائر أولاده في الحبِّ، فتأذَّوا منه لوجوه :
أحدها : كانوا أكبر منه سنًّا.
وثانيها : أنَّهم كانوا أكثر قوَّة، وأكثر قياماً بمصالح الأب منهما.
وثالثها : أنَّهم القائمون بدفع المضار والآفات، والمشتغلُون بتحصيل المنافع والخيرات، وإذا كانُوا كذلك لا جرم قالوا :﴿ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ ﴾.
قال ابن الخطيب :" وها هنا سؤالات :
السؤال الأول : أن من المعلُوم أن تفضيل بعض الأولاد على بعض، يُورِث الحقد والحسد، وهما يورثان الآفات، فملا كان يعقُوب عليه الصلاة والسلام عالماً بذلك، فلم أقدم على التفضيل ؟ وأيضاً : فالأسنُّ، والأعلم، والأنفع مقدَّم، فلم قلب هذه القضية ؟.
فالجوابك أنَّه عليه الصلاة والسلام ما فضلهما على سائر أولاده إلا في المحبَّة، والمحبَّة ليست في وسع البشر، فكان معذُوراً فيه، ولا يلحقه بسبب ذلك لومٌ، قال عليه الصلاة والسلام :" اللَّهُمَّ هذا قسمِي فيمَا أملكُ، فلا تَلُمنِي فيمَا لا أمْلك " حين كان يحبُّ عائشة رضي الله عنها.
السؤال الثاني : أن أولاد يعقوب كانوا قد آمنوا بكونه رسُولاً حقًّا من عند الله، فكَيْفَ اعتَرضُوا ؟ وكيْفَ زَيَّفُوا طريقتهُ وطعنُوا في فعلِهِ ؟ وإن كانُوا مُكذِّبينِ بنُبوته، غير مقرِّين بكونه رسًُولاً حقًّا من عند الله، فهذا مُوجِبُ تكفيرهم ؟.
والجواب : أنَّهُم كانوا مُؤمِنين بنبوَّة أبيهم، مُقرين بكونه رسُولاً حقًّا من عند الله، إلاَّ أنَّهُم لعلَّهم جوَّزُوا من الأنبياء أن يفعلوا أفعالاً مخصوصة بمجرد اجتهادهم، ثم إنَّ الاجتهاد أدَّى إلى تخطئة أبيهم في ذلك الاجتهادح وذلك لأنَّهم كانوا يقولون : هما صبيان ما بلغا العقل الكامل، ونحن متقدِّمُون عليهما في السنِّ، والعقل، الكفاية، والمنفعة، وكثرة الخدمة، والقيام بالمهمات، فإصراره على تقديم يوسف علينا، يخالف هذا الدَّليل، وأما يعقُوب عليه الصلاة والسلام فلعله كان يقُول : زيادة المحبَّة ليست في الوسع والطَّاقة، فليس لله عليًّ فيه تكليفٌ، وأما تخصيصهما بمزيد البرِّ، فيحتمل أنه كان لوجوه :
أحدها : أن أمَّهُمَا ماتتْ وهم صغار.
وثانيهما : أنه كان يرى فيه من آثار الرُّشد، والنَّجابة ما لم يجدْ في سائر الأولاد، والحاصل : أن هذه المسألة كانت اجتهاديَّة، وكانت بميْل النَّفس، وموجبات الفطرة، فلا يلزم من وقوع الاختلاف فيها طعن أحد الخصمين في دين الآخرِ، أو في عرضه.
السؤال الثالث : أنهم نسبُوا أباهم إلى الضَّلال المبين، وذلك مبالغة في الذمِّ والطَّعن، ومن بالغ في الطَّعن في الرسُول كفر، لا سيَّما إذا كان الطّاعن ابناً ؛ فإن حقَّ الأبُوَّة يُوجِب مزِيد التَّعظِيم.
والجواب : المُراد من الضلال : غير رعاية مصالحِ الدِّين، لا البعد عن طريق الرُّشد، والصواب.
السؤال الرابع : أن قولهم :﴿ لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إلى أَبِينَا مِنَّا ﴾ محضُ الحسد، والحسد من أمهات الكبائر، لا سيَّما وقد أقدموا بسبب ذلك الحسد على تضييع ذلك الأخ الصالح، وإلقائه في ذلِّ العبوديَّة، وتبعيده عن الأب المشفقِ، والقوا أباهم في الحُزن الدائم، والأسف العظيم، وأقدموا على الكذب، وأتوا بهذه الخصالِ المذمُومَة وكل ذلك يقدح في العصمة.
والجواب : أن المعتبر عصمة الأنبياء في وقت حًصول النُّبوَّة، فأمَّا قبلها فذلك غير واجب ".
٣٠٥٠ لعَمْرِي لَسعْدٌ حَيْثُ حُلِّتْ دِيَارهُ | أحَبُّ إليْنَا مِنْكَ فافرَسٍ حَمِرْ |
و " أحَبُّ " : خير المبتدأ، وإنَّما لم يطابق ؛ لما عرفت من حكم أفعل التَّفضيل.
وقيل : اللاَّم في :" ليُوسُفُ " : جواب القسم، تقديره : والله ليُوسف وأخُوه، والواوُ في :" ونَحْنُ عُصْبَةٌ " : للحال، فالجملة بعدها في محلِّ نصب على الحال، والعامة على رفع " عُصْبةٌ " خبراً ل " نَحْن ".
وقرأ أمير المؤمنين رضي الله عنه بنصبها على أنَّ الخبر محذوف، والتقدير : ونحن نرى أو نجتمع، فتكون " عُصْبَةٌ " حالاً، إلا أنَّه قليلٌ جدًّا ؛ وذلك لأنَّ الحال لا يسدُّ مسدَّ الخبر إلا بشُروطٍ ذكرها النُّحاة، نحو : ضربي زيداً قَائِماً، وأكثر شُربِي السُّويق مَلْتُوتاً.
قال ابن الأنباري :" هذا كما تقُولُ العربُ : إنَّمَا العَامريُّ عمَّتهُ، أي : يتعمم عِمَّته ".
قال أبو حيَّان :" وليس مثله ؛ لأن " عُصْبَةٌ " ليس بمصدر ولا هيئة، فالأجود أن يكون من باب : حُكمُكَ مُسمَّطاً ".
قال شهاب الدِّين :" ليس مراد ابن الأنباري إلاَّ التشبيه ؛ من حيث إنه حذف الخبر، وسدَّ شيءٌ آخر مسدَّه في غير المواضع المُنقَاس فيها ذلكن ولا نظر لكون المنصُوب مصدراً أو غيره ".
وقال المبرد : هو من باب :" حُكمُك مُسمًّطاً " أي : لك حكمك مسمَّطاً، قال الفرزدقُ :
٣٠٥١ يا لهْذَمُ حُكْمُكَ مُسَمَّطاً | أراد لك حكمك مُسمَّطاً. |
والعُصْبَة : ما زاد على العشرة، عن ابن عبَّاسٍ رضي الله عنهما ؛ وعنه : مابين العشرة إلى الأربعين.
وقيل : الثلاثة نفر، فإذا زادت على ذلك إلى تسعة ؛ فهو رهطٌ، فإذا بلغُوا العشرة فصاعداً، فعُصْبَة.
وقيل : مابين الواحد إلى العشرة.
وقيل : من عشرة إلى خمسة عشر.
وقيل : ستة. وقيل : سَبْعَة. والمادَّة تدلُّ على الإحاطة من العصابة ؛ لإحاطتها بالرَّأس.
فصل
بيَّنُوا السبب الذي لأجله قصدوا إيذاء يوسف : وهو أن يعقُوب عليه الصلاة والسلام كان يفضِّل يوسف وأخاه على سائر أولاده في الحبِّ، فتأذَّوا منه لوجوه :
أحدها : كانوا أكبر منه سنًّا.
وثانيها : أنَّهم كانوا أكثر قوَّة، وأكثر قياماً بمصالح الأب منهما.
وثالثها : أنَّهم القائمون بدفع المضار والآفات، والمشتغلُون بتحصيل المنافع والخيرات، وإذا كانُوا كذلك لا جرم قالوا :﴿ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ ﴾.
قال ابن الخطيب :" وها هنا سؤالات :
السؤال الأول : أن من المعلُوم أن تفضيل بعض الأولاد على بعض، يُورِث الحقد والحسد، وهما يورثان الآفات، فملا كان يعقُوب عليه الصلاة والسلام عالماً بذلك، فلم أقدم على التفضيل ؟ وأيضاً : فالأسنُّ، والأعلم، والأنفع مقدَّم، فلم قلب هذه القضية ؟.
فالجوابك أنَّه عليه الصلاة والسلام ما فضلهما على سائر أولاده إلا في المحبَّة، والمحبَّة ليست في وسع البشر، فكان معذُوراً فيه، ولا يلحقه بسبب ذلك لومٌ، قال عليه الصلاة والسلام :" اللَّهُمَّ هذا قسمِي فيمَا أملكُ، فلا تَلُمنِي فيمَا لا أمْلك " حين كان يحبُّ عائشة رضي الله عنها.
السؤال الثاني : أن أولاد يعقوب كانوا قد آمنوا بكونه رسُولاً حقًّا من عند الله، فكَيْفَ اعتَرضُوا ؟ وكيْفَ زَيَّفُوا طريقتهُ وطعنُوا في فعلِهِ ؟ وإن كانُوا مُكذِّبينِ بنُبوته، غير مقرِّين بكونه رسًُولاً حقًّا من عند الله، فهذا مُوجِبُ تكفيرهم ؟.
والجواب : أنَّهُم كانوا مُؤمِنين بنبوَّة أبيهم، مُقرين بكونه رسُولاً حقًّا من عند الله، إلاَّ أنَّهُم لعلَّهم جوَّزُوا من الأنبياء أن يفعلوا أفعالاً مخصوصة بمجرد اجتهادهم، ثم إنَّ الاجتهاد أدَّى إلى تخطئة أبيهم في ذلك الاجتهادح وذلك لأنَّهم كانوا يقولون : هما صبيان ما بلغا العقل الكامل، ونحن متقدِّمُون عليهما في السنِّ، والعقل، الكفاية، والمنفعة، وكثرة الخدمة، والقيام بالمهمات، فإصراره على تقديم يوسف علينا، يخالف هذا الدَّليل، وأما يعقُوب عليه الصلاة والسلام فلعله كان يقُول : زيادة المحبَّة ليست في الوسع والطَّاقة، فليس لله عليًّ فيه تكليفٌ، وأما تخصيصهما بمزيد البرِّ، فيحتمل أنه كان لوجوه :
أحدها : أن أمَّهُمَا ماتتْ وهم صغار.
وثانيهما : أنه كان يرى فيه من آثار الرُّشد، والنَّجابة ما لم يجدْ في سائر الأولاد، والحاصل : أن هذه المسألة كانت اجتهاديَّة، وكانت بميْل النَّفس، وموجبات الفطرة، فلا يلزم من وقوع الاختلاف فيها طعن أحد الخصمين في دين الآخرِ، أو في عرضه.
السؤال الثالث : أنهم نسبُوا أباهم إلى الضَّلال المبين، وذلك مبالغة في الذمِّ والطَّعن، ومن بالغ في الطَّعن في الرسُول كفر، لا سيَّما إذا كان الطّاعن ابناً ؛ فإن حقَّ الأبُوَّة يُوجِب مزِيد التَّعظِيم.
والجواب : المُراد من الضلال : غير رعاية مصالحِ الدِّين، لا البعد عن طريق الرُّشد، والصواب.
السؤال الرابع : أن قولهم :﴿ لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إلى أَبِينَا مِنَّا ﴾ محضُ الحسد، والحسد من أمهات الكبائر، لا سيَّما وقد أقدموا بسبب ذلك الحسد على تضييع ذلك الأخ الصالح، وإلقائه في ذلِّ العبوديَّة، وتبعيده عن الأب المشفقِ، والقوا أباهم في الحُزن الدائم، والأسف العظيم، وأقدموا على الكذب، وأتوا بهذه الخصالِ المذمُومَة وكل ذلك يقدح في العصمة.
والجواب : أن المعتبر عصمة الأنبياء في وقت حًصول النُّبوَّة، فأمَّا قبلها فذلك غير واجب ".
﴿ اقتلوا يُوسُفَ أَوِ اطرحوه أَرْضاً ﴾ الآية.
في نصب " أرْضاً " ثلاثة أوجه :
أحدهاك أن تكون منصوبة على إسقاط الخافض تخفيفاً، أي : في أرض ؛ كقوله :﴿ لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ المستقيم ﴾ [ الأعراف : ١٦ ]، وقول الشاعر :[ الكامل ]
وإليه ذهب ابن عطيَّة.
قال النَّحاس :" إلا أنَّه في الآية حسن كثيراً ؛ لأنَّه يتعدى إلى مفعولين، أحدهما بالحرف، فإذا حذفت الحرف، تعدَّى الفعل إليه ".
والثاني : النصب على الظرفيَّة.
قال الزمخشريُّ :" أرْضاً منكُورة مجهولة بعيدة عن العمران، وهو معنى تنكيرها، وأخلائها من النَّاسِ ؛ ولإبهامِها من هذا الوجه، نُصِبت نصب الظُّروف المُبْهَمة ".
وردَّ ابن عطيَّة هذا الوجه فقال :" وذلك خطأ ؛ لأن الظَّرف ينبغي أن يكون مُبهماً، وهذه ليست كذلك، بل هي أرض مقيَّدة بأنَّها بعيدةٌ، أو قاصية أو نحو ذلك، فزال بذلك إبهامُهَا، ومعلُوم أن يوُسف لم يَخْل من الكون في أرض، فتبيَّن أنَّهم أرادُوا أرضاً بعيدة، غير التي هو فيها قريبة من أبيه ".
واسَتحْسَن أبو حيَّان هذا الرَّد، وقال :" وهذا الردُّ صحيحٌ، لو قلت :" جَلستُ داراً بعيدة، أوْ مكاناً بعيداً " لم يصحَّ إلا بواسطة في ولا يجوز حذفها، إلا في ضرورة شعرٍ، أو مع " دخلْت " على الخلاف في " دَخلت " أهي لازمة أم متعدِّية ".
وفي الكلامين نظر ؛ إذ الظَّرف المُبْهَم : عبارة عمَّا ليس له حُدُود تحصرهن ولا أقطار تحويه، و " أرضاً " في الآية الكريمة من هذا القبيل.
الثالث : أنها مفعول ثان، وذلك أن معنى :" اطْرحُوهُ " أنزلوه، و " أنزلوه " يتعدى لاثنين، قال تعالى :
﴿ أَنزِلْنِي مُنزَلاً مُّبَارَكاً ﴾ [ المؤمنين : ٢٩ ] وتقولن : أنزلت زيداً الدَّارَ. والطَّرح : الرَّميُ، ويعبرُ به عن الاقتحام في المخاوف ؛ قال عروة بن الوردِ :[ الطويل ]
والمعنى : اطرحُوه إلى أرض تبعُد من أبيه، وقي : في أرض تأكله السِّباعُ.
و " يَخْلُ لكُمْ " جوابٌ الأمر، وفيه الإظهار والإدغام، وتقدَّم تحقيقها عند قوله ﴿ وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإسلام دِيناً ﴾ [ آل عمران : ٨٥ ].
قوله :﴿ وَتَكُونُواْ ﴾ يجُوز أن يكُون مجزوماً نسقاً على ما قبله، أو منصوباً بإضمار " أن " بعد الواو في جواب لأمر.
اعلم : أنَّه لما قوي الحسد، وبلغ النِّهاية، قالوا : لا بُدَّ من تبعيد يُوسف من أبيه، وذلك لا يحصل إلا بأحد طريقين : القتل، أو التَّغريب، ثم ذكروا العلَّة فيه، وهي قوله :﴿ يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ ﴾ أي : أنَّ يوسف شغله عنَّا، وصرف وجهه إليه، فإذا فقده، أقبل علينا بالميل والمحبَّة، ﴿ وَتَكُونُواْ مِن بَعْدِهِ ﴾ أي : من بعد قتل يوسف، ﴿ قَوْماً صَالِحِينَ ﴾ : أي : نتُوب بعد قتلهِ.
وقيل : يصلُح شأنكم، تتفرغوا لإصلاح شأن أمَّهاتكُم، واختلفُوا في قائل هذا القول.
فقيل : شَاورُوا أجْنَبياً ؛ فأشار عليهم بقتله، ولم يقُل ذلك أحدٌ من إخوته.
وقيل : القائل بعض إخوته، واختلفوا فيه.
فقال وهب : شمعون، وقال كعب : دان، وقال مقاتل : رُوبيل.
فإن قيل : كيف يليق هذا بهم، وهم أنبياء ؟
فأجاب بعضهم : بأنَّهم كانوا في هذا الوقت مراهقين لم يبلُغوا، وهذا ضعيفٌ ؛ فإنه يبعد في مثل يعقُوب أن يبعث جماعة من الصِّبيان من غير أن يكون معهم قائمٌ عاقلٌ يمنعهم من القبائح.
وأيضا : فإنَّهم قالوا :﴿ وَتَكُونُواْ مِن بَعْدِهِ قَوْماً صَالِحِينَ ﴾ وهذا يدلُّ على أنَّهُم قب النبوَّة لا يكونوا صالحين، وذلك يُنَافِي كونهم من الصِّبيان، وأيضاً : قولهم :﴿ ياأبانا استغفر لَنَا ذُنُوبَنَآ إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ ﴾ [ يوسف : ٩٧ ] والصغير لا ذنب له.
فأجاب بعضهم : بأنَّ هذا من باب الصَّغائر، وهذا أيضاً ضعيفٌ ؛ لأن إيذاء الأبِ الذي هو نبيٌّ معصوم، والكيد معهُ، والسعي في إهلاك الأخ الصَّغير، فكل واحدٍ من ذلك من أمَّهات الكبائر، بل الجواب الصحيح : أنَّهم ما كانُوا أنبياء، وإن كانوا أنبياء، إلا أن هذه الواقعة أقدموا عليها قبل النبوة.
في نصب " أرْضاً " ثلاثة أوجه :
أحدهاك أن تكون منصوبة على إسقاط الخافض تخفيفاً، أي : في أرض ؛ كقوله :﴿ لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ المستقيم ﴾ [ الأعراف : ١٦ ]، وقول الشاعر :[ الكامل ]
٣٠٥٢ لَدْنٌ بِهَزِّ الكفِّ يَعْسِلُ مَتنُهُ | فِيهِ كَمَا عَسلَ الطَّريقَ الثَّعلبُ |
قال النَّحاس :" إلا أنَّه في الآية حسن كثيراً ؛ لأنَّه يتعدى إلى مفعولين، أحدهما بالحرف، فإذا حذفت الحرف، تعدَّى الفعل إليه ".
والثاني : النصب على الظرفيَّة.
قال الزمخشريُّ :" أرْضاً منكُورة مجهولة بعيدة عن العمران، وهو معنى تنكيرها، وأخلائها من النَّاسِ ؛ ولإبهامِها من هذا الوجه، نُصِبت نصب الظُّروف المُبْهَمة ".
وردَّ ابن عطيَّة هذا الوجه فقال :" وذلك خطأ ؛ لأن الظَّرف ينبغي أن يكون مُبهماً، وهذه ليست كذلك، بل هي أرض مقيَّدة بأنَّها بعيدةٌ، أو قاصية أو نحو ذلك، فزال بذلك إبهامُهَا، ومعلُوم أن يوُسف لم يَخْل من الكون في أرض، فتبيَّن أنَّهم أرادُوا أرضاً بعيدة، غير التي هو فيها قريبة من أبيه ".
واسَتحْسَن أبو حيَّان هذا الرَّد، وقال :" وهذا الردُّ صحيحٌ، لو قلت :" جَلستُ داراً بعيدة، أوْ مكاناً بعيداً " لم يصحَّ إلا بواسطة في ولا يجوز حذفها، إلا في ضرورة شعرٍ، أو مع " دخلْت " على الخلاف في " دَخلت " أهي لازمة أم متعدِّية ".
وفي الكلامين نظر ؛ إذ الظَّرف المُبْهَم : عبارة عمَّا ليس له حُدُود تحصرهن ولا أقطار تحويه، و " أرضاً " في الآية الكريمة من هذا القبيل.
الثالث : أنها مفعول ثان، وذلك أن معنى :" اطْرحُوهُ " أنزلوه، و " أنزلوه " يتعدى لاثنين، قال تعالى :
﴿ أَنزِلْنِي مُنزَلاً مُّبَارَكاً ﴾ [ المؤمنين : ٢٩ ] وتقولن : أنزلت زيداً الدَّارَ. والطَّرح : الرَّميُ، ويعبرُ به عن الاقتحام في المخاوف ؛ قال عروة بن الوردِ :[ الطويل ]
٣٠٥٣ ومَنْ يَكُ مِثْلِي ذا عِيالٍ ومُقْتِراً | مِنَ المَالِ يَطرَحْ نَفسَهُ كُلَّ مَطْرحِ |
و " يَخْلُ لكُمْ " جوابٌ الأمر، وفيه الإظهار والإدغام، وتقدَّم تحقيقها عند قوله ﴿ وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإسلام دِيناً ﴾ [ آل عمران : ٨٥ ].
قوله :﴿ وَتَكُونُواْ ﴾ يجُوز أن يكُون مجزوماً نسقاً على ما قبله، أو منصوباً بإضمار " أن " بعد الواو في جواب لأمر.
فصل
اعلم : أنَّه لما قوي الحسد، وبلغ النِّهاية، قالوا : لا بُدَّ من تبعيد يُوسف من أبيه، وذلك لا يحصل إلا بأحد طريقين : القتل، أو التَّغريب، ثم ذكروا العلَّة فيه، وهي قوله :﴿ يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ ﴾ أي : أنَّ يوسف شغله عنَّا، وصرف وجهه إليه، فإذا فقده، أقبل علينا بالميل والمحبَّة، ﴿ وَتَكُونُواْ مِن بَعْدِهِ ﴾ أي : من بعد قتل يوسف، ﴿ قَوْماً صَالِحِينَ ﴾ : أي : نتُوب بعد قتلهِ.
وقيل : يصلُح شأنكم، تتفرغوا لإصلاح شأن أمَّهاتكُم، واختلفُوا في قائل هذا القول.
فقيل : شَاورُوا أجْنَبياً ؛ فأشار عليهم بقتله، ولم يقُل ذلك أحدٌ من إخوته.
وقيل : القائل بعض إخوته، واختلفوا فيه.
فقال وهب : شمعون، وقال كعب : دان، وقال مقاتل : رُوبيل.
فإن قيل : كيف يليق هذا بهم، وهم أنبياء ؟
فأجاب بعضهم : بأنَّهم كانوا في هذا الوقت مراهقين لم يبلُغوا، وهذا ضعيفٌ ؛ فإنه يبعد في مثل يعقُوب أن يبعث جماعة من الصِّبيان من غير أن يكون معهم قائمٌ عاقلٌ يمنعهم من القبائح.
وأيضا : فإنَّهم قالوا :﴿ وَتَكُونُواْ مِن بَعْدِهِ قَوْماً صَالِحِينَ ﴾ وهذا يدلُّ على أنَّهُم قب النبوَّة لا يكونوا صالحين، وذلك يُنَافِي كونهم من الصِّبيان، وأيضاً : قولهم :﴿ ياأبانا استغفر لَنَا ذُنُوبَنَآ إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ ﴾ [ يوسف : ٩٧ ] والصغير لا ذنب له.
فأجاب بعضهم : بأنَّ هذا من باب الصَّغائر، وهذا أيضاً ضعيفٌ ؛ لأن إيذاء الأبِ الذي هو نبيٌّ معصوم، والكيد معهُ، والسعي في إهلاك الأخ الصَّغير، فكل واحدٍ من ذلك من أمَّهات الكبائر، بل الجواب الصحيح : أنَّهم ما كانُوا أنبياء، وإن كانوا أنبياء، إلا أن هذه الواقعة أقدموا عليها قبل النبوة.
ثم إنَّ قائلاً منهم قال :﴿ لاَ تَقْتُلُواْ يُوسُفَ ﴾.
قيل : إنه رُوبيل، وكان ابن خالة يُوسُف، وكان أحسنُهم رأياً فيه ؛ فمنعهم من قتله، وقيل : يهُوذا، وكان أقدمهم في الرَّأي والفضلِ، والسِّنِّ، وهو الصحيح.
قوله :" فِي غَيَابَةِ " قرأ نافع :" غَيابَات " بالجمع في الحرفين من هذه السُّورة، جعل ذلك المكان أجزاء، وسمَّى لك جزءٍ غيابة ؛ لأن للجُبِّ أقطاراً ونواحِي، فيكون فيها غيابات، والباقون : بالإفراد ؛ لأن المقصُود : موضع واحد من الجُبِّ يغيب فيه يوسف، وابن هُرْمز كنافع، إلا أنَّه شدَّد الياء، والأظهر في ههذه القراءة : أن يكُون سُمِّي باسم الفاعل الذي للمبالغة، فهو وصف في الأصل، وألحقه الفارسي بالاسم الجائي على فعَّال، نحو ما ذكره سيبويه من الفيَّاد قال ابن جني :" ووجدت من ذلك الفخَّار : للخَزَف ".
وقال صاحب اللَّوامح :" يجوز أن يكو على " فعَّالات " كحمَّامات، ويجوز أن يكون على " فيْعَالات "، كشَيْطَانَات، جمع شَيْطَانَه، وكلٌّ للمبالغة ".
وقرأ الحسن :" في غَيَبةِ " بفتح الياء، وفيه احتمالان :
أحدهما : أن يكون في الأصل مصدراً ؛ كالغلبة.
والثاني : أن يكون جمع غائب، نحو : صَانِع وصنَعَة.
قال أبو حيَّانك " وفي حرف أبيَّ :" في غيْبَةِ " بسكون الياء، وهي ظلمة الرَّكيَّة ".
قال شهاب الدين :" والضبط أمر حادثٌ، فكيف يعرفُ ذلك من المصحف، وتقدَّم نحو ذلك، والغيابة، قال الهروي : شبه لجف أو طاقٍ في البئر فُويْق الماء يغيب ما فيه عن العُيُون ".
وقال الكلبيُّ :" الغيابة تكون في قَعْر الجُبِّ ؛ لأَنَّ اسفله واسعٌ، ورأسه ضيِّق، فلا يكاد النَّاظر يرى ما في جوانبه ".
وقال الزمخشري :" هي غورة، وما غب منه عن عين النَّاظر، وأظلم من أسفله ".
قال المنخل :[ الطويل ]
٣٠٥٤ فإنْ أنَا يَوْماً غَيَّبَتْنِي غَيَابَتِي *** فَسِيرُوا بسَيرِي في العَشِيرةِ والأهْلِ
أراد : غيابة حُفرته التي يدفن فيها، والجبُّ : البشر الذي لم تُطْوَ، وسمِّي بذلك : إما لكونه مَحْفُوراً في جبُوب الأرض، أي : ما غلظ منها ؛ وإما لأنه قطعَ في الأرضِ والجبُّ : القطعُ، ومنه : الجبُّ في الذَّكر ؛ قال الأعشى :[ الطويل ]
٣٠٥٥ لَئِنْ كُنْتَ في جُبِّ ثَمانِينَ قَامَةً *** ورُقِّيتَ أسْبَابَ السَّماءِ بسُلَّمِ
ويجمع على جُنُبٍ، وجِبَاب، وأجْبَاب.
والألف واللام في " الجُبِّ " تقتضي المعهُود السَّابق، واختلفوا فيه :
فقال قتادة : هو جُبُّ بئر بيت المقدِس، وقيل : بأرض الأرْدُن.
وقال مقاتل : هو على ثلاثة فراسِخ من منْزِل يعقُوب، وإنَّما عيَّنوا ذلك الجُبَّ ؛ للعلَّة التي ذكروها، وهي قوله :" يَلتَقطهُ بَعْضُ السَّيارةِ " لأن تلك البِئْر كانت معروفة يَردُونَ عليها كثيراً، وكانوا يعلمُون أنَّه إذا طُرِحَ فيها، كان إلى السَّلامة أقْرب ؛ لأن السيارة إذا ورَدُوهَا، شاهدوا ذلك الإنسان فيهن فيخرجوه، ويذهبوا به فكان إلقاءه فيها أبعد عن الهلاك.
قوله " يَلتَقِطْهُ " قرأ العامَّةك " يَلْتَقِطْهُ " بالياء من تحت، وهو الأصلُ وقرأ الحسن، ومجاهد، وأبو رجاء، وقتادة : بالتَّاء من فوقح للتَّأنيثِ المعنويِّن والإضافة إلى مؤنَّث، وقالوا : قُطِعَت بعضُ أصَابعه.
قال الشَّاعر :[ الوافر ]
٣٠٥٦ إذَا بَعْضُ السِّنينَ تَعرَّقَتْنَا *** كَفَى الأيْتامَ فقدَ أبِي اليَتِيمِ
وتقدَّم الكلام بأوسع من هذا في الأنعام والأعراف [ الأنعام : ١٦٠ الأعرافَ : ٥٦ ].
والإلتِقَاط : تناول الشيء المطروح، ومنه : اللُّقطَة واللَّقِيط ؛ قال الشاعر :[ الرجز ]
٣٠٥٧ ومَنْهَلٍ ورَدْتهُ التِقَاطَا ***. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
قال ابن عرفة : الالتقاط وجود الشيء على غير طلب، ومنه قوله تعالى ﴿ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السيارة ﴾ أي : يجده من غير أن يحتسب.
اختلفوا في الملقوط فقيل : إن أصله الحرية ؛ لغلبة الأحرار على العبيد، وروي الحسين بن علي رضي الله عنهما قضى بأن اللقيط حُرٌّ، وتلا قوله تعالى :﴿ وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ ﴾ [ يوسف : ٢٠ ] وهذا قوله عمر بن الخطاب رضي الله عنه ويروى عن علي وجماعته، وقال إبراهيم النخعي : إن نوى رقه فهو مملوك، وإن نوى الاحتساب فهو حر.
والسيَّارة : جمع سيَّار، وهو مثال مبالغة، وهُمُ الجماعة الذين يسيرون في الطريق للسَّفَر، وقال ابن عبَّاسٍ رضي الله عنهما : يريد : المارَّة، ومفعول " فَاعِلينَ " محذُوف، أي : فاعلين ما يحصل به غرضكم. وهذا إشارة إلى أن الأولى : أن لا تفعلوا شيئاً من ذلك، وأما إن كان ولا بد، فاقتصروا على هذا القدر، ونظيره قوله تعالى :﴿ وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ ﴾ [ النحل : ١٢٦ ] يعني : الأولى ألاَّ تفعلوا ذلك.
قيل : إنه رُوبيل، وكان ابن خالة يُوسُف، وكان أحسنُهم رأياً فيه ؛ فمنعهم من قتله، وقيل : يهُوذا، وكان أقدمهم في الرَّأي والفضلِ، والسِّنِّ، وهو الصحيح.
قوله :" فِي غَيَابَةِ " قرأ نافع :" غَيابَات " بالجمع في الحرفين من هذه السُّورة، جعل ذلك المكان أجزاء، وسمَّى لك جزءٍ غيابة ؛ لأن للجُبِّ أقطاراً ونواحِي، فيكون فيها غيابات، والباقون : بالإفراد ؛ لأن المقصُود : موضع واحد من الجُبِّ يغيب فيه يوسف، وابن هُرْمز كنافع، إلا أنَّه شدَّد الياء، والأظهر في ههذه القراءة : أن يكُون سُمِّي باسم الفاعل الذي للمبالغة، فهو وصف في الأصل، وألحقه الفارسي بالاسم الجائي على فعَّال، نحو ما ذكره سيبويه من الفيَّاد قال ابن جني :" ووجدت من ذلك الفخَّار : للخَزَف ".
وقال صاحب اللَّوامح :" يجوز أن يكو على " فعَّالات " كحمَّامات، ويجوز أن يكون على " فيْعَالات "، كشَيْطَانَات، جمع شَيْطَانَه، وكلٌّ للمبالغة ".
وقرأ الحسن :" في غَيَبةِ " بفتح الياء، وفيه احتمالان :
أحدهما : أن يكون في الأصل مصدراً ؛ كالغلبة.
والثاني : أن يكون جمع غائب، نحو : صَانِع وصنَعَة.
قال أبو حيَّانك " وفي حرف أبيَّ :" في غيْبَةِ " بسكون الياء، وهي ظلمة الرَّكيَّة ".
قال شهاب الدين :" والضبط أمر حادثٌ، فكيف يعرفُ ذلك من المصحف، وتقدَّم نحو ذلك، والغيابة، قال الهروي : شبه لجف أو طاقٍ في البئر فُويْق الماء يغيب ما فيه عن العُيُون ".
وقال الكلبيُّ :" الغيابة تكون في قَعْر الجُبِّ ؛ لأَنَّ اسفله واسعٌ، ورأسه ضيِّق، فلا يكاد النَّاظر يرى ما في جوانبه ".
وقال الزمخشري :" هي غورة، وما غب منه عن عين النَّاظر، وأظلم من أسفله ".
قال المنخل :[ الطويل ]
٣٠٥٤ فإنْ أنَا يَوْماً غَيَّبَتْنِي غَيَابَتِي *** فَسِيرُوا بسَيرِي في العَشِيرةِ والأهْلِ
أراد : غيابة حُفرته التي يدفن فيها، والجبُّ : البشر الذي لم تُطْوَ، وسمِّي بذلك : إما لكونه مَحْفُوراً في جبُوب الأرض، أي : ما غلظ منها ؛ وإما لأنه قطعَ في الأرضِ والجبُّ : القطعُ، ومنه : الجبُّ في الذَّكر ؛ قال الأعشى :[ الطويل ]
٣٠٥٥ لَئِنْ كُنْتَ في جُبِّ ثَمانِينَ قَامَةً *** ورُقِّيتَ أسْبَابَ السَّماءِ بسُلَّمِ
ويجمع على جُنُبٍ، وجِبَاب، وأجْبَاب.
فصل
والألف واللام في " الجُبِّ " تقتضي المعهُود السَّابق، واختلفوا فيه :
فقال قتادة : هو جُبُّ بئر بيت المقدِس، وقيل : بأرض الأرْدُن.
وقال مقاتل : هو على ثلاثة فراسِخ من منْزِل يعقُوب، وإنَّما عيَّنوا ذلك الجُبَّ ؛ للعلَّة التي ذكروها، وهي قوله :" يَلتَقطهُ بَعْضُ السَّيارةِ " لأن تلك البِئْر كانت معروفة يَردُونَ عليها كثيراً، وكانوا يعلمُون أنَّه إذا طُرِحَ فيها، كان إلى السَّلامة أقْرب ؛ لأن السيارة إذا ورَدُوهَا، شاهدوا ذلك الإنسان فيهن فيخرجوه، ويذهبوا به فكان إلقاءه فيها أبعد عن الهلاك.
قوله " يَلتَقِطْهُ " قرأ العامَّةك " يَلْتَقِطْهُ " بالياء من تحت، وهو الأصلُ وقرأ الحسن، ومجاهد، وأبو رجاء، وقتادة : بالتَّاء من فوقح للتَّأنيثِ المعنويِّن والإضافة إلى مؤنَّث، وقالوا : قُطِعَت بعضُ أصَابعه.
قال الشَّاعر :[ الوافر ]
٣٠٥٦ إذَا بَعْضُ السِّنينَ تَعرَّقَتْنَا *** كَفَى الأيْتامَ فقدَ أبِي اليَتِيمِ
وتقدَّم الكلام بأوسع من هذا في الأنعام والأعراف [ الأنعام : ١٦٠ الأعرافَ : ٥٦ ].
والإلتِقَاط : تناول الشيء المطروح، ومنه : اللُّقطَة واللَّقِيط ؛ قال الشاعر :[ الرجز ]
٣٠٥٧ ومَنْهَلٍ ورَدْتهُ التِقَاطَا ***. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
قال ابن عرفة : الالتقاط وجود الشيء على غير طلب، ومنه قوله تعالى ﴿ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السيارة ﴾ أي : يجده من غير أن يحتسب.
فصل
اختلفوا في الملقوط فقيل : إن أصله الحرية ؛ لغلبة الأحرار على العبيد، وروي الحسين بن علي رضي الله عنهما قضى بأن اللقيط حُرٌّ، وتلا قوله تعالى :﴿ وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ ﴾ [ يوسف : ٢٠ ] وهذا قوله عمر بن الخطاب رضي الله عنه ويروى عن علي وجماعته، وقال إبراهيم النخعي : إن نوى رقه فهو مملوك، وإن نوى الاحتساب فهو حر.
فصل
والسيَّارة : جمع سيَّار، وهو مثال مبالغة، وهُمُ الجماعة الذين يسيرون في الطريق للسَّفَر، وقال ابن عبَّاسٍ رضي الله عنهما : يريد : المارَّة، ومفعول " فَاعِلينَ " محذُوف، أي : فاعلين ما يحصل به غرضكم. وهذا إشارة إلى أن الأولى : أن لا تفعلوا شيئاً من ذلك، وأما إن كان ولا بد، فاقتصروا على هذا القدر، ونظيره قوله تعالى :﴿ وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ ﴾ [ النحل : ١٢٦ ] يعني : الأولى ألاَّ تفعلوا ذلك.
قوله تعالى :﴿ قَالُواْ يَأَبَانَا مَا لَكَ لاَ تَأْمَنَّا على يُوسُفَ ﴾ الآية.
" تَأمَنَّا " حال وتقدَّم نظيره، وقرأ العامَّة : تأمنَّا بالإخفاء، وهو عبارة عن تضعيف الصَّوت بالحركة، والفصل بين النُّونين ؛ لا لأن النون تسكن رأساً ؛ فيكون ذلك إخفاءً، لا إدغاماً.
قال الدَّاني :" وهو قول عامَّة أئِمَّتنا، وهو الصواب ؛ لتأكيد دلالته وصحَّته في القياس ".
وقرأ بعضهم ذلك : بالإشمام وهو عبارة عن ضمِّ الشفتين، إشارة إلى حركة الفعل مع الإدغام الصَّريح، كما يشير إليها الواقف، وفيه عسر كثير، قالوا : وتكون الإشارة إلى الضمة بعد الإدغام، أو قبل كماله، والإشمام يقع بإزاء معانٍ هذا من جملتها.
ومنها :[ إشراب ] الكسرة شيئاً من الضمِّ [ نحو قيل، ﴿ وَغِيضَ ﴾ [ هود : ٤٤ ] وبابه، وقد تقدم في أول سورة البقرة ].
ومنها إشمام أحد الحرفين شيئاً من الآخر ؛ كإشمام الصاد زاياً في ﴿ الصراط ﴾ [ الفاتحة : ٦ ]، ﴿ وَمَنْ أَصْدَقُ ﴾ [ النساء : ٨٧، ١٢٢ ] وبابهما، وقد تقدم في الفاتحة، والنساء، فهذا خلط حرف بحرف، كما أن ماقبلهُ خلطُ حركة بحركةٍ.
ومنها : الإشارة إلى الضَّمَّة في الوقف خاصَّة، وإنما يراه البصير دُون الأعمى، وقرأ أبو جعفر : الإدغام الصَّريح من غير إشمام، وقرأ الحسن ذلك : بالإظهار مبالغة في بيان إعراب الفعل. وللمحافظة على حركة الإعراب، اتَّفق الجمهُور على الإخفاء، أو الإشمام، كما تقدَّم تحقيقه.
وقرأ ابن هرمز :" لا تَأمُنَّا " بضم الميم، نقل حركة النُّون الأولى عند إرادة إداغمها، بعد سلب الميم حركتها، وخط المصحف بنون واحدة، ففي قراءة الحسن مخالفة لها. وقرأ أبو رزين، وابن وثَّابٍ :" لا تِيْمَنًّا " بكسر حرف المضارعة، إلا أنَّ ابن وثَّاب سهَّل الهمزة.
قال ابو حيَّانك " ومجيئُه بعد " مَا لَكَ " والمعنى : يرشد إلى أنَّه نفيٌ لا نهي، وليس كقولهم :" ما أحْسَنًّا " في التعجُّبح لأنه لو أدغم، لالتبس التَّعجب بالنَّفْي ".
قال شهاب الدِّين : وما أبْعَد هذا عن توهُّم النَّهي، حتى ينُصَّ عليه بقوله :" لالتبس بالنَّفْي الصحيح ".
هذا الكلام يدلُّ على أن يعقوب عليه الصلاة والسلام كان يخافُهم على يُوسف، ولولا ذلك، لما قالوا هذا القول.
واعلم : أنَّهم لما أحكمُوا العزم، أظهروا عند أبيهم أنَّهم في غاية المحبَّة ليوسُف، ونهاية الشفقة عليه، كانت عادتهم أن يغيبُوا عنه مُدَّة إلى الرَّعين فسألوه إرساله معهم، كان يعقُوب عليه الصلاة والسلام يحب تطيب قلب يوسف، فاغترَّ بقولهم، وأرسلهُ معهم حين قالوا له :﴿ وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ ﴾ والنُّصْح هنا : القيام بالمصلحة.
وقيل : البرُّ والعطف، أي : عَاطِفُون عليه قَائِمُون بمصلحته، نحفظه حتَّى نردهُ إليك.
قيل للحسن : أيَحْسُد المُؤمن ؟ قال : ما أنْسَاك ببَنِي يعقوب، ولهذا قيل : الأب جلاَّبٌ، والأخ سَلاَّب، وعند ذلك أجمعوا عل التًَّفريق بينه وبين ولده بضرب من الاحتيال، وقالوا ليعقوب عليه الصلاة والسلام ﴿ مَا لَكَ لاَ تَأْمَنَّا على يُوسُفَ ﴾.
وقيل : لما تفاوضوا وافترقوا على راي المتكلِّم الثاني، عادوا إلى يعقوب عليه الصلاة والسلام وقالوا هذا القول، إذ فيه دليلٌ على أنَّهُم سألوه قبل ذلك أن يخرج معهم يوسف، فأبى.
" تَأمَنَّا " حال وتقدَّم نظيره، وقرأ العامَّة : تأمنَّا بالإخفاء، وهو عبارة عن تضعيف الصَّوت بالحركة، والفصل بين النُّونين ؛ لا لأن النون تسكن رأساً ؛ فيكون ذلك إخفاءً، لا إدغاماً.
قال الدَّاني :" وهو قول عامَّة أئِمَّتنا، وهو الصواب ؛ لتأكيد دلالته وصحَّته في القياس ".
وقرأ بعضهم ذلك : بالإشمام وهو عبارة عن ضمِّ الشفتين، إشارة إلى حركة الفعل مع الإدغام الصَّريح، كما يشير إليها الواقف، وفيه عسر كثير، قالوا : وتكون الإشارة إلى الضمة بعد الإدغام، أو قبل كماله، والإشمام يقع بإزاء معانٍ هذا من جملتها.
ومنها :[ إشراب ] الكسرة شيئاً من الضمِّ [ نحو قيل، ﴿ وَغِيضَ ﴾ [ هود : ٤٤ ] وبابه، وقد تقدم في أول سورة البقرة ].
ومنها إشمام أحد الحرفين شيئاً من الآخر ؛ كإشمام الصاد زاياً في ﴿ الصراط ﴾ [ الفاتحة : ٦ ]، ﴿ وَمَنْ أَصْدَقُ ﴾ [ النساء : ٨٧، ١٢٢ ] وبابهما، وقد تقدم في الفاتحة، والنساء، فهذا خلط حرف بحرف، كما أن ماقبلهُ خلطُ حركة بحركةٍ.
ومنها : الإشارة إلى الضَّمَّة في الوقف خاصَّة، وإنما يراه البصير دُون الأعمى، وقرأ أبو جعفر : الإدغام الصَّريح من غير إشمام، وقرأ الحسن ذلك : بالإظهار مبالغة في بيان إعراب الفعل. وللمحافظة على حركة الإعراب، اتَّفق الجمهُور على الإخفاء، أو الإشمام، كما تقدَّم تحقيقه.
وقرأ ابن هرمز :" لا تَأمُنَّا " بضم الميم، نقل حركة النُّون الأولى عند إرادة إداغمها، بعد سلب الميم حركتها، وخط المصحف بنون واحدة، ففي قراءة الحسن مخالفة لها. وقرأ أبو رزين، وابن وثَّابٍ :" لا تِيْمَنًّا " بكسر حرف المضارعة، إلا أنَّ ابن وثَّاب سهَّل الهمزة.
قال ابو حيَّانك " ومجيئُه بعد " مَا لَكَ " والمعنى : يرشد إلى أنَّه نفيٌ لا نهي، وليس كقولهم :" ما أحْسَنًّا " في التعجُّبح لأنه لو أدغم، لالتبس التَّعجب بالنَّفْي ".
قال شهاب الدِّين : وما أبْعَد هذا عن توهُّم النَّهي، حتى ينُصَّ عليه بقوله :" لالتبس بالنَّفْي الصحيح ".
فصل
هذا الكلام يدلُّ على أن يعقوب عليه الصلاة والسلام كان يخافُهم على يُوسف، ولولا ذلك، لما قالوا هذا القول.
واعلم : أنَّهم لما أحكمُوا العزم، أظهروا عند أبيهم أنَّهم في غاية المحبَّة ليوسُف، ونهاية الشفقة عليه، كانت عادتهم أن يغيبُوا عنه مُدَّة إلى الرَّعين فسألوه إرساله معهم، كان يعقُوب عليه الصلاة والسلام يحب تطيب قلب يوسف، فاغترَّ بقولهم، وأرسلهُ معهم حين قالوا له :﴿ وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ ﴾ والنُّصْح هنا : القيام بالمصلحة.
وقيل : البرُّ والعطف، أي : عَاطِفُون عليه قَائِمُون بمصلحته، نحفظه حتَّى نردهُ إليك.
قيل للحسن : أيَحْسُد المُؤمن ؟ قال : ما أنْسَاك ببَنِي يعقوب، ولهذا قيل : الأب جلاَّبٌ، والأخ سَلاَّب، وعند ذلك أجمعوا عل التًَّفريق بينه وبين ولده بضرب من الاحتيال، وقالوا ليعقوب عليه الصلاة والسلام ﴿ مَا لَكَ لاَ تَأْمَنَّا على يُوسُفَ ﴾.
وقيل : لما تفاوضوا وافترقوا على راي المتكلِّم الثاني، عادوا إلى يعقوب عليه الصلاة والسلام وقالوا هذا القول، إذ فيه دليلٌ على أنَّهُم سألوه قبل ذلك أن يخرج معهم يوسف، فأبى.
قوله :﴿ أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَداً يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ ﴾ في :" يرْتَعْ ويَلعَبْ " أربع عشرة قراءة :
أحدها : قراءة نافع : بالياء من تحت، وكسر العين.
الثانية : قراءة البزِّي، عن ابن كثيرٍ :" نَرْتَعِ ونلعب " بالنُّون وكسر العين.
الثالثة : قراءة قنبل، وقد اختلف عليه، فنقل عه ثُبُوت الياء بعد العين وصلاً ووقفاً، وحذفها وصلاً ووقفاً، فيوافق البزِّي في أحد الوجهين عنه، فعنه قراءتان.
الخامسة : قراءة أبي عمرو، وابن عامر :" نَرتَعْ ونَلعَبْ " بالنُّون، وسكون العين، والباء.
السادسة : قراءة الكوفيين :" يَرْتَعْ ويَلعبْ " بالياء من تحت وسكون العين والباءِ.
وقرأ جعفر بن محمد :" نَرْتَعْ " بالنُّون، " ويَلْعَبْ " بالياء، ورُويت عن ابن كثيرٍ.
وقرأ العلاء بن سيابة :" يَرْتَعِ ويَلْعَبُ " بالياء فيهما، وكسر العين وضمّ الباء.
وقرأ أبو رجاء كذلك، إلا أنَّه بالياء من تحت فيهما.
والنخعي ويعقوبك " نَرْتَع " بالنون، " ويَلْعَب " بالياء.
وقرأ مجاهدٌ، وقتادةُ، وابن محيصِن :" يَرْتَعْ ويَلْعَب " بالياء، والفعلان في هذه القراءات كلها مبنيان للفاعل.
وقرأ زيد بن علي :" يُرْتَع ويُلْعَب " بالياء من تحت فيهما مبنيين للمعفول.
وقرىء :" نَرْتَعِي ونَلْعَبُ " بثبوت الياء، ورفع الباء.
وقرأ ابن أبي عبلة :" نَرْعَى ونَلْعَب ".
فهذه اربع عشرة قراءة منها ستٌّ في السَّبع المتواتر وثمان في الشواذٍّ.
فمن قرأ بالنُّون، فقد أسند الفعل إلى إخوة يوسف.
سُئل أبو عمرو بن العلاء : كيف قالوا : نلعب وهم أنبياء ؟ قال : كان ذلك قبل أن يُنَبِّئهُم الله عزَّ وجلَّ.
قال ابن الأعرابي : الرَّتْع : الأكل بشدة، وقيل : إنه الخَصْبُ.
وقيل : المراد من اللَّعب : الإقدام على المُباحات، وهذا يوصف به الإنسان، كما رُوِي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لجابر :" هَلاَّ بِكْراً تُلاعِبُهَا وتُلاعِبُك ".
وقيل : كان لعبهم الاستباق، والغرض منه : تعليم المحاربة، والمقاتلة مع الكُفَّار، ويدلُّ عليه قولهم :" إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتبِقُ " وإنما سمَّوه لعباً ؛ لأنه في صُورة اللَّعِب.
وأما من قرأ بالياءِ، فقد أسند الفعل إليه دونهم، فالمعنى : أنه يبصر رَعْي الإبلِ ؛ لتيدرَّب بذلك، فمرَّة يرتع، ومرَّة يلعب ؛ كفعل الصِّبيان.
ومن كسر العين، اعتقد أنه جزم بحذف حرف العلَّة، وجعلهُ مأخُوذاً من يفتعِل من الرَّعي ؛ كيَرْتَمِي من الرَّمْي، ومن سكن العين، واعتقد أنه جزم بحذق الحركة، وجعلهُ مأخوذاً من : رَتَعَ يَرْتَعُ، إذا اتَّسع في الخِصْب قال :
٣٠٥٨. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . *** وإذَا يَحْلُولَهُ الحِمَى رَتَعْ
ومن سكَّن الباء جعلهُ مَجزُوماً، ومن رفعها، جعله مرفوعاً على الاستئناف، أي : وهو يلعبُ، ومن غاير بين الفعلين، فقرأ بالباء من تحت في " يَلْعَب " دون " نَرْتَع " ؛ فلأن رَعْياً، إذا أكلته فالارتعاء للمواشِي، وأضافوه إلى أنفسهم ؛ لأنه السَّبب، والمعنى : نرتع إبلنا، فنسبُوا الارتعاء والقيام بحفظ المال إلى أنفسهم ؛ لأنهم بالغون.
ومن قرأ :" نُرْتع " رُباعياً، جعل مفعُوله محذوفاً، أي : يَرْعى مَواشينا، ومن بناها للمفعول، فالوجه : أنه أضمر المفعُول الذي لم يُسمَّ فاعله، وهو ضمير الغدِ، والأصل :
نُرْتَع فيه، ونُلعَبُ فيه، ثم اتسع فيه ؛ فحذف حرف الجرِّ، فتعدى إليه الفعل بنفسه، فصار نُرْتعه ونَلْعَبُه، فلما بناهُ للمفعول، قام الضمير المنصُوب مقام فاعله، فانقلب مرفوعاً فاستتر في رافعه، فهو في الاتِّساع كقوله :[ الطويل ]
٣٠٥٩ ويَوْمٍ شَهِدْنَا سَلِمياً وعَامِراً ***. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ومن رفع الفعلين، جعلهما حالين، وتكون مقدَّرة، وأمَّا إثبات الياء في " نَرْتَعي " مع جزم " يَلْعَب " وهي قراءة قنبل، فقد تجرَّأ بعضُ النَّاس وردَّها.
وقال ابن عطيَّة : هي قراءة ضعيفةٌ لا تجوز إلا في الشِّعْر، وقيل : هي لغة من يجز بالحركة المقدَّرة، وأنشد :
٣٠٦٠ ألَمْ يَأتِيكَ والأنْبَاءُ تَنْمِي ***. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وقد تقدَّمت هذه المسألة.
و " نَرْتَع " يحتمل أن يكون وزنه :" نَفْتَعِل من الرَّعْي وهي أكلُ المرعى ؛ كما تقدَّم، ويكون على حذف مضاف، أي : نرتع مواشينا، أو من المراعاة للشيء ؛ قال :[ الخفيف ]
٣٠٦١ تَرْتعِي السَّفحَ فالكَثِيبَ فَذا قَارِ *** فَروضَ القَطَا فَذاتَ الرِّئالِ
ويحتمل أن يكون وزنه " نَفْعَل " من رَتَعَ يَرْتَع : إذا أقام في خصب وسعة، ومنهُ قول الغضبان بن القبعثرى :" القَيْدُ والرَّتعة وقِلَّة المَنعَة " ؛ وقال الشاعر :[ الوافر ]
٣٠٦٢ أكُفْراً بَعْدَ ردِّ المَوْتِ عَنِّي *** وبَعدَ عَطائِكَ المِائة الرِّتاعَا
قوله :﴿ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ﴾ جلمة حالية، والعاملُ فيها أحد شيئين : إمَّا الأمر، وإمَّا جوابه.
فإن قيل : هل يجوز أن تكون المسألة من الإعمال ؛ لأن كلاًّ من العاملين يصح تسلُّطه على الحال ؟.
فالجواب : لا يجُوز ذلك ؛ لأنَّ الإمال يستلزم الإضمار، والحالُ لا تضمر ؛ لأنَّها لا تكون إلا نكرةً، أو مؤولةً بها.
أحدها : قراءة نافع : بالياء من تحت، وكسر العين.
الثانية : قراءة البزِّي، عن ابن كثيرٍ :" نَرْتَعِ ونلعب " بالنُّون وكسر العين.
الثالثة : قراءة قنبل، وقد اختلف عليه، فنقل عه ثُبُوت الياء بعد العين وصلاً ووقفاً، وحذفها وصلاً ووقفاً، فيوافق البزِّي في أحد الوجهين عنه، فعنه قراءتان.
الخامسة : قراءة أبي عمرو، وابن عامر :" نَرتَعْ ونَلعَبْ " بالنُّون، وسكون العين، والباء.
السادسة : قراءة الكوفيين :" يَرْتَعْ ويَلعبْ " بالياء من تحت وسكون العين والباءِ.
وقرأ جعفر بن محمد :" نَرْتَعْ " بالنُّون، " ويَلْعَبْ " بالياء، ورُويت عن ابن كثيرٍ.
وقرأ العلاء بن سيابة :" يَرْتَعِ ويَلْعَبُ " بالياء فيهما، وكسر العين وضمّ الباء.
وقرأ أبو رجاء كذلك، إلا أنَّه بالياء من تحت فيهما.
والنخعي ويعقوبك " نَرْتَع " بالنون، " ويَلْعَب " بالياء.
وقرأ مجاهدٌ، وقتادةُ، وابن محيصِن :" يَرْتَعْ ويَلْعَب " بالياء، والفعلان في هذه القراءات كلها مبنيان للفاعل.
وقرأ زيد بن علي :" يُرْتَع ويُلْعَب " بالياء من تحت فيهما مبنيين للمعفول.
وقرىء :" نَرْتَعِي ونَلْعَبُ " بثبوت الياء، ورفع الباء.
وقرأ ابن أبي عبلة :" نَرْعَى ونَلْعَب ".
فهذه اربع عشرة قراءة منها ستٌّ في السَّبع المتواتر وثمان في الشواذٍّ.
فمن قرأ بالنُّون، فقد أسند الفعل إلى إخوة يوسف.
سُئل أبو عمرو بن العلاء : كيف قالوا : نلعب وهم أنبياء ؟ قال : كان ذلك قبل أن يُنَبِّئهُم الله عزَّ وجلَّ.
قال ابن الأعرابي : الرَّتْع : الأكل بشدة، وقيل : إنه الخَصْبُ.
وقيل : المراد من اللَّعب : الإقدام على المُباحات، وهذا يوصف به الإنسان، كما رُوِي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لجابر :" هَلاَّ بِكْراً تُلاعِبُهَا وتُلاعِبُك ".
وقيل : كان لعبهم الاستباق، والغرض منه : تعليم المحاربة، والمقاتلة مع الكُفَّار، ويدلُّ عليه قولهم :" إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتبِقُ " وإنما سمَّوه لعباً ؛ لأنه في صُورة اللَّعِب.
وأما من قرأ بالياءِ، فقد أسند الفعل إليه دونهم، فالمعنى : أنه يبصر رَعْي الإبلِ ؛ لتيدرَّب بذلك، فمرَّة يرتع، ومرَّة يلعب ؛ كفعل الصِّبيان.
ومن كسر العين، اعتقد أنه جزم بحذف حرف العلَّة، وجعلهُ مأخُوذاً من يفتعِل من الرَّعي ؛ كيَرْتَمِي من الرَّمْي، ومن سكن العين، واعتقد أنه جزم بحذق الحركة، وجعلهُ مأخوذاً من : رَتَعَ يَرْتَعُ، إذا اتَّسع في الخِصْب قال :
٣٠٥٨. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . *** وإذَا يَحْلُولَهُ الحِمَى رَتَعْ
ومن سكَّن الباء جعلهُ مَجزُوماً، ومن رفعها، جعله مرفوعاً على الاستئناف، أي : وهو يلعبُ، ومن غاير بين الفعلين، فقرأ بالباء من تحت في " يَلْعَب " دون " نَرْتَع " ؛ فلأن رَعْياً، إذا أكلته فالارتعاء للمواشِي، وأضافوه إلى أنفسهم ؛ لأنه السَّبب، والمعنى : نرتع إبلنا، فنسبُوا الارتعاء والقيام بحفظ المال إلى أنفسهم ؛ لأنهم بالغون.
ومن قرأ :" نُرْتع " رُباعياً، جعل مفعُوله محذوفاً، أي : يَرْعى مَواشينا، ومن بناها للمفعول، فالوجه : أنه أضمر المفعُول الذي لم يُسمَّ فاعله، وهو ضمير الغدِ، والأصل :
نُرْتَع فيه، ونُلعَبُ فيه، ثم اتسع فيه ؛ فحذف حرف الجرِّ، فتعدى إليه الفعل بنفسه، فصار نُرْتعه ونَلْعَبُه، فلما بناهُ للمفعول، قام الضمير المنصُوب مقام فاعله، فانقلب مرفوعاً فاستتر في رافعه، فهو في الاتِّساع كقوله :[ الطويل ]
٣٠٥٩ ويَوْمٍ شَهِدْنَا سَلِمياً وعَامِراً ***. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ومن رفع الفعلين، جعلهما حالين، وتكون مقدَّرة، وأمَّا إثبات الياء في " نَرْتَعي " مع جزم " يَلْعَب " وهي قراءة قنبل، فقد تجرَّأ بعضُ النَّاس وردَّها.
وقال ابن عطيَّة : هي قراءة ضعيفةٌ لا تجوز إلا في الشِّعْر، وقيل : هي لغة من يجز بالحركة المقدَّرة، وأنشد :
٣٠٦٠ ألَمْ يَأتِيكَ والأنْبَاءُ تَنْمِي ***. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وقد تقدَّمت هذه المسألة.
و " نَرْتَع " يحتمل أن يكون وزنه :" نَفْتَعِل من الرَّعْي وهي أكلُ المرعى ؛ كما تقدَّم، ويكون على حذف مضاف، أي : نرتع مواشينا، أو من المراعاة للشيء ؛ قال :[ الخفيف ]
٣٠٦١ تَرْتعِي السَّفحَ فالكَثِيبَ فَذا قَارِ *** فَروضَ القَطَا فَذاتَ الرِّئالِ
ويحتمل أن يكون وزنه " نَفْعَل " من رَتَعَ يَرْتَع : إذا أقام في خصب وسعة، ومنهُ قول الغضبان بن القبعثرى :" القَيْدُ والرَّتعة وقِلَّة المَنعَة " ؛ وقال الشاعر :[ الوافر ]
٣٠٦٢ أكُفْراً بَعْدَ ردِّ المَوْتِ عَنِّي *** وبَعدَ عَطائِكَ المِائة الرِّتاعَا
قوله :﴿ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ﴾ جلمة حالية، والعاملُ فيها أحد شيئين : إمَّا الأمر، وإمَّا جوابه.
فإن قيل : هل يجوز أن تكون المسألة من الإعمال ؛ لأن كلاًّ من العاملين يصح تسلُّطه على الحال ؟.
فالجواب : لا يجُوز ذلك ؛ لأنَّ الإمال يستلزم الإضمار، والحالُ لا تضمر ؛ لأنَّها لا تكون إلا نكرةً، أو مؤولةً بها.
قوله :﴿ أَن تَذْهَبُواْ بِهِ ﴾ فاعل :" يَحْزُنُنِي "، أي : يَحْزُننِي ذهابُكم، وفي هذه الآية دلالة على أنَّ المضارع المقترن بلام الابتداء لا يكون حالاً، والنُّحاة جعلوها من القرائن المخصصة للحال، ووجه الدلالة : أنَّ " أن تذْهَبُوا " مستقبل ؛ لاقترانه بحرف الاستقبال، وهي وما في حيِّزها فاعل، فلو جعلنا " ليَحْزُنُنِي " حالاً، لزم سبق الفعل لفاعله، وهو مُحل وأجيبَ عن ذلك بإنَّ الفاعل في الحَقيقَة مقدَّر، حذف هو وقام المضاف إليه مقامه، والتقدير : ليَحْزُوننِي توقع ذهابكم، وقرأ زيد بن علي وابن هرمز، وابن محيصن :" ليَحْزُنِّي " بالإدغام.
وقرأ زيد بن علي :" تُذْهِبُوا بِهِ " بضم التَّاء من " أذْهَبَ " وهو كقوله :﴿ تَنبُتُ بالدهن ﴾ [ المؤمنون : ٢٠ ] في قراءة من ضمَّ التَّاء، فتكون التاء زائدة أو حالية.
والذئبُ يُهْمز ولا يُهْمزُ، وبعدم الهمز قرأ السُّوسيُّ، والكسائيُّ، وورش، وفي الوقف لا يهمزه حمزة، قالوا وهو مشتقٌّ من : تَذاءَبتٍ الرِّيحُ إذَا هَبَّت من كُلِّ جهةٍ ؛ لأنه يأتي كذلك، ويجمع على ذائب، وذُؤبان، وأذْؤبح قال :[ الطويل ]
وأرضٌ مذْأبة : كثيرة الذِّئاب، وذُؤابةٌ الشَّعر ؛ لتحرُّكها، وتقلبها من ذلك.
وقوله :﴿ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ ﴾ : جملة حاليَّة، العامل فيها :" يَأكلهُ ".
لما طلبوا منه إرسال يوسف عليه السلام معهم اعتذر إليهم بشيئين :
أحدهما : ليُبَيِّن لهم أنَّ ذهابهم به مما يُحزنُه ؛ لأنه كان لا يصبر عنه ساعةً.
والثاني : خَوْفه عليه من الذِّب إذا غفلوا عنه برعهيم، أو لعبهم أو لقلة اهتامهم به.
فقيل : إنه رأى في النَّوم أن الذِّئب شدَّ على يوسف فكان يحذره، فألأجل هذا ذكر ذلك. وقيل : إن الذِّئاب كانت كثيرة في أرضهم، فلما قال بعقوب عليه الصلاة والسلام هذا الكلام، أجابوه بقولهم :
وقرأ زيد بن علي :" تُذْهِبُوا بِهِ " بضم التَّاء من " أذْهَبَ " وهو كقوله :﴿ تَنبُتُ بالدهن ﴾ [ المؤمنون : ٢٠ ] في قراءة من ضمَّ التَّاء، فتكون التاء زائدة أو حالية.
