تفسير سورة يوسف

اللباب
تفسير سورة سورة يوسف من كتاب اللباب في علوم الكتاب المعروف بـاللباب .
لمؤلفه ابن عادل الحنبلي . المتوفي سنة 775 هـ

رب يسر برحمتك. سورة يوسف - عليه السلام - وهي مكية وفي قول ابن عباس، وقتادة: إلا أربع آيات منها. وهي مائة وإحدى عشرة آية، وعدد كلماتها: ألف، وتسعمائة، وست وتسعون كلمة، وعدد حروفها سبعة آلاف، ومائة، وست وستون حرفا قوله تعالى: ﴿الر تِلْكَ آيَاتُ الكتاب المبين﴾ قد تقدم الكلام على قوله: ﴿الر تِلْكَ آيَاتُ الكتاب المبين﴾ في أول سورة يونس، فالإشارة ب «تِلْكَ» إلى آيات هذه السورة على الابتداء اةلخبر.
وقيل: «الر» اسم للسورة، أي: هذه السورة المسمَّاة: ﴿الر تِلْكَ آيَاتُ الكتاب المبين﴾ والمراد ب «الكِتَاب» : القرآن، وأما قوله: «المُبِين» فيحتمل أن يكون من بانَ، بمعنى: ظهر، أي: المبين حلاله، وحرامه، وحدوده، وأحكامه قال قتادة رَحِمَهُ اللَّهُ: «المبين والله بركته، وهداه ورشده».
وقال الزجاج: «من أبَان بمعنى: أظهر، أي: أبان الحقَّ من الباطل، والحلال من الحرام، وقصص الأولين والآخرين». ويحتمل أن يكون من البينونة بمعنى: التَّفريق، أي: فرَّق بين الحق والباطل، والحلال والحرام.
قوله تعالى: ﴿إِنَّآ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً﴾ يعنى: الكتاب، في نصب: «قُرْآناً» ثلاثة أوجه:
3
أحدها: أن يكون بدلاً من ضمير «أنْزلْنَاهُ» أو حالاً موطئة منه، والضمير في: «أنْزَلْنَاهُ» على هذين القولين يعود على الكتاب، وقيل: «قُرْآناً» مفعول به، والضمير في «أنْزَلْنَاهُ» ضمير المصدر، و «عربياً» نعت للقرآنِ، وجوَّز أبو البقاء: أن يكون حالاً من الضمير في: «قُرْآناً» إذا تحمَّل ضميراً، يعنى: إذا حعلناهُ حالاً مؤولاً بمشتقِّ، أي: أنزَلنَاه مُجْتمعاً في حال كونهِ عَربيًّا
والعربيّ منسُوب إلى العرب؛ لأنَّه نزل بلغتهم، وواحد العرب: عربيٌّ، كما أن واحد الرُّوم: رُومِيٌّ، أي: أنزلناه بلغتكم، لكي تعلمُوا مَعانيَهُ، وتفهَمُوا ما فيه، و «عَرَبَة» بفتح الرَّاء ناحية دار إسماعيل عليه السلام قال الشاعر: [الطويل]
٣٠٤٣ - وعَرْبَةُ أرْضٍ مَا يُحِلُّ حَرامَهَا مِنَ النَّاسِ إلاَّ اللَّوذَعِيُّ الحُلاحِلُ
سكن راءها ضرورة؛ فيجوزُ أن يكون العربي منسُوباً إلى هذه البقعة.

فصل


احتج الجُبَّائيُّ بهذه الآية: على كون القرآن مخلوقاً، لقوله تعالى: ﴿إِنَّآ أَنزَلْنَاهُ﴾ والقديم لا يجوزُ إنزالهُ وتحويله من حالٍ إلى حالٍ؛ ولأنَّه تعالى وصفهُ بكونه: «عَرَبيًّا» والقديم لا يكون عربيًّا؛ ولأنَّ قوله تعالى ﴿إِنَّآ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً﴾ يدلُّ على أنَّه سبحانه وتعالى قادرٌ على أن ينزله لا عربيًّا؛ ولأنَّ قوله: ﴿تِلْكَ آيَاتُ الكتاب المبين﴾ يدلُّ على أنَّه مركبٌ من الآيات والكلمات، والمركَّبُ محدثٌ.
قال ابن الخطيب: «والجواب عن هذه الوجوه أن نقول: المركَّب من الحروف والكلمات محدثٌن وذلك لا نزاع فيه، إنَّما الذي ندَّعي قدمه شيء آخر، فسقط هذا الاستدلال».
قوله: ﴿لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾ : قال الجبائي: «كلمة» لعَلَّ «نحملها على اللاَّم، والتقدير: إنَّا أنزلناهُ قُرآناً عربيًّا لتعقلُوا معانيه في أمْر الدِّين، إذ لايجوز أن يراد ب» لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ «: الشَّكح لأنَّه على الله تعالى محالٌ، فثبت أنَّ المراد: لكي تعرفوا الأدلَّة، وذلك يدلُّ على أنَّهُ سبحانه وتعالى ت أراد من كلِّ العباد أن يعقلوا توحيده، وأمر دينه، من عرف منهم، ومن لم يعرف». قال ابن الخطيب: «والجواب: هَبْ أنَّ الأمْر كمَا ذَكْرتُمْ، إلاَّ أنَّهُ يدلُّ على أنه تعالى أنزل هذه السورة وأراد منهم معرفة كيفيَّة هذه القصَّة، لكن لِمَ قلتم: إنَّها تدلُّ على أنه تعالى أراد من الكُلِّ الإيمان والعمل الصالح» ؟.
4
قوله تعالى :﴿ إِنَّآ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً ﴾ يعنى : الكتاب، في نصب :" قُرْآناً " ثلاثة أوجه :
أحدها : أن يكون بدلاً من ضمير " أنْزلْنَاهُ " أو حالاً موطئة منه، والضمير في :" أنْزَلْنَاهُ " على هذين القولين يعود على الكتاب، وقيل :" قُرْآناً " مفعول به، والضمير في " أنْزَلْنَاهُ " ضمير المصدر، و " عربياً " نعت للقرآنِ، وجوَّز أبو البقاء : أن يكون حالاً من الضمير في :" قُرْآناً " إذا تحمَّل ضميراً، يعنى : إذا حعلناهُ حالاً مؤولاً بمشتقِّ، أي : أنزَلنَاه مُجْتمعاً في حال كونهِ عَربيًّا
والعربيّ منسُوب إلى العرب ؛ لأنَّه نزل بلغتهم، وواحد العرب : عربيٌّ، كما أن واحد الرُّوم : رُومِيٌّ، أي : أنزلناه بلغتكم، لكي تعلمُوا مَعانيَهُ، وتفهَمُوا ما فيه، و " عَرَبَة " بفتح الرَّاء ناحية دار إسماعيل عليه السلام قال الشاعر :[ الطويل ]
٣٠٤٣ وعَرْبَةُ أرْضٍ مَا يُحِلُّ حَرامَهَا مِنَ النَّاسِ إلاَّ اللَّوذَعِيُّ الحُلاحِلُ
سكن راءها ضرورة ؛ فيجوزُ أن يكون العربي منسُوباً إلى هذه البقعة.

فصل


احتج الجُبَّائيُّ بهذه الآية : على كون القرآن مخلوقاً، لقوله تعالى :﴿ إِنَّآ أَنزَلْنَاهُ ﴾ والقديم لا يجوزُ إنزالهُ وتحويله من حالٍ إلى حالٍ ؛ ولأنَّه تعالى وصفهُ بكونه :" عَرَبيًّا " والقديم لا يكون عربيًّا ؛ ولأنَّ قوله تعالى ﴿ إِنَّآ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً ﴾ يدلُّ على أنَّه سبحانه وتعالى قادرٌ على أن ينزله لا عربيًّا ؛ ولأنَّ قوله :﴿ تِلْكَ آيَاتُ الكتاب المبين ﴾ يدلُّ على أنَّه مركبٌ من الآيات والكلمات، والمركَّبُ محدثٌ.
قال ابن الخطيب :" والجواب عن هذه الوجوه أن نقول : المركَّب من الحروف والكلمات محدثٌن وذلك لا نزاع فيه، إنَّما الذي ندَّعي قدمه شيء آخر، فسقط هذا الاستدلال ".
قوله :﴿ لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ﴾ : قال الجبائي :" كلمة " لعَلَّ " نحملها على اللاَّم، والتقدير : إنَّا أنزلناهُ قُرآناً عربيًّا لتعقلُوا معانيه في أمْر الدِّين، إذ لايجوز أن يراد ب " لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ " : الشَّكح لأنَّه على الله تعالى محالٌ، فثبت أنَّ المراد : لكي تعرفوا الأدلَّة، وذلك يدلُّ على أنَّهُ سبحانه وتعالى ت أراد من كلِّ العباد أن يعقلوا توحيده، وأمر دينه، من عرف منهم، ومن لم يعرف ". قال ابن الخطيب :" والجواب : هَبْ أنَّ الأمْر كمَا ذَكْرتُمْ، إلاَّ أنَّهُ يدلُّ على أنه تعالى أنزل هذه السورة وأراد منهم معرفة كيفيَّة هذه القصَّة، لكن لِمَ قلتم : إنَّها تدلُّ على أنه تعالى أراد من الكُلِّ الإيمان والعمل الصالح " ؟.
قوله تعالى: ﴿نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ القصص﴾ الآية.
﴿نَحْنُ نَقُصُّ﴾ : مبتدأ وخبر، والقاصُّك الذي يتتبَّعُ الآثار ويأتي بالخبر على وجهه، قال تعالى: ﴿وَقَالَتْ لأُخْتِهِ قُصِّيهِ﴾ [القصص: ١١]، أي: أتَّبعي أثره، ﴿فارتدا على آثَارِهِمَا قَصَصاً﴾ [الكهف: ٦٤]، أي اتِّباعاًنن وسميت الحكايةَ قصصاً؛ لأنَّ الذي يقصُّ الحديث، يذكرُ تلك القصَّة شيئاً فشيئاً، كما يقال: تلا القرآنَ إذا قرأهُ؛ لأنَّه يتلُو، أي: يتبعُ ما حَفِظَ مِنهُ آيةً بعد آيةٍ، والمعنى: نُبين لكَ أخبارَ الأممِ السَّالفةِ، والقرُونِ الماضية.
روى سعدُ بن أبي وقَّاصٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قال: لمَّا أنْ نَزلَ القُرآنُ على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فتَلاهُ عَليْهِمْ زمَاناً، فقالوا: يَا رسُولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لوْ حَدَّثتنَا ت فأنْزَل اللهُ عَزَّ وَجَلَّ ذكره ﴿الله نَزَّلَ أَحْسَنَ الحديث﴾ [الزمر: ٢٣] فقالوا: يا رسول الله، لو ذكرتنَا، فأنزل الله عزَّ وجلَّ ﴿أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمنوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ الله﴾ [الحديد: ١٦].
قوله: ﴿أَحْسَنَ القصص﴾ في انتصابه وجهان:
أحدهما: أن يكُونَ منصُوباً على المفعول به، وذلك إذا جعلتَ القصص مصدراً واقعاً موقع المفعول، كالخلقِ بمعنى: المخلُوقِ، أو جعلته فعلاً بمعنى: مفعُول، كالقَبْضِ، والنَّقْضِ بمعنى: المَقْبُوض، والمَنْقُوض، أي: نقصُّ عليك أحسن الأشياءِ المقتصةن فيكون معنى قوله: ﴿أَحْسَنَ القصص﴾ : لِمَا فيه من العبرة، والنُّكتة، والحكمةِ، والعجائب التي ليست في غيرها.
5
فإحدى الفوائد في هذه القصة: أنه لا دافع لقضاءِ الله، ولا مانع من قدر الله، وأنَّهُ تعالى إذا قضى لإنسان بخير؛ فلو اجتمع العالمُ، لمْ يقدروا على دفعه.
والفائدة الثانية: أنََّهَا تدلُّ على أنَّ الحسد سببُ الخُذلانِ، والنُقصَانِ.
والفائدة الثالثة: أنَّ الصَّبر مفتاحُ الفرج، كما في حقِّ يعقُوب عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ؛ فإنَّه لما صبر، نال مقصُوده، وكذلك يُوسُف صلوات الله وسلامه عليه.
والوجه الثاني: أن يكون منصوباً على المصدر المبين، إذا جعلتَ القصص مصدراً غير مراد به المفعُول، ويكون المقصُوص على هذا محذوفاً، أي: نقُصُّ عليك أحسن الاقتصاص.
وعلى هذا؛ فالحسنُ يعُود إلى حسن البيان، لا إلى القصَّة، والمراد بهذا الحسن: كون هذه الألفاظ فصيحة بالغة في الفصاحة إلى حدِّ الإعجاز، ألا ترى أنَّ هذه القصَّة مذكورةٌ في كمتب التَّواريخ، مع أنَّ شيئاً منها لا يشبه هذه السورة في الفصاحة، والبلاغة.
و «أحْسَنَ» : يجوز أن يكون: أفعل تفضيل على بابها، وأن يكُون لمُجرَّد الوصف بالحسن، وتكون من باب إضافة الصِّفة لموصوفها، أي: القصص الحسن.
قال العلماء رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم: ذكر الله أقاصيصَ الأنبياء في القرآن، وكرَّرها بمعنى واحدٍ، في وجوهٍ مختلفة، بألفاظ متباينة على درجات المبالغة، وقد ذكر قصة يوسف عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ ولم يكرِّرها؛ فلم يقدر مخالفٌ على معارضة ما تكرر، ولا على معارضة غير المتكرِّر.

فصل


قال القرطبي: وذكر العُلماءُ لكَوْنِ هذه القصَّة أحسنَ القصصِ وجوهاً:
أحدها: أنه ليست قصَّة في القرآن تتضمنُ من العبر والحكم، ما تتضمن هذه القصَّة؛ لقوله تعالى في آخرها ﴿لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُوْلِي الألباب﴾ [يوسف: ١١١].
وثانيها: لحُسن مجاوزة يوسف إخوته، وصبْرِه على أذاهُم، وعفوه عنهُم بعد التقائهم عن ذكر فعلهم، وكرمه في العفو عنهُم، حتَّى قال: ﴿لاَ تَثْرَيبَ عَلَيْكُمُ اليوم﴾ [يوسف: ٩٢].
وثالثها: أن فيها ذكر الأنبياء عليهم الصلاة والسلام والصَّالحين، والملائكة، والجنِّ، والشياطين، والإنس، والطيرِ، وسير الملوكِ، والمماليكِ، والتُّجارِ، والعلماءِ، والجهال، والرِّجال، والنِّساء وحيلهنَّ ومكرهنَّ، وذكر التَّوحيد، والفقهِ، والسِّير، وتعبيرِ الرُّؤيا، والسِّياسةِ، والمعاشرةِ، وتدبير المعاشِ، وجُمَل الفوائد تصلُح للدِّين والدُّنيا.
6
ورابعها: أنَّ فيها ذكر الحبيب، والمحبُوب، وسيرهما.
وخامسها: أنَّ «أحْسنَ» هنا بمعنى: أعجب.
وسادسها: سُمِّيت أحسن القصص؛ لأنَّ كل من ذكر فيها كان مآله إلى السَّعادة، وانظُر إلى يوسف، وأبيه وإخوته، وامرأة العزيز، قيل: والملكُ أيضاً أسلم بيُوسُف، وحسن إسلامهُ، ومستعبر الرؤيا، والسَّاقي، والشَّاهد فيما يقال، فما كان أمْر الجَمِيع إلاَّ إلى خير، والله تعالى أعلم.
قوله: ﴿بِمَآ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ﴾ «الباء سببيَّة»، وهي متعلقةٌ ب «نَقُصُّ» و «مَا» مصدريَّة، أيك بسبب إيحائنا «.
قوله: ﴿هذا القرآن﴾ يجوز فيه وجهان:
أظهرهما: أن ينتصب على المفعولية ب»
أَوْحَيْنَا «.
والثاني: أن تكون المسألة من باب التنازع، أعني: بَيْن»
نَقُصُّ «وبين» أوْحَيْنَا «فإن كلاًّ منهما يطلب» هذا القُرآنَ «وتكون المسألةُ من إعمال الثاني، وهذا إنما يتأتَّى على جعلنا» أحْسنَ «: منصوباً على المصدر، ولم يقدَّر ل» نَقُصُّ «مفعولاً محذوفاً.
قوله: ﴿وَإِن كُنتَ مِن قَبْلِهِ لَمِنَ الغافلين﴾ [يوسف: ٣] تقدّم إعراب نظيره، والمعنى: قد كنت من قبله، أي: من قبل وحينان لمن الغافلين، أي: لمن الساهين عن هذه القصَّة لا تعلمُهَا.
وقيل: لمن الغافلين: عن الدِّين والشَّريعة قبل ذلك، كقوله تعالى: ﴿مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الكتاب وَلاَ الإيمان﴾ [الشورى: ٥٢].
قال بعض المفسرين: سمى قصَّة يُوسف خاصَّة أحسن القصص؛ لما فيها من العبر، والحكم، والنُّكتِ، والفوائد التي تصلْح للدِّين والدُّنيا، من سير الملوكِ، والمماليكِ، والعلماء، ومكرِ النِّساء، والصبْر على أذى الأعداء، وحسن التَّجاوزِ عنهم بعد الالتقاء، وغير ذلك من الفوائد.
قال خالد بن معدان:»
سورة يوسف، وسورة مريم يتفكَّه بهما أهل الجنَّة في الجنَّة «.
وقال عطاء رَحِمَهُ اللَّهُ:»
لا يَسْمع سُورةَ يُوسف محْزُونُ إلا استراح لهَا «.
قوله تعالى: ﴿إِذْ قَالَ يُوسُفُ لأَبِيهِ﴾ الآية.
رُوِي أن علماء اليهود قالوا لكبراء المشركين: سلْوا محمَّداً لم انتقل يعقوب من الشَّام إلى مصر؟ وعن كيفيَّة قصَّة يوسف؟ فأنز الله تعالى هذه السورة.
7
وفي العامل في «إذْ» أوجهٌ:
أظهرها: أنه منصُوب ب «قَالَ يَا بُنَيَّ» أي: قال يعقوب: يا بني وقت قول يُوسف لهُ: كَيْتَ وكَيْتَ، وهذا أسهل الوجوه؛ إذ فيه إبقاء «إذْ» كونها ظرفاً ماضياً.
وقيل: الناسب له: «الغَالفينَ» قاله مكيٌّ.
وقيل: هو منصوبٌ ب «نَقُصُّ» أي: نقصُّ عليك وقتَ قوله كَيْتَ وكَيْتَ، وهذا فيه [إخراج] «إذْ» عن المضيِّ، وعن الظرفيَّة، وإن قدَّرت المفعول محذوفاً، أي: نقصُّ عليك الحال وقت قوله، لزم أخراجها عن المضيِّ.
وقيل: هو منصوب بمضمر، أي: اذكُر.
وقيل: هو منصُوب على أنَّه بدل من «أحسن القصص» بدل اشتمال.
قال الزمخشري: «لأنَّ الوقت يشتمل على القصص وهو المقصوص» و «يُوسفُ» اسم عبرانيٌّ، ولذلك لا ينصرف، وقيل: هو عربيٌّ، فقال الزمخشريُّ: «الصَحيحُ أنه اسم عبرانيٌّ؛ لأنه لو كان عربيًّا، لانصرف» وسئل أبو الحسن الأقطع عن الأسف فقال: «الأسف في اللغة: الحُزن، والأسف: العَبْد، واجتمعا في يوسف؛ فسُمِّي بهما».
روي ابن عمر عن النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال: «الكَرِيمُِ ابنُ الكَريمِ ابْنِ الكريمِ ابن الكريم، يُوسف بنُ يعقُوبَ بنِ إسحاقَ بنِ إبْراهيمَ صَلواتُ اللهِ وسلامه عليهم أجمعين».
قوله: «يَا أبَتِ» قرأ ابن عامر: بفتح التَّاء، والباقون بكسرها، وهذه التَّاء عوض عن ياء المتكلم؛ ولذلك لا يجوز الجمع بينهما.
8
وهذا مختصٌّ بلفظتين: يا أبَتِ ويَا أمَّتِ، ولا يجُوز في غيرهما من الأسماء، لو قلت: «يَا صَاحِبتِ» لم يجُز ألبتَّة؛ كما اختصَّت لفظة الأم والعم بحكم في نحو: «يا ابْنَ أمَّ» ويجوز الجمع بين هذه التَّاء، وبين كلِّ من الياءِ والألفِ ضرورةً؛ كقوله: [الرجز]
٣٠٤٤ - يَا أبَتَا عَلَّكَ أوْ عَسَاكَا... وقول الآخر: [المتقارب]
٣٠٤٥ - أيَا أبَتَا لا تَزْلْ عِنْدنَا فإنَّا نَخافُ بأنْ تُخْتَرَمْ
وقول الآخر: [الطويل]
٣٠٤٦ - أيَا أبَتِي لا زلْتَ فينَا فإنَّمَا لنَا أمَلٌ فِي العَيْشِ ما دُمْتَ عَائِشَا
وكلامُ الزمخشريِّ يؤذن بأنَّ الجمع بين التَّاء والألفِ ليس ضرورةً؛ فإنَّه قال: «فإن قلت: فما هَذه الكسْرة؟ قلتُ: هي الكسْرة الَّتي كَانتْ قبل الياءِ في قولك:» يا أبي «قد زُحلقَتْ إلى التاء؛ لاقتضاء تاءِ التَّأنيث أن يكُون ما قبْلَها مفتوحاً.
فإن قلت: فما بالُ الكسرة لم تَسْقُطْ بالفَتْحَة الَّتي اقْتَضَتْهَا التَّاء، وتبقَى التَّاءُ ساكنةً؟.
قلت: امتنع ذلك فيها؛ لأنَّها اسم، والأسماءُ حقُّها التحريكُ؛ لأصالتها في الإعراب، وإنما جاز تسكينُ الياء، وأصلها أن تحرَّك تخفيفاً؛ لأنها حرف لين، وأما التاء، فحرفٌ صحيحٌ، نحو كافِ الضمير؛ فلزم تحريكها.
فإن قلت: يشبه الجمع بين هذه التَّاء وبين هذه الكسرة الجمع بين العوض والمعوَّض منه؛ لأنَّها في حكم الياء، إذا قلت: يا غُلام، فكَمَا لا يَجُوز: «يا أبتي»
لا يجوز «يا أبتِ» قلت: الياءُ والكسرة قبلها شيئان، والتَّاء عوض من أحد الشيئين، وهو الياء، والكسرة متعرَّض لها؛ فلا يجمع بين العوض والمعوَّض منه، إلا إذا جُمِعَ بين التَّاء والياء لاغير؛ ألا ترى إلى قولهم: «يَا أبَتَا» مع كونِ الألف فيه بدلاً من الياءِ، كيف
9
جاز بينها وبين التاء، ولم يعدَّ ذلك جمعاً بين العوض والمعوَّض منه؟ فالكسرة أبعد من ذلك.
فإن قلت: قد دلَّت الكسرة في «يا غُلام» على الإضافة؛ لأنَّها قرينة الياءِ ولصيقتها، فإن دلَّت على مثل ذلك في: «يا أبت» فالتَّاء الَمعوَّة لغو، وجودها كعدمها.
قلت: [بل] حالها مع التَّاء كحالها مع الياءِ إذا قلت: «يا أبِي».
وكذا عبارة أبي حيَّان، فإنه قال: وهذه التَّاء عوض من ياءِ الإضافة فلا تجتمعان، وتجامع الألف التي هي بدل من التاء، كما قال: [الرجز]
٣٠٤٧ - يَا أبَتَا عَلَّكَ أوْ عَسَاكَا... وفيه نظر؛ من حيث إن الألف كالتاء لكونها بدلاً منها، فينبغي أن لا يجمع بينهما، وهذا تاء أصلها للتأَنيث.
قال الزمخشريُّ: «فإن قلتك ما هذه التَّاء؟ قلتك تاءُ التأنيث وقعت عوضاً من ياء الإضافة، والدَّليل على أنَّها تاء التَّأنيث: قلبُهَا هاءً في الوقف».
قال شهاب الدِّين: وما ذكرهُ من كونها تقلب هاءً في الوقف، قرأ به ابنُ كثير، وابن عامرٍ، والباقُون وقفوا عليها بالتَّاء، كأَنَّهم أجروها مجرى تاء الإلحاق في «بِنْت وأخْت» وممن نصَّ على كونهخا للتَّأنيث: سيبويه؛ فإنه قال: «سَألْت الخليل عن التَّاء في:» يَا أبتِ «فقال: هي بِمنزِلَة التَّاء في تاء» يا خالة وعمَّة «يعنى: أنَّها للتَّأنيث» ويدلُّ أيضاً على كونها للتأنيث: كتبُهم إيَّاها هاءً، وقياس من وقف بالتَّاء: أن يكُبهَا تاء، ك «بِنْت وأخْت».
ثم قال الزمخشري: فإن قلت: كيف جاز إلحاق تاءِ التَّأنيث بالمذكَّر؟.
قلت: كما جاز نحو قولك: حمامة ذكر، وشاةٌ ذكر، ورجل ربعة، وغلامٌ يفعة قلت: يعني: أنها جيء بهَا لمُجرَّد تأنيث اللفظ، كما في الأسماء المستشهد بها.
ثم قال الزمخشري: «فإن قلت: فلم ساغ تعويض تاءِ التأنيث من ياءِ الإضافة؟.
قلت: لأن التأنيث والإضافة تناسبان؛ في أنَّ كل واحدٍ منهما زيادة مضمومة إلى الاسم في آخره»
.
قال شهاب الدين: «وهذا قياسٌ بعيدٌ لا يعمل به عند الحُذاق، فإنَّه يسمَّى الشَّبه الطَّردِي، أي: أنه شَبَهٌ في الصُّورة».
وقال الزمخشري: «إنه قرىء» يَا أبتِ «بالحركات الثلاث:
10
فأما الفتح والكسر فقد تقدَّم ذكر من قرأ بهما.
وأما الضم فغريبٌ جدًّا وهو يشبه من يبني المنادى المضاف لياء المتكلِّم على الضمِّ؛ كقراءة من قرأ: ﴿قَالَ رَبِّ احكم بالحق﴾ [الأنبياء: ١١٢] بضم الباء، وسيأتي توجيهها هناك إن شاء الله تعالى ولما قلنا: إنَّه مضافٌ للياءِ، ولم نجعله مفرداً من غير إضافةٍ. وقد تقدَّم توجيهُ كسر هذه التَّاء بما ذكره الزمخشريُّ من كونها هي الكسرة التي قبل الياء زحلقت إلى التاء وهذا أحدُ المذهبين.
والمذهبُ الآخر: أنَّها كسرة أجنبيَّة، جيء بها لتدُلَّ على الياءِ المعوَّض منها. فأما الفتح ففيه أربعة أوجه، ذكر الفارسي منها وجهين:
أحدهما: أنه اجتزأ بالفتحة عن الألف المنقلبة عن الياءِ؛ كما اجتزَأ عنها الآخرْ بقوله: [الوافر]
٣٠٤٨ - ولَسْتُ بِراجِعٍ ما فَاتَ منِّي بِلهْفَ ولا بِليْتَ ولا لَوَنِّي
وكما اجتزأ بها في:» يَا بْنَ أمَّ «و» يَا بْنَ عَمّ «.
والثاني: أنه رخم بحذف التاء، ثم اقحمت التَّاءُ مفتوحة؛ كقول النابغة الجعديِّ: [الطويل]
٣٠٤٩ - كِلِينِي لِهمِّ يا أمَيْمةَ نَاصبِ وليْلٍ أقَاسيهِ بَطيءِ الكَواكبِ
بفتح تاء أميمة.
الثالث: ما ذكره الفرَّاء، وأبو عبيدة، وأبو حاتم، وقطرب في أحد قوليه: وهو أن الألف في:»
يَا أبَتَا «للنُّدبة، ثم حذفها مجتزئاً عنها بالفتحة، وهذا قد ينفع في الجواب بين العوض والمعوض منه، ورد بعضهم هذاح بأنَّ المضع ليس موضع نُدبة.
الرابع: أن الأصل»
يا أبَة «بالتنوين، فحذف التنوين، لأنَّ النداء بابُ حذفٍ، وإلى هذا ذهب قطرُب في القول الثاني.
وردَّ هذا: بأ، التَّنوين لا يحذف من المنادى المنصُوب نحو:»
يَا ضَارِباً رجُلاً «.
وقرأ أبو جعفر:»
يا أبِي «بالياءِ ولم يعوض منها التَّاء، وقرأ الحسن، والحسين، وطلحة بن سليمان، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم» أحَدَ عَشَر «بسُكُون العين؛
11
كأنهم قصدّوا التنبيه بهذا التَّخفيفِ على أنَّ الاسمين جُعِلا اسماً واحداً.
قوله ﴿والشمس والقمر﴾ يجوز فيه وجهان:
أحدهما: أن تكون الواو عاطفة، وحينئذ: يحتمل أن يكُون من باب ذكر الخاصِّ بعد ذكر العام تفصيلاً له؛ لأن الشَّمس والقمر دخلا في قوله: ﴿أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً﴾ فهذا كقوله: ﴿وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ﴾ [البقرة: ٩٨] بعد قوله:» ومَلائِكتهِ «ويحتمل أن لا تكون كذلك، وتكون الواوُ لعطف المغايرة؛ فيكون قد رأى الشمس والقمر زيادة على ال» أحَدَ عَشَرَ «ومن جملتها الشمس والقمر، وهذان الاحتمالان نقلهما الزمخشريُّ.
والوجه الثاني: أن تكون الواو بمعنى:»
مَعَ «إلا أنَّه مرجوحٌ؛ لأنَّه متى أمكن العطف من غير ضعفٍ، ولا أخلال بمعنى، رُجِّح على المعيَّة؛ وعلى هذا فيكون كالوجه الذي قبله، بمعنى: أنه رأى الشمس، والقمر زيادةً على الأحد عشر كوكباً.
قوله: ﴿رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ﴾ يحتمل وجهين:
أحدهما: أنَّها جملة كُرِّرت للتوكيد؛ لما طال الفصل بالمفاعيل، كما كُرِّرت «أنكُم»
في قوله تعالى: ﴿أَنَّكُمْ إِذَا مِتٌّمْ وَكُنتُمْ تُرَاباً وَعِظاماً أَنَّكُمْ مُّخْرَجُونَ﴾ [المؤمنون: ٣٥]. كذا قالهُ أبو حيَّان، وسيأتي تحقيقه إن شاء الله تعالى.
والثاني: أنه ليس [بتأكيد]، وإليه نحا الزمخشريُّ؛ فإنه قال: «فإن قلت: ما معنى تكرار» رَأيْتُمْ «؟ قلتُ: ليس بتكرار؛ إنَّما هو كلام مُستأنَف على تقدير سؤال وقع جواباً له؛ كأنَّ يعقُوب عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ قال لهُ عند قوله: ﴿إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً والشمس والقمر﴾ كيف رأيتها؟ سائلاً عن حال رؤيتها، فقال: (رأيتهم لي ساجدين) وهذا أظهر؛ لأنَّه متى دار الكلام بين الحمل على التأكيد والتأسيس، فحمله على التَّأسيس أولى».
و «سَاجِدينَ» : صفة جُمِعَ جَمْ العقلاء، فقيل: لأنَّه لما عاملهُم معاملة العقلاء في إسناد فعلهم إليهم، جمعهم جمع العقلاء، فقيل: لأنَّ الشيء قد يعامل مُعالمة شيء آخر، إذا شاركه في صفةٍ ما؛ كما قال في صفة الأصنام: ﴿وَتَرَاهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ﴾ [الأعراف: ١٩٨]، وكقوله عَزَّ وَجَلَّ: ﴿يا أيها النمل ادخلوا مَسَاكِنَكُمْ﴾ [النمل: ١٨].
والرُّؤية هنا: مناميَّة، وقد تقدم أنَّها تنصب مفعولين؛ كالعلميَّة؛ وعلى هذا قد حذف المعفول الثاني من قوله: ﴿رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً﴾، ولكن حذفه اقتصاراً ممتنع، فلم يبق إلا اختصاراً، وهو قليلٌ، أو ممتنع عند بعضهم.
وقال بعضهم: إن إحداهما من الرُّؤية، والأخرى من الرُّؤيا.
12
قال القفَّال: ذكر الرُّؤية الأولى؛ ليدل على أنَّه شاهد الكواكبِ، والشَّمس والقمر، والثانية؛ ليدل لا على مشاهدة كونها ساجدة لهُ.

فصل


ذكر المفسرون: أنَّ يوسف عليه السلام رأى في المنام أحد عشر كوكباً، والشمس والقمر يسجدون لهُ، كان لهُ احد عشر من الإخوة يُسْتضاء بهم؛ كما يُسْتضاء بالنُّجوم، ففسَّر الكواكب: بالإخوة، والشمس والقمر: بالأب والأم، والسجُود: بتواضعهم له، ودخولهم تحت أمره، وإنما حملنا الرُّؤية على رُؤية المنام؛ لأن الكواكب لا تسجُج في الحقيقَةن ولقول يعقوب عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: ﴿لاَ تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ على إِخْوَتِكَ﴾.
وقال السديُّ: «القمر: خالته، والشَّمسُ: أبُوه؛ لأن أمَّه راحِيل كانت قد ماتت».
وقال ابن جريج: القَمَر: أبُوه، والشَّمسُ أمُّه؛ لأن الشمس مؤنثة، والقمر مذكَّر.
وقال وهب بن مُنبِّه رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: «إن يُوسفُ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ ت رأى وهو ابنُ سبع سنين، إحدى عشرة عصاً طوالاً كانت مركُوزة في الأرض كهيئة الدَّائرة، وإذا عَصاً صغيرة وثبت عليها حتى اقتلعتها، فذكر ذلك لأبيه؛ فقال: إيَّاك أن تذكر هذا لإخوتك، ثمَّ رأى وهو ابن اثنتي عشرة سنة، الشَّمس، والقمر والكواكب، تسجُد له؛ فقصَّها على أبيه؛ فقال: لا تذكرها له فيَكيدُوا لَك كَيْداً».
روى الزمخشريُّ: رَحِمَهُ اللَّهُ: «أن يهُودِيًّا جاء إلى النبيِّ صلى الله عليه سولمن فقال يا محمَّد: أخبرني عن النُّجُوم التي رآهُن يوسف، فسكت النبي عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ؛ فنزل جبريل عليها لسلام فأخبره بذلك؛ فقال عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ لليهوديَّ: إن أخبرتك بذلك هل تسلم؟ قال: نَعمْ؛ فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وشرف وكرم ومجد وبجل وعظم: حرثان، والطارق والذيال، وقابس، وعمودان، والفليق، والمصبح، والقرع، والضروح ووثاب، وذو الكتفين رآها يوسف، والشمس والقمر [نَزلْنَ] من السَّماء، وسجدن لهُ، فقال اليهوديُّ: أي والله إنَّها لأسماؤها».
13
واعلم ان كثيراً من هذه الأسماء غير مذكورة في الكتب المصنفة في صُور الكواكب.

فصل


زعمت طائفةٌ من العلماء: أ، هـ لم يكن في أولاد يعقُوب نبيٌّ غير يُوسف عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ وباقي إخوته لم يوح إليهم، واستدلُّوا بظاهر ما ذُكر من أفعالهم، وأحوالهم في هذه القصَّة، ومن استدلَّ على نُبوتهم، استدلَّ قوله تعالى: ﴿آمَنَّا بالله وَمَآ أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَآ أُنزِلَ إلى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ والأسباط﴾ [البقرة: ١٣٦] وزعم أنَّ هؤلاء: هم الأسباط، وهذا استدلال ضعيفٌ؛ لأن المراد بالأسباط: شُعوب بني إسرائيل، ما كان يوجد فيهم من الأنبياء الذين نزل عليهم الوحي، وأيضاً: فإنَّ يوسف عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ هو المخصُوص من بين إخوته بالنبوة والرسالة؛ لأنَّه نصَّ على نُبوَّته، والإيحاء إليه في آيات من القرآن ولم ينصَّ على أحد إخوته سواه؛ فدلَّ على ما ذكرنا.