والذئبُ يُهْمز ولا يُهْمزُ، وبعدم الهمز قرأ السُّوسيُّ، والكسائيُّ، وورش، وفي الوقف لا يهمزه حمزة، قالوا وهو مشتقٌّ من : تَذاءَبتٍ الرِّيحُ إذَا هَبَّت من كُلِّ جهةٍ ؛ لأنه يأتي كذلك، ويجمع على ذائب، وذُؤبان، وأذْؤبح قال :[ الطويل ]
٣٠٦٣ وأزْوَرَ يَمْشِي في بلادٍ بَعيدَةٍ | تَعَاوَى بِهِ ذُؤبَانُهُ وثَعالِبُهْ |
وقوله :﴿ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ ﴾ : جملة حاليَّة، العامل فيها :" يَأكلهُ ".
فصل
لما طلبوا منه إرسال يوسف عليه السلام معهم اعتذر إليهم بشيئين :
أحدهما : ليُبَيِّن لهم أنَّ ذهابهم به مما يُحزنُه ؛ لأنه كان لا يصبر عنه ساعةً.
والثاني : خَوْفه عليه من الذِّب إذا غفلوا عنه برعهيم، أو لعبهم أو لقلة اهتامهم به.
فقيل : إنه رأى في النَّوم أن الذِّئب شدَّ على يوسف فكان يحذره، فألأجل هذا ذكر ذلك. وقيل : إن الذِّئاب كانت كثيرة في أرضهم، فلما قال بعقوب عليه الصلاة والسلام هذا الكلام، أجابوه بقولهم :
﴿ لَئِنْ أَكَلَهُ الذئب وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّآ إِذَاً لَّخَاسِرُونَ ﴾ وفائدة اللام في " لَئِنْ " من وجهين :
أحدهما : أن كلمة " إنْ " تفيد كون الشِّرط مستلزماً للجزاء، أي : إن وقعت هذه الواقعة، فنحن خاسرون، فهذه اللام خلت ؛ لتأكيد هذا الاستلزام.
والثاني : قال الزمخشري رحمه الله " هذه اللام تدلُّ على إضمار القسم، [ تقديره :] والله لئن أكلهُ الذئب، لكنَّا خاسرين ".
والواوُ في :" ونَحْنُ عُصْبَةٌ " واو الحال ؛ فتكون الجملة من قوله :" وَنحْنُ عُصْبةٌ " : جملة حاليَّة. وقيل : معترضة، و ﴿ إِنَّآ إِذَاً لَّخَاسِرُونَ ﴾ جواب القسم، و " إذاً " : حرف جواب، وحذف جوابُ الشرط، وقد تقدَّم الكلام فيه مشبعاً.
ونقل أبو البقاء : أنه قرىء " عُصْبَةً " بالنصب، وقدر ما تقدم في الآية الأولى. في المراد بقولهم :﴿ إِنَّآ إِذَاً لَّخَاسِرُونَ ﴾ وجوه : الأول :[ عاجزون ] ضعفاء، نظيره قوله تعالى :﴿ وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَراً مِّثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذاً لَّخَاسِرُونَ ﴾ [ المؤمنون : ٣٤ ] أي : لعاجزون.
الثاني : أنهم يكونون مستحقِّين لأن يدعى عليهم بالخسارة والدَّمار، وأن يقال : أخسرهُم الله، ودمَّرهُم حين أكل الذِّئب أخاهُم وهم حاضرون عُصبةٌ : عشرةٌ تعصب بهم الأمُور، تكفي الخطوب بمثلهم.
الثالث : إذا لم نقدر على حفظ أخينا، فقد هلكت مواشينا، وخسرنا.
الرابع : أنَّهم كانوا قد أتبعوا أنفسهم في خدمة أبيهم، واجتهدوا في القيام بمهمَّاته، ليفوزوا منه بالدعاء والثناء، فقالوا : لو قصَّرنا في هذه الخدمة، فقد أحبطنا كل تلك الأعمال، وخسرنا كمل ما صدر منَّا من أنواع الخدمة.
فإن قيل : إنَّ يعقُوب عليه الصلاة والسلام اعتذر بعذرين : شدة حبِّه، وأكل الذئب له، فلم أجابُوا عن أحدهما دون الآخر ؟
فالجواب : أن حقدهم، وغيظهم كان بسبب المحبَّة، فتغافلوا عنه.
أحدهما : أن كلمة " إنْ " تفيد كون الشِّرط مستلزماً للجزاء، أي : إن وقعت هذه الواقعة، فنحن خاسرون، فهذه اللام خلت ؛ لتأكيد هذا الاستلزام.
والثاني : قال الزمخشري رحمه الله " هذه اللام تدلُّ على إضمار القسم، [ تقديره :] والله لئن أكلهُ الذئب، لكنَّا خاسرين ".
والواوُ في :" ونَحْنُ عُصْبَةٌ " واو الحال ؛ فتكون الجملة من قوله :" وَنحْنُ عُصْبةٌ " : جملة حاليَّة. وقيل : معترضة، و ﴿ إِنَّآ إِذَاً لَّخَاسِرُونَ ﴾ جواب القسم، و " إذاً " : حرف جواب، وحذف جوابُ الشرط، وقد تقدَّم الكلام فيه مشبعاً.
فصل
ونقل أبو البقاء : أنه قرىء " عُصْبَةً " بالنصب، وقدر ما تقدم في الآية الأولى. في المراد بقولهم :﴿ إِنَّآ إِذَاً لَّخَاسِرُونَ ﴾ وجوه : الأول :[ عاجزون ] ضعفاء، نظيره قوله تعالى :﴿ وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَراً مِّثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذاً لَّخَاسِرُونَ ﴾ [ المؤمنون : ٣٤ ] أي : لعاجزون.
الثاني : أنهم يكونون مستحقِّين لأن يدعى عليهم بالخسارة والدَّمار، وأن يقال : أخسرهُم الله، ودمَّرهُم حين أكل الذِّئب أخاهُم وهم حاضرون عُصبةٌ : عشرةٌ تعصب بهم الأمُور، تكفي الخطوب بمثلهم.
الثالث : إذا لم نقدر على حفظ أخينا، فقد هلكت مواشينا، وخسرنا.
الرابع : أنَّهم كانوا قد أتبعوا أنفسهم في خدمة أبيهم، واجتهدوا في القيام بمهمَّاته، ليفوزوا منه بالدعاء والثناء، فقالوا : لو قصَّرنا في هذه الخدمة، فقد أحبطنا كل تلك الأعمال، وخسرنا كمل ما صدر منَّا من أنواع الخدمة.
فإن قيل : إنَّ يعقُوب عليه الصلاة والسلام اعتذر بعذرين : شدة حبِّه، وأكل الذئب له، فلم أجابُوا عن أحدهما دون الآخر ؟
فالجواب : أن حقدهم، وغيظهم كان بسبب المحبَّة، فتغافلوا عنه.
قوله تعالى: ﴿فَلَمَّا ذَهَبُواْ بِهِ﴾ الآية: لا بُدَّ من الإضمار في هذه الآية في موضعين:
الأول: التقدير: قالوا: لئن أكلهُ الثئب ونحن عصبةٌ إنَّا إذاً لخاسرون فأذن له، وأرسله معهم، ثم يصتل به قوله تعالى: ﴿فَلَمَّا ذَهَبُواْ بِهِ﴾.
الثاني: في جواب ﴿فَلَمَّا ذَهَبُواْ بِهِ﴾ أوجه:
أحدهما: أنه محذوف، أي: عرفناه، وأوصلنا إليه الطمأنينة، وقدره الزمخشريُّ: «فعلوا به ما فعلوا من الأذى» وقدره غيره: عظمت فتنتهم، وآخرون: جعلوه فيها، وهذا أولى؛ لدلالة الكلام عليه.
الثاني: أن الجواب مثبت، وهو قوله: ﴿قَالُواْ يَأَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا﴾ [يوسف: ١٧] أي: لمَّا كان كَيْتَ وكَيْتَ، قالوا. وفيه بعد؛ لبعد الكلام من بعضه.
الأول: التقدير: قالوا: لئن أكلهُ الثئب ونحن عصبةٌ إنَّا إذاً لخاسرون فأذن له، وأرسله معهم، ثم يصتل به قوله تعالى: ﴿فَلَمَّا ذَهَبُواْ بِهِ﴾.
الثاني: في جواب ﴿فَلَمَّا ذَهَبُواْ بِهِ﴾ أوجه:
أحدهما: أنه محذوف، أي: عرفناه، وأوصلنا إليه الطمأنينة، وقدره الزمخشريُّ: «فعلوا به ما فعلوا من الأذى» وقدره غيره: عظمت فتنتهم، وآخرون: جعلوه فيها، وهذا أولى؛ لدلالة الكلام عليه.
الثاني: أن الجواب مثبت، وهو قوله: ﴿قَالُواْ يَأَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا﴾ [يوسف: ١٧] أي: لمَّا كان كَيْتَ وكَيْتَ، قالوا. وفيه بعد؛ لبعد الكلام من بعضه.
35
الثالث: أن الجواب هو قوله: «وأوْحَيْنَا» والواو فيه زائدة، أي: فلما ذهبوا به أوحينا، وهو رأي الكوفيين، وجعلُوا من ذلك قوله تعالى: ﴿فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ﴾ [الصافات: ١٠٣] أي: تله، «ونَاديْنَاهُ»، وقوله عَزَّ وَجَلَّ: ﴿حتى إِذَا جَآءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا﴾ [الزمر: ٧٣] وقول امرىء القيس: [الطويل]
تقدم أي فلما أجزنا انتحى وهو كثيرٌ عندهم بعد «لمَّا».
قوله: «أن يَجعلُوهُ» «مَفْعُول» «أجْمعَوا» أي: عزمُو على أن يجعلوه؛ لأنه يتعدَّى بنفسه، وب «عَلَى» فإنه يحتمل أن يكون على حذف الحرف، وألاّ يكون، فعلى الأول: يحتمل موضعه النصب والجرَّ، وعلى الثاني: يتعين النَّصب، والجمعل يجوز أن يكون بمعنى: الإلقاء، وأن يكون بمعنى: التَّصيير فعلى الأول: يتعلَّق في «غَيَابةِ» بنفس الفعل قبله، وعلى الثاني: بمحذُوف، والفعل من قوله: «وأجْمَعُوا» يجوز أن يكُون معطوفاً على ما قبله، وأن يكُون حالاً، و «قَدْ» معه مضمرة عند بعضهم، والضمير في «إليْهِ» الظاهر عوده على يوسف، وقيل: يعود على يعقُوب عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ.
وقرأ العامَّة: «لتُنَبئَنَّهُمْ» بتاء الخطاب، وقرأ ابن عمر: بياء الغيبة، أي: الله سبحانه وتعالى.
قال أبو حيَّان: «وكذا في بعض مصاحف البصرة» وقد تقدَّم أن النقط حادث فإن قال: مصحف حادث غير مصحف عثمان رَضِيَ اللَّهُ عَنْه فليس الكلام في ذلك.
وقرأ سلاَّم: «لنُنَبئَنَّهُمْ» بالنون، وهذا صفة لقولهم. وقيل: بدل. وقيل: بيان.
قوله: ﴿وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ﴾ جملة حالية، يجوز أن يكون العامل فيها «أوحينا» أي: أوحينا غليه من غير شعور إخوته بالوحي، وأن العامل فيها «لتُنَبئَنَّهُمْ» أي تخبرهم وهم لا يعرفونكم لبعد المدة وتغير الأحوال.
في المراد بقوله: ﴿وَأَوْحَيْنَآ إِلَيْهِ﴾ قولان:
الأول: المراد منه الوحي والنبوة والرسالة، وهو قول أكثر المحققين، ثم اختلف هؤلاء في أنه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ هل كان في ذلك الوقت بالغاً أو كان صابياً؟.
قال بعضهم: كان بالغاً وكان ابن سبع عشرة سنة. وقال آخرون: كان صغيراً إلا أن
٣٠٦٤ - فَلَمَّا أحَزْنَا سَاحةَ الحَيِّ وانْتحَى | بِنَا بَطْنُ حِقْفٍ [ذِي رُكامٍ عَقَنْقَلِ] |
قوله: «أن يَجعلُوهُ» «مَفْعُول» «أجْمعَوا» أي: عزمُو على أن يجعلوه؛ لأنه يتعدَّى بنفسه، وب «عَلَى» فإنه يحتمل أن يكون على حذف الحرف، وألاّ يكون، فعلى الأول: يحتمل موضعه النصب والجرَّ، وعلى الثاني: يتعين النَّصب، والجمعل يجوز أن يكون بمعنى: الإلقاء، وأن يكون بمعنى: التَّصيير فعلى الأول: يتعلَّق في «غَيَابةِ» بنفس الفعل قبله، وعلى الثاني: بمحذُوف، والفعل من قوله: «وأجْمَعُوا» يجوز أن يكُون معطوفاً على ما قبله، وأن يكُون حالاً، و «قَدْ» معه مضمرة عند بعضهم، والضمير في «إليْهِ» الظاهر عوده على يوسف، وقيل: يعود على يعقُوب عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ.
وقرأ العامَّة: «لتُنَبئَنَّهُمْ» بتاء الخطاب، وقرأ ابن عمر: بياء الغيبة، أي: الله سبحانه وتعالى.
قال أبو حيَّان: «وكذا في بعض مصاحف البصرة» وقد تقدَّم أن النقط حادث فإن قال: مصحف حادث غير مصحف عثمان رَضِيَ اللَّهُ عَنْه فليس الكلام في ذلك.
وقرأ سلاَّم: «لنُنَبئَنَّهُمْ» بالنون، وهذا صفة لقولهم. وقيل: بدل. وقيل: بيان.
قوله: ﴿وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ﴾ جملة حالية، يجوز أن يكون العامل فيها «أوحينا» أي: أوحينا غليه من غير شعور إخوته بالوحي، وأن العامل فيها «لتُنَبئَنَّهُمْ» أي تخبرهم وهم لا يعرفونكم لبعد المدة وتغير الأحوال.
فصل
في المراد بقوله: ﴿وَأَوْحَيْنَآ إِلَيْهِ﴾ قولان:
الأول: المراد منه الوحي والنبوة والرسالة، وهو قول أكثر المحققين، ثم اختلف هؤلاء في أنه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ هل كان في ذلك الوقت بالغاً أو كان صابياً؟.
قال بعضهم: كان بالغاً وكان ابن سبع عشرة سنة. وقال آخرون: كان صغيراً إلا أن
36
الله تعالى أكمل عقله وجعله صالحاً لقبول الوحي والنبوة كما في حق عيسى عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ حين قالوا: ﴿كَيْفَ نُكَلِّمُ مَن كَانَ فِي المهد صَبِيّاً﴾ [مريم: ٢٩] فأجابهم بقوله: ﴿قَالَ إِنِّي عَبْدُ الله آتَانِيَ الكتاب وَجَعَلَنِي نَبِيّاً﴾ [مريم: ٣٠].
والقول الثاني: أن المراد بهذا الوحي: الإلهام، كقوله ﴿وَأَوْحَيْنَآ إلى أُمِّ موسى﴾ [القصص: ٧] ﴿وأوحى رَبُّكَ إلى النحل﴾ [النحل: ٦٨]. والأول أولى؛ لأنه الظاهر من الوحي.
فإن قيل: كيف يجعله نبياً في ذلك الوقت وليس هناك أحد يبلغه الرسالة؟.
فالجواب: لا متنع أن يشرفه الله تعالى بالوحي ويأمره بتبليغ الرسالة بعد أوقات ويكون فائدة تقديم الوحي تأنيسه وزوال الغم والوحشة عن قلبه والفائدة في أخفاء ذلك [الوحي] عن إخوته: أنهم لو عرفوه فربما ازداد حسدهم فكانوا يقصدون قتله.
إنما حملنا كقوله تبارك وتعالى ﴿وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ﴾ بأنك يوسف، أي: لا يعرفونك لبعد المدة وتغير الأحوال، لأن هذا أمراً من الله تعالى ليوسف ف يأن يستر نفسه عن أبيه [وأن لا يخبره بأحوال نفسه، فلهذا السبب كتم أخبار نفسه عن أبيه] طول تلك المدة مع علمه بوجد أبيه عليه خوفاً من مخالفة أمر الله تعالى، فصبر على تجرع تلك المرارة، وكان الله سبحانه قد قضى على يعقوب أن يوصل إليه تلك الغموم الشديدة والهموم العظيمة ليوصله إلى الدرجات العالية التي لا يمكن الوصل إليها إلا بتحصيل المحن الشديدة.
قوله
تعالى
: ﴿وجآءوا
أَبَاهُمْ
عِشَآءً يَبْكُونَ﴾ الآية في «عِشَاءً» وجهان:
أصحهما: وهو الذي لا ينبغي أن [يقال] غيره أنه ظرف، أي: ظرف زمان أي: جاءوا في هذا الوقت. قال أهل المعاني: جاءوا في ظلمة العشاء ليكونوا أجرأ على الاعتذار بالكذب. و «يَبْكُونَ» جملة حالية، أي: جاءوه باكين.
والثاني: أن يكون «عِشَاءً» جمع عاشٍ، كقَائِم وقِيَام.
قال أبو البقاء: «ويقرأ بضم العين، والأصل: عُشَاة، مثل: غازٍ وغزاة فحذفت
والقول الثاني: أن المراد بهذا الوحي: الإلهام، كقوله ﴿وَأَوْحَيْنَآ إلى أُمِّ موسى﴾ [القصص: ٧] ﴿وأوحى رَبُّكَ إلى النحل﴾ [النحل: ٦٨]. والأول أولى؛ لأنه الظاهر من الوحي.
فإن قيل: كيف يجعله نبياً في ذلك الوقت وليس هناك أحد يبلغه الرسالة؟.
فالجواب: لا متنع أن يشرفه الله تعالى بالوحي ويأمره بتبليغ الرسالة بعد أوقات ويكون فائدة تقديم الوحي تأنيسه وزوال الغم والوحشة عن قلبه والفائدة في أخفاء ذلك [الوحي] عن إخوته: أنهم لو عرفوه فربما ازداد حسدهم فكانوا يقصدون قتله.
فصل
إنما حملنا كقوله تبارك وتعالى ﴿وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ﴾ بأنك يوسف، أي: لا يعرفونك لبعد المدة وتغير الأحوال، لأن هذا أمراً من الله تعالى ليوسف ف يأن يستر نفسه عن أبيه [وأن لا يخبره بأحوال نفسه، فلهذا السبب كتم أخبار نفسه عن أبيه] طول تلك المدة مع علمه بوجد أبيه عليه خوفاً من مخالفة أمر الله تعالى، فصبر على تجرع تلك المرارة، وكان الله سبحانه قد قضى على يعقوب أن يوصل إليه تلك الغموم الشديدة والهموم العظيمة ليوصله إلى الدرجات العالية التي لا يمكن الوصل إليها إلا بتحصيل المحن الشديدة.
قوله
تعالى
: ﴿وجآءوا
أَبَاهُمْ
عِشَآءً يَبْكُونَ﴾ الآية في «عِشَاءً» وجهان:
أصحهما: وهو الذي لا ينبغي أن [يقال] غيره أنه ظرف، أي: ظرف زمان أي: جاءوا في هذا الوقت. قال أهل المعاني: جاءوا في ظلمة العشاء ليكونوا أجرأ على الاعتذار بالكذب. و «يَبْكُونَ» جملة حالية، أي: جاءوه باكين.
والثاني: أن يكون «عِشَاءً» جمع عاشٍ، كقَائِم وقِيَام.
قال أبو البقاء: «ويقرأ بضم العين، والأصل: عُشَاة، مثل: غازٍ وغزاة فحذفت
37
الهاء وزيدت الألف عوضاً عنها، ثم قلبت الألف همزة».
وفيه كلام قد تقدم في آل عمران عند قوله ﴿أَوْ كَانُواْ غُزًّى﴾ [آل عمران: ١٥٦].
ويجوز أن يكون جمع فاعل على فعال، كما جمع فَعِيل على فُعال، لقرب ما بين الكسر والضم، ويجوز أن يكون كنؤام ورباب وهو شاذ.
وهذه قراءة الحسن، وهو من العشْوة. والعُشْوَة: هي الظلام. رواه ابن جني «عُشَاءً» بضم العين وقال: عشوا من البكاء. وقرأ الحسن: «عُشاً» على وزن «دُحَى» نحو غازٍ وغُزاة، ثم حذفت منه تاء التأنيث [كما حذفوا تاء التأنيث من] «مَألِكَة» فقالوا: مَألِك، وعلى هذه الأوجه يكون منصوباً على الحال. وقرأ الحسن أيضاً: «عُشَيًا» مصغراً.
و «نَسْتَبْقُ» نتسابق. والافتِعَال والتَّفاعُل يشتركان نحو قولهم: نَنْتَضِل ونتناضل ونرتمي ونترامى، و «نَسْتَبِقَ» في محل نصب على الحال و «تَركْنَا» حال من نَسْتَبقُ و «قد» معه مضمرة عند بعضهم.
قال الزجاج: «يسابق بعضنا بعضاً في الرمي»، ومنه قوله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «لا سَبقَ إلاَّ في نصْلٍ أو خفِّ أو حافرٍ» يعنى بالنصل: الرمي وأصل السبق: الرمي بالسهم، ثم يوصف المتراميان بذلك، يقال: استبقا وتسابقا: إذا فعلا ذلك السبق ليتبين أيهما أسبق.
ويدل على صحة هذا التفسير ما روي في قراءة عبد الله: «إنَّا ذَهبْنَا نَنْضِلُ» وقال السدي ومقاتل: «نَسْتبِقُ» نشتد ونعدو.
فإن قيل: كيف جاز أن يستبقوا وهم رجال بالغون، وهذا من فعل الصبيان فالجواب: أن الاستباق منهم كان مثل الاستباق في الخيل، وكانوا يجربون بذلك أنفسهم ويدربونها على العدو، لأنه كالآلات لهم في محاربة العدو، وقوله «فأكلهُ الذِّئْبُ» قيل: أكل الذئب يوسف وقيل: عرَّضُوا، وأرادوا أكل الذئب المتاع، والأول أصح.
ثم قالوا: «ومَا أنْتَ بمُؤمٍ لنَا»، أي بمصدق لنا. وقولهم «ولوْ كُنَّا صَادقينَ» جملة حالية، أي: ما أنت بمصدق لنا في كل حال حتى في حال صدقنا لما غلب على ظنك في تهمتنا ببغض يوسف وكراهتنا له.
فإن قيل: كيف قالوا ليعقوب: أنت لا تصدق الصادقين؟.
وفيه كلام قد تقدم في آل عمران عند قوله ﴿أَوْ كَانُواْ غُزًّى﴾ [آل عمران: ١٥٦].
ويجوز أن يكون جمع فاعل على فعال، كما جمع فَعِيل على فُعال، لقرب ما بين الكسر والضم، ويجوز أن يكون كنؤام ورباب وهو شاذ.
وهذه قراءة الحسن، وهو من العشْوة. والعُشْوَة: هي الظلام. رواه ابن جني «عُشَاءً» بضم العين وقال: عشوا من البكاء. وقرأ الحسن: «عُشاً» على وزن «دُحَى» نحو غازٍ وغُزاة، ثم حذفت منه تاء التأنيث [كما حذفوا تاء التأنيث من] «مَألِكَة» فقالوا: مَألِك، وعلى هذه الأوجه يكون منصوباً على الحال. وقرأ الحسن أيضاً: «عُشَيًا» مصغراً.
و «نَسْتَبْقُ» نتسابق. والافتِعَال والتَّفاعُل يشتركان نحو قولهم: نَنْتَضِل ونتناضل ونرتمي ونترامى، و «نَسْتَبِقَ» في محل نصب على الحال و «تَركْنَا» حال من نَسْتَبقُ و «قد» معه مضمرة عند بعضهم.
قال الزجاج: «يسابق بعضنا بعضاً في الرمي»، ومنه قوله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «لا سَبقَ إلاَّ في نصْلٍ أو خفِّ أو حافرٍ» يعنى بالنصل: الرمي وأصل السبق: الرمي بالسهم، ثم يوصف المتراميان بذلك، يقال: استبقا وتسابقا: إذا فعلا ذلك السبق ليتبين أيهما أسبق.
ويدل على صحة هذا التفسير ما روي في قراءة عبد الله: «إنَّا ذَهبْنَا نَنْضِلُ» وقال السدي ومقاتل: «نَسْتبِقُ» نشتد ونعدو.
فإن قيل: كيف جاز أن يستبقوا وهم رجال بالغون، وهذا من فعل الصبيان فالجواب: أن الاستباق منهم كان مثل الاستباق في الخيل، وكانوا يجربون بذلك أنفسهم ويدربونها على العدو، لأنه كالآلات لهم في محاربة العدو، وقوله «فأكلهُ الذِّئْبُ» قيل: أكل الذئب يوسف وقيل: عرَّضُوا، وأرادوا أكل الذئب المتاع، والأول أصح.
ثم قالوا: «ومَا أنْتَ بمُؤمٍ لنَا»، أي بمصدق لنا. وقولهم «ولوْ كُنَّا صَادقينَ» جملة حالية، أي: ما أنت بمصدق لنا في كل حال حتى في حال صدقنا لما غلب على ظنك في تهمتنا ببغض يوسف وكراهتنا له.
فإن قيل: كيف قالوا ليعقوب: أنت لا تصدق الصادقين؟.
38
قيل: المعنى أنك تتهمنا في هذا الأمر؛ لأنك خفتنا في الابتداء، واتهمتنا في حقه.
وقيل: المعنى لا تصدقنا؛ لأنه لا دليل لنا على صدقنا وإن كنا صادقين عند الله تعالى.
احتجوا بهذه الآية على أن الإيمان في اللغة عبارة عن التصديق لقوله تعالى: ﴿وَمَآ أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لَّنَا﴾، أي بمصدق.
روي أن امرأة تحاكمت إلى شريح فبكت، فقال الشعبي: يا أبا أمية: أما تراها تبكي؟ قال: قد جاء إخوة يوسف يبكون وهم ظلمة كذبة لا ينبغي للإنسان أن يقضي إلا بالحق.
قوله تعالى: ﴿وَجَآءُوا على قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ﴾ الآية «علَى قَمِيصهِ» في محل نصب على الحال من الدم.
قال ابو البقاء: «لأن التقدير: جاءوا بدم كذب على قيمصه». يعنى أنه لو تأخر لكان صفة للنكرة. ورد الزمخشري هذا الوجه.
قال: فإن قلت: هل يجوز أن تكون حالاً متقدمة «.
قلت: لا، لأن حال المجرور لا يتقدم عليه».
وهذا الذي رد به الزمخشري أحد قولي النحاة، قد صحح جماعة جوازه؛ وأنشد: [الطويل]
٣٠٦٥ -.................... فَلنْ يَذْهَبُوا فِرغاً بِفتْلِ حِبَالِ
وقول الآخر: [الطويل]
وقول الآخر: [الخفيف]
وقال الحوفيُّ: «علَى قَميصِهِ» : متعلقٌّ ب «جَاءُوا»، وفيه نظرٌ؛ لأنَّ مجيئهم لا يصلحُ أن يكُونَ على القَميصِ.
وقال الزمخشري: «فإن قلت:» عَلى قَميصِهِ «ما محلهُ؟ قلتُ: محلُّهُ النَّصب على [
وقيل: المعنى لا تصدقنا؛ لأنه لا دليل لنا على صدقنا وإن كنا صادقين عند الله تعالى.
فصل
احتجوا بهذه الآية على أن الإيمان في اللغة عبارة عن التصديق لقوله تعالى: ﴿وَمَآ أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لَّنَا﴾، أي بمصدق.
روي أن امرأة تحاكمت إلى شريح فبكت، فقال الشعبي: يا أبا أمية: أما تراها تبكي؟ قال: قد جاء إخوة يوسف يبكون وهم ظلمة كذبة لا ينبغي للإنسان أن يقضي إلا بالحق.
قوله تعالى: ﴿وَجَآءُوا على قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ﴾ الآية «علَى قَمِيصهِ» في محل نصب على الحال من الدم.
قال ابو البقاء: «لأن التقدير: جاءوا بدم كذب على قيمصه». يعنى أنه لو تأخر لكان صفة للنكرة. ورد الزمخشري هذا الوجه.
قال: فإن قلت: هل يجوز أن تكون حالاً متقدمة «.
قلت: لا، لأن حال المجرور لا يتقدم عليه».
وهذا الذي رد به الزمخشري أحد قولي النحاة، قد صحح جماعة جوازه؛ وأنشد: [الطويل]
٣٠٦٥ -.................... فَلنْ يَذْهَبُوا فِرغاً بِفتْلِ حِبَالِ
وقول الآخر: [الطويل]
٣٠٦٦ - لَئِنْ كَان بَرْدُ الماءِ هَيْمانَ صَادِياً | ِ إليَّ حَبِيباً إنَّها لَحبِيبُ |
٣٠٦٧ - غَافِلاً تعْرِضُ المنِيَّةُ لِلمرْءِ | فيُدْعَى ولاتَ حِينَ إبَاءُ |
وقال الزمخشري: «فإن قلت:» عَلى قَميصِهِ «ما محلهُ؟ قلتُ: محلُّهُ النَّصب على [
39
الظَّرفيةِ]، كأنَّه قيل: وجاءُوا فوقَ قَميصِه بدمٍ، كما تقولُ: جَاءُوا على جِمالهِ بأحمال».
قال أبو حيان: ولا يُسَاعدُ المعنى على نَصْبِ «عَلَى» على الظرفية، بمعنى: فوق لأن العامل فيه إذ ذاك «جَاءُوا» وليس الفرق ظرفاً لهم [بل يستحيل أن يكُون ظرفاً لهم].
وهذا الردُّ هو الذي ردَّ به على الحوفيِّ في قوله: إنَّ «عَلَى» متعلقة ب: «جَاءُوا».
ثمَّ قال أبو حيان رَحِمَهُ اللَّهُ: «وأمَّا المثالُ الذي ذكره وهو: [جاء] على جماله بإحمالٍ، فيمكنُ أن يكون ظرفاً للجانئي؛ لأنَّه تمكن الظرف فيه باعتبار تبدُّلهِ من حمل إلى حمل، ويكُونُ» بأحْمالٍ «في موضع الحالِ، أي: مصحوباً بأحمال».
وقرأ العامَّةُ: «كَذبٍ» بالذَّال المعجمة، وهو من الوصفِ بالمصادرِ، فيمكنُ أن يكُون على سبيل المبالغةِ، نحو: «رَجُلٌ عدْلٌ».
وقال الفراء، والمبرِّد والزجاج، وابن الأنباريِّ: «بدمٍ كذبٍ»، أي: مكذُوبٍ فيه، إلا أنَّه وصف بالمصدر، جعل نفس الدَّم كذباً؛ للمبالغة، قالوا: والمفعُول، والفاعل يسميان بالمصدر، كما يقال: ماءٌ سكبٌ، أي: مسكوبٌ، والفاعل كقوله:
﴿إِنْ أَصْبَحَ مَآؤُكُمْ غَوْراً﴾ [الملك: ٣٠]، ولما سُمِّيا بالمصدر سمي المصدرُ بهما، فقالوا للعقل: المعقول، وللجلد: المجلُود، ومنه قوله تعالى: ﴿المفتون﴾ [القلم: ٦] أو على حذف مضاف، إي: ذي كذبٍ، ونسب فعل فاعله إليه.
وقرأ زيد بن عليٍّ: «كذِباً» بالنصب، فاحتمل أن يكون مفعولاً من أجله، واحتمل أن يكون مصدراً في موضع الحالِ، وهو قليلٌ، أعني: مجيء الحال من النكرة، وقرأت عائشة الحسنُ [رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما] :«كّدِبٍ» بالدَّال المهملة.
قال صاحب اللَّوامحك «معناهُ: ذي كدب، أي أثر؛ لأنَّ الكدِبَ هو بياضٌ، يخرج في [أظافير الشبان] ويؤثر فيها، فهو كالنقش، ويسمى ذلك البياض: الفُوف، فيكون هذا استعارة لتأثيرة في القميص، كتأثير ذلك في الأظافر».
وقيل: هو الدَّمُ الكدرُ، وقيل: الطَّريُّ، وقيل: اليابس.
قال الشعبيُّ: قصة يوسف كلُّها في قميصه، وذلك أنَّهم لمَّا ألقوه في الجبّ، نزعوا
قال أبو حيان: ولا يُسَاعدُ المعنى على نَصْبِ «عَلَى» على الظرفية، بمعنى: فوق لأن العامل فيه إذ ذاك «جَاءُوا» وليس الفرق ظرفاً لهم [بل يستحيل أن يكُون ظرفاً لهم].
وهذا الردُّ هو الذي ردَّ به على الحوفيِّ في قوله: إنَّ «عَلَى» متعلقة ب: «جَاءُوا».
ثمَّ قال أبو حيان رَحِمَهُ اللَّهُ: «وأمَّا المثالُ الذي ذكره وهو: [جاء] على جماله بإحمالٍ، فيمكنُ أن يكون ظرفاً للجانئي؛ لأنَّه تمكن الظرف فيه باعتبار تبدُّلهِ من حمل إلى حمل، ويكُونُ» بأحْمالٍ «في موضع الحالِ، أي: مصحوباً بأحمال».
وقرأ العامَّةُ: «كَذبٍ» بالذَّال المعجمة، وهو من الوصفِ بالمصادرِ، فيمكنُ أن يكُون على سبيل المبالغةِ، نحو: «رَجُلٌ عدْلٌ».
وقال الفراء، والمبرِّد والزجاج، وابن الأنباريِّ: «بدمٍ كذبٍ»، أي: مكذُوبٍ فيه، إلا أنَّه وصف بالمصدر، جعل نفس الدَّم كذباً؛ للمبالغة، قالوا: والمفعُول، والفاعل يسميان بالمصدر، كما يقال: ماءٌ سكبٌ، أي: مسكوبٌ، والفاعل كقوله:
﴿إِنْ أَصْبَحَ مَآؤُكُمْ غَوْراً﴾ [الملك: ٣٠]، ولما سُمِّيا بالمصدر سمي المصدرُ بهما، فقالوا للعقل: المعقول، وللجلد: المجلُود، ومنه قوله تعالى: ﴿المفتون﴾ [القلم: ٦] أو على حذف مضاف، إي: ذي كذبٍ، ونسب فعل فاعله إليه.
وقرأ زيد بن عليٍّ: «كذِباً» بالنصب، فاحتمل أن يكون مفعولاً من أجله، واحتمل أن يكون مصدراً في موضع الحالِ، وهو قليلٌ، أعني: مجيء الحال من النكرة، وقرأت عائشة الحسنُ [رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما] :«كّدِبٍ» بالدَّال المهملة.
قال صاحب اللَّوامحك «معناهُ: ذي كدب، أي أثر؛ لأنَّ الكدِبَ هو بياضٌ، يخرج في [أظافير الشبان] ويؤثر فيها، فهو كالنقش، ويسمى ذلك البياض: الفُوف، فيكون هذا استعارة لتأثيرة في القميص، كتأثير ذلك في الأظافر».
وقيل: هو الدَّمُ الكدرُ، وقيل: الطَّريُّ، وقيل: اليابس.
فصل
قال الشعبيُّ: قصة يوسف كلُّها في قميصه، وذلك أنَّهم لمَّا ألقوه في الجبّ، نزعوا
40
قميصه، ولطَّخوهُ بالدَّم، وعرضوه على أبيه، ولمَّا شهد الشَّاهدُ قال: ﴿وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِن الصَّادِقِينَ فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِن كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ﴾ [يوسف: ٢٧ - ٢٨] وقال: ﴿اذهبوا بِقَمِيصِي هذا﴾ [يوسف: ٩٣] ولما أتى البشيرُ إلى يعقوب بقميصه، وألقى على وجهه، فارتدَّ بصيراً.
قال القرطبِيُّ: «هذا مردودٌ، فإنَّ القميص الذي جاءوا عليه بالدذَم غير القميص الذي قُدَّ، وغيرُ القميص الذي أتى به البَشيرُ، وقيل: إنَّ القميص الذي أتى به البَشيرُ إلى يعقوب، فارتدَّ بصيراً هو القميص الذي قُدَّ مِنْ دُبُرٍ».
قال بعض العلماءِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم: لمَّا أرادوا أن يجعلوا الدَّم علامة على صدقهم؛ قرن اللهُ بهذه العلامة علامةً تعارضُهَا، وهي سلامةٌ القميص من التَّخريقِ، إذْ لا يمكن افتراسُ الذِّئب ليوسف، وهو لابسٌ القميس، ويسلمُ القميص من التَّخريق ولمَّا تأمَّل يعقوب عليه السَّلام القميص لم يجدْ فيه خرقاً، ولا أثراً، استدلَّ بذلك على كذبهم، وقال لهم: تزعُمُون أن الذِّئب أكله، ولو أكلهُ لشقَّ قميصه.
استدلَّ العلماءُ بهذه [الآية] في إعمال الأمارات في مسائلَ من الفقهِ كالقسامةِ
قال القرطبِيُّ: «هذا مردودٌ، فإنَّ القميص الذي جاءوا عليه بالدذَم غير القميص الذي قُدَّ، وغيرُ القميص الذي أتى به البَشيرُ، وقيل: إنَّ القميص الذي أتى به البَشيرُ إلى يعقوب، فارتدَّ بصيراً هو القميص الذي قُدَّ مِنْ دُبُرٍ».
فصل
قال بعض العلماءِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم: لمَّا أرادوا أن يجعلوا الدَّم علامة على صدقهم؛ قرن اللهُ بهذه العلامة علامةً تعارضُهَا، وهي سلامةٌ القميص من التَّخريقِ، إذْ لا يمكن افتراسُ الذِّئب ليوسف، وهو لابسٌ القميس، ويسلمُ القميص من التَّخريق ولمَّا تأمَّل يعقوب عليه السَّلام القميص لم يجدْ فيه خرقاً، ولا أثراً، استدلَّ بذلك على كذبهم، وقال لهم: تزعُمُون أن الذِّئب أكله، ولو أكلهُ لشقَّ قميصه.
فصل
استدلَّ العلماءُ بهذه [الآية] في إعمال الأمارات في مسائلَ من الفقهِ كالقسامةِ
41
وغيرها، كما استدلَّ يعقوب عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ ت على كذكبهم بصحَّة القميص، فيجبُ
42
على النَّاظر أن يلحظ الآيات، والعلامات إذا تعارضت، فما ترجَّح منها قضى بجانب التَّرجيحِ، وهي قُوَّة التُّهمةِ، [قال ابن الربي] ولا خلاف في الحكم بها.
قال محمد بن إسحاقَ: اشتمل فعلهم على جَرائمَ من قطعيعةٍ الرَّحم وعُقوقِ الوالدِ، وقلَّة الرًَّأفةِ الصَّغير الذي لا ذنْبَ له، والغدر بالأمانة، وترك العهد، والكذب مع أبيهم وعفا اللهُ عنهم ذلك كلَّه حتى لا ييأس العبد من رحمة الله تعالى.
قال بعضُ العلماءِ: إنَّهم عزموا على قتله، وعصمهم الله رحمة بهم، ولو فعلوا لهلكوا.
قوله تعالى: ﴿بَلْ سَوَّلَتْ﴾ قبل هذه الجملة جلمة محذوفة تقديرها: لم يأكله الذِّئب بل سوَّلت، أي: زيَّنتْ وسهّلتْ، قاله ابنُ عباسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه.
والتَّسويلُ: تقدير معنى في النَّفس مع الطَّمع في إتمامه.
قال الأزهريُّ: «كأن التسويلُ تفعيلٌ من سؤال الإنسان، وهو أمنيتُه التي يطلبها، فتزين لطالبها الباطل وغيره». وأصله مهموزٌ على أنَّ العرب يستثقلون فيه الهمز.
قال الزمخشري: «سوَّلتْ: سهُلتْ من السَّولِ، وهو الاسْتْخَاءُ».
وإذا عرفت هذا فقوله: «بَلْ» ردُّ لقولهم: «أكَلهُ الذِّبُ» كأنه قال: ليس كما تقولون، بل سولت لكم أنفسكم أمراً في شأنه، أي: زيَّنَتْ لكم أنفسُكم أمراً غير ما تصفون.
واختلف في السَّبب الذي عرف به كونهم كاذبين، فقيل: عرف ذلك بسبب أنَّه كان عيرف الحسد الشَّديدَ منهم في قلوبهم، وقيلك كان عالماً بأنه حيٌّ، لقوله ليوسف: ﴿وكذلك يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ﴾ [يوسف: ٦] وذلك دليلٌ قاطعٌ على كونهم كاذبين في ذلك الوقتِ.
وقال سعيدُ بن جبيرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: لما جاءُوا على قميصه بدم كذب، وما كان مُخْرّقاً، قال: كذبتم لو أكله الذِّب لخرق قميصه. وعن السدي أنه قال: إنَّ يعقوب عليه السلام قال: إنَّ الذِّئب كان رَحِيماً، كيف أكل لحمه، ولم يخرقْ قميصه؟.
فصل
قال محمد بن إسحاقَ: اشتمل فعلهم على جَرائمَ من قطعيعةٍ الرَّحم وعُقوقِ الوالدِ، وقلَّة الرًَّأفةِ الصَّغير الذي لا ذنْبَ له، والغدر بالأمانة، وترك العهد، والكذب مع أبيهم وعفا اللهُ عنهم ذلك كلَّه حتى لا ييأس العبد من رحمة الله تعالى.
قال بعضُ العلماءِ: إنَّهم عزموا على قتله، وعصمهم الله رحمة بهم، ولو فعلوا لهلكوا.
قوله تعالى: ﴿بَلْ سَوَّلَتْ﴾ قبل هذه الجملة جلمة محذوفة تقديرها: لم يأكله الذِّئب بل سوَّلت، أي: زيَّنتْ وسهّلتْ، قاله ابنُ عباسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه.
والتَّسويلُ: تقدير معنى في النَّفس مع الطَّمع في إتمامه.
قال الأزهريُّ: «كأن التسويلُ تفعيلٌ من سؤال الإنسان، وهو أمنيتُه التي يطلبها، فتزين لطالبها الباطل وغيره». وأصله مهموزٌ على أنَّ العرب يستثقلون فيه الهمز.
قال الزمخشري: «سوَّلتْ: سهُلتْ من السَّولِ، وهو الاسْتْخَاءُ».
وإذا عرفت هذا فقوله: «بَلْ» ردُّ لقولهم: «أكَلهُ الذِّبُ» كأنه قال: ليس كما تقولون، بل سولت لكم أنفسكم أمراً في شأنه، أي: زيَّنَتْ لكم أنفسُكم أمراً غير ما تصفون.
واختلف في السَّبب الذي عرف به كونهم كاذبين، فقيل: عرف ذلك بسبب أنَّه كان عيرف الحسد الشَّديدَ منهم في قلوبهم، وقيلك كان عالماً بأنه حيٌّ، لقوله ليوسف: ﴿وكذلك يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ﴾ [يوسف: ٦] وذلك دليلٌ قاطعٌ على كونهم كاذبين في ذلك الوقتِ.
وقال سعيدُ بن جبيرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: لما جاءُوا على قميصه بدم كذب، وما كان مُخْرّقاً، قال: كذبتم لو أكله الذِّب لخرق قميصه. وعن السدي أنه قال: إنَّ يعقوب عليه السلام قال: إنَّ الذِّئب كان رَحِيماً، كيف أكل لحمه، ولم يخرقْ قميصه؟.
43
وقيل: إنه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ لما قال ذلك قال بعضهم: بل قتله اللصوصُ، فقال: كيف قتلوه، وتركوا قميصه، وهم إلى القميص أحْوَجُ منه إلى قتله، فلمَّا اختلفت أقوالهم؛ عرف بذلك كذبهم.
وقال القاضي: «لعلَّ غرضهم في نزع قميصه عند إلقائه في الجبّ أن يُلطِّخوهُ بالدَّم توكيداً لصدقهم؛ لأنَّهُ يبعدُ أن يفعلوا ذلك طمعاً في نفس القميص، ولا بد في المعصية من أن يقرن بهذا الخذلان، فلو خرقوه مع لطخِهِ بالدَّم، لكان الإيهامُ أقوى، فلما شاهد يعقوب عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ القميص صحيحاً؛ علم كذبهم».
قال عند ذلك: «فصَبْرٌ جميلٌ» يَجُوز أن يكون مبتدأ، وخبره محذوف، أي: صبرٌ جميلٌ أمثلُ بي، ويجوز أن يكون خبراً محذوف المبتدأ، أي: أمري صبرٌ جميلٌ قال الخليل: الذي أفعله صبر جميل. وقال قطربٌ: معناه فصبري صبرٌ جميلٌ.
وهل يجب حذف مبتدأ هذا الخبر، أو خبر هذا المبتدأ؟.
وضابطه: أن يكون مصدراً في الأصل بدلاً من اللفظ بفعله، فعبارة بعضهم تقتضي الوُجوبَ، وعبارةٌ آخرين تقتضي الجواز، ومِنَ التصريح بخبر هذا النَّوع، ولكنه في اصورةِ شعرٍ، قوله: [الطويل]
وقول الشاعر: [الرجز]
ويحتمل أن يكون مبتدأ أو خبراً كما تقدم.
وقرأ أبيّ وعيسى بن عمر: «فَصْبراً جَمِيلاً» نصباً، ورويت عن الكسائي وكذكل هي في مصحف أنس بن مالكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه وتخريجها على المصدر الخبري، أي: أصبر أنا صبراً، وهذه القراءة صعيفة إن خرجت هذا التَّخريج؛ لأنَّ سيبويه لا ينقاس ذلك عنده، إلاَّ في الطَّلب، فالأولى أن يجعل التَّقديرُ: أنَّ يعقوب رجع، وأمر نفسه، فكأنَّه قال: اصْبرِي يا نفسُ صبراً.
وقال القاضي: «لعلَّ غرضهم في نزع قميصه عند إلقائه في الجبّ أن يُلطِّخوهُ بالدَّم توكيداً لصدقهم؛ لأنَّهُ يبعدُ أن يفعلوا ذلك طمعاً في نفس القميص، ولا بد في المعصية من أن يقرن بهذا الخذلان، فلو خرقوه مع لطخِهِ بالدَّم، لكان الإيهامُ أقوى، فلما شاهد يعقوب عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ القميص صحيحاً؛ علم كذبهم».
قال عند ذلك: «فصَبْرٌ جميلٌ» يَجُوز أن يكون مبتدأ، وخبره محذوف، أي: صبرٌ جميلٌ أمثلُ بي، ويجوز أن يكون خبراً محذوف المبتدأ، أي: أمري صبرٌ جميلٌ قال الخليل: الذي أفعله صبر جميل. وقال قطربٌ: معناه فصبري صبرٌ جميلٌ.
وهل يجب حذف مبتدأ هذا الخبر، أو خبر هذا المبتدأ؟.
وضابطه: أن يكون مصدراً في الأصل بدلاً من اللفظ بفعله، فعبارة بعضهم تقتضي الوُجوبَ، وعبارةٌ آخرين تقتضي الجواز، ومِنَ التصريح بخبر هذا النَّوع، ولكنه في اصورةِ شعرٍ، قوله: [الطويل]
٣٠٦٨ - فقَالَتْ على اسْمِ اللهِ أمْرُكَ طاعَةٌ | وإنْ كُنْتُ قَد كُلِّفتُ ما لَمْ أعَوَّدِ |
٣٠٦٩ - يَشْكُو إِليًَّ جَملِي طُول السُّرى | صَبْرٌ جَميلٌ فكِلانَا مُبْتَلى |
وقرأ أبيّ وعيسى بن عمر: «فَصْبراً جَمِيلاً» نصباً، ورويت عن الكسائي وكذكل هي في مصحف أنس بن مالكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه وتخريجها على المصدر الخبري، أي: أصبر أنا صبراً، وهذه القراءة صعيفة إن خرجت هذا التَّخريج؛ لأنَّ سيبويه لا ينقاس ذلك عنده، إلاَّ في الطَّلب، فالأولى أن يجعل التَّقديرُ: أنَّ يعقوب رجع، وأمر نفسه، فكأنَّه قال: اصْبرِي يا نفسُ صبراً.
44
وروي البيت أيضاً بالرَّفعِ، والنَّصب على ما تقدَّم، والأمرُ فيه ظاهرٌ.
روى الحسنُ قال: سُئل النبيٌّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عن قوله «فَصبْرٌ جميلٌ» فقال عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «صَبْرٌ لا شكْوَى فيهِ، فمَنْ بثَّ لمْ يَصْبِرْ»، ويدلُّ على ذلك قوله: ﴿إِنَّمَآ أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى الله﴾ [يوسف: ٨٦] وقال مجاهدٌ «فَصبرٌ جَمِيلٌ»، أي: من غير جزعٍ. وقال الثوريُّ: «من الصًّبْر ألاّ تُحدِّثَ بوجعك، ولا بمُصيبتكَ».
وقال ابنُ الخطيبِ: «وههُنا بحثٌ، وهو أنَّ الصَّبْر على قضاءِ الله واجبٌ، وأما الصَّبرُ على ظُلم الظَّالمِ، فغيرُ واجبٍ، بل الواجبُ إزالتهُ لا سيِّما في الضَّرر العائدِ إ لى الغير، وههنا أنَّ إخوة يوسف قد ظهر كذبهم، وخيانتهم، فلم صبر يعقوب على ذلك؟ ولِمَ لَمْ يبالغ في التَّفتيش، ولا البحث عنه، ولا السّعي في تخيص يوسف من البليّة، والشِّدَّة إن كان حيًّا، وفي إقامة القصاص إن صحَّ أنهم قتلوه فثبت أنَّ الصَّبرَ في هذا المقام مذموم».
ويُقوِّي هذا السُّؤال أنَّه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ كان عالماً بأنه حي؛ لأنَّهُ قال له: ﴿وكذلك يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ﴾ [يوسف: ٦]. الظَّاهر أنه إنَّما قال هذا الكلام من الوحي، وإذا كان عالماً بأنَّه حيٌّ سليم؛ فكان من الواجب أن يسعى في طلبه.
وأيضاً: فإنَّ يعقوب عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ كان رجلاً عظيم القدر في نفسه، وكان من بيتٍ عظيم شريفٍ، وأهلُ العالم كانوا يعرفونه، ويعتقدون تعظيمه، فلو بالغ في البحث، والطلب لظهر ذلك، واشتهر، ولزال وجهُ التَّلبيسِ، فما السَّبب في أنه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ مع شدَّة رغبته في حضورِ يوسف، ونهاية حبِّه له لم يطلبه مع أنَّ طلبه كان من الواجبات؛ فثبت أنَّ هذا الصَّبر مذمومٌ عقلاً وشرعاً.
فالجواب أن نقول: إن الله سبحانه وتعالى منعه من الطَّلب تشديداً للمحنة عليه، وتغليطاً للأمر عليه، وأيضاً: لعلَّهُ عرف بقرائن الأحوال أنَّ أولاده أقوياء، وأنَّهم لا يمكنونه من الطَّلب، والفحص، وأنَّه لو بالغ في البحثِ فربما أقدموا على إيذائه، وأيضاً:
فصل
روى الحسنُ قال: سُئل النبيٌّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عن قوله «فَصبْرٌ جميلٌ» فقال عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «صَبْرٌ لا شكْوَى فيهِ، فمَنْ بثَّ لمْ يَصْبِرْ»، ويدلُّ على ذلك قوله: ﴿إِنَّمَآ أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى الله﴾ [يوسف: ٨٦] وقال مجاهدٌ «فَصبرٌ جَمِيلٌ»، أي: من غير جزعٍ. وقال الثوريُّ: «من الصًّبْر ألاّ تُحدِّثَ بوجعك، ولا بمُصيبتكَ».
وقال ابنُ الخطيبِ: «وههُنا بحثٌ، وهو أنَّ الصَّبْر على قضاءِ الله واجبٌ، وأما الصَّبرُ على ظُلم الظَّالمِ، فغيرُ واجبٍ، بل الواجبُ إزالتهُ لا سيِّما في الضَّرر العائدِ إ لى الغير، وههنا أنَّ إخوة يوسف قد ظهر كذبهم، وخيانتهم، فلم صبر يعقوب على ذلك؟ ولِمَ لَمْ يبالغ في التَّفتيش، ولا البحث عنه، ولا السّعي في تخيص يوسف من البليّة، والشِّدَّة إن كان حيًّا، وفي إقامة القصاص إن صحَّ أنهم قتلوه فثبت أنَّ الصَّبرَ في هذا المقام مذموم».
ويُقوِّي هذا السُّؤال أنَّه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ كان عالماً بأنه حي؛ لأنَّهُ قال له: ﴿وكذلك يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ﴾ [يوسف: ٦]. الظَّاهر أنه إنَّما قال هذا الكلام من الوحي، وإذا كان عالماً بأنَّه حيٌّ سليم؛ فكان من الواجب أن يسعى في طلبه.
وأيضاً: فإنَّ يعقوب عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ كان رجلاً عظيم القدر في نفسه، وكان من بيتٍ عظيم شريفٍ، وأهلُ العالم كانوا يعرفونه، ويعتقدون تعظيمه، فلو بالغ في البحث، والطلب لظهر ذلك، واشتهر، ولزال وجهُ التَّلبيسِ، فما السَّبب في أنه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ مع شدَّة رغبته في حضورِ يوسف، ونهاية حبِّه له لم يطلبه مع أنَّ طلبه كان من الواجبات؛ فثبت أنَّ هذا الصَّبر مذمومٌ عقلاً وشرعاً.
فالجواب أن نقول: إن الله سبحانه وتعالى منعه من الطَّلب تشديداً للمحنة عليه، وتغليطاً للأمر عليه، وأيضاً: لعلَّهُ عرف بقرائن الأحوال أنَّ أولاده أقوياء، وأنَّهم لا يمكنونه من الطَّلب، والفحص، وأنَّه لو بالغ في البحثِ فربما أقدموا على إيذائه، وأيضاً:
45
لعلَّه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ علم أنَّ الله ت تبارك وتعالى سيصون يوسف عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ عن البلاءِ والمحنةِ، وأن أمرهُ سيظهرُ بالآخرةِ ولم يرد هتْك ستر أولاده، وإلقائهم في ألسنةِ النَّاس وذلك لأنَّ أحَد الولدينِ إذا ظلم أخاه، وقع أبوه في العذابِ الشَّديدِ؛ لأنه إذا لم ينتقمْ؛ يحترق قلبه على الولد المظْلُوم، وإن انتقم، احترق قلبه على الولدِ المُنتقَم منه، فلمَّا وقع يعقوب في هذه البلية رأى أنَّ الأصوب الصَّبرُ، والسُّكونُ، وتفويضُ الأَمْرِ بالكُليَّةِ إلى اللهِ تعالى.
قال ابنُ رفاعة «ينبغي لأهل الرَّاي أن يتَّهِمُوا رأيهم عند ظنّ يعقوب عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ وهو نبيٌّ حين قال له بنوه: ﴿إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِندَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذئب﴾ [يوسف: ١٧] فقال: ﴿بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْراً﴾ [يوسف: ١٨] فأصاب هنا، ثمَّ لما قالوا له: ﴿إِنَّ ابنك سَرَقَ وَمَا شَهِدْنَآ إِلاَّ بِمَا عَلِمْنَا وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ﴾ [يوسف: ٨١]، قال: ﴿بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ﴾ [يوسف: ٨٣] فلم يُصِبْ».
قوله: «فَصْبرٌ جَميلٌ» يدل على أنَّ الصّبر قسمان:
أحدهما: جميلٌ، والآخر: غيرُ جميلٍ، فالصَّبرٌ الجميلُ هو: أن يعرف أنَّ مُنزِّلَ ذلك البلاء هو الله تعالى ثمَّ يعلم أنَّهُ سبحانه مالكُ المُلكِ، ولا اعتراض على المالكِ في أنْ يتصرَّف في ملكه، فيصيرُ استغراق قلبه في هذا المقام مانعاً من الشِّكايةِ.
وأيضاً: يعلمُ أن منزِّل هذا البلاءِ حليمٌ لا يجهلُ، عالمٌ لا يغفلُ، وإذَا كان كذلك، فكان كلُّ ماصدر عنه حكمةً وصواباً، فعند ذلك يسكتُ ولا يعترضُ.
وأمَّا الصَّبرُ غير الجميل: فهو الصَّبرُ لسائر الأغراض، لا لأجل الرِّضا بقضاءِ الله سبحانه وتعالى والضَّابطُ في جميع الأقوال والأفعال والاعتقادات: أنه لكما كان لطلب عبودية الله تعالى كان حسناً وإلا فلا.
ثم قال: ﴿والله المستعان على مَا تَصِفُونَ﴾ أي: استعين بالله على الصَّبر على ما تكذبون.
فصل
قال ابنُ رفاعة «ينبغي لأهل الرَّاي أن يتَّهِمُوا رأيهم عند ظنّ يعقوب عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ وهو نبيٌّ حين قال له بنوه: ﴿إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِندَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذئب﴾ [يوسف: ١٧] فقال: ﴿بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْراً﴾ [يوسف: ١٨] فأصاب هنا، ثمَّ لما قالوا له: ﴿إِنَّ ابنك سَرَقَ وَمَا شَهِدْنَآ إِلاَّ بِمَا عَلِمْنَا وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ﴾ [يوسف: ٨١]، قال: ﴿بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ﴾ [يوسف: ٨٣] فلم يُصِبْ».
فصل
قوله: «فَصْبرٌ جَميلٌ» يدل على أنَّ الصّبر قسمان:
أحدهما: جميلٌ، والآخر: غيرُ جميلٍ، فالصَّبرٌ الجميلُ هو: أن يعرف أنَّ مُنزِّلَ ذلك البلاء هو الله تعالى ثمَّ يعلم أنَّهُ سبحانه مالكُ المُلكِ، ولا اعتراض على المالكِ في أنْ يتصرَّف في ملكه، فيصيرُ استغراق قلبه في هذا المقام مانعاً من الشِّكايةِ.
وأيضاً: يعلمُ أن منزِّل هذا البلاءِ حليمٌ لا يجهلُ، عالمٌ لا يغفلُ، وإذَا كان كذلك، فكان كلُّ ماصدر عنه حكمةً وصواباً، فعند ذلك يسكتُ ولا يعترضُ.
وأمَّا الصَّبرُ غير الجميل: فهو الصَّبرُ لسائر الأغراض، لا لأجل الرِّضا بقضاءِ الله سبحانه وتعالى والضَّابطُ في جميع الأقوال والأفعال والاعتقادات: أنه لكما كان لطلب عبودية الله تعالى كان حسناً وإلا فلا.
ثم قال: ﴿والله المستعان على مَا تَصِفُونَ﴾ أي: استعين بالله على الصَّبر على ما تكذبون.
46
و " نَسْتَبْقُ " نتسابق. والافتِعَال والتَّفاعُل يشتركان نحو قولهم : نَنْتَضِل ونتناضل ونرتمي ونترامى، و " نَسْتَبِقَ " في محل نصب على الحال و " تَركْنَا " حال من نَسْتَبقُ و " قد " معه مضمرة عند بعضهم.
قال الزجاج :" يسابق بعضنا بعضاً في الرمي "، ومنه قوله عليه الصلاة والسلام :" لا سَبقَ إلاَّ في نصْلٍ أو خفِّ أو حافرٍ " يعنى بالنصل : الرمي وأصل السبق : الرمي بالسهم، ثم يوصف المتراميان بذلك، يقال : استبقا وتسابقا : إذا فعلا ذلك السبق ليتبين أيهما أسبق.
ويدل على صحة هذا التفسير ما روي في قراءة عبدالله :" إنَّا ذَهبْنَا نَنْضِلُ " وقال السدي ومقاتل :" نَسْتبِقُ " نشتد ونعدو.
فإن قيل : كيف جاز أن يستبقوا وهم رجال بالغون، وهذا من فعل الصبيان فالجواب : أن الاستباق منهم كان مثل الاستباق في الخيل، وكانوا يجربون بذلك أنفسهم ويدربونها على العدو، لأنه كالآلات لهم في محاربة العدو، وقوله " فأكلهُ الذِّئْبُ " قيل : أكل الذئب يوسف وقيل : عرَّضُوا، وأرادوا أكل الذئب المتاع، والأول أصح.
ثم قالوا :" ومَا أنْتَ بمُؤمٍ لنَا "، أي بمصدق لنا. وقولهم " ولوْ كُنَّا صَادقينَ " جملة حالية، أي : ما أنت بمصدق لنا في كل حال حتى في حال صدقنا لما غلب على ظنك في تهمتنا ببغض يوسف وكراهتنا له.
فإن قيل : كيف قالوا ليعقوب : أنت لا تصدق الصادقين ؟.
قيل : المعنى أنك تتهمنا في هذا الأمر ؛ لأنك خفتنا في الابتداء، واتهمتنا في حقه.
وقيل : المعنى لا تصدقنا ؛ لأنه لا دليل لنا على صدقنا وإن كنا صادقين عند الله تعالى.
احتجوا بهذه الآية على أن الإيمان في اللغة عبارة عن التصديق لقوله تعالى :﴿ وَمَآ أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لَّنَا ﴾، أي بمصدق.
روي أن امرأة تحاكمت إلى شريح فبكت، فقال الشعبي : يا أبا أمية : أما تراها تبكي ؟ قال : قد جاء إخوة يوسف يبكون وهم ظلمة كذبة لا ينبغي للإنسان أن يقضي إلا بالحق.
قال الزجاج :" يسابق بعضنا بعضاً في الرمي "، ومنه قوله عليه الصلاة والسلام :" لا سَبقَ إلاَّ في نصْلٍ أو خفِّ أو حافرٍ " يعنى بالنصل : الرمي وأصل السبق : الرمي بالسهم، ثم يوصف المتراميان بذلك، يقال : استبقا وتسابقا : إذا فعلا ذلك السبق ليتبين أيهما أسبق.
ويدل على صحة هذا التفسير ما روي في قراءة عبدالله :" إنَّا ذَهبْنَا نَنْضِلُ " وقال السدي ومقاتل :" نَسْتبِقُ " نشتد ونعدو.
فإن قيل : كيف جاز أن يستبقوا وهم رجال بالغون، وهذا من فعل الصبيان فالجواب : أن الاستباق منهم كان مثل الاستباق في الخيل، وكانوا يجربون بذلك أنفسهم ويدربونها على العدو، لأنه كالآلات لهم في محاربة العدو، وقوله " فأكلهُ الذِّئْبُ " قيل : أكل الذئب يوسف وقيل : عرَّضُوا، وأرادوا أكل الذئب المتاع، والأول أصح.
ثم قالوا :" ومَا أنْتَ بمُؤمٍ لنَا "، أي بمصدق لنا. وقولهم " ولوْ كُنَّا صَادقينَ " جملة حالية، أي : ما أنت بمصدق لنا في كل حال حتى في حال صدقنا لما غلب على ظنك في تهمتنا ببغض يوسف وكراهتنا له.
فإن قيل : كيف قالوا ليعقوب : أنت لا تصدق الصادقين ؟.
قيل : المعنى أنك تتهمنا في هذا الأمر ؛ لأنك خفتنا في الابتداء، واتهمتنا في حقه.
وقيل : المعنى لا تصدقنا ؛ لأنه لا دليل لنا على صدقنا وإن كنا صادقين عند الله تعالى.