فصل


في الآية دليل على تحذير المسلم أخاهُ المسلم، ولا يكُون ذلك داخلاً في معنى الغيبة؛ لأنَّ يعقُوب قد حذَّر يوسف أن يقُصَّ رُؤياه على إخوته؛ فيَكِيدُوا لهُ كيْداً، وفيها أيضاً: دليل على جواز ترك إظهار النِّعمة عند من يخشى غائلته حسداً، وفيها أيضاً: دليلٌ على مع رفة يعقُوب عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ بتأويلِ الرُّؤيا؛ فإنه علم من تأويلها: أنَّه سيظهر عليْهم.
قوله ﴿لاَ تَقْصُصْ﴾ قرأ حفص: «يا بُنيَّ» بفتح الياء، والباقون بكسرها، وقرأ العامة: بفك الصادين، وهي لغةُ الحجاز، وقرأ زيد بن عليك بصادٍ واحدةٍ مشددة، والإدغام لغة تميم، وقد تقدَّم تحقيق هذا في المائدة، عند قوله: ﴿مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ﴾ [المائدة: ٥٤] والرُّؤيا مصدر كالبُقْيَا.
وقال الزمخشريٌّ: «الرُّؤيا بمعنى: الرُّؤية، إلا أنَّها ختصةٌ بما كان في النَّوم دون اليقظة، فُرِّق بينهما بحرفي التأنيث؛ كما قيل: القربة والقربى».
وقرأ العامَّة: «الرُّؤيا» مهموزة من غير إمالة، وقرأها الكسائيُّ في رواية الدُّوريِّ عنه بالإمالةِ: وأما (الرؤيا) [يوسف: ١٠٠] : و «رُؤيَاي» الاثنتان في هذه السورة، فأمالهما الكسائيُّ من غير خلافِ في المشهور، وأبو عمرو يبدل هذه الهمزة واواً في طريق السوسيِّ.
وقال الزمخشري: وسمع الكسائيُّ: «رُيَّايَ وريَّاكَ» بالادغام، وضم الرَّاء،
14
وكسرها، وهي ضعيفة؛ لأن الواو في تقدير الهمزة؛ فلم يقو إدغامها؛ كما لم يقو إدغام «اتَّزَر» من الإزراِ، و «اتَّجرَ» من «الأجْر».
يعنى: أن العارض لا يعتدُّ به، وهذا هو الغالبُ، وقد اعتدَّ القراء بالعارض في مواضع يأتي بعضها إن شاء الله تعالى نحو قوله: «رِئْياً» في قوله: ﴿أَحْسَنُ أَثَاثاً وَرِءْياً﴾ [مريم: ٧٤] عند حمزة، و ﴿عَاداً الأولى﴾ [النجم: ٥٠] وأما كسر «ريَّاكَ» فلئلا يُؤدِّي إلى ياء ساكنة بعد ضمَّة، وأما الضمُّ فهو الأصل، والياء قد استهلكت بالإدغام.
قوله «فيَكِيدُوا» : منصُوب في جواب النَّهي، وهو في تقدَير شرطٍ وجزاءٍ، وذلك قدَّره الزمخشريُّ بقوله: «إن قصَصْتهَا عليْهِم كادُوكَ».
و «كَيْداً» فيه وجهان:
أظهرهما: أنه مصدر مؤكدٌ، وعلى هذا ففي اللام في قوله: «لَكَ» خمسة أوجه:
أحدها: أن يكون «يَكيدُ» ضمن معنى ما يتعدَّى باللاَّم؛ لأنَّه في الأصل يتعدَّى بنفسه، وقال: ﴿فَكِيدُونِي جَمِيعاً﴾ [هود: ٥٥] والتقدير: فيحتالوا لك بالكيد.
قال الزمخشري مقدِّراً لهذا الوجه: «فإن قلت: هلا قيل: فَيَكيدُوكَ» كما قيل: الفعل المضمَّن، فيكون آكد وأبلغ في التَّخويف، وذلك نحو: فيَحْتالُوا لك؛ ألا ترى إلى تأكيده بالمصدر «.
الوجه الثاني من أوجه اللاَّم: أن تكون اللاَّم معدية، ويكون هذا الفعل ممَّا يعتدَّى بحرف الجرِّ تارة، وبنفسه أخرى؛ ك»
نَصَحَ «و» شَكَرَ «كذا قالهُ أبو حيَّان، وفيه نظر؛ لأنَّ ذلك باب لا ينقاس، إنَّما يقتصر فيه على ما ذكره النُّحاة، ولم ْ يذكُروا منه كَادَ.
والثالث: أن تكون اللاَّمُ زائدة في المفعول به؛ كزيادتها في قوله: ﴿رَدِفَ لَكُم﴾ [النمل: ٧٢]، قاله أبو البقاء؛ وهو وضعيفٌ؛ لأن اللام لا تزاد إلا بأحد شرطين: تقديم المعمول، أو كون العامل فرعاً.
الرابع: أن تكون اللام للعلَّة، أي: فيَكِيدوا لأجْلِك؛ وعلى هذا فالمفعُول محذوفٌ اقتصاراً، أو اختصاراً.
الخامس: أن تتعلَّق بمحذُوف؛ لأنَّها حالٌ من»
كَيْداً «إذ هي في الأصل يجوز أن تكون صفة له لو تأخَّرت.
15
الوجه الثاني من وجهي» كَيْداً «: أن يكون مفعولاً به، أي: فيصنعوا لك كيداً، أي: أمراً يكيدُونك به، وهو مصدر في موضع الاسم، ومنه: ﴿فَأَجْمِعُواْ كَيْدَكُمْ﴾ [طه: ٦٤]، أي: ما تكيدُون به؛ ذكره أبو البقاء، وعلى هذا ففِي اللاَّم في:» لَكَ «وجهان فقط: كونُها صفة في الأصل، ثم صارت حالاً، أو هي للعلَّة، وأما الثلاثة الباقية، فلا تتأتَّى بعد، فامتناعها واضحٌ.
ثمّ قال: ﴿إِنَّ الشيطان لِلإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُّبِينٌ﴾ أي: يزيِّن لهم الشيطان، ويحملهم على الكيد بعداوته القديمة.

فصل


قال أبو سلمة: كنت أرى الرُّؤيا تهُمُّنِي، حتى سمعتُ أبا قتادة يقول: كنت أرى الرُّؤيا، فتُمْرضُنِي، حتى سمعت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يقول: «الرُّؤيا الصَّالحة من الله، فإذا رأى أحَدكُمْ ما يُحِبُّ، فلا يُحدِّثْ به إلاَّ من يحبُّ، وإذا رَأى ما يكرهُ، فلا يُحدِّثْ به، وليتفُل عن يساره، وليَتَعوَّذْ باللهِ من الشيطانِ الرَّجيم، من شر ما رأى فإنَّها لنْ تَضْره»
وقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «الرُّؤيا جُزءٌ من أربعينَ أو ستَّة وأربعينَ جُزءاً من النُّبوَّةِ، وهيَ على رجل طائرْ فإذا حدَّث بها وقعتْ». قال الراوي: وأحسبه قال: «لاتُحدِّثْ بِهَا حَبِيباً، أوْ لَبِيباً».
قال الحكماء: الرؤيا الرَّديئة يظهرُ تعبيرُها عن قُرب، والرُّؤيا الجيَّدة، إنَّما يظهر تعبيرُها بعد حين، قالوا: والسَّبب فيه أنَّ رحمة الله تقتضي ألاَّ يحصل الإعلام بوصُول الشَّر، إلا عند قُرب وصُوله حتى يقل الحُزْنُ، والغَمُّ الحاصِل بسبب توقُّعِه، وأمَّا الإعلام بالخير، فإنه يحصُل متدِّماً على ظهوره، بزمانٍ طويلٍ؛ حتى يكون السُّرورُ الحاصِل بسبب توقُّع حصُولهِ كَثِيراً.

فصل


قال القرطبيُّ: «الرُّؤيا حالةٌ شريفة، ومنزِلةٌ رفيعَةٌ، قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ:» لَمْ يَبقَ بعدي من
16
المبشراتِ إلاَّ الرُّؤيا الصَّالحة، يَراهَا [الرجل] الصَّالحُ، أو ترى له «وقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: [أصْدقُكم رُؤيَا، أصدقكُمْ حَديثاً، وحكم صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ] بأنَّها جزءٌ من ستَّةٍ وأرْبعينَ جُزءاً من النُّبوَّة وروي: من سبعين، وروي: من [تسعة] وأرْبعينَ، وروي: من خَمسِينَ جُزءاًن ورويك من ستَّةٍ وعشْرينَ جُزءاً من النُبوَّةِ، وروي: من أرْبعينَ، والصحيح: حديث السِّت والأربعين، ويتلوه في الصِّحة حديث السَّبعين.
فإن قيل: إن يوسف عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ ت كان صغيراً، والصغير لا حكم لفعله، فكيف يكون لرُّؤياه حكم، حتى يقول له أبو: ﴿لاَ تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ على إِخْوَتِكَ﴾.
فالجواب: أن الرُّؤيا إدراكُ حقيقةٍ، فتكون من الصَّغير كما يكُون منه الإدراك الحقيقيُّ في اليقظة، وإذا أخبر عمَّا رأى في اليقظة، صدق؛ فكذلك إذا أخبر عمَّا رأى في المنامِ، ورُوِي: أن يوسف عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ كان ابن اثنتي عشر سنة.

فصل


في الآية دليلٌ على أن الرُّؤيا لا تقصُّ على غير شقيق ولا ناصح، ولا على امرىءٍ لا يحسن التأويل فيها.
وروى الترمذيُّ: أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال:»
الرُّؤيا برجْل طائرْ، ما لَمْ يحدِّث بها صَاحبُهَا، فإذا حدَّث بها، وقعتْ، فلا تُحدِّثُوا بهَا إلا عارفاً، أو مُحبًّا، أوْ ناصحاً «.
قوله ﴿وكذلك يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ﴾ الكاف في موضع نصب، أو رفع.
فالنَّصبُ إما على الحال من ضمير المصدر المقدَّر، وقد تقدم أنه رأي سيبويه، وإمَّا على النعت لمصدر محذوف، والمعنى: مثل ذلك الاجتباء العظيم يجتبيك.
والرَّفع على أنَّه خبر ابتداء مضمر، يعني: الأمر كذلك، وقد تقدم نظيره.
قوله: ﴿وَيُعَلِّمُكَ مِن تَأْوِيلِ الأحاديث﴾ مستأنف ليس داخلاً في حيِّز التشبيه، والتقدير: وهو يعلمك، والأحاديث: جمع تكسير، فقيل: لواحد ملفوظٍ به، وهو «حَدِيث»
ولكنَّه شذَّ جمعه على: أحاديث، وله أخوات في الشُّذُوذ؛ كأباطيلنو أقَاطِيع، وأعَارِيض، في «بَاطل وقَطيع وعَروض».
[وزعم] أبو زيد: «أن لهَا واحداً مقدراً، وهو» أحْدُوثة «ونحوه، وليس باسم
17
جمع؛ لأن هذه الصِّغة مختصًّة بالتكسير، وإذا كانوا قد التزمُوا ذلك فيما لم يصرح له مفردٌ من لفظه، نحو:» شَماطِيط «، و ﴿أَبَابِيلَ﴾ [الفيل: ٣] ففي أحاديث أولى».
ولهذا ردَّ على الزمخشري قوله: «وهي اسمُ جمع للحديث، وليس بجمع أحدوثة» بما ذكرنا، ولكن قوله: «ليس بجمع أحدُوثة» صحيح؛ لأن مذهب الجمهُور خلافه، على أنَّ كلامه قد يُريد به غير ظاهره من قوله: «اسم جمع».

فصل


قال الزجاج: الاجتباء مشتقٌّ من جببتُ الشيء: إذا أخلصته لنفسِك، ومنه: جَبُبت الماء في الحوض، والمعنى: كما رفع منزلتك بهذه الرُّؤيَا العظيمة الدَّالة على الشَّرفِ والعز، كذلك يَجْتَبِيك ربُّك، ويصْطَفِيك ربُّك بالنُّبوَّة.
وقيل: بإعلاء الدَّرجة (ويعلمك من تأويل الأحاديث) : يريد تعبير الرُّؤيا، وسُمِّي تأويلاً؛ لأنَّه يئول أمره إلى ما رأى في منامه، والتأويل: ما يئول إليه عاقبة الأمْر، كان عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ غاية في علم التَّعبير.
وقيل: في تأويل الأحاديثِ في كتبه تعالى، والأخبار المرويَّة عن الأنبياء المتقدمين عليهم الصلاة والسلام.
وقيل: الأحاديث: جمع «حَدِيث»، والحديث هو الحَادثُ، وتأويلُها: مآلهُا ومآل الحوادث إلى قُدرَة الله تعالى، وتكوينه، وحكمته، والمراد من تأويل الأحاديث: كيفية الاستدلالِ بأصناف المخلوقات على قدرة الله تعالى وحمته، وجلاله.
قوله: ﴿وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ﴾ يجوز أن يتعلق «عَليْكَ» ب «يُتِمُّ» وأن يتعلق ب «نِعْمتَهُ»، وكرَّر «عَلَى في قوله:» وعَلى آلِ «لتمكنِ العطف على الضمير المجرورنن وهذا مذهبُ البصريِّين.
وقوله ﴿مِن قَبْلُ﴾ أي: من قبلك: واعلم: أنَّ من فسر الاجتباء بالنُّبوَّة، لا يمكِنُه أن يفسِّر إتمام النِّعمة ههنا بالنبوة، وإلا لزم التكرارن بل يفسر إتمام النِّعمة ههنا: بسعادات الدنيا والآخرة.
أما سعادات الدنيا؛ فالإكثار من الولدِ، والخدمِ، والأتباع، والتَّوسُّع في المال والجاه، والجلال في قلوب الخلقِ، وحسن الثَّناء وَالحمد، وَأما سعادات الآخرة، فالعُلُوم الكثيرةن والأخلاق الفاضلة.
18
وقيل: المراد من إتمام النِّعمة: خلاصته من المحن، ويكون وجه التَّشبيه ب» إبراهيم وإسحاق عليهما الصلاة والسلام «وهو إنعام الله تعالى على إبراهيم بإنجائه من النَّارن وعلى ابنه إسحاق بتخليصه من الذَّبح
وقيل: إن إتْمَام النَّعمة هو: وصْل نعم الدُّنْيَا بنِعَم الآخرة؛ بأن جعلهُم في الدُّنيَا أنبياء مُلُوكاً، ونقلهُم عنها إلى الدَّرجات العُلَى في الآخرة.
وقيل:: إتمام النِّعمة على إبراهيم: خُلَّتهُ، ونعلى إسحاق بأخراج يعقُوب والأسباط من صلبه.
ومن فسر الاجتباء: بالدَّرجات العالية؛ فسَّر: إتمام النِّعمة: بالنُّبوَّة؛ لأنَّ الكمال المطلق، والتَّمام المطلق في حقَّ البشرِ ليْس إلاَّ النُّبوَّة، يدلُّ عليه قوله تعالى: ﴿وعلى آلِ يَعْقُوبَ﴾ أي: على أولاده؛ لأن أولاده كلهم كانُوا أنبياء، وقوله: ﴿كَمَآ أَتَمَّهَآ على أَبَوَيْكَ مِن قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ﴾ والنِّعمة التَّامة التي بها حصل امتياز إبراهيم وإسحاق من سائر النَّاس ليس إلا النبوة؛ فوجب أن يكون المرادُ بإتمام النِّعمة: هو النبوة، وعلى هذا فيلزم الحكم بأنَّ أولاده يعقوبكلهم كانوا أنبياء؛ كقوله تعالى: ﴿وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وعلى آلِ يَعْقُوبَ﴾.
فإن قيل: كيف يجوز أن يكُونُوا أنبياء، وقد أقدموا على ما أقدمُوا عليه في حقِّ يُوسُف عليه السلام؟.
فالجواب: أنَّ ذلك وقع قبل النبوَّة، العصمة، إنَّما تثبتُ في وقتِ النُّبوَّة، لا قبلها.
قوله ﴿إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ﴾ «يجُوز أن يكونا بدلاً من»
أبَويْكَ «أو عطف بيان، أو على إضمار أعني»، ثم لما وعد عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ بهذه الدرجات الثلاث، ختم [الآية] بقوله: ﴿إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾ فقوله «عَلِيمٌ» إشارة إلى قوله: ﴿الله أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ﴾ [الأنعام: ١٢٤]، وقوله: «حَكِيمٌ» إشارة إلى أنه مقدَّس عن العبث، فلا يضع النبوة إلا في نفسٍ قُدسيَّة ط
فإن قيل: هذه البشارات التي ذكرها يعقوب هل كان قاطعاً بصحَّتها، أم لا؟ فإن كان قاطعاً بصحَّتها، فيكف حزن على يوسف؟ وكيف جاز أن يشتبه عليه أنَّ الذئب أكلهُ؟ وكيف خاف عليه من إخوته أن يهلكوه؟ وكيف قال لإخوته: ﴿وَأَخَافُ أَن يَأْكُلَهُ الذئب وَأَنْتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ﴾ [يوسف: ١٣] مع علمه بأن الله تعالى سيُنَجِّيه، ويبعثُه رسولاً؟.
وإن قلت: إنه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ ما كان عالماً بهذه الأحوال، فكيف قطع بها؟ وكيف حكم بوقوعها جزماً من غير تردُّدٍ؟.
فالجواب قال ابنُ الخطيب: «لا يبعُد أن يكون: قوله: ﴿وكذلك يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ﴾ مشروطاً
19
بألا يكيدُوه؛ لأن ذكر ذلك قد تقدَّم، وأيضاً: فيبعُد أن يقال: إنه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ سيصلُ إلى هذه المناصب، إلا أنه لا يمتنعُ أن يقع في المضايق الشديدة، ثم يتخلَّص منها، أو يصل إلى تلك المناصب، وكان خوفه بهذا السَّبب، ويكُون معنى قوله: ﴿وَأَخَافُ أَن يَأْكُلَهُ الذئب﴾ [يوسف: ١٣] الزَّجز عن التهاون في حقِّه وإن كان يعلم أن الذئب لا يصل إليه».
20
قوله تعالى :﴿ إِذْ قَالَ يُوسُفُ لأَبِيهِ ﴾ الآية.
رُوِي أن علماء اليهود قالوا لكبراء المشركين : سلْوا محمَّداً لم انتقل يعقوب من الشَّام إلى مصر ؟ وعن كيفيَّة قصَّة يوسف ؟ فأنز الله تعالى هذه السورة.
وفي العامل في " إذْ " أوجهٌ :
أظهرها : أنه منصُوب ب " قَالَ يَا بُنَيَّ " أي : قال يعقوب : يا بني وقت قول يُوسف لهُ : كَيْتَ وكَيْتَ، وهذا أسهل الوجوه ؛ إذ فيه إبقاء " إذْ " كونها ظرفاً ماضياً.
وقيل : الناسب له :" الغَالفينَ " قاله مكيٌّ.
وقيل : هو منصوبٌ ب " نَقُصُّ " أي : نقصُّ عليك وقتَ قوله كَيْتَ وكَيْتَ، وهذا فيه [ إخراج ] " إذْ " عن المضيِّ، وعن الظرفيَّة، وإن قدَّرت المفعول محذوفاً، أي : نقصُّ عليك الحال وقت قوله، لزم أخراجها عن المضيِّ.
وقيل : هو منصوب بمضمر، أي : اذكُر.
وقيل : هو منصُوب على أنَّه بدل من " أحسن القصص " بدل اشتمال.
قال الزمخشري :" لأنَّ الوقت يشتمل على القصص وهو المقصوص " و " يُوسفُ " اسم عبرانيٌّ، ولذلك لا ينصرف، وقيل : هو عربيٌّ، فقال الزمخشريُّ :" الصَحيحُ أنه اسم عبرانيٌّ ؛ لأنه لو كان عربيًّا، لانصرف " وسئل أبو الحسن الأقطع عن الأسف فقال :" الأسف في اللغة : الحُزن، والأسف : العَبْد، واجتمعا في يوسف ؛ فسُمِّي بهما ".
روي ابن عمر عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال :" الكَرِيمُِ ابنُ الكَريمِ ابْنِ الكريمِ ابن الكريم، يُوسف بنُ يعقُوبَ بنِ إسحاقَ بنِ إبْراهيمَ صَلواتُ اللهِ وسلامه عليهم أجمعين ".
قوله :" يَا أبَتِ " قرأ ابن عامر : بفتح التَّاء، والباقون بكسرها، وهذه التَّاء عوض عن ياء المتكلم ؛ ولذلك لا يجوز الجمع بينهما.
وهذا مختصٌّ بلفظتين : يا أبَتِ ويَا أمَّتِ، ولا يجُوز في غيرهما من الأسماء، لو قلت :" يَا صَاحِبتِ " لم يجُز ألبتَّة ؛ كما اختصَّت لفظة الأم والعم بحكم في نحو :" يا ابْنَ أمَّ " ويجوز الجمع بين هذه التَّاء، وبين كلِّ من الياءِ والألفِ ضرورةً ؛ كقوله :[ الرجز ]
٣٠٤٤ يَا أبَتَا عَلَّكَ أوْ عَسَاكَا *** وقول الآخر :[ المتقارب ]
٣٠٤٥ أيَا أبَتَا لا تَزْلْ عِنْدنَا *** فإنَّا نَخافُ بأنْ تُخْتَرَمْ
وقول الآخر :[ الطويل ]
٣٠٤٦ أيَا أبَتِي لا زلْتَ فينَا فإنَّمَا *** لنَا أمَلٌ فِي العَيْشِ ما دُمْتَ عَائِشَا
وكلامُ الزمخشريِّ يؤذن بأنَّ الجمع بين التَّاء والألفِ ليس ضرورةً ؛ فإنَّه قال :" فإن قلت : فما هَذه الكسْرة ؟ قلتُ : هي الكسْرة الَّتي كَانتْ قبل الياءِ في قولك :" يا أبي " قد زُحلقَتْ إلى التاء ؛ لاقتضاء تاءِ التَّأنيث أن يكُون ما قبْلَها مفتوحاً.
فإن قلت : فما بالُ الكسرة لم تَسْقُطْ بالفَتْحَة الَّتي اقْتَضَتْهَا التَّاء، وتبقَى التَّاءُ ساكنةً ؟.
قلت : امتنع ذلك فيها ؛ لأنَّها اسم، والأسماءُ حقُّها التحريكُ ؛ لأصالتها في الإعراب، وإنما جاز تسكينُ الياء، وأصلها أن تحرَّك تخفيفاً ؛ لأنها حرف لين، وأما التاء، فحرفٌ صحيحٌ، نحو كافِ الضمير ؛ فلزم تحريكها.
فإن قلت : يشبه الجمع بين هذه التَّاء وبين هذه الكسرة الجمع بين العوض والمعوَّض منه ؛ لأنَّها في حكم الياء، إذا قلت : يا غُلام، فكَمَا لا يَجُوز :" يا أبتي " لا يجوز " يا أبتِ " قلت : الياءُ والكسرة قبلها شيئان، والتَّاء عوض من أحد الشيئين، وهو الياء، والكسرة متعرَّض لها ؛ فلا يجمع بين العوض والمعوَّض منه، إلا إذا جُمِعَ بين التَّاء والياء لاغير ؛ ألا ترى إلى قولهم :" يَا أبَتَا " مع كونِ الألف فيه بدلاً من الياءِ، كيف جاز بينها وبين التاء، ولم يعدَّ ذلك جمعاً بين العوض والمعوَّض منه ؟ فالكسرة أبعد من ذلك.
فإن قلت : قد دلَّت الكسرة في " يا غُلام " على الإضافة ؛ لأنَّها قرينة الياءِ ولصيقتها، فإن دلَّت على مثل ذلك في :" يا أبت " فالتَّاء الَمعوَّة لغو، وجودها كعدمها.
قلت :[ بل ] حالها مع التَّاء كحالها مع الياءِ إذا قلت :" يا أبِي ".
وكذا عبارة أبي حيَّان، فإنه قال : وهذه التَّاء عوض من ياءِ الإضافة فلا تجتمعان، وتجامع الألف التي هي بدل من التاء، كما قال :[ الرجز ]
٣٠٤٧ يَا أبَتَا عَلَّكَ أوْ عَسَاكَا *** وفيه نظر ؛ من حيث إن الألف كالتاء لكونها بدلاً منها، فينبغي أن لا يجمع بينهما، وهذا تاء أصلها للتأَنيث.
قال الزمخشريُّ :" فإن قلتك ما هذه التَّاء ؟ قلتك تاءُ التأنيث وقعت عوضاً من ياء الإضافة، والدَّليل على أنَّها تاء التَّأنيث : قلبُهَا هاءً في الوقف ".
قال شهاب الدِّين : وما ذكرهُ من كونها تقلب هاءً في الوقف، قرأ به ابنُ كثير، وابن عامرٍ، والباقُون وقفوا عليها بالتَّاء، كأَنَّهم أجروها مجرى تاء الإلحاق في " بِنْت وأخْت " وممن نصَّ على كونهخا للتَّأنيث : سيبويه ؛ فإنه قال :" سَألْت الخليل عن التَّاء في :" يَا أبتِ " فقال : هي بِمنزِلَة التَّاء في تاء " يا خالة وعمَّة " يعنى : أنَّها للتَّأنيث " ويدلُّ أيضاً على كونها للتأنيث : كتبُهم إيَّاها هاءً، وقياس من وقف بالتَّاء : أن يكُبهَا تاء، ك " بِنْت وأخْت ".
ثم قال الزمخشري : فإن قلت : كيف جاز إلحاق تاءِ التَّأنيث بالمذكَّر ؟.
قلت : كما جاز نحو قولك : حمامة ذكر، وشاةٌ ذكر، ورجل ربعة، وغلامٌ يفعة قلت : يعني : أنها جيء بهَا لمُجرَّد تأنيث اللفظ، كما في الأسماء المستشهد بها.
ثم قال الزمخشري :" فإن قلت : فلم ساغ تعويض تاءِ التأنيث من ياءِ الإضافة ؟.
قلت : لأن التأنيث والإضافة تناسبان ؛ في أنَّ كل واحدٍ منهما زيادة مضمومة إلى الاسم في آخره ".
قال شهاب الدين :" وهذا قياسٌ بعيدٌ لا يعمل به عند الحُذاق، فإنَّه يسمَّى الشَّبه الطَّردِي، أي : أنه شَبَهٌ في الصُّورة ".
وقال الزمخشري :" إنه قرىء " يَا أبتِ " بالحركات الثلاث :
فأما الفتح والكسر فقد تقدَّم ذكر من قرأ بهما.
وأما الضم فغريبٌ جدًّا وهو يشبه من يبني المنادى المضاف لياء المتكلِّم على الضمِّ ؛ كقراءة من قرأ :﴿ قَالَ رَبِّ احكم بالحق ﴾ [ الأنبياء : ١١٢ ] بضم الباء، وسيأتي توجيهها هناك إن شاء الله تعالى ولما قلنا : إنَّه مضافٌ للياءِ، ولم نجعله مفرداً من غير إضافةٍ. وقد تقدَّم توجيهُ كسر هذه التَّاء بما ذكره الزمخشريُّ من كونها هي الكسرة التي قبل الياء زحلقت إلى التاء وهذا أحدُ المذهبين.
والمذهبُ الآخر : أنَّها كسرة أجنبيَّة، جيء بها لتدُلَّ على الياءِ المعوَّض منها. فأما الفتح ففيه أربعة أوجه، ذكر الفارسي منها وجهين :
أحدهما : أنه اجتزأ بالفتحة عن الألف المنقلبة عن الياءِ ؛ كما اجتزَأ عنها الآخرْ بقوله :[ الوافر ]
٣٠٤٨ ولَسْتُ بِراجِعٍ ما فَاتَ منِّي *** بِلهْفَ ولا بِليْتَ ولا لَوَنِّي
وكما اجتزأ بها في :" يَا بْنَ أمَّ " و " يَا بْنَ عَمّ ".
والثاني : أنه رخم بحذف التاء، ثم اقحمت التَّاءُ مفتوحة ؛ كقول النابغة الجعديِّ :[ الطويل ]
٣٠٤٩ كِلِينِي لِهمِّ يا أمَيْمةَ نَاصبِ *** وليْلٍ أقَاسيهِ بَطيءِ الكَواكبِ
بفتح تاء أميمة.
الثالث : ما ذكره الفرَّاء، وأبو عبيدة، وأبو حاتم، وقطرب في أحد قوليه : وهو أن الألف في :" يَا أبَتَا " للنُّدبة، ثم حذفها مجتزئاً عنها بالفتحة، وهذا قد ينفع في الجواب بين العوض والمعوض منه، ورد بعضهم هذاح بأنَّ المضع ليس موضع نُدبة.
الرابع : أن الأصل " يا أبَة " بالتنوين، فحذف التنوين، لأنَّ النداء بابُ حذفٍ، وإلى هذا ذهب قطرُب في القول الثاني.
وردَّ هذا : بأ، التَّنوين لا يحذف من المنادى المنصُوب نحو :" يَا ضَارِباً رجُلاً ".
وقرأ أبو جعفر :" يا أبِي " بالياءِ ولم يعوض منها التَّاء، وقرأ الحسن، والحسين، وطلحة بن سليمان، رضي الله عنهم " أحَدَ عَشَر " بسُكُون العين ؛ كأنهم قصدّوا التنبيه بهذا التَّخفيفِ على أنَّ الاسمين جُعِلا اسماً واحداً.
قوله ﴿ والشمس والقمر ﴾ يجوز فيه وجهان :
أحدهما : أن تكون الواو عاطفة، وحينئذ : يحتمل أن يكُون من باب ذكر الخاصِّ بعد ذكر العام تفصيلاً له ؛ لأن الشَّمس والقمر دخلا في قوله :﴿ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً ﴾ فهذا كقوله :﴿ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ ﴾ [ البقرة : ٩٨ ] بعد قوله :" ومَلائِكتهِ " ويحتمل أن لا تكون كذلك، وتكون الواوُ لعطف المغايرة ؛ فيكون قد رأى الشمس والقمر زيادة على ال " أحَدَ عَشَرَ " ومن جملتها الشمس والقمر، وهذان الاحتمالان نقلهما الزمخشريُّ.
والوجه الثاني : أن تكون الواو بمعنى :" مَعَ " إلا أنَّه مرجوحٌ ؛ لأنَّه متى أمكن العطف من غير ضعفٍ، ولا أخلال بمعنى، رُجِّح على المعيَّة ؛ وعلى هذا فيكون كالوجه الذي قبله، بمعنى : أنه رأى الشمس، والقمر زيادةً على الأحد عشر كوكباً.
قوله :﴿ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ ﴾ يحتمل وجهين :
أحدهما : أنَّها جملة كُرِّرت للتوكيد ؛ لما طال الفصل بالمفاعيل، كما كُرِّرت " أنكُم " في قوله تعالى :﴿ أَنَّكُمْ إِذَا مِتٌّمْ وَكُنتُمْ تُرَاباً وَعِظاماً أَنَّكُمْ مُّخْرَجُونَ ﴾ [ المؤمنون : ٣٥ ]. كذا قالهُ أبو حيَّان، وسيأتي تحقيقه إن شاء الله تعالى.
والثاني : أنه ليس [ بتأكيد ]، وإليه نحا الزمخشريُّ ؛ فإنه قال :" فإن قلت : ما معنى تكرار " رَأيْتُمْ " ؟ قلتُ : ليس بتكرار ؛ إنَّما هو كلام مُستأنَف على تقدير سؤال وقع جواباً له ؛ كأنَّ يعقُوب عليه الصلاة والسلام قال لهُ عند قوله :﴿ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً والشمس والقمر ﴾ كيف رأيتها ؟ سائلاً عن حال رؤيتها، فقال :( رأيتهم لي ساجدين ) وهذا أظهر ؛ لأنَّه متى دار الكلام بين الحمل على التأكيد والتأسيس، فحمله على التَّأسيس أولى ".
و " سَاجِدينَ " : صفة جُمِعَ جَمْ العقلاء، فقيل : لأنَّه لما عاملهُم معاملة العقلاء في إسناد فعلهم إليهم، جمعهم جمع العقلاء، فقيل : لأنَّ الشيء قد يعامل مُعالمة شيء آخر، إذا شاركه في صفةٍ ما ؛ كما قال في صفة الأصنام :﴿ وَتَرَاهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ ﴾ [ الأعراف : ١٩٨ ]، وكقوله عز وجل :﴿ ياأيها النمل ادخلوا مَسَاكِنَكُمْ ﴾ [ النمل : ١٨ ].
والرُّؤية هنا : مناميَّة، وقد تقدم أنَّها تنصب مفعولين ؛ كالعلميَّة ؛ وعلى هذا قد حذف المعفول الثاني من قوله :﴿ رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً ﴾، ولكن حذفه اقتصاراً ممتنع، فلم يبق إلا اختصاراً، وهو قليلٌ، أو ممتنع عند بعضهم.
وقال بعضهم : إن إحداهما من الرُّؤية، والأخرى من الرُّؤيا.
قال القفَّال : ذكر الرُّؤية الأولى ؛ ليدل على أنَّه شاهد الكواكبِ، والشَّمس والقمر، والثانية ؛ ليدل لا على مشاهدة كونها ساجدة لهُ.

فصل


ذكر المفسرون : أنَّ يوسف عليه السلام رأى في المنام أحد عشر كوكباً، والشمس والقمر يسجدون لهُ، كان لهُ احد عشر من الإخوة يُسْتضاء بهم ؛ كما يُسْتضاء بالنُّجوم، ففسَّر الكواكب : بالإخوة، والشمس والقمر : بالأب والأم، والسجُود : بتواضعهم له، ودخولهم تحت أمره، وإنما حملنا الرُّؤية على رُؤية المنام ؛ لأن الكواكب لا تسجُج في الحقيقَةن ولقول يعقوب عليه الصلاة والسلام :{ لاَ تَقْصُصْ ر
في الآية دليل على تحذير المسلم أخاهُ المسلم، ولا يكُون ذلك داخلاً في معنى الغيبة ؛ لأنَّ يعقُوب قد حذَّر يوسف أن يقُصَّ رُؤياه على إخوته ؛ فيَكِيدُوا لهُ كيْداً، وفيها أيضاً : دليل على جواز ترك إظهار النِّعمة عند من يخشى غائلته حسداً، وفيها أيضاً : دليلٌ على مع رفة يعقُوب عليه الصلاة والسلام بتأويلِ الرُّؤيا ؛ فإنه علم من تأويلها : أنَّه سيظهر عليْهم.
قوله ﴿ لاَ تَقْصُصْ ﴾ قرأ حفص :" يا بُنيَّ " بفتح الياء، والباقون بكسرها، وقرأ العامة : بفك الصادين، و هي لغةُ الحجاز، وقرأ زيد بن عليك بصادٍ واحدةٍ مشددة، والإدغام لغة تميم، وقد تقدَّم تحقيق هذا في المائدة، عند قوله :﴿ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ ﴾ [ المائدة : ٥٤ ] والرُّؤيا مصدر كالبُقْيَا.
وقال الزمخشريٌّ :" الرُّؤيا بمعنى : الرُّؤية، إلا أنَّها ختصةٌ بما كان في النَّوم دون اليقظة، فُرِّق بينهما بحرفي التأنيث ؛ كما قيل : القربة والقربى ".
وقرأ العامَّة :" الرُّؤيا " مهموزة من غير إمالة، وقرأها الكسائيُّ في رواية الدُّوريِّ عنه بالإمالةِ : وأما ( الرؤيا ) [ يوسف : ١٠٠ ] : و " رُؤيَاي " الاثنتان في هذه السورة، فأمالهما الكسائيُّ من غير خلافِ في المشهور، وأبو عمرو يبدل هذه الهمزة واواً في طريق السوسيِّ.
وقال الزمخشري : وسمع الكسائيُّ :" رُيَّايَ وريَّاكَ " بالادغام، وضم الرَّاء، وكسرها، وهي ضعيفة ؛ لأن الواو في تقدير الهمزة ؛ فلم يقو إدغامها ؛ كما لم يقو إدغام " اتَّزَر " من الإزراِ، و " اتَّجرَ " من " الأجْر ".
يعنى : أن العارض لا يعتدُّ به، وهذا هو الغالبُ، وقد اعتدَّ القراء بالعارض في مواضع يأتي بعضها إن شاء الله تعالى نحو قوله :" رِئْياً " في قوله :﴿ أَحْسَنُ أَثَاثاً وَرِءْياً ﴾ [ مريم : ٧٤ ] عند حمزة، و ﴿ عَاداً الأولى ﴾ [ النجم : ٥٠ ] وأما كسر " ريَّاكَ " فلئلا يُؤدِّي إلى ياء ساكنة بعد ضمَّة، وأما الضمُّ فهو الأصل، والياء قد استهلكت بالإدغام.
قوله " فيَكِيدُوا " : منصُوب في جواب النَّهي، وهو في تقدَير شرطٍ وجزاءٍ، وذلك قدَّره الزمخشريُّ بقوله :" إن قصَصْتهَا عليْهِم كادُوكَ ".
و " كَيْداً " فيه وجهان :
أظهرهما : أنه مصدر مؤكدٌ، و على هذا ففي اللام في قوله :" لَكَ " خمسة أوجه :
أحدها : أن يكون " يَكيدُ " ضمن معنى ما يتعدَّى باللاَّم ؛ لأنَّه في الأصل يتعدَّى بنفسه، وقال :﴿ فَكِيدُونِي جَمِيعاً ﴾ [ هود : ٥٥ ] والتقدير : فيحتالوا لك بالكيد.
قال الزمخشري مقدِّراً لهذا الوجه :" فإن قلت : هلا قيل : فَيَكيدُوكَ " كما قيل : الفعل المضمَّن، فيكون آكد وأبلغ في التَّخويف، وذلك نحو : فيَحْتالُوا لك ؛ ألا ترى إلى تأكيده بالمصدر ".
الوجه الثاني من أوجه اللاَّم : أن تكون اللاَّم معدية، ويكون هذا الفعل ممَّا يعتدَّى بحرف الجرِّ تارة، وبنفسه أخرى ؛ ك " نَصَحَ " و " شَكَرَ " كذا قالهُ أبو حيَّان، وفيه نظر ؛ لأنَّ ذلك باب لا ينقاس، إنَّما يقتصر فيه على ما ذكره النُّحاة، ولم ْ يذكُروا منه كَادَ.
والثالث : أن تكون اللاَّمُ زائدة في المفعول به ؛ كزيادتها في قوله :﴿ رَدِفَ لَكُم ﴾ [ النمل : ٧٢ ]، قاله أبو البقاء ؛ وهو وضعيفٌ ؛ لأن اللام لا تزاد إلا بأحد شرطين : تقديم المعمول، أو كون العامل فرعاً.
الرابع : أن تكون اللام للعلَّة، أي : فيَكِيدوا لأجْلِك ؛ وعلى هذا فالمفعُول محذوفٌ اقتصاراً، أو اختصاراً.
الخامس : أن تتعلَّق بمحذُوف ؛ لأنَّها حالٌ من " كَيْداً " إذ هي في الأصل يجوز أن تكون صفة له لو تأخَّرت.
الوجه الثاني من وجهي " كَيْداً " : أن يكون مفعولاً به، أي : فيصنعوا لك كيداً، أي : أمراً يكيدُونك به، وهو مصدر في موضع الاسم، ومنه :﴿ فَأَجْمِعُواْ كَيْدَكُمْ ﴾ [ طه : ٦٤ ]، أي : ما تكيدُون به ؛ ذكره أبو البقاء، وعلى هذا ففِي اللاَّم في :" لَكَ " وجهان فقط : كونُها صفة في الأصل، ثم صارت حالاً، أو هي للعلَّة، وأما الثلاثة الباقية، فلا تتأتَّى بعد، فامتناعها واضحٌ.
ثمّ قال :﴿ إِنَّ الشيطان لِلإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُّبِينٌ ﴾ أي : يزيِّن لهم الشيطان، ويحملهم على الكيد بعداوته القديمة.