فصل
احتجوا بهذه الآية على أن الإيمان في اللغة عبارة عن التصديق لقوله تعالى :﴿ وَمَآ أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لَّنَا ﴾، أي بمصدق.
روي أن امرأة تحاكمت إلى شريح فبكت، فقال الشعبي : يا أبا أمية : أما تراها تبكي ؟ قال : قد جاء إخوة يوسف يبكون وهم ظلمة كذبة لا ينبغي للإنسان أن يقضي إلا بالحق.
قوله تعالى :﴿ وَجَآءُوا على قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ ﴾ الآية " علَى قَمِيصهِ " في محل نصب على الحال من الدم.
قال ابو البقاء :" لأن التقدير : جاءوا بدم كذب على قيمصه ". يعنى أنه لو تأخر لكان صفة للنكرة. ورد الزمخشري هذا الوجه.
قال : فإن قلت : هل يجوز أن تكون حالاً متقدمة ".
قلت : لا، لأن حال المجرور لا يتقدم عليه ".
وهذا الذي رد به الزمخشري أحد قولي النحاة، قد صحح جماعة جوازه ؛ وأنشد :[ الطويل ]
وقول الآخر :[ الطويل ]
وقول الآخر :[ الخفيف ]
وقال الحوفيُّ :" علَى قَميصِهِ " : متعلقٌّ ب " جَاءُوا "، وفيه نظرٌ ؛ لأنَّ مجيئهم لا يصلحُ أن يكُونَ على القَميصِ.
وقال الزمخشري :" فإن قلت :" عَلى قَميصِهِ " ما محلهُ ؟ قلتُ : محلُّهُ النَّصب على [ الظَّرفيةِ ]، كأنَّه قيل : وجاءُوا فوقَ قَميصِه بدمٍ، كما تقولُ : جَاءُوا على جِمالهِ بأحمال ".
قال أبو حيان : ولا يُسَاعدُ المعنى على نَصْبِ " عَلَى " على الظرفية، بمعنى : فوق لأن العامل فيه إذ ذاك " جَاءُوا " وليس الفرق ظرفاً لهم [ بل يستحيل أن يكُون ظرفاً لهم ].
وهذا الردُّ هو الذي ردَّ به على الحوفيِّ في قوله : إنَّ " عَلَى " متعلقة ب :" جَاءُوا ".
ثمَّ قال أبو حيان رحمه الله :" وأمَّا المثالُ الذي ذكره وهو :[ جاء ] على جماله بإحمالٍ، فيمكنُ أن يكون ظرفاً للجانئي ؛ لأنَّه تمكن الظرف فيه باعتبار تبدُّلهِ من حمل إلى حمل، ويكُونُ " بأحْمالٍ " في موضع الحالِ، أي : مصحوباً بأحمال ".
وقرأ العامَّةُ :" كَذبٍ " بالذَّال المعجمة، وهو من الوصفِ بالمصادرِ، فيمكنُ أن يكُون على سبيل المبالغةِ، نحو :" رَجُلٌ عدْلٌ ".
وقال الفراء، والمبرِّد والزجاج، وابن الأنباريِّ :" بدمٍ كذبٍ "، أي : مكذُوبٍ فيه، إلا أنَّه وصف بالمصدر، جعل نفس الدَّم كذباً ؛ للمبالغة، قالوا : والمفعُول، والفاعل يسميان بالمصدر، كما يقال : ماءٌ سكبٌ، أ ي : مسكوبٌ، والفاعل كقوله :
﴿ إِنْ أَصْبَحَ مَآؤُكُمْ غَوْراً ﴾ [ الملك : ٣٠ ]، ولما سُمِّيا بالمصدر سمي المصدرُ بهما، فقالوا للعقل : المعقول، وللجلد : المجلُود، ومنه قوله تعالى :﴿ المفتون ﴾ [ القلم : ٦ ] أو على حذف مضاف، إي : ذي كذبٍ، ونسب فعل فاعله إليه.
وقرأ زيد بن عليٍّ :" كذِباً " بالنصب، فاحتمل أن يكون مفعولاً من أجله، واحتمل أن يكون مصدراً في موضع الحالِ، وهو قليلٌ، أعني : مجيء الحال من النكرة، وقرأت عائشة الحسنُ [ رضي الله عنهما ] :" كّدِبٍ " بالدَّال المهملة.
قال صاحب اللَّوامحك " معناهُ : ذي كدب، أي أثر ؛ لأنَّ الكدِبَ هو بياضٌ، يخرج في [ أظافير الشبان ] ويؤثر فيها، فهو كالنقش، ويسمى ذلك البياض : الفُوف، فيكون هذا استعارة لتأثيرة في القميص، كتأثير ذلك في الأظافر ".
وقيل : هو الدَّمُ الكدرُ، وقيل : الطَّريُّ، وقيل : اليابس.
قال الشعبيُّ : قصة يوسف كلُّها في قميصه، وذلك أنَّهم لمَّا ألقوه في الجبّ، نزعوا قميصه، ولطَّخوهُ بالدَّم، وعرضوه على أبيه، ولمَّا شهد الشَّاهدُ قال :﴿ وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِن الصَّادِقِينَ فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِن كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ ﴾ [ يوسف : ٢٧-٢٨ ] وقال :﴿ اذهبوا بِقَمِيصِي هذا ﴾ [ يوسف : ٩٣ ] ولما أتى البشيرُ إلى يعقوب بقميصه، وألقى على وجهه، فارتدَّ بصيراً.
قال القرطبِيُّ :" هذا مردودٌ، فإنَّ القميص الذي جاءوا عليه بالدذَم غير القميص الذي قُدَّ، وغيرُ القميص الذي أتى به البَشيرُ، وقيل : إنَّ القميص الذي أتى به البَشيرُ إلى يعقوب، فارتدَّ بصيراً هو القميص الذي قُدَّ مِنْ دُبُرٍ ".
قال بعض العلماءِ رضي الله عنهم : لمَّا أرادوا أن يجعلوا الدَّم علامة على صدقهم ؛ قرن اللهُ بهذه العلامة علامةً تعارضُهَا، وهي سلامةٌ القميص من التَّخريقِ، إذْ لا يمكن افتراسُ الذِّئب ليوسف، وهو لابسٌ القميس، ويسلمُ القميص من التَّخريق ولمَّا تأمَّل يعقوب عليه السَّلام القميص لم يجدْ فيه خرقاً، ولا أثراً، استدلَّ بذلك على كذبهم، وقال لهم : تزعُمُون أن الذِّئب أكله، ولو أكلهُ لشقَّ قميصه.
استدلَّ العلماءُ بهذه [ الآية ] في إعمال الأمارات في مسائلَ من الفقهِ كالقسامةِ وغيرها، كما استدلَّ يعقوب عليه الصلاة والسلام ت على كذكبهم بصحَّة القميص، فيجبُ على النَّاظر أن يلحظ الآيات، والعلامات إذا تعارضت، فما ترجَّح منها قضى بجانب التَّرجيحِ، وهي قُوَّة التُّهمةِ، [ قال ابن الربي ] ولا خلاف في الحكم بها.
قال محمد بن إسحاقَ : اشتمل فعلهم على جَرائمَ من قطعيعةٍ الرَّحم وعُقوقِ الوالدِ، وقلَّة الرًَّأفةِ الصَّغير الذي لا ذنْبَ له، والغدر بالأمانة، وترك العهد، والكذب مع أبيهم وعفا اللهُ عنهم ذلك كلَّه حتى لا ييأس العبد من رحمة الله تعالى.
قال بعضُ العلماءِ : إنَّهم عزموا على قتله، وعصمهم الله رحمة بهم، ولو فعلوا لهلكوا.
قوله تعالى :﴿ بَلْ سَوَّلَتْ ﴾ قبل هذه الجملة جلمة محذوفة تقديرها : لم يأكله الذِّئب بل سوَّلت، أي : زيَّنتْ وسهّلتْ، قاله ابنُ عباسٍ رضي الله عنه.
والتَّسويلُ : تقدير معنى في النَّفس مع الطَّمع في إتمامه.
قال الأزهريُّ :" كأن التسويلُ تفعيلٌ من سؤال الإنسان، وهو أمنيتُه التي يطلبها، فتزين لطالبها الباطل وغيره ". وأصله مهموزٌ على أنَّ العرب يستثقلون فيه الهمز.
قال الزمخشري :" سوَّلتْ : سهُلتْ من السَّولِ، وهو الاسْتْخَاءُ ".
وإذا عرفت هذا فقوله :" بَلْ " ردُّ لقولهم :" أكَلهُ الذِّبُ " كأنه قال : ليس كما تقولون، بل سولت لكم أنفسكم أمراً في شأنه، أي : زيَّنَتْ لكم أنفسُكم أمراً غير ما تصفون.
واختلف في السَّبب الذي عرف به كونهم كاذبين، فقيل : عرف ذلك بسبب أنَّه كان عيرف الحسد الشَّديدَ منهم في قلوبهم، وقيلك كان عالماً بأنه حيٌّ، لقوله ليوسف :﴿ وكذلك يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ ﴾ [ يوسف : ٦ ] وذلك دليلٌ قاطعٌ على كونهم كاذبين في ذلك الوقتِ.
وقال سعيدُ بن جبيرٍ رضي الله عنه : لما جاءُوا على قميصه بدم كذب، وما كان مُخْرّقاً، قال : كذبتم لو أكله الذِّب لخرق قميصه. وعن السدي أنه قال : إنَّ يعقوب عليه السلام قال : إنَّ الذِّئب كان رَحِيماً، كيف أكل لحمه، ولم يخرقْ قميصه ؟.
وقيل : إنه عليه الصلاة والسلام لما قال ذلك قال بعضهم : بل قتله اللصوصُ، فقال : كيف قتلوه، وتركوا قميصه، وهم إلى القميص أحْوَجُ منه إلى قتله، فلمَّا اختلفت أقوالهم ؛ عرف بذلك كذبهم.
وقال القاضي :" لعلَّ غرضهم في نزع قميصه عند إلقائه في الجبّ أن يُلطِّخوهُ بالدَّم توكيداً لصدقهم ؛ لأنَّهُ يبعدُ أن يفعلوا ذلك طمعاً في نفس القميص، ولا بد في المعصية من أن يقرن بهذا الخذلان، فلو خرقوه مع لطخِهِ بالدَّم، لكان الإيهامُ أقوى، فلما شاهد يعقوب عليه الصلاة والسلام القميص صحيحاً ؛ علم كذبهم ".
قال عند ذلك :" فصَبْرٌ جميلٌ " يَجُوز أن يكون مبتدأ، وخبره محذوف، أي : صبرٌ جميلٌ أمثلُ بي، ويجوز أن يكون خبراً محذوف المبتدأ، أي : أمري صبرٌ جميلٌ قال الخليل : الذي أفعله صبر جميل. وقال قطربٌ : معناه فصبري صبرٌ جميلٌ.
وهل يجب حذف مبتدأ هذا الخبر، أو خبر هذا المبتدأ ؟.
وضابطه : أن يكون مصدراً في الأصل بدلاً من اللفظ بفعله، فعبارة بعضهم تقتضي الوُجوبَ، وعبارةٌ آخرين تقتضي الجواز، ومِنَ التصريح بخبر هذا النَّوع، ولكنه في اصورةِ شعرٍ، قوله :[ الطويل ]
وقول الشاعر :[ الرجز ]
ويحتمل أن يكون مبتدأ أو خبراً كما تقدم.
وقرأ أبيّ وعيسى بن عمر :" فَصْبراً جَمِيلاً " نصباً، ورويت عن الكسائي وكذكل هي في مصحف أنس بن مالكٍ رضي الله عنه وتخريجها على المصدر الخبري، أي : أصبر أنا صبراً، وهذه القراءة صعيفة إن خرجت هذا التَّخريج ؛ لأنَّ سيبويه لا ينقاس ذلك عنده، إلاَّ في الطَّلب، فالأولى أن يجعل التَّقديرُ : أنَّ يعقوب رجع، وأمر نفسه، فكأنَّه قال : اصْبرِي يا نفسُ صبراً.
وروي البيت أيضاً بالرَّفعِ، والنَّصب على ما تقدَّم، والأمرُ فيه ظاهرٌ.
روى الحسنُ قال : سُئل النبيٌّ صلى الله عليه وسلم عن قوله " فَصبْرٌ جميلٌ " فقال عليه الصلاة والسلام :" صَبْرٌ لا شكْوَى فيهِ، فمَنْ بثَّ لمْ يَصْبِرْ "، ويدلُّ على ذلك قوله :﴿ إِنَّمَآ أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى الله ﴾ [ يوسف : ٨٦ ] وقال مجاهدٌ " فَصبرٌ جَمِيلٌ "، أي : من غير جزعٍ. وقال الثوريُّ :" من الصًّبْر ألاّ تُحدِّثَ بوجعك، ولا بمُصيبتكَ ".
وقال ابنُ الخطيبِ :" وههُنا بحثٌ، وهو أنَّ الصَّبْر على قضاءِ الله واجبٌ، وأما الصَّبرُ على ظُلم الظَّالمِ، فغيرُ واجبٍ، بل الواجبُ إزالتهُ لا سيِّما في الضَّرر العائدِ إ لى الغير، وههنا أنَّ إخوة يوسف قد ظهر كذبهم، وخيانتهم، فلم صبر يعقوب على ذلك ؟ ولِمَ لَمْ يبالغ في التَّفتيش، ولا البحث عنه، ولا السّعي في تخيص يوسف من البليّة، والشِّدَّة إن كان حيًّا، وفي إقامة القصاص إن صحَّ أنهم قتلوه فثبت أنَّ الصَّبرَ في هذا المقام مذموم ".
ويُقوِّي هذا السُّؤال أنَّه عليه الصلاة والسلام كان عالماً بأنه حي ؛ لأنَّهُ قال له :﴿ وكذلك يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ ﴾ [ يوسف : ٦ ]. الظَّاهر أنه إنَّما قال هذا الكلام من الوحي، وإذا كان عالماً بأنَّه حيٌّ سليم ؛ فكان من الواجب أن يسعى في طلبه.
وأيضاً : فإنَّ يعقوب عليه الصلاة والسلام كان رجلاً عظيم القدر في نفسه، وكان من بيتٍ عظيم شريفٍ، وأهلُ العالم كانوا يعرفونه، ويعتقدون تعظيمه، فلو بالغ في البحث، والطلب لظهر ذلك، واشتهر، ولزال وجهُ التَّلبيسِ، فما السَّبب في أنه عليه الصلاة والسلام مع شدَّة رغبته في حضورِ يوسف، ونهاية حبِّه له لم يطلبه مع أنَّ طلبه كان من الواجبات ؛ فثبت أنَّ هذا الصَّبر مذمومٌ عقلاً وشرعاً.
فالجواب أن نقول : إن الله سبحانه وتعالى منعه من الطَّلب تشديداً للمحنة عليه، وتغليطاً للأمر عليه، وأيضاً : لعلَّهُ عرف بقرائن الأحوال أنَّ أولاده أقوياء، وأنَّهم لا يمكنونه من الطَّلب، والفحص، وأنَّه لو بالغ في البحثِ فربما أقدموا على إيذائه، وأيضاً : لعلَّهن عليه الصلاة والسلام علم أنَّ الله ت تبارك وتعالى سيصون يوسف عليه الصلاة والسلام عن البلاءِ والمحنةِ، وأن أمرهُ سيظهرُ بالآخرةِ ولم يرد هتْك ستر أولاده، وإلقائهم
قال ابو البقاء :" لأن التقدير : جاءوا بدم كذب على قيمصه ". يعنى أنه لو تأخر لكان صفة للنكرة. ورد الزمخشري هذا الوجه.
قال : فإن قلت : هل يجوز أن تكون حالاً متقدمة ".
قلت : لا، لأن حال المجرور لا يتقدم عليه ".
وهذا الذي رد به الزمخشري أحد قولي النحاة، قد صحح جماعة جوازه ؛ وأنشد :[ الطويل ]
٣٠٦٥. . . . . . . . . . . . . . . . . | فَلنْ يَذْهَبُوا فِرغاً بِفتْلِ حِبَالِ |
٣٠٦٦ لَئِنْ كَان بَرْدُ الماءِ هَيْمانَ صَادِياً | إليَّ حَبِيباً إنَّها لَحبِيبُ |
٣٠٦٧ غَافِلاً تعْرِضُ المنِيَّةُ لِلمرْءِ | فيُدْعَى ولاتَ حِينَ إبَاءُ |
وقال الزمخشري :" فإن قلت :" عَلى قَميصِهِ " ما محلهُ ؟ قلتُ : محلُّهُ النَّصب على [ الظَّرفيةِ ]، كأنَّه قيل : وجاءُوا فوقَ قَميصِه بدمٍ، كما تقولُ : جَاءُوا على جِمالهِ بأحمال ".
قال أبو حيان : ولا يُسَاعدُ المعنى على نَصْبِ " عَلَى " على الظرفية، بمعنى : فوق لأن العامل فيه إذ ذاك " جَاءُوا " وليس الفرق ظرفاً لهم [ بل يستحيل أن يكُون ظرفاً لهم ].
وهذا الردُّ هو الذي ردَّ به على الحوفيِّ في قوله : إنَّ " عَلَى " متعلقة ب :" جَاءُوا ".
ثمَّ قال أبو حيان رحمه الله :" وأمَّا المثالُ الذي ذكره وهو :[ جاء ] على جماله بإحمالٍ، فيمكنُ أن يكون ظرفاً للجانئي ؛ لأنَّه تمكن الظرف فيه باعتبار تبدُّلهِ من حمل إلى حمل، ويكُونُ " بأحْمالٍ " في موضع الحالِ، أي : مصحوباً بأحمال ".
وقرأ العامَّةُ :" كَذبٍ " بالذَّال المعجمة، وهو من الوصفِ بالمصادرِ، فيمكنُ أن يكُون على سبيل المبالغةِ، نحو :" رَجُلٌ عدْلٌ ".
وقال الفراء، والمبرِّد والزجاج، وابن الأنباريِّ :" بدمٍ كذبٍ "، أي : مكذُوبٍ فيه، إلا أنَّه وصف بالمصدر، جعل نفس الدَّم كذباً ؛ للمبالغة، قالوا : والمفعُول، والفاعل يسميان بالمصدر، كما يقال : ماءٌ سكبٌ، أ ي : مسكوبٌ، والفاعل كقوله :
﴿ إِنْ أَصْبَحَ مَآؤُكُمْ غَوْراً ﴾ [ الملك : ٣٠ ]، ولما سُمِّيا بالمصدر سمي المصدرُ بهما، فقالوا للعقل : المعقول، وللجلد : المجلُود، ومنه قوله تعالى :﴿ المفتون ﴾ [ القلم : ٦ ] أو على حذف مضاف، إي : ذي كذبٍ، ونسب فعل فاعله إليه.
وقرأ زيد بن عليٍّ :" كذِباً " بالنصب، فاحتمل أن يكون مفعولاً من أجله، واحتمل أن يكون مصدراً في موضع الحالِ، وهو قليلٌ، أعني : مجيء الحال من النكرة، وقرأت عائشة الحسنُ [ رضي الله عنهما ] :" كّدِبٍ " بالدَّال المهملة.
قال صاحب اللَّوامحك " معناهُ : ذي كدب، أي أثر ؛ لأنَّ الكدِبَ هو بياضٌ، يخرج في [ أظافير الشبان ] ويؤثر فيها، فهو كالنقش، ويسمى ذلك البياض : الفُوف، فيكون هذا استعارة لتأثيرة في القميص، كتأثير ذلك في الأظافر ".
وقيل : هو الدَّمُ الكدرُ، وقيل : الطَّريُّ، وقيل : اليابس.
فصل
قال الشعبيُّ : قصة يوسف كلُّها في قميصه، وذلك أنَّهم لمَّا ألقوه في الجبّ، نزعوا قميصه، ولطَّخوهُ بالدَّم، وعرضوه على أبيه، ولمَّا شهد الشَّاهدُ قال :﴿ وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِن الصَّادِقِينَ فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِن كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ ﴾ [ يوسف : ٢٧-٢٨ ] وقال :﴿ اذهبوا بِقَمِيصِي هذا ﴾ [ يوسف : ٩٣ ] ولما أتى البشيرُ إلى يعقوب بقميصه، وألقى على وجهه، فارتدَّ بصيراً.
قال القرطبِيُّ :" هذا مردودٌ، فإنَّ القميص الذي جاءوا عليه بالدذَم غير القميص الذي قُدَّ، وغيرُ القميص الذي أتى به البَشيرُ، وقيل : إنَّ القميص الذي أتى به البَشيرُ إلى يعقوب، فارتدَّ بصيراً هو القميص الذي قُدَّ مِنْ دُبُرٍ ".
فصل
قال بعض العلماءِ رضي الله عنهم : لمَّا أرادوا أن يجعلوا الدَّم علامة على صدقهم ؛ قرن اللهُ بهذه العلامة علامةً تعارضُهَا، وهي سلامةٌ القميص من التَّخريقِ، إذْ لا يمكن افتراسُ الذِّئب ليوسف، وهو لابسٌ القميس، ويسلمُ القميص من التَّخريق ولمَّا تأمَّل يعقوب عليه السَّلام القميص لم يجدْ فيه خرقاً، ولا أثراً، استدلَّ بذلك على كذبهم، وقال لهم : تزعُمُون أن الذِّئب أكله، ولو أكلهُ لشقَّ قميصه.
فصل
استدلَّ العلماءُ بهذه [ الآية ] في إعمال الأمارات في مسائلَ من الفقهِ كالقسامةِ وغيرها، كما استدلَّ يعقوب عليه الصلاة والسلام ت على كذكبهم بصحَّة القميص، فيجبُ على النَّاظر أن يلحظ الآيات، والعلامات إذا تعارضت، فما ترجَّح منها قضى بجانب التَّرجيحِ، وهي قُوَّة التُّهمةِ، [ قال ابن الربي ] ولا خلاف في الحكم بها.
فصل
قال محمد بن إسحاقَ : اشتمل فعلهم على جَرائمَ من قطعيعةٍ الرَّحم وعُقوقِ الوالدِ، وقلَّة الرًَّأفةِ الصَّغير الذي لا ذنْبَ له، والغدر بالأمانة، وترك العهد، والكذب مع أبيهم وعفا اللهُ عنهم ذلك كلَّه حتى لا ييأس العبد من رحمة الله تعالى.
قال بعضُ العلماءِ : إنَّهم عزموا على قتله، وعصمهم الله رحمة بهم، ولو فعلوا لهلكوا.
قوله تعالى :﴿ بَلْ سَوَّلَتْ ﴾ قبل هذه الجملة جلمة محذوفة تقديرها : لم يأكله الذِّئب بل سوَّلت، أي : زيَّنتْ وسهّلتْ، قاله ابنُ عباسٍ رضي الله عنه.
والتَّسويلُ : تقدير معنى في النَّفس مع الطَّمع في إتمامه.
قال الأزهريُّ :" كأن التسويلُ تفعيلٌ من سؤال الإنسان، وهو أمنيتُه التي يطلبها، فتزين لطالبها الباطل وغيره ". وأصله مهموزٌ على أنَّ العرب يستثقلون فيه الهمز.
قال الزمخشري :" سوَّلتْ : سهُلتْ من السَّولِ، وهو الاسْتْخَاءُ ".
وإذا عرفت هذا فقوله :" بَلْ " ردُّ لقولهم :" أكَلهُ الذِّبُ " كأنه قال : ليس كما تقولون، بل سولت لكم أنفسكم أمراً في شأنه، أي : زيَّنَتْ لكم أنفسُكم أمراً غير ما تصفون.
واختلف في السَّبب الذي عرف به كونهم كاذبين، فقيل : عرف ذلك بسبب أنَّه كان عيرف الحسد الشَّديدَ منهم في قلوبهم، وقيلك كان عالماً بأنه حيٌّ، لقوله ليوسف :﴿ وكذلك يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ ﴾ [ يوسف : ٦ ] وذلك دليلٌ قاطعٌ على كونهم كاذبين في ذلك الوقتِ.
وقال سعيدُ بن جبيرٍ رضي الله عنه : لما جاءُوا على قميصه بدم كذب، وما كان مُخْرّقاً، قال : كذبتم لو أكله الذِّب لخرق قميصه. وعن السدي أنه قال : إنَّ يعقوب عليه السلام قال : إنَّ الذِّئب كان رَحِيماً، كيف أكل لحمه، ولم يخرقْ قميصه ؟.
وقيل : إنه عليه الصلاة والسلام لما قال ذلك قال بعضهم : بل قتله اللصوصُ، فقال : كيف قتلوه، وتركوا قميصه، وهم إلى القميص أحْوَجُ منه إلى قتله، فلمَّا اختلفت أقوالهم ؛ عرف بذلك كذبهم.
وقال القاضي :" لعلَّ غرضهم في نزع قميصه عند إلقائه في الجبّ أن يُلطِّخوهُ بالدَّم توكيداً لصدقهم ؛ لأنَّهُ يبعدُ أن يفعلوا ذلك طمعاً في نفس القميص، ولا بد في المعصية من أن يقرن بهذا الخذلان، فلو خرقوه مع لطخِهِ بالدَّم، لكان الإيهامُ أقوى، فلما شاهد يعقوب عليه الصلاة والسلام القميص صحيحاً ؛ علم كذبهم ".
قال عند ذلك :" فصَبْرٌ جميلٌ " يَجُوز أن يكون مبتدأ، وخبره محذوف، أي : صبرٌ جميلٌ أمثلُ بي، ويجوز أن يكون خبراً محذوف المبتدأ، أي : أمري صبرٌ جميلٌ قال الخليل : الذي أفعله صبر جميل. وقال قطربٌ : معناه فصبري صبرٌ جميلٌ.
وهل يجب حذف مبتدأ هذا الخبر، أو خبر هذا المبتدأ ؟.
وضابطه : أن يكون مصدراً في الأصل بدلاً من اللفظ بفعله، فعبارة بعضهم تقتضي الوُجوبَ، وعبارةٌ آخرين تقتضي الجواز، ومِنَ التصريح بخبر هذا النَّوع، ولكنه في اصورةِ شعرٍ، قوله :[ الطويل ]
٣٠٦٨ فقَالَتْ على اسْمِ اللهِ أمْرُكَ طاعَةٌ | وإنْ كُنْتُ قَد كُلِّفتُ ما لَمْ أعَوَّدِ |
٣٠٦٩ يَشْكُو إِليًَّ جَملِي طُول السُّرى | صَبْرٌ جَميلٌ فكِلانَا مُبْتَلى |
وقرأ أبيّ وعيسى بن عمر :" فَصْبراً جَمِيلاً " نصباً، ورويت عن الكسائي وكذكل هي في مصحف أنس بن مالكٍ رضي الله عنه وتخريجها على المصدر الخبري، أي : أصبر أنا صبراً، وهذه القراءة صعيفة إن خرجت هذا التَّخريج ؛ لأنَّ سيبويه لا ينقاس ذلك عنده، إلاَّ في الطَّلب، فالأولى أن يجعل التَّقديرُ : أنَّ يعقوب رجع، وأمر نفسه، فكأنَّه قال : اصْبرِي يا نفسُ صبراً.
وروي البيت أيضاً بالرَّفعِ، والنَّصب على ما تقدَّم، والأمرُ فيه ظاهرٌ.
فصل
روى الحسنُ قال : سُئل النبيٌّ صلى الله عليه وسلم عن قوله " فَصبْرٌ جميلٌ " فقال عليه الصلاة والسلام :" صَبْرٌ لا شكْوَى فيهِ، فمَنْ بثَّ لمْ يَصْبِرْ "، ويدلُّ على ذلك قوله :﴿ إِنَّمَآ أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى الله ﴾ [ يوسف : ٨٦ ] وقال مجاهدٌ " فَصبرٌ جَمِيلٌ "، أي : من غير جزعٍ. وقال الثوريُّ :" من الصًّبْر ألاّ تُحدِّثَ بوجعك، ولا بمُصيبتكَ ".
وقال ابنُ الخطيبِ :" وههُنا بحثٌ، وهو أنَّ الصَّبْر على قضاءِ الله واجبٌ، وأما الصَّبرُ على ظُلم الظَّالمِ، فغيرُ واجبٍ، بل الواجبُ إزالتهُ لا سيِّما في الضَّرر العائدِ إ لى الغير، وههنا أنَّ إخوة يوسف قد ظهر كذبهم، وخيانتهم، فلم صبر يعقوب على ذلك ؟ ولِمَ لَمْ يبالغ في التَّفتيش، ولا البحث عنه، ولا السّعي في تخيص يوسف من البليّة، والشِّدَّة إن كان حيًّا، وفي إقامة القصاص إن صحَّ أنهم قتلوه فثبت أنَّ الصَّبرَ في هذا المقام مذموم ".
ويُقوِّي هذا السُّؤال أنَّه عليه الصلاة والسلام كان عالماً بأنه حي ؛ لأنَّهُ قال له :﴿ وكذلك يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ ﴾ [ يوسف : ٦ ]. الظَّاهر أنه إنَّما قال هذا الكلام من الوحي، وإذا كان عالماً بأنَّه حيٌّ سليم ؛ فكان من الواجب أن يسعى في طلبه.
وأيضاً : فإنَّ يعقوب عليه الصلاة والسلام كان رجلاً عظيم القدر في نفسه، وكان من بيتٍ عظيم شريفٍ، وأهلُ العالم كانوا يعرفونه، ويعتقدون تعظيمه، فلو بالغ في البحث، والطلب لظهر ذلك، واشتهر، ولزال وجهُ التَّلبيسِ، فما السَّبب في أنه عليه الصلاة والسلام مع شدَّة رغبته في حضورِ يوسف، ونهاية حبِّه له لم يطلبه مع أنَّ طلبه كان من الواجبات ؛ فثبت أنَّ هذا الصَّبر مذمومٌ عقلاً وشرعاً.
فالجواب أن نقول : إن الله سبحانه وتعالى منعه من الطَّلب تشديداً للمحنة عليه، وتغليطاً للأمر عليه، وأيضاً : لعلَّهُ عرف بقرائن الأحوال أنَّ أولاده أقوياء، وأنَّهم لا يمكنونه من الطَّلب، والفحص، وأنَّه لو بالغ في البحثِ فربما أقدموا على إيذائه، وأيضاً : لعلَّهن عليه الصلاة والسلام علم أنَّ الله ت تبارك وتعالى سيصون يوسف عليه الصلاة والسلام عن البلاءِ والمحنةِ، وأن أمرهُ سيظهرُ بالآخرةِ ولم يرد هتْك ستر أولاده، وإلقائهم
قوله تعالى: ﴿وَجَاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُواْ وَارِدَهُمْ﴾ [الآية: ١٩] واعلم أنه تعالى بيَّن
46
كيف السَّبيلُ في خلاصِ يوسف من تلك المحنةِ فقال: ﴿وَجَاءَتْ سَيَّارَةٌ﴾. قال ابنُ عبَّاس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما: أي قوم يسيرون من مدْين إلى مِصْرَ فأخطئوا الطريق، وانطلقوا يهيمون على غير طريق، فهبطوا على أرضٍ فيها جُبُّ يوسف، وكان الجبُّ في قَفْرٍ بعيدٍ من العمرانِ لم يكن إلاّ للرُّعاةِ. وقيل: كان ماؤه مِلْحاً، فعذُبَ حين ألقي يوسفُ فيه، وأرسلوا واردهم الذي يردُ الماء ليستقي للقوم قال القُرطبيُّ: «فأرسَلُواْ وَارِدهُمْ» ذكَّر على المعنى، ولو قال: فأرسلت واردها؛ لكان على لفظ «وجَاءَتْ». والوَارِدُ: هو الذي يتقدَّمُ الرُّفقة إلى الماءِ فيهىء الأرْشيةَ، والدَّلاء، وكان يقال له: مالكُ بنُ دعر الخُزاعِيُّ «.
قوله: ﴿فأدلى دَلْوَهُ﴾ يقال: أدلَى دلوهُ، أي: أرسلها في البِئْرِ، ودلاَّها إذا أخرجها ملأى؛ قال الشاعر: [الرجز]
يقال: أدْلَى يُدْلِي إدْلاءً: إذا أرسل، وَدلاَ يَدلُوا دَلْواً: إذا أخرج وجذبَ، والدَّلوُ معروفةٌ، وهي مؤنثةٌن فتصغَّرُ على» دُليَّةِ «، وتجمع على دلاءٍ، أدلٍ والأصلُ: دِلاوٌ، فقلبت الواو همزة، نحو» كِسَاء «، و» أدلوٌ «، فأعلَّ إلال قاضٍ و» دُلُوو «بواوين، فقلبا ياءين، نحو» عِصِيّ «.
قوله:» يَابُشْرَايَ: ههنا محذوف، تقديره: فأظهروا يوسف، قرأ الكوفيون بحذف ياء الإضافة، وأمال ألف «فُعْلَى» الأخوانِ وأمالها ورشٌ بين بين على أصله، وعن أبي عمرو الوجهان، ولكن الأشر عنه عدمُ الإمالةِ، وليس ذلك من أصله عن ما قُرِّر في علم القراءاتِ، وقرأ الباقون «يَا بُشْرَاي» مضافة إلى ياء المتكلِّم.
في قوله: «يابشراي» قولان:
الأول: أنَّها كلمةٌ تذكَّر عند البشارةِ، كقولهم: يا عجبا من كذا، وقوله: ﴿ياأسفا عَلَى يُوسُفَ﴾ [يوسف: ٨٤] وعلى هذا القول ففي تفسير النِّداء وجهان:
قوله: ﴿فأدلى دَلْوَهُ﴾ يقال: أدلَى دلوهُ، أي: أرسلها في البِئْرِ، ودلاَّها إذا أخرجها ملأى؛ قال الشاعر: [الرجز]
٣٠٧٠ - لا تَقْلُواهَا وادْلُواهَا دَلْوَا | إنَّ مَعَ اليَومِ أخاهُ غَدْوَا |
قوله:» يَابُشْرَايَ: ههنا محذوف، تقديره: فأظهروا يوسف، قرأ الكوفيون بحذف ياء الإضافة، وأمال ألف «فُعْلَى» الأخوانِ وأمالها ورشٌ بين بين على أصله، وعن أبي عمرو الوجهان، ولكن الأشر عنه عدمُ الإمالةِ، وليس ذلك من أصله عن ما قُرِّر في علم القراءاتِ، وقرأ الباقون «يَا بُشْرَاي» مضافة إلى ياء المتكلِّم.
فصل
في قوله: «يابشراي» قولان:
الأول: أنَّها كلمةٌ تذكَّر عند البشارةِ، كقولهم: يا عجبا من كذا، وقوله: ﴿ياأسفا عَلَى يُوسُفَ﴾ [يوسف: ٨٤] وعلى هذا القول ففي تفسير النِّداء وجهان:
47
الأول: قال الزجاج «معنى النِّداء في هذه الأشياء: تنبيه المخاطلبين، وتوكيد القصَّة، فإذا قلت: يا عجباهُ، فكأنك قلت: أعْجَبُوا.
الثاني: قال أبو عليٍّ:» كأنه يقول: يا أيتها البشرى هذا الوقت وقت، ولو كنت ممَّن يخاطب لخوطبت، ولأمرت بالحضورِ «.
واعلم أنَّ سبب البشارةِ: أنهم وجدوا غلاماً في غاية الحسن فقالوا: نَبيعهُ بثَمنٍ عظيم، ويصيرُ ذلك سبباً للغناءِ.
والقول الثاني: قال السديّ: الذي نادى كان اسمُ صاحبهِ بُشْرَى فناداه فقال: يا بُشْرَاي، كما تقول:» يَا زْيْدُ «.
وعن الأعمش أنه قال: دعا امْرأةً امسها بُشْرَى.
قال أبو علي الفارسيُّ إن جعلنا البشرى اسماً للبشارة، وهو الوجه؛ جاز أن يكون في محلّ الرفع، كما قيل:» يَا رجُلُ «لاختصاصه بالنِّداء، وجاز أن يكون موضع نصب على تقدير: أنه جعل هذا النِّداء شائعاً في جنس البشرى، ولم يخص كما تقول: يا رجُلاً،
و ﴿ياحسرة
عَلَى العباد﴾ [يس: ٣٠].
وقرأ ورش عن نافع: «يَا بُشْرَايْ» بسكون الياء، وهو جمع بين ساكنين على غير حدِّه في الوصل، وهذا كما تقدم في ﴿عَصَايَ﴾ [طه: ١٨] وقال الزمخشري: «وليس بالوجهِ، لما فيه من التقاءِ السَّاكنين على غير حدِّه إلاَّ أن يقصد الوقف».
وقرأ الجحدريُّ، وابن أبي إسحاق، والحسن: «يَا بُشْرَيَّ» بقلب الألف ياءً وإغامها في ياء الإضافة، وهي لغة هُذليَّةٌ، تقدم الكلام عليها في البقرة عند قوله: ﴿فَمَن تَبِعَ هُدَايَ﴾ [البقرة: ٣٨].
وقال الزمخشري: «وفي قراءة الحسن:» يَا بُشْرَيَّ «بالياء مكان الألف جعلت الياءُ بمنزلة الكسرة قبل ياء الإضافة، وهي لغةٌ للعرب مشهورةٌ، سمعت أهل السروات في دعائهم يقولون: يا سيِّديَّ، وموليَّ».
الثاني: قال أبو عليٍّ:» كأنه يقول: يا أيتها البشرى هذا الوقت وقت، ولو كنت ممَّن يخاطب لخوطبت، ولأمرت بالحضورِ «.
واعلم أنَّ سبب البشارةِ: أنهم وجدوا غلاماً في غاية الحسن فقالوا: نَبيعهُ بثَمنٍ عظيم، ويصيرُ ذلك سبباً للغناءِ.
والقول الثاني: قال السديّ: الذي نادى كان اسمُ صاحبهِ بُشْرَى فناداه فقال: يا بُشْرَاي، كما تقول:» يَا زْيْدُ «.
وعن الأعمش أنه قال: دعا امْرأةً امسها بُشْرَى.
قال أبو علي الفارسيُّ إن جعلنا البشرى اسماً للبشارة، وهو الوجه؛ جاز أن يكون في محلّ الرفع، كما قيل:» يَا رجُلُ «لاختصاصه بالنِّداء، وجاز أن يكون موضع نصب على تقدير: أنه جعل هذا النِّداء شائعاً في جنس البشرى، ولم يخص كما تقول: يا رجُلاً،
و ﴿ياحسرة
عَلَى العباد﴾ [يس: ٣٠].
وقرأ ورش عن نافع: «يَا بُشْرَايْ» بسكون الياء، وهو جمع بين ساكنين على غير حدِّه في الوصل، وهذا كما تقدم في ﴿عَصَايَ﴾ [طه: ١٨] وقال الزمخشري: «وليس بالوجهِ، لما فيه من التقاءِ السَّاكنين على غير حدِّه إلاَّ أن يقصد الوقف».
وقرأ الجحدريُّ، وابن أبي إسحاق، والحسن: «يَا بُشْرَيَّ» بقلب الألف ياءً وإغامها في ياء الإضافة، وهي لغة هُذليَّةٌ، تقدم الكلام عليها في البقرة عند قوله: ﴿فَمَن تَبِعَ هُدَايَ﴾ [البقرة: ٣٨].
وقال الزمخشري: «وفي قراءة الحسن:» يَا بُشْرَيَّ «بالياء مكان الألف جعلت الياءُ بمنزلة الكسرة قبل ياء الإضافة، وهي لغةٌ للعرب مشهورةٌ، سمعت أهل السروات في دعائهم يقولون: يا سيِّديَّ، وموليَّ».
48
قوله: «وأسَرُّوهُ» الظَّاهرُ أن الضمير المرفوع يعود على السَّيَّارة، وقيل: هو ضمير إخوته، فعلى الأول: أن الوارد، وأصحابه أخفوا من الرفقةِ أنهم وجدوهُ في الجبّ، وقالواك إن قلنا للسَّيَّارة التقطناه شاركونا، وإن قلنا: اشتريناه سألونها الشّركة، فلا يضرُّ أن نقول: إنَّ أهل الماءِ جعلوه بضاعة عندنا على أن نبيعه بمصر.
وعلى الثاني: نقل ابنُ عبَّاسٍ: رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما «وأسَرُّوهُ» يعني إخوة يوسف أخفوا كونه أخاهم، بل قالوا: إنَّهُ عبدٌ لنا أبقَ منا، ووافقهم يوسف على ذلك؛ لأنهم توعَّدوهُ بالقتلِ بلسانِ العِبرانيَّةِ.
و (بضاعَةً) نصب على الحال. قال الزَّجَّاج كأنه قال: «وأَسرّوه حال ما جعلُوه بضاعةً»، وقيل: مفعول ثانٍ على إن يُضَمَّن «أَسَرُّوهُ» معنى صَيَّروه بالسِّرِّ.
والبضاعة: هي قطعةٌ من المالِ تعدُّ للتَّجارة من بضعت، أي: قطعت ومنه: المبضعُ لما يقطع به.
ثم قال: ﴿والله عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ﴾ والمعنى: أنَّ يوسف لما رأى الكواكبَ والشمس، والقمر في النَّوم سجدتْ له، وذكر ذلك؛ حسده إخوته، فاحتالُوا في إبطال ذلك الأمر عليه، فأوقعوه في البلاءِ الشَّديد، حتى لا يتم له ذلك المقصود؛ فجعل الله تعالى وقوعه في ذلك البلاءٍ سبباً لوصوله إلى «مِصْرَ»، ثمَّ تتابع الأمرُ إلى أن صار ملك مصر، وحصل ذلك الذي رآه في النَّوم، فكان العملُ الذي عمله إخوته دفعاً لذلك المطلوب، صيَّره الله سبباً لحصولِ ذلك المطلوب، ولهذا المعنى قال: ﴿والله عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ﴾.
قوله: ﴿وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ﴾ شَرَى بمعنى اشترى، قال الشاعر: [الطويل]
وبمعنى: باع؛ قال الشاعر: [مجزوء الكامل]
فإن قلنا: المراد من الشِّراء نفس الشراءِ، فالمعنى: أنَّ القوم اشتروه، وكانوا فيه من الزَّاهدينَ؛ لأنهم علموا بقرائن الأحوال أنَّ إخوة يوسف كذبُوا في قولهم: إنَّهُ عبدُ لنا، وأيضاً عرفوا أنَّه ولدُ يعقوب، فكرهوا أيضاً شراءه؛ خوفاً من الله تعالى من ظهور تلك الواقعة، إلاَّ أنَّهُم مع ذلك اشتروه بالآخة؛ لأنُّهُم اشتروه بمثنٍ بخسٍ، وطمعوا
وعلى الثاني: نقل ابنُ عبَّاسٍ: رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما «وأسَرُّوهُ» يعني إخوة يوسف أخفوا كونه أخاهم، بل قالوا: إنَّهُ عبدٌ لنا أبقَ منا، ووافقهم يوسف على ذلك؛ لأنهم توعَّدوهُ بالقتلِ بلسانِ العِبرانيَّةِ.
و (بضاعَةً) نصب على الحال. قال الزَّجَّاج كأنه قال: «وأَسرّوه حال ما جعلُوه بضاعةً»، وقيل: مفعول ثانٍ على إن يُضَمَّن «أَسَرُّوهُ» معنى صَيَّروه بالسِّرِّ.
والبضاعة: هي قطعةٌ من المالِ تعدُّ للتَّجارة من بضعت، أي: قطعت ومنه: المبضعُ لما يقطع به.
ثم قال: ﴿والله عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ﴾ والمعنى: أنَّ يوسف لما رأى الكواكبَ والشمس، والقمر في النَّوم سجدتْ له، وذكر ذلك؛ حسده إخوته، فاحتالُوا في إبطال ذلك الأمر عليه، فأوقعوه في البلاءِ الشَّديد، حتى لا يتم له ذلك المقصود؛ فجعل الله تعالى وقوعه في ذلك البلاءٍ سبباً لوصوله إلى «مِصْرَ»، ثمَّ تتابع الأمرُ إلى أن صار ملك مصر، وحصل ذلك الذي رآه في النَّوم، فكان العملُ الذي عمله إخوته دفعاً لذلك المطلوب، صيَّره الله سبباً لحصولِ ذلك المطلوب، ولهذا المعنى قال: ﴿والله عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ﴾.
قوله: ﴿وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ﴾ شَرَى بمعنى اشترى، قال الشاعر: [الطويل]
٣٠٧١ - ولَوْ أنَّ هَذَا المَوْتَ يَقبَلُ فِذْيةً | شَرَيْتُ أبَا زيْدٍ بمَا مَلكتْ يَدِي |
٣٠٧٢ - وشَريْتُ بُرْداً ليْتَنِي | مِنْ بعْدِ بُردٍ كُنْتُ هَامَهْ |
49
في بيعه بثمن عظيمٍ، ويحتملُ أن يقال: إنهم اشتروه مع أنهم أظهرُوا من أنفسهم كونهم فيه من الزَّاهدين، وغرضهم أن يتوصَّلُوا بذلك إلى تقلل الثَّمن، ويحتمل أن يقال: إنَّ الإخوة لما قالوا: إنه عبدٌ أبق منا صار المشتري عديم الرغبة فيه.
قال مجاهدُ رَحِمَهُ اللَّهُ كانوا يقولون: لئلا يأبق.
وإن قلنا: إنَّ المراد من الشِّراء البيع ففي ذلك البائع قولان:
الأول: قال ابنُ عبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما إنَّ إخوة يوسف لمَّا طرحوه في الجبّ، ورجعوا عادوا بعد ثلاثٍ يتعرَّفُونَ خبره، فلمَّا لم يروه في الجبّ، ورأوا آثار السَّيارة طلبوهم، فلمَّا رأوا يوسف قالوا:: هذا عبدٌ لنا أبق منا فقالوا لهم: فبيعوه منَّا، فباعوه منهم، وإنَّما وجب حملُ الشِّراء على البيع؛ لأن الضمير في قوله: «وشَرَوْهُ» وفي قوله: ﴿وَكَانُواْ فِيهِ مِنَ الزاهدين﴾ عائدٌ إلى شيءٍ واحدٍ، وإذا كان كذلك فهم باعوه؛ فوجب حملُ الشراء على البيع.
والثاني: أن بائع يوسف هم الَّذين اسْتَخْرجُوه من الجُبّ.
وقال محمد بن إسحاق: وربُّك أعلمُ أإخوته باعوه، أم السيارة؟.
والبَخْسق: النَّاقصُ، وهو في الأصل مصدرٌ، وصف به مبالغة.
وقيل: هو بمعنى مفعولٍ، و «دَراهِمَ» بدلٌ من «بِثَمَنٍ»، و «فِيهِ» متعلق بما بعده، واغتفر ذلك للاتِّساعِ في الظروف، والجار، أو بمحذوف وتقدم [البقرة: ١٣٠] مثله.
اعلم أنه تعالى وصف ذلك الثمن بصفات ثلاثٍ:
إحداها: كونه بخساً، قال ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما: يريدُ حراماً؛ لأنَّ ثمن الحُرَّ حرامٌ، وقال: وكلٌّ بخس في كتابِ اللهِ نقصان إلاَّ هذا فإنهُ حرامٌ.
قال الواحدي: «سمي الحرامُ بخساً؛ لأن ناقصُ البركة».
وقال قتادة: بخس: ظلم، والظُّلمُ نقصان، يقال: ظلمهُ، أي: نقصهُ وقال عكرمةُ والشعبيُّك قليل. وقيل: ناقص عن القيمة نقصاناً ظاهراً وقيل: كانت الدَّراهمُ زيوفاً ناقصة العيارِ.
قال مجاهدُ رَحِمَهُ اللَّهُ كانوا يقولون: لئلا يأبق.
وإن قلنا: إنَّ المراد من الشِّراء البيع ففي ذلك البائع قولان:
الأول: قال ابنُ عبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما إنَّ إخوة يوسف لمَّا طرحوه في الجبّ، ورجعوا عادوا بعد ثلاثٍ يتعرَّفُونَ خبره، فلمَّا لم يروه في الجبّ، ورأوا آثار السَّيارة طلبوهم، فلمَّا رأوا يوسف قالوا:: هذا عبدٌ لنا أبق منا فقالوا لهم: فبيعوه منَّا، فباعوه منهم، وإنَّما وجب حملُ الشِّراء على البيع؛ لأن الضمير في قوله: «وشَرَوْهُ» وفي قوله: ﴿وَكَانُواْ فِيهِ مِنَ الزاهدين﴾ عائدٌ إلى شيءٍ واحدٍ، وإذا كان كذلك فهم باعوه؛ فوجب حملُ الشراء على البيع.
والثاني: أن بائع يوسف هم الَّذين اسْتَخْرجُوه من الجُبّ.
وقال محمد بن إسحاق: وربُّك أعلمُ أإخوته باعوه، أم السيارة؟.
والبَخْسق: النَّاقصُ، وهو في الأصل مصدرٌ، وصف به مبالغة.
وقيل: هو بمعنى مفعولٍ، و «دَراهِمَ» بدلٌ من «بِثَمَنٍ»، و «فِيهِ» متعلق بما بعده، واغتفر ذلك للاتِّساعِ في الظروف، والجار، أو بمحذوف وتقدم [البقرة: ١٣٠] مثله.
فصل
اعلم أنه تعالى وصف ذلك الثمن بصفات ثلاثٍ:
إحداها: كونه بخساً، قال ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما: يريدُ حراماً؛ لأنَّ ثمن الحُرَّ حرامٌ، وقال: وكلٌّ بخس في كتابِ اللهِ نقصان إلاَّ هذا فإنهُ حرامٌ.
قال الواحدي: «سمي الحرامُ بخساً؛ لأن ناقصُ البركة».
وقال قتادة: بخس: ظلم، والظُّلمُ نقصان، يقال: ظلمهُ، أي: نقصهُ وقال عكرمةُ والشعبيُّك قليل. وقيل: ناقص عن القيمة نقصاناً ظاهراً وقيل: كانت الدَّراهمُ زيوفاً ناقصة العيارِ.
50
قال الواحديُّ: وعلى الأقوال كُلِّها، فالبخسُ مصدرٌ وقع موصع الاسمِ، والمعنى: بثمنٍ مبخُوسٍ.
وثانيها: قوله: ﴿دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ﴾ قيل: تعدُّ عدًّا، ولا توزن إلا أنهم كانوا يزنون إذا بلغ الأوقية، وهي أربعون ويعدُّون ما دونها. فقيل للقليل معدودٌ، لأن الكثير لا يعدُّ لكثرته، بل يوزن قال ابن عباسٍ، وابنُ مسعود، وقتادةٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم: كانت عشرين درهماً، فاقتسموها درهمين درهمين إلا يهوذا، فإنَّه لم يأخذ شيئاً.
الثالث: أن الذين اشتروه كانوا فيه مِنَ الزَّاهدين، وقد سبق توجيه هذه الأقوال.
وقال مجاهدٌ والسديُّ: اثنين وعشرين درهماً.
فإن قيل: إنَّهم لما ألقوه في الجبِّ حسداًن فأرادوا تضييعه عن أبييه، فلمَ باعوه؟.
فالجواب: أنَّهم لعلَّهم خافوا أن تذكر السيارة أمره، فيردوه إلى أبيه، لأنَّه كان أقرب إليهم من مصر.
فإن قيل: هب أنَّهم أرادوا ببيعه أيضاً تبعيده عن أبيه؛ فلمَ أحلَّ له أخذ ثمنه «.
فالجواب: أن الذي اشترى يوسف كان كافراً، وأخذُ مالِ الكافرِ حلالٌ.
وثالثها: قوله: ﴿وَكَانُواْ فِيهِ مِنَ الزاهدين﴾ ومعنى الزُّهد: قلَّة الرغبة، يقال زهد فلان في كذا إذا لم يرغب فيه، وأصله من القلَّة، يقال: رجلٌ زهيدٌ، إذا كان قليل الجِدةِ، وفيه وجوه:
الأول: أنَّ إخوة يوسف عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ باعوه؛ لأنهم كانوا فيه من الزَّاهدينَ
الثاني: أنَّ السيَّارة كانُوا فيه من الزَّاهدين؛ لأنَّهم التَقطُوهُ، والملتَقِطُ يتهاونُ، ولا يباللاي بأي شيءٍ يباعُ، أو لأنَّهُم خافوا أن يظهر المستحق، فينزعه من يدهم، فلا جرم باعوه بالأوكس من الأثمان.
والضمير في قوله:» فِيهِ «يحتمل أن يعود إلى يوسف، ويحتمل أن يعود إلى الثَّمن البَخْسِ.
قال القرطبيُّ:» في الآية دليلٌ على شراءِ الشَّيء الخطيرِ بالثَّمنِ اليسير، ويكونُ البيع لازماً «.
وثانيها: قوله: ﴿دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ﴾ قيل: تعدُّ عدًّا، ولا توزن إلا أنهم كانوا يزنون إذا بلغ الأوقية، وهي أربعون ويعدُّون ما دونها. فقيل للقليل معدودٌ، لأن الكثير لا يعدُّ لكثرته، بل يوزن قال ابن عباسٍ، وابنُ مسعود، وقتادةٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم: كانت عشرين درهماً، فاقتسموها درهمين درهمين إلا يهوذا، فإنَّه لم يأخذ شيئاً.
الثالث: أن الذين اشتروه كانوا فيه مِنَ الزَّاهدين، وقد سبق توجيه هذه الأقوال.
وقال مجاهدٌ والسديُّ: اثنين وعشرين درهماً.
فإن قيل: إنَّهم لما ألقوه في الجبِّ حسداًن فأرادوا تضييعه عن أبييه، فلمَ باعوه؟.
فالجواب: أنَّهم لعلَّهم خافوا أن تذكر السيارة أمره، فيردوه إلى أبيه، لأنَّه كان أقرب إليهم من مصر.
فإن قيل: هب أنَّهم أرادوا ببيعه أيضاً تبعيده عن أبيه؛ فلمَ أحلَّ له أخذ ثمنه «.
فالجواب: أن الذي اشترى يوسف كان كافراً، وأخذُ مالِ الكافرِ حلالٌ.
وثالثها: قوله: ﴿وَكَانُواْ فِيهِ مِنَ الزاهدين﴾ ومعنى الزُّهد: قلَّة الرغبة، يقال زهد فلان في كذا إذا لم يرغب فيه، وأصله من القلَّة، يقال: رجلٌ زهيدٌ، إذا كان قليل الجِدةِ، وفيه وجوه:
الأول: أنَّ إخوة يوسف عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ باعوه؛ لأنهم كانوا فيه من الزَّاهدينَ
الثاني: أنَّ السيَّارة كانُوا فيه من الزَّاهدين؛ لأنَّهم التَقطُوهُ، والملتَقِطُ يتهاونُ، ولا يباللاي بأي شيءٍ يباعُ، أو لأنَّهُم خافوا أن يظهر المستحق، فينزعه من يدهم، فلا جرم باعوه بالأوكس من الأثمان.
والضمير في قوله:» فِيهِ «يحتمل أن يعود إلى يوسف، ويحتمل أن يعود إلى الثَّمن البَخْسِ.
فصل
قال القرطبيُّ:» في الآية دليلٌ على شراءِ الشَّيء الخطيرِ بالثَّمنِ اليسير، ويكونُ البيع لازماً «.
51
قوله: ﴿وَقَالَ الذي اشتراه﴾ [الآية: ٢١] اعلم أنَّه ثبت أنَّ الذي اشتراه [إما] من الإخوة، وما من الواردين على الماء ذهب به إلى مصر وباعه.
قيل: إن الذي اشتراه هو العزيزُ، كان اسمه» قطفير «، وقيل: إطْفيرُ الذي يلي خزائن مصر، والملك يومئذ: الرَّيَّان بنُ الوليدِ، رجل من العماليق، وقد آمن بيوسف، ومات في حياةِ يوسف عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ قال ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما: لما دخلوا مِصْر تلقَى العزيز مالك بن دعرٍ فابتاع منه يوسف، وهو ابنُ سبع عشرة سنة، [وأقام في منزله ثلاث عشرة سنة، وقيل: سبْع عشرة سَنَة]، واستوزره الرَّيان، وهو ابن ثلاثين سنة، وآتاه اللهُ العِلم، والحُكم، وهو ابن ثلاث وثلاثين سنة، وتوفي، وهو ابنُ مائة وعشرين سنة.
وقال الذي اشتراهُ من مصر لا مرأته قيل: كان اسمها زليخا وقيل:» راعيلُ «. قال ابن كثير:» الظّاهرُ أنَّ زليخا لقبها «.
قوله:» مِنْ مِصرَ «يجوز فيه أوجه:
أحدها: أن يتعلَّق بنفس الفعل قبله، أي: اشتراه من مصر، كقوله: اشْتَريْتُ الثَّوب من بغداد، فهي لابتداء الغايةِ، وقول أبي البقاءِ: أي:» فيها، أو بها «لا حاجة إليه.
والثاني: أنه حالٌ من الضمير المرفوع في:» اشْتراهُ «فيتعلق بمحذوفٍ أيضاً.
وفي هذين نظرٌ؛ إذ لا طائل في هذا المعنى.
و» لامْرَأتهِ «متعلقٌ ت ب» قَالَ «فهي للتبليغ، وليست متعلقة ب» اشْتراهُ «.
قوله: «أكْرمِي مَثوَاهُ»، أي: منزله، ومقامه عندك، من قولك: ثويتُ بالمكان، إذا أقمت فيه، ومصدره الثَّواء، والمعنى: اجعلي منزلته عندك كريماً حسناً مرضيًّا، بدليل قوله تعالى: ﴿إِنَّهُ ربي أَحْسَنَ مَثْوَايَ﴾ [يوسف: ٢٣] قال المحققون: أمر العزيز امرأته بإكرام مثواهُ دون إكرام نفسه، يدلُّ على أنه كان ينظرُ إليه على سبيل الإجلال، والتعظيم.
﴿عسى أَن يَنفَعَنَآ﴾ أي: نبيعه بالرِّبح إذا أردنا بيعه، أو يكفينا إذا بلغ بعض أمورنا ﴿أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً﴾ نَتبنَّاهُ.
قال ابن مسعودٍ: «أفرْسُ النَّاس ثلاثة: العزيزُ في يوسف حيثُ قال لامرأته: ﴿أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عسى أَن يَنفَعَنَآ﴾ [يوسف: ٢١] وابنة شعيب حين قالت لأبيها في موسى: ﴿استأجره إِنَّ خَيْرَ مَنِ استأجرت القوي الأمين﴾ [القصص: ٢٦]، وأبو بكر في عمر حين استخلفه».
قيل: إن الذي اشتراه هو العزيزُ، كان اسمه» قطفير «، وقيل: إطْفيرُ الذي يلي خزائن مصر، والملك يومئذ: الرَّيَّان بنُ الوليدِ، رجل من العماليق، وقد آمن بيوسف، ومات في حياةِ يوسف عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ قال ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما: لما دخلوا مِصْر تلقَى العزيز مالك بن دعرٍ فابتاع منه يوسف، وهو ابنُ سبع عشرة سنة، [وأقام في منزله ثلاث عشرة سنة، وقيل: سبْع عشرة سَنَة]، واستوزره الرَّيان، وهو ابن ثلاثين سنة، وآتاه اللهُ العِلم، والحُكم، وهو ابن ثلاث وثلاثين سنة، وتوفي، وهو ابنُ مائة وعشرين سنة.
وقال الذي اشتراهُ من مصر لا مرأته قيل: كان اسمها زليخا وقيل:» راعيلُ «. قال ابن كثير:» الظّاهرُ أنَّ زليخا لقبها «.
قوله:» مِنْ مِصرَ «يجوز فيه أوجه:
أحدها: أن يتعلَّق بنفس الفعل قبله، أي: اشتراه من مصر، كقوله: اشْتَريْتُ الثَّوب من بغداد، فهي لابتداء الغايةِ، وقول أبي البقاءِ: أي:» فيها، أو بها «لا حاجة إليه.
والثاني: أنه حالٌ من الضمير المرفوع في:» اشْتراهُ «فيتعلق بمحذوفٍ أيضاً.
وفي هذين نظرٌ؛ إذ لا طائل في هذا المعنى.
و» لامْرَأتهِ «متعلقٌ ت ب» قَالَ «فهي للتبليغ، وليست متعلقة ب» اشْتراهُ «.
قوله: «أكْرمِي مَثوَاهُ»، أي: منزله، ومقامه عندك، من قولك: ثويتُ بالمكان، إذا أقمت فيه، ومصدره الثَّواء، والمعنى: اجعلي منزلته عندك كريماً حسناً مرضيًّا، بدليل قوله تعالى: ﴿إِنَّهُ ربي أَحْسَنَ مَثْوَايَ﴾ [يوسف: ٢٣] قال المحققون: أمر العزيز امرأته بإكرام مثواهُ دون إكرام نفسه، يدلُّ على أنه كان ينظرُ إليه على سبيل الإجلال، والتعظيم.
﴿عسى أَن يَنفَعَنَآ﴾ أي: نبيعه بالرِّبح إذا أردنا بيعه، أو يكفينا إذا بلغ بعض أمورنا ﴿أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً﴾ نَتبنَّاهُ.
قال ابن مسعودٍ: «أفرْسُ النَّاس ثلاثة: العزيزُ في يوسف حيثُ قال لامرأته: ﴿أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عسى أَن يَنفَعَنَآ﴾ [يوسف: ٢١] وابنة شعيب حين قالت لأبيها في موسى: ﴿استأجره إِنَّ خَيْرَ مَنِ استأجرت القوي الأمين﴾ [القصص: ٢٦]، وأبو بكر في عمر حين استخلفه».
52
قوله: ﴿وكذلك مَكَّنَّا لِيُوسُفَ﴾ الكاف كما تقدم في نظائره حالٌ من ضمير المصدر، أو نعتٌ له، أي: ومثل ذلك الإنجاء من الجبّ والعطف مكَّنا له، أي: كما أنجيناه، وعطفنا عليه العزيز مكَّنا له في أرض مصر، أي: صار متمكناً من الأمرِ والنهي في أرض مصر، وجلعناه على خزائنها.
قوله: ﴿وَلِنُعَلِّمَهُ مِن تَأْوِيلِ الأحاديث﴾ وهي تعبير الرُّؤيا. واللام في «ولنُعَلِّمُه» فيها أوجه:
أحدها: أن تتعلقَّق بمحذوف قبله، أي: وفعلنا ذلك لنعلمه.
والثاني: أنها تتعلَّق بما بعده، أي: ولنعلمه، فعلنا كيت، وكيت.
[الثالث: أن يتعلَّق ب «مَكَّنَّا» على زيادة الواو].
قوله: ﴿والله غَالِبٌ على أَمْرِهِ﴾ الهاء في «أمْرهِ» يجوز أن تعود على الجلالةِ أي: أنه تعالى: ﴿فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ﴾ [البروج: ١٦] لا يغلبه شيءٌ، ولا يردُّ حكمهُ رادٌّ، لا دافع لقضائه، ولا مانع من حكمه في أرضه، وسمائه. ويجوز أن تعود على يوسف، أي: أنه يدبره، ولا يكله إلى غيره، فقد كادوه إخوته، فلم يضروه بشيء ﴿ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَعْلَمُونَ﴾ أنَّ الأمر كله بيد الله.
قوله: ﴿وَلِنُعَلِّمَهُ مِن تَأْوِيلِ الأحاديث﴾ وهي تعبير الرُّؤيا. واللام في «ولنُعَلِّمُه» فيها أوجه:
أحدها: أن تتعلقَّق بمحذوف قبله، أي: وفعلنا ذلك لنعلمه.
والثاني: أنها تتعلَّق بما بعده، أي: ولنعلمه، فعلنا كيت، وكيت.
[الثالث: أن يتعلَّق ب «مَكَّنَّا» على زيادة الواو].
قوله: ﴿والله غَالِبٌ على أَمْرِهِ﴾ الهاء في «أمْرهِ» يجوز أن تعود على الجلالةِ أي: أنه تعالى: ﴿فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ﴾ [البروج: ١٦] لا يغلبه شيءٌ، ولا يردُّ حكمهُ رادٌّ، لا دافع لقضائه، ولا مانع من حكمه في أرضه، وسمائه. ويجوز أن تعود على يوسف، أي: أنه يدبره، ولا يكله إلى غيره، فقد كادوه إخوته، فلم يضروه بشيء ﴿ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَعْلَمُونَ﴾ أنَّ الأمر كله بيد الله.
53
قوله :﴿ وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ ﴾ شَرَى بمعنى اشترى، قال الشاعر :[ الطويل ]
وبمعنى : باع ؛ قال الشاعر :[ مجزوء الكامل ]
فإن قلنا : المراد من الشِّراء نفس الشراءِ، فالمعنى : أنَّ القوم اشتروه، وكانوا فيه من الزَّاهدينَ ؛ لأنهم علموا بقرائن الأحوال أنَّ إخوة يوسف كذبُوا في قولهم : إنَّهُ عبدُ لنا، وأيضاً عرفوا أنَّه ولدُ يعقوب، فكرهوا أيضاً شراءه ؛ خوفاً من الله تعالى من ظهور تلك الواقعة، إلاَّ أنَّهُم مع ذلك اشتروه بالآخة ؛ لأنُّهُم اشتروه بمثنٍ بخسٍ، وطمعوا في بيعه بمثن عظيمٍ، ويحتملُ أن يقال : إنهم اشتروه مع أنهم أظهرُوا من أنفسهم كونهم فيه من الزَّاهدين، وغرضهم أن يتوصَّلُوا بذلك إلى تقلل الثَّمن، ويحتمل أن يقال : إنَّ الإخوة لما قالوا : إنه عبدٌ أبق منا صار المشتري عديم الرغبة فيه.
قال مجاهدُ رحمه الله كانوا يقولون : لئلا يأبق.
وإن قلنا : إنَّ المراد من الشِّراء البيع ففي ذلك البائع قولان :
الأول : قال ابنُ عبَّاسٍ رضي الله عنهما إنَّ إخوة يوسف لمَّا طرحوه في الجبّ، ورجعوا عادوا بعد ثلاثٍ يتعرَّفُونَ خبره، فلمَّا لم يروه في الجبّ، ورأوا آثار السَّيارة طلبوهم، فلمَّا رأوا يوسف قالوا :: هذا عبدٌ لنا أبق منا فقالوا لهم : فبيعوه منَّا، فباعوه منهم، وإنَّما وجب حملُ الشِّراء على البيع ؛ لأن الضمير في قوله :" وشَرَوْهُ " وفي قوله :﴿ وَكَانُواْ فِيهِ مِنَ الزاهدين ﴾ عائدٌ إلى شيءٍ واحدٍ، وإذا كان كذلك فهم باعوه ؛ فوجب حملُ الشراء على البيع.
والثاني : أن بائع يوسف هم الَّذين اسْتَخْرجُوه من الجُبّ.
وقال محمد بن إسحاق : وربُّك أعلمُ أإخوته باعوه، أم السيارة ؟.
والبَخْسق : النَّاقصُ، وهو في الأصل مصدرٌ، وصف به مبالغة.
وقيل : هو بمعنى مفعولٍ، و " دَراهِمَ " بدلٌ من " بِثَمَنٍ "، و " فِيهِ " متعلق بما بعده، واغتفر ذلك للاتِّساعِ في الظروف، والجار، أو بمحذوف وتقدم [ البقرة : ١٣٠ ] مثله.
اعلم أنه تعالى وصف ذلك الثمن بصفات ثلاثٍ :
إحداها : كونه بخساً، قال ابن عباس رضي الله عنهما : يريدُ حراماً ؛ لأنَّ ثمن الحُرَّ حرامٌ، وقال : وكلٌّ بخس في كتابِ اللهِ نقصان إلاَّ هذا فإنهُ حرامٌ.
قال الواحدي :" سمي الحرامُ بخساً ؛ لأن ناقصُ البركة ".
وقال قتادة : بخس : ظلم، والظُّلمُ نقصان، يقال : ظلمهُ، أي : نقصهُ وقال عكرمةُ والشعبيُّك قليل. وقيل : ناقص عن القيمة نقصاناً ظاهراً وقيل : كانت الدَّراهمُ زيوفاً ناقصة العيارِ.
قال الواحديُّ : وعلى الأقوال كُلِّها، فالبخسُ مصدرٌ وقع موصع الاسمِ، والمعنى : بثمنٍ مبخُوسٍ.
وثانيها : قوله :﴿ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ ﴾ قيل : تعدُّ عدًّا، ولا توزن إلا أنهم كانوا يزنون إذا بلغ الأوقية، وهي أربعون ويعدُّون ما دونها. فقيل للقليل معدودٌ، لأن الكثير لا يعدُّ لكثرته، بل يوزن قال ابن عباسٍ، وابنُ مسعود، وقتادةٌ رضي الله عنهم : كانت عشرين درهماً، فاقتسموها درهمين درهمين إلا يهوذا، فإنَّه لم يأخذ شيئاً.
الثالث : أن الذين اشتروه كانوا فيه مِنَ الزَّاهدين، وقد سبق توجيه هذه الأقوال.
وقال مجاهدٌ والسديُّ : اثنين وعشرين درهماً.
فإن قيل : إنَّهم لما ألقوه في الجبِّ حسداًن فأرادوا تضييعه عن أبييه، فلمَ باعوه ؟.
فالجواب : أنَّهم لعلَّهم خافوا أن تذكر السيارة أمره، فيردوه إلى أبيه، لأنَّه كان أقرب إليهم من مصر.
فإن قيل : هب أنَّهم أرادوا ببيعه أيضاً تبعيده عن أبيه ؛ فلمَ أحلَّ له أخذ ثمنه ".
فالجواب : أن الذي اشترى يوسف كان كافراً، وأخذُ مالِ الكافرِ حلالٌ.
وثالثها : قوله :﴿ وَكَانُواْ فِيهِ مِنَ الزاهدين ﴾ ومعنى الزُّهد : قلَّة الرغبة، يقال زهد فلان في كذا إذا لم يرغب فيه، وأصله من القلَّة، يقال : رجلٌ زهيدٌ، إذا كان قليل الجِدةِ، وفيه وجوه :
الأول : أنَّ إخوة يوسف عليه الصلاة والسلام باعوه ؛ لأنهم كانوا فيه من الزَّاهدينَ
الثاني : أنَّ السيَّارة كانُوا فيه من الزَّاهدين ؛ لأنَّهم التَقطُوهُ، والملتَقِطُ يتهاونُ، ولا يباللاي بأي شيءٍ يباعُ، أو لأنَّهُم خافوا أن يظهر المستحق، فينزعه من يدهم، فلا جرم باعوه بالأوكس من الأثمان.
والضمير في قوله :" فِيهِ " يحتمل أن يعود إلى يوسف، ويحتمل أن يعود إلى الثَّمن البَخْسِ.
قال القرطبيُّ :" في الآية دليلٌ على شراءِ الشَّيء الخطيرِ بالثَّمنِ اليسير، ويكونُ البيع لازماً ".
٣٠٧١ ولَوْ أنَّ هَذَا المَوْتَ يَقبَلُ فِذْيةً | شَرَيْتُ أبَا زيْدٍ بمَا مَلكتْ يَدِي |
٣٠٧٢ وشَريْتُ بُرْداً ليْتَنِي | مِنْ بعْدِ بُردٍ كُنْتُ هَامَهْ |
قال مجاهدُ رحمه الله كانوا يقولون : لئلا يأبق.
وإن قلنا : إنَّ المراد من الشِّراء البيع ففي ذلك البائع قولان :
الأول : قال ابنُ عبَّاسٍ رضي الله عنهما إنَّ إخوة يوسف لمَّا طرحوه في الجبّ، ورجعوا عادوا بعد ثلاثٍ يتعرَّفُونَ خبره، فلمَّا لم يروه في الجبّ، ورأوا آثار السَّيارة طلبوهم، فلمَّا رأوا يوسف قالوا :: هذا عبدٌ لنا أبق منا فقالوا لهم : فبيعوه منَّا، فباعوه منهم، وإنَّما وجب حملُ الشِّراء على البيع ؛ لأن الضمير في قوله :" وشَرَوْهُ " وفي قوله :﴿ وَكَانُواْ فِيهِ مِنَ الزاهدين ﴾ عائدٌ إلى شيءٍ واحدٍ، وإذا كان كذلك فهم باعوه ؛ فوجب حملُ الشراء على البيع.
والثاني : أن بائع يوسف هم الَّذين اسْتَخْرجُوه من الجُبّ.
وقال محمد بن إسحاق : وربُّك أعلمُ أإخوته باعوه، أم السيارة ؟.
والبَخْسق : النَّاقصُ، وهو في الأصل مصدرٌ، وصف به مبالغة.
وقيل : هو بمعنى مفعولٍ، و " دَراهِمَ " بدلٌ من " بِثَمَنٍ "، و " فِيهِ " متعلق بما بعده، واغتفر ذلك للاتِّساعِ في الظروف، والجار، أو بمحذوف وتقدم [ البقرة : ١٣٠ ] مثله.
فصل
اعلم أنه تعالى وصف ذلك الثمن بصفات ثلاثٍ :
إحداها : كونه بخساً، قال ابن عباس رضي الله عنهما : يريدُ حراماً ؛ لأنَّ ثمن الحُرَّ حرامٌ، وقال : وكلٌّ بخس في كتابِ اللهِ نقصان إلاَّ هذا فإنهُ حرامٌ.
قال الواحدي :" سمي الحرامُ بخساً ؛ لأن ناقصُ البركة ".
وقال قتادة : بخس : ظلم، والظُّلمُ نقصان، يقال : ظلمهُ، أي : نقصهُ وقال عكرمةُ والشعبيُّك قليل. وقيل : ناقص عن القيمة نقصاناً ظاهراً وقيل : كانت الدَّراهمُ زيوفاً ناقصة العيارِ.
قال الواحديُّ : وعلى الأقوال كُلِّها، فالبخسُ مصدرٌ وقع موصع الاسمِ، والمعنى : بثمنٍ مبخُوسٍ.
وثانيها : قوله :﴿ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ ﴾ قيل : تعدُّ عدًّا، ولا توزن إلا أنهم كانوا يزنون إذا بلغ الأوقية، وهي أربعون ويعدُّون ما دونها. فقيل للقليل معدودٌ، لأن الكثير لا يعدُّ لكثرته، بل يوزن قال ابن عباسٍ، وابنُ مسعود، وقتادةٌ رضي الله عنهم : كانت عشرين درهماً، فاقتسموها درهمين درهمين إلا يهوذا، فإنَّه لم يأخذ شيئاً.
الثالث : أن الذين اشتروه كانوا فيه مِنَ الزَّاهدين، وقد سبق توجيه هذه الأقوال.
وقال مجاهدٌ والسديُّ : اثنين وعشرين درهماً.
فإن قيل : إنَّهم لما ألقوه في الجبِّ حسداًن فأرادوا تضييعه عن أبييه، فلمَ باعوه ؟.
فالجواب : أنَّهم لعلَّهم خافوا أن تذكر السيارة أمره، فيردوه إلى أبيه، لأنَّه كان أقرب إليهم من مصر.
فإن قيل : هب أنَّهم أرادوا ببيعه أيضاً تبعيده عن أبيه ؛ فلمَ أحلَّ له أخذ ثمنه ".
فالجواب : أن الذي اشترى يوسف كان كافراً، وأخذُ مالِ الكافرِ حلالٌ.
وثالثها : قوله :﴿ وَكَانُواْ فِيهِ مِنَ الزاهدين ﴾ ومعنى الزُّهد : قلَّة الرغبة، يقال زهد فلان في كذا إذا لم يرغب فيه، وأصله من القلَّة، يقال : رجلٌ زهيدٌ، إذا كان قليل الجِدةِ، وفيه وجوه :
الأول : أنَّ إخوة يوسف عليه الصلاة والسلام باعوه ؛ لأنهم كانوا فيه من الزَّاهدينَ
الثاني : أنَّ السيَّارة كانُوا فيه من الزَّاهدين ؛ لأنَّهم التَقطُوهُ، والملتَقِطُ يتهاونُ، ولا يباللاي بأي شيءٍ يباعُ، أو لأنَّهُم خافوا أن يظهر المستحق، فينزعه من يدهم، فلا جرم باعوه بالأوكس من الأثمان.
والضمير في قوله :" فِيهِ " يحتمل أن يعود إلى يوسف، ويحتمل أن يعود إلى الثَّمن البَخْسِ.
فصل
قال القرطبيُّ :" في الآية دليلٌ على شراءِ الشَّيء الخطيرِ بالثَّمنِ اليسير، ويكونُ البيع لازماً ".
قوله :﴿ وَقَالَ الذي اشتراه ﴾ [ الآية : ٢١ ] اعلم أنَّه ثبت أنَّ الذي اشتراه [ إما ] من الإخوة، وما من الواردين على الماء ذهب به إلى مصر وباعه.
قيل : إن الذي اشتراه هو العزيزُ، كان اسمه " قطفير "، وقيل : إطْفيرُ الذي يلي خزائن مصر، والملك يومئذ : الرَّيَّان بنُ الوليدِ، رجل من العماليق، وقد آمن بيوسف، ومات في حياةِ يوسف عليه الصلاة والسلام قال ابن عباس رضي الله عنهما : لما دخلوا مِصْر تلقَى العزيز مالك بن دعرٍ فابتاع منه يوسف، وهو ابنُ سبع عشرة سنة، [ وأقام في منزله ثلاث عشرة سنة، وقيل : سبْع عشرة سَنَة ]، واستوزره الرَّيان، وهو ابن ثلاثين سنة، وآتاه اللهُ العِلم، والحُكم، وهو ابن ثلاث وثلاثين سنة، وتوفي، وهو ابنُ مائة وعشرين سنة.
وقال الذي اشتراهُ من مصر لا مرأته قيل : كان اسمها زليخا وقيل :" راعيلُ ". قال ابن كثير :" الظّاهرُ أنَّ زليخا لقبها ".
قوله :" مِنْ مِصرَ " يجوز فيه أوجه :
أحدها : أن يتعلَّق بنفس الفعل قبله، أي : اشتراه من مصر، كقوله : اشْتَريْتُ الثَّوب من بغداد، فهي لابتداء الغايةِ، وقول أبي البقاءِ : أي :" فيها، أو بها " لا حاجة إليه.
والثاني : أنه حالٌ من الضمير المرفوع في :" اشْتراهُ " فيتعلق بمحذوفٍ أيضاً.
وفي هذين نظرٌ ؛ إذ لا طائل في هذا المعنى.
و " لامْرَأتهِ " متعلقٌ ت ب " قَالَ " فهي للتبليغ، وليست متعلقة ب " اشْتراهُ ".
قوله :" أكْرمِي مَثوَاهُ "، أي : منزله، ومقامه عندك، من قولك : ثويتُ بالمكان، إذا أقمت فيه، ومصدره الثَّواء، والمعنى : اجعلي منزلته عندك كريماً حسناً مرضيًّا، بدليل قوله تعالى :﴿ إِنَّهُ ربي أَحْسَنَ مَثْوَايَ ﴾ [ يوسف : ٢٣ ] قال المحققون : أمر العزيز امرأته بإكرام مثواهُ دون إكرام نفسه، يدلُّ على أنه كان ينظرُ إليه على سبيل الإجلال، والتعظيم.
﴿ عسى أَن يَنفَعَنَآ ﴾ أي : نبيعه بالرِّبح إذا أردنا بيعه، أو يكفينا إذا بلغ بعض أمورنا ﴿ أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً ﴾ نَتبنَّاهُ.
قال ابن مسعودٍ :" أفرْسُ النَّاس ثلاثة : العزيزُ في يوسف حيثُ قال لامرأته :﴿ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عسى أَن يَنفَعَنَآ ﴾ [ يوسف : ٢١ ] وابنة شعيب حين قالت لأبيها في موسى :﴿ استأجره إِنَّ خَيْرَ مَنِ استأجرت القوي الأمين ﴾ [ القصص : ٢٦ ]، وأبو بكر في عمر حين استخلفه ".
قوله :﴿ وكذلك مَكَّنَّا لِيُوسُفَ ﴾ الكاف كما تقدم في نظائره حالٌ من ضمير المصدر، أو نعتٌ له، أي : ومثل ذلك الإنجاء من الجبّ والعطف مكَّنا له، أي : كما أنجيناه، وعطفنا عليه العزيز مكَّنا له في أرض مصر، أي : صار متمكناً من الأمرِ والنهي في أرض مصر، وجلعناه على خزائنها.
قوله :﴿ وَلِنُعَلِّمَهُ مِن تَأْوِيلِ الأحاديث ﴾ وهي تعبير الرُّؤيا. واللام في " ولنُعَلِّمُه " فيها أوجه :
أحدها : أن تتعلقَّق بمحذوف قبله، أي : وفعلنا ذلك لنعلمه.
والثاني : أنها تتعلَّق بما بعده، أي : ولنعلمه، فعلنا كيت، وكيت.
[ الثالث : أن يتعلَّق ب " مَكَّنَّا " على زيادة الواو ].
قوله :﴿ والله غَالِبٌ على أَمْرِهِ ﴾ الهاء في " أمْرهِ " يجوز أن تعود على الجلالةِ أي : أنه تعالى :﴿ فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ ﴾ [ البروج : ١٦ ] لا يغلبه شيءٌ، ولا يردُّ حكمهُ رادٌّ، لا دافع لقضائه، ولا مانع من حكمه في أرضه، وسمائه. ويجوز أن تعود على يوسف، أي : أنه يدبره، ولا يكله إلى غيره، فقد كادوه إخوته، فلم يضروه بشيء ﴿ ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَعْلَمُونَ ﴾ أنَّ الأمر كله بيد الله.
قيل : إن الذي اشتراه هو العزيزُ، كان اسمه " قطفير "، وقيل : إطْفيرُ الذي يلي خزائن مصر، والملك يومئذ : الرَّيَّان بنُ الوليدِ، رجل من العماليق، وقد آمن بيوسف، ومات في حياةِ يوسف عليه الصلاة والسلام قال ابن عباس رضي الله عنهما : لما دخلوا مِصْر تلقَى العزيز مالك بن دعرٍ فابتاع منه يوسف، وهو ابنُ سبع عشرة سنة، [ وأقام في منزله ثلاث عشرة سنة، وقيل : سبْع عشرة سَنَة ]، واستوزره الرَّيان، وهو ابن ثلاثين سنة، وآتاه اللهُ العِلم، والحُكم، وهو ابن ثلاث وثلاثين سنة، وتوفي، وهو ابنُ مائة وعشرين سنة.
وقال الذي اشتراهُ من مصر لا مرأته قيل : كان اسمها زليخا وقيل :" راعيلُ ". قال ابن كثير :" الظّاهرُ أنَّ زليخا لقبها ".
قوله :" مِنْ مِصرَ " يجوز فيه أوجه :
أحدها : أن يتعلَّق بنفس الفعل قبله، أي : اشتراه من مصر، كقوله : اشْتَريْتُ الثَّوب من بغداد، فهي لابتداء الغايةِ، وقول أبي البقاءِ : أي :" فيها، أو بها " لا حاجة إليه.
والثاني : أنه حالٌ من الضمير المرفوع في :" اشْتراهُ " فيتعلق بمحذوفٍ أيضاً.
وفي هذين نظرٌ ؛ إذ لا طائل في هذا المعنى.
و " لامْرَأتهِ " متعلقٌ ت ب " قَالَ " فهي للتبليغ، وليست متعلقة ب " اشْتراهُ ".
قوله :" أكْرمِي مَثوَاهُ "، أي : منزله، ومقامه عندك، من قولك : ثويتُ بالمكان، إذا أقمت فيه، ومصدره الثَّواء، والمعنى : اجعلي منزلته عندك كريماً حسناً مرضيًّا، بدليل قوله تعالى :﴿ إِنَّهُ ربي أَحْسَنَ مَثْوَايَ ﴾ [ يوسف : ٢٣ ] قال المحققون : أمر العزيز امرأته بإكرام مثواهُ دون إكرام نفسه، يدلُّ على أنه كان ينظرُ إليه على سبيل الإجلال، والتعظيم.
﴿ عسى أَن يَنفَعَنَآ ﴾ أي : نبيعه بالرِّبح إذا أردنا بيعه، أو يكفينا إذا بلغ بعض أمورنا ﴿ أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً ﴾ نَتبنَّاهُ.
قال ابن مسعودٍ :" أفرْسُ النَّاس ثلاثة : العزيزُ في يوسف حيثُ قال لامرأته :﴿ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عسى أَن يَنفَعَنَآ ﴾ [ يوسف : ٢١ ] وابنة شعيب حين قالت لأبيها في موسى :﴿ استأجره إِنَّ خَيْرَ مَنِ استأجرت القوي الأمين ﴾ [ القصص : ٢٦ ]، وأبو بكر في عمر حين استخلفه ".
قوله :﴿ وكذلك مَكَّنَّا لِيُوسُفَ ﴾ الكاف كما تقدم في نظائره حالٌ من ضمير المصدر، أو نعتٌ له، أي : ومثل ذلك الإنجاء من الجبّ والعطف مكَّنا له، أي : كما أنجيناه، وعطفنا عليه العزيز مكَّنا له في أرض مصر، أي : صار متمكناً من الأمرِ والنهي في أرض مصر، وجلعناه على خزائنها.
قوله :﴿ وَلِنُعَلِّمَهُ مِن تَأْوِيلِ الأحاديث ﴾ وهي تعبير الرُّؤيا. واللام في " ولنُعَلِّمُه " فيها أوجه :
أحدها : أن تتعلقَّق بمحذوف قبله، أي : وفعلنا ذلك لنعلمه.
والثاني : أنها تتعلَّق بما بعده، أي : ولنعلمه، فعلنا كيت، وكيت.
[ الثالث : أن يتعلَّق ب " مَكَّنَّا " على زيادة الواو ].
قوله :﴿ والله غَالِبٌ على أَمْرِهِ ﴾ الهاء في " أمْرهِ " يجوز أن تعود على الجلالةِ أي : أنه تعالى :﴿ فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ ﴾ [ البروج : ١٦ ] لا يغلبه شيءٌ، ولا يردُّ حكمهُ رادٌّ، لا دافع لقضائه، ولا مانع من حكمه في أرضه، وسمائه. ويجوز أن تعود على يوسف، أي : أنه يدبره، ولا يكله إلى غيره، فقد كادوه إخوته، فلم يضروه بشيء ﴿ ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَعْلَمُونَ ﴾ أنَّ الأمر كله بيد الله.
قوله تعالى: ﴿وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ﴾ الآية لما بيَّن تعالى أن إخوته لمَّا أساءوا إليه ثمَّ صبر على تلك الإساءة، والشَّدائد مكَّنهُ اللهُ في الأرض، ثم لما بلغ أشدهُ آتاه اللهُ الحكم، والعلم، والمقصود أن جميع ما قام به من النِّعمِ كان جزاء على صبره.
قوله: «أشدَّهُ» فيه ثلاثة أقوال:
أحدها: وهو قولُ سيبويه: أنَّهُ جمع مفرده شدَّة، نحو نعمة وأنعم.
الثاني: قول الكسائي أنَّ «أشدّه» مفردة: «شدَّ» بزنة «فعل» نحو: «صَكَّ»، وأصكَّ «ويؤيدهُ قول الشاعر: [الكامل]
والثالث: أنه جمعٌ لا واحد له من لفظه، قاله أبو عبيدة، وخالفه الناس في ذلكن وقد سمع» شدَّه وشُدَّ «وهما صالحانِ له، وهو من الشدِّ، وهو الرَّبطُ على الشيء، والعقد عليه.
قوله: «أشدَّهُ» فيه ثلاثة أقوال:
أحدها: وهو قولُ سيبويه: أنَّهُ جمع مفرده شدَّة، نحو نعمة وأنعم.
الثاني: قول الكسائي أنَّ «أشدّه» مفردة: «شدَّ» بزنة «فعل» نحو: «صَكَّ»، وأصكَّ «ويؤيدهُ قول الشاعر: [الكامل]
٣٠٧٣ - عَهْدِي بِهَا شدَّ النَّهارُ كأنَّما | خُضِبَ البَنَانُ ورَأسهُ بالعِظْلِم |
53
قال الراغب: وقوله تعالى: ﴿حتى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ﴾ [الأحقاف: ١٥] فيه تنبيهٌ على أنَّ الإنسان، إذا بلغ هذا القرار استوى خلقه الذي هو عليه، فلا يكادُ يزايله، ما أحسن ما [نبه له] الشاعر حين قال: [الطويل]
والأّشدَّ: منتهى شبابه، وشدَّته، وقوَّته. قال مجاهدٌ عن ابن عبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما: ثلاثاً وثلاثين سنة. وقال السديُّ: ثلاثين سنة وقال الضحاكُ:» عشرين سنة «وقال الكلبيُّ: ما بين ثماني عشرة سنة إلى ثلاثين سنة.
وسئل مالكٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه عن الأشد قال: هو الحلم، وقد تقدَّم الكلامُ على الأشد في سورة الأنعام عند قوه: ﴿حتى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ﴾ [الأنعام: ١٥٢].
قوله: ﴿وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً﴾ فالحُكْمُ: النبوةُ، والعلمُ: التفقَهُ في الدِّين، وقيل: يعني: إصابة في القول، وعلماً [بتفاصيل] الرُّؤيا. وقيل: الفرقُ بين الحكيمِ والعالمِ: أن العالم هو الذي يعلم الأشياء، والحكيمُ: الذي يَحكمُ بما يوجبه العلمُ.
قوله:» وكَذِلكَ «إمَّا نعتٌ لمصدرٍ محذوفٍ، أو حالٌ من ضمير المصدر، وتقدَّم نظائره.
﴿نَجْزِي المحسنين﴾ قال ابنُ عبًّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما: المؤمنين، وعنه أيضاً: المهتدين. وقال الضحاك: الصَّابرين على النَّوائب كما صبر يوسفُ.
٣٠٧٤ - إذَا المَرْءُ وافَي الأرْبعينَ ولمْ يَكُنْ | لَهُ دُونَ ما يَهْوَى حَياءُ ولا سِتْرُ |
فَدعْهُ ولا تَنفِسْ عَليْهِ الَّذي مَضَى | وإنْ جَرَّ أسَبابَ الحَياةِ لهُ العُمْرُ |
وسئل مالكٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه عن الأشد قال: هو الحلم، وقد تقدَّم الكلامُ على الأشد في سورة الأنعام عند قوه: ﴿حتى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ﴾ [الأنعام: ١٥٢].
قوله: ﴿وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً﴾ فالحُكْمُ: النبوةُ، والعلمُ: التفقَهُ في الدِّين، وقيل: يعني: إصابة في القول، وعلماً [بتفاصيل] الرُّؤيا. وقيل: الفرقُ بين الحكيمِ والعالمِ: أن العالم هو الذي يعلم الأشياء، والحكيمُ: الذي يَحكمُ بما يوجبه العلمُ.
قوله:» وكَذِلكَ «إمَّا نعتٌ لمصدرٍ محذوفٍ، أو حالٌ من ضمير المصدر، وتقدَّم نظائره.
﴿نَجْزِي المحسنين﴾ قال ابنُ عبًّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما: المؤمنين، وعنه أيضاً: المهتدين. وقال الضحاك: الصَّابرين على النَّوائب كما صبر يوسفُ.
54
قوله تعالى: ﴿وَرَاوَدَتْهُ التي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَن نَّفْسِهِ﴾ [الآية: ٢٣] أعلم أنَّ يوسف عليه الصلاةوالسلام كان في غاية الجمال، فملا رأته المرأةُ؛ طمعت فيه.
«وَرَاوَدتْهُ»، أي طالبته برفقٍ ولين قول، والمُاردودَةُ: المصدرُ، والرِّيادةُ: طلب النِّكاح، يقال: وَاوَدَ فلانٌ جاريته عن نفسها، وراودته عن نفسه، إذا حاول كُلُّ واحدٍ منها الوطء، ومشى رويداً، أي: برفقٍ في مِشْيتهِ، والرَّودُ: الرِّفقُ في الأمورِ، والتَّأنِّي فيها، وراودت المرأةُ في مشيها ترودُ رَوَدَاناً من ذلك.
والمِرْودةٌ هذه الآية منه، والإرادة منقوله من رَادَ يَرُودُ إذا سعى في طلب حاجة، وتقدَّم ذلك في البقرة: [٢٦].
وتعدى هنا ب «عَنْ» لأنه ضمن معنى خادعتهُ، أي: خادعته عن نفسه، والمفاعلة هنا من الواحدِ، نحو: داويت المريض، ويحتملُ أن تكون على بابها، فإنَّ كلاًّ منهما كان يطلبُ من صاحبه شيئاً برفق، هي تطلبُ منه الفعل، وهو يطلبُ منها التَّرْكَ.
والتشديدُ في «غَلّقتْ» للتكثير لتعدُّدِ المحالِّ، اي: أغلقت الأبواب وكانت سبعةً.
قال الواحدي: «وأصل هذا من قولهم في كلِّ فعل تشبث في شيء فلزمه قد غلق، يقال: غلق في الباطل، وغلق في غضبه، ومنه غلق الرهن ثم يعدى بالألف، فيقال: أغلق الباب إذا جعله بحيث يعسر فتحه، والسبب في تغليق الأبواب أنَّ [هذا الفعل] لا يُؤتى به إلاَّ في المواضع المستُورةِ لا سيَّما إذا كان حراماً، ومع الخوف الشديد».
قوله: «هَيْتَ لَكَ» اختلف أهلُ النَّحو في هذه اللفظة، هل هي عربيةٌ أم معربةٌ؟.
«وَرَاوَدتْهُ»، أي طالبته برفقٍ ولين قول، والمُاردودَةُ: المصدرُ، والرِّيادةُ: طلب النِّكاح، يقال: وَاوَدَ فلانٌ جاريته عن نفسها، وراودته عن نفسه، إذا حاول كُلُّ واحدٍ منها الوطء، ومشى رويداً، أي: برفقٍ في مِشْيتهِ، والرَّودُ: الرِّفقُ في الأمورِ، والتَّأنِّي فيها، وراودت المرأةُ في مشيها ترودُ رَوَدَاناً من ذلك.
والمِرْودةٌ هذه الآية منه، والإرادة منقوله من رَادَ يَرُودُ إذا سعى في طلب حاجة، وتقدَّم ذلك في البقرة: [٢٦].
وتعدى هنا ب «عَنْ» لأنه ضمن معنى خادعتهُ، أي: خادعته عن نفسه، والمفاعلة هنا من الواحدِ، نحو: داويت المريض، ويحتملُ أن تكون على بابها، فإنَّ كلاًّ منهما كان يطلبُ من صاحبه شيئاً برفق، هي تطلبُ منه الفعل، وهو يطلبُ منها التَّرْكَ.
والتشديدُ في «غَلّقتْ» للتكثير لتعدُّدِ المحالِّ، اي: أغلقت الأبواب وكانت سبعةً.
قال الواحدي: «وأصل هذا من قولهم في كلِّ فعل تشبث في شيء فلزمه قد غلق، يقال: غلق في الباطل، وغلق في غضبه، ومنه غلق الرهن ثم يعدى بالألف، فيقال: أغلق الباب إذا جعله بحيث يعسر فتحه، والسبب في تغليق الأبواب أنَّ [هذا الفعل] لا يُؤتى به إلاَّ في المواضع المستُورةِ لا سيَّما إذا كان حراماً، ومع الخوف الشديد».
قوله: «هَيْتَ لَكَ» اختلف أهلُ النَّحو في هذه اللفظة، هل هي عربيةٌ أم معربةٌ؟.
55
فقيل: معربةٌ من القبطيَّة بمعنى: هلمَّ لك، قاله السديُّ. وقيل: من السِّريانيَّة، قاله ابن عبَّاس، والحسن. وقيل: من العبرانية، وأصلها: هَيْتَلخَ أي: تعاله فعربه القرآن، قاله أبو زيدٍ الأنصاري. وقيل: هي لغة حورانيَّة وقعت [إلى أهل] الحجاز، فتكلموا بها، معناها: تعالى، قاله الكسائي والفراء، وهو منقولٌ عن عكرمة. والجمهور على أنَّها عربيةٌ.
قال مجاهدٌ: هي كلمةٌ حثِّ، وإقبال. ثمَّ هي في بعض اللغات تتعيَّن فعلتيها وفي بعضها اسميتها، وفي بعضها يجوز الأمران كما ستعرفه من القراءات المذكورة فيها.
فقرأ نافع، وابن ذكوان: «هِيْتَ» بكسر الهاءِ، وسكون الياءِ، وفتح التَّاء.
وقرأ ابن كثير «هَيْتَ» بفتح الهاء، وسكون الياء، وتاء مضمومة. وقرأ هشام «هِئْتُ» بكسر الهاء، وهمزة ساكنة، وتاء مفتوحة، أو مضمومة. وقرأ الباقون: «هَيْتَ» بفتح الهاء، وياء ساكنة، وتاء مفتوحة. فهذه خمسُ قراءاتٍ في السَّبعِ.
وقرأ ابن عباسٍ، وأبو الأسود، والحسنُ، وابن محيصن بفتح الهاء، وياء ساكنة وتاء مكسورة. وحكى النحاس: أنه قرىء بكسر الهاء والتاء بينهما ياء ساكنة.
وقرأ ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أيضاً: «هُيِيْتُ» بضمِّ الهاءٍ، وكسر الياء بعدها ياء ساكنة ثم تاء مضمومة بزنة «حُيِيْتُ».
وقرأ زيد بن علي، وابن إبي إسحاق: بكسر الهاء، وياء ساكنة، وتاء مضمومة، فهذه أربع قراءات في الشاذ، فصارت تسع قراءات.
وقرأ السلمي، وقتادة بكسر الهاء وضم التاء مهموزاً، يعنى تهيأت لك، انكره أبو عمرو، والكسائي، ولم يحك هذا عن العرب، فيتعين كونها اسم فعلٍ في غير قراءة ابن عبَّاس «هُيِيْتُ» بزنة، «حُيِيْتُ» وفي غير قراءة كسر الهاء سواء كمان ذلك بالياء، أم بالهمز، فمن فتح التاء بناها على الفتح تخفيفاً، نحنو: أين، وكيف، ومن ضمَّها كابن كثيرٍ شبهها ب «حَيْثُ»، ومن كسر فعلى أصل التقاء الساكنين ك: «جَيْر»، وفتح الهاء، وكسرها لغتان، ويتعيَّن فعليتها في قراءة ابن عبَّاس «هُيِيْتُ» بزنة: «حُيِيْتُ» فإنها فيها فعل ماض مبني للمفعول مسند لضمير المتكلِّم من «هَيَّاتُ الشَّيءَ».
قال مجاهدٌ: هي كلمةٌ حثِّ، وإقبال. ثمَّ هي في بعض اللغات تتعيَّن فعلتيها وفي بعضها اسميتها، وفي بعضها يجوز الأمران كما ستعرفه من القراءات المذكورة فيها.
فقرأ نافع، وابن ذكوان: «هِيْتَ» بكسر الهاءِ، وسكون الياءِ، وفتح التَّاء.
وقرأ ابن كثير «هَيْتَ» بفتح الهاء، وسكون الياء، وتاء مضمومة. وقرأ هشام «هِئْتُ» بكسر الهاء، وهمزة ساكنة، وتاء مفتوحة، أو مضمومة. وقرأ الباقون: «هَيْتَ» بفتح الهاء، وياء ساكنة، وتاء مفتوحة. فهذه خمسُ قراءاتٍ في السَّبعِ.
وقرأ ابن عباسٍ، وأبو الأسود، والحسنُ، وابن محيصن بفتح الهاء، وياء ساكنة وتاء مكسورة. وحكى النحاس: أنه قرىء بكسر الهاء والتاء بينهما ياء ساكنة.
وقرأ ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أيضاً: «هُيِيْتُ» بضمِّ الهاءٍ، وكسر الياء بعدها ياء ساكنة ثم تاء مضمومة بزنة «حُيِيْتُ».
وقرأ زيد بن علي، وابن إبي إسحاق: بكسر الهاء، وياء ساكنة، وتاء مضمومة، فهذه أربع قراءات في الشاذ، فصارت تسع قراءات.
وقرأ السلمي، وقتادة بكسر الهاء وضم التاء مهموزاً، يعنى تهيأت لك، انكره أبو عمرو، والكسائي، ولم يحك هذا عن العرب، فيتعين كونها اسم فعلٍ في غير قراءة ابن عبَّاس «هُيِيْتُ» بزنة، «حُيِيْتُ» وفي غير قراءة كسر الهاء سواء كمان ذلك بالياء، أم بالهمز، فمن فتح التاء بناها على الفتح تخفيفاً، نحنو: أين، وكيف، ومن ضمَّها كابن كثيرٍ شبهها ب «حَيْثُ»، ومن كسر فعلى أصل التقاء الساكنين ك: «جَيْر»، وفتح الهاء، وكسرها لغتان، ويتعيَّن فعليتها في قراءة ابن عبَّاس «هُيِيْتُ» بزنة: «حُيِيْتُ» فإنها فيها فعل ماض مبني للمفعول مسند لضمير المتكلِّم من «هَيَّاتُ الشَّيءَ».
56
ويحتمل الأمرين في قراءة من كسر الهاء، وضمَّ التاء، فتحتمل أن تكون فيه أسم فعل [بنيت على] الضم، ك «حَيْثُ»، وأن تكون فعلاً مسنداً لضمير المتكلم، من: هاء الرَّجل يَهيءُ، ك «جَاء يَجِيءُ»، وله حينئذ معنيان:
أحدهما: أن يكون بمعنى: حسنت هيئته.
والثاني: أن يكون بمعنى تَهَيَّأ، يقال: «هَيُئْتُ، أي: حَسُنَتْ هَيْئتي، أوْ تَهَيَّأتُ.
وجواز أبو البقاءِ: أن تكون» هِئْتَ «هذه من:» هَاءَ يَهَاءُ «ك» شَاءَ يَشَاءُ «.
وقد طعن جماعةٌ على قراءة هشام الَّتي بالهمز، وفتح التَّاء، فقال الفارسي: يشبه أن يكون الهمز وفتح التاء وهماً من الراوي؛ لأنَّ الخطاب من المرأة ليوسف، ولم يتهيَّأ لها بدليل قوله:» وَرَاودَتْهُ «، و» أنِّي لَمْ أخُنْهُ بالغَيْبِ «، وتابعه على ذلك جماعة. وقال مكي بنُ أبي طالب:» يجبُ أن يكون اللفظ «هِئْتَ لي» أي: تهَيَّأتْ لِي، ولم يقرأ بذلك أحدٌ، وأيضاً: فإنَّ المعنى على خلافه؛ لأنَّه [لم يزل] يفرُّ منها، وتباعد عنها، وهي تراوده، وتطلبه، وتقدُّ قميصهن فكيف تخبر أنه تهيأ لها؟ «.
وأجاب بعضهم عن هذين الإشكالين بأن المعنى: تهيأ لي أمرك لأنها لم تكن تقدر على الخلوة به في كل وقت، أو يكون المعنى: حَسُنَتْ هَيْأتُكَ. أو» لَكَ «متعلق بمحذوف على سبيل البيانِ، كأنها قالت: القول لك، أو الخطاب لك، كهي في» سَقْياً لَكَ ورَعْياً لَكَ «.
قال شهابُ الدِّين:» واللاَّم متعلقة بمحذوف على كلِّ قراءة إلاَّ قراءة ثبت فيها كونها فعلاً، فإنَّها حينئذ تتعلق بالفعل، إذ لا حاجة إلى تقدير شيء آخر «.
وقال أبو البقاءِ: «والأضبهُ أن تكون الهمزةُ بدلاً من الياءِ، أو تكون لغة في الكلمة التي هي اسم للفعل، وليست فعلاً، لأن ذلك يوجب أن يكون الخطاب ليوسف عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ». وهو فاسدٌ لوجهين:
أحدهما: أنَّهُ لم يَتهيَّأ لها، وإنَّما تَهيَّأت لهُ.
الثاني: أنه قال: «لَكَ، ولو أراد الخطاب لقال:» هِئْتَ لي «، وتقدم جوابه وقوله:» إنَّ الهمزة بدلٌ من الياء «. هذا عكس لغة العرب، إذ قد عهدناهم يبدلون الهمزة السَّاكنة ياء إذا انكسر ما قبلها، نحو:» بِير «و» ذِيب «ولا يقبلون الياء المكسور ما قبلها همزة، نحو: مِيل، ودِيك، وأيضاً: فإنَّ غيرهُ جعل الياء الصَّريحة مع كسر الهاء كقراءة نافع، وابن ذكوان محتملة؛ لأن تكون بدلاً من الهمزة، قالوا فيعودُ الكلامُ فيها، كالكلام في قراءة هشامٍ.
أحدهما: أن يكون بمعنى: حسنت هيئته.
والثاني: أن يكون بمعنى تَهَيَّأ، يقال: «هَيُئْتُ، أي: حَسُنَتْ هَيْئتي، أوْ تَهَيَّأتُ.
وجواز أبو البقاءِ: أن تكون» هِئْتَ «هذه من:» هَاءَ يَهَاءُ «ك» شَاءَ يَشَاءُ «.
وقد طعن جماعةٌ على قراءة هشام الَّتي بالهمز، وفتح التَّاء، فقال الفارسي: يشبه أن يكون الهمز وفتح التاء وهماً من الراوي؛ لأنَّ الخطاب من المرأة ليوسف، ولم يتهيَّأ لها بدليل قوله:» وَرَاودَتْهُ «، و» أنِّي لَمْ أخُنْهُ بالغَيْبِ «، وتابعه على ذلك جماعة. وقال مكي بنُ أبي طالب:» يجبُ أن يكون اللفظ «هِئْتَ لي» أي: تهَيَّأتْ لِي، ولم يقرأ بذلك أحدٌ، وأيضاً: فإنَّ المعنى على خلافه؛ لأنَّه [لم يزل] يفرُّ منها، وتباعد عنها، وهي تراوده، وتطلبه، وتقدُّ قميصهن فكيف تخبر أنه تهيأ لها؟ «.
وأجاب بعضهم عن هذين الإشكالين بأن المعنى: تهيأ لي أمرك لأنها لم تكن تقدر على الخلوة به في كل وقت، أو يكون المعنى: حَسُنَتْ هَيْأتُكَ. أو» لَكَ «متعلق بمحذوف على سبيل البيانِ، كأنها قالت: القول لك، أو الخطاب لك، كهي في» سَقْياً لَكَ ورَعْياً لَكَ «.
قال شهابُ الدِّين:» واللاَّم متعلقة بمحذوف على كلِّ قراءة إلاَّ قراءة ثبت فيها كونها فعلاً، فإنَّها حينئذ تتعلق بالفعل، إذ لا حاجة إلى تقدير شيء آخر «.
وقال أبو البقاءِ: «والأضبهُ أن تكون الهمزةُ بدلاً من الياءِ، أو تكون لغة في الكلمة التي هي اسم للفعل، وليست فعلاً، لأن ذلك يوجب أن يكون الخطاب ليوسف عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ». وهو فاسدٌ لوجهين:
أحدهما: أنَّهُ لم يَتهيَّأ لها، وإنَّما تَهيَّأت لهُ.
الثاني: أنه قال: «لَكَ، ولو أراد الخطاب لقال:» هِئْتَ لي «، وتقدم جوابه وقوله:» إنَّ الهمزة بدلٌ من الياء «. هذا عكس لغة العرب، إذ قد عهدناهم يبدلون الهمزة السَّاكنة ياء إذا انكسر ما قبلها، نحو:» بِير «و» ذِيب «ولا يقبلون الياء المكسور ما قبلها همزة، نحو: مِيل، ودِيك، وأيضاً: فإنَّ غيرهُ جعل الياء الصَّريحة مع كسر الهاء كقراءة نافع، وابن ذكوان محتملة؛ لأن تكون بدلاً من الهمزة، قالوا فيعودُ الكلامُ فيها، كالكلام في قراءة هشامٍ.
57
واعلم أنَّ القراءة التي استشكلها الفارسي هي المشهورةُ عن هشامٍ، وأمَّا ضمُّ التاء فغير مشهورٍ عنه.
ثمَّ إنَّهُ تعالى أخبر أنَّ المرأة لما ذكرت هذا الكلام، قال يوسف عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ ﴿مَعَاذَ الله إِنَّهُ ربي أَحْسَنَ مَثْوَايَ﴾ » مَعاذَ اللهِ «منصوب على المصدر بفعل محذوفٍ، أي: أعوذُ بالله معاذاً، يقالُ: عَاذَ يعُوذُ عِيَاذاً [وعِيَاذةً]، ومعاذاً، وعوْذاً؛ قال: [الطويل]
قوله» إنَّهُ «يجوز أن تكون الهاء ضمير الشَّأن، ما بعده جملة خبرية له، ومراده بربه: سيِّده، ويحتمل أن تكون الهاء ضمير الباري تعالى، و» ربِّي «يحتمل أن يكون خبرها، و» أحسنَ «جملةٌ حاليةٌ لا زمةٌ، وأن تكون مبتدأ،» وأحْسنَ «جملة خبرية له، والجلمة خبر ل» أنَّ «وقرأ الجحدريُّ، وأبو الطفيل الغنوي» مَثْويَّ «بقلب الألف ياء، وإدغامها ك» بُشْرَيَّ «و» هُدَيَّ «.
و: ﴿إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ﴾ هذه الهاء ضمير الشأن ليس إلاَّ؛» فعلى قولنا: إنَّ الضمير في قوله: ﴿إِنَّهُ ربي﴾ يعود إلى زوجها قطفير، أي: إنه ربِّي سيِّدي، ومالكي أحسن مثواي حين قال لها: ﴿أَحْسَنَ مَثْوَايَ﴾، فلا يليقُ بالعقل أن أجازيه على ذلك الإحسان بهذه الخيانة القبيحة وقيل: إنها راجعةٌ إلى الله تبارك وتعالى أي: أنَّ الله ربي أحسن مثواي، أي: تولاَّنِي، ومن بلاء الجبّ عافاني: ﴿إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظالمون﴾ يعني: إن فعلتْ هذا فخنته في أهله بعدما أكرم مثواي، فأنا ظالمٌ، ولا يفلحُ الظالمُونَ.
وقيل: أراد الزناةح لانهم ظالمون لأنفسهم؛ لأنَّ عملهم يقتضي وضع الشيء في غير موضعه.
ذكر ابنُ الخطيبِ هاهنا سؤالات:
الأول: أن يوسف عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ كان حراً، وما كان عبداً، فقوله: ﴿إِنَّهُ ربي﴾ يكون كذباً، وذلك ذنبٌ وكبيرة.
والجواب: أنه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ أجرى هذا الكلام بحسب الظاهر على وفق ما كانوا يعتقدون فيه من كونه عبداً.
وأيضاً: إنَّه ربه، وأنعم عليه بالوجوه الكثيرة، فعنى بقوله: ﴿إِنَّهُ ربي﴾ كونه مربياً
ثمَّ إنَّهُ تعالى أخبر أنَّ المرأة لما ذكرت هذا الكلام، قال يوسف عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ ﴿مَعَاذَ الله إِنَّهُ ربي أَحْسَنَ مَثْوَايَ﴾ » مَعاذَ اللهِ «منصوب على المصدر بفعل محذوفٍ، أي: أعوذُ بالله معاذاً، يقالُ: عَاذَ يعُوذُ عِيَاذاً [وعِيَاذةً]، ومعاذاً، وعوْذاً؛ قال: [الطويل]
٣٠٧٥ - مَعاذَ الإلهِ أن تكُونَ كَظبْيةٍ | ولا دُمْيةٍ ولا عَقِيلةِ ربْرَبِ |
و: ﴿إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ﴾ هذه الهاء ضمير الشأن ليس إلاَّ؛» فعلى قولنا: إنَّ الضمير في قوله: ﴿إِنَّهُ ربي﴾ يعود إلى زوجها قطفير، أي: إنه ربِّي سيِّدي، ومالكي أحسن مثواي حين قال لها: ﴿أَحْسَنَ مَثْوَايَ﴾، فلا يليقُ بالعقل أن أجازيه على ذلك الإحسان بهذه الخيانة القبيحة وقيل: إنها راجعةٌ إلى الله تبارك وتعالى أي: أنَّ الله ربي أحسن مثواي، أي: تولاَّنِي، ومن بلاء الجبّ عافاني: ﴿إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظالمون﴾ يعني: إن فعلتْ هذا فخنته في أهله بعدما أكرم مثواي، فأنا ظالمٌ، ولا يفلحُ الظالمُونَ.
وقيل: أراد الزناةح لانهم ظالمون لأنفسهم؛ لأنَّ عملهم يقتضي وضع الشيء في غير موضعه.
فصل
ذكر ابنُ الخطيبِ هاهنا سؤالات:
الأول: أن يوسف عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ كان حراً، وما كان عبداً، فقوله: ﴿إِنَّهُ ربي﴾ يكون كذباً، وذلك ذنبٌ وكبيرة.
والجواب: أنه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ أجرى هذا الكلام بحسب الظاهر على وفق ما كانوا يعتقدون فيه من كونه عبداً.
وأيضاً: إنَّه ربه، وأنعم عليه بالوجوه الكثيرة، فعنى بقوله: ﴿إِنَّهُ ربي﴾ كونه مربياً
58
وهو من باب المعاريض الحسنةٍ، فإنَّ الظَّاهرِ يحملونه على كونه ربًّا، وهو كأنه يعني به أنه كان مربياً له ومنعماً عليه.
السؤال الثاني: ذكر يوسف عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ في الجواب في كلامه ثلاثة أشياء:
أحدها: قوله: «مَعَاذ اللهِ».
والثاني: قوله: ﴿إِنَّهُ ربي أَحْسَنَ مَثْوَايَ﴾.
والثالث: قوله: ﴿إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظالمون﴾ فما وجه تعلُّق هذه الجوابات بعضها ببعض «.
والجواب: هذا الترتيب في غاية الحسنح لأن الأنقياد لأمر الله تعالى وتكاليفه أهم الأشياء لكثرة إنعامه، ألطافه في حق العبدِ، فقوله: ﴿مَعَاذَ الله﴾ إشارة أنَّ حقَّ اللهِ يمنعُ من هذا العملِ.
وأيضاً: حقوق الخلق واجبة الرعاية، فلما كان هذا الرجل قد أنعم في حقّي، فيثبحُ معاملة [إنعامه] بالإساءة.
وأيضاً: صونُ النَّفسِ عن الضَّرر واجب، وهذه اللذَّة قليلة، ويتبعها خزيٌ في الدُّنيا وعذابٌ في الآخرة، وهذه اللذَّة القليلة إذا تبعها ضررٌ شديدٌ؛ ينبغي تركها والاحتراز عنها، لقوله: ﴿إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظالمون﴾ فهذه الجواباتُ الثلاثة مرتبة على أحسن وجوه: التريب.
السؤال الثالث: هل يدلُّ قوله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ» مَعاذَ اللهِ «على صحَّةِ القضاء والقدر؟.
والجوةابُ: أنه يدل دلالة ظاهرة؛ لأنه طلب من الله أن يعيذهُ من العمل، وتلك الإعاذة ليست عبارة من لفظ الفعل، والقدرة وإزاحة الأعذار، وإزالة الموانع وفعل الألطاف؛ لأن كل هذا قد فعله الله تعالى، فيكونُ طلبه إمَّا طلباً لتحصيل الحاصل، أو طلباً لتحصيل الممتنع، وأنَّه محالٌ، فلعمنا أنَّ تلك الإعاذة التي طلبها يوسف من الله تعالى لا معنى لها إلا أن يخلق فيه داعية جازمة في جانب الطاعة، وأن ينزل عن قلبه داعية المعصية، وهو المطلوبُ.
ويدلُّ على ذلك: أنَّ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وقع بصره على زينب قال:» يا مُقلِّبَ القُلوبِ ثَبِّتْ قَلبِي على دِينِك «وكان المراد منه تقوية داعية الطَّاعة، وإزالة داعية المعصية، فكذا
السؤال الثاني: ذكر يوسف عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ في الجواب في كلامه ثلاثة أشياء:
أحدها: قوله: «مَعَاذ اللهِ».
والثاني: قوله: ﴿إِنَّهُ ربي أَحْسَنَ مَثْوَايَ﴾.
والثالث: قوله: ﴿إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظالمون﴾ فما وجه تعلُّق هذه الجوابات بعضها ببعض «.
والجواب: هذا الترتيب في غاية الحسنح لأن الأنقياد لأمر الله تعالى وتكاليفه أهم الأشياء لكثرة إنعامه، ألطافه في حق العبدِ، فقوله: ﴿مَعَاذَ الله﴾ إشارة أنَّ حقَّ اللهِ يمنعُ من هذا العملِ.
وأيضاً: حقوق الخلق واجبة الرعاية، فلما كان هذا الرجل قد أنعم في حقّي، فيثبحُ معاملة [إنعامه] بالإساءة.
وأيضاً: صونُ النَّفسِ عن الضَّرر واجب، وهذه اللذَّة قليلة، ويتبعها خزيٌ في الدُّنيا وعذابٌ في الآخرة، وهذه اللذَّة القليلة إذا تبعها ضررٌ شديدٌ؛ ينبغي تركها والاحتراز عنها، لقوله: ﴿إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظالمون﴾ فهذه الجواباتُ الثلاثة مرتبة على أحسن وجوه: التريب.
السؤال الثالث: هل يدلُّ قوله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ» مَعاذَ اللهِ «على صحَّةِ القضاء والقدر؟.
والجوةابُ: أنه يدل دلالة ظاهرة؛ لأنه طلب من الله أن يعيذهُ من العمل، وتلك الإعاذة ليست عبارة من لفظ الفعل، والقدرة وإزاحة الأعذار، وإزالة الموانع وفعل الألطاف؛ لأن كل هذا قد فعله الله تعالى، فيكونُ طلبه إمَّا طلباً لتحصيل الحاصل، أو طلباً لتحصيل الممتنع، وأنَّه محالٌ، فلعمنا أنَّ تلك الإعاذة التي طلبها يوسف من الله تعالى لا معنى لها إلا أن يخلق فيه داعية جازمة في جانب الطاعة، وأن ينزل عن قلبه داعية المعصية، وهو المطلوبُ.
ويدلُّ على ذلك: أنَّ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وقع بصره على زينب قال:» يا مُقلِّبَ القُلوبِ ثَبِّتْ قَلبِي على دِينِك «وكان المراد منه تقوية داعية الطَّاعة، وإزالة داعية المعصية، فكذا
59
وكذلك قوله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ:» قَلْبُ المُؤمنِ بَيْنَ أصْبُعيْنِ من أصَابع الرَّحْمنِ «قال: والمراد من الأصعبين: داعية الفعل وداعية التَّركِ، وهَاتَانِ الدَّاعيتانِ لاَ يَحْصُلانِ إلا بِخلْقِ الله تعالى وإلا لافْتقرَتْ إلى داعيةٍ أخرى، ولزم التَّسلسلُ؛ فثبت أن قول يوسف عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ:» مَعَاذَ اللهِ «من أدل الدَّلائلِ على صحَّة القول بالقضاءِ، والقدرِ.
قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لولاا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ﴾ [الآية: ٢٤] جواب» لولاَ ما تقدَّم عليها، وقوله: «وهَمَّ بِهَا» عند من يجيز تقديم جواب أدوات الشرط عليها، وإما محذوف لدلالة هذا عليه عند من لا يرى ذلك، وقد تقدَّم تقريرُ المذهبين مراراً، كقولهم: «أنْتَ ظَالمٌ إنْ فَعلْتَ»، أي: فعلت، فأنت ظالزٌ، ولا تقول: إن «أنت ظَالمٌ» هو الجوابُ، بل دلَّ عليه دليلٌ، وعلى هذا فالوقف عند قوله: «بُرْهَانَ ربِّه» والمعنى: لولا رُؤيته برهان ربه لهمَّ بها، لكنه امتنع همَّهُ بها لوجودِ رُؤية برهانِ ربِّه، فلم يحصل منه همِّ ألبتَّة، كقولك: لولا زيدٌ لأكرمتك، فالمعنى: إنَّ الإكرام ممتنعٌ لوجود زيد، وبهذا يتخلَّص من الإشكال الذي يورد، وهو: كيف يليقُ بنبي أن يهم بامرأة.
قال الزمخشري: «فإن قلت: قوله» وهمَّ بِهَا «داخل تحت القسم في قوله:» وَلقَدْ هَمَّتْ بِهِ «أم خارج عنه؟. قلت: الأمران جائزان، ومن حقِّ القارىء إذا قصد خروجه من حكم القسم، وجعله كلاماً برأسه أن يقف على قوله:» ولقَدْ هَمَّتْ بِهِ «يبتدىء قوله: ﴿وَهَمَّ بِهَا لولاا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ﴾، وفيه أيضاً إشعارٌ بالفرقِ بين الهمَّينِ.
فإن قلت: لِمَ جعلت جواب» لَوْلاَ «محذوفاً يدلٌّ عليه:» هَمَّ بِهَا «، وهلاَّ جعلته هو الجواب مقدماً؟.
قلت: لأن» لوْلاً «لا يتقدم عليها جو ابها من قبل أنَّه في حكم الشرطِ، وللشَّرطِ صدر الكلام، وهو وما في حيِّزهِ مم الجملتين، مثل كلمة واحدة، ولا يجوزُ تقديمُ بعض الكلمة على بعضٍ، وأما حذف بعضها إذا دلَّ عليه دليلٌ؛ فهو جاءزٌ».
فقوله: «وأما حذف بعضها.... إلخ» جواب عن سؤال مقدرٍ، وهو أنَّهُ إذا كان جواب الشَّرط مع الجملتين بمنزلة كلمةٍ؛ فينبغي أن لا يحذف منهما شيء؛ لأنَّ الكلمة لا يحذفُ منها شيء.
فأجاب بأنَّهُ يجوز إذا دلَّ دليل على ذلك، وهو كما قال، ثم قال: فإن قلتَ لمَ جعلتَ «لَوْلاَ» متعلقة ب «هَمَّ بِهَا» وحدة، ولم تجعلها متعلقة بجلمة وقله: ﴿وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا﴾ ؛ لأن الهمَّ لا يتعلق بالجواهر، ولكن بالمعاني، ولا بد من تقدير
قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لولاا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ﴾ [الآية: ٢٤] جواب» لولاَ ما تقدَّم عليها، وقوله: «وهَمَّ بِهَا» عند من يجيز تقديم جواب أدوات الشرط عليها، وإما محذوف لدلالة هذا عليه عند من لا يرى ذلك، وقد تقدَّم تقريرُ المذهبين مراراً، كقولهم: «أنْتَ ظَالمٌ إنْ فَعلْتَ»، أي: فعلت، فأنت ظالزٌ، ولا تقول: إن «أنت ظَالمٌ» هو الجوابُ، بل دلَّ عليه دليلٌ، وعلى هذا فالوقف عند قوله: «بُرْهَانَ ربِّه» والمعنى: لولا رُؤيته برهان ربه لهمَّ بها، لكنه امتنع همَّهُ بها لوجودِ رُؤية برهانِ ربِّه، فلم يحصل منه همِّ ألبتَّة، كقولك: لولا زيدٌ لأكرمتك، فالمعنى: إنَّ الإكرام ممتنعٌ لوجود زيد، وبهذا يتخلَّص من الإشكال الذي يورد، وهو: كيف يليقُ بنبي أن يهم بامرأة.
قال الزمخشري: «فإن قلت: قوله» وهمَّ بِهَا «داخل تحت القسم في قوله:» وَلقَدْ هَمَّتْ بِهِ «أم خارج عنه؟. قلت: الأمران جائزان، ومن حقِّ القارىء إذا قصد خروجه من حكم القسم، وجعله كلاماً برأسه أن يقف على قوله:» ولقَدْ هَمَّتْ بِهِ «يبتدىء قوله: ﴿وَهَمَّ بِهَا لولاا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ﴾، وفيه أيضاً إشعارٌ بالفرقِ بين الهمَّينِ.
فإن قلت: لِمَ جعلت جواب» لَوْلاَ «محذوفاً يدلٌّ عليه:» هَمَّ بِهَا «، وهلاَّ جعلته هو الجواب مقدماً؟.
قلت: لأن» لوْلاً «لا يتقدم عليها جو ابها من قبل أنَّه في حكم الشرطِ، وللشَّرطِ صدر الكلام، وهو وما في حيِّزهِ مم الجملتين، مثل كلمة واحدة، ولا يجوزُ تقديمُ بعض الكلمة على بعضٍ، وأما حذف بعضها إذا دلَّ عليه دليلٌ؛ فهو جاءزٌ».
فقوله: «وأما حذف بعضها.... إلخ» جواب عن سؤال مقدرٍ، وهو أنَّهُ إذا كان جواب الشَّرط مع الجملتين بمنزلة كلمةٍ؛ فينبغي أن لا يحذف منهما شيء؛ لأنَّ الكلمة لا يحذفُ منها شيء.
فأجاب بأنَّهُ يجوز إذا دلَّ دليل على ذلك، وهو كما قال، ثم قال: فإن قلتَ لمَ جعلتَ «لَوْلاَ» متعلقة ب «هَمَّ بِهَا» وحدة، ولم تجعلها متعلقة بجلمة وقله: ﴿وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا﴾ ؛ لأن الهمَّ لا يتعلق بالجواهر، ولكن بالمعاني، ولا بد من تقدير
60
المخالطةِ، والمخالطة لا تكون إلا من اثنين معاً، فكأنه قيل: همَّا بالمخالطة لولا أن منع مانعٌ أحدهما؟
قلتُ: نعم ما قلت: ولكن الله سبحانه وتعالى قد جاء بالهمين على سبيل التفضيل حيث قال: ﴿وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا﴾ اه.
والزجاج لم يرتض هذه المقالة، أي: كون قوله: «لَوْلاَ» متعلقة ب «هَمَّ بِهَا» فإنه قال: ولو كان الكلام «لَهمَّ بِهَا» لكان بعيداً، فيكف مع سُقوطِ الكلام؟ [يعني] الزجاج أنه: لا جائز أن يكون «هَمَّ بِهَا» جواباً ل: «لَوْلاَ» ؛ لأنه لو كان جوابها لاقترن باللاَّمِ؛ لأنه مُثبتٌ، وعلى تقدير أنَّهُ كان مقترناً باللاَّم كان يبعد من جهة أخرى، وهي تقديمُ الجواب عليها.
وجواب ما قاله الزجاجُ: ما تقدم عن الزمخشري من أن الجواب محذوفٌ مدلولٌ عليه بما تقدَّم.
وأما قوله: [ولو كان] الكلام: «ولهمَّ بِهَا» فغيرُ لازم؛ لأنَّه متى كان جواب «لَوْ»، و «لَوْلاَ» مثبتاً جاز فيه الأمران: اللام وعدمها، وإن كان الإتيانُ اللاَّم هو الأكثر.