فصل


قال أبو سلمة : كنت أرى الرُّؤيا تهُمُّنِي، حتى سمعتُ أبا قتادة يقول : كنت أرى الرُّؤيا، فتُمْرضُنِي، حتى سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :" الرُّؤيا الصَّالحة من الله، فإذا رأى أحَدكُمْ ما يُحِبُّ، فلا يُحدِّثْ به إلاَّ من يحبُّ، وإذا رَأى ما يكرهُ، فلا يُحدِّثْ به، وليتفُل عن يساره، وليَتَعوَّذْ باللهِ من الشيطانِ الرَّجيم، من شر ما رأى فإنَّها لنْ تَضْره " وقال صلى الله عليه وسلم :" الرُّؤيا جُزءٌ من أربعينَ أو ستَّة وأربعينَ جُزءاً من النُّبوَّةِ، وهيَ على رجل طائرْ فإذا حدَّث بها وقعتْ ". قال الراوي : وأحسبه قال :" لاتُحدِّثْ بِهَا حَبِيباً، أوْ لَبِيباً ".
قال الحكماء : الرؤيا الرَّديئة يظهرُ تعبيرُها عن قُرب، والرُّؤيا الجيَّدة، إنَّما يظهر تعبيرُها بعد حين، قالوا : والسَّبب فيه أنَّ رحمة الله تقتضي ألاَّ يحصل الإعلام بوصُول الشَّر، إلا عند قُرب وصُوله حتى يقل الحُزْنُ، والغَمُّ الحاصِل بسبب توقُّعِه، وأمَّا الإعلام بالخير، فإنه يحصُل متدِّماً على ظهوره، بزمانٍ طويلٍ ؛ حتى يكون السُّرورُ الحاصِل بسبب توقُّع حصُولهِ كَثِيراً.

فصل


قال القرطبيُّ :" الرُّؤيا حالةٌ شريفة، ومنزِلةٌ رفيعَةٌ، قال صلى الله عليه وسلم :" لَمْ يَبقَ بعدي من المبشراتِ إلاَّ الرُّؤيا الصَّالحة، يَراهَا [ الرجل ] الصَّالحُ، أو ترى له " وقال صلى الله عليه وسلم :[ أصْدقُكم رُؤيَا، أصدقكُمْ حَديثاً، وحكم صلى الله عليه وسلم ] بأنَّها جزءٌ من ستَّةٍ وأرْبعينَ جُزءاً من النُّبوَّة وروي : من سبعين، وروي : من [ تسعة ] وأرْبعينَ، وروي : من خَمسِينَ جُزءاًن ورويك من ستَّةٍ وعشْرينَ جُزءاً من النُبوَّةِ، وروي : من أرْبعينَ، والصحيح : حديث السِّت والأربعين، ويتلوه في الصِّحة حديث السَّبعين.
فإن قيل : إن يوسف عليه الصلاة والسلام ت كان صغيراً، والصغير لا حكم لفعله، فكيف يكون لرُّؤياه حكم، حتى يقول له أبو :﴿ لاَ تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ على إِخْوَتِكَ ﴾.
فالجواب : أن الرُّؤيا إدراكُ حقيقةٍ، فتكون من الصَّغير كما يكُون منه الإدراك الحقيقيُّ في اليقظة، وإذا أخبر عمَّا رأى في اليقظة، صدق ؛ فكذلك إذا أخبر عمَّا رأى في المنامِ، ورُوِي : أن يوسف عليه الصلاة والسلام كان ابن اثنتي عشر سنة.

فصل


في الآية دليلٌ على أن الرُّؤيا لا تقصُّ على غير شقيق ولا ناصح، ولا على امرىءٍ لا يحسن التأويل فيها.
وروى الترمذيُّ : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :" الرُّؤيا برجْل طائرْ، ما لَمْ يحدِّث بها صَاحبُهَا، فإذا حدَّث بها، وقعتْ، فلا تُحدِّثُوا بهَا إلا عارفاً، أو مُحبًّا، أوْ ناصحاً ".
قوله ﴿ وكذلك يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ ﴾ الكاف في موضع نصب، أو رفع.
فالنَّصبُ إما على الحال من ضمير المصدر المقدَّر، وقد تقدم أنه رأي سيبويه، وإمَّا على النعت لمصدر محذوف، والمعنى : مثل ذلك الاجتباء العظيم يجتبيك.
والرَّفع على أنَّه خبر ابتداء مضمر، يعني : الأمر كذلك، وقد تقدم نظيره.
قوله :﴿ وَيُعَلِّمُكَ مِن تَأْوِيلِ الأحاديث ﴾ مستأنف ليس داخلاً في حيِّز التشبيه، والتقدير : وهو يعلمك، والأحاديث : جمع تكسير، فقيل : لواحد ملفوظٍ به، وهو " حَدِيث " ولكنَّه شذَّ جمعه على : أحاديث، وله أخوات في الشُّذُوذ ؛ كأباطيلنو أقَاطِيع، وأعَارِيض، في " بَاطل وقَطيع وعَروض ".
[ وزعم ] أبو زيد :" أن لهَا واحداً مقدراً، وهو " أحْدُوثة " ونحوه، وليس باسم جمع ؛ لأن هذه الصِّغة مختصًّة بالتكسير، وإذا كانوا قد التزمُوا ذلك فيما لم يصرح له مفردٌ من لفظه، نحو :" شَماطِيط "، و ﴿ أَبَابِيلَ ﴾ [ الفيل : ٣ ] ففي أحاديث أولى ".
ولهذا ردَّ على الزمخشري قوله :" وهي اسمُ جمع للحديث، وليس بجمع أحدوثة " بما ذكرنا، ولكن قوله :" ليس بجمع أحدُوثة " صحيح ؛ لأن مذهب الجمهُور خلافه، على أنَّ كلامه قد يُريد به غير ظاهره من قوله :" اسم جمع ".

فصل


قال الزجاج : الاجتباء مشتقٌّ من جببتُ الشيء : إذا أخلصته لنفسِك، ومنه : جَبُبت الماء في الحوض، والمعنى : كما رفع منزلتك بهذه الرُّؤيَا العظيمة الدَّالة على الشَّرفِ والعز، كذلك يَجْتَبِيك ربُّك، ويصْطَفِيك ربُّك بالنُّبوَّة.
وقيل : بإعلاء الدَّرجة ( ويعلمك من تأويل الأحاديث ) : يريد تعبير الرُّؤيا، وسُمِّي تأويلاً ؛ لأنَّه يئول أمره إلى ما رأى في منامه، والتأويل : ما يئول إليه عاقبة الأمْر، كان عليه الصلاة والسلام غاية في علم التَّعبير.
وقيل : في تأويل الأحاديثِ في كتبه تعالى، والأخبار المرويَّة عن الأنبياء المتقدمين عليهم الصلاة والسلام.
وقيل : الأحاديث : جمع " حَدِيث "، والحديث هو الحَادثُ، وتأويلُها : مآلهُا ومآل الحوادث إلى قُدرَة الله تعالى، وتكوينه، وحكمته، والمراد من تأويل الأحاديث : كيفية الاستدلالِ بأصناف المخلوقات على قدرة الله تعالى وحمته، وجلاله.
قوله :﴿ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ ﴾ يجوز أن يتعلق " عَليْكَ " ب " يُتِمُّ " وأن يتعلق ب " نِعْمتَهُ "، وكرَّر " عَلَى في قوله :" وعَلى آلِ " لتمكنِ العطف على الضمير المجرورنن وهذا مذهبُ البصريِّين.
وقوله ﴿ مِن قَبْلُ ﴾ أي : من قبلك : واعلم : أنَّ من فسر الاجتباء بالنُّبوَّة، لا يمكِنُه أن يفسِّر إتمام النِّعمة ههنا بالنبوة، وإلا لزم التكرارن بل يفسر إتمام النِّعمة ههنا : بسعادات الدنيا والآخرة.
أما سعادات الدنيا ؛ فالإكثار من الولدِ، والخدمِ، والأتباع، والتَّوسُّع في المال والجاه، والجلال في قلوب الخلقِ، وحسن الثَّناء وَالحمد، وَأما سعادات الآخرة، فالعُلُوم الكثيرةن والأخلاق الفاضلة.
وقيل : المراد من إتمام النِّعمة : خلاصته من المحن، ويكون وجه التَّشبيه ب " إبراهيم وإسحاق عليهما الصلاة والسلام " وهو إنعام الله تعالى على إبراهيم بإنجائه من النَّارن وعلى ابنه إسحاق بتخليصه من الذَّبح
وقيل : إن إتْمَام النَّعمة هو : وصْل نعم الدُّنْيَا بنِعَم الآخرة ؛ بأن جعلهُم في الدُّنيَا أنبياء مُلُوكاً، ونقلهُم عنها إلى الدَّرجات العُلَى في الآخرة.
وقيل :: إتمام النِّعمة على إبراهيم : خُلَّتهُ، ونعلى إسحاق بأخراج يعقُوب والأسباط من صلبه.
ومن فسر الاجتباء : بالدَّرجات العالية ؛ فسَّر : إتمام النِّعمة : بالنُّبوَّة ؛ لأنَّ الكمال المطلق، والتَّمام المطلق في حقَّ البشرِ ليْس إلاَّ النُّبوَّة، يدلُّ عليه قوله تعالى :﴿ وعلى آلِ يَعْقُوبَ ﴾ أي : على أولاده ؛ لأن أولاده كلهم كانُوا أنبياء، وقوله :﴿ كَمَآ أَتَمَّهَآ على أَبَوَيْكَ مِن قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ ﴾ والنِّعمة التَّامة التي بها حصل امتياز إبراهيم وإسحاق من سائر النَّاس ليس إلا النبوة ؛ فوجب أن يكون المرادُ بإتمام النِّعمة : هو النبوة، وعلى هذا فيلزم الحكم بأنَّ أولاده يعقوبكلهم كانوا أنبياء ؛ كقوله تعالى :﴿ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وعلى آلِ يَعْقُوبَ ﴾.
فإن قيل : كيف يجوز أن يكُونُوا أنبياء، وقد أقدموا على ما أقدمُوا عليه في حقِّ يُوسُف عليه السلام ؟.
فالجواب : أنَّ ذلك وقع قبل النبوَّة، العصمة، إنَّما تثبتُ في وقتِ النُّبوَّة، لا قبلها.
قوله ﴿ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ ﴾ " يجُوز أن يكونا بدلاً من " أبَويْكَ " أو عطف بيان، أو على إضمار أعني "، ثم لما وعد عليه الصلاة والسلام بهذه الدرجات الثلاث، ختم [ الآية ] بقوله :﴿ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ﴾ فقوله " عَلِيمٌ " إشارة إلى قوله :﴿ الله أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ ﴾ [ الأنعام : ١٢٤ ]، وقوله :" حَكِيمٌ " إشارة إلى أنه مقدَّس عن العبث، فلا يضع النبوة إلا في نفسٍ قُدسيَّة ط
فإن قيل : هذه البشارات التي ذكرها يعقوب هل كان قاطعاً بصحَّتها، أم لا ؟ فإن كان قاطعاً بصحَّتها، فيكف حزن على يوسف ؟ وكيف جاز أن يشتبه عليه أنَّ الذئب أكلهُ ؟ وكيف خاف عليه من إخوته أن يهلكوه ؟ وكيف قال لإخوته :﴿ وَأَخَافُ أَن يَأْكُلَهُ الذئب وَأَنْتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ ﴾ [ يوسف : ١٣ ] مع علمه بأن الله تعالى سيُنَجِّيه، ويبعثُه رسولاً ؟.
وإن قلت : إنه عليه الصلاة والسلام ما كان عالماً بهذه الأحوال، فكيف قطع بها ؟ وكيف حكم بوقوعها جزماً من غير تردُّدٍ ؟.
فالجواب قال ابنُ الخطيب :" لا يبعُد أن يكون : قوله :﴿ وكذلك يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ ﴾ مشروطاً بألا يكيدُوه ؛ لأن ذكر ذلك قد تقدَّم، وأيضاً : فيبعُد أن يقال : إنه عليه الصلاة والسلام سيصلُ إلى هذه المناصب، إلا أنه لا يمتنعُ أن يقع في المضايق الشديدة، ثم يتخلَّص منها، أو يصل إلى تلك المناصب، وكان خوفه بهذا السَّبب، ويكُون معنى قوله :﴿ وَأَخَافُ أَن يَأْكُلَهُ الذئب ﴾ [ يوسف : ١٣ ] الزَّجز عن التهاون في حقِّه وإن كان يعلم أن الذئب لا يصل إليه ".
قوله تعالى: ﴿لَّقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ﴾ الآية.
قال الزمخشري: «أسماء إخوة يوسف عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ يهوذا ورُوبيل، وشمعُون، ولاوي، وزبالون، ويشجر، وأمهم: ليا بن ليان، وهي ابنة خال يعقوب، وولد له من سريتين تسمى إحداهما زلفة والأخرى بلهة أربعة أولاد: دان، ونفتالي، وجاد وآشر، فلما توفيت» ليا «تزوج يعقوب أختها راحيل، فولدت له يوسف وبنيامين».
قوله تعالى قرأ ابن كثير «آية» بالإفراد، والمراد بها: الجِنْس، والباقون الجمع تصريحاً بالمراد؛ لأنها كانت علامات كثيرة، وزعم بعضهم: أن ثمَّ معطوفاً محذوفاً، تقديره: للسَّائلين ولغيرهم، ولا حاجة إليه، و «للسَّائلِينَ» : متعلقٌ بمحذوفٍ نعتاً ل «آياتٌ».

فصل


معنى: ﴿آيَاتٌ لِّلسَّائِلِينَ﴾ أنه عبرة للمتعبرين؛ فإنها تشتمل على حسد إخوة يوسف، وما آل إليه أمرهم من الحسدن وتشتمل على صبر يوسف عن قضاء الشُّهُود، وعلى الرقِّ والسِّجن، ما آل إليه أمرهُ من الوُصول إلى المراد، وغير ذلك.
وقيل: ﴿آيَاتٌ لِّلسَّائِلِينَ﴾، أي دلالة على نُبُوَّة الرسول صلوات الله وسلام عليه.
20
وقال ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما دخل حبر من اليهُود على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فسمع منه [قراءة] سورة يوسف، فعاد إلى اليهودِ، فأعلمهم أنَّه سمع كما في التَّوراة، فانطلق نفرٌ منهم، فسَمِعُوا كما سَمِع؛ فقالوا له: من علَّمك هذه القصَّ؟ فقال عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «الله عَلَّمَنِي» فنزلت: ﴿لَّقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِّلسَّائِلِينَ﴾.
قال ابن الخطيب: «وهذا الوجه عندي بعيد؛ لأن المفهوم من الآية: أن في واقعة يُوسف عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ ت آياتٌ للسَّائلينَ، وعلى ما قلناه: ما كانت الآيات في قصَّة يُوسف، بل كانت في إخبار محمَّد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عنها، من تعلُّم ولا مطالعة.
الثاني: أن أكثر أهل مكَّة كانُوا أقارب الرَّسُول عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ، وكانُوا يُنْكِرُون نُبوَّته، ويظهرُون العداوة الشَّديدة معهُ بسبب الحسد، فذكر الله تعالى هذه القصَّة، وبيَّن أنَّ إخوة يُوسُف بالغُوا في إيذائه لأجل الحسد، وبالآخرة إن الله نصره، وقواه، وجعلهم تحت يده، ومثل هذه الواقعة إذا سمعها العاقل، كانت زاجرة له عن الإقدام على الحسد.
الثالث: أن يعقُوب عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ لما عبر رُؤيا يُوسُف، وقع ذلك التَّعبير، ودخل في الوُجُود بعد ثمانين سنة، فكذلك أن الله تعالى ت كما وعد مُحمَّداً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بالنَّصر والظفر، كان الأمر كما قدَّره الله تعالى لا كما سعى فيه الأعداء في إبطال أمره»
.
قوله: ﴿لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إلى أَبِينَا مِنَّا﴾ اللام في «ليُوسفُ» : لام الابتداء أفادت توكيداً لمضمون الجملة، وأرادُوا أنَّ زيادة محبَّته لهما أمر ثابتٌ لا شبهة فيه «وأخُوهُ» ك هو بنيامين، وإنَّما قالوا: «وأخُوهُ» وهُمْ جَمِيعاً إخوة؛ لأن أمُّهُمَا كانت واحدة، و «أحَبُّ» أفعل تفضيلن وهو مبنيٌّ من «حُبَّ» المبنيِّ للمفعُول، وهو شاذٌّ، وإذا بنيت أفعل التَّفضيل، من مادَّة الحُبِّ والبغضِ، تعدَّى إلى الفاعل المعنوي ب «إلى» وإلى المفعول المعنوي ب «اللام، أو ب» في «فإذا قلتَ: زيدٌ أحبُّ إِليَّ من بكرٍ، تعني: أنك تحبُّ زيداً أكثر من بكر، فالمُتكلِّم هو الفاعل، وكذلك:» هو أبغضُ إليَّ منْهُ «أنت المبغض، وإذا قلت: زيدٌ أحبُّ إليَّ من عمرو، أو أحَبُّ فيَّ مِنهُ، أي: إنَّ زيداً يُحِبُّني أكثر من عمْرِو؛ قال امرؤ القيس: [الطويل]
٣٠٥٠ - لعَمْرِي لَسعْدٌ حَيْثُ حُلِّتْ دِيَارهُ أحَبُّ إليْنَا مِنْكَ فافرَسٍ حَمِرْ
وعلى هذا جاءت الآية الكريمة؛ فإن الإب هو فاعل المحبَّة.
21
و» أحَبُّ «: خير المبتدأ، وإنَّما لم يطابق؛ لما عرفت من حكم أفعل التَّفضيل.
وقيل: اللاَّم في:»
ليُوسُفُ «: جواب القسم، تقديره: والله ليُوسف وأخُوه، والواوُ في:» ونَحْنُ عُصْبَةٌ «: للحال، فالجملة بعدها في محلِّ نصب على الحال، والعامة على رفع» عُصْبةٌ «خبراً ل» نَحْن «.
وقرأ أمير المؤمنين رَضِيَ اللَّهُ عَنْه بنصبها على أنَّ الخبر محذوف، والتقدير: ونحن نرى أو نجتمع، فتكون»
عُصْبَةٌ «حالاً، إلا أنَّه قليلٌ جدًّا؛ وذلك لأنَّ الحال لا يسدُّ مسدَّ الخبر إلا بشُروطٍ ذكرها النُّحاة، نحو: ضربي زيداً قَائِماً، وأكثر شُربِي السُّويق مَلْتُوتاً.
قال ابن الأنباري:»
هذا كما تقُولُ العربُ: إنَّمَا العَامريُّ عمَّتهُ، أي: يتعمم عِمَّته «.
قال أبو حيَّان:»
وليس مثله؛ لأن «عُصْبَةٌ» ليس بمصدر ولا هيئة، فالأجود أن يكون من باب: حُكمُكَ مُسمَّطاً «.
قال شهاب الدِّين:»
ليس مراد ابن الأنباري إلاَّ التشبيه؛ من حيث إنه حذف الخبر، وسدَّ شيءٌ آخر مسدَّه في غير المواضع المُنقَاس فيها ذلكن ولا نظر لكون المنصُوب مصدراً أو غيره «.
وقال المبرد: هو من باب:»
حُكمُك مُسمًّطاً «أي: لك حكمك مسمَّطاً، قال الفرزدقُ:
٣٠٥١ - يا لهْذَمُ حُكْمُكَ مُسَمَّطاً أراد لك حكمك مُسمَّطاً.
قال: واستعمل هذا فكثُر حتى حذفَ استخفافاً؛ لعلم ما يريد القائل؛ كقولك: الهلال والله، أي: هذا الهلال، والمُسَمَّط: المرسل غير المردُودِ وقدره غير المبرِّد: حكمُك ثبت مُسمَّطاً، وفي هذا المثال نظر؛ لأن النَّحويِّين يجعلُون من شرط سدِّ الحالِ مسدّ الخير: أن لا يصلُح جعل الحالِ خبراً لذلك المبتدأ، نحو: ضَرْبِي زيداً قائماً، بخلاف:»
ضَرْبِي زيْداً شديدٌ «فإنَّها ترفع على الخبريَّة، وتخرُج المسألة من ذلك، وهذه الحال، أعني:» مُسَمَّطاً «يصلح جعلها خبراً للمبتدأ، إذ التقدير: حكم مرسل لا مردودٌ، فيكون هذا المثل على ما تقرَّر من كلامهم شاذًّا.
22
والعُصْبَة: ما زاد على العشرة، عن ابن عبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما؛ وعنه: مابين العشرة إلى الأربعين.
وقيل: الثلاثة نفر، فإذا زادت على ذلك إلى تسعة؛ فهو رهطٌ، فإذا بلغُوا العشرة فصاعداً، فعُصْبَة.
وقيل: مابين الواحد إلى العشرة.
وقيل: من عشرة إلى خمسة عشر.
وقيل: ستة. وقيل: سَبْعَة. والمادَّة تدلُّ على الإحاطة من العصابة؛ لإحاطتها بالرَّأس.

فصل


بيَّنُوا السبب الذي لأجله قصدوا إيذاء يوسف: وهو أن يعقُوب عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ كان يفضِّل يوسف وأخاه على سائر أولاده في الحبِّ، فتأذَّوا منه لوجوه:
أحدها: كانوا أكبر منه سنًّا.
وثانيها: أنَّهم كانوا أكثر قوَّة، وأكثر قياماً بمصالح الأب منهما.
وثالثها: أنَّهم القائمون بدفع المضار والآفات، والمشتغلُون بتحصيل المنافع والخيرات، وإذا كانُوا كذلك لا جرم قالوا: ﴿إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ﴾.
قال ابن الخطيب: «وها هنا سؤالات:
السؤال الأول: أن من المعلُوم أن تفضيل بعض الأولاد على بعض، يُورِث الحقد والحسد، وهما يورثان الآفات، فملا كان يعقُوب عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ عالماً بذلك، فلم أقدم على التفضيل؟ وأيضاً: فالأسنُّ، والأعلم، والأنفع مقدَّم، فلم قلب هذه القضية؟.
فالجوابك أنَّه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ ما فضلهما على سائر أولاده إلا في المحبَّة، والمحبَّة ليست في وسع البشر، فكان معذُوراً فيه، ولا يلحقه بسبب ذلك لومٌ، قال عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ:»
اللَّهُمَّ هذا قسمِي فيمَا أملكُ، فلا تَلُمنِي فيمَا لا أمْلك «حين كان يحبُّ عائشة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها.
السؤال الثاني: أن أولاد يعقوب كانوا قد آمنوا بكونه رسُولاً حقًّا من عند الله،
23
فكَيْفَ اعتَرضُوا؟ وكيْفَ زَيَّفُوا طريقتهُ وطعنُوا في فعلِهِ؟ وإن كانُوا مُكذِّبينِ بنُبوته، غير مقرِّين بكونه رسًُولاً حقًّا من عند الله، فهذا مُوجِبُ تكفيرهم؟.
والجواب: أنَّهُم كانوا مُؤمِنين بنبوَّة أبيهم، مُقرين بكونه رسُولاً حقًّا من عند الله، إلاَّ أنَّهُم لعلَّهم جوَّزُوا من الأنبياء أن يفعلوا أفعالاً مخصوصة بمجرد اجتهادهم، ثم إنَّ الاجتهاد أدَّى إلى تخطئة أبيهم في ذلك الاجتهادح وذلك لأنَّهم كانوا يقولون: هما صبيان ما بلغا العقل الكامل، ونحن متقدِّمُون عليهما في السنِّ، والعقل، الكفاية، والمنفعة، وكثرة الخدمة، والقيام بالمهمات، فإصراره على تقديم يوسف علينا، يخالف هذا الدَّليل، وأما يعقُوب عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ فلعله كان يقُول: زيادة المحبَّة ليست في الوسع والطَّاقة، فليس لله عليًّ فيه تكليفٌ، وأما تخصيصهما بمزيد البرِّ، فيحتمل أنه كان لوجوه:
أحدها: أن أمَّهُمَا ماتتْ وهم صغار.
وثانيهما: أنه كان يرى فيه من آثار الرُّشد، والنَّجابة ما لم يجدْ في سائر الأولاد، والحاصل: أن هذه المسألة كانت اجتهاديَّة، وكانت بميْل النَّفس، وموجبات الفطرة، فلا يلزم من وقوع الاختلاف فيها طعن أحد الخصمين في دين الآخرِ، أو في عرضه.
السؤال الثالث: أنهم نسبُوا أباهم إلى الضَّلال المبين، وذلك مبالغة في الذمِّ والطَّعن، ومن بالغ في الطَّعن في الرسُول كفر، لا سيَّما إذا كان الطّاعن ابناً؛ فإن حقَّ الأبُوَّة يُوجِب مزِيد التَّعظِيم.
والجواب: المُراد من الضلال: غير رعاية مصالحِ الدِّين، لا البعد عن طريق الرُّشد، والصواب.
السؤال الرابع: أن قولهم: ﴿لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إلى أَبِينَا مِنَّا﴾ محضُ الحسد، والحسد من أمهات الكبائر، لا سيَّما وقد أقدموا بسبب ذلك الحسد على تضييع ذلك الأخ الصالح، وإلقائه في ذلِّ العبوديَّة، وتبعيده عن الأب المشفقِ، والقوا أباهم في الحُزن الدائم، والأسف العظيم، وأقدموا على الكذب، وأتوا بهذه الخصالِ المذمُومَة وكل ذلك يقدح في العصمة.
والجواب: أن المعتبر عصمة الأنبياء في وقت حًصول النُّبوَّة، فأمَّا قبلها فذلك غير واجب «.
﴿اقتلوا يُوسُفَ أَوِ اطرحوه أَرْضاً﴾ الآية.
في نصب» أرْضاً «ثلاثة أوجه:

أحدهاك أن تكون منصوبة على إسقاط الخافض تخفيفاً، أي: في أرض؛ كقوله: ﴿لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ المستقيم﴾ [الأعراف: ١٦]، وقول الشاعر: [الكامل]
24
٣٠٥٢ - لَدْنٌ بِهَزِّ الكفِّ يَعْسِلُ مَتنُهُ فِيهِ كَمَا عَسلَ الطَّريقَ الثَّعلبُ
وإليه ذهب ابن عطيَّة.
قال النَّحاس:» إلا أنَّه في الآية حسن كثيراً؛ لأنَّه يتعدى إلى مفعولين، أحدهما بالحرف، فإذا حذفت الحرف، تعدَّى الفعل إليه «.
والثاني: النصب على الظرفيَّة.
قال الزمخشريُّ:»
أرْضاً منكُورة مجهولة بعيدة عن العمران، وهو معنى تنكيرها، وأخلائها من النَّاسِ؛ ولإبهامِها من هذا الوجه، نُصِبت نصب الظُّروف المُبْهَمة «.
وردَّ ابن عطيَّة هذا الوجه فقال:»
وذلك خطأ؛ لأن الظَّرف ينبغي أن يكون مُبهماً، وهذه ليست كذلك، بل هي أرض مقيَّدة بأنَّها بعيدةٌ، أو قاصية أو نحو ذلك، فزال بذلك إبهامُهَا، ومعلُوم أن يوُسف لم يَخْل من الكون في أرض، فتبيَّن أنَّهم أرادُوا أرضاً بعيدة، غير التي هو فيها قريبة من أبيه «.
واسَتحْسَن أبو حيَّان هذا الرَّد، وقال:»
وهذا الردُّ صحيحٌ، لو قلت: «جَلستُ داراً بعيدة، أوْ مكاناً بعيداً» لم يصحَّ إلا بواسطة في ولا يجوز حذفها، إلا في ضرورة شعرٍ، أو مع «دخلْت» على الخلاف في «دَخلت» أهي لازمة أم متعدِّية «.
وفي الكلامين نظر؛ إذ الظَّرف المُبْهَم: عبارة عمَّا ليس له حُدُود تحصرهن ولا أقطار تحويه، و»
أرضاً «في الآية الكريمة من هذا القبيل.
الثالث: أنها مفعول ثان، وذلك أن معنى:»
اطْرحُوهُ «أنزلوه، و» أنزلوه «يتعدى لاثنين، قال تعالى:
﴿أَنزِلْنِي مُنزَلاً مُّبَارَكاً﴾ [المؤمنين: ٢٩] وتقولن: أنزلت زيداً الدَّارَ. والطَّرح: الرَّميُ، ويعبرُ به عن الاقتحام في المخاوف؛ قال عروة بن الوردِ: [الطويل]
٣٠٥٣ - ومَنْ يَكُ مِثْلِي ذا عِيالٍ ومُقْتِراً مِنَ المَالِ يَطرَحْ نَفسَهُ كُلَّ مَطْرحِ
والمعنى: اطرحُوه إلى أرض تبعُد من أبيه، وقي: في أرض تأكله السِّباعُ.
و «يَخْلُ لكُمْ»
جوابٌ الأمر، وفيه الإظهار والإدغام، وتقدَّم تحقيقها عند قوله ﴿وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإسلام دِيناً﴾ [آل عمران: ٨٥].
قوله: ﴿وَتَكُونُواْ﴾ يجُوز أن يكُون مجزوماً نسقاً على ما قبله، أو منصوباً بإضمار «أن» بعد الواو في جواب لأمر.
25

فصل


اعلم: أنَّه لما قوي الحسد، وبلغ النِّهاية، قالوا: لا بُدَّ من تبعيد يُوسف من أبيه، وذلك لا يحصل إلا بأحد طريقين: القتل، أو التَّغريب، ثم ذكروا العلَّة فيه، وهي قوله: ﴿يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ﴾ أي: أنَّ يوسف شغله عنَّا، وصرف وجهه إليه، فإذا فقده، أقبل علينا بالميل والمحبَّة، ﴿وَتَكُونُواْ مِن بَعْدِهِ﴾ أي: من بعد قتل يوسف، ﴿قَوْماً صَالِحِينَ﴾ : أي: نتُوب بعد قتلهِ.
وقيل: يصلُح شأنكم، تتفرغوا لإصلاح شأن أمَّهاتكُم، واختلفُوا في قائل هذا القول.
فقيل: شَاورُوا أجْنَبياً؛ فأشار عليهم بقتله، ولم يقُل ذلك أحدٌ من إخوته.
وقيل: القائل بعض إخوته، واختلفوا فيه.
فقال وهب: شمعون، وقال كعب: دان، وقال مقاتل: رُوبيل.
فإن قيل: كيف يليق هذا بهم، وهم أنبياء؟
فأجاب بعضهم: بأنَّهم كانوا في هذا الوقت مراهقين لم يبلُغوا، وهذا ضعيفٌ؛ فإنه يبعد في مثل يعقُوب أن يبعث جماعة من الصِّبيان من غير أن يكون معهم قائمٌ عاقلٌ يمنعهم من القبائح.
وأيضا: فإنَّهم قالوا: ﴿وَتَكُونُواْ مِن بَعْدِهِ قَوْماً صَالِحِينَ﴾ وهذا يدلُّ على أنَّهُم قب النبوَّة لا يكونوا صالحين، وذلك يُنَافِي كونهم من الصِّبيان، وأيضاً: قولهم: ﴿ياأبانا استغفر لَنَا ذُنُوبَنَآ إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ﴾ [يوسف: ٩٧] والصغير لا ذنب له.
فأجاب بعضهم: بأنَّ هذا من باب الصَّغائر، وهذا أيضاً ضعيفٌ؛ لأن إيذاء الأبِ الذي هو نبيٌّ معصوم، والكيد معهُ، والسعي في إهلاك الأخ الصَّغير، فكل واحدٍ من ذلك من أمَّهات الكبائر، بل الجواب الصحيح: أنَّهم ما كانُوا أنبياء، وإن كانوا أنبياء، إلا أن هذه الواقعة أقدموا عليها قبل النبوة.
ثم إنَّ قائلاً منهم قال: ﴿لاَ تَقْتُلُواْ يُوسُفَ﴾.
قيل: إنه رُوبيل، وكان ابن خالة يُوسُف، وكان أحسنُهم رأياً فيه؛ فمنعهم من قتله، وقيل: يهُوذا، وكان أقدمهم في الرَّأي والفضلِ، والسِّنِّ، وهو الصحيح.
قوله: «فِي غَيَابَةِ» قرأ نافع: «غَيابَات» بالجمع في الحرفين من هذه السُّورة، جعل
26
ذلك المكان أجزاء، وسمَّى لك جزءٍ غيابة؛ لأن للجُبِّ أقطاراً ونواحِي، فيكون فيها غيابات، والباقون: بالإفراد؛ لأن المقصُود: موضع واحد من الجُبِّ يغيب فيه يوسف، وابن هُرْمز كنافع، إلا أنَّه شدَّد الياء، والأظهر في ههذه القراءة: أن يكُون سُمِّي باسم الفاعل الذي للمبالغة، فهو وصف في الأصل، وألحقه الفارسي بالاسم الجائي على فعَّال، نحو ما ذكره سيبويه من الفيَّاد قال ابن جني: «ووجدت من ذلك الفخَّار: للخَزَف».
وقال صاحب اللَّوامح: «يجوز أن يكو على» فعَّالات «كحمَّامات، ويجوز أن يكون على» فيْعَالات «، كشَيْطَانَات، جمع شَيْطَانَه، وكلٌّ للمبالغة».
وقرأ الحسن: «في غَيَبةِ» بفتح الياء، وفيه احتمالان:
أحدهما: أن يكون في الأصل مصدراً؛ كالغلبة.
والثاني: أن يكون جمع غائب، نحو: صَانِع وصنَعَة.
قال أبو حيَّانك «وفي حرف أبيَّ:» في غيْبَةِ «بسكون الياء، وهي ظلمة الرَّكيَّة».
قال شهاب الدين: «والضبط أمر حادثٌ، فكيف يعرفُ ذلك من المصحف، وتقدَّم نحو ذلك، والغيابة، قال الهروي: شبه لجف أو طاقٍ في البئر فُويْق الماء يغيب ما فيه عن العُيُون».
وقال الكلبيُّ: «الغيابة تكون في قَعْر الجُبِّ؛ لأَنَّ اسفله واسعٌ، ورأسه ضيِّق، فلا يكاد النَّاظر يرى ما في جوانبه».
وقال الزمخشري: «هي غورة، وما غب منه عن عين النَّاظر، وأظلم من أسفله».
قال المنخل: [الطويل]
٣٠٥٤ - فإنْ أنَا يَوْماً غَيَّبَتْنِي غَيَابَتِي فَسِيرُوا بسَيرِي في العَشِيرةِ والأهْلِ
أراد: غيابة حُفرته التي يدفن فيها، والجبُّ: البشر الذي لم تُطْوَ، وسمِّي بذلك: إما لكونه مَحْفُوراً في جبُوب الأرض، أي: ما غلظ منها؛ وإما لأنه قطعَ في الأرضِ والجبُّ: القطعُ، ومنه: الجبُّ في الذَّكر؛ قال الأعشى: [الطويل]
27
٣٠٥٥ - لَئِنْ كُنْتَ في جُبِّ ثَمانِينَ قَامَةً ورُقِّيتَ أسْبَابَ السَّماءِ بسُلَّمِ
ويجمع على جُنُبٍ، وجِبَاب، وأجْبَاب.

فصل


والألف واللام في «الجُبِّ» تقتضي المعهُود السَّابق، واختلفوا فيه:
فقال قتادة: هو جُبُّ بئر بيت المقدِس، وقيل: بأرض الأرْدُن.
وقال مقاتل: هو على ثلاثة فراسِخ من منْزِل يعقُوب، وإنَّما عيَّنوا ذلك الجُبَّ؛ للعلَّة التي ذكروها، وهي قوله: «يَلتَقطهُ بَعْضُ السَّيارةِ» لأن تلك البِئْر كانت معروفة يَردُونَ عليها كثيراً، وكانوا يعلمُون أنَّه إذا طُرِحَ فيها، كان إلى السَّلامة أقْرب؛ لأن السيارة إذا ورَدُوهَا، شاهدوا ذلك الإنسان فيهن فيخرجوه، ويذهبوا به فكان إلقاءه فيها أبعد عن الهلاك.
قوله «يَلتَقِطْهُ» قرأ العامَّةك «يَلْتَقِطْهُ» بالياء من تحت، وهو الأصلُ وقرأ الحسن، ومجاهد، وأبو رجاء، وقتادة: بالتَّاء من فوقح للتَّأنيثِ المعنويِّن والإضافة إلى مؤنَّث، وقالوا: قُطِعَت بعضُ أصَابعه.
قال الشَّاعر: [الوافر]
٣٠٥٦ - إذَا بَعْضُ السِّنينَ تَعرَّقَتْنَا كَفَى الأيْتامَ فقدَ أبِي اليَتِيمِ
وتقدَّم الكلام بأوسع من هذا في الأنعام والأعراف [الأنعام: ١٦٠ الأعرافَ: ٥٦].
والإلتِقَاط: تناول الشيء المطروح، ومنه: اللُّقطَة واللَّقِيط؛ قال الشاعر: [الرجز]
٣٠٥٧ - ومَنْهَلٍ ورَدْتهُ التِقَاطَا.............................
قال ابن عرفة: الالتقاط وجود الشيء على غير طلب، ومنه قوله تعالى ﴿يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السيارة﴾ أي: يجده من غير أن يحتسب.
28

فصل


اختلفوا في الملقوط فقيل: إن أصله الحرية؛ لغلبة الأحرار على العبيد، وروي الحسين بن علي رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما قضى بأن اللقيط حُرٌّ، وتلا قوله تعالى: ﴿وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ﴾ [يوسف: ٢٠] وهذا قوله عمر بن الخطاب رَضِيَ اللَّهُ عَنْه ويروى عن علي وجماعته، وقال إبراهيم النخعي: إن نوى رقه فهو مملوك، وإن نوى الاحتساب فهو حر.

فصل


والسيَّارة: جمع سيَّار، وهو مثال مبالغة، وهُمُ الجماعة الذين يسيرون في الطريق للسَّفَر، وقال ابن عبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما: يريد: المارَّة، ومفعول «فَاعِلينَ» محذُوف، أي: فاعلين ما يحصل به غرضكم. وهذا إشارة إلى أن الأولى: أن لا تفعلوا شيئاً من ذلك، وأما إن كان ولا بد، فاقتصروا على هذا القدر، ونظيره قوله تعالى: ﴿وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ﴾ [النحل: ١٢٦] يعني: الأولى ألاَّ تفعلوا ذلك.
قوله تعالى: ﴿قَالُواْ يَأَبَانَا مَا لَكَ لاَ تَأْمَنَّا على يُوسُفَ﴾ الآية.
«تَأمَنَّا» حال وتقدَّم نظيره، وقرأ العامَّة: تأمنَّا بالإخفاء، وهو عبارة عن تضعيف الصَّوت بالحركة، والفصل بين النُّونين؛ لا لأن النون تسكن رأساً؛ فيكون ذلك إخفاءً، لا إدغاماً.
قال الدَّاني: «وهو قول عامَّة أئِمَّتنا، وهو الصواب؛ لتأكيد دلالته وصحَّته في القياس».
وقرأ بعضهم ذلك: بالإشمام وهو عبارة عن ضمِّ الشفتين، إشارة إلى حركة الفعل مع الإدغام الصَّريح، كما يشير إليها الواقف، وفيه عسر كثير، قالوا: وتكون الإشارة إلى الضمة بعد الإدغام، أو قبل كماله، والإشمام يقع بإزاء معانٍ هذا من جملتها.
ومنها: [إشراب] الكسرة شيئاً من الضمِّ [نحو قيل، ﴿وَغِيضَ﴾ [هود: ٤٤] وبابه، وقد تقدم في أول سورة البقرة].
ومنها إشمام أحد الحرفين شيئاً من الآخر؛ كإشمام الصاد زاياً في ﴿الصراط﴾ [الفاتحة: ٦]، ﴿وَمَنْ أَصْدَقُ﴾ [النساء: ٨٧، ١٢٢] وبابهما، وقد تقدم في الفاتحة، والنساء، فهذا خلط حرف بحرف، كما أن ماقبلهُ خلطُ حركة بحركةٍ.
ومنها: الإشارة إلى الضَّمَّة في الوقف خاصَّة، وإنما يراه البصير دُون الأعمى،
29
وقرأ أبو جعفر: الإدغام الصَّريح من غير إشمام، وقرأ الحسن ذلك: بالإظهار مبالغة في بيان إعراب الفعل. وللمحافظة على حركة الإعراب، اتَّفق الجمهُور على الإخفاء، أو الإشمام، كما تقدَّم تحقيقه.
وقرأ ابن هرمز: «لا تَأمُنَّا» بضم الميم، نقل حركة النُّون الأولى عند إرادة إداغمها، بعد سلب الميم حركتها، وخط المصحف بنون واحدة، ففي قراءة الحسن مخالفة لها. وقرأ أبو رزين، وابن وثَّابٍ: «لا تِيْمَنًّا» بكسر حرف المضارعة، إلا أنَّ ابن وثَّاب سهَّل الهمزة.
قال ابو حيَّانك «ومجيئُه بعد» مَا لَكَ «والمعنى: يرشد إلى أنَّه نفيٌ لا نهي، وليس كقولهم:» ما أحْسَنًّا «في التعجُّبح لأنه لو أدغم، لالتبس التَّعجب بالنَّفْي».
قال شهاب الدِّين: وما أبْعَد هذا عن توهُّم النَّهي، حتى ينُصَّ عليه بقوله: «لالتبس بالنَّفْي الصحيح».

فصل


هذا الكلام يدلُّ على أن يعقوب عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ كان يخافُهم على يُوسف، ولولا ذلك، لما قالوا هذا القول.
واعلم: أنَّهم لما أحكمُوا العزم، أظهروا عند أبيهم أنَّهم في غاية المحبَّة ليوسُف، ونهاية الشفقة عليه، كانت عادتهم أن يغيبُوا عنه مُدَّة إلى الرَّعين فسألوه إرساله معهم، كان يعقُوب عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ يحب تطيب قلب يوسف، فاغترَّ بقولهم، وأرسلهُ معهم حين قالوا له: ﴿وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ﴾ والنُّصْح هنا: القيام بالمصلحة.
وقيل: البرُّ والعطف، أي: عَاطِفُون عليه قَائِمُون بمصلحته، نحفظه حتَّى نردهُ إليك.
قيل للحسن: أيَحْسُد المُؤمن؟ قال: ما أنْسَاك ببَنِي يعقوب، ولهذا قيل: الأب جلاَّبٌ، والأخ سَلاَّب، وعند ذلك أجمعوا عل التًَّفريق بينه وبين ولده بضرب من الاحتيال، وقالوا ليعقوب عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ ﴿مَا لَكَ لاَ تَأْمَنَّا على يُوسُفَ﴾.
30
وقيل: لما تفاوضوا وافترقوا على راي المتكلِّم الثاني، عادوا إلى يعقوب عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ وقالوا هذا القول، إذ فيه دليلٌ على أنَّهُم سألوه قبل ذلك أن يخرج معهم يوسف، فأبى.
قوله: ﴿أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَداً يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ﴾ في: «يرْتَعْ ويَلعَبْ» أربع عشرة قراءة:
أحدها: قراءة نافع: بالياء من تحت، وكسر العين.
الثانية: قراءة البزِّي، عن ابن كثيرٍ: «نَرْتَعِ ونلعب» بالنُّون وكسر العين.
الثالثة: قراءة قنبل، وقد اختلف عليه، فنقل عه ثُبُوت الياء بعد العين وصلاً ووقفاً، وحذفها وصلاً ووقفاً، فيوافق البزِّي في أحد الوجهين عنه، فعنه قراءتان.
الخامسة: قراءة أبي عمرو، وابن عامر: «نَرتَعْ ونَلعَبْ» بالنُّون، وسكون العين، والباء.
السادسة: قراءة الكوفيين: «يَرْتَعْ ويَلعبْ» بالياء من تحت وسكون العين والباءِ.
وقرأ جعفر بن محمد: «نَرْتَعْ» بالنُّون، «ويَلْعَبْ» بالياء، ورُويت عن ابن كثيرٍ.
وقرأ العلاء بن سيابة: «يَرْتَعِ ويَلْعَبُ» بالياء فيهما، وكسر العين وضمّ الباء.
وقرأ أبو رجاء كذلك، إلا أنَّه بالياء من تحت فيهما.
والنخعي ويعقوبك «نَرْتَع» بالنون، «ويَلْعَب» بالياء.
وقرأ مجاهدٌ، وقتادةُ، وابن محيصِن: «يَرْتَعْ ويَلْعَب» بالياء، والفعلان في هذه القراءات كلها مبنيان للفاعل.
وقرأ زيد بن علي: «يُرْتَع ويُلْعَب» بالياء من تحت فيهما مبنيين للمعفول.
وقرىء: «نَرْتَعِي ونَلْعَبُ» بثبوت الياء، ورفع الباء.
31
وقرأ ابن أبي عبلة: «نَرْعَى ونَلْعَب».
فهذه اربع عشرة قراءة منها ستٌّ في السَّبع المتواتر وثمان في الشواذٍّ.
فمن قرأ بالنُّون، فقد أسند الفعل إلى إخوة يوسف.
سُئل أبو عمرو بن العلاء: كيف قالوا: نلعب وهم أنبياء؟ قال: كان ذلك قبل أن يُنَبِّئهُم الله عزَّ وجلَّ.
قال ابن الأعرابي: الرَّتْع: الأكل بشدة، وقيل: إنه الخَصْبُ.
وقيل: المراد من اللَّعب: الإقدام على المُباحات، وهذا يوصف به الإنسان، كما رُوِي عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أنه قال لجابر: «هَلاَّ بِكْراً تُلاعِبُهَا وتُلاعِبُك».
وقيل: كان لعبهم الاستباق، والغرض منه: تعليم المحاربة، والمقاتلة مع الكُفَّار، ويدلُّ عليه قولهم: «إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتبِقُ» وإنما سمَّوه لعباً؛ لأنه في صُورة اللَّعِب.
وأما من قرأ بالياءِ، فقد أسند الفعل إليه دونهم، فالمعنى: أنه يبصر رَعْي الإبلِ؛ لتيدرَّب بذلك، فمرَّة يرتع، ومرَّة يلعب؛ كفعل الصِّبيان.
ومن كسر العين، اعتقد أنه جزم بحذف حرف العلَّة، وجعلهُ مأخُوذاً من يفتعِل من الرَّعي؛ كيَرْتَمِي من الرَّمْي، ومن سكن العين، واعتقد أنه جزم بحذق الحركة، وجعلهُ مأخوذاً من: رَتَعَ يَرْتَعُ، إذا اتَّسع في الخِصْب قال:
٣٠٥٨ -....................... وإذَا يَحْلُولَهُ الحِمَى رَتَعْ
ومن سكَّن الباء جعلهُ مَجزُوماً، ومن رفعها، جعله مرفوعاً على الاستئناف، أي: وهو يلعبُ، ومن غاير بين الفعلين، فقرأ بالباء من تحت في «يَلْعَب» دون «نَرْتَع» ؛ فلأن رَعْياً، إذا أكلته فالارتعاء للمواشِي، وأضافوه إلى أنفسهم؛ لأنه السَّبب، والمعنى: نرتع إبلنا، فنسبُوا الارتعاء والقيام بحفظ المال إلى أنفسهم؛ لأنهم بالغون.
ومن قرأ: «نُرْتع» رُباعياً، جعل مفعُوله محذوفاً، أي: يَرْعى مَواشينا، ومن بناها للمفعول، فالوجه: أنه أضمر المفعُول الذي لم يُسمَّ فاعله، وهو ضمير الغدِ، والأصل:
نُرْتَع فيه، ونُلعَبُ فيه، ثم اتسع فيه؛ فحذف حرف الجرِّ، فتعدى إليه الفعل بنفسه، فصار
32
نُرْتعه ونَلْعَبُه، فلما بناهُ للمفعول، قام الضمير المنصُوب مقام فاعله، فانقلب مرفوعاً فاستتر في رافعه، فهو في الاتِّساع كقوله: [الطويل]
٣٠٥٩ - ويَوْمٍ شَهِدْنَا سَلِمياً وعَامِراً........................
ومن رفع الفعلين، جعلهما حالين، وتكون مقدَّرة، وأمَّا إثبات الياء في «نَرْتَعي» مع جزم «يَلْعَب» وهي قراءة قنبل، فقد تجرَّأ بعضُ النَّاس وردَّها.
وقال ابن عطيَّة: هي قراءة ضعيفةٌ لا تجوز إلا في الشِّعْر، وقيل: هي لغة من يجز بالحركة المقدَّرة، وأنشد:
٣٠٦٠ - ألَمْ يَأتِيكَ والأنْبَاءُ تَنْمِي.........................
وقد تقدَّمت هذه المسألة.
و «نَرْتَع» يحتمل أن يكون وزنه: «نَفْتَعِل من الرَّعْي وهي أكلُ المرعى؛ كما تقدَّم، ويكون على حذف مضاف، أي: نرتع مواشينا، أو من المراعاة للشيء؛ قال: [الخفيف]
٣٠٦١ - تَرْتعِي السَّفحَ فالكَثِيبَ فَذا قَارِ فَروضَ القَطَا فَذاتَ الرِّئالِ
ويحتمل أن يكون وزنه»
نَفْعَل «من رَتَعَ يَرْتَع: إذا أقام في خصب وسعة، ومنهُ قول الغضبان بن القبعثرى:» القَيْدُ والرَّتعة وقِلَّة المَنعَة «؛ وقال الشاعر: [الوافر]
٣٠٦٢ - أكُفْراً بَعْدَ ردِّ المَوْتِ عَنِّي وبَعدَ عَطائِكَ المِائة الرِّتاعَا
قوله: ﴿وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾ جلمة حالية، والعاملُ فيها أحد شيئين: إمَّا الأمر، وإمَّا جوابه.
فإن قيل: هل يجوز أن تكون المسألة من الإعمال؛ لأن كلاًّ من العاملين يصح تسلُّطه على الحال؟.
فالجواب: لا يجُوز ذلك؛ لأنَّ الإمال يستلزم الإضمار، والحالُ لا تضمر؛ لأنَّها لا تكون إلا نكرةً، أو مؤولةً بها.
قوله: ﴿أَن تَذْهَبُواْ بِهِ﴾ فاعل: «يَحْزُنُنِي»
، أي: يَحْزُننِي ذهابُكم، وفي هذه الآية دلالة على أنَّ المضارع المقترن بلام الابتداء لا يكون حالاً، والنُّحاة جعلوها من القرائن المخصصة للحال، ووجه الدلالة: أنَّ «أن تذْهَبُوا» مستقبل؛ لاقترانه بحرف الاستقبال، وهي وما في حيِّزها فاعل، فلو جعلنا «ليَحْزُنُنِي» حالاً، لزم سبق الفعل لفاعله، وهو
33
مُحل وأجيبَ عن ذلك بإنَّ الفاعل في الحَقيقَة مقدَّر، حذف هو وقام المضاف إليه مقامه، والتقدير: ليَحْزُوننِي توقع ذهابكم، وقرأ زيد بن علي وابن هرمز، وابن محيصن: «ليَحْزُنِّي» بالإدغام.
وقرأ زيد بن علي: «تُذْهِبُوا بِهِ» بضم التَّاء من «أذْهَبَ» وهو كقوله: ﴿تَنبُتُ بالدهن﴾ [المؤمنون: ٢٠] في قراءة من ضمَّ التَّاء، فتكون التاء زائدة أو حالية.
والذئبُ يُهْمز ولا يُهْمزُ، وبعدم الهمز قرأ السُّوسيُّ، والكسائيُّ، وورش، وفي الوقف لا يهمزه حمزة، قالوا وهو مشتقٌّ من: تَذاءَبتٍ الرِّيحُ إذَا هَبَّت من كُلِّ جهةٍ؛ لأنه يأتي كذلك، ويجمع على ذائب، وذُؤبان، وأذْؤبح قال: [الطويل]
٣٠٦٣ - وأزْوَرَ يَمْشِي في بلادٍ بَعيدَةٍ تَعَاوَى بِهِ ذُؤبَانُهُ وثَعالِبُهْ
وأرضٌ مذْأبة: كثيرة الذِّئاب، وذُؤابةٌ الشَّعر؛ لتحرُّكها، وتقلبها من ذلك.
وقوله: ﴿وَأَنْتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ﴾ : جملة حاليَّة، العامل فيها: «يَأكلهُ».

فصل


لما طلبوا منه إرسال يوسف عليه السلام معهم اعتذر إليهم بشيئين:
أحدهما: ليُبَيِّن لهم أنَّ ذهابهم به مما يُحزنُه؛ لأنه كان لا يصبر عنه ساعةً.
والثاني: خَوْفه عليه من الذِّب إذا غفلوا عنه برعهيم، أو لعبهم أو لقلة اهتامهم به.
فقيل: إنه رأى في النَّوم أن الذِّئب شدَّ على يوسف فكان يحذره، فألأجل هذا ذكر ذلك. وقيل: إن الذِّئاب كانت كثيرة في أرضهم، فلما قال بعقوب عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ هذا الكلام، أجابوه بقولهم: ﴿لَئِنْ أَكَلَهُ الذئب وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّآ إِذَاً لَّخَاسِرُونَ﴾ وفائدة اللام في «لَئِنْ» من وجهين:
أحدهما: أن كلمة «إنْ» تفيد كون الشِّرط مستلزماً للجزاء، أي: إن وقعت هذه الواقعة، فنحن خاسرون، فهذه اللام خلت؛ لتأكيد هذا الاستلزام.
والثاني: قال الزمخشري رَحِمَهُ اللَّهُ «هذه اللام تدلُّ على إضمار القسم، [تقديره:] والله لئن أكلهُ الذئب، لكنَّا خاسرين».
والواوُ في: «ونَحْنُ عُصْبَةٌ» واو الحال؛ فتكون الجملة من قوله: «وَنحْنُ عُصْبةٌ» : جملة حاليَّة. وقيل: معترضة، و ﴿إِنَّآ إِذَاً لَّخَاسِرُونَ﴾ جواب القسم، و «إذاً» : حرف
34
جواب، وحذف جوابُ الشرط، وقد تقدَّم الكلام فيه مشبعاً.

فصل


ونقل أبو البقاء: أنه قرىء «عُصْبَةً» بالنصب، وقدر ما تقدم في الآية الأولى. في المراد بقولهم: ﴿إِنَّآ إِذَاً لَّخَاسِرُونَ﴾ وجوه: الأول: [عاجزون] ضعفاء، نظيره قوله تعالى: ﴿وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَراً مِّثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذاً لَّخَاسِرُونَ﴾ [المؤمنون: ٣٤] أي: لعاجزون.
الثاني: أنهم يكونون مستحقِّين لأن يدعى عليهم بالخسارة والدَّمار، وأن يقال: أخسرهُم الله، ودمَّرهُم حين أكل الذِّئب أخاهُم وهم حاضرون عُصبةٌ: عشرةٌ تعصب بهم الأمُور، تكفي الخطوب بمثلهم.
الثالث: إذا لم نقدر على حفظ أخينا، فقد هلكت مواشينا، وخسرنا.
الرابع: أنَّهم كانوا قد أتبعوا أنفسهم في خدمة أبيهم، واجتهدوا في القيام بمهمَّاته، ليفوزوا منه بالدعاء والثناء، فقالوا: لو قصَّرنا في هذه الخدمة، فقد أحبطنا كل تلك الأعمال، وخسرنا كمل ما صدر منَّا من أنواع الخدمة.
فإن قيل: إنَّ يعقُوب عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ اعتذر بعذرين: شدة حبِّه، وأكل الذئب له، فلم أجابُوا عن أحدهما دون الآخر؟
فالجواب: أن حقدهم، وغيظهم كان بسبب المحبَّة، فتغافلوا عنه.
35
قوله :﴿ لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إلى أَبِينَا مِنَّا ﴾ اللام في " ليُوسفُ " : لام الابتداء أفادت توكيداً لمضمون الجملة، وأرادُوا أنَّ زيادة محبَّته لهما أمر ثابتٌ لا شبهة فيه " وأخُوهُ " ك هو بنيامين، وإنَّما قالوا :" وأخُوهُ " وهُمْ جَمِيعاً إخوة ؛ لأن أمُّهُمَا كانت واحدة، و " أحَبُّ " أفعل تفضيلن وهو مبنيٌّ من " حُبَّ " المبنيِّ للمفعُول، وهو شاذٌّ، وإذا بنيت أفعل التَّفضيل، من مادَّة الحُبِّ والبغضِ، تعدَّى إلى الفاعل المعنوي ب " إلى " وإلى المفعول المعنوي ب " اللام، أو ب " في " فإذا قلتَ : زيدٌ أحبُّ إِليَّ من بكرٍ، تعني : أنك تحبُّ زيداً أكثر من بكر، فالمُتكلِّم هو الفاعل، وكذلك :" هو أبغضُ إليَّ منْهُ " أنت المبغض، وإذا قلت : زيدٌ أحبُّ إليَّ من عمرو، أو أحَبُّ فيَّ مِنهُ، أي : إنَّ زيداً يُحِبُّني أكثر من عمْرِو ؛ قال امرؤ القيس :[ الطويل ]
٣٠٥٠ لعَمْرِي لَسعْدٌ حَيْثُ حُلِّتْ دِيَارهُ أحَبُّ إليْنَا مِنْكَ فافرَسٍ حَمِرْ
وعلى هذا جاءت الآية الكريمة ؛ فإن الإب هو فاعل المحبَّة.
و " أحَبُّ " : خير المبتدأ، وإنَّما لم يطابق ؛ لما عرفت من حكم أفعل التَّفضيل.
وقيل : اللاَّم في :" ليُوسُفُ " : جواب القسم، تقديره : والله ليُوسف وأخُوه، والواوُ في :" ونَحْنُ عُصْبَةٌ " : للحال، فالجملة بعدها في محلِّ نصب على الحال، والعامة على رفع " عُصْبةٌ " خبراً ل " نَحْن ".
وقرأ أمير المؤمنين رضي الله عنه بنصبها على أنَّ الخبر محذوف، والتقدير : ونحن نرى أو نجتمع، فتكون " عُصْبَةٌ " حالاً، إلا أنَّه قليلٌ جدًّا ؛ وذلك لأنَّ الحال لا يسدُّ مسدَّ الخبر إلا بشُروطٍ ذكرها النُّحاة، نحو : ضربي زيداً قَائِماً، وأكثر شُربِي السُّويق مَلْتُوتاً.
قال ابن الأنباري :" هذا كما تقُولُ العربُ : إنَّمَا العَامريُّ عمَّتهُ، أي : يتعمم عِمَّته ".
قال أبو حيَّان :" وليس مثله ؛ لأن " عُصْبَةٌ " ليس بمصدر ولا هيئة، فالأجود أن يكون من باب : حُكمُكَ مُسمَّطاً ".
قال شهاب الدِّين :" ليس مراد ابن الأنباري إلاَّ التشبيه ؛ من حيث إنه حذف الخبر، وسدَّ شيءٌ آخر مسدَّه في غير المواضع المُنقَاس فيها ذلكن ولا نظر لكون المنصُوب مصدراً أو غيره ".
وقال المبرد : هو من باب :" حُكمُك مُسمًّطاً " أي : لك حكمك مسمَّطاً، قال الفرزدقُ :
٣٠٥١ يا لهْذَمُ حُكْمُكَ مُسَمَّطاً أراد لك حكمك مُسمَّطاً.
قال : واستعمل هذا فكثُر حتى حذفَ استخفافاً ؛ لعلم ما يريد القائل ؛ كقولك : الهلال والله، أي : هذا الهلال، والمُسَمَّط : المرسل غير المردُودِ وقدره غير المبرِّد : حكمُك ثبت مُسمَّطاً، وفي هذا المثال نظر ؛ لأن النَّحويِّين يجعلُون من شرط سدِّ الحالِ مسدّ الخير : أن لا يصلُح جعل الحالِ خبراً لذلك المبتدأ، نحو : ضَرْبِي زيداً قائماً، بخلاف :" ضَرْبِي زيْداً شديدٌ " فإنَّها ترفع على الخبريَّة، وتخرُج المسألة من ذلك، وهذه الحال، أعني :" مُسَمَّطاً " يصلح جعلها خبراً للمبتدأ، إذ التقدير : حكم مرسل لا مردودٌ، فيكون هذا المثل على ما تقرَّر من كلامهم شاذًّا.
والعُصْبَة : ما زاد على العشرة، عن ابن عبَّاسٍ رضي الله عنهما ؛ وعنه : مابين العشرة إلى الأربعين.
وقيل : الثلاثة نفر، فإذا زادت على ذلك إلى تسعة ؛ فهو رهطٌ، فإذا بلغُوا العشرة فصاعداً، فعُصْبَة.
وقيل : مابين الواحد إلى العشرة.
وقيل : من عشرة إلى خمسة عشر.
وقيل : ستة. وقيل : سَبْعَة. والمادَّة تدلُّ على الإحاطة من العصابة ؛ لإحاطتها بالرَّأس.

فصل


بيَّنُوا السبب الذي لأجله قصدوا إيذاء يوسف : وهو أن يعقُوب عليه الصلاة والسلام كان يفضِّل يوسف وأخاه على سائر أولاده في الحبِّ، فتأذَّوا منه لوجوه :
أحدها : كانوا أكبر منه سنًّا.
وثانيها : أنَّهم كانوا أكثر قوَّة، وأكثر قياماً بمصالح الأب منهما.
وثالثها : أنَّهم القائمون بدفع المضار والآفات، والمشتغلُون بتحصيل المنافع والخيرات، وإذا كانُوا كذلك لا جرم قالوا :﴿ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ ﴾.
قال ابن الخطيب :" وها هنا سؤالات :
السؤال الأول : أن من المعلُوم أن تفضيل بعض الأولاد على بعض، يُورِث الحقد والحسد، وهما يورثان الآفات، فملا كان يعقُوب عليه الصلاة والسلام عالماً بذلك، فلم أقدم على التفضيل ؟ وأيضاً : فالأسنُّ، والأعلم، والأنفع مقدَّم، فلم قلب هذه القضية ؟.
فالجوابك أنَّه عليه الصلاة والسلام ما فضلهما على سائر أولاده إلا في المحبَّة، والمحبَّة ليست في وسع البشر، فكان معذُوراً فيه، ولا يلحقه بسبب ذلك لومٌ، قال عليه الصلاة والسلام :" اللَّهُمَّ هذا قسمِي فيمَا أملكُ، فلا تَلُمنِي فيمَا لا أمْلك " حين كان يحبُّ عائشة رضي الله عنها.
السؤال الثاني : أن أولاد يعقوب كانوا قد آمنوا بكونه رسُولاً حقًّا من عند الله، فكَيْفَ اعتَرضُوا ؟ وكيْفَ زَيَّفُوا طريقتهُ وطعنُوا في فعلِهِ ؟ وإن كانُوا مُكذِّبينِ بنُبوته، غير مقرِّين بكونه رسًُولاً حقًّا من عند الله، فهذا مُوجِبُ تكفيرهم ؟.
والجواب : أنَّهُم كانوا مُؤمِنين بنبوَّة أبيهم، مُقرين بكونه رسُولاً حقًّا من عند الله، إلاَّ أنَّهُم لعلَّهم جوَّزُوا من الأنبياء أن يفعلوا أفعالاً مخصوصة بمجرد اجتهادهم، ثم إنَّ الاجتهاد أدَّى إلى تخطئة أبيهم في ذلك الاجتهادح وذلك لأنَّهم كانوا يقولون : هما صبيان ما بلغا العقل الكامل، ونحن متقدِّمُون عليهما في السنِّ، والعقل، الكفاية، والمنفعة، وكثرة الخدمة، والقيام بالمهمات، فإصراره على تقديم يوسف علينا، يخالف هذا الدَّليل، وأما يعقُوب عليه الصلاة والسلام فلعله كان يقُول : زيادة المحبَّة ليست في الوسع والطَّاقة، فليس لله عليًّ فيه تكليفٌ، وأما تخصيصهما بمزيد البرِّ، فيحتمل أنه كان لوجوه :
أحدها : أن أمَّهُمَا ماتتْ وهم صغار.
وثانيهما : أنه كان يرى فيه من آثار الرُّشد، والنَّجابة ما لم يجدْ في سائر الأولاد، والحاصل : أن هذه المسألة كانت اجتهاديَّة، وكانت بميْل النَّفس، وموجبات الفطرة، فلا يلزم من وقوع الاختلاف فيها طعن أحد الخصمين في دين الآخرِ، أو في عرضه.
السؤال الثالث : أنهم نسبُوا أباهم إلى الضَّلال المبين، وذلك مبالغة في الذمِّ والطَّعن، ومن بالغ في الطَّعن في الرسُول كفر، لا سيَّما إذا كان الطّاعن ابناً ؛ فإن حقَّ الأبُوَّة يُوجِب مزِيد التَّعظِيم.
والجواب : المُراد من الضلال : غير رعاية مصالحِ الدِّين، لا البعد عن طريق الرُّشد، والصواب.
السؤال الرابع : أن قولهم :﴿ لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إلى أَبِينَا مِنَّا ﴾ محضُ الحسد، والحسد من أمهات الكبائر، لا سيَّما وقد أقدموا بسبب ذلك الحسد على تضييع ذلك الأخ الصالح، وإلقائه في ذلِّ العبوديَّة، وتبعيده عن الأب المشفقِ، والقوا أباهم في الحُزن الدائم، والأسف العظيم، وأقدموا على الكذب، وأتوا بهذه الخصالِ المذمُومَة وكل ذلك يقدح في العصمة.
والجواب : أن المعتبر عصمة الأنبياء في وقت حًصول النُّبوَّة، فأمَّا قبلها فذلك غير واجب ".
﴿ اقتلوا يُوسُفَ أَوِ اطرحوه أَرْضاً ﴾ الآية.
في نصب " أرْضاً " ثلاثة أوجه :
أحدهاك أن تكون منصوبة على إسقاط الخافض تخفيفاً، أي : في أرض ؛ كقوله :﴿ لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ المستقيم ﴾ [ الأعراف : ١٦ ]، وقول الشاعر :[ الكامل ]
٣٠٥٢ لَدْنٌ بِهَزِّ الكفِّ يَعْسِلُ مَتنُهُ فِيهِ كَمَا عَسلَ الطَّريقَ الثَّعلبُ
وإليه ذهب ابن عطيَّة.
قال النَّحاس :" إلا أنَّه في الآية حسن كثيراً ؛ لأنَّه يتعدى إلى مفعولين، أحدهما بالحرف، فإذا حذفت الحرف، تعدَّى الفعل إليه ".
والثاني : النصب على الظرفيَّة.
قال الزمخشريُّ :" أرْضاً منكُورة مجهولة بعيدة عن العمران، وهو معنى تنكيرها، وأخلائها من النَّاسِ ؛ ولإبهامِها من هذا الوجه، نُصِبت نصب الظُّروف المُبْهَمة ".
وردَّ ابن عطيَّة هذا الوجه فقال :" وذلك خطأ ؛ لأن الظَّرف ينبغي أن يكون مُبهماً، وهذه ليست كذلك، بل هي أرض مقيَّدة بأنَّها بعيدةٌ، أو قاصية أو نحو ذلك، فزال بذلك إبهامُهَا، ومعلُوم أن يوُسف لم يَخْل من الكون في أرض، فتبيَّن أنَّهم أرادُوا أرضاً بعيدة، غير التي هو فيها قريبة من أبيه ".
واسَتحْسَن أبو حيَّان هذا الرَّد، وقال :" وهذا الردُّ صحيحٌ، لو قلت :" جَلستُ داراً بعيدة، أوْ مكاناً بعيداً " لم يصحَّ إلا بواسطة في ولا يجوز حذفها، إلا في ضرورة شعرٍ، أو مع " دخلْت " على الخلاف في " دَخلت " أهي لازمة أم متعدِّية ".
وفي الكلامين نظر ؛ إذ الظَّرف المُبْهَم : عبارة عمَّا ليس له حُدُود تحصرهن ولا أقطار تحويه، و " أرضاً " في الآية الكريمة من هذا القبيل.
الثالث : أنها مفعول ثان، وذلك أن معنى :" اطْرحُوهُ " أنزلوه، و " أنزلوه " يتعدى لاثنين، قال تعالى :
﴿ أَنزِلْنِي مُنزَلاً مُّبَارَكاً ﴾ [ المؤمنين : ٢٩ ] وتقولن : أنزلت زيداً الدَّارَ. والطَّرح : الرَّميُ، ويعبرُ به عن الاقتحام في المخاوف ؛ قال عروة بن الوردِ :[ الطويل ]
٣٠٥٣ ومَنْ يَكُ مِثْلِي ذا عِيالٍ ومُقْتِراً مِنَ المَالِ يَطرَحْ نَفسَهُ كُلَّ مَطْرحِ
والمعنى : اطرحُوه إلى أرض تبعُد من أبيه، وقي : في أرض تأكله السِّباعُ.
و " يَخْلُ لكُمْ " جوابٌ الأمر، وفيه الإظهار والإدغام، وتقدَّم تحقيقها عند قوله ﴿ وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإسلام دِيناً ﴾ [ آل عمران : ٨٥ ].
قوله :﴿ وَتَكُونُواْ ﴾ يجُوز أن يكُون مجزوماً نسقاً على ما قبله، أو منصوباً بإضمار " أن " بعد الواو في جواب لأمر.