وتابع ابنُ عطيَّة في هذا المعنى فقال: «قول من قال: إنَّ الكلام قد تمَّ في قوله:» ولقَدْ هَمَّتْ بِهِ «، وأن جواب» لَوْلاَ «في قوله:» وهَمَّ بَهَا «؛ وأنَّ المعنى: لولا أن رأى البرهان لهم بها، فلم يهمَّ يوسف عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ قال: وهذا قولٌ يردُّه لسان العرب، وأقوال السَّلف».
فقوله: «يردُّه لسانُ العرب» فليس كذلك؛ لأنَّ وزن هذه الآية قوله: ﴿إِن كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لولاا أَن رَّبَطْنَا على قَلْبِهَا﴾ [القصص: ١٠] فقوله: ﴿إِن كَادَتْ﴾ أمَّا أن تكون جواباً عند من يرى ذلك، وإمَّا أن يكون دالاً على الجواب، وليس فيه خروجٌ عن كلامِ العربِ، هذا ما ردَّ عليه أبو حيَّان.
وكأن ابن عطيَّة إنما يعني بالخروج عن لسان العرب تجرد الجواب من اللاَّم على تقدير جواز تقديمه، والغرض أن اللاَّم لم توجد.
الهمُّ هو المقاربةٌ من الفعل من غير دخولٍ فيه، فهَمُّهَا: عزمُها على المعصية، وأما همُّه: فرُوِيَ عن أبن عبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما أنه حلَّ الهميان، وجلس منها مجلسَ الخاتنِ.
قلتُ: نعم ما قلت: ولكن الله سبحانه وتعالى قد جاء بالهمين على سبيل التفضيل حيث قال: ﴿وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا﴾ اه.
والزجاج لم يرتض هذه المقالة، أي: كون قوله: «لَوْلاَ» متعلقة ب «هَمَّ بِهَا» فإنه قال: ولو كان الكلام «لَهمَّ بِهَا» لكان بعيداً، فيكف مع سُقوطِ الكلام؟ [يعني] الزجاج أنه: لا جائز أن يكون «هَمَّ بِهَا» جواباً ل: «لَوْلاَ» ؛ لأنه لو كان جوابها لاقترن باللاَّمِ؛ لأنه مُثبتٌ، وعلى تقدير أنَّهُ كان مقترناً باللاَّم كان يبعد من جهة أخرى، وهي تقديمُ الجواب عليها.
وجواب ما قاله الزجاجُ: ما تقدم عن الزمخشري من أن الجواب محذوفٌ مدلولٌ عليه بما تقدَّم.
وأما قوله: [ولو كان] الكلام: «ولهمَّ بِهَا» فغيرُ لازم؛ لأنَّه متى كان جواب «لَوْ»، و «لَوْلاَ» مثبتاً جاز فيه الأمران: اللام وعدمها، وإن كان الإتيانُ اللاَّم هو الأكثر.
وتابع ابنُ عطيَّة في هذا المعنى فقال: «قول من قال: إنَّ الكلام قد تمَّ في قوله:» ولقَدْ هَمَّتْ بِهِ «، وأن جواب» لَوْلاَ «في قوله:» وهَمَّ بَهَا «؛ وأنَّ المعنى: لولا أن رأى البرهان لهم بها، فلم يهمَّ يوسف عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ قال: وهذا قولٌ يردُّه لسان العرب، وأقوال السَّلف».
فقوله: «يردُّه لسانُ العرب» فليس كذلك؛ لأنَّ وزن هذه الآية قوله: ﴿إِن كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لولاا أَن رَّبَطْنَا على قَلْبِهَا﴾ [القصص: ١٠] فقوله: ﴿إِن كَادَتْ﴾ أمَّا أن تكون جواباً عند من يرى ذلك، وإمَّا أن يكون دالاً على الجواب، وليس فيه خروجٌ عن كلامِ العربِ، هذا ما ردَّ عليه أبو حيَّان.
وكأن ابن عطيَّة إنما يعني بالخروج عن لسان العرب تجرد الجواب من اللاَّم على تقدير جواز تقديمه، والغرض أن اللاَّم لم توجد.
فصل
الهمُّ هو المقاربةٌ من الفعل من غير دخولٍ فيه، فهَمُّهَا: عزمُها على المعصية، وأما همُّه: فرُوِيَ عن أبن عبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما أنه حلَّ الهميان، وجلس منها مجلسَ الخاتنِ.
61
وعن مجاهد رَحِمَهُ اللَّهُ أنَّه حلّ سراويله، وجعل يعالجُ ثيابه، وهذا قولُ سعيد بن جبير، والحسن، وأكثر المتقدمين رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم.
وقيل غير ذلك.
وقال أكثرُ المتأخِّرين: إنَّ هذا لا يليقُ بحال الأنبياء عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ وقالوا: تم الكلام عند قوله: «ولقد همَّتْ بِهِ»، ابتدأ الخبر عن يوسف فقال: ﴿وَهَمَّ بِهَا لولاا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ﴾ على التَّقديمِ، والتأخير، أي: لولا أنه رأى برهان ربِّه لهم بها، لكنه رأى البُرهان، فلم يهمّ.
قال البغويُّ: «وأنكره النُّحاة، وقالوا: إنَّ العربَ لا تُؤخِّرُ» لَوْلاَ «عن الفعلِ فلا يقولون: قُمْتُ لولا زيدٌ، وهي تريدُ: لولا زيدٌ لقُمْتُ».
وذكر ابنُ الخطيبِ: عن الواحديِّ أنه قال في البسيطِ: «قال المفسِّرُون: هم يوسف أيضاً بالمرأة همَّا صحيحاً، وجلس منها مجلس الرجُل من المرأةِ فلمَّا رأى البُرهانَ من ربه؛ زالت كلُّ شهوة عنه.
قال أبُو جعفرٍ الباقرُ بإسناده عن عليِّ كرَّم الله وجهه أنه قال: طمعت فيه، وطمع فيها «.
ثمَّ إنَّ الواحديَّ طول في كلمات عاريةٍ عن الفائدة في هذا الباب، ولم يذكر فيما احتج به حديثاً صحيحاً يعوَّل عليه في هذه المقالة، ورُويَ أنَّ يوسف عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ لمَّا قال: ﴿ذلك لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بالغيب﴾ [يوسف: ٥٢] قال له جبريل عليه السلام: ولا جين هممت يَا يوسف فقال عند ذلك:» ومَا أبرِّىءُ نَفْسِي «.
وقال بعضُ العلماءِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم: الهمُّ همَّان:
همٌّ يخطرُ بالبالِ من غير أن يبرز إلى الفعل.
وهمٌّ يخطرُ بالبالِ، ويبرز إلى الفعل، فالأوَّلُ مغفورٌ، والثاني: غير مغفورٍ إلا أنْ يشاءَ اللهُ، ويشهدُ لذلك قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا﴾، فهمُّه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ كان خُطُراً بالبال من غير أن يخرج إلى الفعلِ، وهمُّها خرج إلى الفعل بدليل أنَّها ﴿وَغَلَّقَتِ الأبواب وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ﴾ [يوسف: ٢٣]، ﴿وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِن دُبُرٍ﴾ [يوسف: ٢٥].
ويشهد للثاني قوله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ» إذَا التَقَى المُسْلمَانِ بسيفَيْهِمَا فالقَاتِلُ
وقيل غير ذلك.
وقال أكثرُ المتأخِّرين: إنَّ هذا لا يليقُ بحال الأنبياء عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ وقالوا: تم الكلام عند قوله: «ولقد همَّتْ بِهِ»، ابتدأ الخبر عن يوسف فقال: ﴿وَهَمَّ بِهَا لولاا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ﴾ على التَّقديمِ، والتأخير، أي: لولا أنه رأى برهان ربِّه لهم بها، لكنه رأى البُرهان، فلم يهمّ.
قال البغويُّ: «وأنكره النُّحاة، وقالوا: إنَّ العربَ لا تُؤخِّرُ» لَوْلاَ «عن الفعلِ فلا يقولون: قُمْتُ لولا زيدٌ، وهي تريدُ: لولا زيدٌ لقُمْتُ».
وذكر ابنُ الخطيبِ: عن الواحديِّ أنه قال في البسيطِ: «قال المفسِّرُون: هم يوسف أيضاً بالمرأة همَّا صحيحاً، وجلس منها مجلس الرجُل من المرأةِ فلمَّا رأى البُرهانَ من ربه؛ زالت كلُّ شهوة عنه.
قال أبُو جعفرٍ الباقرُ بإسناده عن عليِّ كرَّم الله وجهه أنه قال: طمعت فيه، وطمع فيها «.
ثمَّ إنَّ الواحديَّ طول في كلمات عاريةٍ عن الفائدة في هذا الباب، ولم يذكر فيما احتج به حديثاً صحيحاً يعوَّل عليه في هذه المقالة، ورُويَ أنَّ يوسف عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ لمَّا قال: ﴿ذلك لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بالغيب﴾ [يوسف: ٥٢] قال له جبريل عليه السلام: ولا جين هممت يَا يوسف فقال عند ذلك:» ومَا أبرِّىءُ نَفْسِي «.
وقال بعضُ العلماءِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم: الهمُّ همَّان:
همٌّ يخطرُ بالبالِ من غير أن يبرز إلى الفعل.
وهمٌّ يخطرُ بالبالِ، ويبرز إلى الفعل، فالأوَّلُ مغفورٌ، والثاني: غير مغفورٍ إلا أنْ يشاءَ اللهُ، ويشهدُ لذلك قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا﴾، فهمُّه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ كان خُطُراً بالبال من غير أن يخرج إلى الفعلِ، وهمُّها خرج إلى الفعل بدليل أنَّها ﴿وَغَلَّقَتِ الأبواب وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ﴾ [يوسف: ٢٣]، ﴿وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِن دُبُرٍ﴾ [يوسف: ٢٥].
ويشهد للثاني قوله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ» إذَا التَقَى المُسْلمَانِ بسيفَيْهِمَا فالقَاتِلُ
62
والمقْتولُ في النَّار، فَقيلَ يا رسُول اللهِ هَذا القَاتِلُ فمَا بَالُ المَقْتُولِ؟ قال: لأنَّه كَانَ حَرِيصاً عَلَى قَتْلِ صَاحِبهِ «.
قال ابن الخطيب: وقال المُحققُونَ من المُفسِّرين، والمتكلِّمين: إنَّ يُوسفَ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ ت كان بَرِيئاً من العملِ البَاطلِ، والهَمّ المُحرَّم، وبه نقولُ، وعنه نذبُّ، والدلائل الدَّالةُ على وُجوبِ عصمة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام مذكورة مقرّرة ونزيد هاهنا وجوههاً:
الأول: أن الزِّنا من منكرات الكبائرِ، الخيانةٌ في معرض الأمانةِ أيضاً من منكرات الذُّنوبِ وأيضاً: الصبيُّ إذا تربَّى في حجر الإنسان، وبقي مكفيَّ المؤنةِ، مصون العرضِ من أوَّلِ صباهُ إل زمان شبابه، وكما قوَّته، فإقدام هذا الصبي على إيصال أقبح أنواع الإساءة إلى ذلك المنعم المفضل من منكرات الأعمال، وإذا ثبت هذا فنقول: إن هذه المعصية إذا نسبوها إلى يوسف عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ كانت موصوفة بجميع الجهالات، ومثلُ هذه المعصية إذا نسيت إلى أفسقِ خلقِ الله، وأبعدهم من كلِّ حسنٍ، لا ستنكف منه، فكيف يجوز إسنادهُ إلى الرَّسولِ المُؤيّد بالمعجزات الباهرة مع قوله تعالى: ﴿كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السواء والفحشآء﴾ وأيضاً فلا يليق بحكمة الله تعالى وذلك يدلُّ على أنَّ ما هيَّة السُّوء، ما هية الفحشاء مصروفةٌ عنه، والمعصية التي نسوها إليه أعظم أنواع السوء، والفحشاء، وأيضاً فلا يليق بحمة الله تعالى أن يحكي عن إنسان إقدامه على معصية، ثم يمدحه، ويثني عليه بأعظم المدائح والأثنية عقيب ما حكى عنه ذلك الذَّنب العظيم، فإنَّ مثاله ما إذا حكى السطان عن بعض عبيده أقبح الذنوب، وأفحش الأعمال، ثم يذكره بالمدح العظيم، والثناءِ البالغ عقيبه، فإنَّ ذلك متسنكرٌ جدًّا، فكذا هاهنا.
وأيضاًَ: فإن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام متى صدرت عنهم زلةٌ، أو هفوةٌ؛ استعظموا ذلك، وأتبعوه بإظهار النَّدامةِ، والتوبة، والتَّواضع، ولو كان يوسف أقدم ههنا على هذه الكبيرة المنكرة، لكان من المحال أن لا يتبعها بالتَّوبةِ، والاستغفار، ولو أتى بالتَّوبةِ لحكى الله ذلك عنه كما في سائر المواضع، وحيثُ لم يقع شيءٌ من ذلك علمنا أنه ما صدر عنه في هذه الواقعة ذنب، ولا معصية.
وأيضاً: فكلُّ من كان له تعلق بهذه الواقعة، فقد شهد ببراءة يوسف عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ عن المعصية، والذين لهم تعلق بهذه الواقعة: يوسف والمرأة وزوجها، والنسوة الشهود، ورب العالم، وإبليس.
قال ابن الخطيب: وقال المُحققُونَ من المُفسِّرين، والمتكلِّمين: إنَّ يُوسفَ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ ت كان بَرِيئاً من العملِ البَاطلِ، والهَمّ المُحرَّم، وبه نقولُ، وعنه نذبُّ، والدلائل الدَّالةُ على وُجوبِ عصمة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام مذكورة مقرّرة ونزيد هاهنا وجوههاً:
الأول: أن الزِّنا من منكرات الكبائرِ، الخيانةٌ في معرض الأمانةِ أيضاً من منكرات الذُّنوبِ وأيضاً: الصبيُّ إذا تربَّى في حجر الإنسان، وبقي مكفيَّ المؤنةِ، مصون العرضِ من أوَّلِ صباهُ إل زمان شبابه، وكما قوَّته، فإقدام هذا الصبي على إيصال أقبح أنواع الإساءة إلى ذلك المنعم المفضل من منكرات الأعمال، وإذا ثبت هذا فنقول: إن هذه المعصية إذا نسبوها إلى يوسف عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ كانت موصوفة بجميع الجهالات، ومثلُ هذه المعصية إذا نسيت إلى أفسقِ خلقِ الله، وأبعدهم من كلِّ حسنٍ، لا ستنكف منه، فكيف يجوز إسنادهُ إلى الرَّسولِ المُؤيّد بالمعجزات الباهرة مع قوله تعالى: ﴿كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السواء والفحشآء﴾ وأيضاً فلا يليق بحكمة الله تعالى وذلك يدلُّ على أنَّ ما هيَّة السُّوء، ما هية الفحشاء مصروفةٌ عنه، والمعصية التي نسوها إليه أعظم أنواع السوء، والفحشاء، وأيضاً فلا يليق بحمة الله تعالى أن يحكي عن إنسان إقدامه على معصية، ثم يمدحه، ويثني عليه بأعظم المدائح والأثنية عقيب ما حكى عنه ذلك الذَّنب العظيم، فإنَّ مثاله ما إذا حكى السطان عن بعض عبيده أقبح الذنوب، وأفحش الأعمال، ثم يذكره بالمدح العظيم، والثناءِ البالغ عقيبه، فإنَّ ذلك متسنكرٌ جدًّا، فكذا هاهنا.
وأيضاًَ: فإن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام متى صدرت عنهم زلةٌ، أو هفوةٌ؛ استعظموا ذلك، وأتبعوه بإظهار النَّدامةِ، والتوبة، والتَّواضع، ولو كان يوسف أقدم ههنا على هذه الكبيرة المنكرة، لكان من المحال أن لا يتبعها بالتَّوبةِ، والاستغفار، ولو أتى بالتَّوبةِ لحكى الله ذلك عنه كما في سائر المواضع، وحيثُ لم يقع شيءٌ من ذلك علمنا أنه ما صدر عنه في هذه الواقعة ذنب، ولا معصية.
وأيضاً: فكلُّ من كان له تعلق بهذه الواقعة، فقد شهد ببراءة يوسف عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ عن المعصية، والذين لهم تعلق بهذه الواقعة: يوسف والمرأة وزوجها، والنسوة الشهود، ورب العالم، وإبليس.
63
فأمَّا يوسف صلوات الله وسلامه عليه فأدَّعى أنَّ الذنب للمرأة وقال: ﴿هِيَ رَاوَدَتْنِي عَن نَّفْسِي﴾ [يوسف: ٢٦] و ﴿قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ﴾ [يوسف: ٣٣] وأما المرأة، فاعترفت بذلك، وقالت للنسوة: ﴿وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ فَاسَتَعْصَمَ﴾ [يوسف: ٣٢] وقالت: ﴿الآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَاْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ﴾ [يوسف: ٥١] وأمَّا زوج المرأة فقوله: ﴿إِنَّهُ مِن كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هذا واستغفري لِذَنبِكِ﴾ [يوسف: ٢٨ ٢٩].
وأمَّا الشهود فقوله تعالى: ﴿وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّنْ أَهْلِهَآ إِن كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن قُبُلٍ﴾ [يوسف: ٢٦].
وأمَّا شهادة الله تعالى: فقوله: ﴿كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السواء والفحشآء إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا المخلصين﴾ [يوسف: ٢٤] فقد شهد الله تعالى في هذه الآية على طهارته أربع مرات.
أولها: قوله: ﴿لِنَصْرِفَ عَنْهُ السواء﴾.
وثانيها: قوله: ﴿لِنَصْرِفَ عَنْهُ السواء والفحشآء﴾.
والثالث: قوله: ﴿إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا﴾ مع أنه تعالى قال: ﴿وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا﴾ [الفرقان: ٦٣].
والرابع: قوله: «المُخْلصِينَ»، وفيه قراءتا، تارة باسم الفاعل، وأخرى بسام المفعول وهذا يدلُّ على أنَّ الله تعالى استخلصه لنفسه، وأصطفاه لحضرته، وعلى كل [وجه] فإنَّه أدلُّ الألفاظ على كونه منزهاً عمَّا أضافوه إليه.
وأما إقرار إبليس بطهارته فقوله: ﴿فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ﴾ [ص: ٨٢٨٣] فهذا إقرارٌ من إبليس بأنه ما أغواهُ، وما أضله عن طريف الهدى، فثبت بهذه الدَّلائل أنَّ يوسف عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ بريءٌ عمَّا يقوله هؤلاء.
وإذا عرفت هذا فنقول: الكلام على ظاهر هذه الآية [يقع] في مقامين:
المقام الأول: أن نقول: إنَّ يوسف عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ ما همَّ بها، لوقله تعالى: ﴿لولاا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ﴾، وجواب «لَوْلاَ» ههنا مقدمٌ، وهو كما يقالُ: قد كنت من الهَالكينَ لولا أنَّ فلاناً خلصك، وطعن الزَّجاجُ في هذا الجواب من وجهين:
الأول: أن تقديم جواب «لَوْلاَ: شاذٌّ، وغير موجود في الكلامِ الفصيحِ.
الثاني: [أنَّ] «لَوْلاَ» يجابُ جوابها باللاَّمِ، فلو كان الأمرُ على ما ذكرتم لقال: ولقد همَّت به، ولهم بها لوْلاَ.
وأمَّا الشهود فقوله تعالى: ﴿وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّنْ أَهْلِهَآ إِن كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن قُبُلٍ﴾ [يوسف: ٢٦].
وأمَّا شهادة الله تعالى: فقوله: ﴿كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السواء والفحشآء إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا المخلصين﴾ [يوسف: ٢٤] فقد شهد الله تعالى في هذه الآية على طهارته أربع مرات.
أولها: قوله: ﴿لِنَصْرِفَ عَنْهُ السواء﴾.
وثانيها: قوله: ﴿لِنَصْرِفَ عَنْهُ السواء والفحشآء﴾.
والثالث: قوله: ﴿إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا﴾ مع أنه تعالى قال: ﴿وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا﴾ [الفرقان: ٦٣].
والرابع: قوله: «المُخْلصِينَ»، وفيه قراءتا، تارة باسم الفاعل، وأخرى بسام المفعول وهذا يدلُّ على أنَّ الله تعالى استخلصه لنفسه، وأصطفاه لحضرته، وعلى كل [وجه] فإنَّه أدلُّ الألفاظ على كونه منزهاً عمَّا أضافوه إليه.
وأما إقرار إبليس بطهارته فقوله: ﴿فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ﴾ [ص: ٨٢٨٣] فهذا إقرارٌ من إبليس بأنه ما أغواهُ، وما أضله عن طريف الهدى، فثبت بهذه الدَّلائل أنَّ يوسف عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ بريءٌ عمَّا يقوله هؤلاء.
وإذا عرفت هذا فنقول: الكلام على ظاهر هذه الآية [يقع] في مقامين:
المقام الأول: أن نقول: إنَّ يوسف عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ ما همَّ بها، لوقله تعالى: ﴿لولاا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ﴾، وجواب «لَوْلاَ» ههنا مقدمٌ، وهو كما يقالُ: قد كنت من الهَالكينَ لولا أنَّ فلاناً خلصك، وطعن الزَّجاجُ في هذا الجواب من وجهين:
الأول: أن تقديم جواب «لَوْلاَ: شاذٌّ، وغير موجود في الكلامِ الفصيحِ.
الثاني: [أنَّ] «لَوْلاَ» يجابُ جوابها باللاَّمِ، فلو كان الأمرُ على ما ذكرتم لقال: ولقد همَّت به، ولهم بها لوْلاَ.
64
وذكر غير الزجاج سؤالاً ثالثاً، وهو: أنَّهُ لو لم يوجد الهمُّ لما كان لقوله: ﴿لولاا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ﴾ فائدة.
واعلم أنَّ ما ذكَرهُ الزجاجُ بعيدٌ؛ لأنَّا [لا] نُسلِّم أنَّ تأخير جواب «لَوْلاَ» حسنٌ جائزٌ، إلا أنَّ جوازه لا يمنعُ من جواز تقديم هذا الجواب، فكيف وقد نُقل عن سيبويه أنَّه قال: «إنَّهم يُقدِّمون الأهمَّ فالأهَمَّ»، والذي همَّ بشأنه أعنى؛ فكان الأمر في جواز التقديم، والتَّأخير مربوطاًً ذكرُ بشدَّة الاهتمام، فأمَّا تعينُ بعض الألفافظِ بالمنع، فذلك ممَّا لا يلييقٌ بالحكمةِ، وأيضاً ذكر جوابِ «لَوْلاَ» باللاَّم جائزٌ، وذلك يدلُّ على أنَّ ذكره بغير اللاَّم لا يجوزُ، وممَّا يدل على فسادِ قول الزجاجِ قوله تعالى: ﴿إِن كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلَا أَن رَّبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا﴾ [القصص: ١٠].
وأما قوله: لو لم يوجد الهم لم يبق لقوله: ﴿لولاا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ﴾ فائدة.
فنقولُ: بل فيه أعظم الفوائدِ: وهو بيان أنَّ ترك الهمَّ بها ما كان لعدم رغبته في النسِّاءِ، ولا لعدمِ قدرته عليهنَّ؛ بل لأجلِ أنَّ دلائل دين الله منعته عن ذلك العمل، ثم نقول: الذي يدلُّ على أنَّ جواب: «لَوْلاَ» ما ذكرناه أن «لَوْلاَ» تستدعي جواباً، وهذا المذكور يصلح جواباً له؛ فوجب الحكم بكونه جواباً له لا يقال: أنَّ نضمر له جواباً، وهذا المذكور يصلح جواباً له؛ فوجب الحكم بكونه جواباً له لا يقال: إنَّا نضمر له جواباً، وتركُ الجواب ذكر في القرآن، فنقول: لا نزاع أنه ذكر في القرآن، إلا أنَّ الأصل ألاّ يكون محذوفاً.
وأيضاً: فالجواب إنَّما يحسن تركه، وحذفه، إذا حصل في الملفوظ ما يدلُّ على تعيينه، وههنا بعيد أن يكون الجواب محذوفاً؛ لأنَّه ليس في اللفظِ ما يدلُّ على تعيين ذلك الجواب، فإن ههنا أنواعاً من الإضمارات، يحسن إضمار كل واحد منها، وليس إظمار بعضها أولى من إضمار البعض الباقي فظهر الفرقُ.
المقام الثاني: سلمنا أنَّ الهمّ قد حصل إلاَّ أنّا نقول: إن قوله: «وهمَّ بِهَا» لا يمكنُ حمله على ظاهره؛ لأنَّ تعليق الهمّ بذات المرأة مُحالٌ؛ لأنَّ الهمّ من جنس القصد، والقصدُ لا يتعلق بالذَّوات؛ فثبت أنَّهُ لا بد من إضمار فعلٍ محذوف يجعل متعلق ذلك الفعل غير مذكور، فهم زعموا أنَّ ذلك الفعل المضمر هو إيقاع الفاحشة بها، ونحن نضمر شيئاً آخر يغاير ما ذكروه وهو من وجوه:
الاول: المراد أنه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ همَّ بدفعها عن نفسه، ومنعها من ذلك القبيح؛ لأنَّ الهمَّ هو القصدُ، وفجب أن يحمل في حق كُلِّ واحدٍ على القصدِ الذي يليقُ به، فالأليقُ بالمرأة القصد إلى تحصيل اللَّذة، والتَّمتُّع، وأليق بالرسُولِ المعبوث غلى الخلقِ القصد إلى زَجْرِ العاصي عن معصيته، وإلى الأمرِ بالمعروف والنهي عن المنكر،
يقال: هَمَمْتُ بفلان، أي: قصدته ودفعته.
واعلم أنَّ ما ذكَرهُ الزجاجُ بعيدٌ؛ لأنَّا [لا] نُسلِّم أنَّ تأخير جواب «لَوْلاَ» حسنٌ جائزٌ، إلا أنَّ جوازه لا يمنعُ من جواز تقديم هذا الجواب، فكيف وقد نُقل عن سيبويه أنَّه قال: «إنَّهم يُقدِّمون الأهمَّ فالأهَمَّ»، والذي همَّ بشأنه أعنى؛ فكان الأمر في جواز التقديم، والتَّأخير مربوطاًً ذكرُ بشدَّة الاهتمام، فأمَّا تعينُ بعض الألفافظِ بالمنع، فذلك ممَّا لا يلييقٌ بالحكمةِ، وأيضاً ذكر جوابِ «لَوْلاَ» باللاَّم جائزٌ، وذلك يدلُّ على أنَّ ذكره بغير اللاَّم لا يجوزُ، وممَّا يدل على فسادِ قول الزجاجِ قوله تعالى: ﴿إِن كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلَا أَن رَّبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا﴾ [القصص: ١٠].
وأما قوله: لو لم يوجد الهم لم يبق لقوله: ﴿لولاا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ﴾ فائدة.
فنقولُ: بل فيه أعظم الفوائدِ: وهو بيان أنَّ ترك الهمَّ بها ما كان لعدم رغبته في النسِّاءِ، ولا لعدمِ قدرته عليهنَّ؛ بل لأجلِ أنَّ دلائل دين الله منعته عن ذلك العمل، ثم نقول: الذي يدلُّ على أنَّ جواب: «لَوْلاَ» ما ذكرناه أن «لَوْلاَ» تستدعي جواباً، وهذا المذكور يصلح جواباً له؛ فوجب الحكم بكونه جواباً له لا يقال: أنَّ نضمر له جواباً، وهذا المذكور يصلح جواباً له؛ فوجب الحكم بكونه جواباً له لا يقال: إنَّا نضمر له جواباً، وتركُ الجواب ذكر في القرآن، فنقول: لا نزاع أنه ذكر في القرآن، إلا أنَّ الأصل ألاّ يكون محذوفاً.
وأيضاً: فالجواب إنَّما يحسن تركه، وحذفه، إذا حصل في الملفوظ ما يدلُّ على تعيينه، وههنا بعيد أن يكون الجواب محذوفاً؛ لأنَّه ليس في اللفظِ ما يدلُّ على تعيين ذلك الجواب، فإن ههنا أنواعاً من الإضمارات، يحسن إضمار كل واحد منها، وليس إظمار بعضها أولى من إضمار البعض الباقي فظهر الفرقُ.
المقام الثاني: سلمنا أنَّ الهمّ قد حصل إلاَّ أنّا نقول: إن قوله: «وهمَّ بِهَا» لا يمكنُ حمله على ظاهره؛ لأنَّ تعليق الهمّ بذات المرأة مُحالٌ؛ لأنَّ الهمّ من جنس القصد، والقصدُ لا يتعلق بالذَّوات؛ فثبت أنَّهُ لا بد من إضمار فعلٍ محذوف يجعل متعلق ذلك الفعل غير مذكور، فهم زعموا أنَّ ذلك الفعل المضمر هو إيقاع الفاحشة بها، ونحن نضمر شيئاً آخر يغاير ما ذكروه وهو من وجوه:
الاول: المراد أنه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ همَّ بدفعها عن نفسه، ومنعها من ذلك القبيح؛ لأنَّ الهمَّ هو القصدُ، وفجب أن يحمل في حق كُلِّ واحدٍ على القصدِ الذي يليقُ به، فالأليقُ بالمرأة القصد إلى تحصيل اللَّذة، والتَّمتُّع، وأليق بالرسُولِ المعبوث غلى الخلقِ القصد إلى زَجْرِ العاصي عن معصيته، وإلى الأمرِ بالمعروف والنهي عن المنكر،
يقال: هَمَمْتُ بفلان، أي: قصدته ودفعته.
65
فإن قيل: فعلى هذا التدقير لا يبقى لقوله: ﴿لولاا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ﴾ فائدة قلنا: بل فيه أعظمُ الفوائد، وبيانه من وجهين:
الأول: أنه تعالى أعلم يوسف أنه لو همَّ بدفعها لقتلته، أو لكانت تأمر الحاضرين بقتله، فأعلمه الله تعالى أنَّ الامتناع من ضربها أولى، لصون النَّفس عن الهلاك.
الثاني: أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لو اشتغل بدفعها عن نفسه، فرُبَّما تعلقت به، فكان يتخرق ثوبه من قُدَّام، وكان في علم الله أنَّ الشَّاهد سيشهد أن ثوبه لو خرق من قدام، لكان يوسف هو الخائنُ، ولو كان ثوبه مخرَّقاً من خلفه لكانت المرأة هي الخائنة، والله تعالى أعلمه بهذا المعنى، فلا جرم لم يشتغل بدفعها عن نفسه، بل ولَّى هارباً منها حتى صارت شهادةُ الشَّاهد حجَّة له على براءته عن المعصية.
الوجه الثاني في الجواب: أن يفسر الهَمُّ بالشَّهوةِ، وهذا مستعملٌ في اللغة الشَّائعة، يقولُ القائلُ فيما لا يشتهيه: لا يهمُّنِي هذا، وفيما يشتهيه: هذا أحبُّ الأشياءِ إليّ، فسمَّى الله شهوة يوسف همًّا.
والمعنى: لقد اشتهته، واشتهاها لولا أن رأى برهان ربِّه لدخل ذلك العملُ في الوجود.
الثالث: أن يفسر الهمُّ بحديث النَّفس؛ وذلك لأنَّ المرأة الفائقة في الحسن والجمال، إذا تزينت، ونهيّأت للرَّجل الشَّاب القوي، فلا بد أن يقع هناك بين الشهوة والحكمة، وبين النفس، والعقل محادثات، ومنازعات، فتارة تقوى داعيةُ الطبيعة والشهوة، وتارة تقوى داعية العقل والحكمة، والهمُّ عبارة عن محادثات الطبيعة ورؤية البرها عبارة عن جواذب العبودية، ومثاله: أنَّ الرَّجل الصَّالح الصَّائم ف يالصيف الصَّائف، إذا رأى الجلاب المبرِّد بالثَّلج، فإن طبيعته تحمله على شربه إلا أنَّ دينه يمنعه منه، فهذا لا يدلُّ على حصول الذنب، بل كلما كانت هذه الحالة أشد كانت القوة في القيام بلوازم العبوديَّة أكمل، فظهر بحمد الله صحَّة القول الذي ذهبنا إليه، ولم يبق في يد الواحدي إلا مجرَّد التَّصلف، وتعديد أسماءِ المفسرين، ولو ذكر في تقرير ذلك القول شهبة لأجبنا عنها إلا أنَّه ما زاد عن الرواية عن بعض المفسِّرين.
واعلم أنَّ بعض الحشويَّة روى عن النبي المختار صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «ما كّذبَ إبْراهِيمُ إلاَّ ثلاثَ كَذبَاتٍ» فقلت: الأولى ألاَّ تقبل مثل هذه الأخبار فقال على [طريق] الاستنكار: إن لم نقبله لزمنا تكذيبُ الرُّواةِ، فقلت له: يا مسكينُ إن قبلناه لزمنا الحكم بتكذيب إبراهيم
الأول: أنه تعالى أعلم يوسف أنه لو همَّ بدفعها لقتلته، أو لكانت تأمر الحاضرين بقتله، فأعلمه الله تعالى أنَّ الامتناع من ضربها أولى، لصون النَّفس عن الهلاك.
الثاني: أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لو اشتغل بدفعها عن نفسه، فرُبَّما تعلقت به، فكان يتخرق ثوبه من قُدَّام، وكان في علم الله أنَّ الشَّاهد سيشهد أن ثوبه لو خرق من قدام، لكان يوسف هو الخائنُ، ولو كان ثوبه مخرَّقاً من خلفه لكانت المرأة هي الخائنة، والله تعالى أعلمه بهذا المعنى، فلا جرم لم يشتغل بدفعها عن نفسه، بل ولَّى هارباً منها حتى صارت شهادةُ الشَّاهد حجَّة له على براءته عن المعصية.
الوجه الثاني في الجواب: أن يفسر الهَمُّ بالشَّهوةِ، وهذا مستعملٌ في اللغة الشَّائعة، يقولُ القائلُ فيما لا يشتهيه: لا يهمُّنِي هذا، وفيما يشتهيه: هذا أحبُّ الأشياءِ إليّ، فسمَّى الله شهوة يوسف همًّا.
والمعنى: لقد اشتهته، واشتهاها لولا أن رأى برهان ربِّه لدخل ذلك العملُ في الوجود.
الثالث: أن يفسر الهمُّ بحديث النَّفس؛ وذلك لأنَّ المرأة الفائقة في الحسن والجمال، إذا تزينت، ونهيّأت للرَّجل الشَّاب القوي، فلا بد أن يقع هناك بين الشهوة والحكمة، وبين النفس، والعقل محادثات، ومنازعات، فتارة تقوى داعيةُ الطبيعة والشهوة، وتارة تقوى داعية العقل والحكمة، والهمُّ عبارة عن محادثات الطبيعة ورؤية البرها عبارة عن جواذب العبودية، ومثاله: أنَّ الرَّجل الصَّالح الصَّائم ف يالصيف الصَّائف، إذا رأى الجلاب المبرِّد بالثَّلج، فإن طبيعته تحمله على شربه إلا أنَّ دينه يمنعه منه، فهذا لا يدلُّ على حصول الذنب، بل كلما كانت هذه الحالة أشد كانت القوة في القيام بلوازم العبوديَّة أكمل، فظهر بحمد الله صحَّة القول الذي ذهبنا إليه، ولم يبق في يد الواحدي إلا مجرَّد التَّصلف، وتعديد أسماءِ المفسرين، ولو ذكر في تقرير ذلك القول شهبة لأجبنا عنها إلا أنَّه ما زاد عن الرواية عن بعض المفسِّرين.
واعلم أنَّ بعض الحشويَّة روى عن النبي المختار صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «ما كّذبَ إبْراهِيمُ إلاَّ ثلاثَ كَذبَاتٍ» فقلت: الأولى ألاَّ تقبل مثل هذه الأخبار فقال على [طريق] الاستنكار: إن لم نقبله لزمنا تكذيبُ الرُّواةِ، فقلت له: يا مسكينُ إن قبلناه لزمنا الحكم بتكذيب إبراهيم
66
صلوات الله وسلامه عليه وإن رددناه لزمنا الحكم بتكذيب الرواة، ولا شك أن صون إبراهيم صلوات الله وسلامه عليه عن الكذب أولى من صون طائفةٍ من المجاهيل عن الكذب.
إذا عرفت هذا الأصل، فنقولُ للواحدي: ومن الذي يضمنُ لنا أنَّ الذين نقولا هذه القول عن هؤلاء المفسرين كانوا صادقين، أو كاذبين. والله أعلم.
اختلوفوا في البرهان ما هو؟.
فقال المحققون المثبتون للعصمة: رُؤيةُ البُرهانِ على وجوهٍ:
الاول: أنه حجَّة الله تعالى في تحريم الزِّنا، والعلمُ بما على الزَّاني من العذاب.
الثاني: أن الله تعالى طهَّر نفوس الأنبياء عن الأخلاق الذَّميمة، بل نقول: إنه تعالى، طهر نفوس المتصلين بهم عنها، كما قال تعالى: ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ الله لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرجس أَهْلَ البيت وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً﴾ [الأحزاب: ٣٣] والمراد برؤية البرهان: هو حصولُ ذلك الإخلاص، وترك الأحوال الدَّاعية به إلى الإقدام على المنكرِات.
الثالث: أنه رأى مكتوباً في سقف البيت: ﴿وَلاَ تَقْرَبُواْ الزنى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَآءَ سَبِيلاً﴾ [الإسراء: ٣٢].
الرابع: أنًَّهُ النبوة المانعةُ من ارتكاب الفواحشِ، ويدلُّ عليه أنَّ الأنبياء عليهم الصلاة والسلام بعثوا لمنع الخلقِ من القبائح، فلو أنَّهم منعوا النَّاس عنها، ثم أقدموا على أقبح أنواعها لدخلوا تحت قوله ﴿لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ﴾ [الصف: ٢] وايضاً: فإن الله تعالى عيَّر اليهود بقوله ﴿أَتَأْمُرُونَ الناس بالبر وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ﴾ [البقرة: ٤٤] ما كان عيباً في حق اليهود، كيف ينسب إلى الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ المؤيد بالمعجزات.
وأمَّا الذين نسبوا المعصية إلى يوسف عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ فذكروا في ذلك البرهان وجوهاً:
الأول: أنَّ المرأة قامت إلى صنم مكلَّلٍ بالدُّرِّ، والياقوت في زاوية البيت، فسترته بثوبٍ، فقال يوسف عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ، [ولم؟ قالت: أستحي من إلهي أن يراني على المعصية، فقال يوسف:] أتستحين من صنم لايسمعُ، ولا يبصرُ ولا أستحي من إلهي القائمِ على كلِّ نفس بما كسبت، فوالله لا أفعلُ ذلك أبداً، قال هذا هو البُرهَانُ.
الثاني: نقلُوا عن ابن عبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما أنَّهُ تمثَّل له يعقوب، فرآه عاضًّا على أصبعه يقول له: لا تعمل عمل الفُجَّار، وأنت مكتوبٌ في زمرة الأنبياء عليهم
إذا عرفت هذا الأصل، فنقولُ للواحدي: ومن الذي يضمنُ لنا أنَّ الذين نقولا هذه القول عن هؤلاء المفسرين كانوا صادقين، أو كاذبين. والله أعلم.
فصل
اختلوفوا في البرهان ما هو؟.
فقال المحققون المثبتون للعصمة: رُؤيةُ البُرهانِ على وجوهٍ:
الاول: أنه حجَّة الله تعالى في تحريم الزِّنا، والعلمُ بما على الزَّاني من العذاب.
الثاني: أن الله تعالى طهَّر نفوس الأنبياء عن الأخلاق الذَّميمة، بل نقول: إنه تعالى، طهر نفوس المتصلين بهم عنها، كما قال تعالى: ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ الله لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرجس أَهْلَ البيت وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً﴾ [الأحزاب: ٣٣] والمراد برؤية البرهان: هو حصولُ ذلك الإخلاص، وترك الأحوال الدَّاعية به إلى الإقدام على المنكرِات.
الثالث: أنه رأى مكتوباً في سقف البيت: ﴿وَلاَ تَقْرَبُواْ الزنى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَآءَ سَبِيلاً﴾ [الإسراء: ٣٢].
الرابع: أنًَّهُ النبوة المانعةُ من ارتكاب الفواحشِ، ويدلُّ عليه أنَّ الأنبياء عليهم الصلاة والسلام بعثوا لمنع الخلقِ من القبائح، فلو أنَّهم منعوا النَّاس عنها، ثم أقدموا على أقبح أنواعها لدخلوا تحت قوله ﴿لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ﴾ [الصف: ٢] وايضاً: فإن الله تعالى عيَّر اليهود بقوله ﴿أَتَأْمُرُونَ الناس بالبر وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ﴾ [البقرة: ٤٤] ما كان عيباً في حق اليهود، كيف ينسب إلى الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ المؤيد بالمعجزات.
وأمَّا الذين نسبوا المعصية إلى يوسف عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ فذكروا في ذلك البرهان وجوهاً:
الأول: أنَّ المرأة قامت إلى صنم مكلَّلٍ بالدُّرِّ، والياقوت في زاوية البيت، فسترته بثوبٍ، فقال يوسف عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ، [ولم؟ قالت: أستحي من إلهي أن يراني على المعصية، فقال يوسف:] أتستحين من صنم لايسمعُ، ولا يبصرُ ولا أستحي من إلهي القائمِ على كلِّ نفس بما كسبت، فوالله لا أفعلُ ذلك أبداً، قال هذا هو البُرهَانُ.
الثاني: نقلُوا عن ابن عبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما أنَّهُ تمثَّل له يعقوب، فرآه عاضًّا على أصبعه يقول له: لا تعمل عمل الفُجَّار، وأنت مكتوبٌ في زمرة الأنبياء عليهم
67
الصلاة والسلام فاستحى منه. قالوا: وهو قول عكرمة، ومجاهدٍ، الحسن، وسعيد بن جبير.
وروى سعيد بن جبير رَضِيَ اللَّهُ عَنْه عن ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما تمثَّل له يعقوب، فضرب في صدره فخرجت شهوته من أنامله.
الثالث: قالوا: إنَّه سمع في الهواء قائلاً: يا بْنَ يعقوب، لا تكن كالطَّير له ريش، فإذا زنا ذهب ريشه.
الرابع: نقلوا عن ابن عباس أن يوسف عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ لم ينزجر بكلامِ يعقوب حتى ركضه جبريلُ، فلم يبقَ به شيءٌ من الشَّهوة إلا خرج.
قال ابنُ الخطيب: «ولما ذكر الواحديُّ هذه الروايات تصلف وقال: هذا الذي ذكرنا قول أئمَّة التَّفسير الذين أخذوا التَّأويل عمن شاهدوا التنزيل فيقال له: إنَّك لا تأتينا ألبتة إلا بهذه التصلفات التي لا فائدة فيها، فأين هذا من الحجة والدليل الذي ذكرناه، وأيضاً: فإن ترادف الدلائل على الشَّيء الواحد جائزٌ وإنه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ كان ممتنعاً من الزِّنا بحسب الدَّلائل الأصلية، فلما انضاف إليها هذه الزَّواجِر ازدادت قوةً.
وأيضاً: روي أن جبريل عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ امتنع من دخول حجرة النبي المختار صلوات الله وسلامه عليه بسبب وقع هناك بغير علمه؛ قالوا: فامتنع جبريل عليه السلام من الدخول [عليه] أربعين يوماً، وههنا زعموا أنَّ يوسف حين اشتغاله بالفاحشة ذهب إليه جبريل، والعجب أيضاً أنَّهم زعموا أنه لم يمتنع عن ذلك العمل بسبب حضور جبريل عليه السلام، ولو أنَّ أفسق الخلق، وأكفرهم كان مشتغلاً بفاحشة، فإذا دخل عليه رجلٌ في زِيّ الصَّالحين استحى منه؛ وترك [ذلك] العمل وهاهنا يعقوب عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ عضّ على أنامله، فلم يلتفت، ثمَّ إنَّ جبريل عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ على جلالة قدره دخل عليه، فلم يمتنع أيضاً عن ذلك القبيح بدخوله حتى احتاج جبريل إلى أن ركضه على ظهره «.
وروى سعيد بن جبير رَضِيَ اللَّهُ عَنْه عن ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما تمثَّل له يعقوب، فضرب في صدره فخرجت شهوته من أنامله.
الثالث: قالوا: إنَّه سمع في الهواء قائلاً: يا بْنَ يعقوب، لا تكن كالطَّير له ريش، فإذا زنا ذهب ريشه.
الرابع: نقلوا عن ابن عباس أن يوسف عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ لم ينزجر بكلامِ يعقوب حتى ركضه جبريلُ، فلم يبقَ به شيءٌ من الشَّهوة إلا خرج.
قال ابنُ الخطيب: «ولما ذكر الواحديُّ هذه الروايات تصلف وقال: هذا الذي ذكرنا قول أئمَّة التَّفسير الذين أخذوا التَّأويل عمن شاهدوا التنزيل فيقال له: إنَّك لا تأتينا ألبتة إلا بهذه التصلفات التي لا فائدة فيها، فأين هذا من الحجة والدليل الذي ذكرناه، وأيضاً: فإن ترادف الدلائل على الشَّيء الواحد جائزٌ وإنه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ كان ممتنعاً من الزِّنا بحسب الدَّلائل الأصلية، فلما انضاف إليها هذه الزَّواجِر ازدادت قوةً.
وأيضاً: روي أن جبريل عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ امتنع من دخول حجرة النبي المختار صلوات الله وسلامه عليه بسبب وقع هناك بغير علمه؛ قالوا: فامتنع جبريل عليه السلام من الدخول [عليه] أربعين يوماً، وههنا زعموا أنَّ يوسف حين اشتغاله بالفاحشة ذهب إليه جبريل، والعجب أيضاً أنَّهم زعموا أنه لم يمتنع عن ذلك العمل بسبب حضور جبريل عليه السلام، ولو أنَّ أفسق الخلق، وأكفرهم كان مشتغلاً بفاحشة، فإذا دخل عليه رجلٌ في زِيّ الصَّالحين استحى منه؛ وترك [ذلك] العمل وهاهنا يعقوب عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ عضّ على أنامله، فلم يلتفت، ثمَّ إنَّ جبريل عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ على جلالة قدره دخل عليه، فلم يمتنع أيضاً عن ذلك القبيح بدخوله حتى احتاج جبريل إلى أن ركضه على ظهره «.
68
فنسأل الله أن يصوننا عن الغي في الدين، الخذلان في طلب اليقين.
والفرق بين السوء، والفحشاء من وجهين:
الأول: أنَّ السوء: جناية اليد، والفحشاء: الزِّنا.
الثاني: السُّوء: مقدمات الفاحشة من القُبلةِ، والنَّظر بالشَّهوة. والفحشاءُ: هو الزنا.
قوله:» وكَذلِكَ «في هذه الكاف أوجه:
أحدها: أنَّها في محل نصبٍ، وقدَّره الزمشخريُّ مثل ذلك التَّثبيتِ ثبَّتناه.
وقدَّرهُ الحرفيُّ أريناه البراهين بذلك، وقدَّره ابنُ عطيَّة: جرت أفعالنا، وأقدارنا كذلك، وقدره أبو البقاء: نراعيه كذلك.
الثاني: أن الكاف في محل رفع، فقدَّره الزمخشريًّ، وأبو البقاء: الأمر مثل ذلك، وقدَّره أبنُ عيطةك عصمته كذلك. وقال الحوفيُّ: أمر البراهين بذلك ثمَّ قال: والنصب أجودُ لمطالبة حروف الجرّ للأفعال أو معانيها.
الثالث: أنَّ في الكلام تقديماً، وتأخيراً، وتقديره: همَّت به، وهمَّ بها كذلك ثم قال: لولا أن رأى برهان ربه، كذلك لنصرف عنه ما هم بها هذا نص ابن عطيَّة.
وليس بشيءٍ؛ إذْ مع تسليم جوازِ التَّقديم، والتَّأخير لا معنى لما ذكره.
قال أبو حيَّان: وأقولُ: إنَّ التقديرك مثل تِلْك الرُّؤية، أو مثل ذلك الرَّأي نري براهيننا، لنصرف عنه، فتجعل الإشارة إلى الرَّأي، أو الرُّؤيةِ، والنَّاصب الكاف مما دل عليه قوله: ﴿لولاا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ﴾، و» لِنَْرفَ «متعلق بذلك الفعل النَّاصب للكاف، ومصدر» رَأى «» رُؤيةٌ ورأيٌ «؛ قال: [الرجز]
وقرأ الاعمش «ليَصْرِفَ» بياء الغيبةِ، والفاعل هو الله سبحانه وتعالى، قوله تعالى: ﴿المخلصين﴾ قرأ هذه اللفظة [حيث وردت] إذا كانت معرفة بأل مكسورة
فصل
والفرق بين السوء، والفحشاء من وجهين:
الأول: أنَّ السوء: جناية اليد، والفحشاء: الزِّنا.
الثاني: السُّوء: مقدمات الفاحشة من القُبلةِ، والنَّظر بالشَّهوة. والفحشاءُ: هو الزنا.
قوله:» وكَذلِكَ «في هذه الكاف أوجه:
أحدها: أنَّها في محل نصبٍ، وقدَّره الزمشخريُّ مثل ذلك التَّثبيتِ ثبَّتناه.
وقدَّرهُ الحرفيُّ أريناه البراهين بذلك، وقدَّره ابنُ عطيَّة: جرت أفعالنا، وأقدارنا كذلك، وقدره أبو البقاء: نراعيه كذلك.
الثاني: أن الكاف في محل رفع، فقدَّره الزمخشريًّ، وأبو البقاء: الأمر مثل ذلك، وقدَّره أبنُ عيطةك عصمته كذلك. وقال الحوفيُّ: أمر البراهين بذلك ثمَّ قال: والنصب أجودُ لمطالبة حروف الجرّ للأفعال أو معانيها.
الثالث: أنَّ في الكلام تقديماً، وتأخيراً، وتقديره: همَّت به، وهمَّ بها كذلك ثم قال: لولا أن رأى برهان ربه، كذلك لنصرف عنه ما هم بها هذا نص ابن عطيَّة.
وليس بشيءٍ؛ إذْ مع تسليم جوازِ التَّقديم، والتَّأخير لا معنى لما ذكره.
قال أبو حيَّان: وأقولُ: إنَّ التقديرك مثل تِلْك الرُّؤية، أو مثل ذلك الرَّأي نري براهيننا، لنصرف عنه، فتجعل الإشارة إلى الرَّأي، أو الرُّؤيةِ، والنَّاصب الكاف مما دل عليه قوله: ﴿لولاا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ﴾، و» لِنَْرفَ «متعلق بذلك الفعل النَّاصب للكاف، ومصدر» رَأى «» رُؤيةٌ ورأيٌ «؛ قال: [الرجز]
٣٠٦٧ - ورَأيُ عَيْنَيَّ الفَتَى أبَاكَا | [يُعْطِي الجَزيلَ فعَليْكَ ذَاكَا] |
69
اللام: ابن كثير، وأبو عمرو، وابن عامر أي: الذين أخلصوا دينهم لله على اسم الفاعلِ، والمفعول محذوفٌ، والباقون بفتحها على أنَّه اسم مفعولٍ من أخصلهم الله، أي: اجتباهم، واختارهم، وأخلصهم من كلِّ سوءٍ، ويحتمل أن يكون لكونه من ذرية إبراهيم قال فيهم: ﴿إِنَّآ أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدار﴾ [ص: ٤٦].
وقرأ الكوفيُّون في مريم ﴿إِنَّهُ كَانَ مُخْلِصاً﴾ [مريم: ٥١] بفتحِ اللاَّم بالمعنى المقتدِمِ والباقون بكسرها بالمعنى المتقدم.
قوله تعالى: ﴿واستبقا الباب﴾ [الآية: ٢٥] «البَابَ» منصوبٌ إمَّا على إسقاطِ الخافض اتّساعاً، إذ أصلُ «اسْتبَقَ» أن يتعدَّى ب «إلى»، وإما على تضمين «اسْتَبقَ» معنى ابتدر، فينصب مفعولاً به. قوله تعالى: ﴿وَقَدَّتْ﴾ يحتمل أن تكون الجملة نسقاً على «اسْتبقَا» أي: استبق، وقدت، ويحتمل أن يكون في محل نصب على الحال، أي: وقد قدَّت. والقدّ: الشَّقُّ مطلقاً، قال بعضهم: القدُّ: فيما كان يشقُّ طولاً القطُّ: فيما كان يشقُّ عَرْضاً.
قال ابن عطية «وقرأت فرقة: وقَطّ» قال أبو الفضل بنُ حربٍ: رأيت في مصحب «وقطَّ مِنْ دبُرٍ» أي: شقَّ.
قال يعقوب: القطُّ في الجلدِ الصحيح، والثوب الصحيح؛ وقال الشاعر: [الطويل]
قال العلماء رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم وهذا الكلامْ من اختصار القرآن المعجز الذي يجتمع فيه المعاني، وذلك أنَّ يوسف عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ لما رأى برهان ربِّه، خرج حينئذ هارباً، وتبعته المرأة فتعلقت بقميصه من خلفه، فجذبته إليها حتى لا يخرج «وقدَّتْ قَميصَهُ» [أي] : فشققته المرأة من دبر.
والاستباقُ: طلبُ السَّبْق، أي: يجتهدُ كلُّ واحدٍ منهما أن يسبق صاحبهُ فإن سبق يوسف فتح الباب، وخرج، وإن سبقت المرأةُ أمسكتِ الباب لئلا يخرج فسبقها يوسف عليه السلام إلى الباب، والمرأة تعدو خلفه، فلم تصلْ إلا إلى دبر القميص، فتعلقت به فقدته من خلفه، فلمَّا خرجا «ألْفَيَا»، أي: وجدا «سيِّدهَا»، وإنما لم يقل سيدهما؛ لأنَّ
وقرأ الكوفيُّون في مريم ﴿إِنَّهُ كَانَ مُخْلِصاً﴾ [مريم: ٥١] بفتحِ اللاَّم بالمعنى المقتدِمِ والباقون بكسرها بالمعنى المتقدم.
قوله تعالى: ﴿واستبقا الباب﴾ [الآية: ٢٥] «البَابَ» منصوبٌ إمَّا على إسقاطِ الخافض اتّساعاً، إذ أصلُ «اسْتبَقَ» أن يتعدَّى ب «إلى»، وإما على تضمين «اسْتَبقَ» معنى ابتدر، فينصب مفعولاً به. قوله تعالى: ﴿وَقَدَّتْ﴾ يحتمل أن تكون الجملة نسقاً على «اسْتبقَا» أي: استبق، وقدت، ويحتمل أن يكون في محل نصب على الحال، أي: وقد قدَّت. والقدّ: الشَّقُّ مطلقاً، قال بعضهم: القدُّ: فيما كان يشقُّ طولاً القطُّ: فيما كان يشقُّ عَرْضاً.
قال ابن عطية «وقرأت فرقة: وقَطّ» قال أبو الفضل بنُ حربٍ: رأيت في مصحب «وقطَّ مِنْ دبُرٍ» أي: شقَّ.
قال يعقوب: القطُّ في الجلدِ الصحيح، والثوب الصحيح؛ وقال الشاعر: [الطويل]
٣٠٧٧ - تَقُدُّ السَّلُوقيَّ المُضاعفَ نَسْجهُ | وتُوقِدُ بالصفَّاحِ نَارَ الحُباحِبِ |
فصل
قال العلماء رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم وهذا الكلامْ من اختصار القرآن المعجز الذي يجتمع فيه المعاني، وذلك أنَّ يوسف عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ لما رأى برهان ربِّه، خرج حينئذ هارباً، وتبعته المرأة فتعلقت بقميصه من خلفه، فجذبته إليها حتى لا يخرج «وقدَّتْ قَميصَهُ» [أي] : فشققته المرأة من دبر.
والاستباقُ: طلبُ السَّبْق، أي: يجتهدُ كلُّ واحدٍ منهما أن يسبق صاحبهُ فإن سبق يوسف فتح الباب، وخرج، وإن سبقت المرأةُ أمسكتِ الباب لئلا يخرج فسبقها يوسف عليه السلام إلى الباب، والمرأة تعدو خلفه، فلم تصلْ إلا إلى دبر القميص، فتعلقت به فقدته من خلفه، فلمَّا خرجا «ألْفَيَا»، أي: وجدا «سيِّدهَا»، وإنما لم يقل سيدهما؛ لأنَّ
70
يوسف عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ لم يكن مملوكاً لذلك الرجل حقيقة «لَدى البابِ» أي: عند البابِ، والمرأة تقول لبعلها: سيِّدي.
فإن قيل: فالمرأةُ أيضاً ليست مملوكة لبعلها حقيقة.
فالجواب: أن الزَّوج لما ملك الانتفاع بالمرا’ من الوطء والخلوةِ، والمباشرةِ، والسفر بها من غير اختيارها أشبهت المملوكة، فلذلك حسن إطلاقُ السيِّد عليه.
قال القرطبيُّ: «والقبط يسمون الزوج سيداً، ويقال: ألفاه، وصادفهُ، وواله ووَالطَه، ولاطَهُ، وكلٌّ بمعنى واحدٍ».
فعند ذلك، خافتِ المرأةُ من التُّهمِ، فبادرت إلى أن رمتْ يوسف عليه السلام بالعفلِ القبيح، ﴿وقالت ما جزاء من أراد بأهلك سوءاً﴾ يعنى الزِّنا، ثم خافت عليه أن يقتل فقالت: ﴿إلاَّ أن يُسجنَ﴾، أي: يحبس، ﴿أوْ عذابٌ أليمٌ﴾ أي: يُعَاقبُ بالضَّربِ.
قوله: «مَا جزاءُ» يجوز في «مَا» هذه أن تكون نافية، وأن تكون استفهاميَّة، و «مَنْ» يجوز أن تكون موصولة، أو نكرة موصوفة.
قوله: «إلاَّ أن يُسْجنَ» خبر المبتدأ، ولما كان «أن يُسْجنَ» في قوَّة المصدر عطف عليه المصدر، وهو قوله: «أو عذابٌ». و «أوْ» تحتملُ معانيها، وأظهرها التنويع.
وقرأ زيد بن علي: (أو عذاباً أليماً] بالنصب، وخرَّجه الكسائي على إضمار فعل، أو أن يعذَّب عذباً أليماً.
قوله: «هِيَ» ولم يقل هذه، ولا تلك، لفرط استحايئه «وهو أدبٌ حسنٌ حيث أتى بلفظ الغيبة دون الحضور.
قال ابن اخلطيب: في الآية لطائف:
إحداها: أن حُبَّها الشَّديد ليوسف، حملها على رعايةِ دقيقتين في هذا الموضع، وذلك لأنهَّا بدأت بذكر السِّجن، وأخرت ذكر العذاب؛ لأنَّ المحبَّة لا تسعى في إيلام المحبوب، وأيضاً: لم تقل إنَّ يوسف يجب أن يقابل بهذين الأمرين، بل ذكرت ذلك ذكراً كليًّا صوناً للمحبوب عن الذِّكر بالشر وأيضاً قالت:» إلاَّ أنْ يُسْجنَ «والمرادُ أن يسجن يوماً، أو يومين، أو أقل على سبيل التخفيف، فأمَّا الحبسُ الدَّائمُ فإنَّه لا يعبِّر عنه بهذه العبارة، بل يقال: يجبُ أن يجعل من المسجونين، كما قال فرعون لموسى عَلَيْهِ
فإن قيل: فالمرأةُ أيضاً ليست مملوكة لبعلها حقيقة.
فالجواب: أن الزَّوج لما ملك الانتفاع بالمرا’ من الوطء والخلوةِ، والمباشرةِ، والسفر بها من غير اختيارها أشبهت المملوكة، فلذلك حسن إطلاقُ السيِّد عليه.
قال القرطبيُّ: «والقبط يسمون الزوج سيداً، ويقال: ألفاه، وصادفهُ، وواله ووَالطَه، ولاطَهُ، وكلٌّ بمعنى واحدٍ».
فعند ذلك، خافتِ المرأةُ من التُّهمِ، فبادرت إلى أن رمتْ يوسف عليه السلام بالعفلِ القبيح، ﴿وقالت ما جزاء من أراد بأهلك سوءاً﴾ يعنى الزِّنا، ثم خافت عليه أن يقتل فقالت: ﴿إلاَّ أن يُسجنَ﴾، أي: يحبس، ﴿أوْ عذابٌ أليمٌ﴾ أي: يُعَاقبُ بالضَّربِ.
قوله: «مَا جزاءُ» يجوز في «مَا» هذه أن تكون نافية، وأن تكون استفهاميَّة، و «مَنْ» يجوز أن تكون موصولة، أو نكرة موصوفة.
قوله: «إلاَّ أن يُسْجنَ» خبر المبتدأ، ولما كان «أن يُسْجنَ» في قوَّة المصدر عطف عليه المصدر، وهو قوله: «أو عذابٌ». و «أوْ» تحتملُ معانيها، وأظهرها التنويع.
وقرأ زيد بن علي: (أو عذاباً أليماً] بالنصب، وخرَّجه الكسائي على إضمار فعل، أو أن يعذَّب عذباً أليماً.
قوله: «هِيَ» ولم يقل هذه، ولا تلك، لفرط استحايئه «وهو أدبٌ حسنٌ حيث أتى بلفظ الغيبة دون الحضور.
فصل
قال ابن اخلطيب: في الآية لطائف:
إحداها: أن حُبَّها الشَّديد ليوسف، حملها على رعايةِ دقيقتين في هذا الموضع، وذلك لأنهَّا بدأت بذكر السِّجن، وأخرت ذكر العذاب؛ لأنَّ المحبَّة لا تسعى في إيلام المحبوب، وأيضاً: لم تقل إنَّ يوسف يجب أن يقابل بهذين الأمرين، بل ذكرت ذلك ذكراً كليًّا صوناً للمحبوب عن الذِّكر بالشر وأيضاً قالت:» إلاَّ أنْ يُسْجنَ «والمرادُ أن يسجن يوماً، أو يومين، أو أقل على سبيل التخفيف، فأمَّا الحبسُ الدَّائمُ فإنَّه لا يعبِّر عنه بهذه العبارة، بل يقال: يجبُ أن يجعل من المسجونين، كما قال فرعون لموسى عَلَيْهِ
71
الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ حين هدَّدُ ﴿لَئِنِ اتخذت إلها غَيْرِي لأَجْعَلَنَّكَ مِنَ المسجونين﴾ [الشعراء: ٢٩] وأيضاً: لما شاهدت من يوسف أنه استعصم، مع أنه كان في عنفوان العمر، وكمال القوة، ونهاية الشهوة، وعظم اعتقادها في طهارته، ونزاهته، فاستحيتْ أن تقول: إنَّ يوسف قصدني بالسُّوءِ، ولم تجد من نفسها أن ترميهُ بالكذبِ، وهؤلاء نسبُوا إليه هذا الذَّنب القبيحَ.
وأيضاً: يوسف عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ أراد أن يضربها، ويدفعها عن نفسه [وكان] ذلك بالنسبة إليها جارياً مجرى السُّوء، فقولها ﴿ما جزاء من أراد بأهلك سوءاً﴾ له ظاهر وباطن، باطنه أنَّها التي أرادت السُّوء، وظاهره دفعه لها ومنعها، فأرادت بقولها: ﴿ما جزاء من أراد بأهلك سوءاً﴾ فعل نفسها بقلبها، أو في ظاهر الأمر، أو همت أنه قصدني بما لا ينبغي، ولما لطَّخت عرض يوصف بهذا الكلام؛ احتاج يوسف إلى إزالة هذه التهمة فقال: ﴿هي راودتني عن نفسي﴾ واعلم أنَّ العلاماتِ الكثيرة دالةٌ على صدق يوسف:
منها: أنَّ يوسف عليه السلام في ظاهر الأمر كان عبداً لهم، والعبد لا يمكنه أن يتسلط على مولاه إلى هذه الحدّ.