فصل


اعلم : أنَّه لما قوي الحسد، وبلغ النِّهاية، قالوا : لا بُدَّ من تبعيد يُوسف من أبيه، وذلك لا يحصل إلا بأحد طريقين : القتل، أو التَّغريب، ثم ذكروا العلَّة فيه، وهي قوله :﴿ يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ ﴾ أي : أنَّ يوسف شغله عنَّا، وصرف وجهه إليه، فإذا فقده، أقبل علينا بالميل والمحبَّة، ﴿ وَتَكُونُواْ مِن بَعْدِهِ ﴾ أي : من بعد قتل يوسف، ﴿ قَوْماً صَالِحِينَ ﴾ : أي : نتُوب بعد قتلهِ.
وقيل : يصلُح شأنكم، تتفرغوا لإصلاح شأن أمَّهاتكُم، واختلفُوا في قائل هذا القول.
فقيل : شَاورُوا أجْنَبياً ؛ فأشار عليهم بقتله، ولم يقُل ذلك أحدٌ من إخوته.
وقيل : القائل بعض إخوته، واختلفوا فيه.
فقال وهب : شمعون، وقال كعب : دان، وقال مقاتل : رُوبيل.
فإن قيل : كيف يليق هذا بهم، وهم أنبياء ؟
فأجاب بعضهم : بأنَّهم كانوا في هذا الوقت مراهقين لم يبلُغوا، وهذا ضعيفٌ ؛ فإنه يبعد في مثل يعقُوب أن يبعث جماعة من الصِّبيان من غير أن يكون معهم قائمٌ عاقلٌ يمنعهم من القبائح.
وأيضا : فإنَّهم قالوا :﴿ وَتَكُونُواْ مِن بَعْدِهِ قَوْماً صَالِحِينَ ﴾ وهذا يدلُّ على أنَّهُم قب النبوَّة لا يكونوا صالحين، وذلك يُنَافِي كونهم من الصِّبيان، وأيضاً : قولهم :﴿ ياأبانا استغفر لَنَا ذُنُوبَنَآ إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ ﴾ [ يوسف : ٩٧ ] والصغير لا ذنب له.
فأجاب بعضهم : بأنَّ هذا من باب الصَّغائر، وهذا أيضاً ضعيفٌ ؛ لأن إيذاء الأبِ الذي هو نبيٌّ معصوم، والكيد معهُ، والسعي في إهلاك الأخ الصَّغير، فكل واحدٍ من ذلك من أمَّهات الكبائر، بل الجواب الصحيح : أنَّهم ما كانُوا أنبياء، وإن كانوا أنبياء، إلا أن هذه الواقعة أقدموا عليها قبل النبوة.
ثم إنَّ قائلاً منهم قال :﴿ لاَ تَقْتُلُواْ يُوسُفَ ﴾.
قيل : إنه رُوبيل، وكان ابن خالة يُوسُف، وكان أحسنُهم رأياً فيه ؛ فمنعهم من قتله، وقيل : يهُوذا، وكان أقدمهم في الرَّأي والفضلِ، والسِّنِّ، وهو الصحيح.
قوله :" فِي غَيَابَةِ " قرأ نافع :" غَيابَات " بالجمع في الحرفين من هذه السُّورة، جعل ذلك المكان أجزاء، وسمَّى لك جزءٍ غيابة ؛ لأن للجُبِّ أقطاراً ونواحِي، فيكون فيها غيابات، والباقون : بالإفراد ؛ لأن المقصُود : موضع واحد من الجُبِّ يغيب فيه يوسف، وابن هُرْمز كنافع، إلا أنَّه شدَّد الياء، والأظهر في ههذه القراءة : أن يكُون سُمِّي باسم الفاعل الذي للمبالغة، فهو وصف في الأصل، وألحقه الفارسي بالاسم الجائي على فعَّال، نحو ما ذكره سيبويه من الفيَّاد قال ابن جني :" ووجدت من ذلك الفخَّار : للخَزَف ".
وقال صاحب اللَّوامح :" يجوز أن يكو على " فعَّالات " كحمَّامات، ويجوز أن يكون على " فيْعَالات "، كشَيْطَانَات، جمع شَيْطَانَه، وكلٌّ للمبالغة ".
وقرأ الحسن :" في غَيَبةِ " بفتح الياء، وفيه احتمالان :
أحدهما : أن يكون في الأصل مصدراً ؛ كالغلبة.
والثاني : أن يكون جمع غائب، نحو : صَانِع وصنَعَة.
قال أبو حيَّانك " وفي حرف أبيَّ :" في غيْبَةِ " بسكون الياء، وهي ظلمة الرَّكيَّة ".
قال شهاب الدين :" والضبط أمر حادثٌ، فكيف يعرفُ ذلك من المصحف، وتقدَّم نحو ذلك، والغيابة، قال الهروي : شبه لجف أو طاقٍ في البئر فُويْق الماء يغيب ما فيه عن العُيُون ".
وقال الكلبيُّ :" الغيابة تكون في قَعْر الجُبِّ ؛ لأَنَّ اسفله واسعٌ، ورأسه ضيِّق، فلا يكاد النَّاظر يرى ما في جوانبه ".
وقال الزمخشري :" هي غورة، وما غب منه عن عين النَّاظر، وأظلم من أسفله ".
قال المنخل :[ الطويل ]
٣٠٥٤ فإنْ أنَا يَوْماً غَيَّبَتْنِي غَيَابَتِي *** فَسِيرُوا بسَيرِي في العَشِيرةِ والأهْلِ
أراد : غيابة حُفرته التي يدفن فيها، والجبُّ : البشر الذي لم تُطْوَ، وسمِّي بذلك : إما لكونه مَحْفُوراً في جبُوب الأرض، أي : ما غلظ منها ؛ وإما لأنه قطعَ في الأرضِ والجبُّ : القطعُ، ومنه : الجبُّ في الذَّكر ؛ قال الأعشى :[ الطويل ]
٣٠٥٥ لَئِنْ كُنْتَ في جُبِّ ثَمانِينَ قَامَةً *** ورُقِّيتَ أسْبَابَ السَّماءِ بسُلَّمِ
ويجمع على جُنُبٍ، وجِبَاب، وأجْبَاب.

فصل


والألف واللام في " الجُبِّ " تقتضي المعهُود السَّابق، واختلفوا فيه :
فقال قتادة : هو جُبُّ بئر بيت المقدِس، وقيل : بأرض الأرْدُن.
وقال مقاتل : هو على ثلاثة فراسِخ من منْزِل يعقُوب، وإنَّما عيَّنوا ذلك الجُبَّ ؛ للعلَّة التي ذكروها، وهي قوله :" يَلتَقطهُ بَعْضُ السَّيارةِ " لأن تلك البِئْر كانت معروفة يَردُونَ عليها كثيراً، وكانوا يعلمُون أنَّه إذا طُرِحَ فيها، كان إلى السَّلامة أقْرب ؛ لأن السيارة إذا ورَدُوهَا، شاهدوا ذلك الإنسان فيهن فيخرجوه، ويذهبوا به فكان إلقاءه فيها أبعد عن الهلاك.
قوله " يَلتَقِطْهُ " قرأ العامَّةك " يَلْتَقِطْهُ " بالياء من تحت، وهو الأصلُ وقرأ الحسن، ومجاهد، وأبو رجاء، وقتادة : بالتَّاء من فوقح للتَّأنيثِ المعنويِّن والإضافة إلى مؤنَّث، وقالوا : قُطِعَت بعضُ أصَابعه.
قال الشَّاعر :[ الوافر ]
٣٠٥٦ إذَا بَعْضُ السِّنينَ تَعرَّقَتْنَا *** كَفَى الأيْتامَ فقدَ أبِي اليَتِيمِ
وتقدَّم الكلام بأوسع من هذا في الأنعام والأعراف [ الأنعام : ١٦٠ الأعرافَ : ٥٦ ].
والإلتِقَاط : تناول الشيء المطروح، ومنه : اللُّقطَة واللَّقِيط ؛ قال الشاعر :[ الرجز ]
٣٠٥٧ ومَنْهَلٍ ورَدْتهُ التِقَاطَا ***. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
قال ابن عرفة : الالتقاط وجود الشيء على غير طلب، ومنه قوله تعالى ﴿ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السيارة ﴾ أي : يجده من غير أن يحتسب.

فصل


اختلفوا في الملقوط فقيل : إن أصله الحرية ؛ لغلبة الأحرار على العبيد، وروي الحسين بن علي رضي الله عنهما قضى بأن اللقيط حُرٌّ، وتلا قوله تعالى :﴿ وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ ﴾ [ يوسف : ٢٠ ] وهذا قوله عمر بن الخطاب رضي الله عنه ويروى عن علي وجماعته، وقال إبراهيم النخعي : إن نوى رقه فهو مملوك، وإن نوى الاحتساب فهو حر.

فصل


والسيَّارة : جمع سيَّار، وهو مثال مبالغة، وهُمُ الجماعة الذين يسيرون في الطريق للسَّفَر، وقال ابن عبَّاسٍ رضي الله عنهما : يريد : المارَّة، ومفعول " فَاعِلينَ " محذُوف، أي : فاعلين ما يحصل به غرضكم. وهذا إشارة إلى أن الأولى : أن لا تفعلوا شيئاً من ذلك، وأما إن كان ولا بد، فاقتصروا على هذا القدر، ونظيره قوله تعالى :﴿ وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ ﴾ [ النحل : ١٢٦ ] يعني : الأولى ألاَّ تفعلوا ذلك.
قوله تعالى :﴿ قَالُواْ يَأَبَانَا مَا لَكَ لاَ تَأْمَنَّا على يُوسُفَ ﴾ الآية.
" تَأمَنَّا " حال وتقدَّم نظيره، وقرأ العامَّة : تأمنَّا بالإخفاء، وهو عبارة عن تضعيف الصَّوت بالحركة، والفصل بين النُّونين ؛ لا لأن النون تسكن رأساً ؛ فيكون ذلك إخفاءً، لا إدغاماً.
قال الدَّاني :" وهو قول عامَّة أئِمَّتنا، وهو الصواب ؛ لتأكيد دلالته وصحَّته في القياس ".
وقرأ بعضهم ذلك : بالإشمام وهو عبارة عن ضمِّ الشفتين، إشارة إلى حركة الفعل مع الإدغام الصَّريح، كما يشير إليها الواقف، وفيه عسر كثير، قالوا : وتكون الإشارة إلى الضمة بعد الإدغام، أو قبل كماله، والإشمام يقع بإزاء معانٍ هذا من جملتها.
ومنها :[ إشراب ] الكسرة شيئاً من الضمِّ [ نحو قيل، ﴿ وَغِيضَ ﴾ [ هود : ٤٤ ] وبابه، وقد تقدم في أول سورة البقرة ].
ومنها إشمام أحد الحرفين شيئاً من الآخر ؛ كإشمام الصاد زاياً في ﴿ الصراط ﴾ [ الفاتحة : ٦ ]، ﴿ وَمَنْ أَصْدَقُ ﴾ [ النساء : ٨٧، ١٢٢ ] وبابهما، وقد تقدم في الفاتحة، والنساء، فهذا خلط حرف بحرف، كما أن ماقبلهُ خلطُ حركة بحركةٍ.
ومنها : الإشارة إلى الضَّمَّة في الوقف خاصَّة، وإنما يراه البصير دُون الأعمى، وقرأ أبو جعفر : الإدغام الصَّريح من غير إشمام، وقرأ الحسن ذلك : بالإظهار مبالغة في بيان إعراب الفعل. وللمحافظة على حركة الإعراب، اتَّفق الجمهُور على الإخفاء، أو الإشمام، كما تقدَّم تحقيقه.
وقرأ ابن هرمز :" لا تَأمُنَّا " بضم الميم، نقل حركة النُّون الأولى عند إرادة إداغمها، بعد سلب الميم حركتها، وخط المصحف بنون واحدة، ففي قراءة الحسن مخالفة لها. وقرأ أبو رزين، وابن وثَّابٍ :" لا تِيْمَنًّا " بكسر حرف المضارعة، إلا أنَّ ابن وثَّاب سهَّل الهمزة.
قال ابو حيَّانك " ومجيئُه بعد " مَا لَكَ " والمعنى : يرشد إلى أنَّه نفيٌ لا نهي، وليس كقولهم :" ما أحْسَنًّا " في التعجُّبح لأنه لو أدغم، لالتبس التَّعجب بالنَّفْي ".
قال شهاب الدِّين : وما أبْعَد هذا عن توهُّم النَّهي، حتى ينُصَّ عليه بقوله :" لالتبس بالنَّفْي الصحيح ".

فصل


هذا الكلام يدلُّ على أن يعقوب عليه الصلاة والسلام كان يخافُهم على يُوسف، ولولا ذلك، لما قالوا هذا القول.
واعلم : أنَّهم لما أحكمُوا العزم، أظهروا عند أبيهم أنَّهم في غاية المحبَّة ليوسُف، ونهاية الشفقة عليه، كانت عادتهم أن يغيبُوا عنه مُدَّة إلى الرَّعين فسألوه إرساله معهم، كان يعقُوب عليه الصلاة والسلام يحب تطيب قلب يوسف، فاغترَّ بقولهم، وأرسلهُ معهم حين قالوا له :﴿ وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ ﴾ والنُّصْح هنا : القيام بالمصلحة.
وقيل : البرُّ والعطف، أي : عَاطِفُون عليه قَائِمُون بمصلحته، نحفظه حتَّى نردهُ إليك.
قيل للحسن : أيَحْسُد المُؤمن ؟ قال : ما أنْسَاك ببَنِي يعقوب، ولهذا قيل : الأب جلاَّبٌ، والأخ سَلاَّب، وعند ذلك أجمعوا عل التًَّفريق بينه وبين ولده بضرب من الاحتيال، وقالوا ليعقوب عليه الصلاة والسلام ﴿ مَا لَكَ لاَ تَأْمَنَّا على يُوسُفَ ﴾.
وقيل : لما تفاوضوا وافترقوا على راي المتكلِّم الثاني، عادوا إلى يعقوب عليه الصلاة والسلام وقالوا هذا القول، إذ فيه دليلٌ على أنَّهُم سألوه قبل ذلك أن يخرج معهم يوسف، فأبى.
قوله :﴿ أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَداً يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ ﴾ في :" يرْتَعْ ويَلعَبْ " أربع عشرة قراءة :
أحدها : قراءة نافع : بالياء من تحت، وكسر العين.
الثانية : قراءة البزِّي، عن ابن كثيرٍ :" نَرْتَعِ ونلعب " بالنُّون وكسر العين.
الثالثة : قراءة قنبل، وقد اختلف عليه، فنقل عه ثُبُوت الياء بعد العين وصلاً ووقفاً، وحذفها وصلاً ووقفاً، فيوافق البزِّي في أحد الوجهين عنه، فعنه قراءتان.
الخامسة : قراءة أبي عمرو، وابن عامر :" نَرتَعْ ونَلعَبْ " بالنُّون، وسكون العين، والباء.
السادسة : قراءة الكوفيين :" يَرْتَعْ ويَلعبْ " بالياء من تحت وسكون العين والباءِ.
وقرأ جعفر بن محمد :" نَرْتَعْ " بالنُّون، " ويَلْعَبْ " بالياء، ورُويت عن ابن كثيرٍ.
وقرأ العلاء بن سيابة :" يَرْتَعِ ويَلْعَبُ " بالياء فيهما، وكسر العين وضمّ الباء.
وقرأ أبو رجاء كذلك، إلا أنَّه بالياء من تحت فيهما.
والنخعي ويعقوبك " نَرْتَع " بالنون، " ويَلْعَب " بالياء.
وقرأ مجاهدٌ، وقتادةُ، وابن محيصِن :" يَرْتَعْ ويَلْعَب " بالياء، والفعلان في هذه القراءات كلها مبنيان للفاعل.
وقرأ زيد بن علي :" يُرْتَع ويُلْعَب " بالياء من تحت فيهما مبنيين للمعفول.
وقرىء :" نَرْتَعِي ونَلْعَبُ " بثبوت الياء، ورفع الباء.
وقرأ ابن أبي عبلة :" نَرْعَى ونَلْعَب ".
فهذه اربع عشرة قراءة منها ستٌّ في السَّبع المتواتر وثمان في الشواذٍّ.
فمن قرأ بالنُّون، فقد أسند الفعل إلى إخوة يوسف.
سُئل أبو عمرو بن العلاء : كيف قالوا : نلعب وهم أنبياء ؟ قال : كان ذلك قبل أن يُنَبِّئهُم الله عزَّ وجلَّ.
قال ابن الأعرابي : الرَّتْع : الأكل بشدة، وقيل : إنه الخَصْبُ.
وقيل : المراد من اللَّعب : الإقدام على المُباحات، وهذا يوصف به الإنسان، كما رُوِي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لجابر :" هَلاَّ بِكْراً تُلاعِبُهَا وتُلاعِبُك ".
وقيل : كان لعبهم الاستباق، والغرض منه : تعليم المحاربة، والمقاتلة مع الكُفَّار، ويدلُّ عليه قولهم :" إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتبِقُ " وإنما سمَّوه لعباً ؛ لأنه في صُورة اللَّعِب.
وأما من قرأ بالياءِ، فقد أسند الفعل إليه دونهم، فالمعنى : أنه يبصر رَعْي الإبلِ ؛ لتيدرَّب بذلك، فمرَّة يرتع، ومرَّة يلعب ؛ كفعل الصِّبيان.
ومن كسر العين، اعتقد أنه جزم بحذف حرف العلَّة، وجعلهُ مأخُوذاً من يفتعِل من الرَّعي ؛ كيَرْتَمِي من الرَّمْي، ومن سكن العين، واعتقد أنه جزم بحذق الحركة، وجعلهُ مأخوذاً من : رَتَعَ يَرْتَعُ، إذا اتَّسع في الخِصْب قال :
٣٠٥٨. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . *** وإذَا يَحْلُولَهُ الحِمَى رَتَعْ
ومن سكَّن الباء جعلهُ مَجزُوماً، ومن رفعها، جعله مرفوعاً على الاستئناف، أي : وهو يلعبُ، ومن غاير بين الفعلين، فقرأ بالباء من تحت في " يَلْعَب " دون " نَرْتَع " ؛ فلأن رَعْياً، إذا أكلته فالارتعاء للمواشِي، وأضافوه إلى أنفسهم ؛ لأنه السَّبب، والمعنى : نرتع إبلنا، فنسبُوا الارتعاء والقيام بحفظ المال إلى أنفسهم ؛ لأنهم بالغون.
ومن قرأ :" نُرْتع " رُباعياً، جعل مفعُوله محذوفاً، أي : يَرْعى مَواشينا، ومن بناها للمفعول، فالوجه : أنه أضمر المفعُول الذي لم يُسمَّ فاعله، وهو ضمير الغدِ، والأصل :
نُرْتَع فيه، ونُلعَبُ فيه، ثم اتسع فيه ؛ فحذف حرف الجرِّ، فتعدى إليه الفعل بنفسه، فصار نُرْتعه ونَلْعَبُه، فلما بناهُ للمفعول، قام الضمير المنصُوب مقام فاعله، فانقلب مرفوعاً فاستتر في رافعه، فهو في الاتِّساع كقوله :[ الطويل ]
٣٠٥٩ ويَوْمٍ شَهِدْنَا سَلِمياً وعَامِراً ***. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ومن رفع الفعلين، جعلهما حالين، وتكون مقدَّرة، وأمَّا إثبات الياء في " نَرْتَعي " مع جزم " يَلْعَب " وهي قراءة قنبل، فقد تجرَّأ بعضُ النَّاس وردَّها.
وقال ابن عطيَّة : هي قراءة ضعيفةٌ لا تجوز إلا في الشِّعْر، وقيل : هي لغة من يجز بالحركة المقدَّرة، وأنشد :
٣٠٦٠ ألَمْ يَأتِيكَ والأنْبَاءُ تَنْمِي ***. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وقد تقدَّمت هذه المسألة.
و " نَرْتَع " يحتمل أن يكون وزنه :" نَفْتَعِل من الرَّعْي وهي أكلُ المرعى ؛ كما تقدَّم، ويكون على حذف مضاف، أي : نرتع مواشينا، أو من المراعاة للشيء ؛ قال :[ الخفيف ]
٣٠٦١ تَرْتعِي السَّفحَ فالكَثِيبَ فَذا قَارِ *** فَروضَ القَطَا فَذاتَ الرِّئالِ
ويحتمل أن يكون وزنه " نَفْعَل " من رَتَعَ يَرْتَع : إذا أقام في خصب وسعة، ومنهُ قول الغضبان بن القبعثرى :" القَيْدُ والرَّتعة وقِلَّة المَنعَة " ؛ وقال الشاعر :[ الوافر ]
٣٠٦٢ أكُفْراً بَعْدَ ردِّ المَوْتِ عَنِّي *** وبَعدَ عَطائِكَ المِائة الرِّتاعَا
قوله :﴿ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ﴾ جلمة حالية، والعاملُ فيها أحد شيئين : إمَّا الأمر، وإمَّا جوابه.
فإن قيل : هل يجوز أن تكون المسألة من الإعمال ؛ لأن كلاًّ من العاملين يصح تسلُّطه على الحال ؟.
فالجواب : لا يجُوز ذلك ؛ لأنَّ الإمال يستلزم الإضمار، والحالُ لا تضمر ؛ لأنَّها لا تكون إلا نكرةً، أو مؤولةً بها.
قوله :﴿ أَن تَذْهَبُواْ بِهِ ﴾ فاعل :" يَحْزُنُنِي "، أي : يَحْزُننِي ذهابُكم، وفي هذه الآية دلالة على أنَّ المضارع المقترن بلام الابتداء لا يكون حالاً، والنُّحاة جعلوها من القرائن المخصصة للحال، ووجه الدلالة : أنَّ " أن تذْهَبُوا " مستقبل ؛ لاقترانه بحرف الاستقبال، وهي وما في حيِّزها فاعل، فلو جعلنا " ليَحْزُنُنِي " حالاً، لزم سبق الفعل لفاعله، وهو مُحل وأجيبَ عن ذلك بإنَّ الفاعل في الحَقيقَة مقدَّر، حذف هو وقام المضاف إليه مقامه، والتقدير : ليَحْزُوننِي توقع ذهابكم، وقرأ زيد بن علي وابن هرمز، وابن محيصن :" ليَحْزُنِّي " بالإدغام.
وقرأ زيد بن علي :" تُذْهِبُوا بِهِ " بضم التَّاء من " أذْهَبَ " وهو كقوله :﴿ تَنبُتُ بالدهن ﴾ [ المؤمنون : ٢٠ ] في قراءة من ضمَّ التَّاء، فتكون التاء زائدة أو حالية.
والذئبُ يُهْمز ولا يُهْمزُ، وبعدم الهمز قرأ السُّوسيُّ، والكسائيُّ، وورش، وفي الوقف لا يهمزه حمزة، قالوا وهو مشتقٌّ من : تَذاءَبتٍ الرِّيحُ إذَا هَبَّت من كُلِّ جهةٍ ؛ لأنه يأتي كذلك، ويجمع على ذائب، وذُؤبان، وأذْؤبح قال :[ الطويل ]
٣٠٦٣ وأزْوَرَ يَمْشِي في بلادٍ بَعيدَةٍ تَعَاوَى بِهِ ذُؤبَانُهُ وثَعالِبُهْ
وأرضٌ مذْأبة : كثيرة الذِّئاب، وذُؤابةٌ الشَّعر ؛ لتحرُّكها، وتقلبها من ذلك.
وقوله :﴿ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ ﴾ : جملة حاليَّة، العامل فيها :" يَأكلهُ ".

فصل


لما طلبوا منه إرسال يوسف عليه السلام معهم اعتذر إليهم بشيئين :
أحدهما : ليُبَيِّن لهم أنَّ ذهابهم به مما يُحزنُه ؛ لأنه كان لا يصبر عنه ساعةً.
والثاني : خَوْفه عليه من الذِّب إذا غفلوا عنه برعهيم، أو لعبهم أو لقلة اهتامهم به.
فقيل : إنه رأى في النَّوم أن الذِّئب شدَّ على يوسف فكان يحذره، فألأجل هذا ذكر ذلك. وقيل : إن الذِّئاب كانت كثيرة في أرضهم، فلما قال بعقوب عليه الصلاة والسلام هذا الكلام، أجابوه بقولهم :
﴿ لَئِنْ أَكَلَهُ الذئب وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّآ إِذَاً لَّخَاسِرُونَ ﴾ وفائدة اللام في " لَئِنْ " من وجهين :
أحدهما : أن كلمة " إنْ " تفيد كون الشِّرط مستلزماً للجزاء، أي : إن وقعت هذه الواقعة، فنحن خاسرون، فهذه اللام خلت ؛ لتأكيد هذا الاستلزام.
والثاني : قال الزمخشري رحمه الله " هذه اللام تدلُّ على إضمار القسم، [ تقديره :] والله لئن أكلهُ الذئب، لكنَّا خاسرين ".
والواوُ في :" ونَحْنُ عُصْبَةٌ " واو الحال ؛ فتكون الجملة من قوله :" وَنحْنُ عُصْبةٌ " : جملة حاليَّة. وقيل : معترضة، و ﴿ إِنَّآ إِذَاً لَّخَاسِرُونَ ﴾ جواب القسم، و " إذاً " : حرف جواب، وحذف جوابُ الشرط، وقد تقدَّم الكلام فيه مشبعاً.

فصل


ونقل أبو البقاء : أنه قرىء " عُصْبَةً " بالنصب، وقدر ما تقدم في الآية الأولى. في المراد بقولهم :﴿ إِنَّآ إِذَاً لَّخَاسِرُونَ ﴾ وجوه : الأول :[ عاجزون ] ضعفاء، نظيره قوله تعالى :﴿ وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَراً مِّثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذاً لَّخَاسِرُونَ ﴾ [ المؤمنون : ٣٤ ] أي : لعاجزون.
الثاني : أنهم يكونون مستحقِّين لأن يدعى عليهم بالخسارة والدَّمار، وأن يقال : أخسرهُم الله، ودمَّرهُم حين أكل الذِّئب أخاهُم وهم حاضرون عُصبةٌ : عشرةٌ تعصب بهم الأمُور، تكفي الخطوب بمثلهم.
الثالث : إذا لم نقدر على حفظ أخينا، فقد هلكت مواشينا، وخسرنا.
الرابع : أنَّهم كانوا قد أتبعوا أنفسهم في خدمة أبيهم، واجتهدوا في القيام بمهمَّاته، ليفوزوا منه بالدعاء والثناء، فقالوا : لو قصَّرنا في هذه الخدمة، فقد أحبطنا كل تلك الأعمال، وخسرنا كمل ما صدر منَّا من أنواع الخدمة.
فإن قيل : إنَّ يعقُوب عليه الصلاة والسلام اعتذر بعذرين : شدة حبِّه، وأكل الذئب له، فلم أجابُوا عن أحدهما دون الآخر ؟
فالجواب : أن حقدهم، وغيظهم كان بسبب المحبَّة، فتغافلوا عنه.
قوله تعالى: ﴿فَلَمَّا ذَهَبُواْ بِهِ﴾ الآية: لا بُدَّ من الإضمار في هذه الآية في موضعين:
الأول: التقدير: قالوا: لئن أكلهُ الثئب ونحن عصبةٌ إنَّا إذاً لخاسرون فأذن له، وأرسله معهم، ثم يصتل به قوله تعالى: ﴿فَلَمَّا ذَهَبُواْ بِهِ﴾.
الثاني: في جواب ﴿فَلَمَّا ذَهَبُواْ بِهِ﴾ أوجه:
أحدهما: أنه محذوف، أي: عرفناه، وأوصلنا إليه الطمأنينة، وقدره الزمخشريُّ: «فعلوا به ما فعلوا من الأذى» وقدره غيره: عظمت فتنتهم، وآخرون: جعلوه فيها، وهذا أولى؛ لدلالة الكلام عليه.
الثاني: أن الجواب مثبت، وهو قوله: ﴿قَالُواْ يَأَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا﴾ [يوسف: ١٧] أي: لمَّا كان كَيْتَ وكَيْتَ، قالوا. وفيه بعد؛ لبعد الكلام من بعضه.
35
الثالث: أن الجواب هو قوله: «وأوْحَيْنَا» والواو فيه زائدة، أي: فلما ذهبوا به أوحينا، وهو رأي الكوفيين، وجعلُوا من ذلك قوله تعالى: ﴿فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ﴾ [الصافات: ١٠٣] أي: تله، «ونَاديْنَاهُ»، وقوله عَزَّ وَجَلَّ: ﴿حتى إِذَا جَآءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا﴾ [الزمر: ٧٣] وقول امرىء القيس: [الطويل]
٣٠٦٤ - فَلَمَّا أحَزْنَا سَاحةَ الحَيِّ وانْتحَى بِنَا بَطْنُ حِقْفٍ [ذِي رُكامٍ عَقَنْقَلِ]
تقدم أي فلما أجزنا انتحى وهو كثيرٌ عندهم بعد «لمَّا».
قوله: «أن يَجعلُوهُ» «مَفْعُول» «أجْمعَوا» أي: عزمُو على أن يجعلوه؛ لأنه يتعدَّى بنفسه، وب «عَلَى» فإنه يحتمل أن يكون على حذف الحرف، وألاّ يكون، فعلى الأول: يحتمل موضعه النصب والجرَّ، وعلى الثاني: يتعين النَّصب، والجمعل يجوز أن يكون بمعنى: الإلقاء، وأن يكون بمعنى: التَّصيير فعلى الأول: يتعلَّق في «غَيَابةِ» بنفس الفعل قبله، وعلى الثاني: بمحذُوف، والفعل من قوله: «وأجْمَعُوا» يجوز أن يكُون معطوفاً على ما قبله، وأن يكُون حالاً، و «قَدْ» معه مضمرة عند بعضهم، والضمير في «إليْهِ» الظاهر عوده على يوسف، وقيل: يعود على يعقُوب عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ.
وقرأ العامَّة: «لتُنَبئَنَّهُمْ» بتاء الخطاب، وقرأ ابن عمر: بياء الغيبة، أي: الله سبحانه وتعالى.
قال أبو حيَّان: «وكذا في بعض مصاحف البصرة» وقد تقدَّم أن النقط حادث فإن قال: مصحف حادث غير مصحف عثمان رَضِيَ اللَّهُ عَنْه فليس الكلام في ذلك.
وقرأ سلاَّم: «لنُنَبئَنَّهُمْ» بالنون، وهذا صفة لقولهم. وقيل: بدل. وقيل: بيان.
قوله: ﴿وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ﴾ جملة حالية، يجوز أن يكون العامل فيها «أوحينا» أي: أوحينا غليه من غير شعور إخوته بالوحي، وأن العامل فيها «لتُنَبئَنَّهُمْ» أي تخبرهم وهم لا يعرفونكم لبعد المدة وتغير الأحوال.

فصل


في المراد بقوله: ﴿وَأَوْحَيْنَآ إِلَيْهِ﴾ قولان:
الأول: المراد منه الوحي والنبوة والرسالة، وهو قول أكثر المحققين، ثم اختلف هؤلاء في أنه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ هل كان في ذلك الوقت بالغاً أو كان صابياً؟.
قال بعضهم: كان بالغاً وكان ابن سبع عشرة سنة. وقال آخرون: كان صغيراً إلا أن
36
الله تعالى أكمل عقله وجعله صالحاً لقبول الوحي والنبوة كما في حق عيسى عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ حين قالوا: ﴿كَيْفَ نُكَلِّمُ مَن كَانَ فِي المهد صَبِيّاً﴾ [مريم: ٢٩] فأجابهم بقوله: ﴿قَالَ إِنِّي عَبْدُ الله آتَانِيَ الكتاب وَجَعَلَنِي نَبِيّاً﴾ [مريم: ٣٠].
والقول الثاني: أن المراد بهذا الوحي: الإلهام، كقوله ﴿وَأَوْحَيْنَآ إلى أُمِّ موسى﴾ [القصص: ٧] ﴿وأوحى رَبُّكَ إلى النحل﴾ [النحل: ٦٨]. والأول أولى؛ لأنه الظاهر من الوحي.
فإن قيل: كيف يجعله نبياً في ذلك الوقت وليس هناك أحد يبلغه الرسالة؟.
فالجواب: لا متنع أن يشرفه الله تعالى بالوحي ويأمره بتبليغ الرسالة بعد أوقات ويكون فائدة تقديم الوحي تأنيسه وزوال الغم والوحشة عن قلبه والفائدة في أخفاء ذلك [الوحي] عن إخوته: أنهم لو عرفوه فربما ازداد حسدهم فكانوا يقصدون قتله.

فصل


إنما حملنا كقوله تبارك وتعالى ﴿وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ﴾ بأنك يوسف، أي: لا يعرفونك لبعد المدة وتغير الأحوال، لأن هذا أمراً من الله تعالى ليوسف ف يأن يستر نفسه عن أبيه [وأن لا يخبره بأحوال نفسه، فلهذا السبب كتم أخبار نفسه عن أبيه] طول تلك المدة مع علمه بوجد أبيه عليه خوفاً من مخالفة أمر الله تعالى، فصبر على تجرع تلك المرارة، وكان الله سبحانه قد قضى على يعقوب أن يوصل إليه تلك الغموم الشديدة والهموم العظيمة ليوصله إلى الدرجات العالية التي لا يمكن الوصل إليها إلا بتحصيل المحن الشديدة.
قوله
تعالى
: ﴿وجآءوا
أَبَاهُمْ
عِشَآءً يَبْكُونَ﴾
الآية في «عِشَاءً» وجهان:
أصحهما: وهو الذي لا ينبغي أن [يقال] غيره أنه ظرف، أي: ظرف زمان أي: جاءوا في هذا الوقت. قال أهل المعاني: جاءوا في ظلمة العشاء ليكونوا أجرأ على الاعتذار بالكذب. و «يَبْكُونَ» جملة حالية، أي: جاءوه باكين.
والثاني: أن يكون «عِشَاءً» جمع عاشٍ، كقَائِم وقِيَام.
قال أبو البقاء: «ويقرأ بضم العين، والأصل: عُشَاة، مثل: غازٍ وغزاة فحذفت
37
الهاء وزيدت الألف عوضاً عنها، ثم قلبت الألف همزة».
وفيه كلام قد تقدم في آل عمران عند قوله ﴿أَوْ كَانُواْ غُزًّى﴾ [آل عمران: ١٥٦].
ويجوز أن يكون جمع فاعل على فعال، كما جمع فَعِيل على فُعال، لقرب ما بين الكسر والضم، ويجوز أن يكون كنؤام ورباب وهو شاذ.
وهذه قراءة الحسن، وهو من العشْوة. والعُشْوَة: هي الظلام. رواه ابن جني «عُشَاءً» بضم العين وقال: عشوا من البكاء. وقرأ الحسن: «عُشاً» على وزن «دُحَى» نحو غازٍ وغُزاة، ثم حذفت منه تاء التأنيث [كما حذفوا تاء التأنيث من] «مَألِكَة» فقالوا: مَألِك، وعلى هذه الأوجه يكون منصوباً على الحال. وقرأ الحسن أيضاً: «عُشَيًا» مصغراً.
و «نَسْتَبْقُ» نتسابق. والافتِعَال والتَّفاعُل يشتركان نحو قولهم: نَنْتَضِل ونتناضل ونرتمي ونترامى، و «نَسْتَبِقَ» في محل نصب على الحال و «تَركْنَا» حال من نَسْتَبقُ و «قد» معه مضمرة عند بعضهم.
قال الزجاج: «يسابق بعضنا بعضاً في الرمي»، ومنه قوله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «لا سَبقَ إلاَّ في نصْلٍ أو خفِّ أو حافرٍ» يعنى بالنصل: الرمي وأصل السبق: الرمي بالسهم، ثم يوصف المتراميان بذلك، يقال: استبقا وتسابقا: إذا فعلا ذلك السبق ليتبين أيهما أسبق.
ويدل على صحة هذا التفسير ما روي في قراءة عبد الله: «إنَّا ذَهبْنَا نَنْضِلُ» وقال السدي ومقاتل: «نَسْتبِقُ» نشتد ونعدو.
فإن قيل: كيف جاز أن يستبقوا وهم رجال بالغون، وهذا من فعل الصبيان فالجواب: أن الاستباق منهم كان مثل الاستباق في الخيل، وكانوا يجربون بذلك أنفسهم ويدربونها على العدو، لأنه كالآلات لهم في محاربة العدو، وقوله «فأكلهُ الذِّئْبُ» قيل: أكل الذئب يوسف وقيل: عرَّضُوا، وأرادوا أكل الذئب المتاع، والأول أصح.
ثم قالوا: «ومَا أنْتَ بمُؤمٍ لنَا»، أي بمصدق لنا. وقولهم «ولوْ كُنَّا صَادقينَ» جملة حالية، أي: ما أنت بمصدق لنا في كل حال حتى في حال صدقنا لما غلب على ظنك في تهمتنا ببغض يوسف وكراهتنا له.
فإن قيل: كيف قالوا ليعقوب: أنت لا تصدق الصادقين؟.
38
قيل: المعنى أنك تتهمنا في هذا الأمر؛ لأنك خفتنا في الابتداء، واتهمتنا في حقه.
وقيل: المعنى لا تصدقنا؛ لأنه لا دليل لنا على صدقنا وإن كنا صادقين عند الله تعالى.

فصل


احتجوا بهذه الآية على أن الإيمان في اللغة عبارة عن التصديق لقوله تعالى: ﴿وَمَآ أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لَّنَا﴾، أي بمصدق.
روي أن امرأة تحاكمت إلى شريح فبكت، فقال الشعبي: يا أبا أمية: أما تراها تبكي؟ قال: قد جاء إخوة يوسف يبكون وهم ظلمة كذبة لا ينبغي للإنسان أن يقضي إلا بالحق.
قوله تعالى: ﴿وَجَآءُوا على قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ﴾ الآية «علَى قَمِيصهِ» في محل نصب على الحال من الدم.
قال ابو البقاء: «لأن التقدير: جاءوا بدم كذب على قيمصه». يعنى أنه لو تأخر لكان صفة للنكرة. ورد الزمخشري هذا الوجه.
قال: فإن قلت: هل يجوز أن تكون حالاً متقدمة «.
قلت: لا، لأن حال المجرور لا يتقدم عليه»
.
وهذا الذي رد به الزمخشري أحد قولي النحاة، قد صحح جماعة جوازه؛ وأنشد: [الطويل]
٣٠٦٥ -.................... فَلنْ يَذْهَبُوا فِرغاً بِفتْلِ حِبَالِ
وقول الآخر: [الطويل]
٣٠٦٦ - لَئِنْ كَان بَرْدُ الماءِ هَيْمانَ صَادِياً ِ إليَّ حَبِيباً إنَّها لَحبِيبُ
وقول الآخر: [الخفيف]
٣٠٦٧ - غَافِلاً تعْرِضُ المنِيَّةُ لِلمرْءِ فيُدْعَى ولاتَ حِينَ إبَاءُ
وقال الحوفيُّ: «علَى قَميصِهِ» : متعلقٌّ ب «جَاءُوا»، وفيه نظرٌ؛ لأنَّ مجيئهم لا يصلحُ أن يكُونَ على القَميصِ.
وقال الزمخشري: «فإن قلت:» عَلى قَميصِهِ «ما محلهُ؟ قلتُ: محلُّهُ النَّصب على [
39
الظَّرفيةِ]، كأنَّه قيل: وجاءُوا فوقَ قَميصِه بدمٍ، كما تقولُ: جَاءُوا على جِمالهِ بأحمال».
قال أبو حيان: ولا يُسَاعدُ المعنى على نَصْبِ «عَلَى» على الظرفية، بمعنى: فوق لأن العامل فيه إذ ذاك «جَاءُوا» وليس الفرق ظرفاً لهم [بل يستحيل أن يكُون ظرفاً لهم].
وهذا الردُّ هو الذي ردَّ به على الحوفيِّ في قوله: إنَّ «عَلَى» متعلقة ب: «جَاءُوا».
ثمَّ قال أبو حيان رَحِمَهُ اللَّهُ: «وأمَّا المثالُ الذي ذكره وهو: [جاء] على جماله بإحمالٍ، فيمكنُ أن يكون ظرفاً للجانئي؛ لأنَّه تمكن الظرف فيه باعتبار تبدُّلهِ من حمل إلى حمل، ويكُونُ» بأحْمالٍ «في موضع الحالِ، أي: مصحوباً بأحمال».
وقرأ العامَّةُ: «كَذبٍ» بالذَّال المعجمة، وهو من الوصفِ بالمصادرِ، فيمكنُ أن يكُون على سبيل المبالغةِ، نحو: «رَجُلٌ عدْلٌ».
وقال الفراء، والمبرِّد والزجاج، وابن الأنباريِّ: «بدمٍ كذبٍ»، أي: مكذُوبٍ فيه، إلا أنَّه وصف بالمصدر، جعل نفس الدَّم كذباً؛ للمبالغة، قالوا: والمفعُول، والفاعل يسميان بالمصدر، كما يقال: ماءٌ سكبٌ، أي: مسكوبٌ، والفاعل كقوله:
﴿إِنْ أَصْبَحَ مَآؤُكُمْ غَوْراً﴾ [الملك: ٣٠]، ولما سُمِّيا بالمصدر سمي المصدرُ بهما، فقالوا للعقل: المعقول، وللجلد: المجلُود، ومنه قوله تعالى: ﴿المفتون﴾ [القلم: ٦] أو على حذف مضاف، إي: ذي كذبٍ، ونسب فعل فاعله إليه.
وقرأ زيد بن عليٍّ: «كذِباً» بالنصب، فاحتمل أن يكون مفعولاً من أجله، واحتمل أن يكون مصدراً في موضع الحالِ، وهو قليلٌ، أعني: مجيء الحال من النكرة، وقرأت عائشة الحسنُ [رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما] :«كّدِبٍ» بالدَّال المهملة.
قال صاحب اللَّوامحك «معناهُ: ذي كدب، أي أثر؛ لأنَّ الكدِبَ هو بياضٌ، يخرج في [أظافير الشبان] ويؤثر فيها، فهو كالنقش، ويسمى ذلك البياض: الفُوف، فيكون هذا استعارة لتأثيرة في القميص، كتأثير ذلك في الأظافر».
وقيل: هو الدَّمُ الكدرُ، وقيل: الطَّريُّ، وقيل: اليابس.

فصل


قال الشعبيُّ: قصة يوسف كلُّها في قميصه، وذلك أنَّهم لمَّا ألقوه في الجبّ، نزعوا
40
قميصه، ولطَّخوهُ بالدَّم، وعرضوه على أبيه، ولمَّا شهد الشَّاهدُ قال: ﴿وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِن الصَّادِقِينَ فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِن كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ﴾ [يوسف: ٢٧ - ٢٨] وقال: ﴿اذهبوا بِقَمِيصِي هذا﴾ [يوسف: ٩٣] ولما أتى البشيرُ إلى يعقوب بقميصه، وألقى على وجهه، فارتدَّ بصيراً.
قال القرطبِيُّ: «هذا مردودٌ، فإنَّ القميص الذي جاءوا عليه بالدذَم غير القميص الذي قُدَّ، وغيرُ القميص الذي أتى به البَشيرُ، وقيل: إنَّ القميص الذي أتى به البَشيرُ إلى يعقوب، فارتدَّ بصيراً هو القميص الذي قُدَّ مِنْ دُبُرٍ».

فصل


قال بعض العلماءِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم: لمَّا أرادوا أن يجعلوا الدَّم علامة على صدقهم؛ قرن اللهُ بهذه العلامة علامةً تعارضُهَا، وهي سلامةٌ القميص من التَّخريقِ، إذْ لا يمكن افتراسُ الذِّئب ليوسف، وهو لابسٌ القميس، ويسلمُ القميص من التَّخريق ولمَّا تأمَّل يعقوب عليه السَّلام القميص لم يجدْ فيه خرقاً، ولا أثراً، استدلَّ بذلك على كذبهم، وقال لهم: تزعُمُون أن الذِّئب أكله، ولو أكلهُ لشقَّ قميصه.

فصل


استدلَّ العلماءُ بهذه [الآية] في إعمال الأمارات في مسائلَ من الفقهِ كالقسامةِ
41
وغيرها، كما استدلَّ يعقوب عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ ت على كذكبهم بصحَّة القميص، فيجبُ
42
على النَّاظر أن يلحظ الآيات، والعلامات إذا تعارضت، فما ترجَّح منها قضى بجانب التَّرجيحِ، وهي قُوَّة التُّهمةِ، [قال ابن الربي] ولا خلاف في الحكم بها.

فصل


قال محمد بن إسحاقَ: اشتمل فعلهم على جَرائمَ من قطعيعةٍ الرَّحم وعُقوقِ الوالدِ، وقلَّة الرًَّأفةِ الصَّغير الذي لا ذنْبَ له، والغدر بالأمانة، وترك العهد، والكذب مع أبيهم وعفا اللهُ عنهم ذلك كلَّه حتى لا ييأس العبد من رحمة الله تعالى.
قال بعضُ العلماءِ: إنَّهم عزموا على قتله، وعصمهم الله رحمة بهم، ولو فعلوا لهلكوا.
قوله تعالى: ﴿بَلْ سَوَّلَتْ﴾ قبل هذه الجملة جلمة محذوفة تقديرها: لم يأكله الذِّئب بل سوَّلت، أي: زيَّنتْ وسهّلتْ، قاله ابنُ عباسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه.
والتَّسويلُ: تقدير معنى في النَّفس مع الطَّمع في إتمامه.
قال الأزهريُّ: «كأن التسويلُ تفعيلٌ من سؤال الإنسان، وهو أمنيتُه التي يطلبها، فتزين لطالبها الباطل وغيره». وأصله مهموزٌ على أنَّ العرب يستثقلون فيه الهمز.
قال الزمخشري: «سوَّلتْ: سهُلتْ من السَّولِ، وهو الاسْتْخَاءُ».
وإذا عرفت هذا فقوله: «بَلْ» ردُّ لقولهم: «أكَلهُ الذِّبُ» كأنه قال: ليس كما تقولون، بل سولت لكم أنفسكم أمراً في شأنه، أي: زيَّنَتْ لكم أنفسُكم أمراً غير ما تصفون.
واختلف في السَّبب الذي عرف به كونهم كاذبين، فقيل: عرف ذلك بسبب أنَّه كان عيرف الحسد الشَّديدَ منهم في قلوبهم، وقيلك كان عالماً بأنه حيٌّ، لقوله ليوسف: ﴿وكذلك يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ﴾ [يوسف: ٦] وذلك دليلٌ قاطعٌ على كونهم كاذبين في ذلك الوقتِ.
وقال سعيدُ بن جبيرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: لما جاءُوا على قميصه بدم كذب، وما كان مُخْرّقاً، قال: كذبتم لو أكله الذِّب لخرق قميصه. وعن السدي أنه قال: إنَّ يعقوب عليه السلام قال: إنَّ الذِّئب كان رَحِيماً، كيف أكل لحمه، ولم يخرقْ قميصه؟.
43
وقيل: إنه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ لما قال ذلك قال بعضهم: بل قتله اللصوصُ، فقال: كيف قتلوه، وتركوا قميصه، وهم إلى القميص أحْوَجُ منه إلى قتله، فلمَّا اختلفت أقوالهم؛ عرف بذلك كذبهم.
وقال القاضي: «لعلَّ غرضهم في نزع قميصه عند إلقائه في الجبّ أن يُلطِّخوهُ بالدَّم توكيداً لصدقهم؛ لأنَّهُ يبعدُ أن يفعلوا ذلك طمعاً في نفس القميص، ولا بد في المعصية من أن يقرن بهذا الخذلان، فلو خرقوه مع لطخِهِ بالدَّم، لكان الإيهامُ أقوى، فلما شاهد يعقوب عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ القميص صحيحاً؛ علم كذبهم».
قال عند ذلك: «فصَبْرٌ جميلٌ» يَجُوز أن يكون مبتدأ، وخبره محذوف، أي: صبرٌ جميلٌ أمثلُ بي، ويجوز أن يكون خبراً محذوف المبتدأ، أي: أمري صبرٌ جميلٌ قال الخليل: الذي أفعله صبر جميل. وقال قطربٌ: معناه فصبري صبرٌ جميلٌ.
وهل يجب حذف مبتدأ هذا الخبر، أو خبر هذا المبتدأ؟.
وضابطه: أن يكون مصدراً في الأصل بدلاً من اللفظ بفعله، فعبارة بعضهم تقتضي الوُجوبَ، وعبارةٌ آخرين تقتضي الجواز، ومِنَ التصريح بخبر هذا النَّوع، ولكنه في اصورةِ شعرٍ، قوله: [الطويل]
٣٠٦٨ - فقَالَتْ على اسْمِ اللهِ أمْرُكَ طاعَةٌ وإنْ كُنْتُ قَد كُلِّفتُ ما لَمْ أعَوَّدِ
وقول الشاعر: [الرجز]
٣٠٦٩ - يَشْكُو إِليًَّ جَملِي طُول السُّرى صَبْرٌ جَميلٌ فكِلانَا مُبْتَلى
ويحتمل أن يكون مبتدأ أو خبراً كما تقدم.
وقرأ أبيّ وعيسى بن عمر: «فَصْبراً جَمِيلاً» نصباً، ورويت عن الكسائي وكذكل هي في مصحف أنس بن مالكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه وتخريجها على المصدر الخبري، أي: أصبر أنا صبراً، وهذه القراءة صعيفة إن خرجت هذا التَّخريج؛ لأنَّ سيبويه لا ينقاس ذلك عنده، إلاَّ في الطَّلب، فالأولى أن يجعل التَّقديرُ: أنَّ يعقوب رجع، وأمر نفسه، فكأنَّه قال: اصْبرِي يا نفسُ صبراً.
44
وروي البيت أيضاً بالرَّفعِ، والنَّصب على ما تقدَّم، والأمرُ فيه ظاهرٌ.

فصل


روى الحسنُ قال: سُئل النبيٌّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عن قوله «فَصبْرٌ جميلٌ» فقال عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «صَبْرٌ لا شكْوَى فيهِ، فمَنْ بثَّ لمْ يَصْبِرْ»، ويدلُّ على ذلك قوله: ﴿إِنَّمَآ أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى الله﴾ [يوسف: ٨٦] وقال مجاهدٌ «فَصبرٌ جَمِيلٌ»، أي: من غير جزعٍ. وقال الثوريُّ: «من الصًّبْر ألاّ تُحدِّثَ بوجعك، ولا بمُصيبتكَ».
وقال ابنُ الخطيبِ: «وههُنا بحثٌ، وهو أنَّ الصَّبْر على قضاءِ الله واجبٌ، وأما الصَّبرُ على ظُلم الظَّالمِ، فغيرُ واجبٍ، بل الواجبُ إزالتهُ لا سيِّما في الضَّرر العائدِ إ لى الغير، وههنا أنَّ إخوة يوسف قد ظهر كذبهم، وخيانتهم، فلم صبر يعقوب على ذلك؟ ولِمَ لَمْ يبالغ في التَّفتيش، ولا البحث عنه، ولا السّعي في تخيص يوسف من البليّة، والشِّدَّة إن كان حيًّا، وفي إقامة القصاص إن صحَّ أنهم قتلوه فثبت أنَّ الصَّبرَ في هذا المقام مذموم».
ويُقوِّي هذا السُّؤال أنَّه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ كان عالماً بأنه حي؛ لأنَّهُ قال له: ﴿وكذلك يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ﴾ [يوسف: ٦]. الظَّاهر أنه إنَّما قال هذا الكلام من الوحي، وإذا كان عالماً بأنَّه حيٌّ سليم؛ فكان من الواجب أن يسعى في طلبه.
وأيضاً: فإنَّ يعقوب عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ كان رجلاً عظيم القدر في نفسه، وكان من بيتٍ عظيم شريفٍ، وأهلُ العالم كانوا يعرفونه، ويعتقدون تعظيمه، فلو بالغ في البحث، والطلب لظهر ذلك، واشتهر، ولزال وجهُ التَّلبيسِ، فما السَّبب في أنه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ مع شدَّة رغبته في حضورِ يوسف، ونهاية حبِّه له لم يطلبه مع أنَّ طلبه كان من الواجبات؛ فثبت أنَّ هذا الصَّبر مذمومٌ عقلاً وشرعاً.
فالجواب أن نقول: إن الله سبحانه وتعالى منعه من الطَّلب تشديداً للمحنة عليه، وتغليطاً للأمر عليه، وأيضاً: لعلَّهُ عرف بقرائن الأحوال أنَّ أولاده أقوياء، وأنَّهم لا يمكنونه من الطَّلب، والفحص، وأنَّه لو بالغ في البحثِ فربما أقدموا على إيذائه، وأيضاً:
45
لعلَّه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ علم أنَّ الله ت تبارك وتعالى سيصون يوسف عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ عن البلاءِ والمحنةِ، وأن أمرهُ سيظهرُ بالآخرةِ ولم يرد هتْك ستر أولاده، وإلقائهم في ألسنةِ النَّاس وذلك لأنَّ أحَد الولدينِ إذا ظلم أخاه، وقع أبوه في العذابِ الشَّديدِ؛ لأنه إذا لم ينتقمْ؛ يحترق قلبه على الولد المظْلُوم، وإن انتقم، احترق قلبه على الولدِ المُنتقَم منه، فلمَّا وقع يعقوب في هذه البلية رأى أنَّ الأصوب الصَّبرُ، والسُّكونُ، وتفويضُ الأَمْرِ بالكُليَّةِ إلى اللهِ تعالى.

فصل


قال ابنُ رفاعة «ينبغي لأهل الرَّاي أن يتَّهِمُوا رأيهم عند ظنّ يعقوب عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ وهو نبيٌّ حين قال له بنوه: ﴿إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِندَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذئب﴾ [يوسف: ١٧] فقال: ﴿بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْراً﴾ [يوسف: ١٨] فأصاب هنا، ثمَّ لما قالوا له: ﴿إِنَّ ابنك سَرَقَ وَمَا شَهِدْنَآ إِلاَّ بِمَا عَلِمْنَا وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ﴾ [يوسف: ٨١]، قال: ﴿بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ﴾ [يوسف: ٨٣] فلم يُصِبْ».

فصل


قوله: «فَصْبرٌ جَميلٌ» يدل على أنَّ الصّبر قسمان:
أحدهما: جميلٌ، والآخر: غيرُ جميلٍ، فالصَّبرٌ الجميلُ هو: أن يعرف أنَّ مُنزِّلَ ذلك البلاء هو الله تعالى ثمَّ يعلم أنَّهُ سبحانه مالكُ المُلكِ، ولا اعتراض على المالكِ في أنْ يتصرَّف في ملكه، فيصيرُ استغراق قلبه في هذا المقام مانعاً من الشِّكايةِ.
وأيضاً: يعلمُ أن منزِّل هذا البلاءِ حليمٌ لا يجهلُ، عالمٌ لا يغفلُ، وإذَا كان كذلك، فكان كلُّ ماصدر عنه حكمةً وصواباً، فعند ذلك يسكتُ ولا يعترضُ.
وأمَّا الصَّبرُ غير الجميل: فهو الصَّبرُ لسائر الأغراض، لا لأجل الرِّضا بقضاءِ الله سبحانه وتعالى والضَّابطُ في جميع الأقوال والأفعال والاعتقادات: أنه لكما كان لطلب عبودية الله تعالى كان حسناً وإلا فلا.
ثم قال: ﴿والله المستعان على مَا تَصِفُونَ﴾ أي: استعين بالله على الصَّبر على ما تكذبون.
46
و " نَسْتَبْقُ " نتسابق. والافتِعَال والتَّفاعُل يشتركان نحو قولهم : نَنْتَضِل ونتناضل ونرتمي ونترامى، و " نَسْتَبِقَ " في محل نصب على الحال و " تَركْنَا " حال من نَسْتَبقُ و " قد " معه مضمرة عند بعضهم.
قال الزجاج :" يسابق بعضنا بعضاً في الرمي "، ومنه قوله عليه الصلاة والسلام :" لا سَبقَ إلاَّ في نصْلٍ أو خفِّ أو حافرٍ " يعنى بالنصل : الرمي وأصل السبق : الرمي بالسهم، ثم يوصف المتراميان بذلك، يقال : استبقا وتسابقا : إذا فعلا ذلك السبق ليتبين أيهما أسبق.
ويدل على صحة هذا التفسير ما روي في قراءة عبدالله :" إنَّا ذَهبْنَا نَنْضِلُ " وقال السدي ومقاتل :" نَسْتبِقُ " نشتد ونعدو.
فإن قيل : كيف جاز أن يستبقوا وهم رجال بالغون، وهذا من فعل الصبيان فالجواب : أن الاستباق منهم كان مثل الاستباق في الخيل، وكانوا يجربون بذلك أنفسهم ويدربونها على العدو، لأنه كالآلات لهم في محاربة العدو، وقوله " فأكلهُ الذِّئْبُ " قيل : أكل الذئب يوسف وقيل : عرَّضُوا، وأرادوا أكل الذئب المتاع، والأول أصح.
ثم قالوا :" ومَا أنْتَ بمُؤمٍ لنَا "، أي بمصدق لنا. وقولهم " ولوْ كُنَّا صَادقينَ " جملة حالية، أي : ما أنت بمصدق لنا في كل حال حتى في حال صدقنا لما غلب على ظنك في تهمتنا ببغض يوسف وكراهتنا له.
فإن قيل : كيف قالوا ليعقوب : أنت لا تصدق الصادقين ؟.
قيل : المعنى أنك تتهمنا في هذا الأمر ؛ لأنك خفتنا في الابتداء، واتهمتنا في حقه.
وقيل : المعنى لا تصدقنا ؛ لأنه لا دليل لنا على صدقنا وإن كنا صادقين عند الله تعالى.

فصل


احتجوا بهذه الآية على أن الإيمان في اللغة عبارة عن التصديق لقوله تعالى :﴿ وَمَآ أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لَّنَا ﴾، أي بمصدق.
روي أن امرأة تحاكمت إلى شريح فبكت، فقال الشعبي : يا أبا أمية : أما تراها تبكي ؟ قال : قد جاء إخوة يوسف يبكون وهم ظلمة كذبة لا ينبغي للإنسان أن يقضي إلا بالحق.
قوله تعالى :﴿ وَجَآءُوا على قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ ﴾ الآية " علَى قَمِيصهِ " في محل نصب على الحال من الدم.
قال ابو البقاء :" لأن التقدير : جاءوا بدم كذب على قيمصه ". يعنى أنه لو تأخر لكان صفة للنكرة. ورد الزمخشري هذا الوجه.
قال : فإن قلت : هل يجوز أن تكون حالاً متقدمة ".
قلت : لا، لأن حال المجرور لا يتقدم عليه ".
وهذا الذي رد به الزمخشري أحد قولي النحاة، قد صحح جماعة جوازه ؛ وأنشد :[ الطويل ]
٣٠٦٥. . . . . . . . . . . . . . . . . فَلنْ يَذْهَبُوا فِرغاً بِفتْلِ حِبَالِ
وقول الآخر :[ الطويل ]
٣٠٦٦ لَئِنْ كَان بَرْدُ الماءِ هَيْمانَ صَادِياً إليَّ حَبِيباً إنَّها لَحبِيبُ
وقول الآخر :[ الخفيف ]
٣٠٦٧ غَافِلاً تعْرِضُ المنِيَّةُ لِلمرْءِ فيُدْعَى ولاتَ حِينَ إبَاءُ
وقال الحوفيُّ :" علَى قَميصِهِ " : متعلقٌّ ب " جَاءُوا "، وفيه نظرٌ ؛ لأنَّ مجيئهم لا يصلحُ أن يكُونَ على القَميصِ.
وقال الزمخشري :" فإن قلت :" عَلى قَميصِهِ " ما محلهُ ؟ قلتُ : محلُّهُ النَّصب على [ الظَّرفيةِ ]، كأنَّه قيل : وجاءُوا فوقَ قَميصِه بدمٍ، كما تقولُ : جَاءُوا على جِمالهِ بأحمال ".
قال أبو حيان : ولا يُسَاعدُ المعنى على نَصْبِ " عَلَى " على الظرفية، بمعنى : فوق لأن العامل فيه إذ ذاك " جَاءُوا " وليس الفرق ظرفاً لهم [ بل يستحيل أن يكُون ظرفاً لهم ].
وهذا الردُّ هو الذي ردَّ به على الحوفيِّ في قوله : إنَّ " عَلَى " متعلقة ب :" جَاءُوا ".
ثمَّ قال أبو حيان رحمه الله :" وأمَّا المثالُ الذي ذكره وهو :[ جاء ] على جماله بإحمالٍ، فيمكنُ أن يكون ظرفاً للجانئي ؛ لأنَّه تمكن الظرف فيه باعتبار تبدُّلهِ من حمل إلى حمل، ويكُونُ " بأحْمالٍ " في موضع الحالِ، أي : مصحوباً بأحمال ".
وقرأ العامَّةُ :" كَذبٍ " بالذَّال المعجمة، وهو من الوصفِ بالمصادرِ، فيمكنُ أن يكُون على سبيل المبالغةِ، نحو :" رَجُلٌ عدْلٌ ".
وقال الفراء، والمبرِّد والزجاج، وابن الأنباريِّ :" بدمٍ كذبٍ "، أي : مكذُوبٍ فيه، إلا أنَّه وصف بالمصدر، جعل نفس الدَّم كذباً ؛ للمبالغة، قالوا : والمفعُول، والفاعل يسميان بالمصدر، كما يقال : ماءٌ سكبٌ، أ ي : مسكوبٌ، والفاعل كقوله :
﴿ إِنْ أَصْبَحَ مَآؤُكُمْ غَوْراً ﴾ [ الملك : ٣٠ ]، ولما سُمِّيا بالمصدر سمي المصدرُ بهما، فقالوا للعقل : المعقول، وللجلد : المجلُود، ومنه قوله تعالى :﴿ المفتون ﴾ [ القلم : ٦ ] أو على حذف مضاف، إي : ذي كذبٍ، ونسب فعل فاعله إليه.
وقرأ زيد بن عليٍّ :" كذِباً " بالنصب، فاحتمل أن يكون مفعولاً من أجله، واحتمل أن يكون مصدراً في موضع الحالِ، وهو قليلٌ، أعني : مجيء الحال من النكرة، وقرأت عائشة الحسنُ [ رضي الله عنهما ] :" كّدِبٍ " بالدَّال المهملة.
قال صاحب اللَّوامحك " معناهُ : ذي كدب، أي أثر ؛ لأنَّ الكدِبَ هو بياضٌ، يخرج في [ أظافير الشبان ] ويؤثر فيها، فهو كالنقش، ويسمى ذلك البياض : الفُوف، فيكون هذا استعارة لتأثيرة في القميص، كتأثير ذلك في الأظافر ".
وقيل : هو الدَّمُ الكدرُ، وقيل : الطَّريُّ، وقيل : اليابس.

فصل


قال الشعبيُّ : قصة يوسف كلُّها في قميصه، وذلك أنَّهم لمَّا ألقوه في الجبّ، نزعوا قميصه، ولطَّخوهُ بالدَّم، وعرضوه على أبيه، ولمَّا شهد الشَّاهدُ قال :﴿ وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِن الصَّادِقِينَ فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِن كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ ﴾ [ يوسف : ٢٧-٢٨ ] وقال :﴿ اذهبوا بِقَمِيصِي هذا ﴾ [ يوسف : ٩٣ ] ولما أتى البشيرُ إلى يعقوب بقميصه، وألقى على وجهه، فارتدَّ بصيراً.
قال القرطبِيُّ :" هذا مردودٌ، فإنَّ القميص الذي جاءوا عليه بالدذَم غير القميص الذي قُدَّ، وغيرُ القميص الذي أتى به البَشيرُ، وقيل : إنَّ القميص الذي أتى به البَشيرُ إلى يعقوب، فارتدَّ بصيراً هو القميص الذي قُدَّ مِنْ دُبُرٍ ".

فصل


قال بعض العلماءِ رضي الله عنهم : لمَّا أرادوا أن يجعلوا الدَّم علامة على صدقهم ؛ قرن اللهُ بهذه العلامة علامةً تعارضُهَا، وهي سلامةٌ القميص من التَّخريقِ، إذْ لا يمكن افتراسُ الذِّئب ليوسف، وهو لابسٌ القميس، ويسلمُ القميص من التَّخريق ولمَّا تأمَّل يعقوب عليه السَّلام القميص لم يجدْ فيه خرقاً، ولا أثراً، استدلَّ بذلك على كذبهم، وقال لهم : تزعُمُون أن الذِّئب أكله، ولو أكلهُ لشقَّ قميصه.

فصل


استدلَّ العلماءُ بهذه [ الآية ] في إعمال الأمارات في مسائلَ من الفقهِ كالقسامةِ وغيرها، كما استدلَّ يعقوب عليه الصلاة والسلام ت على كذكبهم بصحَّة القميص، فيجبُ على النَّاظر أن يلحظ الآيات، والعلامات إذا تعارضت، فما ترجَّح منها قضى بجانب التَّرجيحِ، وهي قُوَّة التُّهمةِ، [ قال ابن الربي ] ولا خلاف في الحكم بها.

فصل


قال محمد بن إسحاقَ : اشتمل فعلهم على جَرائمَ من قطعيعةٍ الرَّحم وعُقوقِ الوالدِ، وقلَّة الرًَّأفةِ الصَّغير الذي لا ذنْبَ له، والغدر بالأمانة، وترك العهد، والكذب مع أبيهم وعفا اللهُ عنهم ذلك كلَّه حتى لا ييأس العبد من رحمة الله تعالى.
قال بعضُ العلماءِ : إنَّهم عزموا على قتله، وعصمهم الله رحمة بهم، ولو فعلوا لهلكوا.
قوله تعالى :﴿ بَلْ سَوَّلَتْ ﴾ قبل هذه الجملة جلمة محذوفة تقديرها : لم يأكله الذِّئب بل سوَّلت، أي : زيَّنتْ وسهّلتْ، قاله ابنُ عباسٍ رضي الله عنه.
والتَّسويلُ : تقدير معنى في النَّفس مع الطَّمع في إتمامه.
قال الأزهريُّ :" كأن التسويلُ تفعيلٌ من سؤال الإنسان، وهو أمنيتُه التي يطلبها، فتزين لطالبها الباطل وغيره ". وأصله مهموزٌ على أنَّ العرب يستثقلون فيه الهمز.
قال الزمخشري :" سوَّلتْ : سهُلتْ من السَّولِ، وهو الاسْتْخَاءُ ".
وإذا عرفت هذا فقوله :" بَلْ " ردُّ لقولهم :" أكَلهُ الذِّبُ " كأنه قال : ليس كما تقولون، بل سولت لكم أنفسكم أمراً في شأنه، أي : زيَّنَتْ لكم أنفسُكم أمراً غير ما تصفون.
واختلف في السَّبب الذي عرف به كونهم كاذبين، فقيل : عرف ذلك بسبب أنَّه كان عيرف الحسد الشَّديدَ منهم في قلوبهم، وقيلك كان عالماً بأنه حيٌّ، لقوله ليوسف :﴿ وكذلك يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ ﴾ [ يوسف : ٦ ] وذلك دليلٌ قاطعٌ على كونهم كاذبين في ذلك الوقتِ.
وقال سعيدُ بن جبيرٍ رضي الله عنه : لما جاءُوا على قميصه بدم كذب، وما كان مُخْرّقاً، قال : كذبتم لو أكله الذِّب لخرق قميصه. وعن السدي أنه قال : إنَّ يعقوب عليه السلام قال : إنَّ الذِّئب كان رَحِيماً، كيف أكل لحمه، ولم يخرقْ قميصه ؟.
وقيل : إنه عليه الصلاة والسلام لما قال ذلك قال بعضهم : بل قتله اللصوصُ، فقال : كيف قتلوه، وتركوا قميصه، وهم إلى القميص أحْوَجُ منه إلى قتله، فلمَّا اختلفت أقوالهم ؛ عرف بذلك كذبهم.
وقال القاضي :" لعلَّ غرضهم في نزع قميصه عند إلقائه في الجبّ أن يُلطِّخوهُ بالدَّم توكيداً لصدقهم ؛ لأنَّهُ يبعدُ أن يفعلوا ذلك طمعاً في نفس القميص، ولا بد في المعصية من أن يقرن بهذا الخذلان، فلو خرقوه مع لطخِهِ بالدَّم، لكان الإيهامُ أقوى، فلما شاهد يعقوب عليه الصلاة والسلام القميص صحيحاً ؛ علم كذبهم ".
قال عند ذلك :" فصَبْرٌ جميلٌ " يَجُوز أن يكون مبتدأ، وخبره محذوف، أي : صبرٌ جميلٌ أمثلُ بي، ويجوز أن يكون خبراً محذوف المبتدأ، أي : أمري صبرٌ جميلٌ قال الخليل : الذي أفعله صبر جميل. وقال قطربٌ : معناه فصبري صبرٌ جميلٌ.
وهل يجب حذف مبتدأ هذا الخبر، أو خبر هذا المبتدأ ؟.
وضابطه : أن يكون مصدراً في الأصل بدلاً من اللفظ بفعله، فعبارة بعضهم تقتضي الوُجوبَ، وعبارةٌ آخرين تقتضي الجواز، ومِنَ التصريح بخبر هذا النَّوع، ولكنه في اصورةِ شعرٍ، قوله :[ الطويل ]
٣٠٦٨ فقَالَتْ على اسْمِ اللهِ أمْرُكَ طاعَةٌ وإنْ كُنْتُ قَد كُلِّفتُ ما لَمْ أعَوَّدِ
وقول الشاعر :[ الرجز ]
٣٠٦٩ يَشْكُو إِليًَّ جَملِي طُول السُّرى صَبْرٌ جَميلٌ فكِلانَا مُبْتَلى
ويحتمل أن يكون مبتدأ أو خبراً كما تقدم.
وقرأ أبيّ وعيسى بن عمر :" فَصْبراً جَمِيلاً " نصباً، ورويت عن الكسائي وكذكل هي في مصحف أنس بن مالكٍ رضي الله عنه وتخريجها على المصدر الخبري، أي : أصبر أنا صبراً، وهذه القراءة صعيفة إن خرجت هذا التَّخريج ؛ لأنَّ سيبويه لا ينقاس ذلك عنده، إلاَّ في الطَّلب، فالأولى أن يجعل التَّقديرُ : أنَّ يعقوب رجع، وأمر نفسه، فكأنَّه قال : اصْبرِي يا نفسُ صبراً.
وروي البيت أيضاً بالرَّفعِ، والنَّصب على ما تقدَّم، والأمرُ فيه ظاهرٌ.

فصل


روى الحسنُ قال : سُئل النبيٌّ صلى الله عليه وسلم عن قوله " فَصبْرٌ جميلٌ " فقال عليه الصلاة والسلام :" صَبْرٌ لا شكْوَى فيهِ، فمَنْ بثَّ لمْ يَصْبِرْ "، ويدلُّ على ذلك قوله :﴿ إِنَّمَآ أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى الله ﴾ [ يوسف : ٨٦ ] وقال مجاهدٌ " فَصبرٌ جَمِيلٌ "، أي : من غير جزعٍ. وقال الثوريُّ :" من الصًّبْر ألاّ تُحدِّثَ بوجعك، ولا بمُصيبتكَ ".
وقال ابنُ الخطيبِ :" وههُنا بحثٌ، وهو أنَّ الصَّبْر على قضاءِ الله واجبٌ، وأما الصَّبرُ على ظُلم الظَّالمِ، فغيرُ واجبٍ، بل الواجبُ إزالتهُ لا سيِّما في الضَّرر العائدِ إ لى الغير، وههنا أنَّ إخوة يوسف قد ظهر كذبهم، وخيانتهم، فلم صبر يعقوب على ذلك ؟ ولِمَ لَمْ يبالغ في التَّفتيش، ولا البحث عنه، ولا السّعي في تخيص يوسف من البليّة، والشِّدَّة إن كان حيًّا، وفي إقامة القصاص إن صحَّ أنهم قتلوه فثبت أنَّ الصَّبرَ في هذا المقام مذموم ".
ويُقوِّي هذا السُّؤال أنَّه عليه الصلاة والسلام كان عالماً بأنه حي ؛ لأنَّهُ قال له :﴿ وكذلك يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ ﴾ [ يوسف : ٦ ]. الظَّاهر أنه إنَّما قال هذا الكلام من الوحي، وإذا كان عالماً بأنَّه حيٌّ سليم ؛ فكان من الواجب أن يسعى في طلبه.
وأيضاً : فإنَّ يعقوب عليه الصلاة والسلام كان رجلاً عظيم القدر في نفسه، وكان من بيتٍ عظيم شريفٍ، وأهلُ العالم كانوا يعرفونه، ويعتقدون تعظيمه، فلو بالغ في البحث، والطلب لظهر ذلك، واشتهر، ولزال وجهُ التَّلبيسِ، فما السَّبب في أنه عليه الصلاة والسلام مع شدَّة رغبته في حضورِ يوسف، ونهاية حبِّه له لم يطلبه مع أنَّ طلبه كان من الواجبات ؛ فثبت أنَّ هذا الصَّبر مذمومٌ عقلاً وشرعاً.
فالجواب أن نقول : إن الله سبحانه وتعالى منعه من الطَّلب تشديداً للمحنة عليه، وتغليطاً للأمر عليه، وأيضاً : لعلَّهُ عرف بقرائن الأحوال أنَّ أولاده أقوياء، وأنَّهم لا يمكنونه من الطَّلب، والفحص، وأنَّه لو بالغ في البحثِ فربما أقدموا على إيذائه، وأيضاً : لعلَّهن عليه الصلاة والسلام علم أنَّ الله ت تبارك وتعالى سيصون يوسف عليه الصلاة والسلام عن البلاءِ والمحنةِ، وأن أمرهُ سيظهرُ بالآخرةِ ولم يرد هتْك ستر أولاده، وإلقائهم
قوله تعالى: ﴿وَجَاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُواْ وَارِدَهُمْ﴾ [الآية: ١٩] واعلم أنه تعالى بيَّن
46
كيف السَّبيلُ في خلاصِ يوسف من تلك المحنةِ فقال: ﴿وَجَاءَتْ سَيَّارَةٌ﴾. قال ابنُ عبَّاس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما: أي قوم يسيرون من مدْين إلى مِصْرَ فأخطئوا الطريق، وانطلقوا يهيمون على غير طريق، فهبطوا على أرضٍ فيها جُبُّ يوسف، وكان الجبُّ في قَفْرٍ بعيدٍ من العمرانِ لم يكن إلاّ للرُّعاةِ. وقيل: كان ماؤه مِلْحاً، فعذُبَ حين ألقي يوسفُ فيه، وأرسلوا واردهم الذي يردُ الماء ليستقي للقوم قال القُرطبيُّ: «فأرسَلُواْ وَارِدهُمْ» ذكَّر على المعنى، ولو قال: فأرسلت واردها؛ لكان على لفظ «وجَاءَتْ». والوَارِدُ: هو الذي يتقدَّمُ الرُّفقة إلى الماءِ فيهىء الأرْشيةَ، والدَّلاء، وكان يقال له: مالكُ بنُ دعر الخُزاعِيُّ «.
قوله: ﴿فأدلى دَلْوَهُ﴾ يقال: أدلَى دلوهُ، أي: أرسلها في البِئْرِ، ودلاَّها إذا أخرجها ملأى؛ قال الشاعر: [الرجز]
٣٠٧٠ - لا تَقْلُواهَا وادْلُواهَا دَلْوَا إنَّ مَعَ اليَومِ أخاهُ غَدْوَا
يقال: أدْلَى يُدْلِي إدْلاءً: إذا أرسل، وَدلاَ يَدلُوا دَلْواً: إذا أخرج وجذبَ، والدَّلوُ معروفةٌ، وهي مؤنثةٌن فتصغَّرُ على»
دُليَّةِ «، وتجمع على دلاءٍ، أدلٍ والأصلُ: دِلاوٌ، فقلبت الواو همزة، نحو» كِسَاء «، و» أدلوٌ «، فأعلَّ إلال قاضٍ و» دُلُوو «بواوين، فقلبا ياءين، نحو» عِصِيّ «.
قوله:»
يَابُشْرَايَ: ههنا محذوف، تقديره: فأظهروا يوسف، قرأ الكوفيون بحذف ياء الإضافة، وأمال ألف «فُعْلَى» الأخوانِ وأمالها ورشٌ بين بين على أصله، وعن أبي عمرو الوجهان، ولكن الأشر عنه عدمُ الإمالةِ، وليس ذلك من أصله عن ما قُرِّر في علم القراءاتِ، وقرأ الباقون «يَا بُشْرَاي» مضافة إلى ياء المتكلِّم.