ومنها: أنَّهم شاهدوا يوسف هارباً ليخرج، والطالبُ للمرأة لا يخرج من الدَّار على هذا الوجه.
ومنها: أنهم رأوا المرأة زينت نفسها على أكمل الوجوه، ويوسف لم يكن عليه أثر من آثار تزيين النَّفس.
ومنها: أنَّهم كانوا شاهدوا أحوال يوسف في المُدَّة الطَّويلة، فما رأوا عليه حالة تناسب إقدامه على مثل هذا الفعل المنكر.
ومنها: أنَّ المرأة ما نسبته إلى طلب الفاحشة على سبيل التصريح، بل ذكرت كلاماً مجملاً، وأما يوسف فإنَّه صرَّح بالأمر، ولو كان مطاوعاً لها، ما قدر على التَّصريح، فإنَّ الخائنَ خائفٌ.
وكلُّ هذه الوجوه مما يقوِّي غلبة الظن ببراءة يوسف في هذه المسألة، ثم إنَّه تعالى أظهر ليوسف دليلاً يقوي تلك الدَّلائل على براءته من الذَّنب، وأن المرأة هي المذنبةن وهو قوله تعالى: ﴿وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّنْ أَهْلِهَآ﴾ فقوله: «مِنْ أهْلِهَا» صفة ل: «شَاهِدٌ»، وهو المسوغ لمجيء الفاعل من لفظ الفعل، إذْ لا يجوزُ قام القائم، ولا: قعد القاعدُ، لعدم الفائدةِ.
واختلفوا في ذلك الشَّاهد على ثلاثةِ أقوالٍ:
وأيضاً: يوسف عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ أراد أن يضربها، ويدفعها عن نفسه [وكان] ذلك بالنسبة إليها جارياً مجرى السُّوء، فقولها ﴿ما جزاء من أراد بأهلك سوءاً﴾ له ظاهر وباطن، باطنه أنَّها التي أرادت السُّوء، وظاهره دفعه لها ومنعها، فأرادت بقولها: ﴿ما جزاء من أراد بأهلك سوءاً﴾ فعل نفسها بقلبها، أو في ظاهر الأمر، أو همت أنه قصدني بما لا ينبغي، ولما لطَّخت عرض يوصف بهذا الكلام؛ احتاج يوسف إلى إزالة هذه التهمة فقال: ﴿هي راودتني عن نفسي﴾ واعلم أنَّ العلاماتِ الكثيرة دالةٌ على صدق يوسف:
منها: أنَّ يوسف عليه السلام في ظاهر الأمر كان عبداً لهم، والعبد لا يمكنه أن يتسلط على مولاه إلى هذه الحدّ.
ومنها: أنَّهم شاهدوا يوسف هارباً ليخرج، والطالبُ للمرأة لا يخرج من الدَّار على هذا الوجه.
ومنها: أنهم رأوا المرأة زينت نفسها على أكمل الوجوه، ويوسف لم يكن عليه أثر من آثار تزيين النَّفس.
ومنها: أنَّهم كانوا شاهدوا أحوال يوسف في المُدَّة الطَّويلة، فما رأوا عليه حالة تناسب إقدامه على مثل هذا الفعل المنكر.
ومنها: أنَّ المرأة ما نسبته إلى طلب الفاحشة على سبيل التصريح، بل ذكرت كلاماً مجملاً، وأما يوسف فإنَّه صرَّح بالأمر، ولو كان مطاوعاً لها، ما قدر على التَّصريح، فإنَّ الخائنَ خائفٌ.
وكلُّ هذه الوجوه مما يقوِّي غلبة الظن ببراءة يوسف في هذه المسألة، ثم إنَّه تعالى أظهر ليوسف دليلاً يقوي تلك الدَّلائل على براءته من الذَّنب، وأن المرأة هي المذنبةن وهو قوله تعالى: ﴿وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّنْ أَهْلِهَآ﴾ فقوله: «مِنْ أهْلِهَا» صفة ل: «شَاهِدٌ»، وهو المسوغ لمجيء الفاعل من لفظ الفعل، إذْ لا يجوزُ قام القائم، ولا: قعد القاعدُ، لعدم الفائدةِ.
واختلفوا في ذلك الشَّاهد على ثلاثةِ أقوالٍ:
72
الأول: أنه كان ابن عمَّها، وكان رجلاً حكيماً، واتَّفق في ذلك الوقت أنَّهُ كان ممع زوجها، يريد أن يدخل عليها، وفقال الحكيمُ: ﴿إنْ كَانَ قَميصهُ قُدَّ مِنْ قُبلِ﴾، فأت صادقة، والرَّجلُ كاذبٌ، ﴿وإنْ كانَ قَمِيصهُ قُدَّ مِنْ دُبرٍ﴾، فالرَّجلُ صادقٌ، وأنت كاذبة فلما نظرُوا إلى القميصِ رأوا الشقَّ من خلفه، قال ابن عمِّها: ﴿إِنَّهُ مِن كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ﴾ [اي: من عَملكن] ثم قال ليوسف: «أعْرِضْ عَنْ هَذَا» أي اكتمهُ، وقال لها: ﴿واستغفري لِذَنبِكِ﴾، وهذا قولُ السدي، وطائفة من المفسرين.
قال السُّهيلي: وهذا من باب الحكم بالأمارات، وله أصلٌ في الشَّرعِ، قال تعالى: ﴿وَجَآءُوا على قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ﴾ [يوسف: ١٨] حيثُ لا أثر لأنياب الذئب فيه، وقال تعالى: ﴿إِن كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الكَاذِبِينَ﴾ وقال عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ في الحدّ: «انْظرُوا فإنْ جَاءَتْ بِهِ أبْيضَ خَالياً فَهُو للَّذي رُمِيَتْ بِهِ».
قال السهيلي: كان عامر بن الظرف العدوانيُّ لا يكون بين العرب ثائر إلا تحاكموا إليه فيرضون بما يقضي به، فتحاكموا إليه في ميراث خنثى بات ليلة ساهراً يرى ماذا يحم به؟ فرأته جارية له ترعى، وكان اسمها سخيلة، فقالت له: ما لك، لا أبا لك اللَّيلة ساهِراً؛ فذكر لها ما هو مفكر فيه، وقال: لعلها يكون عندها في ذلك شيء، فقالت له: «اتْبَع القضاء المَبال» فقال: فرجتها والله يا سخيلة، وحكم بذلك القول.
القول الثاني: منقولٌ عن ابن عبَّاسٍ، وسعيد بن جبيرٍ، والضحاك رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم أن ذلك الشَّاهد كان صبيًّا في المهد، أنطقه اللهُ.
قال ابن عبًّاس رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: تكلَّم في المهدِ ثلاثةُ صغارٍ: شاهدُ يوسف، وعيسى ابن مريم عليه السلام، وصاحبُ جريج الرَّاهب.
قال الجبائيُّ: القول الأول أولى لوجوه:
الأول: أنَّه سبحانه وتعالى لو أنطق الطفل بهذا الكلام، لكان مجرد قوله: «إنَّها كَاذبةٌ» كافياً، وبرهاناً قاطعاً؛ لأنَّه من المعجزات العجيبة الباهرة والاستدلال بتمزيق
قال السُّهيلي: وهذا من باب الحكم بالأمارات، وله أصلٌ في الشَّرعِ، قال تعالى: ﴿وَجَآءُوا على قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ﴾ [يوسف: ١٨] حيثُ لا أثر لأنياب الذئب فيه، وقال تعالى: ﴿إِن كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الكَاذِبِينَ﴾ وقال عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ في الحدّ: «انْظرُوا فإنْ جَاءَتْ بِهِ أبْيضَ خَالياً فَهُو للَّذي رُمِيَتْ بِهِ».
قال السهيلي: كان عامر بن الظرف العدوانيُّ لا يكون بين العرب ثائر إلا تحاكموا إليه فيرضون بما يقضي به، فتحاكموا إليه في ميراث خنثى بات ليلة ساهراً يرى ماذا يحم به؟ فرأته جارية له ترعى، وكان اسمها سخيلة، فقالت له: ما لك، لا أبا لك اللَّيلة ساهِراً؛ فذكر لها ما هو مفكر فيه، وقال: لعلها يكون عندها في ذلك شيء، فقالت له: «اتْبَع القضاء المَبال» فقال: فرجتها والله يا سخيلة، وحكم بذلك القول.
القول الثاني: منقولٌ عن ابن عبَّاسٍ، وسعيد بن جبيرٍ، والضحاك رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم أن ذلك الشَّاهد كان صبيًّا في المهد، أنطقه اللهُ.
قال ابن عبًّاس رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: تكلَّم في المهدِ ثلاثةُ صغارٍ: شاهدُ يوسف، وعيسى ابن مريم عليه السلام، وصاحبُ جريج الرَّاهب.
قال الجبائيُّ: القول الأول أولى لوجوه:
الأول: أنَّه سبحانه وتعالى لو أنطق الطفل بهذا الكلام، لكان مجرد قوله: «إنَّها كَاذبةٌ» كافياً، وبرهاناً قاطعاً؛ لأنَّه من المعجزات العجيبة الباهرة والاستدلال بتمزيق
73
القميص من قُبُل ومن دُبُرٍ دليل ظنيّ ضعيف، والعدول عن الحجَّة الواضحة القاطعة حال حصولها إلى الدلالة الظَّنية لا يجوزُ.
الثاني: أنه تبارك وتعالى قال: ﴿وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّنْ أَهْلِهَآ﴾ يشيرُ بذلك إلى أنَّ شهادة الشَّاهد على قريبه، أولى بالقبولِ من شهادته له؛ لأن الظاهر من حال القريب أن يشهد لقريبه، لا أن يشهد عليه، وهذا التَّرجيحُ إنما يُصَارُ إليه إذا كانت دلالة الشَّهادة ظنية، وذلك إنَّما يكون في شهادة الرجل، ولو يكون هذا القول صادراً من الصَّبي الذي كان في المهد، لكان قوله حجَّة قاطعة، ولا يتفاوتُ الحال بين أن يكون من أهلها، وبين ألا يكون، وحينئذٍ لا يبقى لهذا القيد وجه.
الثالث: أن لفظ الشَّاهد لا يقعُ في العرف، إلا على من تقدَّمت معرفته بالواقعة، وإحاطته بها.
القول الثالث: أن هذا الشاهد هو القميص، قال مجاهد رَضِيَ اللَّهُ عَنْه الشاهد: «قُدَّ قيمصه من دُبُر»، وهذا في غاية الضعف؛ لأن القميص لا يوصف بهذا ولا ينسب إلى الأهل.
واعلم أنَّ القول الأول عليه إشكال، وذلك أنَّ العلامة المذكورة لا تدلُّ قطعاً على براءة يوسف من المعصية؛ لأن من المحتملِ أنَّ الرجل قصد المرأة لطلب الزِّنا، والمرأة غضبت عليه، فهرب الرجل، فعدتِ المرأةُ خلف الرجل، وجذبته لقصد أن تضربه ضرباً وجيعاً، فعلى هذا الوجه يكون قدُّ القميص من دبرٍ، مع أنَّ المرأة تكون بريئة عن [الذنب] وأنَّ الرجل يكون مذنباً.
جوابه: أنَّا بيَّنا أنَّ علامات كذب المرأة كانت كثيرة بالغة مبلغ اليقين، فضمّ إليها هذه العلامة الأخرى، لا لأجل أن يُعوِّلُوا في الحكم عليها، بل لأجل أن يكون ذلك جارياً مجرى المقدمات، والمرجّحات.
قوله: «إنْ كَانَ... » هذه الجملة الشرطية، إما معمولةٌ لقولٍ مضمر تقديره: «فقال» إن كان عند البصريين، وإمَّا معمولة «لِشَهدِ» ؛ لأنه بمعنى القول عند الكوفيين. قوله «مِنْ دُبرٍ..»، و «مِنْ قُبُلٍ... » قرأ العامَّة جميع ذلك بضمتين، والجر والتنوين، بمعنى: من خلف، من قدام، أي: من خلف القميص، وقدامه وقرأ الحسن، وأبو عمرو في رواية بتسكين لعين تخفيفاً، وهي لغة الحجاز، وأسد، وقرأ ابن يعمر، وابن أبي إسحاق [والعطاردي والجارود بثلاث ضمات، وروي عن الجارود وابن أبي إسحاق وبن يعمر] أيضاً بسكون العين وبنائها على الضم ووجه ضمهما: أنَّهم جعلوهما ك «قَبلُ، وبعْدُ» في
الثاني: أنه تبارك وتعالى قال: ﴿وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّنْ أَهْلِهَآ﴾ يشيرُ بذلك إلى أنَّ شهادة الشَّاهد على قريبه، أولى بالقبولِ من شهادته له؛ لأن الظاهر من حال القريب أن يشهد لقريبه، لا أن يشهد عليه، وهذا التَّرجيحُ إنما يُصَارُ إليه إذا كانت دلالة الشَّهادة ظنية، وذلك إنَّما يكون في شهادة الرجل، ولو يكون هذا القول صادراً من الصَّبي الذي كان في المهد، لكان قوله حجَّة قاطعة، ولا يتفاوتُ الحال بين أن يكون من أهلها، وبين ألا يكون، وحينئذٍ لا يبقى لهذا القيد وجه.
الثالث: أن لفظ الشَّاهد لا يقعُ في العرف، إلا على من تقدَّمت معرفته بالواقعة، وإحاطته بها.
القول الثالث: أن هذا الشاهد هو القميص، قال مجاهد رَضِيَ اللَّهُ عَنْه الشاهد: «قُدَّ قيمصه من دُبُر»، وهذا في غاية الضعف؛ لأن القميص لا يوصف بهذا ولا ينسب إلى الأهل.
واعلم أنَّ القول الأول عليه إشكال، وذلك أنَّ العلامة المذكورة لا تدلُّ قطعاً على براءة يوسف من المعصية؛ لأن من المحتملِ أنَّ الرجل قصد المرأة لطلب الزِّنا، والمرأة غضبت عليه، فهرب الرجل، فعدتِ المرأةُ خلف الرجل، وجذبته لقصد أن تضربه ضرباً وجيعاً، فعلى هذا الوجه يكون قدُّ القميص من دبرٍ، مع أنَّ المرأة تكون بريئة عن [الذنب] وأنَّ الرجل يكون مذنباً.
جوابه: أنَّا بيَّنا أنَّ علامات كذب المرأة كانت كثيرة بالغة مبلغ اليقين، فضمّ إليها هذه العلامة الأخرى، لا لأجل أن يُعوِّلُوا في الحكم عليها، بل لأجل أن يكون ذلك جارياً مجرى المقدمات، والمرجّحات.
قوله: «إنْ كَانَ... » هذه الجملة الشرطية، إما معمولةٌ لقولٍ مضمر تقديره: «فقال» إن كان عند البصريين، وإمَّا معمولة «لِشَهدِ» ؛ لأنه بمعنى القول عند الكوفيين. قوله «مِنْ دُبرٍ..»، و «مِنْ قُبُلٍ... » قرأ العامَّة جميع ذلك بضمتين، والجر والتنوين، بمعنى: من خلف، من قدام، أي: من خلف القميص، وقدامه وقرأ الحسن، وأبو عمرو في رواية بتسكين لعين تخفيفاً، وهي لغة الحجاز، وأسد، وقرأ ابن يعمر، وابن أبي إسحاق [والعطاردي والجارود بثلاث ضمات، وروي عن الجارود وابن أبي إسحاق وبن يعمر] أيضاً بسكون العين وبنائها على الضم ووجه ضمهما: أنَّهم جعلوهما ك «قَبلُ، وبعْدُ» في
74
بنائهما على الضم عند قطعهما عن الإضافة، فجعلوهما غاية، ومعنى الغاية: أن يجعل المضاف غاية نفسه، بعد ما كان المضاف إليه غايته، والأصل إعرابهما؛ لأنَّهما اسمان متمكنان، وليسا بظرفين.
قال أبو حاتم: وهذا رديءٌ في العربية، وإنما هذا البناء في الظروف.
وقال الزمخشري: «والمعنى: من قبل القميص، ومن دُبرهِ، وأما التنكيرُ فمعناه: من جهةٍ يقال لها قبلٌ، ومن جهة يقال لها دبرٌ» وعن ابن أبي إسحاق: أنَّهُ قرأ «مِنْ قُبْلَ»، و «مِنْ دُبْرَ» بالفتح كأنَّه جعلهما علمين للجهتين، فمنعهما الصرف للعملية، والتَّأنيث، وقد تقدم [البقرة: ٢٣٥] الخلاف في «كان» الواقعة في حيز الشرط، هل تبقى على معناها من المضي، وإليه ذهب المبرِّدُ، أم تنقلب إلى الاستقبال كسائر الأفعالِ، وأنَّ المعنى على التَّبيينِ؟.
قوله: «فَكذَبَتْ»، و «صَدقَتْ» على إضمار «قَدْ»، لأنها تقرب الماضي من الحالِ، هذا إذا كان الماضي متصرِّفاص، فأما إذا كان جامداً، فلا يحتاجُ إلى «قَدْ» لا لفظاً، ولا تقديراً.
قوله: ﴿فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ﴾ : أي: فلمَّا رأى زوجها قميصه قُدّ من دُبُرٍ؛ عرف خيانة امرأته، وبراءة يوسف صلوات الله وسلامه عليه قال لها: «إنَّهُ»، هذا الصَّنِيعُ، أو قولك ﴿ما جزاء من أراد بأهلك سوءاً﴾ ﴿مِن كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ﴾ وقيل: هذا من قول الشاهد.
فإن قيل: إنه تعالى قال: ﴿وَخُلِقَ الإنسان ضَعِيفاً﴾ [الإنسان: ٢٨] فكيف وصف كيد المرأة بالعظيم، وأيضاً: فيكدُ الرِّجال قد يزيدُ على كيد النِّساءِ؟.
فالجواب عن الأوَّل: أن خلقة الإنسان بالنِّسبة إلى خلقة الملائكة، والسموات، والكواكب خلقة ضعيفة، وكيد النسوان بالنسبة إلى كيد البشر عظيمٌ؛ ولا منافاة بين القولين، وأيضاً: فالنِّساءُ لهُنَّ من هذا الباب من المكرِ، والحِيل، ما لا يكون للرجال؛ لأنَّ كيدهنَّ في هذا الباب، يورث من العار ما لا يورثه كيدُ الرَّجال.
ولما ظهر للقوم براءةٌ يوسف عن ذلك الفعل قال زوجها ليوسف: «أعْرِضٍ عَنْ هَذَا» الحديث، فلا تذكرة لأحدٍ حتى لا ينتشر، ولا يحصلُ العارُ العظيم وقيل: إنَّهُ من قول الشَّاهد. ثم قال للمرأة [ «واستغفري لِذنبكِ» إي: إلى الله ﴿إِنَّكِ كُنتِ مِنَ الخاطئين﴾ وقيل هذا من قول الشاهد] «واسْتَغفِري»، أي: اطلبي من زوجك المغفرة، والصَّفح؛ حتَّى لا يعاقبك.
قال أبو حاتم: وهذا رديءٌ في العربية، وإنما هذا البناء في الظروف.
وقال الزمخشري: «والمعنى: من قبل القميص، ومن دُبرهِ، وأما التنكيرُ فمعناه: من جهةٍ يقال لها قبلٌ، ومن جهة يقال لها دبرٌ» وعن ابن أبي إسحاق: أنَّهُ قرأ «مِنْ قُبْلَ»، و «مِنْ دُبْرَ» بالفتح كأنَّه جعلهما علمين للجهتين، فمنعهما الصرف للعملية، والتَّأنيث، وقد تقدم [البقرة: ٢٣٥] الخلاف في «كان» الواقعة في حيز الشرط، هل تبقى على معناها من المضي، وإليه ذهب المبرِّدُ، أم تنقلب إلى الاستقبال كسائر الأفعالِ، وأنَّ المعنى على التَّبيينِ؟.
قوله: «فَكذَبَتْ»، و «صَدقَتْ» على إضمار «قَدْ»، لأنها تقرب الماضي من الحالِ، هذا إذا كان الماضي متصرِّفاص، فأما إذا كان جامداً، فلا يحتاجُ إلى «قَدْ» لا لفظاً، ولا تقديراً.
قوله: ﴿فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ﴾ : أي: فلمَّا رأى زوجها قميصه قُدّ من دُبُرٍ؛ عرف خيانة امرأته، وبراءة يوسف صلوات الله وسلامه عليه قال لها: «إنَّهُ»، هذا الصَّنِيعُ، أو قولك ﴿ما جزاء من أراد بأهلك سوءاً﴾ ﴿مِن كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ﴾ وقيل: هذا من قول الشاهد.
فإن قيل: إنه تعالى قال: ﴿وَخُلِقَ الإنسان ضَعِيفاً﴾ [الإنسان: ٢٨] فكيف وصف كيد المرأة بالعظيم، وأيضاً: فيكدُ الرِّجال قد يزيدُ على كيد النِّساءِ؟.
فالجواب عن الأوَّل: أن خلقة الإنسان بالنِّسبة إلى خلقة الملائكة، والسموات، والكواكب خلقة ضعيفة، وكيد النسوان بالنسبة إلى كيد البشر عظيمٌ؛ ولا منافاة بين القولين، وأيضاً: فالنِّساءُ لهُنَّ من هذا الباب من المكرِ، والحِيل، ما لا يكون للرجال؛ لأنَّ كيدهنَّ في هذا الباب، يورث من العار ما لا يورثه كيدُ الرَّجال.
ولما ظهر للقوم براءةٌ يوسف عن ذلك الفعل قال زوجها ليوسف: «أعْرِضٍ عَنْ هَذَا» الحديث، فلا تذكرة لأحدٍ حتى لا ينتشر، ولا يحصلُ العارُ العظيم وقيل: إنَّهُ من قول الشَّاهد. ثم قال للمرأة [ «واستغفري لِذنبكِ» إي: إلى الله ﴿إِنَّكِ كُنتِ مِنَ الخاطئين﴾ وقيل هذا من قول الشاهد] «واسْتَغفِري»، أي: اطلبي من زوجك المغفرة، والصَّفح؛ حتَّى لا يعاقبك.
75
قال أبو بكرٍ الأصمُّ: إنَّ ذلك الزوج كان قليل الغيرةِ، فاكتفى منها بالاستغفار وقيل: إنَّ الله تعالى عزَّ وجلَّ سلبه الغيرة لطفاً بيوسف، حتى كفى بادرته وحلم عنها.
قال الزمخشري: «وإنما قال: ﴿مِنَ الخاطئين﴾ ؛ تغليباً للذكور على الإناث» ويحتملُ أن يقال: إنك من قبيل الخاطئين، فمن ذلك القبيل جرى ذلك العرفُ فيك.
قال البغوي رَحِمَهُ اللَّهُ: تقديره: إنَّك من القوم الخاطئين، ولم يقصد به الخبر عن النِّساء؛ بل قصد الخبر عن كُلِّ من يعفعلُ ذلك؛ كقوله تعالى: ﴿وَكَانَتْ مِنَ القانتين﴾ [التحريم: ١٢]، وبيانه قوله: ﴿إِنَّهَا كَانَتْ مِن قَوْمٍ كَافِرِينَ﴾ [النمل: ٤٣].
قوله تعالى: «يُوسُفُ»، منادى محذوفٌ منه حرفُ النداءِ. قال الزمشخريُّ: «لأنه منادى قريب مقاطن للحديث، وفيه تقريبٌ له، وتلطيفٌ بمحله» انتهى.
وكُلُّ منادي يجوز حذف حرفُ النِّداء منه، إلا الجلالة المعظمة، واسم الجنس غالباً، والمستغاثَ، والمندوب، واسم الإشارة عند البصريين، وفي المضمر إذا نودِيَ.
والجمهورُ على ضمِّ فاءِ يوسف عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ؛ لكونه مفرداً معرفةً، وقرأ الأعمش بفتحها، وقيل لم تثبت هذه القراءة عنه، وعلى تقدير ثبوتها، فقال أبو البقاء: فيها وجهان:
أحدهما: أن يكون أخرجه على أصل المنادى؛ كما جاء في الشِّعر: [الخفيف]
٣٠٧٨ -..................... يَا عَدِيًّا لقَدْ وقَتْكَ الأوَاقِي
قال الزمخشري: «وإنما قال: ﴿مِنَ الخاطئين﴾ ؛ تغليباً للذكور على الإناث» ويحتملُ أن يقال: إنك من قبيل الخاطئين، فمن ذلك القبيل جرى ذلك العرفُ فيك.
قال البغوي رَحِمَهُ اللَّهُ: تقديره: إنَّك من القوم الخاطئين، ولم يقصد به الخبر عن النِّساء؛ بل قصد الخبر عن كُلِّ من يعفعلُ ذلك؛ كقوله تعالى: ﴿وَكَانَتْ مِنَ القانتين﴾ [التحريم: ١٢]، وبيانه قوله: ﴿إِنَّهَا كَانَتْ مِن قَوْمٍ كَافِرِينَ﴾ [النمل: ٤٣].
قوله تعالى: «يُوسُفُ»، منادى محذوفٌ منه حرفُ النداءِ. قال الزمشخريُّ: «لأنه منادى قريب مقاطن للحديث، وفيه تقريبٌ له، وتلطيفٌ بمحله» انتهى.
وكُلُّ منادي يجوز حذف حرفُ النِّداء منه، إلا الجلالة المعظمة، واسم الجنس غالباً، والمستغاثَ، والمندوب، واسم الإشارة عند البصريين، وفي المضمر إذا نودِيَ.
والجمهورُ على ضمِّ فاءِ يوسف عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ؛ لكونه مفرداً معرفةً، وقرأ الأعمش بفتحها، وقيل لم تثبت هذه القراءة عنه، وعلى تقدير ثبوتها، فقال أبو البقاء: فيها وجهان:
أحدهما: أن يكون أخرجه على أصل المنادى؛ كما جاء في الشِّعر: [الخفيف]
٣٠٧٨ -..................... يَا عَدِيًّا لقَدْ وقَتْكَ الأوَاقِي
76
يريد بأصلِ المنادى: أنه مفعولٌ به، فحقه النصب؛ كالبيت الذي أنشده، واتفق أن يوسف لا ينصرف، ففتحته فتحةُ إعرابٍ.
والثاني، وجعله الأشبه: أن يكون وقف على الكلمة، ثم وصل، وأجرى الوصل مجرى الوقف؛ فألقى حركة الهمزة على الفاء، وحذفها؛ فصار اللفظ بها: «يُوسفَ أعْرض» ؛ وهذا كما حي: «اللهُ أكبرَ، أشْهَدَ ألاّ»، بالوصلِ والفتح في الجلالةِ وفي «أكْبر»، وفي أشْهد «؛ وذلك أنه قدَّر الوقف على كل كلمة من هذا الكلم، وألقى حركة الهمزة [من] كل من الكلمِ الثَّلاث، على السَّاكن قبله، وأجرى الوصل مجرى الوقف في ذلك.
والذي حكوه الناسُ، إنَّما هو في» أكْبَر «خاصَّة؛ لأنَّها مظنة الوقف، وتقدم ذلك في سورة آل عمران [الآية: ١].
ورىء» يُوسفُ أعْرضَ «بضمِّ الفاءِ، و» أعْرضَ «فعلاً ماضياً، وتخريجها أن يكون» يُوسفُ «مبتدأ، و» أعْرضَ «جلمة من فعلٍ وفاعلٍ خبره.
قال أبو البقاءِ:» وفيه ضعفٌ؛ لقوله: «واسْتَغْفرِي»، وكان الأشبه أن يكون بالفاء: «فاسْتَغفِري».
والثاني، وجعله الأشبه: أن يكون وقف على الكلمة، ثم وصل، وأجرى الوصل مجرى الوقف؛ فألقى حركة الهمزة على الفاء، وحذفها؛ فصار اللفظ بها: «يُوسفَ أعْرض» ؛ وهذا كما حي: «اللهُ أكبرَ، أشْهَدَ ألاّ»، بالوصلِ والفتح في الجلالةِ وفي «أكْبر»، وفي أشْهد «؛ وذلك أنه قدَّر الوقف على كل كلمة من هذا الكلم، وألقى حركة الهمزة [من] كل من الكلمِ الثَّلاث، على السَّاكن قبله، وأجرى الوصل مجرى الوقف في ذلك.
والذي حكوه الناسُ، إنَّما هو في» أكْبَر «خاصَّة؛ لأنَّها مظنة الوقف، وتقدم ذلك في سورة آل عمران [الآية: ١].
ورىء» يُوسفُ أعْرضَ «بضمِّ الفاءِ، و» أعْرضَ «فعلاً ماضياً، وتخريجها أن يكون» يُوسفُ «مبتدأ، و» أعْرضَ «جلمة من فعلٍ وفاعلٍ خبره.
قال أبو البقاءِ:» وفيه ضعفٌ؛ لقوله: «واسْتَغْفرِي»، وكان الأشبه أن يكون بالفاء: «فاسْتَغفِري».
77
قوله تعالى :﴿ وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لولاا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ ﴾ [ الآية : ٢٤ ] جواب " لولاَ ما تقدَّم عليها، وقوله :" وهَمَّ بِهَا " عند من يجيز تقديم جواب أدوات الشرط عليها، وإما محذوف لدلالة هذا عليه عند من لا يرى ذلك، وقد تقدَّم تقريرُ المذهبين مراراً، كقولهم :" أنْتَ ظَالمٌ إنْ فَعلْتَ "، أي : فعلت، فأنت ظالزٌ، ولا تقول : إن " أنت ظَالمٌ " هو الجوابُ، بل دلَّ عليه دليلٌ، وعلى هذا فالوقف عند قوله :" بُرْهَانَ ربِّه " والمعنى : لولا رُؤيته برهان ربه لهمَّ بها، لكنه امتنع همَّهُ بها لوجودِ رُؤية برهانِ ربِّه، فلم يحصل منه همِّ ألبتَّة، كقولك : لولا زيدٌ لأكرمتك، فالمعنى : إنَّ الإكرام ممتنعٌ لوجود زيد، وبهذا يتخلَّص من الإشكال الذي يورد، وهو : كيف يليقُ بنبي أن يهم بامرأة.
قال الزمخشري :" فإن قلت : قوله " وهمَّ بِهَا " داخل تحت القسم في قوله :" وَلقَدْ هَمَّتْ بِهِ " أم خارج عنه ؟. قلت : الأمران جائزان، و من حقِّ القارىء إذا قصد خروجه من حكم القسم، وجعله كلاماً برأسه أن يقف على قوله :" ولقَدْ هَمَّتْ بِهِ " يبتدىء قوله :﴿ وَهَمَّ بِهَا لولاا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ ﴾، وفيه أيضاً إشعارٌ بالفرقِ بين الهمَّينِ.
فإن قلت : لِمَ جعلت جواب " لَوْلاَ " محذوفاً يدلٌّ عليه :" هَمَّ بِهَا "، وهلاَّ جعلته هو الجواب مقدماً ؟.
قلت : لأن " لوْلاً " لا يتقدم عليها جو ابها من قبل أنَّه في حكم الشرطِ، وللشَّرطِ صدر الكلام، وهو وما في حيِّزهِ مم الجملتين، مثل كلمة واحدة، ولا يجوزُ تقديمُ بعض الكلمة على بعضٍ، وأما حذف بعضها إذا دلَّ عليه دليلٌ ؛ فهو جاءزٌ ".
فقوله :" وأما حذف بعضها. . . . إلخ " جواب عن سؤال مقدرٍ، وهو أنَّهُ إذا كان جواب الشَّرط مع الجملتين بمنزلة كلمةٍ ؛ فينبغي أن لا يحذف منهما شيء ؛ لأنَّ الكلمة لا يحذفُ منها شيء.
فأجاب بأنَّهُ يجوز إذا دلَّ دليل على ذلك، وهو كما قال، ثم قال : فإن قلتَ لمَ جعلتَ " لَوْلاَ " متعلقة ب " هَمَّ بِهَا " وحدة، ولم تجعلها متعلقة بجلمة وقله :﴿ وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا ﴾ ؛ لأن الهمَّ لا يتعلق بالجواهر، ولكن بالمعاني، ولا بد من تقدير المخالطةِ، والمخالطة لا تكون إلا من اثنين معاً، فكأنه قيل : همَّا بالمخالطة لولا أن منع مانعٌ أحدهما ؟
قلتُ : نعم ما قلت : ولكن الله سبحانه وتعالى قد جاء بالهمين على سبيل التفضيل حيث قال :﴿ وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا ﴾ اه.
والزجاج لم يرتض هذه المقالة، أي : كون قوله :" لَوْلاَ " متعلقة ب " هَمَّ بِهَا " فإنه قال : ولو كان الكلام " لَهمَّ بِهَا " لكان بعيداً، فيكف مع سُقوطِ الكلام ؟ [ يعني ] الزجاج أنه : لا جائز أن يكون " هَمَّ بِهَا " جواباً ل :" لَوْلاَ " ؛ لأنه لو كان جوابها لاقترن باللاَّمِ ؛ لأنه مُثبتٌ، وعلى تقدير أنَّهُ كان مقترناً باللاَّم كان يبعد من جهة أخرى، وهي تقديمُ الجواب عليها.
وجواب ما قاله الزجاجُ : ما تقدم عن الزمخشري من أن الجواب محذوفٌ مدلولٌ عليه بما تقدَّم.
وأما قوله :[ ولو كان ] الكلام :" ولهمَّ بِهَا " فغيرُ لازم ؛ لأنَّه متى كان جواب " لَوْ "، و " لَوْلاَ " مثبتاً جاز فيه الأمران : اللام وعدمها، وإن كان الإتيانُ اللاَّم هو الأكثر.
وتابع ابنُ عطيَّة في هذا المعنى فقال :" قول من قال : إنَّ الكلام قد تمَّ في قوله :" ولقَدْ هَمَّتْ بِهِ "، وأن جواب " لَوْلاَ " في قوله :" وهَمَّ بَهَا " ؛ وأنَّ المعنى : لولا أن رأى البرهان لهم بها، فلم يهمَّ يوسف عليه الصلاة والسلام قال : وهذا قولٌ يردُّه لسان العرب، وأقوال السَّلف ".
فقوله :" يردُّه لسانُ العرب " فليس كذلك ؛ لأنَّ وزن هذه الآية قوله :﴿ إِن كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لولاا أَن رَّبَطْنَا على قَلْبِهَا ﴾ [ القصص : ١٠ ] فقوله :﴿ إِن كَادَتْ ﴾ أمَّا أن تكون جواباً عند من يرى ذلك، وإمَّا أن يكون دالاً على الجواب، وليس فيه خروجٌ عن كلامِ العربِ، هذا ما ردَّ عليه أبو حيَّان.
وكأن ابن عطيَّة إنما يعني بالخروج عن لسان العرب تجرد الجواب من اللاَّم على تقدير جواز تقديمه، والغرض أن اللاَّم لم توجد.
الهمُّ هو المقاربةٌ من الفعل من غير دخولٍ فيه، فهَمُّهَا : عزمُها على المعصية، وأما همُّه : فرُوِيَ عن أبن عبَّاسٍ رضي الله عنهما أنه حلَّ الهميان، وجلس منها مجلسَ الخاتنِ.
وعن مجاهد رحمه الله أنَّه حلّ سراويله، وجعل يعالجُ ثيابه، وهذا قولُ سعيد بن جبير، والحسن، وأكثر المتقدمين رضي الله عنهم.
وقيل غير ذلك.
وقال أكثرُ المتأخِّرين : إنَّ هذا لا يليقُ بحال الأنبياء عليه الصلاة والسلام وقالوا : تم الكلام عند قوله :" ولقد همَّتْ بِهِ "، ابتدأ الخبر عن يوسف فقال :﴿ وَهَمَّ بِهَا لولاا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ ﴾ على التَّقديمِ، والتأخير، أي : لولا أنه رأى برهان ربِّه لهم بها، لكنه رأى البُرهان، فلم يهمّ.
قال البغويُّ :" وأنكره النُّحاة، وقالوا : إنَّ العربَ لا تُؤخِّرُ " لَوْلاَ " عن الفعلِ فلا يقولون : قُمْتُ لولا زيدٌ، وهي تريدُ : لولا زيدٌ لقُمْتُ ".
وذكر ابنُ الخطيبِ : عن الواحديِّ أنه قال في البسيطِ :" قال المفسِّرُون : هم يوسف أيضاً بالمرأة همَّا صحيحاً، وجلس منها مجلس الرجُل من المرأةِ فلمَّا رأى البُرهانَ من ربه ؛ زالت كلُّ شهوة عنه.
قال أبُو جعفرٍ الباقرُ بإسناده عن عليِّ كرَّم الله وجهه أنه قال : طمعت فيه، وطمع فيها ".
ثمَّ إنَّ الواحديَّ طول في كلمات عاريةٍ عن الفائدة في هذا الباب، ولم يذكر فيما احتج به حديثاً صحيحاً يعوَّل عليه في هذه المقالة، ورُويَ أنَّ يوسف عليه الصلاة والسلام لمَّا قال :﴿ ذلك لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بالغيب ﴾ [ يوسف : ٥٢ ] قال له جبريل عليه السلام : ولا جين هممت يَا يوسف فقال عند ذلك :" ومَا أبرِّىءُ نَفْسِي ".
وقال بعضُ العلماءِ رضي الله عنهم : الهمُّ همَّان :
همٌّ يخطرُ بالبالِ من غير أن يبرز إلى الفعل.
وهمٌّ يخطرُ بالبالِ، ويبرز إلى الفعل، فالأوَّلُ مغفورٌ، والثاني : غير مغفورٍ إلا أنْ يشاءَ اللهُ، ويشهدُ لذلك قوله تعالى :﴿ وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا ﴾، فهمُّه عليه الصلاة والسلام كان خُطُراً بالبال من غير أن يخرج إلى الفعلِ، وهمُّها خرج إلى الفعل بدليل أنَّها ﴿ وَغَلَّقَتِ الأبواب وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ ﴾ [ يوسف : ٢٣ ]، ﴿ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِن دُبُرٍ ﴾ [ يوسف : ٢٥ ].
ويشهد للثاني قوله عليه الصلاة والسلام " إذَا التَقَى المُسْلمَانِ بسيفَيْهِمَا فالقَاتِلُ والمقْتولُ في النَّار، فَقيلَ يا رسُول اللهِ هَذا القَاتِلُ فمَا بَالُ المَقْتُولِ ؟ قال : لأنَّه كَانَ حَرِيصاً عَلَى قَتْلِ صَاحِبهِ ".
قال ابن الخطيب : وقال المُحققُونَ من المُفسِّرين، والمتكلِّمين : إنَّ يُوسفَ عليه الصلاة والسلام ت كان بَرِيئاً من العملِ البَاطلِ، والهَمّ المُحرَّم، وبه نقولُ، وعنه نذبُّ، والدلائل الدَّالةُ على وُجوبِ عصمة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام مذكورة مقرّرة ونزيد هاهنا وجوههاً :
الأول : أن الزِّنا من منكرات الكبائرِ، الخيانةٌ في معرض الأمانةِ أيضاً من منكرات الذُّنوبِ وأيضاً : الصبيُّ إذا تربَّى في حجر الإنسان، وبقي مكفيَّ المؤنةِ، مصون العرضِ من أوَّلِ صباهُ إل زمان شبابه، وكما قوَّته، فإقدام هذا الصبي على إيصال أقبح أنواع الإساءة إلى ذلك المنعم المفضل من منكرات الأعمال، وإذا ثبت هذا فنقول : إن هذه المعصية إذا نسبوها إلى يوسف عليه الصلاة والسلام كانت موصوفة بجميع الجهالات، ومثلُ هذه المعصية إذا نسيت إلى أفسقِ خلقِ الله، وأبعدهم من كلِّ حسنٍ، لا ستنكف منه، فكيف يجوز إسنادهُ إلى الرَّسولِ المُؤيّد بالمعجزات الباهرة مع قوله تعالى :﴿ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السواء والفحشآء ﴾ وأيضاً فلا يليق بحكمة الله تعالى وذلك يدلُّ على أنَّ ما هيَّة السُّوء، ما هية الفحشاء مصروفةٌ عنه، والمعصية التي نسوها إليه أعظم أنواع السوء، والفحشاء، وأيضاً فلا يليق بحمة الله تعالى أن يحكي عن إنسان إقدامه على معصية، ثم يمدحه، ويثني عليه بأعظم المدائح والأثنية عقيب ما حكى عنه ذلك الذَّنب العظيم، فإنَّ مثاله ما إذا حكى السطان عن بعض عبيده أقبح الذنوب، وأفحش الأعمال، ثم يذكره بالمدح العظيم، والثناءِ البالغ عقيبه، فإنَّ ذلك متسنكرٌ جدًّا، فكذا هاهنا.
وأيضاًَ : فإن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام متى صدرت عنهم زلةٌ، أو هفوةٌ ؛ استعظموا ذلك، وأتبعوه بإظهار النَّدامةِ، والتوبة، والتَّواضع، ولو كان يوسف أقدم ههنا على هذه الكبيرة المنكرة، لكان من المحال أن لا يتبعها بالتَّوبةِ، والاستغفار، ولو أتى بالتَّوبةِ لحكى الله ذلك عنه كما في سائر المواضع، وحيثُ لم يقع شيءٌ من ذلك علمنا أنه ما صدر عنه في هذه الواقعة ذنب، ولا معصية.
وأيضاً : فكلُّ من كان له تعلق بهذه الواقعة، فقد شهد ببراءة يوسف عليه الصلاة والسلام عن المعصية، والذين لهم تعلق بهذه الواقعة : يوسف والمرأة وزوجها، والنسوة الشهود، ورب العالم، وإبليس.
فأمَّا يوسف صلوات الله وسلامه عليه فأدَّعى أنَّ الذنب للمرأة وقال :﴿ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَن نَّفْسِي ﴾ [ يوسف : ٢٦ ] و ﴿ قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ ﴾ [ يوسف : ٣٣ ] وأما المرأة، فاعترفت بذلك، وقالت للنسوة :﴿ وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ فَاسَتَعْصَمَ ﴾ [ يوسف : ٣٢ ] وقالت :﴿ الآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَاْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ ﴾ [ يوسف : ٥١ ] وأمَّا زوج المرأة فقوله :﴿ إِنَّهُ مِن كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هذا واستغفري لِذَنبِكِ ﴾ [ يوسف : ٢٨ ٢٩ ].
وأمَّا الشهود فقوله تعالى :﴿ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّنْ أَهْلِهَآ إِن كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن قُبُلٍ ﴾ [ يوسف : ٢٦ ].
وأمَّا شهادة الله تعالى : فقوله :﴿ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السواء والفحشآء إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا المخلصين ﴾ [ يوسف : ٢٤ ] فقد شهد الله تعالى في هذه الآية على طهارته أربع مرات.
أولها : قوله :﴿ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السواء ﴾.
وثانيها : قوله :﴿ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السواء والفحشآء ﴾.
والثالث : قوله :﴿ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا ﴾ مع أنه تعالى قال :﴿ وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا ﴾ [ الفرقان : ٦٣ ].
والرابع : قوله :" المُخْلصِينَ "، وفيه قراءتا، تارة باسم الفاعل، وأخرى بسام المفعول وهذا يدلُّ على أنَّ الله تعالى استخلصه لنفسه، وأصطفاه لحضرته، وعلى كل [ وجه ] فإنَّه أدلُّ الألفاظ على كونه منزهاً عمَّا أضافوه إليه.
وأما إقرار إبليس بطهارته فقوله :{ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْ
قال الزمخشري :" فإن قلت : قوله " وهمَّ بِهَا " داخل تحت القسم في قوله :" وَلقَدْ هَمَّتْ بِهِ " أم خارج عنه ؟. قلت : الأمران جائزان، و من حقِّ القارىء إذا قصد خروجه من حكم القسم، وجعله كلاماً برأسه أن يقف على قوله :" ولقَدْ هَمَّتْ بِهِ " يبتدىء قوله :﴿ وَهَمَّ بِهَا لولاا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ ﴾، وفيه أيضاً إشعارٌ بالفرقِ بين الهمَّينِ.
فإن قلت : لِمَ جعلت جواب " لَوْلاَ " محذوفاً يدلٌّ عليه :" هَمَّ بِهَا "، وهلاَّ جعلته هو الجواب مقدماً ؟.
قلت : لأن " لوْلاً " لا يتقدم عليها جو ابها من قبل أنَّه في حكم الشرطِ، وللشَّرطِ صدر الكلام، وهو وما في حيِّزهِ مم الجملتين، مثل كلمة واحدة، ولا يجوزُ تقديمُ بعض الكلمة على بعضٍ، وأما حذف بعضها إذا دلَّ عليه دليلٌ ؛ فهو جاءزٌ ".
فقوله :" وأما حذف بعضها. . . . إلخ " جواب عن سؤال مقدرٍ، وهو أنَّهُ إذا كان جواب الشَّرط مع الجملتين بمنزلة كلمةٍ ؛ فينبغي أن لا يحذف منهما شيء ؛ لأنَّ الكلمة لا يحذفُ منها شيء.
فأجاب بأنَّهُ يجوز إذا دلَّ دليل على ذلك، وهو كما قال، ثم قال : فإن قلتَ لمَ جعلتَ " لَوْلاَ " متعلقة ب " هَمَّ بِهَا " وحدة، ولم تجعلها متعلقة بجلمة وقله :﴿ وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا ﴾ ؛ لأن الهمَّ لا يتعلق بالجواهر، ولكن بالمعاني، ولا بد من تقدير المخالطةِ، والمخالطة لا تكون إلا من اثنين معاً، فكأنه قيل : همَّا بالمخالطة لولا أن منع مانعٌ أحدهما ؟
قلتُ : نعم ما قلت : ولكن الله سبحانه وتعالى قد جاء بالهمين على سبيل التفضيل حيث قال :﴿ وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا ﴾ اه.
والزجاج لم يرتض هذه المقالة، أي : كون قوله :" لَوْلاَ " متعلقة ب " هَمَّ بِهَا " فإنه قال : ولو كان الكلام " لَهمَّ بِهَا " لكان بعيداً، فيكف مع سُقوطِ الكلام ؟ [ يعني ] الزجاج أنه : لا جائز أن يكون " هَمَّ بِهَا " جواباً ل :" لَوْلاَ " ؛ لأنه لو كان جوابها لاقترن باللاَّمِ ؛ لأنه مُثبتٌ، وعلى تقدير أنَّهُ كان مقترناً باللاَّم كان يبعد من جهة أخرى، وهي تقديمُ الجواب عليها.
وجواب ما قاله الزجاجُ : ما تقدم عن الزمخشري من أن الجواب محذوفٌ مدلولٌ عليه بما تقدَّم.
وأما قوله :[ ولو كان ] الكلام :" ولهمَّ بِهَا " فغيرُ لازم ؛ لأنَّه متى كان جواب " لَوْ "، و " لَوْلاَ " مثبتاً جاز فيه الأمران : اللام وعدمها، وإن كان الإتيانُ اللاَّم هو الأكثر.
وتابع ابنُ عطيَّة في هذا المعنى فقال :" قول من قال : إنَّ الكلام قد تمَّ في قوله :" ولقَدْ هَمَّتْ بِهِ "، وأن جواب " لَوْلاَ " في قوله :" وهَمَّ بَهَا " ؛ وأنَّ المعنى : لولا أن رأى البرهان لهم بها، فلم يهمَّ يوسف عليه الصلاة والسلام قال : وهذا قولٌ يردُّه لسان العرب، وأقوال السَّلف ".
فقوله :" يردُّه لسانُ العرب " فليس كذلك ؛ لأنَّ وزن هذه الآية قوله :﴿ إِن كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لولاا أَن رَّبَطْنَا على قَلْبِهَا ﴾ [ القصص : ١٠ ] فقوله :﴿ إِن كَادَتْ ﴾ أمَّا أن تكون جواباً عند من يرى ذلك، وإمَّا أن يكون دالاً على الجواب، وليس فيه خروجٌ عن كلامِ العربِ، هذا ما ردَّ عليه أبو حيَّان.
وكأن ابن عطيَّة إنما يعني بالخروج عن لسان العرب تجرد الجواب من اللاَّم على تقدير جواز تقديمه، والغرض أن اللاَّم لم توجد.
فصل
الهمُّ هو المقاربةٌ من الفعل من غير دخولٍ فيه، فهَمُّهَا : عزمُها على المعصية، وأما همُّه : فرُوِيَ عن أبن عبَّاسٍ رضي الله عنهما أنه حلَّ الهميان، وجلس منها مجلسَ الخاتنِ.
وعن مجاهد رحمه الله أنَّه حلّ سراويله، وجعل يعالجُ ثيابه، وهذا قولُ سعيد بن جبير، والحسن، وأكثر المتقدمين رضي الله عنهم.
وقيل غير ذلك.
وقال أكثرُ المتأخِّرين : إنَّ هذا لا يليقُ بحال الأنبياء عليه الصلاة والسلام وقالوا : تم الكلام عند قوله :" ولقد همَّتْ بِهِ "، ابتدأ الخبر عن يوسف فقال :﴿ وَهَمَّ بِهَا لولاا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ ﴾ على التَّقديمِ، والتأخير، أي : لولا أنه رأى برهان ربِّه لهم بها، لكنه رأى البُرهان، فلم يهمّ.
قال البغويُّ :" وأنكره النُّحاة، وقالوا : إنَّ العربَ لا تُؤخِّرُ " لَوْلاَ " عن الفعلِ فلا يقولون : قُمْتُ لولا زيدٌ، وهي تريدُ : لولا زيدٌ لقُمْتُ ".
وذكر ابنُ الخطيبِ : عن الواحديِّ أنه قال في البسيطِ :" قال المفسِّرُون : هم يوسف أيضاً بالمرأة همَّا صحيحاً، وجلس منها مجلس الرجُل من المرأةِ فلمَّا رأى البُرهانَ من ربه ؛ زالت كلُّ شهوة عنه.
قال أبُو جعفرٍ الباقرُ بإسناده عن عليِّ كرَّم الله وجهه أنه قال : طمعت فيه، وطمع فيها ".
ثمَّ إنَّ الواحديَّ طول في كلمات عاريةٍ عن الفائدة في هذا الباب، ولم يذكر فيما احتج به حديثاً صحيحاً يعوَّل عليه في هذه المقالة، ورُويَ أنَّ يوسف عليه الصلاة والسلام لمَّا قال :﴿ ذلك لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بالغيب ﴾ [ يوسف : ٥٢ ] قال له جبريل عليه السلام : ولا جين هممت يَا يوسف فقال عند ذلك :" ومَا أبرِّىءُ نَفْسِي ".
وقال بعضُ العلماءِ رضي الله عنهم : الهمُّ همَّان :
همٌّ يخطرُ بالبالِ من غير أن يبرز إلى الفعل.
وهمٌّ يخطرُ بالبالِ، ويبرز إلى الفعل، فالأوَّلُ مغفورٌ، والثاني : غير مغفورٍ إلا أنْ يشاءَ اللهُ، ويشهدُ لذلك قوله تعالى :﴿ وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا ﴾، فهمُّه عليه الصلاة والسلام كان خُطُراً بالبال من غير أن يخرج إلى الفعلِ، وهمُّها خرج إلى الفعل بدليل أنَّها ﴿ وَغَلَّقَتِ الأبواب وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ ﴾ [ يوسف : ٢٣ ]، ﴿ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِن دُبُرٍ ﴾ [ يوسف : ٢٥ ].
ويشهد للثاني قوله عليه الصلاة والسلام " إذَا التَقَى المُسْلمَانِ بسيفَيْهِمَا فالقَاتِلُ والمقْتولُ في النَّار، فَقيلَ يا رسُول اللهِ هَذا القَاتِلُ فمَا بَالُ المَقْتُولِ ؟ قال : لأنَّه كَانَ حَرِيصاً عَلَى قَتْلِ صَاحِبهِ ".
قال ابن الخطيب : وقال المُحققُونَ من المُفسِّرين، والمتكلِّمين : إنَّ يُوسفَ عليه الصلاة والسلام ت كان بَرِيئاً من العملِ البَاطلِ، والهَمّ المُحرَّم، وبه نقولُ، وعنه نذبُّ، والدلائل الدَّالةُ على وُجوبِ عصمة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام مذكورة مقرّرة ونزيد هاهنا وجوههاً :
الأول : أن الزِّنا من منكرات الكبائرِ، الخيانةٌ في معرض الأمانةِ أيضاً من منكرات الذُّنوبِ وأيضاً : الصبيُّ إذا تربَّى في حجر الإنسان، وبقي مكفيَّ المؤنةِ، مصون العرضِ من أوَّلِ صباهُ إل زمان شبابه، وكما قوَّته، فإقدام هذا الصبي على إيصال أقبح أنواع الإساءة إلى ذلك المنعم المفضل من منكرات الأعمال، وإذا ثبت هذا فنقول : إن هذه المعصية إذا نسبوها إلى يوسف عليه الصلاة والسلام كانت موصوفة بجميع الجهالات، ومثلُ هذه المعصية إذا نسيت إلى أفسقِ خلقِ الله، وأبعدهم من كلِّ حسنٍ، لا ستنكف منه، فكيف يجوز إسنادهُ إلى الرَّسولِ المُؤيّد بالمعجزات الباهرة مع قوله تعالى :﴿ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السواء والفحشآء ﴾ وأيضاً فلا يليق بحكمة الله تعالى وذلك يدلُّ على أنَّ ما هيَّة السُّوء، ما هية الفحشاء مصروفةٌ عنه، والمعصية التي نسوها إليه أعظم أنواع السوء، والفحشاء، وأيضاً فلا يليق بحمة الله تعالى أن يحكي عن إنسان إقدامه على معصية، ثم يمدحه، ويثني عليه بأعظم المدائح والأثنية عقيب ما حكى عنه ذلك الذَّنب العظيم، فإنَّ مثاله ما إذا حكى السطان عن بعض عبيده أقبح الذنوب، وأفحش الأعمال، ثم يذكره بالمدح العظيم، والثناءِ البالغ عقيبه، فإنَّ ذلك متسنكرٌ جدًّا، فكذا هاهنا.
وأيضاًَ : فإن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام متى صدرت عنهم زلةٌ، أو هفوةٌ ؛ استعظموا ذلك، وأتبعوه بإظهار النَّدامةِ، والتوبة، والتَّواضع، ولو كان يوسف أقدم ههنا على هذه الكبيرة المنكرة، لكان من المحال أن لا يتبعها بالتَّوبةِ، والاستغفار، ولو أتى بالتَّوبةِ لحكى الله ذلك عنه كما في سائر المواضع، وحيثُ لم يقع شيءٌ من ذلك علمنا أنه ما صدر عنه في هذه الواقعة ذنب، ولا معصية.
وأيضاً : فكلُّ من كان له تعلق بهذه الواقعة، فقد شهد ببراءة يوسف عليه الصلاة والسلام عن المعصية، والذين لهم تعلق بهذه الواقعة : يوسف والمرأة وزوجها، والنسوة الشهود، ورب العالم، وإبليس.
فأمَّا يوسف صلوات الله وسلامه عليه فأدَّعى أنَّ الذنب للمرأة وقال :﴿ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَن نَّفْسِي ﴾ [ يوسف : ٢٦ ] و ﴿ قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ ﴾ [ يوسف : ٣٣ ] وأما المرأة، فاعترفت بذلك، وقالت للنسوة :﴿ وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ فَاسَتَعْصَمَ ﴾ [ يوسف : ٣٢ ] وقالت :﴿ الآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَاْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ ﴾ [ يوسف : ٥١ ] وأمَّا زوج المرأة فقوله :﴿ إِنَّهُ مِن كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هذا واستغفري لِذَنبِكِ ﴾ [ يوسف : ٢٨ ٢٩ ].
وأمَّا الشهود فقوله تعالى :﴿ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّنْ أَهْلِهَآ إِن كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن قُبُلٍ ﴾ [ يوسف : ٢٦ ].
وأمَّا شهادة الله تعالى : فقوله :﴿ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السواء والفحشآء إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا المخلصين ﴾ [ يوسف : ٢٤ ] فقد شهد الله تعالى في هذه الآية على طهارته أربع مرات.
أولها : قوله :﴿ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السواء ﴾.
وثانيها : قوله :﴿ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السواء والفحشآء ﴾.
والثالث : قوله :﴿ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا ﴾ مع أنه تعالى قال :﴿ وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا ﴾ [ الفرقان : ٦٣ ].
والرابع : قوله :" المُخْلصِينَ "، وفيه قراءتا، تارة باسم الفاعل، وأخرى بسام المفعول وهذا يدلُّ على أنَّ الله تعالى استخلصه لنفسه، وأصطفاه لحضرته، وعلى كل [ وجه ] فإنَّه أدلُّ الألفاظ على كونه منزهاً عمَّا أضافوه إليه.
وأما إقرار إبليس بطهارته فقوله :{ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْ
قوله تعالى :﴿ واستبقا الباب ﴾ [ الآية : ٢٥ ] " البَابَ " منصوبٌ إمَّا على إسقاطِ الخافض اتّساعاً، إذ أصلُ " اسْتبَقَ " أن يتعدَّى ب " إلى "، وإما على تضمين " اسْتَبقَ " معنى ابتدر، فينصب مفعولاً به. قوله تعالى :﴿ وَقَدَّتْ ﴾ يحتمل أن تكون الجملة نسقاً على " اسْتبقَا " أي : استبق، وقدت، ويحتمل أن يكون في محل نصب على الحال، أي : وقد قدَّت. والقدّ : الشَّقُّ مطلقاً، قال بعضهم : القدُّ : فيما كان يشقُّ طولاً القطُّ : فيما كان يشقُّ عَرْضاً.
قال ابن عطية " وقرأت فرقة : وقَطّ " قال أبو الفضل بنُ حربٍ : رأيت في مصحب " وقطَّ مِنْ دبُرٍ " أي : شقَّ.
قال يعقوب : القطُّ في الجلدِ الصحيح، والثوب الصحيح ؛ وقال الشاعر :[ الطويل ]
قال العلماء رضي الله عنهم وهذا الكلامْ من اختصار القرآن المعجز الذي يجتمع فيه المعاني، وذلك أنَّ يوسف عليه الصلاة والسلام لما رأى برهان ربِّه، خرج حينئذ هارباً، وتبعته المرأة فتعلقت بقميصه من خلفه، فجذبته إليها حتى لا يخرج " وقدَّتْ قَميصَهُ " [ أي ] : فشققته المرأة من دبر.
والاستباقُ : طلبُ السَّبْق، أي : يجتهدُ كلُّ واحدٍ منهما أن يسبق صاحبهُ فإن سبق يوسف فتح الباب، وخرج، وإن سبقت المرأةُ أمسكتِ الباب لئلا يخرج فسبقها يوسف عليه السلام إلى الباب، والمرأة تعدو خلفه، فلم تصلْ إلا إلى دبر القميص، فتعلقت به فقدته من خلفه، فلمَّا خرجا " ألْفَيَا "، أي : وجدا " سيِّدهَا "، وإنما لم يقل سيدهما ؛ لأنَّ يوسف عليه الصلاة والسلام لم يكن مملوكاً لذلك الرجل حقيقة " لَدى البابِ " أي : عند البابِ، والمرأة تقول لبعلها : سيِّدي.
فإن قيل : فالمرأةُ أيضاً ليست مملوكة لبعلها حقيقة.
فالجواب : أن الزَّوج لما ملك الانتفاع بالمرا’ من الوطء والخلوةِ، والمباشرةِ، والسفر بها من غير اختيارها أشبهت المملوكة، فلذلك حسن إطلاقُ السيِّد عليه.
قال القرطبيُّ :" والقبط يسمون الزوج سيداً، ويقال : ألفاه، وصادفهُ، وواله ووَالطَه، ولاطَهُ، وكلٌّ بمعنى واحدٍ ".
فعند ذلك، خافتِ المرأةُ من التُّهمِ، فبادرت إلى أن رمتْ يوسف عليه السلام بالعفلِ القبيح، ﴿ وقالت ما جزاء من أراد بأهلك سوءاً ﴾ يعنى الزِّنا، ثم خافت عليه أن يقتل فقالت :﴿ إلاَّ أن يُسجنَ ﴾، أي : يحبس، ﴿ أوْ عذابٌ أليمٌ ﴾ أي : يُعَاقبُ بالضَّربِ.
قوله :" مَا جزاءُ " يجوز في " مَا " هذه أن تكون نافية، وأن تكون استفهاميَّة، و " مَنْ " يجوز أن تكون موصولة، أو نكرة موصوفة.
قوله :" إلاَّ أن يُسْجنَ " خبر المبتدأ، ولما كان " أن يُسْجنَ " في قوَّة المصدر عطف عليه المصدر، وهو قوله :" أو عذابٌ ". و " أوْ " تحتملُ معانيها، وأظهرها التنويع.
وقرأ زيد بن علي :( أو عذاباً أليماً ] بالنصب، وخرَّجه الكسائي على إضمار فعل، أو أن يعذَّب عذباً أليماً.
قوله :" هِيَ " ولم يقل هذه، ولا تلك، لفرط استحايئه " وهو أدبٌ حسنٌ حيث أتى بلفظ الغيبة دون الحضور.
قال ابن الخطيب : في الآية لطائف :
إحداها : أن حُبَّها الشَّديد ليوسف، حملها على رعايةِ دقيقتين في هذا الموضع، وذلك لأنهَّا بدأت بذكر السِّجن، وأخرت ذكر العذاب ؛ لأنَّ المحبَّة لا تسعى في إيلام المحبوب، وأيضاً : لم تقل إنَّ يوسف يجب أن يقابل بهذين الأمرين، بل ذكرت ذلك ذكراً كليًّا صوناً للمحبوب عن الذِّكر بالشر وأيضاً قالت :" إلاَّ أنْ يُسْجنَ " والمرادُ أن يسجن يوماً، أو يومين، أو أقل على سبيل التخفيف، فأمَّا الحبسُ الدَّائمُ فإنَّه لا يعبِّر عنه بهذه العبارة، بل يقال : يجبُ أن يجعل من المسجونين، كما قال فرعون لموسى عليه الصلاة والسلام حين هدَّدُ ﴿ لَئِنِ اتخذت إلها غَيْرِي لأَجْعَلَنَّكَ مِنَ المسجونين ﴾ [ الشعراء : ٢٩ ] وأيضاً : لما شاهدت من يوسف أنه استعصم، مع أنه كان في عنفوان العمر، وكمال القوة، ونهاية الشهوة، وعظم اعتقادها في طهارته، ونزاهته، فاستحيتْ أن تقول : إنَّ يوسف قصدني بالسُّوءِ، ولم تجد من نفسها أن ترميهُ بالكذبِ، وهؤلاء نسبُوا إليه هذا الذَّنب القبيحَ.
وأيضاً : يوسف عليه الصلاة والسلام أراد أن يضربها، ويدفعها عن نفسه [ وكان ] ذلك بالنسبة إليها جارياً مجرى السُّوء، فقولها ﴿ ما جزاء من أراد بأهلك سوءاً ﴾ له ظاهر وباطن، باطنه أنَّها التي أرادت السُّوء، وظاهره دفعه لها ومنعها، فأرادت بقولها :﴿ ما جزاء من أراد بأهلك سوءاً ﴾ فعل نفسها بقلبها، أو في ظاهر الأمر، أو همت أنه قصدني بما لا ينبغي.