فصل


في قوله: «يابشراي» قولان:
الأول: أنَّها كلمةٌ تذكَّر عند البشارةِ، كقولهم: يا عجبا من كذا، وقوله: ﴿ياأسفا عَلَى يُوسُفَ﴾ [يوسف: ٨٤] وعلى هذا القول ففي تفسير النِّداء وجهان:
47
الأول: قال الزجاج «معنى النِّداء في هذه الأشياء: تنبيه المخاطلبين، وتوكيد القصَّة، فإذا قلت: يا عجباهُ، فكأنك قلت: أعْجَبُوا.
الثاني: قال أبو عليٍّ:»
كأنه يقول: يا أيتها البشرى هذا الوقت وقت، ولو كنت ممَّن يخاطب لخوطبت، ولأمرت بالحضورِ «.
واعلم أنَّ سبب البشارةِ: أنهم وجدوا غلاماً في غاية الحسن فقالوا: نَبيعهُ بثَمنٍ عظيم، ويصيرُ ذلك سبباً للغناءِ.
والقول الثاني: قال السديّ: الذي نادى كان اسمُ صاحبهِ بُشْرَى فناداه فقال: يا بُشْرَاي، كما تقول:»
يَا زْيْدُ «.
وعن الأعمش أنه قال: دعا امْرأةً امسها بُشْرَى.
قال أبو علي الفارسيُّ إن جعلنا البشرى اسماً للبشارة، وهو الوجه؛ جاز أن يكون في محلّ الرفع، كما قيل:»
يَا رجُلُ «لاختصاصه بالنِّداء، وجاز أن يكون موضع نصب على تقدير: أنه جعل هذا النِّداء شائعاً في جنس البشرى، ولم يخص كما تقول: يا رجُلاً،
و ﴿ياحسرة
عَلَى العباد﴾
[يس: ٣٠].
وقرأ ورش عن نافع: «يَا بُشْرَايْ»
بسكون الياء، وهو جمع بين ساكنين على غير حدِّه في الوصل، وهذا كما تقدم في ﴿عَصَايَ﴾ [طه: ١٨] وقال الزمخشري: «وليس بالوجهِ، لما فيه من التقاءِ السَّاكنين على غير حدِّه إلاَّ أن يقصد الوقف».
وقرأ الجحدريُّ، وابن أبي إسحاق، والحسن: «يَا بُشْرَيَّ» بقلب الألف ياءً وإغامها في ياء الإضافة، وهي لغة هُذليَّةٌ، تقدم الكلام عليها في البقرة عند قوله: ﴿فَمَن تَبِعَ هُدَايَ﴾ [البقرة: ٣٨].
وقال الزمخشري: «وفي قراءة الحسن:» يَا بُشْرَيَّ «بالياء مكان الألف جعلت الياءُ بمنزلة الكسرة قبل ياء الإضافة، وهي لغةٌ للعرب مشهورةٌ، سمعت أهل السروات في دعائهم يقولون: يا سيِّديَّ، وموليَّ».
48
قوله: «وأسَرُّوهُ» الظَّاهرُ أن الضمير المرفوع يعود على السَّيَّارة، وقيل: هو ضمير إخوته، فعلى الأول: أن الوارد، وأصحابه أخفوا من الرفقةِ أنهم وجدوهُ في الجبّ، وقالواك إن قلنا للسَّيَّارة التقطناه شاركونا، وإن قلنا: اشتريناه سألونها الشّركة، فلا يضرُّ أن نقول: إنَّ أهل الماءِ جعلوه بضاعة عندنا على أن نبيعه بمصر.
وعلى الثاني: نقل ابنُ عبَّاسٍ: رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما «وأسَرُّوهُ» يعني إخوة يوسف أخفوا كونه أخاهم، بل قالوا: إنَّهُ عبدٌ لنا أبقَ منا، ووافقهم يوسف على ذلك؛ لأنهم توعَّدوهُ بالقتلِ بلسانِ العِبرانيَّةِ.
و (بضاعَةً) نصب على الحال. قال الزَّجَّاج كأنه قال: «وأَسرّوه حال ما جعلُوه بضاعةً»، وقيل: مفعول ثانٍ على إن يُضَمَّن «أَسَرُّوهُ» معنى صَيَّروه بالسِّرِّ.
والبضاعة: هي قطعةٌ من المالِ تعدُّ للتَّجارة من بضعت، أي: قطعت ومنه: المبضعُ لما يقطع به.
ثم قال: ﴿والله عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ﴾ والمعنى: أنَّ يوسف لما رأى الكواكبَ والشمس، والقمر في النَّوم سجدتْ له، وذكر ذلك؛ حسده إخوته، فاحتالُوا في إبطال ذلك الأمر عليه، فأوقعوه في البلاءِ الشَّديد، حتى لا يتم له ذلك المقصود؛ فجعل الله تعالى وقوعه في ذلك البلاءٍ سبباً لوصوله إلى «مِصْرَ»، ثمَّ تتابع الأمرُ إلى أن صار ملك مصر، وحصل ذلك الذي رآه في النَّوم، فكان العملُ الذي عمله إخوته دفعاً لذلك المطلوب، صيَّره الله سبباً لحصولِ ذلك المطلوب، ولهذا المعنى قال: ﴿والله عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ﴾.
قوله: ﴿وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ﴾ شَرَى بمعنى اشترى، قال الشاعر: [الطويل]
٣٠٧١ - ولَوْ أنَّ هَذَا المَوْتَ يَقبَلُ فِذْيةً شَرَيْتُ أبَا زيْدٍ بمَا مَلكتْ يَدِي
وبمعنى: باع؛ قال الشاعر: [مجزوء الكامل]
٣٠٧٢ - وشَريْتُ بُرْداً ليْتَنِي مِنْ بعْدِ بُردٍ كُنْتُ هَامَهْ
فإن قلنا: المراد من الشِّراء نفس الشراءِ، فالمعنى: أنَّ القوم اشتروه، وكانوا فيه من الزَّاهدينَ؛ لأنهم علموا بقرائن الأحوال أنَّ إخوة يوسف كذبُوا في قولهم: إنَّهُ عبدُ لنا، وأيضاً عرفوا أنَّه ولدُ يعقوب، فكرهوا أيضاً شراءه؛ خوفاً من الله تعالى من ظهور تلك الواقعة، إلاَّ أنَّهُم مع ذلك اشتروه بالآخة؛ لأنُّهُم اشتروه بمثنٍ بخسٍ، وطمعوا
49
في بيعه بثمن عظيمٍ، ويحتملُ أن يقال: إنهم اشتروه مع أنهم أظهرُوا من أنفسهم كونهم فيه من الزَّاهدين، وغرضهم أن يتوصَّلُوا بذلك إلى تقلل الثَّمن، ويحتمل أن يقال: إنَّ الإخوة لما قالوا: إنه عبدٌ أبق منا صار المشتري عديم الرغبة فيه.
قال مجاهدُ رَحِمَهُ اللَّهُ كانوا يقولون: لئلا يأبق.
وإن قلنا: إنَّ المراد من الشِّراء البيع ففي ذلك البائع قولان:
الأول: قال ابنُ عبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما إنَّ إخوة يوسف لمَّا طرحوه في الجبّ، ورجعوا عادوا بعد ثلاثٍ يتعرَّفُونَ خبره، فلمَّا لم يروه في الجبّ، ورأوا آثار السَّيارة طلبوهم، فلمَّا رأوا يوسف قالوا:: هذا عبدٌ لنا أبق منا فقالوا لهم: فبيعوه منَّا، فباعوه منهم، وإنَّما وجب حملُ الشِّراء على البيع؛ لأن الضمير في قوله: «وشَرَوْهُ» وفي قوله: ﴿وَكَانُواْ فِيهِ مِنَ الزاهدين﴾ عائدٌ إلى شيءٍ واحدٍ، وإذا كان كذلك فهم باعوه؛ فوجب حملُ الشراء على البيع.
والثاني: أن بائع يوسف هم الَّذين اسْتَخْرجُوه من الجُبّ.
وقال محمد بن إسحاق: وربُّك أعلمُ أإخوته باعوه، أم السيارة؟.
والبَخْسق: النَّاقصُ، وهو في الأصل مصدرٌ، وصف به مبالغة.
وقيل: هو بمعنى مفعولٍ، و «دَراهِمَ» بدلٌ من «بِثَمَنٍ»، و «فِيهِ» متعلق بما بعده، واغتفر ذلك للاتِّساعِ في الظروف، والجار، أو بمحذوف وتقدم [البقرة: ١٣٠] مثله.

فصل


اعلم أنه تعالى وصف ذلك الثمن بصفات ثلاثٍ:
إحداها: كونه بخساً، قال ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما: يريدُ حراماً؛ لأنَّ ثمن الحُرَّ حرامٌ، وقال: وكلٌّ بخس في كتابِ اللهِ نقصان إلاَّ هذا فإنهُ حرامٌ.
قال الواحدي: «سمي الحرامُ بخساً؛ لأن ناقصُ البركة».
وقال قتادة: بخس: ظلم، والظُّلمُ نقصان، يقال: ظلمهُ، أي: نقصهُ وقال عكرمةُ والشعبيُّك قليل. وقيل: ناقص عن القيمة نقصاناً ظاهراً وقيل: كانت الدَّراهمُ زيوفاً ناقصة العيارِ.
50
قال الواحديُّ: وعلى الأقوال كُلِّها، فالبخسُ مصدرٌ وقع موصع الاسمِ، والمعنى: بثمنٍ مبخُوسٍ.
وثانيها: قوله: ﴿دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ﴾ قيل: تعدُّ عدًّا، ولا توزن إلا أنهم كانوا يزنون إذا بلغ الأوقية، وهي أربعون ويعدُّون ما دونها. فقيل للقليل معدودٌ، لأن الكثير لا يعدُّ لكثرته، بل يوزن قال ابن عباسٍ، وابنُ مسعود، وقتادةٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم: كانت عشرين درهماً، فاقتسموها درهمين درهمين إلا يهوذا، فإنَّه لم يأخذ شيئاً.
الثالث: أن الذين اشتروه كانوا فيه مِنَ الزَّاهدين، وقد سبق توجيه هذه الأقوال.
وقال مجاهدٌ والسديُّ: اثنين وعشرين درهماً.
فإن قيل: إنَّهم لما ألقوه في الجبِّ حسداًن فأرادوا تضييعه عن أبييه، فلمَ باعوه؟.
فالجواب: أنَّهم لعلَّهم خافوا أن تذكر السيارة أمره، فيردوه إلى أبيه، لأنَّه كان أقرب إليهم من مصر.
فإن قيل: هب أنَّهم أرادوا ببيعه أيضاً تبعيده عن أبيه؛ فلمَ أحلَّ له أخذ ثمنه «.
فالجواب: أن الذي اشترى يوسف كان كافراً، وأخذُ مالِ الكافرِ حلالٌ.
وثالثها: قوله: ﴿وَكَانُواْ فِيهِ مِنَ الزاهدين﴾ ومعنى الزُّهد: قلَّة الرغبة، يقال زهد فلان في كذا إذا لم يرغب فيه، وأصله من القلَّة، يقال: رجلٌ زهيدٌ، إذا كان قليل الجِدةِ، وفيه وجوه:
الأول: أنَّ إخوة يوسف عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ باعوه؛ لأنهم كانوا فيه من الزَّاهدينَ
الثاني: أنَّ السيَّارة كانُوا فيه من الزَّاهدين؛ لأنَّهم التَقطُوهُ، والملتَقِطُ يتهاونُ، ولا يباللاي بأي شيءٍ يباعُ، أو لأنَّهُم خافوا أن يظهر المستحق، فينزعه من يدهم، فلا جرم باعوه بالأوكس من الأثمان.
والضمير في قوله:»
فِيهِ «يحتمل أن يعود إلى يوسف، ويحتمل أن يعود إلى الثَّمن البَخْسِ.

فصل


قال القرطبيُّ:»
في الآية دليلٌ على شراءِ الشَّيء الخطيرِ بالثَّمنِ اليسير، ويكونُ البيع لازماً «.
51
قوله: ﴿وَقَالَ الذي اشتراه﴾ [الآية: ٢١] اعلم أنَّه ثبت أنَّ الذي اشتراه [إما] من الإخوة، وما من الواردين على الماء ذهب به إلى مصر وباعه.
قيل: إن الذي اشتراه هو العزيزُ، كان اسمه» قطفير «، وقيل: إطْفيرُ الذي يلي خزائن مصر، والملك يومئذ: الرَّيَّان بنُ الوليدِ، رجل من العماليق، وقد آمن بيوسف، ومات في حياةِ يوسف عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ قال ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما: لما دخلوا مِصْر تلقَى العزيز مالك بن دعرٍ فابتاع منه يوسف، وهو ابنُ سبع عشرة سنة، [وأقام في منزله ثلاث عشرة سنة، وقيل: سبْع عشرة سَنَة]، واستوزره الرَّيان، وهو ابن ثلاثين سنة، وآتاه اللهُ العِلم، والحُكم، وهو ابن ثلاث وثلاثين سنة، وتوفي، وهو ابنُ مائة وعشرين سنة.
وقال الذي اشتراهُ من مصر لا مرأته قيل: كان اسمها زليخا وقيل:»
راعيلُ «. قال ابن كثير:» الظّاهرُ أنَّ زليخا لقبها «.
قوله:»
مِنْ مِصرَ «يجوز فيه أوجه:
أحدها: أن يتعلَّق بنفس الفعل قبله، أي: اشتراه من مصر، كقوله: اشْتَريْتُ الثَّوب من بغداد، فهي لابتداء الغايةِ، وقول أبي البقاءِ: أي:»
فيها، أو بها «لا حاجة إليه.
والثاني: أنه حالٌ من الضمير المرفوع في:»
اشْتراهُ «فيتعلق بمحذوفٍ أيضاً.
وفي هذين نظرٌ؛ إذ لا طائل في هذا المعنى.
و»
لامْرَأتهِ «متعلقٌ ت ب» قَالَ «فهي للتبليغ، وليست متعلقة ب» اشْتراهُ «.
قوله: «أكْرمِي مَثوَاهُ»
، أي: منزله، ومقامه عندك، من قولك: ثويتُ بالمكان، إذا أقمت فيه، ومصدره الثَّواء، والمعنى: اجعلي منزلته عندك كريماً حسناً مرضيًّا، بدليل قوله تعالى: ﴿إِنَّهُ ربي أَحْسَنَ مَثْوَايَ﴾ [يوسف: ٢٣] قال المحققون: أمر العزيز امرأته بإكرام مثواهُ دون إكرام نفسه، يدلُّ على أنه كان ينظرُ إليه على سبيل الإجلال، والتعظيم.
﴿عسى أَن يَنفَعَنَآ﴾ أي: نبيعه بالرِّبح إذا أردنا بيعه، أو يكفينا إذا بلغ بعض أمورنا ﴿أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً﴾ نَتبنَّاهُ.
قال ابن مسعودٍ: «أفرْسُ النَّاس ثلاثة: العزيزُ في يوسف حيثُ قال لامرأته: ﴿أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عسى أَن يَنفَعَنَآ﴾ [يوسف: ٢١] وابنة شعيب حين قالت لأبيها في موسى: ﴿استأجره إِنَّ خَيْرَ مَنِ استأجرت القوي الأمين﴾ [القصص: ٢٦]، وأبو بكر في عمر حين استخلفه».
52
قوله: ﴿وكذلك مَكَّنَّا لِيُوسُفَ﴾ الكاف كما تقدم في نظائره حالٌ من ضمير المصدر، أو نعتٌ له، أي: ومثل ذلك الإنجاء من الجبّ والعطف مكَّنا له، أي: كما أنجيناه، وعطفنا عليه العزيز مكَّنا له في أرض مصر، أي: صار متمكناً من الأمرِ والنهي في أرض مصر، وجلعناه على خزائنها.
قوله: ﴿وَلِنُعَلِّمَهُ مِن تَأْوِيلِ الأحاديث﴾ وهي تعبير الرُّؤيا. واللام في «ولنُعَلِّمُه» فيها أوجه:
أحدها: أن تتعلقَّق بمحذوف قبله، أي: وفعلنا ذلك لنعلمه.
والثاني: أنها تتعلَّق بما بعده، أي: ولنعلمه، فعلنا كيت، وكيت.
[الثالث: أن يتعلَّق ب «مَكَّنَّا» على زيادة الواو].
قوله: ﴿والله غَالِبٌ على أَمْرِهِ﴾ الهاء في «أمْرهِ» يجوز أن تعود على الجلالةِ أي: أنه تعالى: ﴿فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ﴾ [البروج: ١٦] لا يغلبه شيءٌ، ولا يردُّ حكمهُ رادٌّ، لا دافع لقضائه، ولا مانع من حكمه في أرضه، وسمائه. ويجوز أن تعود على يوسف، أي: أنه يدبره، ولا يكله إلى غيره، فقد كادوه إخوته، فلم يضروه بشيء ﴿ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَعْلَمُونَ﴾ أنَّ الأمر كله بيد الله.
53
قوله :﴿ وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ ﴾ شَرَى بمعنى اشترى، قال الشاعر :[ الطويل ]
٣٠٧١ ولَوْ أنَّ هَذَا المَوْتَ يَقبَلُ فِذْيةً شَرَيْتُ أبَا زيْدٍ بمَا مَلكتْ يَدِي
وبمعنى : باع ؛ قال الشاعر :[ مجزوء الكامل ]
٣٠٧٢ وشَريْتُ بُرْداً ليْتَنِي مِنْ بعْدِ بُردٍ كُنْتُ هَامَهْ
فإن قلنا : المراد من الشِّراء نفس الشراءِ، فالمعنى : أنَّ القوم اشتروه، وكانوا فيه من الزَّاهدينَ ؛ لأنهم علموا بقرائن الأحوال أنَّ إخوة يوسف كذبُوا في قولهم : إنَّهُ عبدُ لنا، وأيضاً عرفوا أنَّه ولدُ يعقوب، فكرهوا أيضاً شراءه ؛ خوفاً من الله تعالى من ظهور تلك الواقعة، إلاَّ أنَّهُم مع ذلك اشتروه بالآخة ؛ لأنُّهُم اشتروه بمثنٍ بخسٍ، وطمعوا في بيعه بمثن عظيمٍ، ويحتملُ أن يقال : إنهم اشتروه مع أنهم أظهرُوا من أنفسهم كونهم فيه من الزَّاهدين، وغرضهم أن يتوصَّلُوا بذلك إلى تقلل الثَّمن، ويحتمل أن يقال : إنَّ الإخوة لما قالوا : إنه عبدٌ أبق منا صار المشتري عديم الرغبة فيه.
قال مجاهدُ رحمه الله كانوا يقولون : لئلا يأبق.
وإن قلنا : إنَّ المراد من الشِّراء البيع ففي ذلك البائع قولان :
الأول : قال ابنُ عبَّاسٍ رضي الله عنهما إنَّ إخوة يوسف لمَّا طرحوه في الجبّ، ورجعوا عادوا بعد ثلاثٍ يتعرَّفُونَ خبره، فلمَّا لم يروه في الجبّ، ورأوا آثار السَّيارة طلبوهم، فلمَّا رأوا يوسف قالوا :: هذا عبدٌ لنا أبق منا فقالوا لهم : فبيعوه منَّا، فباعوه منهم، وإنَّما وجب حملُ الشِّراء على البيع ؛ لأن الضمير في قوله :" وشَرَوْهُ " وفي قوله :﴿ وَكَانُواْ فِيهِ مِنَ الزاهدين ﴾ عائدٌ إلى شيءٍ واحدٍ، وإذا كان كذلك فهم باعوه ؛ فوجب حملُ الشراء على البيع.
والثاني : أن بائع يوسف هم الَّذين اسْتَخْرجُوه من الجُبّ.
وقال محمد بن إسحاق : وربُّك أعلمُ أإخوته باعوه، أم السيارة ؟.
والبَخْسق : النَّاقصُ، وهو في الأصل مصدرٌ، وصف به مبالغة.
وقيل : هو بمعنى مفعولٍ، و " دَراهِمَ " بدلٌ من " بِثَمَنٍ "، و " فِيهِ " متعلق بما بعده، واغتفر ذلك للاتِّساعِ في الظروف، والجار، أو بمحذوف وتقدم [ البقرة : ١٣٠ ] مثله.

فصل


اعلم أنه تعالى وصف ذلك الثمن بصفات ثلاثٍ :
إحداها : كونه بخساً، قال ابن عباس رضي الله عنهما : يريدُ حراماً ؛ لأنَّ ثمن الحُرَّ حرامٌ، وقال : وكلٌّ بخس في كتابِ اللهِ نقصان إلاَّ هذا فإنهُ حرامٌ.
قال الواحدي :" سمي الحرامُ بخساً ؛ لأن ناقصُ البركة ".
وقال قتادة : بخس : ظلم، والظُّلمُ نقصان، يقال : ظلمهُ، أي : نقصهُ وقال عكرمةُ والشعبيُّك قليل. وقيل : ناقص عن القيمة نقصاناً ظاهراً وقيل : كانت الدَّراهمُ زيوفاً ناقصة العيارِ.
قال الواحديُّ : وعلى الأقوال كُلِّها، فالبخسُ مصدرٌ وقع موصع الاسمِ، والمعنى : بثمنٍ مبخُوسٍ.
وثانيها : قوله :﴿ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ ﴾ قيل : تعدُّ عدًّا، ولا توزن إلا أنهم كانوا يزنون إذا بلغ الأوقية، وهي أربعون ويعدُّون ما دونها. فقيل للقليل معدودٌ، لأن الكثير لا يعدُّ لكثرته، بل يوزن قال ابن عباسٍ، وابنُ مسعود، وقتادةٌ رضي الله عنهم : كانت عشرين درهماً، فاقتسموها درهمين درهمين إلا يهوذا، فإنَّه لم يأخذ شيئاً.
الثالث : أن الذين اشتروه كانوا فيه مِنَ الزَّاهدين، وقد سبق توجيه هذه الأقوال.
وقال مجاهدٌ والسديُّ : اثنين وعشرين درهماً.
فإن قيل : إنَّهم لما ألقوه في الجبِّ حسداًن فأرادوا تضييعه عن أبييه، فلمَ باعوه ؟.
فالجواب : أنَّهم لعلَّهم خافوا أن تذكر السيارة أمره، فيردوه إلى أبيه، لأنَّه كان أقرب إليهم من مصر.
فإن قيل : هب أنَّهم أرادوا ببيعه أيضاً تبعيده عن أبيه ؛ فلمَ أحلَّ له أخذ ثمنه ".
فالجواب : أن الذي اشترى يوسف كان كافراً، وأخذُ مالِ الكافرِ حلالٌ.
وثالثها : قوله :﴿ وَكَانُواْ فِيهِ مِنَ الزاهدين ﴾ ومعنى الزُّهد : قلَّة الرغبة، يقال زهد فلان في كذا إذا لم يرغب فيه، وأصله من القلَّة، يقال : رجلٌ زهيدٌ، إذا كان قليل الجِدةِ، وفيه وجوه :
الأول : أنَّ إخوة يوسف عليه الصلاة والسلام باعوه ؛ لأنهم كانوا فيه من الزَّاهدينَ
الثاني : أنَّ السيَّارة كانُوا فيه من الزَّاهدين ؛ لأنَّهم التَقطُوهُ، والملتَقِطُ يتهاونُ، ولا يباللاي بأي شيءٍ يباعُ، أو لأنَّهُم خافوا أن يظهر المستحق، فينزعه من يدهم، فلا جرم باعوه بالأوكس من الأثمان.
والضمير في قوله :" فِيهِ " يحتمل أن يعود إلى يوسف، ويحتمل أن يعود إلى الثَّمن البَخْسِ.

فصل


قال القرطبيُّ :" في الآية دليلٌ على شراءِ الشَّيء الخطيرِ بالثَّمنِ اليسير، ويكونُ البيع لازماً ".
قوله :﴿ وَقَالَ الذي اشتراه ﴾ [ الآية : ٢١ ] اعلم أنَّه ثبت أنَّ الذي اشتراه [ إما ] من الإخوة، وما من الواردين على الماء ذهب به إلى مصر وباعه.
قيل : إن الذي اشتراه هو العزيزُ، كان اسمه " قطفير "، وقيل : إطْفيرُ الذي يلي خزائن مصر، والملك يومئذ : الرَّيَّان بنُ الوليدِ، رجل من العماليق، وقد آمن بيوسف، ومات في حياةِ يوسف عليه الصلاة والسلام قال ابن عباس رضي الله عنهما : لما دخلوا مِصْر تلقَى العزيز مالك بن دعرٍ فابتاع منه يوسف، وهو ابنُ سبع عشرة سنة، [ وأقام في منزله ثلاث عشرة سنة، وقيل : سبْع عشرة سَنَة ]، واستوزره الرَّيان، وهو ابن ثلاثين سنة، وآتاه اللهُ العِلم، والحُكم، وهو ابن ثلاث وثلاثين سنة، وتوفي، وهو ابنُ مائة وعشرين سنة.
وقال الذي اشتراهُ من مصر لا مرأته قيل : كان اسمها زليخا وقيل :" راعيلُ ". قال ابن كثير :" الظّاهرُ أنَّ زليخا لقبها ".
قوله :" مِنْ مِصرَ " يجوز فيه أوجه :
أحدها : أن يتعلَّق بنفس الفعل قبله، أي : اشتراه من مصر، كقوله : اشْتَريْتُ الثَّوب من بغداد، فهي لابتداء الغايةِ، وقول أبي البقاءِ : أي :" فيها، أو بها " لا حاجة إليه.
والثاني : أنه حالٌ من الضمير المرفوع في :" اشْتراهُ " فيتعلق بمحذوفٍ أيضاً.
وفي هذين نظرٌ ؛ إذ لا طائل في هذا المعنى.
و " لامْرَأتهِ " متعلقٌ ت ب " قَالَ " فهي للتبليغ، وليست متعلقة ب " اشْتراهُ ".
قوله :" أكْرمِي مَثوَاهُ "، أي : منزله، ومقامه عندك، من قولك : ثويتُ بالمكان، إذا أقمت فيه، ومصدره الثَّواء، والمعنى : اجعلي منزلته عندك كريماً حسناً مرضيًّا، بدليل قوله تعالى :﴿ إِنَّهُ ربي أَحْسَنَ مَثْوَايَ ﴾ [ يوسف : ٢٣ ] قال المحققون : أمر العزيز امرأته بإكرام مثواهُ دون إكرام نفسه، يدلُّ على أنه كان ينظرُ إليه على سبيل الإجلال، والتعظيم.
﴿ عسى أَن يَنفَعَنَآ ﴾ أي : نبيعه بالرِّبح إذا أردنا بيعه، أو يكفينا إذا بلغ بعض أمورنا ﴿ أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً ﴾ نَتبنَّاهُ.
قال ابن مسعودٍ :" أفرْسُ النَّاس ثلاثة : العزيزُ في يوسف حيثُ قال لامرأته :﴿ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عسى أَن يَنفَعَنَآ ﴾ [ يوسف : ٢١ ] وابنة شعيب حين قالت لأبيها في موسى :﴿ استأجره إِنَّ خَيْرَ مَنِ استأجرت القوي الأمين ﴾ [ القصص : ٢٦ ]، وأبو بكر في عمر حين استخلفه ".
قوله :﴿ وكذلك مَكَّنَّا لِيُوسُفَ ﴾ الكاف كما تقدم في نظائره حالٌ من ضمير المصدر، أو نعتٌ له، أي : ومثل ذلك الإنجاء من الجبّ والعطف مكَّنا له، أي : كما أنجيناه، وعطفنا عليه العزيز مكَّنا له في أرض مصر، أي : صار متمكناً من الأمرِ والنهي في أرض مصر، وجلعناه على خزائنها.
قوله :﴿ وَلِنُعَلِّمَهُ مِن تَأْوِيلِ الأحاديث ﴾ وهي تعبير الرُّؤيا. واللام في " ولنُعَلِّمُه " فيها أوجه :
أحدها : أن تتعلقَّق بمحذوف قبله، أي : وفعلنا ذلك لنعلمه.
والثاني : أنها تتعلَّق بما بعده، أي : ولنعلمه، فعلنا كيت، وكيت.
[ الثالث : أن يتعلَّق ب " مَكَّنَّا " على زيادة الواو ].
قوله :﴿ والله غَالِبٌ على أَمْرِهِ ﴾ الهاء في " أمْرهِ " يجوز أن تعود على الجلالةِ أي : أنه تعالى :﴿ فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ ﴾ [ البروج : ١٦ ] لا يغلبه شيءٌ، ولا يردُّ حكمهُ رادٌّ، لا دافع لقضائه، ولا مانع من حكمه في أرضه، وسمائه. ويجوز أن تعود على يوسف، أي : أنه يدبره، ولا يكله إلى غيره، فقد كادوه إخوته، فلم يضروه بشيء ﴿ ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَعْلَمُونَ ﴾ أنَّ الأمر كله بيد الله.
قوله تعالى: ﴿وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ﴾ الآية لما بيَّن تعالى أن إخوته لمَّا أساءوا إليه ثمَّ صبر على تلك الإساءة، والشَّدائد مكَّنهُ اللهُ في الأرض، ثم لما بلغ أشدهُ آتاه اللهُ الحكم، والعلم، والمقصود أن جميع ما قام به من النِّعمِ كان جزاء على صبره.
قوله: «أشدَّهُ» فيه ثلاثة أقوال:
أحدها: وهو قولُ سيبويه: أنَّهُ جمع مفرده شدَّة، نحو نعمة وأنعم.
الثاني: قول الكسائي أنَّ «أشدّه» مفردة: «شدَّ» بزنة «فعل» نحو: «صَكَّ»، وأصكَّ «ويؤيدهُ قول الشاعر: [الكامل]
٣٠٧٣ - عَهْدِي بِهَا شدَّ النَّهارُ كأنَّما خُضِبَ البَنَانُ ورَأسهُ بالعِظْلِم
والثالث: أنه جمعٌ لا واحد له من لفظه، قاله أبو عبيدة، وخالفه الناس في ذلكن وقد سمع»
شدَّه وشُدَّ «وهما صالحانِ له، وهو من الشدِّ، وهو الرَّبطُ على الشيء، والعقد عليه.
53
قال الراغب: وقوله تعالى: ﴿حتى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ﴾ [الأحقاف: ١٥] فيه تنبيهٌ على أنَّ الإنسان، إذا بلغ هذا القرار استوى خلقه الذي هو عليه، فلا يكادُ يزايله، ما أحسن ما [نبه له] الشاعر حين قال: [الطويل]
٣٠٧٤ - إذَا المَرْءُ وافَي الأرْبعينَ ولمْ يَكُنْ لَهُ دُونَ ما يَهْوَى حَياءُ ولا سِتْرُ
فَدعْهُ ولا تَنفِسْ عَليْهِ الَّذي مَضَى وإنْ جَرَّ أسَبابَ الحَياةِ لهُ العُمْرُ
والأّشدَّ: منتهى شبابه، وشدَّته، وقوَّته. قال مجاهدٌ عن ابن عبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما: ثلاثاً وثلاثين سنة. وقال السديُّ: ثلاثين سنة وقال الضحاكُ:» عشرين سنة «وقال الكلبيُّ: ما بين ثماني عشرة سنة إلى ثلاثين سنة.
وسئل مالكٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه عن الأشد قال: هو الحلم، وقد تقدَّم الكلامُ على الأشد في سورة الأنعام عند قوه: ﴿حتى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ﴾ [الأنعام: ١٥٢].
قوله: ﴿وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً﴾ فالحُكْمُ: النبوةُ، والعلمُ: التفقَهُ في الدِّين، وقيل: يعني: إصابة في القول، وعلماً [بتفاصيل] الرُّؤيا. وقيل: الفرقُ بين الحكيمِ والعالمِ: أن العالم هو الذي يعلم الأشياء، والحكيمُ: الذي يَحكمُ بما يوجبه العلمُ.
قوله:»
وكَذِلكَ «إمَّا نعتٌ لمصدرٍ محذوفٍ، أو حالٌ من ضمير المصدر، وتقدَّم نظائره.
﴿نَجْزِي المحسنين﴾ قال ابنُ عبًّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما: المؤمنين، وعنه أيضاً: المهتدين. وقال الضحاك: الصَّابرين على النَّوائب كما صبر يوسفُ.
54
قوله تعالى: ﴿وَرَاوَدَتْهُ التي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَن نَّفْسِهِ﴾ [الآية: ٢٣] أعلم أنَّ يوسف عليه الصلاةوالسلام كان في غاية الجمال، فملا رأته المرأةُ؛ طمعت فيه.
«وَرَاوَدتْهُ»، أي طالبته برفقٍ ولين قول، والمُاردودَةُ: المصدرُ، والرِّيادةُ: طلب النِّكاح، يقال: وَاوَدَ فلانٌ جاريته عن نفسها، وراودته عن نفسه، إذا حاول كُلُّ واحدٍ منها الوطء، ومشى رويداً، أي: برفقٍ في مِشْيتهِ، والرَّودُ: الرِّفقُ في الأمورِ، والتَّأنِّي فيها، وراودت المرأةُ في مشيها ترودُ رَوَدَاناً من ذلك.
والمِرْودةٌ هذه الآية منه، والإرادة منقوله من رَادَ يَرُودُ إذا سعى في طلب حاجة، وتقدَّم ذلك في البقرة: [٢٦].
وتعدى هنا ب «عَنْ» لأنه ضمن معنى خادعتهُ، أي: خادعته عن نفسه، والمفاعلة هنا من الواحدِ، نحو: داويت المريض، ويحتملُ أن تكون على بابها، فإنَّ كلاًّ منهما كان يطلبُ من صاحبه شيئاً برفق، هي تطلبُ منه الفعل، وهو يطلبُ منها التَّرْكَ.
والتشديدُ في «غَلّقتْ» للتكثير لتعدُّدِ المحالِّ، اي: أغلقت الأبواب وكانت سبعةً.
قال الواحدي: «وأصل هذا من قولهم في كلِّ فعل تشبث في شيء فلزمه قد غلق، يقال: غلق في الباطل، وغلق في غضبه، ومنه غلق الرهن ثم يعدى بالألف، فيقال: أغلق الباب إذا جعله بحيث يعسر فتحه، والسبب في تغليق الأبواب أنَّ [هذا الفعل] لا يُؤتى به إلاَّ في المواضع المستُورةِ لا سيَّما إذا كان حراماً، ومع الخوف الشديد».
قوله: «هَيْتَ لَكَ» اختلف أهلُ النَّحو في هذه اللفظة، هل هي عربيةٌ أم معربةٌ؟.
55
فقيل: معربةٌ من القبطيَّة بمعنى: هلمَّ لك، قاله السديُّ. وقيل: من السِّريانيَّة، قاله ابن عبَّاس، والحسن. وقيل: من العبرانية، وأصلها: هَيْتَلخَ أي: تعاله فعربه القرآن، قاله أبو زيدٍ الأنصاري. وقيل: هي لغة حورانيَّة وقعت [إلى أهل] الحجاز، فتكلموا بها، معناها: تعالى، قاله الكسائي والفراء، وهو منقولٌ عن عكرمة. والجمهور على أنَّها عربيةٌ.
قال مجاهدٌ: هي كلمةٌ حثِّ، وإقبال. ثمَّ هي في بعض اللغات تتعيَّن فعلتيها وفي بعضها اسميتها، وفي بعضها يجوز الأمران كما ستعرفه من القراءات المذكورة فيها.
فقرأ نافع، وابن ذكوان: «هِيْتَ» بكسر الهاءِ، وسكون الياءِ، وفتح التَّاء.
وقرأ ابن كثير «هَيْتَ» بفتح الهاء، وسكون الياء، وتاء مضمومة. وقرأ هشام «هِئْتُ» بكسر الهاء، وهمزة ساكنة، وتاء مفتوحة، أو مضمومة. وقرأ الباقون: «هَيْتَ» بفتح الهاء، وياء ساكنة، وتاء مفتوحة. فهذه خمسُ قراءاتٍ في السَّبعِ.
وقرأ ابن عباسٍ، وأبو الأسود، والحسنُ، وابن محيصن بفتح الهاء، وياء ساكنة وتاء مكسورة. وحكى النحاس: أنه قرىء بكسر الهاء والتاء بينهما ياء ساكنة.
وقرأ ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أيضاً: «هُيِيْتُ» بضمِّ الهاءٍ، وكسر الياء بعدها ياء ساكنة ثم تاء مضمومة بزنة «حُيِيْتُ».
وقرأ زيد بن علي، وابن إبي إسحاق: بكسر الهاء، وياء ساكنة، وتاء مضمومة، فهذه أربع قراءات في الشاذ، فصارت تسع قراءات.
وقرأ السلمي، وقتادة بكسر الهاء وضم التاء مهموزاً، يعنى تهيأت لك، انكره أبو عمرو، والكسائي، ولم يحك هذا عن العرب، فيتعين كونها اسم فعلٍ في غير قراءة ابن عبَّاس «هُيِيْتُ» بزنة، «حُيِيْتُ» وفي غير قراءة كسر الهاء سواء كمان ذلك بالياء، أم بالهمز، فمن فتح التاء بناها على الفتح تخفيفاً، نحنو: أين، وكيف، ومن ضمَّها كابن كثيرٍ شبهها ب «حَيْثُ»، ومن كسر فعلى أصل التقاء الساكنين ك: «جَيْر»، وفتح الهاء، وكسرها لغتان، ويتعيَّن فعليتها في قراءة ابن عبَّاس «هُيِيْتُ» بزنة: «حُيِيْتُ» فإنها فيها فعل ماض مبني للمفعول مسند لضمير المتكلِّم من «هَيَّاتُ الشَّيءَ».
56
ويحتمل الأمرين في قراءة من كسر الهاء، وضمَّ التاء، فتحتمل أن تكون فيه أسم فعل [بنيت على] الضم، ك «حَيْثُ»، وأن تكون فعلاً مسنداً لضمير المتكلم، من: هاء الرَّجل يَهيءُ، ك «جَاء يَجِيءُ»، وله حينئذ معنيان:
أحدهما: أن يكون بمعنى: حسنت هيئته.
والثاني: أن يكون بمعنى تَهَيَّأ، يقال: «هَيُئْتُ، أي: حَسُنَتْ هَيْئتي، أوْ تَهَيَّأتُ.
وجواز أبو البقاءِ: أن تكون»
هِئْتَ «هذه من:» هَاءَ يَهَاءُ «ك» شَاءَ يَشَاءُ «.
وقد طعن جماعةٌ على قراءة هشام الَّتي بالهمز، وفتح التَّاء، فقال الفارسي: يشبه أن يكون الهمز وفتح التاء وهماً من الراوي؛ لأنَّ الخطاب من المرأة ليوسف، ولم يتهيَّأ لها بدليل قوله:»
وَرَاودَتْهُ «، و» أنِّي لَمْ أخُنْهُ بالغَيْبِ «، وتابعه على ذلك جماعة. وقال مكي بنُ أبي طالب:» يجبُ أن يكون اللفظ «هِئْتَ لي» أي: تهَيَّأتْ لِي، ولم يقرأ بذلك أحدٌ، وأيضاً: فإنَّ المعنى على خلافه؛ لأنَّه [لم يزل] يفرُّ منها، وتباعد عنها، وهي تراوده، وتطلبه، وتقدُّ قميصهن فكيف تخبر أنه تهيأ لها؟ «.
وأجاب بعضهم عن هذين الإشكالين بأن المعنى: تهيأ لي أمرك لأنها لم تكن تقدر على الخلوة به في كل وقت، أو يكون المعنى: حَسُنَتْ هَيْأتُكَ. أو»
لَكَ «متعلق بمحذوف على سبيل البيانِ، كأنها قالت: القول لك، أو الخطاب لك، كهي في» سَقْياً لَكَ ورَعْياً لَكَ «.
قال شهابُ الدِّين:»
واللاَّم متعلقة بمحذوف على كلِّ قراءة إلاَّ قراءة ثبت فيها كونها فعلاً، فإنَّها حينئذ تتعلق بالفعل، إذ لا حاجة إلى تقدير شيء آخر «.
وقال أبو البقاءِ: «والأضبهُ أن تكون الهمزةُ بدلاً من الياءِ، أو تكون لغة في الكلمة التي هي اسم للفعل، وليست فعلاً، لأن ذلك يوجب أن يكون الخطاب ليوسف عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ»
. وهو فاسدٌ لوجهين:
أحدهما: أنَّهُ لم يَتهيَّأ لها، وإنَّما تَهيَّأت لهُ.
الثاني: أنه قال: «لَكَ، ولو أراد الخطاب لقال:» هِئْتَ لي «، وتقدم جوابه وقوله:» إنَّ الهمزة بدلٌ من الياء «. هذا عكس لغة العرب، إذ قد عهدناهم يبدلون الهمزة السَّاكنة ياء إذا انكسر ما قبلها، نحو:» بِير «و» ذِيب «ولا يقبلون الياء المكسور ما قبلها همزة، نحو: مِيل، ودِيك، وأيضاً: فإنَّ غيرهُ جعل الياء الصَّريحة مع كسر الهاء كقراءة نافع، وابن ذكوان محتملة؛ لأن تكون بدلاً من الهمزة، قالوا فيعودُ الكلامُ فيها، كالكلام في قراءة هشامٍ.
57
واعلم أنَّ القراءة التي استشكلها الفارسي هي المشهورةُ عن هشامٍ، وأمَّا ضمُّ التاء فغير مشهورٍ عنه.
ثمَّ إنَّهُ تعالى أخبر أنَّ المرأة لما ذكرت هذا الكلام، قال يوسف عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ ﴿مَعَاذَ الله إِنَّهُ ربي أَحْسَنَ مَثْوَايَ﴾ » مَعاذَ اللهِ «منصوب على المصدر بفعل محذوفٍ، أي: أعوذُ بالله معاذاً، يقالُ: عَاذَ يعُوذُ عِيَاذاً [وعِيَاذةً]، ومعاذاً، وعوْذاً؛ قال: [الطويل]
٣٠٧٥ - مَعاذَ الإلهِ أن تكُونَ كَظبْيةٍ ولا دُمْيةٍ ولا عَقِيلةِ ربْرَبِ
قوله»
إنَّهُ «يجوز أن تكون الهاء ضمير الشَّأن، ما بعده جملة خبرية له، ومراده بربه: سيِّده، ويحتمل أن تكون الهاء ضمير الباري تعالى، و» ربِّي «يحتمل أن يكون خبرها، و» أحسنَ «جملةٌ حاليةٌ لا زمةٌ، وأن تكون مبتدأ،» وأحْسنَ «جملة خبرية له، والجلمة خبر ل» أنَّ «وقرأ الجحدريُّ، وأبو الطفيل الغنوي» مَثْويَّ «بقلب الألف ياء، وإدغامها ك» بُشْرَيَّ «و» هُدَيَّ «.
و: ﴿إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ﴾ هذه الهاء ضمير الشأن ليس إلاَّ؛»
فعلى قولنا: إنَّ الضمير في قوله: ﴿إِنَّهُ ربي﴾ يعود إلى زوجها قطفير، أي: إنه ربِّي سيِّدي، ومالكي أحسن مثواي حين قال لها: ﴿أَحْسَنَ مَثْوَايَ﴾، فلا يليقُ بالعقل أن أجازيه على ذلك الإحسان بهذه الخيانة القبيحة وقيل: إنها راجعةٌ إلى الله تبارك وتعالى أي: أنَّ الله ربي أحسن مثواي، أي: تولاَّنِي، ومن بلاء الجبّ عافاني: ﴿إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظالمون﴾ يعني: إن فعلتْ هذا فخنته في أهله بعدما أكرم مثواي، فأنا ظالمٌ، ولا يفلحُ الظالمُونَ.
وقيل: أراد الزناةح لانهم ظالمون لأنفسهم؛ لأنَّ عملهم يقتضي وضع الشيء في غير موضعه.