قال ابن عطية " وقرأت فرقة : وقَطّ " قال أبو الفضل بنُ حربٍ : رأيت في مصحب " وقطَّ مِنْ دبُرٍ " أي : شقَّ.
قال يعقوب : القطُّ في الجلدِ الصحيح، والثوب الصحيح ؛ وقال الشاعر :[ الطويل ]
٣٠٧٧ تَقُدُّ السَّلُوقيَّ المُضاعفَ نَسْجهُ | وتُوقِدُ بالصفَّاحِ نَارَ الحُباحِبِ |
فصل
قال العلماء رضي الله عنهم وهذا الكلامْ من اختصار القرآن المعجز الذي يجتمع فيه المعاني، وذلك أنَّ يوسف عليه الصلاة والسلام لما رأى برهان ربِّه، خرج حينئذ هارباً، وتبعته المرأة فتعلقت بقميصه من خلفه، فجذبته إليها حتى لا يخرج " وقدَّتْ قَميصَهُ " [ أي ] : فشققته المرأة من دبر.
والاستباقُ : طلبُ السَّبْق، أي : يجتهدُ كلُّ واحدٍ منهما أن يسبق صاحبهُ فإن سبق يوسف فتح الباب، وخرج، وإن سبقت المرأةُ أمسكتِ الباب لئلا يخرج فسبقها يوسف عليه السلام إلى الباب، والمرأة تعدو خلفه، فلم تصلْ إلا إلى دبر القميص، فتعلقت به فقدته من خلفه، فلمَّا خرجا " ألْفَيَا "، أي : وجدا " سيِّدهَا "، وإنما لم يقل سيدهما ؛ لأنَّ يوسف عليه الصلاة والسلام لم يكن مملوكاً لذلك الرجل حقيقة " لَدى البابِ " أي : عند البابِ، والمرأة تقول لبعلها : سيِّدي.
فإن قيل : فالمرأةُ أيضاً ليست مملوكة لبعلها حقيقة.
فالجواب : أن الزَّوج لما ملك الانتفاع بالمرا’ من الوطء والخلوةِ، والمباشرةِ، والسفر بها من غير اختيارها أشبهت المملوكة، فلذلك حسن إطلاقُ السيِّد عليه.
قال القرطبيُّ :" والقبط يسمون الزوج سيداً، ويقال : ألفاه، وصادفهُ، وواله ووَالطَه، ولاطَهُ، وكلٌّ بمعنى واحدٍ ".
فعند ذلك، خافتِ المرأةُ من التُّهمِ، فبادرت إلى أن رمتْ يوسف عليه السلام بالعفلِ القبيح، ﴿ وقالت ما جزاء من أراد بأهلك سوءاً ﴾ يعنى الزِّنا، ثم خافت عليه أن يقتل فقالت :﴿ إلاَّ أن يُسجنَ ﴾، أي : يحبس، ﴿ أوْ عذابٌ أليمٌ ﴾ أي : يُعَاقبُ بالضَّربِ.
قوله :" مَا جزاءُ " يجوز في " مَا " هذه أن تكون نافية، وأن تكون استفهاميَّة، و " مَنْ " يجوز أن تكون موصولة، أو نكرة موصوفة.
قوله :" إلاَّ أن يُسْجنَ " خبر المبتدأ، ولما كان " أن يُسْجنَ " في قوَّة المصدر عطف عليه المصدر، وهو قوله :" أو عذابٌ ". و " أوْ " تحتملُ معانيها، وأظهرها التنويع.
وقرأ زيد بن علي :( أو عذاباً أليماً ] بالنصب، وخرَّجه الكسائي على إضمار فعل، أو أن يعذَّب عذباً أليماً.
قوله :" هِيَ " ولم يقل هذه، ولا تلك، لفرط استحايئه " وهو أدبٌ حسنٌ حيث أتى بلفظ الغيبة دون الحضور.
فصل
قال ابن الخطيب : في الآية لطائف :
إحداها : أن حُبَّها الشَّديد ليوسف، حملها على رعايةِ دقيقتين في هذا الموضع، وذلك لأنهَّا بدأت بذكر السِّجن، وأخرت ذكر العذاب ؛ لأنَّ المحبَّة لا تسعى في إيلام المحبوب، وأيضاً : لم تقل إنَّ يوسف يجب أن يقابل بهذين الأمرين، بل ذكرت ذلك ذكراً كليًّا صوناً للمحبوب عن الذِّكر بالشر وأيضاً قالت :" إلاَّ أنْ يُسْجنَ " والمرادُ أن يسجن يوماً، أو يومين، أو أقل على سبيل التخفيف، فأمَّا الحبسُ الدَّائمُ فإنَّه لا يعبِّر عنه بهذه العبارة، بل يقال : يجبُ أن يجعل من المسجونين، كما قال فرعون لموسى عليه الصلاة والسلام حين هدَّدُ ﴿ لَئِنِ اتخذت إلها غَيْرِي لأَجْعَلَنَّكَ مِنَ المسجونين ﴾ [ الشعراء : ٢٩ ] وأيضاً : لما شاهدت من يوسف أنه استعصم، مع أنه كان في عنفوان العمر، وكمال القوة، ونهاية الشهوة، وعظم اعتقادها في طهارته، ونزاهته، فاستحيتْ أن تقول : إنَّ يوسف قصدني بالسُّوءِ، ولم تجد من نفسها أن ترميهُ بالكذبِ، وهؤلاء نسبُوا إليه هذا الذَّنب القبيحَ.
وأيضاً : يوسف عليه الصلاة والسلام أراد أن يضربها، ويدفعها عن نفسه [ وكان ] ذلك بالنسبة إليها جارياً مجرى السُّوء، فقولها ﴿ ما جزاء من أراد بأهلك سوءاً ﴾ له ظاهر وباطن، باطنه أنَّها التي أرادت السُّوء، وظاهره دفعه لها ومنعها، فأرادت بقولها :﴿ ما جزاء من أراد بأهلك سوءاً ﴾ فعل نفسها بقلبها، أو في ظاهر الأمر، أو همت أنه قصدني بما لا ينبغي.
ولما لطَّخت عرض يوصف بهذا الكلام احتاج يوسف إلى إزالة هذه التهمة فقال :﴿ هي راودتني عن نفسي ﴾ واعلم أنَّ العلاماتِ الكثيرة دالةٌ على صدق يوسف :
منها : أنَّ يوسف عليه السلام في ظاهر الأمر كان عبداً لهم، والعبد لا يمكنه أن يتسلط على مولاه إلى هذه الحدّ.
ومنها : أنَّهم شاهدوا يوسف هارباً ليخرج، والطالبُ للمرأة لا يخرج من الدَّار على هذا الوجه.
ومنها : أنهم رأوا المرأة زينت نفسها على أكمل الوجوه، ويوسف لم يكن عليه أثر من آثار تزيين النَّفس.
ومنها : أنَّهم كانوا شاهدوا أحوال يوسف في المُدَّة الطَّويلة، فما رأوا عليه حالة تناسب إقدامه على مثل هذا الفعل المنكر.
ومنها : أنَّ المرأة ما نسبته إلى طلب الفاحشة على سبيل التصريح، بل ذكرت كلاماً مجملاً، وأما يوسف فإنَّه صرَّح بالأمر، ولو كان مطاوعاً لها، ما قدر على التَّصريح، فإنَّ الخائنَ خائفٌ.
وكلُّ هذه الوجوه مما يقوِّي غلبة الظن ببراءة يوسف في هذه المسألة، ثم إنَّه تعالى أظهر ليوسف دليلاً يقوي تلك الدَّلائل على براءته من الذَّنب، وأن المرأة هي المذنبة وهو قوله تعالى :﴿ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّنْ أَهْلِهَآ ﴾ فقوله :" مِنْ أهْلِهَا " صفة ل :" شَاهِدٌ "، وهو المسوغ لمجيء الفاعل من لفظ الفعل، إذْ لا يجوزُ قام القائم، ولا : قعد القاعدُ، لعدم الفائدةِ.
واختلفوا في ذلك الشَّاهد على ثلاثةِ أقوالٍ :
الأول : أنه كان ابن عمَّها، وكان رجلاً حكيماً، واتَّفق في ذلك الوقت أنَّهُ كان ممع زوجها، يريد أن يدخل عليها، وفقال الحكيمُ :﴿ إنْ كَانَ قَميصهُ قُدَّ مِنْ قُبلِ ﴾، فأت صادقة، والرَّجلُ كاذبٌ، ﴿ وإنْ كانَ قَمِيصهُ قُدَّ مِنْ دُبرٍ ﴾، فالرَّجلُ صادقٌ، وأنت كاذبة فلما نظرُوا إلى القميصِ رأوا الشقَّ من خلفه، قال ابن عمِّها :﴿ إِنَّهُ مِن كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ ﴾ [ اي : من عَملكن ] ثم قال ليوسف :" أعْرِضْ عَنْ هَذَا " أي اكتمهُ، وقال لها :﴿ واستغفري لِذَنبِكِ ﴾، وهذا قولُ السدي، وطائفة من المفسرين.
قال السُّهيلي : وهذا من باب الحكم بالأمارات، وله أصلٌ في الشَّرعِ، قال تعالى :﴿ وَجَآءُوا على قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ ﴾ [ يوسف : ١٨ ] حيثُ لا أثر لأنياب الذئب فيه، وقال تعالى :﴿ إِن كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الكَاذِبِينَ ﴾ وقال عليه الصلاة والسلام في الحدّ :" انْظرُوا فإنْ جَاءَتْ بِهِ أبْيضَ خَالياً فَهُو للَّذي رُمِيَتْ بِهِ ".
قال السهيلي : كان عامر بن الظرف العدوانيُّ لا يكون بين العرب ثائر إلا تحاكموا إليه فيرضون بما يقضي به، فتحاكموا إليه في ميراث خنثى بات ليلة ساهراً يرى ماذا يحم به ؟ فرأته جارية له ترعى، وكان اسمها سخيلة، فقالت له : ما لك، لا أبا لك اللَّيلة ساهِراً ؛ فذكر لها ما هو مفكر فيه، وقال : لعلها يكون عندها في ذلك شيء، فقالت له :" اتْبَع القضاء المَبال " فقال : فرجتها والله يا سخيلة، وحكم بذلك القول.
القول الثاني : منقولٌ عن ابن عبَّاسٍ، وسعيد بن جبيرٍ، والضحاك رضي الله عنهم أن ذلك الشَّاهد كان صبيًّا في المهد، أنطقه اللهُ.
قال ابن عبًّاس رضي الله عنه : تكلَّم في المهدِ ثلاثةُ صغارٍ : شاهدُ يوسف، وعيسى ابن مريم عليه السلام، وصاحبُ جريج الرَّاهب.
قال الجبائيُّ : القول الأول أولى لوجوه :
الأول : أنَّه سبحانه وتعالى لو أنطق الطفل بهذا الكلام، لكان مجرد قوله :" إنَّها كَاذبةٌ " كافياً، وبرهاناً قاطعاً ؛ لأنَّه من المعجزات العجيبة الباهرة والاستدلال بتمزيق القميص من قُبُل ومن دُبُرٍ دليل ظنيّ ضعيف، والعدول عن الحجَّة الواضحة القاطعة حال حصولها إلى الدلالة الظَّنية لا يجوزُ.
الثاني : أنه تبارك وتعالى قال :﴿ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّنْ أَهْلِهَآ ﴾ يشيرُ بذلك إلى أنَّ شهادة الشَّاهد على قريبه، أولى بالقبولِ من شهادته له ؛ لأن الظاهر من حال القريب أن يشهد لقريبه، لا أن يشهد عليه، وهذا التَّرجيحُ إنما يُصَارُ إليه إذا كانت دلالة الشَّهادة ظنية، وذلك إنَّما يكون في شهادة الرجل، ولو يكون هذا القول صادراً من الصَّبي الذي كان في المهد، لكان قوله حجَّة قاطعة، ولا يتفاوتُ الحال بين أن يكون من أهلها، وبين ألا يكون، وحينئذٍ لا يبقى لهذا القيد وجه.
الثالث : أن لفظ الشَّاهد لا يقعُ في العرف، إلا على من تقدَّمت معرفته بالواقعة، وإحاطته بها.
القول الثالث : أن هذا الشاهد هو القميص، قال مجاهد رضي الله عنه الشاهد :" قُدَّ قيمصه من دُبُر "، وهذا في غاية الضعف ؛ لأن القميص لا يوصف بهذا ولا ينسب إلى الأهل.
واعلم أنَّ القول الأول عليه إشكال، وذلك أنَّ العلامة المذكورة لا تدلُّ قطعاً على براءة يوسف من المعصية ؛ لأن من المحتملِ أنَّ الرجل قصد المرأة لطلب الزِّنا، والمرأة غضبت عليه، فهرب الرجل، فعدتِ المرأةُ خلف الرجل، وجذبته لقصد أن تضربه ضرباً وجيعاً، فعلى هذا الوجه يكون قدُّ القميص من دبرٍ، مع أنَّ المرأة تكون بريئة عن [ الذنب ] وأنَّ الرجل يكون مذنباً.
جوابه : أنَّا بيَّنا أنَّ علامات كذب المرأة كانت كثيرة بالغة مبلغ اليقين، فضمّ إليها هذه العلامة الأخرى، لا لأجل أن يُعوِّلُوا في الحكم عليها، بل لأجل أن يكون ذلك جارياً مجرى المقدمات، والمرجّحات.
قوله :" إنْ كَانَ. . . " هذه الجملة الشرطية، إما معمولةٌ لقولٍ مضمر تقديره :" فقال " إن كان عند البصريين، وإمَّا معمولة " لِشَهدِ " ؛ لأنه بمعنى القول عند الكوفيين. قوله " مِنْ دُبرٍ. . "، و " مِنْ قُبُلٍ. . . " قرأ العامَّة جميع ذلك بضمتين، والجر والتنوين، بمعنى : من خلف، من قدام، أي : من خلف القميص، وقدامه وقرأ الحسن، وأبو عمرو في رواية بتسكين لعين تخفيفاً، وهي لغة الحجاز، وأسد، وقرأ ابن يعمر، وابن أبي إسحاق [ والعطاردي والجارود بثلاث ضمات، وروي عن الجارود وابن أبي إسحاق وبن يعمر ] أيضاً بسكون العين وبنائها على الضم ووجه ضمهما : أنَّهم جعلوهما ك " قَبلُ، وبعْدُ " في بنائها على الضم عند قطعهما عن الإضافة، فجعلوهما غاية، ومعنى الغاية : أن يجعل المضاف غاية نفسه، بعد ما كان المضاف إليه غايته، والأصل إعرابهما ؛ لأنَّهما اسمان متمكنان، وليسا بظرفين.
قال أبو حاتم : وهذا رديءٌ في العربية، وإنما هذا البناء في الظروف.
وقال الزمخشري :" والمعنى : من قبل القميص، ومن دُبرهِ، وأما التنكيرُ فمعناه : من جهةٍ يقال لها قبلٌ، ومن جهة يقال لها دبرٌ " وعن ابن أبي إسحاق : أنَّهُ قرأ " مِنْ قُبْلَ "، و " مِنْ دُبْرَ " بالفتح كأنَّه جعلهما علمين للجهتين، فمنعهما الصرف للعملية، والتَّأنيث، وقد تقدم [ البقرة : ٢٣٥ ] الخلاف في " كان " الواقعة في حيز الشرط، هل تبقى على معناها من المضي، وإليه ذهب المبرِّدُ، أم تنقلب إلى الاستقبال كسائر الأفعالِ، وأنَّ المعنى على التَّبيينِ ؟.
قوله :" فَكذَبَتْ "، و " صَدقَتْ " على إضمار " قَدْ "، لأنها تقرب الماضي من الحالِ، هذا إذا كان الماضي متصرِّفاص، فأما إذا كان جامداً، فلا يحتاجُ إلى " قَدْ " لا لفظاً، ولا تقديراً.
قوله :﴿ فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ ﴾ : أي : فلمَّا رأى زوجها قميصه قُدّ من دُبُرٍ ؛ عرف خيانة امرأته، وبراءة يوسف صلوات الله وسلامه عليه قال لها :" إنَّهُ "، هذا الصَّنِيعُ، أو قولك ﴿ ما جزاء من أراد بأهلك سوءاً ﴾ ﴿ مِن كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ ﴾ وقيل : هذا من قول الشاهد.
فإن قيل : إنه تعالى قال :﴿ وَخُلِقَ الإنسان ضَعِيفاً ﴾ [ الإنسان : ٢٨ ] فكيف وصف كيد المرأة بالعظيم، وأيضاً : فيكدُ الرِّجال قد يزيدُ على كيد النِّساءِ ؟.
فالجواب عن الأوَّل : أن خلقة الإنسان بالنِّسبة إلى خلقة الملائكة، والسموات، والكواكب خلقة ضعيفة، وكيد النسوان بالنسبة إلى كيد البشر عظيمٌ ؛ ولا منافاة بين القولين، وأيضاً : فالنِّساءُ لهُنَّ من هذا الباب من المكرِ، والحِيل، ما لا يكون للرجال ؛ لأنَّ كيدهنَّ في هذا الباب، يورث من العار ما لا يورثه كيدُ الرَّجال.
ولما ظهر للقوم براءةٌ يوسف عن ذلك الفعل قال زوجها ليوسف :" أعْرِضٍ عَنْ هَذَا " الحديث، فلا تذكرة لأحدٍ حتى لا ينتشر، ولا يحصلُ العارُ العظيم وقيل : إنَّهُ من قول الشَّاهد. ثم قال للمرأة [ " واستغفري لِذنبكِ " إي : إلى الله ﴿ إِنَّكِ كُنتِ مِنَ الخاطئين ﴾ وقيل هذا من قول الشاهد ] " واسْتَغفِري "، أي : اطلبي من زوجك المغفرة، والصَّفح ؛ حتَّى لا يعاقبك.
قال أبو بكرٍ الأصمُّ : إنَّ ذلك الزوج كان قليل الغيرةِ، فاكتفى منها بالاستغفار وقيل : إنَّ الله تعالى عزَّ وجلَّ سلبه الغيرة لطفاً بيوسف، حتى كفى بادرته وحلم عنها.
قال الزمخشري :" وإنما قال :﴿ مِنَ الخاطئين ﴾ ؛ تغليباً للذكور على الإناث " ويحتملُ أن يقال : إنك من قبيل الخاطئين، فمن ذلك القبيل جرى ذلك العرفُ فيك.
قال البغوي رحمه الله : تقديره : إنَّك من القوم الخاطئين، ولم يقصد به الخبر عن النِّساء ؛ بل قصد الخبر عن كُلِّ من يعفعلُ ذلك ؛ كقوله تعالى :﴿ وَكَانَتْ مِنَ القانتين ﴾ [ التحريم : ١٢ ]، وبيانه قوله :﴿ إِنَّهَا كَانَتْ مِن قَوْمٍ كَافِرِينَ ﴾ [ النمل : ٤٣ ].
قوله تعالى :" يُوسُفُ "، منادى محذوفٌ منه حرفُ النداءِ. قال الزمشخريُّ :" لأنه منادى قريب مقاطن للحديث، وفيه تقريبٌ له، وتلطيفٌ بمحله " انتهى.
وكُلُّ منادي يجوز حذف حرفُ النِّداء منه، إلا الجلالة المعظمة، واسم الجنس غالباً، والمستغاثَ، والمندوب، واسم الإشارة عند البصريين، وفي المضمر إذا نودِيَ.
والجمهورُ على ضمِّ فاءِ يوسف عليه الصلاة والسلام ؛ لكونه مفرداً معرفةً، وقرأ الأعمش بفتحها، وقيل لم تثبت هذه القراءة عنه، وعلى تقدير ثبوتها، فقال أبو البقاء : فيها وجهان :
أحدهما : أن يكون أخرجه على أصل المنادى ؛ كما جاء في الشِّعر :[ الخفيف ]
يريد بأصلِ المنادى : أنه مفعولٌ به، فحقه النصب ؛ كالبيت الذي أنشده، واتفق أن يوسف لا ينصرف، ففتحته فتحةُ إعرابٍ.
والثاني، وجعله الأشبه : أن يكون وقف على الكلمة، ثم وصل، وأجرى الوصل مجرى الوقف ؛ فألقى حركة الهمزة على الفاء، وحذفها ؛ فصار اللفظ بها :" يُوسفَ أعْرض " ؛ وهذا كما حي :" اللهُ أكبرَ، أشْهَدَ ألاّ "، بالوصلِ والفتح في الجلالةِ وفي " أكْبر "، وفي أشْهد " ؛ وذلك أنه قدَّر الوقف على كل كلمة من هذا الكلم، وألقى حركة الهمزة [ من ] كل من الكلمِ الثَّلاث، على السَّاكن قبله، وأجرى الوصل مجرى الوقف في ذلك.
والذي حكوه الناسُ، إنَّما هو في " أكْبَر " خاصَّة ؛ لأنَّها مظنة الوقف، و تقدم ذلك في سورة آل عمران [ الآية : ١ ].
ورىء " يُوسفُ أعْرضَ " بضمِّ الفاءِ، و " أعْرضَ " فعلاً ماضياً، وتخريجها أن يكون " يُوسفُ " مبتدأ، و "
منها : أنَّ يوسف عليه السلام في ظاهر الأمر كان عبداً لهم، والعبد لا يمكنه أن يتسلط على مولاه إلى هذه الحدّ.
ومنها : أنَّهم شاهدوا يوسف هارباً ليخرج، والطالبُ للمرأة لا يخرج من الدَّار على هذا الوجه.
ومنها : أنهم رأوا المرأة زينت نفسها على أكمل الوجوه، ويوسف لم يكن عليه أثر من آثار تزيين النَّفس.
ومنها : أنَّهم كانوا شاهدوا أحوال يوسف في المُدَّة الطَّويلة، فما رأوا عليه حالة تناسب إقدامه على مثل هذا الفعل المنكر.
ومنها : أنَّ المرأة ما نسبته إلى طلب الفاحشة على سبيل التصريح، بل ذكرت كلاماً مجملاً، وأما يوسف فإنَّه صرَّح بالأمر، ولو كان مطاوعاً لها، ما قدر على التَّصريح، فإنَّ الخائنَ خائفٌ.
وكلُّ هذه الوجوه مما يقوِّي غلبة الظن ببراءة يوسف في هذه المسألة، ثم إنَّه تعالى أظهر ليوسف دليلاً يقوي تلك الدَّلائل على براءته من الذَّنب، وأن المرأة هي المذنبة وهو قوله تعالى :﴿ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّنْ أَهْلِهَآ ﴾ فقوله :" مِنْ أهْلِهَا " صفة ل :" شَاهِدٌ "، وهو المسوغ لمجيء الفاعل من لفظ الفعل، إذْ لا يجوزُ قام القائم، ولا : قعد القاعدُ، لعدم الفائدةِ.
واختلفوا في ذلك الشَّاهد على ثلاثةِ أقوالٍ :
الأول : أنه كان ابن عمَّها، وكان رجلاً حكيماً، واتَّفق في ذلك الوقت أنَّهُ كان ممع زوجها، يريد أن يدخل عليها، وفقال الحكيمُ :﴿ إنْ كَانَ قَميصهُ قُدَّ مِنْ قُبلِ ﴾، فأت صادقة، والرَّجلُ كاذبٌ، ﴿ وإنْ كانَ قَمِيصهُ قُدَّ مِنْ دُبرٍ ﴾، فالرَّجلُ صادقٌ، وأنت كاذبة فلما نظرُوا إلى القميصِ رأوا الشقَّ من خلفه، قال ابن عمِّها :﴿ إِنَّهُ مِن كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ ﴾ [ اي : من عَملكن ] ثم قال ليوسف :" أعْرِضْ عَنْ هَذَا " أي اكتمهُ، وقال لها :﴿ واستغفري لِذَنبِكِ ﴾، وهذا قولُ السدي، وطائفة من المفسرين.
قال السُّهيلي : وهذا من باب الحكم بالأمارات، وله أصلٌ في الشَّرعِ، قال تعالى :﴿ وَجَآءُوا على قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ ﴾ [ يوسف : ١٨ ] حيثُ لا أثر لأنياب الذئب فيه، وقال تعالى :﴿ إِن كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الكَاذِبِينَ ﴾ وقال عليه الصلاة والسلام في الحدّ :" انْظرُوا فإنْ جَاءَتْ بِهِ أبْيضَ خَالياً فَهُو للَّذي رُمِيَتْ بِهِ ".
قال السهيلي : كان عامر بن الظرف العدوانيُّ لا يكون بين العرب ثائر إلا تحاكموا إليه فيرضون بما يقضي به، فتحاكموا إليه في ميراث خنثى بات ليلة ساهراً يرى ماذا يحم به ؟ فرأته جارية له ترعى، وكان اسمها سخيلة، فقالت له : ما لك، لا أبا لك اللَّيلة ساهِراً ؛ فذكر لها ما هو مفكر فيه، وقال : لعلها يكون عندها في ذلك شيء، فقالت له :" اتْبَع القضاء المَبال " فقال : فرجتها والله يا سخيلة، وحكم بذلك القول.
القول الثاني : منقولٌ عن ابن عبَّاسٍ، وسعيد بن جبيرٍ، والضحاك رضي الله عنهم أن ذلك الشَّاهد كان صبيًّا في المهد، أنطقه اللهُ.
قال ابن عبًّاس رضي الله عنه : تكلَّم في المهدِ ثلاثةُ صغارٍ : شاهدُ يوسف، وعيسى ابن مريم عليه السلام، وصاحبُ جريج الرَّاهب.
قال الجبائيُّ : القول الأول أولى لوجوه :
الأول : أنَّه سبحانه وتعالى لو أنطق الطفل بهذا الكلام، لكان مجرد قوله :" إنَّها كَاذبةٌ " كافياً، وبرهاناً قاطعاً ؛ لأنَّه من المعجزات العجيبة الباهرة والاستدلال بتمزيق القميص من قُبُل ومن دُبُرٍ دليل ظنيّ ضعيف، والعدول عن الحجَّة الواضحة القاطعة حال حصولها إلى الدلالة الظَّنية لا يجوزُ.
الثاني : أنه تبارك وتعالى قال :﴿ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّنْ أَهْلِهَآ ﴾ يشيرُ بذلك إلى أنَّ شهادة الشَّاهد على قريبه، أولى بالقبولِ من شهادته له ؛ لأن الظاهر من حال القريب أن يشهد لقريبه، لا أن يشهد عليه، وهذا التَّرجيحُ إنما يُصَارُ إليه إذا كانت دلالة الشَّهادة ظنية، وذلك إنَّما يكون في شهادة الرجل، ولو يكون هذا القول صادراً من الصَّبي الذي كان في المهد، لكان قوله حجَّة قاطعة، ولا يتفاوتُ الحال بين أن يكون من أهلها، وبين ألا يكون، وحينئذٍ لا يبقى لهذا القيد وجه.
الثالث : أن لفظ الشَّاهد لا يقعُ في العرف، إلا على من تقدَّمت معرفته بالواقعة، وإحاطته بها.
القول الثالث : أن هذا الشاهد هو القميص، قال مجاهد رضي الله عنه الشاهد :" قُدَّ قيمصه من دُبُر "، وهذا في غاية الضعف ؛ لأن القميص لا يوصف بهذا ولا ينسب إلى الأهل.
واعلم أنَّ القول الأول عليه إشكال، وذلك أنَّ العلامة المذكورة لا تدلُّ قطعاً على براءة يوسف من المعصية ؛ لأن من المحتملِ أنَّ الرجل قصد المرأة لطلب الزِّنا، والمرأة غضبت عليه، فهرب الرجل، فعدتِ المرأةُ خلف الرجل، وجذبته لقصد أن تضربه ضرباً وجيعاً، فعلى هذا الوجه يكون قدُّ القميص من دبرٍ، مع أنَّ المرأة تكون بريئة عن [ الذنب ] وأنَّ الرجل يكون مذنباً.
جوابه : أنَّا بيَّنا أنَّ علامات كذب المرأة كانت كثيرة بالغة مبلغ اليقين، فضمّ إليها هذه العلامة الأخرى، لا لأجل أن يُعوِّلُوا في الحكم عليها، بل لأجل أن يكون ذلك جارياً مجرى المقدمات، والمرجّحات.
قوله :" إنْ كَانَ. . . " هذه الجملة الشرطية، إما معمولةٌ لقولٍ مضمر تقديره :" فقال " إن كان عند البصريين، وإمَّا معمولة " لِشَهدِ " ؛ لأنه بمعنى القول عند الكوفيين. قوله " مِنْ دُبرٍ. . "، و " مِنْ قُبُلٍ. . . " قرأ العامَّة جميع ذلك بضمتين، والجر والتنوين، بمعنى : من خلف، من قدام، أي : من خلف القميص، وقدامه وقرأ الحسن، وأبو عمرو في رواية بتسكين لعين تخفيفاً، وهي لغة الحجاز، وأسد، وقرأ ابن يعمر، وابن أبي إسحاق [ والعطاردي والجارود بثلاث ضمات، وروي عن الجارود وابن أبي إسحاق وبن يعمر ] أيضاً بسكون العين وبنائها على الضم ووجه ضمهما : أنَّهم جعلوهما ك " قَبلُ، وبعْدُ " في بنائها على الضم عند قطعهما عن الإضافة، فجعلوهما غاية، ومعنى الغاية : أن يجعل المضاف غاية نفسه، بعد ما كان المضاف إليه غايته، والأصل إعرابهما ؛ لأنَّهما اسمان متمكنان، وليسا بظرفين.
قال أبو حاتم : وهذا رديءٌ في العربية، وإنما هذا البناء في الظروف.
وقال الزمخشري :" والمعنى : من قبل القميص، ومن دُبرهِ، وأما التنكيرُ فمعناه : من جهةٍ يقال لها قبلٌ، ومن جهة يقال لها دبرٌ " وعن ابن أبي إسحاق : أنَّهُ قرأ " مِنْ قُبْلَ "، و " مِنْ دُبْرَ " بالفتح كأنَّه جعلهما علمين للجهتين، فمنعهما الصرف للعملية، والتَّأنيث، وقد تقدم [ البقرة : ٢٣٥ ] الخلاف في " كان " الواقعة في حيز الشرط، هل تبقى على معناها من المضي، وإليه ذهب المبرِّدُ، أم تنقلب إلى الاستقبال كسائر الأفعالِ، وأنَّ المعنى على التَّبيينِ ؟.
قوله :" فَكذَبَتْ "، و " صَدقَتْ " على إضمار " قَدْ "، لأنها تقرب الماضي من الحالِ، هذا إذا كان الماضي متصرِّفاص، فأما إذا كان جامداً، فلا يحتاجُ إلى " قَدْ " لا لفظاً، ولا تقديراً.
قوله :﴿ فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ ﴾ : أي : فلمَّا رأى زوجها قميصه قُدّ من دُبُرٍ ؛ عرف خيانة امرأته، وبراءة يوسف صلوات الله وسلامه عليه قال لها :" إنَّهُ "، هذا الصَّنِيعُ، أو قولك ﴿ ما جزاء من أراد بأهلك سوءاً ﴾ ﴿ مِن كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ ﴾ وقيل : هذا من قول الشاهد.
فإن قيل : إنه تعالى قال :﴿ وَخُلِقَ الإنسان ضَعِيفاً ﴾ [ الإنسان : ٢٨ ] فكيف وصف كيد المرأة بالعظيم، وأيضاً : فيكدُ الرِّجال قد يزيدُ على كيد النِّساءِ ؟.
فالجواب عن الأوَّل : أن خلقة الإنسان بالنِّسبة إلى خلقة الملائكة، والسموات، والكواكب خلقة ضعيفة، وكيد النسوان بالنسبة إلى كيد البشر عظيمٌ ؛ ولا منافاة بين القولين، وأيضاً : فالنِّساءُ لهُنَّ من هذا الباب من المكرِ، والحِيل، ما لا يكون للرجال ؛ لأنَّ كيدهنَّ في هذا الباب، يورث من العار ما لا يورثه كيدُ الرَّجال.
ولما ظهر للقوم براءةٌ يوسف عن ذلك الفعل قال زوجها ليوسف :" أعْرِضٍ عَنْ هَذَا " الحديث، فلا تذكرة لأحدٍ حتى لا ينتشر، ولا يحصلُ العارُ العظيم وقيل : إنَّهُ من قول الشَّاهد. ثم قال للمرأة [ " واستغفري لِذنبكِ " إي : إلى الله ﴿ إِنَّكِ كُنتِ مِنَ الخاطئين ﴾ وقيل هذا من قول الشاهد ] " واسْتَغفِري "، أي : اطلبي من زوجك المغفرة، والصَّفح ؛ حتَّى لا يعاقبك.
قال أبو بكرٍ الأصمُّ : إنَّ ذلك الزوج كان قليل الغيرةِ، فاكتفى منها بالاستغفار وقيل : إنَّ الله تعالى عزَّ وجلَّ سلبه الغيرة لطفاً بيوسف، حتى كفى بادرته وحلم عنها.
قال الزمخشري :" وإنما قال :﴿ مِنَ الخاطئين ﴾ ؛ تغليباً للذكور على الإناث " ويحتملُ أن يقال : إنك من قبيل الخاطئين، فمن ذلك القبيل جرى ذلك العرفُ فيك.
قال البغوي رحمه الله : تقديره : إنَّك من القوم الخاطئين، ولم يقصد به الخبر عن النِّساء ؛ بل قصد الخبر عن كُلِّ من يعفعلُ ذلك ؛ كقوله تعالى :﴿ وَكَانَتْ مِنَ القانتين ﴾ [ التحريم : ١٢ ]، وبيانه قوله :﴿ إِنَّهَا كَانَتْ مِن قَوْمٍ كَافِرِينَ ﴾ [ النمل : ٤٣ ].
قوله تعالى :" يُوسُفُ "، منادى محذوفٌ منه حرفُ النداءِ. قال الزمشخريُّ :" لأنه منادى قريب مقاطن للحديث، وفيه تقريبٌ له، وتلطيفٌ بمحله " انتهى.
وكُلُّ منادي يجوز حذف حرفُ النِّداء منه، إلا الجلالة المعظمة، واسم الجنس غالباً، والمستغاثَ، والمندوب، واسم الإشارة عند البصريين، وفي المضمر إذا نودِيَ.
والجمهورُ على ضمِّ فاءِ يوسف عليه الصلاة والسلام ؛ لكونه مفرداً معرفةً، وقرأ الأعمش بفتحها، وقيل لم تثبت هذه القراءة عنه، وعلى تقدير ثبوتها، فقال أبو البقاء : فيها وجهان :
أحدهما : أن يكون أخرجه على أصل المنادى ؛ كما جاء في الشِّعر :[ الخفيف ]
٣٠٧٨. . . . . . . . . . . . . . . . . . | يَا عَدِيًّا لقَدْ وقَتْكَ الأوَاقِي |
والثاني، وجعله الأشبه : أن يكون وقف على الكلمة، ثم وصل، وأجرى الوصل مجرى الوقف ؛ فألقى حركة الهمزة على الفاء، وحذفها ؛ فصار اللفظ بها :" يُوسفَ أعْرض " ؛ وهذا كما حي :" اللهُ أكبرَ، أشْهَدَ ألاّ "، بالوصلِ والفتح في الجلالةِ وفي " أكْبر "، وفي أشْهد " ؛ وذلك أنه قدَّر الوقف على كل كلمة من هذا الكلم، وألقى حركة الهمزة [ من ] كل من الكلمِ الثَّلاث، على السَّاكن قبله، وأجرى الوصل مجرى الوقف في ذلك.
والذي حكوه الناسُ، إنَّما هو في " أكْبَر " خاصَّة ؛ لأنَّها مظنة الوقف، و تقدم ذلك في سورة آل عمران [ الآية : ١ ].
ورىء " يُوسفُ أعْرضَ " بضمِّ الفاءِ، و " أعْرضَ " فعلاً ماضياً، وتخريجها أن يكون " يُوسفُ " مبتدأ، و "
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٢٦:ولما لطَّخت عرض يوصف بهذا الكلام احتاج يوسف إلى إزالة هذه التهمة فقال :﴿ هي راودتني عن نفسي ﴾ واعلم أنَّ العلاماتِ الكثيرة دالةٌ على صدق يوسف :
منها : أنَّ يوسف عليه السلام في ظاهر الأمر كان عبداً لهم، والعبد لا يمكنه أن يتسلط على مولاه إلى هذه الحدّ.
ومنها : أنَّهم شاهدوا يوسف هارباً ليخرج، والطالبُ للمرأة لا يخرج من الدَّار على هذا الوجه.
ومنها : أنهم رأوا المرأة زينت نفسها على أكمل الوجوه، ويوسف لم يكن عليه أثر من آثار تزيين النَّفس.
ومنها : أنَّهم كانوا شاهدوا أحوال يوسف في المُدَّة الطَّويلة، فما رأوا عليه حالة تناسب إقدامه على مثل هذا الفعل المنكر.
ومنها : أنَّ المرأة ما نسبته إلى طلب الفاحشة على سبيل التصريح، بل ذكرت كلاماً مجملاً، وأما يوسف فإنَّه صرَّح بالأمر، ولو كان مطاوعاً لها، ما قدر على التَّصريح، فإنَّ الخائنَ خائفٌ.
وكلُّ هذه الوجوه مما يقوِّي غلبة الظن ببراءة يوسف في هذه المسألة، ثم إنَّه تعالى أظهر ليوسف دليلاً يقوي تلك الدَّلائل على براءته من الذَّنب، وأن المرأة هي المذنبة وهو قوله تعالى :﴿ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّنْ أَهْلِهَآ ﴾ فقوله :" مِنْ أهْلِهَا " صفة ل :" شَاهِدٌ "، وهو المسوغ لمجيء الفاعل من لفظ الفعل، إذْ لا يجوزُ قام القائم، ولا : قعد القاعدُ، لعدم الفائدةِ.
واختلفوا في ذلك الشَّاهد على ثلاثةِ أقوالٍ :
الأول : أنه كان ابن عمَّها، وكان رجلاً حكيماً، واتَّفق في ذلك الوقت أنَّهُ كان ممع زوجها، يريد أن يدخل عليها، وفقال الحكيمُ :﴿ إنْ كَانَ قَميصهُ قُدَّ مِنْ قُبلِ ﴾، فأت صادقة، والرَّجلُ كاذبٌ، ﴿ وإنْ كانَ قَمِيصهُ قُدَّ مِنْ دُبرٍ ﴾، فالرَّجلُ صادقٌ، وأنت كاذبة فلما نظرُوا إلى القميصِ رأوا الشقَّ من خلفه، قال ابن عمِّها :﴿ إِنَّهُ مِن كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ ﴾ [ اي : من عَملكن ] ثم قال ليوسف :" أعْرِضْ عَنْ هَذَا " أي اكتمهُ، وقال لها :﴿ واستغفري لِذَنبِكِ ﴾، وهذا قولُ السدي، وطائفة من المفسرين.
قال السُّهيلي : وهذا من باب الحكم بالأمارات، وله أصلٌ في الشَّرعِ، قال تعالى :﴿ وَجَآءُوا على قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ ﴾ [ يوسف : ١٨ ] حيثُ لا أثر لأنياب الذئب فيه، وقال تعالى :﴿ إِن كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الكَاذِبِينَ ﴾ وقال عليه الصلاة والسلام في الحدّ :" انْظرُوا فإنْ جَاءَتْ بِهِ أبْيضَ خَالياً فَهُو للَّذي رُمِيَتْ بِهِ ".
قال السهيلي : كان عامر بن الظرف العدوانيُّ لا يكون بين العرب ثائر إلا تحاكموا إليه فيرضون بما يقضي به، فتحاكموا إليه في ميراث خنثى بات ليلة ساهراً يرى ماذا يحم به ؟ فرأته جارية له ترعى، وكان اسمها سخيلة، فقالت له : ما لك، لا أبا لك اللَّيلة ساهِراً ؛ فذكر لها ما هو مفكر فيه، وقال : لعلها يكون عندها في ذلك شيء، فقالت له :" اتْبَع القضاء المَبال " فقال : فرجتها والله يا سخيلة، وحكم بذلك القول.
القول الثاني : منقولٌ عن ابن عبَّاسٍ، وسعيد بن جبيرٍ، والضحاك رضي الله عنهم أن ذلك الشَّاهد كان صبيًّا في المهد، أنطقه اللهُ.
قال ابن عبًّاس رضي الله عنه : تكلَّم في المهدِ ثلاثةُ صغارٍ : شاهدُ يوسف، وعيسى ابن مريم عليه السلام، وصاحبُ جريج الرَّاهب.
قال الجبائيُّ : القول الأول أولى لوجوه :
الأول : أنَّه سبحانه وتعالى لو أنطق الطفل بهذا الكلام، لكان مجرد قوله :" إنَّها كَاذبةٌ " كافياً، وبرهاناً قاطعاً ؛ لأنَّه من المعجزات العجيبة الباهرة والاستدلال بتمزيق القميص من قُبُل ومن دُبُرٍ دليل ظنيّ ضعيف، والعدول عن الحجَّة الواضحة القاطعة حال حصولها إلى الدلالة الظَّنية لا يجوزُ.
الثاني : أنه تبارك وتعالى قال :﴿ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّنْ أَهْلِهَآ ﴾ يشيرُ بذلك إلى أنَّ شهادة الشَّاهد على قريبه، أولى بالقبولِ من شهادته له ؛ لأن الظاهر من حال القريب أن يشهد لقريبه، لا أن يشهد عليه، وهذا التَّرجيحُ إنما يُصَارُ إليه إذا كانت دلالة الشَّهادة ظنية، وذلك إنَّما يكون في شهادة الرجل، ولو يكون هذا القول صادراً من الصَّبي الذي كان في المهد، لكان قوله حجَّة قاطعة، ولا يتفاوتُ الحال بين أن يكون من أهلها، وبين ألا يكون، وحينئذٍ لا يبقى لهذا القيد وجه.
الثالث : أن لفظ الشَّاهد لا يقعُ في العرف، إلا على من تقدَّمت معرفته بالواقعة، وإحاطته بها.
القول الثالث : أن هذا الشاهد هو القميص، قال مجاهد رضي الله عنه الشاهد :" قُدَّ قيمصه من دُبُر "، وهذا في غاية الضعف ؛ لأن القميص لا يوصف بهذا ولا ينسب إلى الأهل.
واعلم أنَّ القول الأول عليه إشكال، وذلك أنَّ العلامة المذكورة لا تدلُّ قطعاً على براءة يوسف من المعصية ؛ لأن من المحتملِ أنَّ الرجل قصد المرأة لطلب الزِّنا، والمرأة غضبت عليه، فهرب الرجل، فعدتِ المرأةُ خلف الرجل، وجذبته لقصد أن تضربه ضرباً وجيعاً، فعلى هذا الوجه يكون قدُّ القميص من دبرٍ، مع أنَّ المرأة تكون بريئة عن [ الذنب ] وأنَّ الرجل يكون مذنباً.
جوابه : أنَّا بيَّنا أنَّ علامات كذب المرأة كانت كثيرة بالغة مبلغ اليقين، فضمّ إليها هذه العلامة الأخرى، لا لأجل أن يُعوِّلُوا في الحكم عليها، بل لأجل أن يكون ذلك جارياً مجرى المقدمات، والمرجّحات.
قوله :" إنْ كَانَ... " هذه الجملة الشرطية، إما معمولةٌ لقولٍ مضمر تقديره :" فقال " إن كان عند البصريين، وإمَّا معمولة " لِشَهدِ " ؛ لأنه بمعنى القول عند الكوفيين. قوله " مِنْ دُبرٍ.. "، و " مِنْ قُبُلٍ... " قرأ العامَّة جميع ذلك بضمتين، والجر والتنوين، بمعنى : من خلف، من قدام، أي : من خلف القميص، وقدامه وقرأ الحسن، وأبو عمرو في رواية بتسكين لعين تخفيفاً، وهي لغة الحجاز، وأسد، وقرأ ابن يعمر، وابن أبي إسحاق [ والعطاردي والجارود بثلاث ضمات، وروي عن الجارود وابن أبي إسحاق وبن يعمر ] أيضاً بسكون العين وبنائها على الضم ووجه ضمهما : أنَّهم جعلوهما ك " قَبلُ، وبعْدُ " في بنائها على الضم عند قطعهما عن الإضافة، فجعلوهما غاية، ومعنى الغاية : أن يجعل المضاف غاية نفسه، بعد ما كان المضاف إليه غايته، والأصل إعرابهما ؛ لأنَّهما اسمان متمكنان، وليسا بظرفين.
قال أبو حاتم : وهذا رديءٌ في العربية، وإنما هذا البناء في الظروف.
وقال الزمخشري :" والمعنى : من قبل القميص، ومن دُبرهِ، وأما التنكيرُ فمعناه : من جهةٍ يقال لها قبلٌ، ومن جهة يقال لها دبرٌ " وعن ابن أبي إسحاق : أنَّهُ قرأ " مِنْ قُبْلَ "، و " مِنْ دُبْرَ " بالفتح كأنَّه جعلهما علمين للجهتين، فمنعهما الصرف للعملية، والتَّأنيث، وقد تقدم [ البقرة : ٢٣٥ ] الخلاف في " كان " الواقعة في حيز الشرط، هل تبقى على معناها من المضي، وإليه ذهب المبرِّدُ، أم تنقلب إلى الاستقبال كسائر الأفعالِ، وأنَّ المعنى على التَّبيينِ ؟.
قوله :" فَكذَبَتْ "، و " صَدقَتْ " على إضمار " قَدْ "، لأنها تقرب الماضي من الحالِ، هذا إذا كان الماضي متصرِّفاص، فأما إذا كان جامداً، فلا يحتاجُ إلى " قَدْ " لا لفظاً، ولا تقديراً.
قوله :﴿ فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ ﴾ : أي : فلمَّا رأى زوجها قميصه قُدّ من دُبُرٍ ؛ عرف خيانة امرأته، وبراءة يوسف صلوات الله وسلامه عليه قال لها :" إنَّهُ "، هذا الصَّنِيعُ، أو قولك ﴿ ما جزاء من أراد بأهلك سوءاً ﴾ ﴿ مِن كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ ﴾ وقيل : هذا من قول الشاهد.
فإن قيل : إنه تعالى قال :﴿ وَخُلِقَ الإنسان ضَعِيفاً ﴾ [ الإنسان : ٢٨ ] فكيف وصف كيد المرأة بالعظيم، وأيضاً : فيكدُ الرِّجال قد يزيدُ على كيد النِّساءِ ؟.
فالجواب عن الأوَّل : أن خلقة الإنسان بالنِّسبة إلى خلقة الملائكة، والسموات، والكواكب خلقة ضعيفة، وكيد النسوان بالنسبة إلى كيد البشر عظيمٌ ؛ ولا منافاة بين القولين، وأيضاً : فالنِّساءُ لهُنَّ من هذا الباب من المكرِ، والحِيل، ما لا يكون للرجال ؛ لأنَّ كيدهنَّ في هذا الباب، يورث من العار ما لا يورثه كيدُ الرَّجال.
ولما ظهر للقوم براءةٌ يوسف عن ذلك الفعل قال زوجها ليوسف :" أعْرِضٍ عَنْ هَذَا " الحديث، فلا تذكرة لأحدٍ حتى لا ينتشر، ولا يحصلُ العارُ العظيم وقيل : إنَّهُ من قول الشَّاهد. ثم قال للمرأة [ " واستغفري لِذنبكِ " إي : إلى الله ﴿ إِنَّكِ كُنتِ مِنَ الخاطئين ﴾ وقيل هذا من قول الشاهد ] " واسْتَغفِري "، أي : اطلبي من زوجك المغفرة، والصَّفح ؛ حتَّى لا يعاقبك.
قال أبو بكرٍ الأصمُّ : إنَّ ذلك الزوج كان قليل الغيرةِ، فاكتفى منها بالاستغفار وقيل : إنَّ الله تعالى عزَّ وجلَّ سلبه الغيرة لطفاً بيوسف، حتى كفى بادرته وحلم عنها.
قال الزمخشري :" وإنما قال :﴿ مِنَ الخاطئين ﴾ ؛ تغليباً للذكور على الإناث " ويحتملُ أن يقال : إنك من قبيل الخاطئين، فمن ذلك القبيل جرى ذلك العرفُ فيك.
قال البغوي رحمه الله : تقديره : إنَّك من القوم الخاطئين، ولم يقصد به الخبر عن النِّساء ؛ بل قصد الخبر عن كُلِّ من يعفعلُ ذلك ؛ كقوله تعالى :﴿ وَكَانَتْ مِنَ القانتين ﴾ [ التحريم : ١٢ ]، وبيانه قوله :﴿ إِنَّهَا كَانَتْ مِن قَوْمٍ كَافِرِينَ ﴾ [ النمل : ٤٣ ].
قوله تعالى :" يُوسُفُ "، منادى محذوفٌ منه حرفُ النداءِ. قال الزمشخريُّ :" لأنه منادى قريب مقاطن للحديث، وفيه تقريبٌ له، وتلطيفٌ بمحله " انتهى.
وكُلُّ منادي يجوز حذف حرفُ النِّداء منه، إلا الجلالة المعظمة، واسم الجنس غالباً، والمستغاثَ، والمندوب، واسم الإشارة عند البصريين، وفي المضمر إذا نودِيَ.
والجمهورُ على ضمِّ فاءِ يوسف عليه الصلاة والسلام ؛ لكونه مفرداً معرفةً، وقرأ الأعمش بفتحها، وقيل لم تثبت هذه القراءة عنه، وعلى تقدير ثبوتها، فقال أبو البقاء : فيها وجهان :
أحدهما : أن يكون أخرجه على أصل المنادى ؛ كما جاء في الشِّعر :[ الخفيف ]
يريد بأصلِ المنادى : أنه مفعولٌ به، فحقه النصب ؛ كالبيت الذي أنشده، واتفق أن يوسف لا ينصرف، ففتحته فتحةُ إعرابٍ.
والثاني، وجعله الأشبه : أن يكون وقف على الكلمة، ثم وصل، وأجرى الوصل مجرى الوقف ؛ فألقى حركة الهمزة على الفاء، وحذفها ؛ فصار اللفظ بها :" يُوسفَ أعْرض " ؛ وهذا كما حي :" اللهُ أكبرَ، أشْهَدَ ألاّ "، بالوصلِ والفتح في الجلالةِ وفي " أكْبر "، وفي أشْهد " ؛ وذلك أنه قدَّر الوقف على كل كلمة من هذا الكلم، وألقى حركة الهمزة [ من ] كل من الكلمِ الثَّلاث، على السَّاكن قبله، وأجرى الوصل مجرى الوقف في ذلك.
والذي حكوه الناسُ، إنَّما هو في " أكْبَر " خاصَّة ؛ لأنَّها مظنة الوقف، و تقدم ذلك في سورة آل عمران [ الآية : ١ ].
ورىء " يُوسفُ أعْرضَ " بضمِّ الفاءِ، و " أعْرضَ " فعلاً ماضياً، وتخريجها أن يكون " يُوسفُ " مبتدأ، و "
منها : أنَّ يوسف عليه السلام في ظاهر الأمر كان عبداً لهم، والعبد لا يمكنه أن يتسلط على مولاه إلى هذه الحدّ.
ومنها : أنَّهم شاهدوا يوسف هارباً ليخرج، والطالبُ للمرأة لا يخرج من الدَّار على هذا الوجه.
ومنها : أنهم رأوا المرأة زينت نفسها على أكمل الوجوه، ويوسف لم يكن عليه أثر من آثار تزيين النَّفس.
ومنها : أنَّهم كانوا شاهدوا أحوال يوسف في المُدَّة الطَّويلة، فما رأوا عليه حالة تناسب إقدامه على مثل هذا الفعل المنكر.
ومنها : أنَّ المرأة ما نسبته إلى طلب الفاحشة على سبيل التصريح، بل ذكرت كلاماً مجملاً، وأما يوسف فإنَّه صرَّح بالأمر، ولو كان مطاوعاً لها، ما قدر على التَّصريح، فإنَّ الخائنَ خائفٌ.
وكلُّ هذه الوجوه مما يقوِّي غلبة الظن ببراءة يوسف في هذه المسألة، ثم إنَّه تعالى أظهر ليوسف دليلاً يقوي تلك الدَّلائل على براءته من الذَّنب، وأن المرأة هي المذنبة وهو قوله تعالى :﴿ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّنْ أَهْلِهَآ ﴾ فقوله :" مِنْ أهْلِهَا " صفة ل :" شَاهِدٌ "، وهو المسوغ لمجيء الفاعل من لفظ الفعل، إذْ لا يجوزُ قام القائم، ولا : قعد القاعدُ، لعدم الفائدةِ.
واختلفوا في ذلك الشَّاهد على ثلاثةِ أقوالٍ :
الأول : أنه كان ابن عمَّها، وكان رجلاً حكيماً، واتَّفق في ذلك الوقت أنَّهُ كان ممع زوجها، يريد أن يدخل عليها، وفقال الحكيمُ :﴿ إنْ كَانَ قَميصهُ قُدَّ مِنْ قُبلِ ﴾، فأت صادقة، والرَّجلُ كاذبٌ، ﴿ وإنْ كانَ قَمِيصهُ قُدَّ مِنْ دُبرٍ ﴾، فالرَّجلُ صادقٌ، وأنت كاذبة فلما نظرُوا إلى القميصِ رأوا الشقَّ من خلفه، قال ابن عمِّها :﴿ إِنَّهُ مِن كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ ﴾ [ اي : من عَملكن ] ثم قال ليوسف :" أعْرِضْ عَنْ هَذَا " أي اكتمهُ، وقال لها :﴿ واستغفري لِذَنبِكِ ﴾، وهذا قولُ السدي، وطائفة من المفسرين.
قال السُّهيلي : وهذا من باب الحكم بالأمارات، وله أصلٌ في الشَّرعِ، قال تعالى :﴿ وَجَآءُوا على قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ ﴾ [ يوسف : ١٨ ] حيثُ لا أثر لأنياب الذئب فيه، وقال تعالى :﴿ إِن كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الكَاذِبِينَ ﴾ وقال عليه الصلاة والسلام في الحدّ :" انْظرُوا فإنْ جَاءَتْ بِهِ أبْيضَ خَالياً فَهُو للَّذي رُمِيَتْ بِهِ ".
قال السهيلي : كان عامر بن الظرف العدوانيُّ لا يكون بين العرب ثائر إلا تحاكموا إليه فيرضون بما يقضي به، فتحاكموا إليه في ميراث خنثى بات ليلة ساهراً يرى ماذا يحم به ؟ فرأته جارية له ترعى، وكان اسمها سخيلة، فقالت له : ما لك، لا أبا لك اللَّيلة ساهِراً ؛ فذكر لها ما هو مفكر فيه، وقال : لعلها يكون عندها في ذلك شيء، فقالت له :" اتْبَع القضاء المَبال " فقال : فرجتها والله يا سخيلة، وحكم بذلك القول.
القول الثاني : منقولٌ عن ابن عبَّاسٍ، وسعيد بن جبيرٍ، والضحاك رضي الله عنهم أن ذلك الشَّاهد كان صبيًّا في المهد، أنطقه اللهُ.
قال ابن عبًّاس رضي الله عنه : تكلَّم في المهدِ ثلاثةُ صغارٍ : شاهدُ يوسف، وعيسى ابن مريم عليه السلام، وصاحبُ جريج الرَّاهب.
قال الجبائيُّ : القول الأول أولى لوجوه :
الأول : أنَّه سبحانه وتعالى لو أنطق الطفل بهذا الكلام، لكان مجرد قوله :" إنَّها كَاذبةٌ " كافياً، وبرهاناً قاطعاً ؛ لأنَّه من المعجزات العجيبة الباهرة والاستدلال بتمزيق القميص من قُبُل ومن دُبُرٍ دليل ظنيّ ضعيف، والعدول عن الحجَّة الواضحة القاطعة حال حصولها إلى الدلالة الظَّنية لا يجوزُ.
الثاني : أنه تبارك وتعالى قال :﴿ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّنْ أَهْلِهَآ ﴾ يشيرُ بذلك إلى أنَّ شهادة الشَّاهد على قريبه، أولى بالقبولِ من شهادته له ؛ لأن الظاهر من حال القريب أن يشهد لقريبه، لا أن يشهد عليه، وهذا التَّرجيحُ إنما يُصَارُ إليه إذا كانت دلالة الشَّهادة ظنية، وذلك إنَّما يكون في شهادة الرجل، ولو يكون هذا القول صادراً من الصَّبي الذي كان في المهد، لكان قوله حجَّة قاطعة، ولا يتفاوتُ الحال بين أن يكون من أهلها، وبين ألا يكون، وحينئذٍ لا يبقى لهذا القيد وجه.
الثالث : أن لفظ الشَّاهد لا يقعُ في العرف، إلا على من تقدَّمت معرفته بالواقعة، وإحاطته بها.
القول الثالث : أن هذا الشاهد هو القميص، قال مجاهد رضي الله عنه الشاهد :" قُدَّ قيمصه من دُبُر "، وهذا في غاية الضعف ؛ لأن القميص لا يوصف بهذا ولا ينسب إلى الأهل.
واعلم أنَّ القول الأول عليه إشكال، وذلك أنَّ العلامة المذكورة لا تدلُّ قطعاً على براءة يوسف من المعصية ؛ لأن من المحتملِ أنَّ الرجل قصد المرأة لطلب الزِّنا، والمرأة غضبت عليه، فهرب الرجل، فعدتِ المرأةُ خلف الرجل، وجذبته لقصد أن تضربه ضرباً وجيعاً، فعلى هذا الوجه يكون قدُّ القميص من دبرٍ، مع أنَّ المرأة تكون بريئة عن [ الذنب ] وأنَّ الرجل يكون مذنباً.
جوابه : أنَّا بيَّنا أنَّ علامات كذب المرأة كانت كثيرة بالغة مبلغ اليقين، فضمّ إليها هذه العلامة الأخرى، لا لأجل أن يُعوِّلُوا في الحكم عليها، بل لأجل أن يكون ذلك جارياً مجرى المقدمات، والمرجّحات.
قوله :" إنْ كَانَ... " هذه الجملة الشرطية، إما معمولةٌ لقولٍ مضمر تقديره :" فقال " إن كان عند البصريين، وإمَّا معمولة " لِشَهدِ " ؛ لأنه بمعنى القول عند الكوفيين. قوله " مِنْ دُبرٍ.. "، و " مِنْ قُبُلٍ... " قرأ العامَّة جميع ذلك بضمتين، والجر والتنوين، بمعنى : من خلف، من قدام، أي : من خلف القميص، وقدامه وقرأ الحسن، وأبو عمرو في رواية بتسكين لعين تخفيفاً، وهي لغة الحجاز، وأسد، وقرأ ابن يعمر، وابن أبي إسحاق [ والعطاردي والجارود بثلاث ضمات، وروي عن الجارود وابن أبي إسحاق وبن يعمر ] أيضاً بسكون العين وبنائها على الضم ووجه ضمهما : أنَّهم جعلوهما ك " قَبلُ، وبعْدُ " في بنائها على الضم عند قطعهما عن الإضافة، فجعلوهما غاية، ومعنى الغاية : أن يجعل المضاف غاية نفسه، بعد ما كان المضاف إليه غايته، والأصل إعرابهما ؛ لأنَّهما اسمان متمكنان، وليسا بظرفين.
قال أبو حاتم : وهذا رديءٌ في العربية، وإنما هذا البناء في الظروف.
وقال الزمخشري :" والمعنى : من قبل القميص، ومن دُبرهِ، وأما التنكيرُ فمعناه : من جهةٍ يقال لها قبلٌ، ومن جهة يقال لها دبرٌ " وعن ابن أبي إسحاق : أنَّهُ قرأ " مِنْ قُبْلَ "، و " مِنْ دُبْرَ " بالفتح كأنَّه جعلهما علمين للجهتين، فمنعهما الصرف للعملية، والتَّأنيث، وقد تقدم [ البقرة : ٢٣٥ ] الخلاف في " كان " الواقعة في حيز الشرط، هل تبقى على معناها من المضي، وإليه ذهب المبرِّدُ، أم تنقلب إلى الاستقبال كسائر الأفعالِ، وأنَّ المعنى على التَّبيينِ ؟.
قوله :" فَكذَبَتْ "، و " صَدقَتْ " على إضمار " قَدْ "، لأنها تقرب الماضي من الحالِ، هذا إذا كان الماضي متصرِّفاص، فأما إذا كان جامداً، فلا يحتاجُ إلى " قَدْ " لا لفظاً، ولا تقديراً.
قوله :﴿ فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ ﴾ : أي : فلمَّا رأى زوجها قميصه قُدّ من دُبُرٍ ؛ عرف خيانة امرأته، وبراءة يوسف صلوات الله وسلامه عليه قال لها :" إنَّهُ "، هذا الصَّنِيعُ، أو قولك ﴿ ما جزاء من أراد بأهلك سوءاً ﴾ ﴿ مِن كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ ﴾ وقيل : هذا من قول الشاهد.
فإن قيل : إنه تعالى قال :﴿ وَخُلِقَ الإنسان ضَعِيفاً ﴾ [ الإنسان : ٢٨ ] فكيف وصف كيد المرأة بالعظيم، وأيضاً : فيكدُ الرِّجال قد يزيدُ على كيد النِّساءِ ؟.
فالجواب عن الأوَّل : أن خلقة الإنسان بالنِّسبة إلى خلقة الملائكة، والسموات، والكواكب خلقة ضعيفة، وكيد النسوان بالنسبة إلى كيد البشر عظيمٌ ؛ ولا منافاة بين القولين، وأيضاً : فالنِّساءُ لهُنَّ من هذا الباب من المكرِ، والحِيل، ما لا يكون للرجال ؛ لأنَّ كيدهنَّ في هذا الباب، يورث من العار ما لا يورثه كيدُ الرَّجال.
ولما ظهر للقوم براءةٌ يوسف عن ذلك الفعل قال زوجها ليوسف :" أعْرِضٍ عَنْ هَذَا " الحديث، فلا تذكرة لأحدٍ حتى لا ينتشر، ولا يحصلُ العارُ العظيم وقيل : إنَّهُ من قول الشَّاهد. ثم قال للمرأة [ " واستغفري لِذنبكِ " إي : إلى الله ﴿ إِنَّكِ كُنتِ مِنَ الخاطئين ﴾ وقيل هذا من قول الشاهد ] " واسْتَغفِري "، أي : اطلبي من زوجك المغفرة، والصَّفح ؛ حتَّى لا يعاقبك.
قال أبو بكرٍ الأصمُّ : إنَّ ذلك الزوج كان قليل الغيرةِ، فاكتفى منها بالاستغفار وقيل : إنَّ الله تعالى عزَّ وجلَّ سلبه الغيرة لطفاً بيوسف، حتى كفى بادرته وحلم عنها.
قال الزمخشري :" وإنما قال :﴿ مِنَ الخاطئين ﴾ ؛ تغليباً للذكور على الإناث " ويحتملُ أن يقال : إنك من قبيل الخاطئين، فمن ذلك القبيل جرى ذلك العرفُ فيك.
قال البغوي رحمه الله : تقديره : إنَّك من القوم الخاطئين، ولم يقصد به الخبر عن النِّساء ؛ بل قصد الخبر عن كُلِّ من يعفعلُ ذلك ؛ كقوله تعالى :﴿ وَكَانَتْ مِنَ القانتين ﴾ [ التحريم : ١٢ ]، وبيانه قوله :﴿ إِنَّهَا كَانَتْ مِن قَوْمٍ كَافِرِينَ ﴾ [ النمل : ٤٣ ].
قوله تعالى :" يُوسُفُ "، منادى محذوفٌ منه حرفُ النداءِ. قال الزمشخريُّ :" لأنه منادى قريب مقاطن للحديث، وفيه تقريبٌ له، وتلطيفٌ بمحله " انتهى.
وكُلُّ منادي يجوز حذف حرفُ النِّداء منه، إلا الجلالة المعظمة، واسم الجنس غالباً، والمستغاثَ، والمندوب، واسم الإشارة عند البصريين، وفي المضمر إذا نودِيَ.
والجمهورُ على ضمِّ فاءِ يوسف عليه الصلاة والسلام ؛ لكونه مفرداً معرفةً، وقرأ الأعمش بفتحها، وقيل لم تثبت هذه القراءة عنه، وعلى تقدير ثبوتها، فقال أبو البقاء : فيها وجهان :
أحدهما : أن يكون أخرجه على أصل المنادى ؛ كما جاء في الشِّعر :[ الخفيف ]
٣٠٧٨.................. | يَا عَدِيًّا لقَدْ وقَتْكَ الأوَاقِي |
والثاني، وجعله الأشبه : أن يكون وقف على الكلمة، ثم وصل، وأجرى الوصل مجرى الوقف ؛ فألقى حركة الهمزة على الفاء، وحذفها ؛ فصار اللفظ بها :" يُوسفَ أعْرض " ؛ وهذا كما حي :" اللهُ أكبرَ، أشْهَدَ ألاّ "، بالوصلِ والفتح في الجلالةِ وفي " أكْبر "، وفي أشْهد " ؛ وذلك أنه قدَّر الوقف على كل كلمة من هذا الكلم، وألقى حركة الهمزة [ من ] كل من الكلمِ الثَّلاث، على السَّاكن قبله، وأجرى الوصل مجرى الوقف في ذلك.
والذي حكوه الناسُ، إنَّما هو في " أكْبَر " خاصَّة ؛ لأنَّها مظنة الوقف، و تقدم ذلك في سورة آل عمران [ الآية : ١ ].
ورىء " يُوسفُ أعْرضَ " بضمِّ الفاءِ، و " أعْرضَ " فعلاً ماضياً، وتخريجها أن يكون " يُوسفُ " مبتدأ، و "
ت٢٦
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٢٦:ولما لطَّخت عرض يوصف بهذا الكلام احتاج يوسف إلى إزالة هذه التهمة فقال :﴿ هي راودتني عن نفسي ﴾ واعلم أنَّ العلاماتِ الكثيرة دالةٌ على صدق يوسف :
منها : أنَّ يوسف عليه السلام في ظاهر الأمر كان عبداً لهم، والعبد لا يمكنه أن يتسلط على مولاه إلى هذه الحدّ.
ومنها : أنَّهم شاهدوا يوسف هارباً ليخرج، والطالبُ للمرأة لا يخرج من الدَّار على هذا الوجه.
ومنها : أنهم رأوا المرأة زينت نفسها على أكمل الوجوه، ويوسف لم يكن عليه أثر من آثار تزيين النَّفس.
ومنها : أنَّهم كانوا شاهدوا أحوال يوسف في المُدَّة الطَّويلة، فما رأوا عليه حالة تناسب إقدامه على مثل هذا الفعل المنكر.
ومنها : أنَّ المرأة ما نسبته إلى طلب الفاحشة على سبيل التصريح، بل ذكرت كلاماً مجملاً، وأما يوسف فإنَّه صرَّح بالأمر، ولو كان مطاوعاً لها، ما قدر على التَّصريح، فإنَّ الخائنَ خائفٌ.
وكلُّ هذه الوجوه مما يقوِّي غلبة الظن ببراءة يوسف في هذه المسألة، ثم إنَّه تعالى أظهر ليوسف دليلاً يقوي تلك الدَّلائل على براءته من الذَّنب، وأن المرأة هي المذنبة وهو قوله تعالى :﴿ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّنْ أَهْلِهَآ ﴾ فقوله :" مِنْ أهْلِهَا " صفة ل :" شَاهِدٌ "، وهو المسوغ لمجيء الفاعل من لفظ الفعل، إذْ لا يجوزُ قام القائم، ولا : قعد القاعدُ، لعدم الفائدةِ.
واختلفوا في ذلك الشَّاهد على ثلاثةِ أقوالٍ :
الأول : أنه كان ابن عمَّها، وكان رجلاً حكيماً، واتَّفق في ذلك الوقت أنَّهُ كان ممع زوجها، يريد أن يدخل عليها، وفقال الحكيمُ :﴿ إنْ كَانَ قَميصهُ قُدَّ مِنْ قُبلِ ﴾، فأت صادقة، والرَّجلُ كاذبٌ، ﴿ وإنْ كانَ قَمِيصهُ قُدَّ مِنْ دُبرٍ ﴾، فالرَّجلُ صادقٌ، وأنت كاذبة فلما نظرُوا إلى القميصِ رأوا الشقَّ من خلفه، قال ابن عمِّها :﴿ إِنَّهُ مِن كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ ﴾ [ اي : من عَملكن ] ثم قال ليوسف :" أعْرِضْ عَنْ هَذَا " أي اكتمهُ، وقال لها :﴿ واستغفري لِذَنبِكِ ﴾، وهذا قولُ السدي، وطائفة من المفسرين.
قال السُّهيلي : وهذا من باب الحكم بالأمارات، وله أصلٌ في الشَّرعِ، قال تعالى :﴿ وَجَآءُوا على قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ ﴾ [ يوسف : ١٨ ] حيثُ لا أثر لأنياب الذئب فيه، وقال تعالى :﴿ إِن كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الكَاذِبِينَ ﴾ وقال عليه الصلاة والسلام في الحدّ :" انْظرُوا فإنْ جَاءَتْ بِهِ أبْيضَ خَالياً فَهُو للَّذي رُمِيَتْ بِهِ ".
قال السهيلي : كان عامر بن الظرف العدوانيُّ لا يكون بين العرب ثائر إلا تحاكموا إليه فيرضون بما يقضي به، فتحاكموا إليه في ميراث خنثى بات ليلة ساهراً يرى ماذا يحم به ؟ فرأته جارية له ترعى، وكان اسمها سخيلة، فقالت له : ما لك، لا أبا لك اللَّيلة ساهِراً ؛ فذكر لها ما هو مفكر فيه، وقال : لعلها يكون عندها في ذلك شيء، فقالت له :" اتْبَع القضاء المَبال " فقال : فرجتها والله يا سخيلة، وحكم بذلك القول.
القول الثاني : منقولٌ عن ابن عبَّاسٍ، وسعيد بن جبيرٍ، والضحاك رضي الله عنهم أن ذلك الشَّاهد كان صبيًّا في المهد، أنطقه اللهُ.
قال ابن عبًّاس رضي الله عنه : تكلَّم في المهدِ ثلاثةُ صغارٍ : شاهدُ يوسف، وعيسى ابن مريم عليه السلام، وصاحبُ جريج الرَّاهب.
قال الجبائيُّ : القول الأول أولى لوجوه :
الأول : أنَّه سبحانه وتعالى لو أنطق الطفل بهذا الكلام، لكان مجرد قوله :" إنَّها كَاذبةٌ " كافياً، وبرهاناً قاطعاً ؛ لأنَّه من المعجزات العجيبة الباهرة والاستدلال بتمزيق القميص من قُبُل ومن دُبُرٍ دليل ظنيّ ضعيف، والعدول عن الحجَّة الواضحة القاطعة حال حصولها إلى الدلالة الظَّنية لا يجوزُ.
الثاني : أنه تبارك وتعالى قال :﴿ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّنْ أَهْلِهَآ ﴾ يشيرُ بذلك إلى أنَّ شهادة الشَّاهد على قريبه، أولى بالقبولِ من شهادته له ؛ لأن الظاهر من حال القريب أن يشهد لقريبه، لا أن يشهد عليه، وهذا التَّرجيحُ إنما يُصَارُ إليه إذا كانت دلالة الشَّهادة ظنية، وذلك إنَّما يكون في شهادة الرجل، ولو يكون هذا القول صادراً من الصَّبي الذي كان في المهد، لكان قوله حجَّة قاطعة، ولا يتفاوتُ الحال بين أن يكون من أهلها، وبين ألا يكون، وحينئذٍ لا يبقى لهذا القيد وجه.
الثالث : أن لفظ الشَّاهد لا يقعُ في العرف، إلا على من تقدَّمت معرفته بالواقعة، وإحاطته بها.
القول الثالث : أن هذا الشاهد هو القميص، قال مجاهد رضي الله عنه الشاهد :" قُدَّ قيمصه من دُبُر "، وهذا في غاية الضعف ؛ لأن القميص لا يوصف بهذا ولا ينسب إلى الأهل.
واعلم أنَّ القول الأول عليه إشكال، وذلك أنَّ العلامة المذكورة لا تدلُّ قطعاً على براءة يوسف من المعصية ؛ لأن من المحتملِ أنَّ الرجل قصد المرأة لطلب الزِّنا، والمرأة غضبت عليه، فهرب الرجل، فعدتِ المرأةُ خلف الرجل، وجذبته لقصد أن تضربه ضرباً وجيعاً، فعلى هذا الوجه يكون قدُّ القميص من دبرٍ، مع أنَّ المرأة تكون بريئة عن [ الذنب ] وأنَّ الرجل يكون مذنباً.
جوابه : أنَّا بيَّنا أنَّ علامات كذب المرأة كانت كثيرة بالغة مبلغ اليقين، فضمّ إليها هذه العلامة الأخرى، لا لأجل أن يُعوِّلُوا في الحكم عليها، بل لأجل أن يكون ذلك جارياً مجرى المقدمات، والمرجّحات.
قوله :" إنْ كَانَ... " هذه الجملة الشرطية، إما معمولةٌ لقولٍ مضمر تقديره :" فقال " إن كان عند البصريين، وإمَّا معمولة " لِشَهدِ " ؛ لأنه بمعنى القول عند الكوفيين. قوله " مِنْ دُبرٍ.. "، و " مِنْ قُبُلٍ... " قرأ العامَّة جميع ذلك بضمتين، والجر والتنوين، بمعنى : من خلف، من قدام، أي : من خلف القميص، وقدامه وقرأ الحسن، وأبو عمرو في رواية بتسكين لعين تخفيفاً، وهي لغة الحجاز، وأسد، وقرأ ابن يعمر، وابن أبي إسحاق [ والعطاردي والجارود بثلاث ضمات، وروي عن الجارود وابن أبي إسحاق وبن يعمر ] أيضاً بسكون العين وبنائها على الضم ووجه ضمهما : أنَّهم جعلوهما ك " قَبلُ، وبعْدُ " في بنائها على الضم عند قطعهما عن الإضافة، فجعلوهما غاية، ومعنى الغاية : أن يجعل المضاف غاية نفسه، بعد ما كان المضاف إليه غايته، والأصل إعرابهما ؛ لأنَّهما اسمان متمكنان، وليسا بظرفين.
قال أبو حاتم : وهذا رديءٌ في العربية، وإنما هذا البناء في الظروف.
وقال الزمخشري :" والمعنى : من قبل القميص، ومن دُبرهِ، وأما التنكيرُ فمعناه : من جهةٍ يقال لها قبلٌ، ومن جهة يقال لها دبرٌ " وعن ابن أبي إسحاق : أنَّهُ قرأ " مِنْ قُبْلَ "، و " مِنْ دُبْرَ " بالفتح كأنَّه جعلهما علمين للجهتين، فمنعهما الصرف للعملية، والتَّأنيث، وقد تقدم [ البقرة : ٢٣٥ ] الخلاف في " كان " الواقعة في حيز الشرط، هل تبقى على معناها من المضي، وإليه ذهب المبرِّدُ، أم تنقلب إلى الاستقبال كسائر الأفعالِ، وأنَّ المعنى على التَّبيينِ ؟.
قوله :" فَكذَبَتْ "، و " صَدقَتْ " على إضمار " قَدْ "، لأنها تقرب الماضي من الحالِ، هذا إذا كان الماضي متصرِّفاص، فأما إذا كان جامداً، فلا يحتاجُ إلى " قَدْ " لا لفظاً، ولا تقديراً.
قوله :﴿ فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ ﴾ : أي : فلمَّا رأى زوجها قميصه قُدّ من دُبُرٍ ؛ عرف خيانة امرأته، وبراءة يوسف صلوات الله وسلامه عليه قال لها :" إنَّهُ "، هذا الصَّنِيعُ، أو قولك ﴿ ما جزاء من أراد بأهلك سوءاً ﴾ ﴿ مِن كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ ﴾ وقيل : هذا من قول الشاهد.
فإن قيل : إنه تعالى قال :﴿ وَخُلِقَ الإنسان ضَعِيفاً ﴾ [ الإنسان : ٢٨ ] فكيف وصف كيد المرأة بالعظيم، وأيضاً : فيكدُ الرِّجال قد يزيدُ على كيد النِّساءِ ؟.
فالجواب عن الأوَّل : أن خلقة الإنسان بالنِّسبة إلى خلقة الملائكة، والسموات، والكواكب خلقة ضعيفة، وكيد النسوان بالنسبة إلى كيد البشر عظيمٌ ؛ ولا منافاة بين القولين، وأيضاً : فالنِّساءُ لهُنَّ من هذا الباب من المكرِ، والحِيل، ما لا يكون للرجال ؛ لأنَّ كيدهنَّ في هذا الباب، يورث من العار ما لا يورثه كيدُ الرَّجال.
ولما ظهر للقوم براءةٌ يوسف عن ذلك الفعل قال زوجها ليوسف :" أعْرِضٍ عَنْ هَذَا " الحديث، فلا تذكرة لأحدٍ حتى لا ينتشر، ولا يحصلُ العارُ العظيم وقيل : إنَّهُ من قول الشَّاهد. ثم قال للمرأة [ " واستغفري لِذنبكِ " إي : إلى الله ﴿ إِنَّكِ كُنتِ مِنَ الخاطئين ﴾ وقيل هذا من قول الشاهد ] " واسْتَغفِري "، أي : اطلبي من زوجك المغفرة، والصَّفح ؛ حتَّى لا يعاقبك.
قال أبو بكرٍ الأصمُّ : إنَّ ذلك الزوج كان قليل الغيرةِ، فاكتفى منها بالاستغفار وقيل : إنَّ الله تعالى عزَّ وجلَّ سلبه الغيرة لطفاً بيوسف، حتى كفى بادرته وحلم عنها.
قال الزمخشري :" وإنما قال :﴿ مِنَ الخاطئين ﴾ ؛ تغليباً للذكور على الإناث " ويحتملُ أن يقال : إنك من قبيل الخاطئين، فمن ذلك القبيل جرى ذلك العرفُ فيك.
قال البغوي رحمه الله : تقديره : إنَّك من القوم الخاطئين، ولم يقصد به الخبر عن النِّساء ؛ بل قصد الخبر عن كُلِّ من يعفعلُ ذلك ؛ كقوله تعالى :﴿ وَكَانَتْ مِنَ القانتين ﴾ [ التحريم : ١٢ ]، وبيانه قوله :﴿ إِنَّهَا كَانَتْ مِن قَوْمٍ كَافِرِينَ ﴾ [ النمل : ٤٣ ].
قوله تعالى :" يُوسُفُ "، منادى محذوفٌ منه حرفُ النداءِ. قال الزمشخريُّ :" لأنه منادى قريب مقاطن للحديث، وفيه تقريبٌ له، وتلطيفٌ بمحله " انتهى.
وكُلُّ منادي يجوز حذف حرفُ النِّداء منه، إلا الجلالة المعظمة، واسم الجنس غالباً، والمستغاثَ، والمندوب، واسم الإشارة عند البصريين، وفي المضمر إذا نودِيَ.
والجمهورُ على ضمِّ فاءِ يوسف عليه الصلاة والسلام ؛ لكونه مفرداً معرفةً، وقرأ الأعمش بفتحها، وقيل لم تثبت هذه القراءة عنه، وعلى تقدير ثبوتها، فقال أبو البقاء : فيها وجهان :
أحدهما : أن يكون أخرجه على أصل المنادى ؛ كما جاء في الشِّعر :[ الخفيف ]
يريد بأصلِ المنادى : أنه مفعولٌ به، فحقه النصب ؛ كالبيت الذي أنشده، واتفق أن يوسف لا ينصرف، ففتحته فتحةُ إعرابٍ.
والثاني، وجعله الأشبه : أن يكون وقف على الكلمة، ثم وصل، وأجرى الوصل مجرى الوقف ؛ فألقى حركة الهمزة على الفاء، وحذفها ؛ فصار اللفظ بها :" يُوسفَ أعْرض " ؛ وهذا كما حي :" اللهُ أكبرَ، أشْهَدَ ألاّ "، بالوصلِ والفتح في الجلالةِ وفي " أكْبر "، وفي أشْهد " ؛ وذلك أنه قدَّر الوقف على كل كلمة من هذا الكلم، وألقى حركة الهمزة [ من ] كل من الكلمِ الثَّلاث، على السَّاكن قبله، وأجرى الوصل مجرى الوقف في ذلك.
والذي حكوه الناسُ، إنَّما هو في " أكْبَر " خاصَّة ؛ لأنَّها مظنة الوقف، و تقدم ذلك في سورة آل عمران [ الآية : ١ ].
ورىء " يُوسفُ أعْرضَ " بضمِّ الفاءِ، و " أعْرضَ " فعلاً ماضياً، وتخريجها أن يكون " يُوسفُ " مبتدأ، و "
منها : أنَّ يوسف عليه السلام في ظاهر الأمر كان عبداً لهم، والعبد لا يمكنه أن يتسلط على مولاه إلى هذه الحدّ.
ومنها : أنَّهم شاهدوا يوسف هارباً ليخرج، والطالبُ للمرأة لا يخرج من الدَّار على هذا الوجه.
ومنها : أنهم رأوا المرأة زينت نفسها على أكمل الوجوه، ويوسف لم يكن عليه أثر من آثار تزيين النَّفس.
ومنها : أنَّهم كانوا شاهدوا أحوال يوسف في المُدَّة الطَّويلة، فما رأوا عليه حالة تناسب إقدامه على مثل هذا الفعل المنكر.
ومنها : أنَّ المرأة ما نسبته إلى طلب الفاحشة على سبيل التصريح، بل ذكرت كلاماً مجملاً، وأما يوسف فإنَّه صرَّح بالأمر، ولو كان مطاوعاً لها، ما قدر على التَّصريح، فإنَّ الخائنَ خائفٌ.
وكلُّ هذه الوجوه مما يقوِّي غلبة الظن ببراءة يوسف في هذه المسألة، ثم إنَّه تعالى أظهر ليوسف دليلاً يقوي تلك الدَّلائل على براءته من الذَّنب، وأن المرأة هي المذنبة وهو قوله تعالى :﴿ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّنْ أَهْلِهَآ ﴾ فقوله :" مِنْ أهْلِهَا " صفة ل :" شَاهِدٌ "، وهو المسوغ لمجيء الفاعل من لفظ الفعل، إذْ لا يجوزُ قام القائم، ولا : قعد القاعدُ، لعدم الفائدةِ.
واختلفوا في ذلك الشَّاهد على ثلاثةِ أقوالٍ :
الأول : أنه كان ابن عمَّها، وكان رجلاً حكيماً، واتَّفق في ذلك الوقت أنَّهُ كان ممع زوجها، يريد أن يدخل عليها، وفقال الحكيمُ :﴿ إنْ كَانَ قَميصهُ قُدَّ مِنْ قُبلِ ﴾، فأت صادقة، والرَّجلُ كاذبٌ، ﴿ وإنْ كانَ قَمِيصهُ قُدَّ مِنْ دُبرٍ ﴾، فالرَّجلُ صادقٌ، وأنت كاذبة فلما نظرُوا إلى القميصِ رأوا الشقَّ من خلفه، قال ابن عمِّها :﴿ إِنَّهُ مِن كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ ﴾ [ اي : من عَملكن ] ثم قال ليوسف :" أعْرِضْ عَنْ هَذَا " أي اكتمهُ، وقال لها :﴿ واستغفري لِذَنبِكِ ﴾، وهذا قولُ السدي، وطائفة من المفسرين.
قال السُّهيلي : وهذا من باب الحكم بالأمارات، وله أصلٌ في الشَّرعِ، قال تعالى :﴿ وَجَآءُوا على قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ ﴾ [ يوسف : ١٨ ] حيثُ لا أثر لأنياب الذئب فيه، وقال تعالى :﴿ إِن كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الكَاذِبِينَ ﴾ وقال عليه الصلاة والسلام في الحدّ :" انْظرُوا فإنْ جَاءَتْ بِهِ أبْيضَ خَالياً فَهُو للَّذي رُمِيَتْ بِهِ ".
قال السهيلي : كان عامر بن الظرف العدوانيُّ لا يكون بين العرب ثائر إلا تحاكموا إليه فيرضون بما يقضي به، فتحاكموا إليه في ميراث خنثى بات ليلة ساهراً يرى ماذا يحم به ؟ فرأته جارية له ترعى، وكان اسمها سخيلة، فقالت له : ما لك، لا أبا لك اللَّيلة ساهِراً ؛ فذكر لها ما هو مفكر فيه، وقال : لعلها يكون عندها في ذلك شيء، فقالت له :" اتْبَع القضاء المَبال " فقال : فرجتها والله يا سخيلة، وحكم بذلك القول.
القول الثاني : منقولٌ عن ابن عبَّاسٍ، وسعيد بن جبيرٍ، والضحاك رضي الله عنهم أن ذلك الشَّاهد كان صبيًّا في المهد، أنطقه اللهُ.
قال ابن عبًّاس رضي الله عنه : تكلَّم في المهدِ ثلاثةُ صغارٍ : شاهدُ يوسف، وعيسى ابن مريم عليه السلام، وصاحبُ جريج الرَّاهب.
قال الجبائيُّ : القول الأول أولى لوجوه :
الأول : أنَّه سبحانه وتعالى لو أنطق الطفل بهذا الكلام، لكان مجرد قوله :" إنَّها كَاذبةٌ " كافياً، وبرهاناً قاطعاً ؛ لأنَّه من المعجزات العجيبة الباهرة والاستدلال بتمزيق القميص من قُبُل ومن دُبُرٍ دليل ظنيّ ضعيف، والعدول عن الحجَّة الواضحة القاطعة حال حصولها إلى الدلالة الظَّنية لا يجوزُ.
الثاني : أنه تبارك وتعالى قال :﴿ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّنْ أَهْلِهَآ ﴾ يشيرُ بذلك إلى أنَّ شهادة الشَّاهد على قريبه، أولى بالقبولِ من شهادته له ؛ لأن الظاهر من حال القريب أن يشهد لقريبه، لا أن يشهد عليه، وهذا التَّرجيحُ إنما يُصَارُ إليه إذا كانت دلالة الشَّهادة ظنية، وذلك إنَّما يكون في شهادة الرجل، ولو يكون هذا القول صادراً من الصَّبي الذي كان في المهد، لكان قوله حجَّة قاطعة، ولا يتفاوتُ الحال بين أن يكون من أهلها، وبين ألا يكون، وحينئذٍ لا يبقى لهذا القيد وجه.
الثالث : أن لفظ الشَّاهد لا يقعُ في العرف، إلا على من تقدَّمت معرفته بالواقعة، وإحاطته بها.
القول الثالث : أن هذا الشاهد هو القميص، قال مجاهد رضي الله عنه الشاهد :" قُدَّ قيمصه من دُبُر "، وهذا في غاية الضعف ؛ لأن القميص لا يوصف بهذا ولا ينسب إلى الأهل.
واعلم أنَّ القول الأول عليه إشكال، وذلك أنَّ العلامة المذكورة لا تدلُّ قطعاً على براءة يوسف من المعصية ؛ لأن من المحتملِ أنَّ الرجل قصد المرأة لطلب الزِّنا، والمرأة غضبت عليه، فهرب الرجل، فعدتِ المرأةُ خلف الرجل، وجذبته لقصد أن تضربه ضرباً وجيعاً، فعلى هذا الوجه يكون قدُّ القميص من دبرٍ، مع أنَّ المرأة تكون بريئة عن [ الذنب ] وأنَّ الرجل يكون مذنباً.
جوابه : أنَّا بيَّنا أنَّ علامات كذب المرأة كانت كثيرة بالغة مبلغ اليقين، فضمّ إليها هذه العلامة الأخرى، لا لأجل أن يُعوِّلُوا في الحكم عليها، بل لأجل أن يكون ذلك جارياً مجرى المقدمات، والمرجّحات.
قوله :" إنْ كَانَ... " هذه الجملة الشرطية، إما معمولةٌ لقولٍ مضمر تقديره :" فقال " إن كان عند البصريين، وإمَّا معمولة " لِشَهدِ " ؛ لأنه بمعنى القول عند الكوفيين. قوله " مِنْ دُبرٍ.. "، و " مِنْ قُبُلٍ... " قرأ العامَّة جميع ذلك بضمتين، والجر والتنوين، بمعنى : من خلف، من قدام، أي : من خلف القميص، وقدامه وقرأ الحسن، وأبو عمرو في رواية بتسكين لعين تخفيفاً، وهي لغة الحجاز، وأسد، وقرأ ابن يعمر، وابن أبي إسحاق [ والعطاردي والجارود بثلاث ضمات، وروي عن الجارود وابن أبي إسحاق وبن يعمر ] أيضاً بسكون العين وبنائها على الضم ووجه ضمهما : أنَّهم جعلوهما ك " قَبلُ، وبعْدُ " في بنائها على الضم عند قطعهما عن الإضافة، فجعلوهما غاية، ومعنى الغاية : أن يجعل المضاف غاية نفسه، بعد ما كان المضاف إليه غايته، والأصل إعرابهما ؛ لأنَّهما اسمان متمكنان، وليسا بظرفين.
قال أبو حاتم : وهذا رديءٌ في العربية، وإنما هذا البناء في الظروف.
وقال الزمخشري :" والمعنى : من قبل القميص، ومن دُبرهِ، وأما التنكيرُ فمعناه : من جهةٍ يقال لها قبلٌ، ومن جهة يقال لها دبرٌ " وعن ابن أبي إسحاق : أنَّهُ قرأ " مِنْ قُبْلَ "، و " مِنْ دُبْرَ " بالفتح كأنَّه جعلهما علمين للجهتين، فمنعهما الصرف للعملية، والتَّأنيث، وقد تقدم [ البقرة : ٢٣٥ ] الخلاف في " كان " الواقعة في حيز الشرط، هل تبقى على معناها من المضي، وإليه ذهب المبرِّدُ، أم تنقلب إلى الاستقبال كسائر الأفعالِ، وأنَّ المعنى على التَّبيينِ ؟.
قوله :" فَكذَبَتْ "، و " صَدقَتْ " على إضمار " قَدْ "، لأنها تقرب الماضي من الحالِ، هذا إذا كان الماضي متصرِّفاص، فأما إذا كان جامداً، فلا يحتاجُ إلى " قَدْ " لا لفظاً، ولا تقديراً.
قوله :﴿ فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ ﴾ : أي : فلمَّا رأى زوجها قميصه قُدّ من دُبُرٍ ؛ عرف خيانة امرأته، وبراءة يوسف صلوات الله وسلامه عليه قال لها :" إنَّهُ "، هذا الصَّنِيعُ، أو قولك ﴿ ما جزاء من أراد بأهلك سوءاً ﴾ ﴿ مِن كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ ﴾ وقيل : هذا من قول الشاهد.
فإن قيل : إنه تعالى قال :﴿ وَخُلِقَ الإنسان ضَعِيفاً ﴾ [ الإنسان : ٢٨ ] فكيف وصف كيد المرأة بالعظيم، وأيضاً : فيكدُ الرِّجال قد يزيدُ على كيد النِّساءِ ؟.
فالجواب عن الأوَّل : أن خلقة الإنسان بالنِّسبة إلى خلقة الملائكة، والسموات، والكواكب خلقة ضعيفة، وكيد النسوان بالنسبة إلى كيد البشر عظيمٌ ؛ ولا منافاة بين القولين، وأيضاً : فالنِّساءُ لهُنَّ من هذا الباب من المكرِ، والحِيل، ما لا يكون للرجال ؛ لأنَّ كيدهنَّ في هذا الباب، يورث من العار ما لا يورثه كيدُ الرَّجال.
ولما ظهر للقوم براءةٌ يوسف عن ذلك الفعل قال زوجها ليوسف :" أعْرِضٍ عَنْ هَذَا " الحديث، فلا تذكرة لأحدٍ حتى لا ينتشر، ولا يحصلُ العارُ العظيم وقيل : إنَّهُ من قول الشَّاهد. ثم قال للمرأة [ " واستغفري لِذنبكِ " إي : إلى الله ﴿ إِنَّكِ كُنتِ مِنَ الخاطئين ﴾ وقيل هذا من قول الشاهد ] " واسْتَغفِري "، أي : اطلبي من زوجك المغفرة، والصَّفح ؛ حتَّى لا يعاقبك.
قال أبو بكرٍ الأصمُّ : إنَّ ذلك الزوج كان قليل الغيرةِ، فاكتفى منها بالاستغفار وقيل : إنَّ الله تعالى عزَّ وجلَّ سلبه الغيرة لطفاً بيوسف، حتى كفى بادرته وحلم عنها.
قال الزمخشري :" وإنما قال :﴿ مِنَ الخاطئين ﴾ ؛ تغليباً للذكور على الإناث " ويحتملُ أن يقال : إنك من قبيل الخاطئين، فمن ذلك القبيل جرى ذلك العرفُ فيك.
قال البغوي رحمه الله : تقديره : إنَّك من القوم الخاطئين، ولم يقصد به الخبر عن النِّساء ؛ بل قصد الخبر عن كُلِّ من يعفعلُ ذلك ؛ كقوله تعالى :﴿ وَكَانَتْ مِنَ القانتين ﴾ [ التحريم : ١٢ ]، وبيانه قوله :﴿ إِنَّهَا كَانَتْ مِن قَوْمٍ كَافِرِينَ ﴾ [ النمل : ٤٣ ].
قوله تعالى :" يُوسُفُ "، منادى محذوفٌ منه حرفُ النداءِ. قال الزمشخريُّ :" لأنه منادى قريب مقاطن للحديث، وفيه تقريبٌ له، وتلطيفٌ بمحله " انتهى.
وكُلُّ منادي يجوز حذف حرفُ النِّداء منه، إلا الجلالة المعظمة، واسم الجنس غالباً، والمستغاثَ، والمندوب، واسم الإشارة عند البصريين، وفي المضمر إذا نودِيَ.
والجمهورُ على ضمِّ فاءِ يوسف عليه الصلاة والسلام ؛ لكونه مفرداً معرفةً، وقرأ الأعمش بفتحها، وقيل لم تثبت هذه القراءة عنه، وعلى تقدير ثبوتها، فقال أبو البقاء : فيها وجهان :
أحدهما : أن يكون أخرجه على أصل المنادى ؛ كما جاء في الشِّعر :[ الخفيف ]
٣٠٧٨.................. | يَا عَدِيًّا لقَدْ وقَتْكَ الأوَاقِي |
والثاني، وجعله الأشبه : أن يكون وقف على الكلمة، ثم وصل، وأجرى الوصل مجرى الوقف ؛ فألقى حركة الهمزة على الفاء، وحذفها ؛ فصار اللفظ بها :" يُوسفَ أعْرض " ؛ وهذا كما حي :" اللهُ أكبرَ، أشْهَدَ ألاّ "، بالوصلِ والفتح في الجلالةِ وفي " أكْبر "، وفي أشْهد " ؛ وذلك أنه قدَّر الوقف على كل كلمة من هذا الكلم، وألقى حركة الهمزة [ من ] كل من الكلمِ الثَّلاث، على السَّاكن قبله، وأجرى الوصل مجرى الوقف في ذلك.
والذي حكوه الناسُ، إنَّما هو في " أكْبَر " خاصَّة ؛ لأنَّها مظنة الوقف، و تقدم ذلك في سورة آل عمران [ الآية : ١ ].
ورىء " يُوسفُ أعْرضَ " بضمِّ الفاءِ، و " أعْرضَ " فعلاً ماضياً، وتخريجها أن يكون " يُوسفُ " مبتدأ، و "
قوله تعالى: ﴿وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي المدينة﴾ الآية، النسوة فيها أقوالٌ:
[أشهرها] : أنه جمعُ تكسير للقلَّة، على فعلة؛ كالصبية والغلمة، ونصَّ بعضهم على عدم أطَّرادها، وليس لها واحدٌ من لفظها.
الثاني: أنها اسمٌ مفردٌ، لجمع المرأة قاله الزمخشريُّ.
الثالث: أنَّها اسم جمعٍ؛ قاله أبو بكرٍ بنُ السَّراج رَحِمَهُ اللَّهُ، وكذلك أخواتها، كالصِّبيةِ، والفِتْيَةِ.
وقيل: على كُلِّ قولٍ، فتأنيثها غير حقيقي، باعتبارِ الجماعةِ؛ ولذلك لم يلحق فعلها تاء التأنيث.
[أشهرها] : أنه جمعُ تكسير للقلَّة، على فعلة؛ كالصبية والغلمة، ونصَّ بعضهم على عدم أطَّرادها، وليس لها واحدٌ من لفظها.
الثاني: أنها اسمٌ مفردٌ، لجمع المرأة قاله الزمخشريُّ.
الثالث: أنَّها اسم جمعٍ؛ قاله أبو بكرٍ بنُ السَّراج رَحِمَهُ اللَّهُ، وكذلك أخواتها، كالصِّبيةِ، والفِتْيَةِ.
وقيل: على كُلِّ قولٍ، فتأنيثها غير حقيقي، باعتبارِ الجماعةِ؛ ولذلك لم يلحق فعلها تاء التأنيث.
77
وقال الواحديُّ: تقديمُ الفعل يدعُو إلى إسقاطِ علامِ التأنيثِ، على قياس إسقاط علامة التَّثنية، والجمع.
والمشهورُ: كسر نونها، ويجوز ضمُّها في لغةٍ، ونقلها أبو البقاءِ عن قراءة، قال القرطبي: وهي قراءة الأعمش، والمفضل والسلمي.
وإذا ضُمَّتْ نونه، كان اسم جمع بلا خلافٍ، ويكسَّرُ في الكثرة على نسوانٍ، والنساءُ: جمعٌ كثرةٍ أيضاً، ولا واحداَ لَهُ مِنْ لفظه، كذا قالهُ أبو حيَّان.
ومقتضى ذلك ألاَّ يكون النساءُ جمعاً لنسوةٍ؛ لقوله: لا واحِدَ له من لفظه.
و «فِي المَدينَةِ» يجوزُ تعلُّقه بمحذوفٍ، صفةٍ ل «نِسْوةٌ»، وهو ظاهرٌ، ويقال: ليس بظاهرٍ.
في: إنَّهن خمسُ: امرأة حاجب الملك، وامرأةُ صاحب دوابه، وامرأةُ الخازن، وامرأة السَّاقي، وامرأة صاحب السِّجن، قاله مقاتل.
وقال الكلبيُّ: أربعٌ؛ فأسقط امرأة الحاجب. والأشبه أنَّ تلك الواقعة شاعت في البلد، واشتهرت، وتحدث بها النساء، والمراد بالمدينة: مِصْرُ، وقيل: مدينة عَين شَمْسٍ.
قوله: «تُروادُِ» خبرُ «امْرأةُ العَزيزِ»، وجيءَ بالمضارع، تنبيهاً على أنَّ المراودة صارت سجيةً لها، ودَيْدناً، دون الماضي فلم يقلْ: رَاودتْ، ولامُ الفتى ياءٌ؛ لقولهم: الفتيان، وفتى، وعلى هذا؛ فقولهم: الفُتُوَّة في المصدر شاذٌّ.
قال: «فَتَاهَا»، وهو فتى زوجها؛ لأن يوسف كان عندهم في حكم المماليك، وكان ينفذُ أمرها فيه.
وروى مقاتلٌ، عن أبي عثمان النهدي، عن سلمان الفارسي رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قال: «إنَّ امرأة العزيز استوهبتْ يوسف من زوجها، فوهبهُ لها، وقال: ما تصنعين به؟ قالت: اتخذه ولداً، قال: هو لك؛ فربَّتُهُ حتى [أيفع]، وفي نفسها منه ما في نفسها، فكانت تتكشَّلإ له، وتتزيَّن، وتدعوه من وجه اللُّطفِ؛ فعصمه الله».
قوله: ﴿قَدْ شَغَفَهَا حُبّاً﴾، وهذه الجملة يجوز أن تكمون خبراً ثانياً، وأن تكون مستأنفة، وأن تكون حالاً؛ إمَّا من فاعل «تُرَاوِدُ»، وإمَّا من مفعوله، و «حُبًّا» تمييزٌ؛ وهو منقولٌ من الفاعليَّة، وإذ الأصل: قد شغفها حبُّه.
والمشهورُ: كسر نونها، ويجوز ضمُّها في لغةٍ، ونقلها أبو البقاءِ عن قراءة، قال القرطبي: وهي قراءة الأعمش، والمفضل والسلمي.
وإذا ضُمَّتْ نونه، كان اسم جمع بلا خلافٍ، ويكسَّرُ في الكثرة على نسوانٍ، والنساءُ: جمعٌ كثرةٍ أيضاً، ولا واحداَ لَهُ مِنْ لفظه، كذا قالهُ أبو حيَّان.
ومقتضى ذلك ألاَّ يكون النساءُ جمعاً لنسوةٍ؛ لقوله: لا واحِدَ له من لفظه.
و «فِي المَدينَةِ» يجوزُ تعلُّقه بمحذوفٍ، صفةٍ ل «نِسْوةٌ»، وهو ظاهرٌ، ويقال: ليس بظاهرٍ.
فصل في عدد النسوة
في: إنَّهن خمسُ: امرأة حاجب الملك، وامرأةُ صاحب دوابه، وامرأةُ الخازن، وامرأة السَّاقي، وامرأة صاحب السِّجن، قاله مقاتل.
وقال الكلبيُّ: أربعٌ؛ فأسقط امرأة الحاجب. والأشبه أنَّ تلك الواقعة شاعت في البلد، واشتهرت، وتحدث بها النساء، والمراد بالمدينة: مِصْرُ، وقيل: مدينة عَين شَمْسٍ.
قوله: «تُروادُِ» خبرُ «امْرأةُ العَزيزِ»، وجيءَ بالمضارع، تنبيهاً على أنَّ المراودة صارت سجيةً لها، ودَيْدناً، دون الماضي فلم يقلْ: رَاودتْ، ولامُ الفتى ياءٌ؛ لقولهم: الفتيان، وفتى، وعلى هذا؛ فقولهم: الفُتُوَّة في المصدر شاذٌّ.
قال: «فَتَاهَا»، وهو فتى زوجها؛ لأن يوسف كان عندهم في حكم المماليك، وكان ينفذُ أمرها فيه.
وروى مقاتلٌ، عن أبي عثمان النهدي، عن سلمان الفارسي رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قال: «إنَّ امرأة العزيز استوهبتْ يوسف من زوجها، فوهبهُ لها، وقال: ما تصنعين به؟ قالت: اتخذه ولداً، قال: هو لك؛ فربَّتُهُ حتى [أيفع]، وفي نفسها منه ما في نفسها، فكانت تتكشَّلإ له، وتتزيَّن، وتدعوه من وجه اللُّطفِ؛ فعصمه الله».
قوله: ﴿قَدْ شَغَفَهَا حُبّاً﴾، وهذه الجملة يجوز أن تكمون خبراً ثانياً، وأن تكون مستأنفة، وأن تكون حالاً؛ إمَّا من فاعل «تُرَاوِدُ»، وإمَّا من مفعوله، و «حُبًّا» تمييزٌ؛ وهو منقولٌ من الفاعليَّة، وإذ الأصل: قد شغفها حبُّه.
78
والعامةُ على «شَغَفَهَا» بالغين المعجمة المفتوحمةِ، بمعنى: خَرقَ شِغافَ قلبها، وهو مأخوذٌ من الشِّغاف، والشِّغاف: حجابُ القلب، جليدةٌ رقيقةٌ، وقيل: سويداءُ القلبِ.
فعلى الأول، يقال: شَغفتُ فلاناً، إذا أصبت شِغفافهُ؛ كما تقولُ: كبدتهُ إذا أصبتَ كبدَه، فمعنى: «شَغَفَهَا حُبّاً» أي: خرق الحبُّ الجلدَ؛ حتَّى أصاب القلب، أي: أنَّ حبَّه أحاط بقلبها، مثل إحاطةِ الشِّغاف بالقلبِ، ومعنى إحاطة ذلك الحبِّ بقلبها: هو أنَّ اشتغالها بحبه صار حجاباً بينها، وبين كلِّ ما سوى هذه المحبَّة، فلا يخطر ببالها سواه، وإن قلنا: إنَّ الشِّغافُ سويداء القلبِ، فالمعنى: أنَّ حبُّهُ وصل إلى سويداءِ قلبها.
وقيل: الشِّغافُ داء يصلُ إلى القلب مِنْ أجل الحبِّ، وقيل: جليدةٌ رقيقةٌ يقال لها: لسانُ القلبِن ليست محيطةً به.
ومعنى: «شَغَفَ قلبَهُ» أي: خرق حجابهُ، إذا أصابه؛ فأحرقه بحرارةِ الحبِّ، وهو من شغف البعير بالهِناءِ، إذا طلاهُ بالقطرانِ، فأحرقهُ. [والمشغوف من وصل الحب لقلبه] قال الأعشى: [البسيط]
وقال النابغةُ الذبيانيُّ: [الطويل]
وقرأ ثابت البناني: بكسر الغين، وقيل: هي لغة تميم، وقرأ أمير المؤمنين عليُّ بن أبي طالب كرم الله وجهه، وعليُّ بن الحسين، وابنه محمدٌ، وابنه جعفر والشعبي، وقتادة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم بتفحِ العين المهملةِ.
وروي عن ثابت البناني، وأبي رجاء: كسر العين المهملة أيضاً، واختلف الناسُ في ذلك: فقيل: هو من شغف البعير، إذا هنأهُ، فأحرقه بالطقرانِ، قاله الزمخشريُّ؛ وأنشد: [الطويل]
٣٠٨١ -......................... كَمَا شَعَفَ المَهْنُوءةَ الرَّجلُ الطَّالِي
فعلى الأول، يقال: شَغفتُ فلاناً، إذا أصبت شِغفافهُ؛ كما تقولُ: كبدتهُ إذا أصبتَ كبدَه، فمعنى: «شَغَفَهَا حُبّاً» أي: خرق الحبُّ الجلدَ؛ حتَّى أصاب القلب، أي: أنَّ حبَّه أحاط بقلبها، مثل إحاطةِ الشِّغاف بالقلبِ، ومعنى إحاطة ذلك الحبِّ بقلبها: هو أنَّ اشتغالها بحبه صار حجاباً بينها، وبين كلِّ ما سوى هذه المحبَّة، فلا يخطر ببالها سواه، وإن قلنا: إنَّ الشِّغافُ سويداء القلبِ، فالمعنى: أنَّ حبُّهُ وصل إلى سويداءِ قلبها.
وقيل: الشِّغافُ داء يصلُ إلى القلب مِنْ أجل الحبِّ، وقيل: جليدةٌ رقيقةٌ يقال لها: لسانُ القلبِن ليست محيطةً به.
ومعنى: «شَغَفَ قلبَهُ» أي: خرق حجابهُ، إذا أصابه؛ فأحرقه بحرارةِ الحبِّ، وهو من شغف البعير بالهِناءِ، إذا طلاهُ بالقطرانِ، فأحرقهُ. [والمشغوف من وصل الحب لقلبه] قال الأعشى: [البسيط]
٣٠٧٩ - يَعْصِي الوُشَاةَ وكَانَ الحُبُّ آونَةٌ | مِمَّا يُزَّينُ للمَشْغُوفِ ما صَنَعَا |
٣٠٨٠ - وقَدْ حَالَ هَمٌّ دُونَ ذلِكَ والِجٌ | مَكَانَ الشِّغافِ تَبْتغيِهِ الأصَابعُِ |
وروي عن ثابت البناني، وأبي رجاء: كسر العين المهملة أيضاً، واختلف الناسُ في ذلك: فقيل: هو من شغف البعير، إذا هنأهُ، فأحرقه بالطقرانِ، قاله الزمخشريُّ؛ وأنشد: [الطويل]
٣٠٨١ -......................... كَمَا شَعَفَ المَهْنُوءةَ الرَّجلُ الطَّالِي
79
وهذا البيتُ لامرىء القيس: [الطويل]
والناسُ إنما يروونهُ بالمعجمة، ويسفرونه بأنه أصاب حبُّه شغاف قلبها، أي: أحرقَ حجابهُ، وهي جليدةٌ رقيقةٌ دونه، كما شغف، أي: كما أحرق، وأراد بالمَهْنُوءةِ: المطليَّة بالهناءِ، أي: القطران، ولا ينشدونه بالمهملة، وكشف أبو عبيدة عن هذا المعنى؛ فقال: «الشَّغف: إحراقُ الحُبِّ للقلب مع لذة يجدها؛ كما أنَّ البعير إذا طُلِيَ بالقطرانِ، بلغ منه مثل ذلك، ثم يَسْتَرْوحُ إليه».
وقال أبو البقاء رَحِمَهُ اللَّهُ لما حكى هذه القراءة: «مِن قولِكَ: فلانٌ مشغوفٌ بكذا، أي: مغرمٌ به».
وقال ابنُ الأنباريِّ: «الشَّغفُ: رُءوسُ الجبالِ، ومعنى شغف بفلانٍ: إذا ارتفع حبُّه إلى أعْلَى موضعٍ من قلبهِ».
وعلى هذه الأقوال فمعناهما متقاربٌ، وفرق بعضهم بينهمان فقال ابنُ زيدٍ: «الشَّغفُ يعني بالمعجمة في الحبِّ، والشعف: في البغضِ».
وقال الشعبيُّ: الشَّغَفُ، والمشغوفُ بالغينِ منقوطة في الحبِّ، والشَّعفُ: الجنونُ، والمَشْعُوفُ: المَجنْونُ «.
قوله: ﴿إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ﴾، أي: خطأ مبين ظاهر، وقيل: معناه: إنَّها تركت ما يكون عليه أمثالها من العفاف والستر.
» فلَّما سَمِعَتْ «راعيلُ» بِمكْرهِنَّ «؛ بقولهنَّ، وسمى قولهنَّ مكراً؛ لوجوه:
الأول: أنَّ النسوة، إنما قلن ذلك؛ مكراً بها؛ لتُريهنَّ يوسف، كان يوصف لهن حسنهُ وجماله؛ لأنَّهن إذا قلن ذلك، عرضتْ يوسف عليهنَّ؛ ليتمهد عذرها عندهن.
الثاني: أنَّها أسرَّت إليهنَّ حبَّها ليوسف استكتمهُنَّ، فأفشين ذلك السرَّ؛ فلذلك سمَّاه مكراً.
الثالث: أنهن وقعن في الغيبة، والغيبة إنما تذكر على سبيل الخفيةِ، فأشبهت المكر.
﴿أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ﴾ : قال المفسرون: اتخذت مأدبة، ودعت جماعة من أكابرهن، «وأعْتدَتْ» أي: أعدَّت «لهُنَّ مُتَّئاً».
٣٠٨٢ - أتَقْتُلنِي وقدْ شَعَفْتُ فُؤادهَا | كَما شَعَفَ المَهْنُوءةَ الرَّجلُ الطَّالِي |
وقال أبو البقاء رَحِمَهُ اللَّهُ لما حكى هذه القراءة: «مِن قولِكَ: فلانٌ مشغوفٌ بكذا، أي: مغرمٌ به».
وقال ابنُ الأنباريِّ: «الشَّغفُ: رُءوسُ الجبالِ، ومعنى شغف بفلانٍ: إذا ارتفع حبُّه إلى أعْلَى موضعٍ من قلبهِ».
وعلى هذه الأقوال فمعناهما متقاربٌ، وفرق بعضهم بينهمان فقال ابنُ زيدٍ: «الشَّغفُ يعني بالمعجمة في الحبِّ، والشعف: في البغضِ».
وقال الشعبيُّ: الشَّغَفُ، والمشغوفُ بالغينِ منقوطة في الحبِّ، والشَّعفُ: الجنونُ، والمَشْعُوفُ: المَجنْونُ «.
قوله: ﴿إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ﴾، أي: خطأ مبين ظاهر، وقيل: معناه: إنَّها تركت ما يكون عليه أمثالها من العفاف والستر.
» فلَّما سَمِعَتْ «راعيلُ» بِمكْرهِنَّ «؛ بقولهنَّ، وسمى قولهنَّ مكراً؛ لوجوه:
الأول: أنَّ النسوة، إنما قلن ذلك؛ مكراً بها؛ لتُريهنَّ يوسف، كان يوصف لهن حسنهُ وجماله؛ لأنَّهن إذا قلن ذلك، عرضتْ يوسف عليهنَّ؛ ليتمهد عذرها عندهن.
الثاني: أنَّها أسرَّت إليهنَّ حبَّها ليوسف استكتمهُنَّ، فأفشين ذلك السرَّ؛ فلذلك سمَّاه مكراً.
الثالث: أنهن وقعن في الغيبة، والغيبة إنما تذكر على سبيل الخفيةِ، فأشبهت المكر.
﴿أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ﴾ : قال المفسرون: اتخذت مأدبة، ودعت جماعة من أكابرهن، «وأعْتدَتْ» أي: أعدَّت «لهُنَّ مُتَّئاً».
80
قرأ العامة: «مُتَّكئاً» بضم الميم، وتشديد التاءِ، وفتح الكاف والهمز، وهو مفعولٌ به، ب «أعْتَدتْ» أي: هيَّأتْ، وأحضَرتْ.
والمُتَّكأ: الشيءُ الذي يتكأ عليه، من وسادةٍ ونحوها، والمُتَّكأ: مكان الاتِّكاءِ، وقيل: طعام يُجزُّ جزًّا.
قال ابن عباسٍ، وسعيد بن جبير، والحسن، وقتادة، ومجاهد رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم: «مُتَّكَئاً، أي: طعاماً، سمَّاه» مُتَّكَئاً «؛ لأنَّ أهل الطعامِ إذا جلسوا، يتكئُون على الوسائدِ، فسمى الطعامُ متكئاً؛ على الاستعارة».
وقيل: «مُتَّكئاً»، طعام يحتاج إلى أن يقطع بالسكِّين؛ لأنه إذا كان كذلك، احتاج الإنسانُ إلى أن يتكىء عليه عند القطع.
وقال القتبي: يقالُ: اتكأنا عند فلانٍ، أي أكلنا.
وقال الزمخشري: من قولك: اتكأنا عند فلانٍ، طعمنا على سبيل الكناية؛ لأنه من دعوتهُ ليطعمَ عندك اتخذت له تكأةً يتكىءُ عليها؛ قال جميلٌ: [الخفيف]
فقوله: «وشَرِبْنَا» مرشحٌ لمعنى «اتَّكأنَا» : أكلنا.
وقرأ أبو جعفر، والزهريُّ رحمهما الله: «مُتَّكأً» مشددة التاء، دون همزٍ، وفيه وجهان:
أحدهما: أن يكون أصله: متكأ «كقراءة العامَّة، وإنما خفف همزُهُ؛ كقولهم:» تَوضَّيْتُ «في توضَّأتُ، فصار بوزن» مُتَّقى «.
والثاني: أن يكون» مُفْتَعَلاً «من أوكيتُ القِربَة، إذا شدَدْتَ فَاهَا بالوكاءِ.
فالمعنى: أعْتدَتْ شيئاً يَشْتدِدْنَ عليه؛ إمَّا بالاتِّكاءِ، وإمَّا بالقطْعِ بالسكِّين، وهذا الثاني تخريجُ أبي الفتحِ.
وقرأ الحسن، وابن هرمز:» مُتَّكاءً «بالتشديد والمد، وهي كقراءةِ العامة، إلاَّ أنه أشبع الفتحة؛ فتولد منها الألفُ؛ كقوله: [الوافر]
٣٠٨٤ -....................
والمُتَّكأ: الشيءُ الذي يتكأ عليه، من وسادةٍ ونحوها، والمُتَّكأ: مكان الاتِّكاءِ، وقيل: طعام يُجزُّ جزًّا.
قال ابن عباسٍ، وسعيد بن جبير، والحسن، وقتادة، ومجاهد رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم: «مُتَّكَئاً، أي: طعاماً، سمَّاه» مُتَّكَئاً «؛ لأنَّ أهل الطعامِ إذا جلسوا، يتكئُون على الوسائدِ، فسمى الطعامُ متكئاً؛ على الاستعارة».
وقيل: «مُتَّكئاً»، طعام يحتاج إلى أن يقطع بالسكِّين؛ لأنه إذا كان كذلك، احتاج الإنسانُ إلى أن يتكىء عليه عند القطع.
وقال القتبي: يقالُ: اتكأنا عند فلانٍ، أي أكلنا.
وقال الزمخشري: من قولك: اتكأنا عند فلانٍ، طعمنا على سبيل الكناية؛ لأنه من دعوتهُ ليطعمَ عندك اتخذت له تكأةً يتكىءُ عليها؛ قال جميلٌ: [الخفيف]
٣٠٨٣ - فَظَلِلْنَا بنِعْمَةٍ واتَّكأنَا | وَشَرِبْنَا الحلالَ مِنْ قُلَلِهْ |
وقرأ أبو جعفر، والزهريُّ رحمهما الله: «مُتَّكأً» مشددة التاء، دون همزٍ، وفيه وجهان:
أحدهما: أن يكون أصله: متكأ «كقراءة العامَّة، وإنما خفف همزُهُ؛ كقولهم:» تَوضَّيْتُ «في توضَّأتُ، فصار بوزن» مُتَّقى «.
والثاني: أن يكون» مُفْتَعَلاً «من أوكيتُ القِربَة، إذا شدَدْتَ فَاهَا بالوكاءِ.
فالمعنى: أعْتدَتْ شيئاً يَشْتدِدْنَ عليه؛ إمَّا بالاتِّكاءِ، وإمَّا بالقطْعِ بالسكِّين، وهذا الثاني تخريجُ أبي الفتحِ.
وقرأ الحسن، وابن هرمز:» مُتَّكاءً «بالتشديد والمد، وهي كقراءةِ العامة، إلاَّ أنه أشبع الفتحة؛ فتولد منها الألفُ؛ كقوله: [الوافر]
٣٠٨٤ -....................
81
ومِنْ ذمِّ الرِّجالَ بمُنْتزَاحِ
وقول الآخر: [الكامل]
٣٠٨٥ - يَنْبَاعُ مِنْ ذِفْرَى أسيلٍ جَسْرَةٍ...........................
وقوله: [الرجز]
بمعنى: بِمُنتزحٍ، وينبع، والعقرب الشَّائلة.
وقرأ ابن عباسٍ، وابن عمر، ومجاهدٌن وقتادة، والضحاك، الجحدري، وأبان بن تغلب رحمهم الله:» مُتْكاً «بضمِّ الميم، وسكون التاء، وتنوين الكافِ، وكذلك قرأ ابن هرمزٍ، وعبد الله، ومعاذ؛ إلاَّ أنهما فتحا الميم.
والمُتْكُ: بالضم والفتح: الأترجُ، ويقال: الأترنج، لغتان؛ وأنشدوا: [الوافر]
قيل: هو من متك، بمعنى بَتَكَ الشيء، أي: قطعه، فعلى هذا يحتمل أن تكون الميم بدلاً من الباء، وهو بدلٌ مطردٌ في لغة قومٍ، ويحتمل أن تكون مادة أخرى وافقتم هذه.
وقيل: بالضمِّ: العسلُ الخالصُ عند الخليل، والأترجُّ عند الأصمعيِّ، ونقل أبو عمرو فيه اللغات الثلاث؛ أعني: ضمَّ الميم، وفتحها، وكسرها، قال: وهو الشرابُ الخالصُ.
وقال المفضلُ: هو بالضم: المائدة، أو الخمر، في لغة كندةن وقال ابن عباس: هو الأترجُّ بالحبشة، وقال الضحاك: الزَّمَاوْرَد، وقال عكرمةك كل شيء يقطع بالسكين.
وقول الآخر: [الكامل]
٣٠٨٥ - يَنْبَاعُ مِنْ ذِفْرَى أسيلٍ جَسْرَةٍ...........................
وقوله: [الرجز]
٣٠٨٦ - أعُوذُ باللهِ من العَقرَابِ | الشَّائِلاتِ عُقدَ الأذْنَابِ |
وقرأ ابن عباسٍ، وابن عمر، ومجاهدٌن وقتادة، والضحاك، الجحدري، وأبان بن تغلب رحمهم الله:» مُتْكاً «بضمِّ الميم، وسكون التاء، وتنوين الكافِ، وكذلك قرأ ابن هرمزٍ، وعبد الله، ومعاذ؛ إلاَّ أنهما فتحا الميم.
والمُتْكُ: بالضم والفتح: الأترجُ، ويقال: الأترنج، لغتان؛ وأنشدوا: [الوافر]
٣٠٨٧ - نَشْرَبُ الإثْمَ بالصُّواعِ جِهَارَا | وتَرَى المُتْك بَيْنَنا مُسْتَعَارَا |
وقيل: بالضمِّ: العسلُ الخالصُ عند الخليل، والأترجُّ عند الأصمعيِّ، ونقل أبو عمرو فيه اللغات الثلاث؛ أعني: ضمَّ الميم، وفتحها، وكسرها، قال: وهو الشرابُ الخالصُ.
وقال المفضلُ: هو بالضم: المائدة، أو الخمر، في لغة كندةن وقال ابن عباس: هو الأترجُّ بالحبشة، وقال الضحاك: الزَّمَاوْرَد، وقال عكرمةك كل شيء يقطع بالسكين.
82
وقوله: «لهُنَّ مُتَّكَئاً» إما أن يريد: كُلَّ واحدةٍ متكئاً؛ ويدلُّ له قوله: ﴿وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِّنْهُنَّ سِكِّيناً﴾، وإما أن يريد: الجِنْسَ.
والسِّكينُ: تذكرُ وتؤنث، قاله الكسائي: والفراء، وأنكر الأصمعي تأنثه، والسكِّينةُ: فعلية من السكون، قال الراغب: سُمي به لإزالة حركةِ المذبُوحِ بهِ، فقوله: «وأتتْ»، أي: أعطتْ ﴿كُلَّ وَاحِدَةٍ مِّنْهُنَّ سِكِّيناً﴾، إما لأجل الفواكه، أو لأجل قطع اللحم، ثم أمرت يوسف عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ بأن يخرج عليهن، وأنه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ ما قدر على مخالفتها؛ خوفاً منها.
﴿فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ﴾، الظاهرُ أنَّ الهاء ضميرُ يوسف، ومعنى «أكْبَرنَهُ» أعظمنهُ، ودهشن من حسنه، وقيل: هي هاءُ السكتِ؛ قال الزمخشري.
وقيل: «أكْبَرْنَ» بمعنى: حِضْنَ، والهاءُ للسَّكتِ؛ يقال: أكبرت المرأةُ: إذا حاضتْ، وحقيقته: دخلت في الكبرِح لأنها بالحيض تخرج عن حدَّ الصِّغر إلى الكبرِ؛ فإنَّ أبا الطَّيب رَحِمَهُ اللَّهُ أخذ من هذا التفسير قوله: [الطويل]
وكون الهاء للسَّكتِ، يردُّه ضم الهاءِ، ولو كانت للسكتِ، لسكنتن وقد يقال: إنه أجراها مجرى هاء الضمير، وأجرى الوصل مجرى الوقف في إثباتها.
قال أبو حيَّان رَحِمَهُ اللَّهُ: «وإجماع القراء على ضم الهاء في الوصل، دليلٌ على أنها ليست هاء السَّكت، إذا لو كانت هاء السَّكت، فكان من أجرى الوصل مجرى الوقف لم يضمّ الهاء».
قال شهابُ الدِّين: «وهاءُ السَّكت قد تحرك بحركةِ هاء الضمير؛ إجراءً لها مجراها»، وقد تقدَّم تحقيقُ هذا في الأنعامِ، وقد قالوا ذلك في قول المتنبيّ أيضاً: [البسيط]
٣٠٩٠ - واحَرَّ قَلْبَاهُ مِمَّنْ قَلْبهُ شَبِمُ... قإنه رُوي بضم الهاء في «قَلْبَاهُ»، وجعلوها هاء السَّكتن ويمكن أن يكون «أكْبَرْنَ» بمعنى حضن، ولا تكون الهاء للسكت؛ بل تجعل ضميراً للمصدر المدلول عليه بفعله، أي: أكبرن الإكبار، وأنشدوا على أنَّ الإكبار بمعنى الحيضِ، قوله [البسيط]
والسِّكينُ: تذكرُ وتؤنث، قاله الكسائي: والفراء، وأنكر الأصمعي تأنثه، والسكِّينةُ: فعلية من السكون، قال الراغب: سُمي به لإزالة حركةِ المذبُوحِ بهِ، فقوله: «وأتتْ»، أي: أعطتْ ﴿كُلَّ وَاحِدَةٍ مِّنْهُنَّ سِكِّيناً﴾، إما لأجل الفواكه، أو لأجل قطع اللحم، ثم أمرت يوسف عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ بأن يخرج عليهن، وأنه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ ما قدر على مخالفتها؛ خوفاً منها.
﴿فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ﴾، الظاهرُ أنَّ الهاء ضميرُ يوسف، ومعنى «أكْبَرنَهُ» أعظمنهُ، ودهشن من حسنه، وقيل: هي هاءُ السكتِ؛ قال الزمخشري.
وقيل: «أكْبَرْنَ» بمعنى: حِضْنَ، والهاءُ للسَّكتِ؛ يقال: أكبرت المرأةُ: إذا حاضتْ، وحقيقته: دخلت في الكبرِح لأنها بالحيض تخرج عن حدَّ الصِّغر إلى الكبرِ؛ فإنَّ أبا الطَّيب رَحِمَهُ اللَّهُ أخذ من هذا التفسير قوله: [الطويل]
٣٠٨٩ - خَفِ الله واسْترْ ذَا الجَمالَ بِبُرقُعٍ | فإنّْ لُحْتَ حاضتْ في الخُدورِ العَواتِق |
قال أبو حيَّان رَحِمَهُ اللَّهُ: «وإجماع القراء على ضم الهاء في الوصل، دليلٌ على أنها ليست هاء السَّكت، إذا لو كانت هاء السَّكت، فكان من أجرى الوصل مجرى الوقف لم يضمّ الهاء».
قال شهابُ الدِّين: «وهاءُ السَّكت قد تحرك بحركةِ هاء الضمير؛ إجراءً لها مجراها»، وقد تقدَّم تحقيقُ هذا في الأنعامِ، وقد قالوا ذلك في قول المتنبيّ أيضاً: [البسيط]
٣٠٩٠ - واحَرَّ قَلْبَاهُ مِمَّنْ قَلْبهُ شَبِمُ... قإنه رُوي بضم الهاء في «قَلْبَاهُ»، وجعلوها هاء السَّكتن ويمكن أن يكون «أكْبَرْنَ» بمعنى حضن، ولا تكون الهاء للسكت؛ بل تجعل ضميراً للمصدر المدلول عليه بفعله، أي: أكبرن الإكبار، وأنشدوا على أنَّ الإكبار بمعنى الحيضِ، قوله [البسيط]