فصل


ذكر ابنُ الخطيبِ هاهنا سؤالات:
الأول: أن يوسف عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ كان حراً، وما كان عبداً، فقوله: ﴿إِنَّهُ ربي﴾ يكون كذباً، وذلك ذنبٌ وكبيرة.
والجواب: أنه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ أجرى هذا الكلام بحسب الظاهر على وفق ما كانوا يعتقدون فيه من كونه عبداً.
وأيضاً: إنَّه ربه، وأنعم عليه بالوجوه الكثيرة، فعنى بقوله: ﴿إِنَّهُ ربي﴾ كونه مربياً
58
وهو من باب المعاريض الحسنةٍ، فإنَّ الظَّاهرِ يحملونه على كونه ربًّا، وهو كأنه يعني به أنه كان مربياً له ومنعماً عليه.
السؤال الثاني: ذكر يوسف عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ في الجواب في كلامه ثلاثة أشياء:
أحدها: قوله: «مَعَاذ اللهِ».
والثاني: قوله: ﴿إِنَّهُ ربي أَحْسَنَ مَثْوَايَ﴾.
والثالث: قوله: ﴿إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظالمون﴾ فما وجه تعلُّق هذه الجوابات بعضها ببعض «.
والجواب: هذا الترتيب في غاية الحسنح لأن الأنقياد لأمر الله تعالى وتكاليفه أهم الأشياء لكثرة إنعامه، ألطافه في حق العبدِ، فقوله: ﴿مَعَاذَ الله﴾ إشارة أنَّ حقَّ اللهِ يمنعُ من هذا العملِ.
وأيضاً: حقوق الخلق واجبة الرعاية، فلما كان هذا الرجل قد أنعم في حقّي، فيثبحُ معاملة [إنعامه] بالإساءة.
وأيضاً: صونُ النَّفسِ عن الضَّرر واجب، وهذه اللذَّة قليلة، ويتبعها خزيٌ في الدُّنيا وعذابٌ في الآخرة، وهذه اللذَّة القليلة إذا تبعها ضررٌ شديدٌ؛ ينبغي تركها والاحتراز عنها، لقوله: ﴿إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظالمون﴾ فهذه الجواباتُ الثلاثة مرتبة على أحسن وجوه: التريب.
السؤال الثالث: هل يدلُّ قوله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ»
مَعاذَ اللهِ «على صحَّةِ القضاء والقدر؟.
والجوةابُ: أنه يدل دلالة ظاهرة؛ لأنه طلب من الله أن يعيذهُ من العمل، وتلك الإعاذة ليست عبارة من لفظ الفعل، والقدرة وإزاحة الأعذار، وإزالة الموانع وفعل الألطاف؛ لأن كل هذا قد فعله الله تعالى، فيكونُ طلبه إمَّا طلباً لتحصيل الحاصل، أو طلباً لتحصيل الممتنع، وأنَّه محالٌ، فلعمنا أنَّ تلك الإعاذة التي طلبها يوسف من الله تعالى لا معنى لها إلا أن يخلق فيه داعية جازمة في جانب الطاعة، وأن ينزل عن قلبه داعية المعصية، وهو المطلوبُ.
ويدلُّ على ذلك: أنَّ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وقع بصره على زينب قال:»
يا مُقلِّبَ القُلوبِ ثَبِّتْ قَلبِي على دِينِك «وكان المراد منه تقوية داعية الطَّاعة، وإزالة داعية المعصية، فكذا
59
وكذلك قوله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ:» قَلْبُ المُؤمنِ بَيْنَ أصْبُعيْنِ من أصَابع الرَّحْمنِ «قال: والمراد من الأصعبين: داعية الفعل وداعية التَّركِ، وهَاتَانِ الدَّاعيتانِ لاَ يَحْصُلانِ إلا بِخلْقِ الله تعالى وإلا لافْتقرَتْ إلى داعيةٍ أخرى، ولزم التَّسلسلُ؛ فثبت أن قول يوسف عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ:» مَعَاذَ اللهِ «من أدل الدَّلائلِ على صحَّة القول بالقضاءِ، والقدرِ.
قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لولاا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ﴾ [الآية: ٢٤] جواب»
لولاَ ما تقدَّم عليها، وقوله: «وهَمَّ بِهَا» عند من يجيز تقديم جواب أدوات الشرط عليها، وإما محذوف لدلالة هذا عليه عند من لا يرى ذلك، وقد تقدَّم تقريرُ المذهبين مراراً، كقولهم: «أنْتَ ظَالمٌ إنْ فَعلْتَ»، أي: فعلت، فأنت ظالزٌ، ولا تقول: إن «أنت ظَالمٌ» هو الجوابُ، بل دلَّ عليه دليلٌ، وعلى هذا فالوقف عند قوله: «بُرْهَانَ ربِّه» والمعنى: لولا رُؤيته برهان ربه لهمَّ بها، لكنه امتنع همَّهُ بها لوجودِ رُؤية برهانِ ربِّه، فلم يحصل منه همِّ ألبتَّة، كقولك: لولا زيدٌ لأكرمتك، فالمعنى: إنَّ الإكرام ممتنعٌ لوجود زيد، وبهذا يتخلَّص من الإشكال الذي يورد، وهو: كيف يليقُ بنبي أن يهم بامرأة.
قال الزمخشري: «فإن قلت: قوله» وهمَّ بِهَا «داخل تحت القسم في قوله:» وَلقَدْ هَمَّتْ بِهِ «أم خارج عنه؟. قلت: الأمران جائزان، ومن حقِّ القارىء إذا قصد خروجه من حكم القسم، وجعله كلاماً برأسه أن يقف على قوله:» ولقَدْ هَمَّتْ بِهِ «يبتدىء قوله: ﴿وَهَمَّ بِهَا لولاا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ﴾، وفيه أيضاً إشعارٌ بالفرقِ بين الهمَّينِ.
فإن قلت: لِمَ جعلت جواب»
لَوْلاَ «محذوفاً يدلٌّ عليه:» هَمَّ بِهَا «، وهلاَّ جعلته هو الجواب مقدماً؟.
قلت: لأن»
لوْلاً «لا يتقدم عليها جو ابها من قبل أنَّه في حكم الشرطِ، وللشَّرطِ صدر الكلام، وهو وما في حيِّزهِ مم الجملتين، مثل كلمة واحدة، ولا يجوزُ تقديمُ بعض الكلمة على بعضٍ، وأما حذف بعضها إذا دلَّ عليه دليلٌ؛ فهو جاءزٌ».
فقوله: «وأما حذف بعضها.... إلخ» جواب عن سؤال مقدرٍ، وهو أنَّهُ إذا كان جواب الشَّرط مع الجملتين بمنزلة كلمةٍ؛ فينبغي أن لا يحذف منهما شيء؛ لأنَّ الكلمة لا يحذفُ منها شيء.
فأجاب بأنَّهُ يجوز إذا دلَّ دليل على ذلك، وهو كما قال، ثم قال: فإن قلتَ لمَ جعلتَ «لَوْلاَ» متعلقة ب «هَمَّ بِهَا» وحدة، ولم تجعلها متعلقة بجلمة وقله: ﴿وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا﴾ ؛ لأن الهمَّ لا يتعلق بالجواهر، ولكن بالمعاني، ولا بد من تقدير
60
المخالطةِ، والمخالطة لا تكون إلا من اثنين معاً، فكأنه قيل: همَّا بالمخالطة لولا أن منع مانعٌ أحدهما؟
قلتُ: نعم ما قلت: ولكن الله سبحانه وتعالى قد جاء بالهمين على سبيل التفضيل حيث قال: ﴿وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا﴾ اه.
والزجاج لم يرتض هذه المقالة، أي: كون قوله: «لَوْلاَ» متعلقة ب «هَمَّ بِهَا» فإنه قال: ولو كان الكلام «لَهمَّ بِهَا» لكان بعيداً، فيكف مع سُقوطِ الكلام؟ [يعني] الزجاج أنه: لا جائز أن يكون «هَمَّ بِهَا» جواباً ل: «لَوْلاَ» ؛ لأنه لو كان جوابها لاقترن باللاَّمِ؛ لأنه مُثبتٌ، وعلى تقدير أنَّهُ كان مقترناً باللاَّم كان يبعد من جهة أخرى، وهي تقديمُ الجواب عليها.
وجواب ما قاله الزجاجُ: ما تقدم عن الزمخشري من أن الجواب محذوفٌ مدلولٌ عليه بما تقدَّم.
وأما قوله: [ولو كان] الكلام: «ولهمَّ بِهَا» فغيرُ لازم؛ لأنَّه متى كان جواب «لَوْ»، و «لَوْلاَ» مثبتاً جاز فيه الأمران: اللام وعدمها، وإن كان الإتيانُ اللاَّم هو الأكثر.
وتابع ابنُ عطيَّة في هذا المعنى فقال: «قول من قال: إنَّ الكلام قد تمَّ في قوله:» ولقَدْ هَمَّتْ بِهِ «، وأن جواب» لَوْلاَ «في قوله:» وهَمَّ بَهَا «؛ وأنَّ المعنى: لولا أن رأى البرهان لهم بها، فلم يهمَّ يوسف عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ قال: وهذا قولٌ يردُّه لسان العرب، وأقوال السَّلف».
فقوله: «يردُّه لسانُ العرب» فليس كذلك؛ لأنَّ وزن هذه الآية قوله: ﴿إِن كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لولاا أَن رَّبَطْنَا على قَلْبِهَا﴾ [القصص: ١٠] فقوله: ﴿إِن كَادَتْ﴾ أمَّا أن تكون جواباً عند من يرى ذلك، وإمَّا أن يكون دالاً على الجواب، وليس فيه خروجٌ عن كلامِ العربِ، هذا ما ردَّ عليه أبو حيَّان.
وكأن ابن عطيَّة إنما يعني بالخروج عن لسان العرب تجرد الجواب من اللاَّم على تقدير جواز تقديمه، والغرض أن اللاَّم لم توجد.

فصل


الهمُّ هو المقاربةٌ من الفعل من غير دخولٍ فيه، فهَمُّهَا: عزمُها على المعصية، وأما همُّه: فرُوِيَ عن أبن عبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما أنه حلَّ الهميان، وجلس منها مجلسَ الخاتنِ.
61
وعن مجاهد رَحِمَهُ اللَّهُ أنَّه حلّ سراويله، وجعل يعالجُ ثيابه، وهذا قولُ سعيد بن جبير، والحسن، وأكثر المتقدمين رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم.
وقيل غير ذلك.
وقال أكثرُ المتأخِّرين: إنَّ هذا لا يليقُ بحال الأنبياء عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ وقالوا: تم الكلام عند قوله: «ولقد همَّتْ بِهِ»، ابتدأ الخبر عن يوسف فقال: ﴿وَهَمَّ بِهَا لولاا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ﴾ على التَّقديمِ، والتأخير، أي: لولا أنه رأى برهان ربِّه لهم بها، لكنه رأى البُرهان، فلم يهمّ.
قال البغويُّ: «وأنكره النُّحاة، وقالوا: إنَّ العربَ لا تُؤخِّرُ» لَوْلاَ «عن الفعلِ فلا يقولون: قُمْتُ لولا زيدٌ، وهي تريدُ: لولا زيدٌ لقُمْتُ».
وذكر ابنُ الخطيبِ: عن الواحديِّ أنه قال في البسيطِ: «قال المفسِّرُون: هم يوسف أيضاً بالمرأة همَّا صحيحاً، وجلس منها مجلس الرجُل من المرأةِ فلمَّا رأى البُرهانَ من ربه؛ زالت كلُّ شهوة عنه.
قال أبُو جعفرٍ الباقرُ بإسناده عن عليِّ كرَّم الله وجهه أنه قال: طمعت فيه، وطمع فيها «.
ثمَّ إنَّ الواحديَّ طول في كلمات عاريةٍ عن الفائدة في هذا الباب، ولم يذكر فيما احتج به حديثاً صحيحاً يعوَّل عليه في هذه المقالة، ورُويَ أنَّ يوسف عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ لمَّا قال: ﴿ذلك لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بالغيب﴾ [يوسف: ٥٢] قال له جبريل عليه السلام: ولا جين هممت يَا يوسف فقال عند ذلك:»
ومَا أبرِّىءُ نَفْسِي «.
وقال بعضُ العلماءِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم: الهمُّ همَّان:
همٌّ يخطرُ بالبالِ من غير أن يبرز إلى الفعل.
وهمٌّ يخطرُ بالبالِ، ويبرز إلى الفعل، فالأوَّلُ مغفورٌ، والثاني: غير مغفورٍ إلا أنْ يشاءَ اللهُ، ويشهدُ لذلك قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا﴾، فهمُّه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ كان خُطُراً بالبال من غير أن يخرج إلى الفعلِ، وهمُّها خرج إلى الفعل بدليل أنَّها ﴿وَغَلَّقَتِ الأبواب وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ﴾ [يوسف: ٢٣]، ﴿وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِن دُبُرٍ﴾ [يوسف: ٢٥].
ويشهد للثاني قوله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ»
إذَا التَقَى المُسْلمَانِ بسيفَيْهِمَا فالقَاتِلُ
62
والمقْتولُ في النَّار، فَقيلَ يا رسُول اللهِ هَذا القَاتِلُ فمَا بَالُ المَقْتُولِ؟ قال: لأنَّه كَانَ حَرِيصاً عَلَى قَتْلِ صَاحِبهِ «.
قال ابن الخطيب: وقال المُحققُونَ من المُفسِّرين، والمتكلِّمين: إنَّ يُوسفَ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ ت كان بَرِيئاً من العملِ البَاطلِ، والهَمّ المُحرَّم، وبه نقولُ، وعنه نذبُّ، والدلائل الدَّالةُ على وُجوبِ عصمة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام مذكورة مقرّرة ونزيد هاهنا وجوههاً:
الأول: أن الزِّنا من منكرات الكبائرِ، الخيانةٌ في معرض الأمانةِ أيضاً من منكرات الذُّنوبِ وأيضاً: الصبيُّ إذا تربَّى في حجر الإنسان، وبقي مكفيَّ المؤنةِ، مصون العرضِ من أوَّلِ صباهُ إل زمان شبابه، وكما قوَّته، فإقدام هذا الصبي على إيصال أقبح أنواع الإساءة إلى ذلك المنعم المفضل من منكرات الأعمال، وإذا ثبت هذا فنقول: إن هذه المعصية إذا نسبوها إلى يوسف عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ كانت موصوفة بجميع الجهالات، ومثلُ هذه المعصية إذا نسيت إلى أفسقِ خلقِ الله، وأبعدهم من كلِّ حسنٍ، لا ستنكف منه، فكيف يجوز إسنادهُ إلى الرَّسولِ المُؤيّد بالمعجزات الباهرة مع قوله تعالى: ﴿كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السواء والفحشآء﴾ وأيضاً فلا يليق بحكمة الله تعالى وذلك يدلُّ على أنَّ ما هيَّة السُّوء، ما هية الفحشاء مصروفةٌ عنه، والمعصية التي نسوها إليه أعظم أنواع السوء، والفحشاء، وأيضاً فلا يليق بحمة الله تعالى أن يحكي عن إنسان إقدامه على معصية، ثم يمدحه، ويثني عليه بأعظم المدائح والأثنية عقيب ما حكى عنه ذلك الذَّنب العظيم، فإنَّ مثاله ما إذا حكى السطان عن بعض عبيده أقبح الذنوب، وأفحش الأعمال، ثم يذكره بالمدح العظيم، والثناءِ البالغ عقيبه، فإنَّ ذلك متسنكرٌ جدًّا، فكذا هاهنا.
وأيضاًَ: فإن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام متى صدرت عنهم زلةٌ، أو هفوةٌ؛ استعظموا ذلك، وأتبعوه بإظهار النَّدامةِ، والتوبة، والتَّواضع، ولو كان يوسف أقدم ههنا على هذه الكبيرة المنكرة، لكان من المحال أن لا يتبعها بالتَّوبةِ، والاستغفار، ولو أتى بالتَّوبةِ لحكى الله ذلك عنه كما في سائر المواضع، وحيثُ لم يقع شيءٌ من ذلك علمنا أنه ما صدر عنه في هذه الواقعة ذنب، ولا معصية.
وأيضاً: فكلُّ من كان له تعلق بهذه الواقعة، فقد شهد ببراءة يوسف عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ عن المعصية، والذين لهم تعلق بهذه الواقعة: يوسف والمرأة وزوجها، والنسوة الشهود، ورب العالم، وإبليس.
63
فأمَّا يوسف صلوات الله وسلامه عليه فأدَّعى أنَّ الذنب للمرأة وقال: ﴿هِيَ رَاوَدَتْنِي عَن نَّفْسِي﴾ [يوسف: ٢٦] و ﴿قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ﴾ [يوسف: ٣٣] وأما المرأة، فاعترفت بذلك، وقالت للنسوة: ﴿وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ فَاسَتَعْصَمَ﴾ [يوسف: ٣٢] وقالت: ﴿الآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَاْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ﴾ [يوسف: ٥١] وأمَّا زوج المرأة فقوله: ﴿إِنَّهُ مِن كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هذا واستغفري لِذَنبِكِ﴾ [يوسف: ٢٨ ٢٩].
وأمَّا الشهود فقوله تعالى: ﴿وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّنْ أَهْلِهَآ إِن كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن قُبُلٍ﴾ [يوسف: ٢٦].
وأمَّا شهادة الله تعالى: فقوله: ﴿كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السواء والفحشآء إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا المخلصين﴾ [يوسف: ٢٤] فقد شهد الله تعالى في هذه الآية على طهارته أربع مرات.
أولها: قوله: ﴿لِنَصْرِفَ عَنْهُ السواء﴾.
وثانيها: قوله: ﴿لِنَصْرِفَ عَنْهُ السواء والفحشآء﴾.
والثالث: قوله: ﴿إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا﴾ مع أنه تعالى قال: ﴿وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا﴾ [الفرقان: ٦٣].
والرابع: قوله: «المُخْلصِينَ»، وفيه قراءتا، تارة باسم الفاعل، وأخرى بسام المفعول وهذا يدلُّ على أنَّ الله تعالى استخلصه لنفسه، وأصطفاه لحضرته، وعلى كل [وجه] فإنَّه أدلُّ الألفاظ على كونه منزهاً عمَّا أضافوه إليه.
وأما إقرار إبليس بطهارته فقوله: ﴿فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ﴾ [ص: ٨٢٨٣] فهذا إقرارٌ من إبليس بأنه ما أغواهُ، وما أضله عن طريف الهدى، فثبت بهذه الدَّلائل أنَّ يوسف عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ بريءٌ عمَّا يقوله هؤلاء.
وإذا عرفت هذا فنقول: الكلام على ظاهر هذه الآية [يقع] في مقامين:
المقام الأول: أن نقول: إنَّ يوسف عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ ما همَّ بها، لوقله تعالى: ﴿لولاا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ﴾، وجواب «لَوْلاَ» ههنا مقدمٌ، وهو كما يقالُ: قد كنت من الهَالكينَ لولا أنَّ فلاناً خلصك، وطعن الزَّجاجُ في هذا الجواب من وجهين:
الأول: أن تقديم جواب «لَوْلاَ: شاذٌّ، وغير موجود في الكلامِ الفصيحِ.
الثاني: [أنَّ] «لَوْلاَ» يجابُ جوابها باللاَّمِ، فلو كان الأمرُ على ما ذكرتم لقال: ولقد همَّت به، ولهم بها لوْلاَ.
64
وذكر غير الزجاج سؤالاً ثالثاً، وهو: أنَّهُ لو لم يوجد الهمُّ لما كان لقوله: ﴿لولاا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ﴾ فائدة.
واعلم أنَّ ما ذكَرهُ الزجاجُ بعيدٌ؛ لأنَّا [لا] نُسلِّم أنَّ تأخير جواب «لَوْلاَ» حسنٌ جائزٌ، إلا أنَّ جوازه لا يمنعُ من جواز تقديم هذا الجواب، فكيف وقد نُقل عن سيبويه أنَّه قال: «إنَّهم يُقدِّمون الأهمَّ فالأهَمَّ»، والذي همَّ بشأنه أعنى؛ فكان الأمر في جواز التقديم، والتَّأخير مربوطاًً ذكرُ بشدَّة الاهتمام، فأمَّا تعينُ بعض الألفافظِ بالمنع، فذلك ممَّا لا يلييقٌ بالحكمةِ، وأيضاً ذكر جوابِ «لَوْلاَ» باللاَّم جائزٌ، وذلك يدلُّ على أنَّ ذكره بغير اللاَّم لا يجوزُ، وممَّا يدل على فسادِ قول الزجاجِ قوله تعالى: ﴿إِن كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلَا أَن رَّبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا﴾ [القصص: ١٠].
وأما قوله: لو لم يوجد الهم لم يبق لقوله: ﴿لولاا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ﴾ فائدة.
فنقولُ: بل فيه أعظم الفوائدِ: وهو بيان أنَّ ترك الهمَّ بها ما كان لعدم رغبته في النسِّاءِ، ولا لعدمِ قدرته عليهنَّ؛ بل لأجلِ أنَّ دلائل دين الله منعته عن ذلك العمل، ثم نقول: الذي يدلُّ على أنَّ جواب: «لَوْلاَ» ما ذكرناه أن «لَوْلاَ» تستدعي جواباً، وهذا المذكور يصلح جواباً له؛ فوجب الحكم بكونه جواباً له لا يقال: أنَّ نضمر له جواباً، وهذا المذكور يصلح جواباً له؛ فوجب الحكم بكونه جواباً له لا يقال: إنَّا نضمر له جواباً، وتركُ الجواب ذكر في القرآن، فنقول: لا نزاع أنه ذكر في القرآن، إلا أنَّ الأصل ألاّ يكون محذوفاً.
وأيضاً: فالجواب إنَّما يحسن تركه، وحذفه، إذا حصل في الملفوظ ما يدلُّ على تعيينه، وههنا بعيد أن يكون الجواب محذوفاً؛ لأنَّه ليس في اللفظِ ما يدلُّ على تعيين ذلك الجواب، فإن ههنا أنواعاً من الإضمارات، يحسن إضمار كل واحد منها، وليس إظمار بعضها أولى من إضمار البعض الباقي فظهر الفرقُ.
المقام الثاني: سلمنا أنَّ الهمّ قد حصل إلاَّ أنّا نقول: إن قوله: «وهمَّ بِهَا» لا يمكنُ حمله على ظاهره؛ لأنَّ تعليق الهمّ بذات المرأة مُحالٌ؛ لأنَّ الهمّ من جنس القصد، والقصدُ لا يتعلق بالذَّوات؛ فثبت أنَّهُ لا بد من إضمار فعلٍ محذوف يجعل متعلق ذلك الفعل غير مذكور، فهم زعموا أنَّ ذلك الفعل المضمر هو إيقاع الفاحشة بها، ونحن نضمر شيئاً آخر يغاير ما ذكروه وهو من وجوه:
الاول: المراد أنه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ همَّ بدفعها عن نفسه، ومنعها من ذلك القبيح؛ لأنَّ الهمَّ هو القصدُ، وفجب أن يحمل في حق كُلِّ واحدٍ على القصدِ الذي يليقُ به، فالأليقُ بالمرأة القصد إلى تحصيل اللَّذة، والتَّمتُّع، وأليق بالرسُولِ المعبوث غلى الخلقِ القصد إلى زَجْرِ العاصي عن معصيته، وإلى الأمرِ بالمعروف والنهي عن المنكر،
يقال: هَمَمْتُ بفلان، أي: قصدته ودفعته.
65
فإن قيل: فعلى هذا التدقير لا يبقى لقوله: ﴿لولاا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ﴾ فائدة قلنا: بل فيه أعظمُ الفوائد، وبيانه من وجهين:
الأول: أنه تعالى أعلم يوسف أنه لو همَّ بدفعها لقتلته، أو لكانت تأمر الحاضرين بقتله، فأعلمه الله تعالى أنَّ الامتناع من ضربها أولى، لصون النَّفس عن الهلاك.
الثاني: أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لو اشتغل بدفعها عن نفسه، فرُبَّما تعلقت به، فكان يتخرق ثوبه من قُدَّام، وكان في علم الله أنَّ الشَّاهد سيشهد أن ثوبه لو خرق من قدام، لكان يوسف هو الخائنُ، ولو كان ثوبه مخرَّقاً من خلفه لكانت المرأة هي الخائنة، والله تعالى أعلمه بهذا المعنى، فلا جرم لم يشتغل بدفعها عن نفسه، بل ولَّى هارباً منها حتى صارت شهادةُ الشَّاهد حجَّة له على براءته عن المعصية.
الوجه الثاني في الجواب: أن يفسر الهَمُّ بالشَّهوةِ، وهذا مستعملٌ في اللغة الشَّائعة، يقولُ القائلُ فيما لا يشتهيه: لا يهمُّنِي هذا، وفيما يشتهيه: هذا أحبُّ الأشياءِ إليّ، فسمَّى الله شهوة يوسف همًّا.
والمعنى: لقد اشتهته، واشتهاها لولا أن رأى برهان ربِّه لدخل ذلك العملُ في الوجود.
الثالث: أن يفسر الهمُّ بحديث النَّفس؛ وذلك لأنَّ المرأة الفائقة في الحسن والجمال، إذا تزينت، ونهيّأت للرَّجل الشَّاب القوي، فلا بد أن يقع هناك بين الشهوة والحكمة، وبين النفس، والعقل محادثات، ومنازعات، فتارة تقوى داعيةُ الطبيعة والشهوة، وتارة تقوى داعية العقل والحكمة، والهمُّ عبارة عن محادثات الطبيعة ورؤية البرها عبارة عن جواذب العبودية، ومثاله: أنَّ الرَّجل الصَّالح الصَّائم ف يالصيف الصَّائف، إذا رأى الجلاب المبرِّد بالثَّلج، فإن طبيعته تحمله على شربه إلا أنَّ دينه يمنعه منه، فهذا لا يدلُّ على حصول الذنب، بل كلما كانت هذه الحالة أشد كانت القوة في القيام بلوازم العبوديَّة أكمل، فظهر بحمد الله صحَّة القول الذي ذهبنا إليه، ولم يبق في يد الواحدي إلا مجرَّد التَّصلف، وتعديد أسماءِ المفسرين، ولو ذكر في تقرير ذلك القول شهبة لأجبنا عنها إلا أنَّه ما زاد عن الرواية عن بعض المفسِّرين.
واعلم أنَّ بعض الحشويَّة روى عن النبي المختار صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «ما كّذبَ إبْراهِيمُ إلاَّ ثلاثَ كَذبَاتٍ» فقلت: الأولى ألاَّ تقبل مثل هذه الأخبار فقال على [طريق] الاستنكار: إن لم نقبله لزمنا تكذيبُ الرُّواةِ، فقلت له: يا مسكينُ إن قبلناه لزمنا الحكم بتكذيب إبراهيم
66
صلوات الله وسلامه عليه وإن رددناه لزمنا الحكم بتكذيب الرواة، ولا شك أن صون إبراهيم صلوات الله وسلامه عليه عن الكذب أولى من صون طائفةٍ من المجاهيل عن الكذب.
إذا عرفت هذا الأصل، فنقولُ للواحدي: ومن الذي يضمنُ لنا أنَّ الذين نقولا هذه القول عن هؤلاء المفسرين كانوا صادقين، أو كاذبين. والله أعلم.

فصل


اختلوفوا في البرهان ما هو؟.
فقال المحققون المثبتون للعصمة: رُؤيةُ البُرهانِ على وجوهٍ:
الاول: أنه حجَّة الله تعالى في تحريم الزِّنا، والعلمُ بما على الزَّاني من العذاب.
الثاني: أن الله تعالى طهَّر نفوس الأنبياء عن الأخلاق الذَّميمة، بل نقول: إنه تعالى، طهر نفوس المتصلين بهم عنها، كما قال تعالى: ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ الله لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرجس أَهْلَ البيت وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً﴾ [الأحزاب: ٣٣] والمراد برؤية البرهان: هو حصولُ ذلك الإخلاص، وترك الأحوال الدَّاعية به إلى الإقدام على المنكرِات.
الثالث: أنه رأى مكتوباً في سقف البيت: ﴿وَلاَ تَقْرَبُواْ الزنى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَآءَ سَبِيلاً﴾ [الإسراء: ٣٢].
الرابع: أنًَّهُ النبوة المانعةُ من ارتكاب الفواحشِ، ويدلُّ عليه أنَّ الأنبياء عليهم الصلاة والسلام بعثوا لمنع الخلقِ من القبائح، فلو أنَّهم منعوا النَّاس عنها، ثم أقدموا على أقبح أنواعها لدخلوا تحت قوله ﴿لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ﴾ [الصف: ٢] وايضاً: فإن الله تعالى عيَّر اليهود بقوله ﴿أَتَأْمُرُونَ الناس بالبر وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ﴾ [البقرة: ٤٤] ما كان عيباً في حق اليهود، كيف ينسب إلى الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ المؤيد بالمعجزات.
وأمَّا الذين نسبوا المعصية إلى يوسف عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ فذكروا في ذلك البرهان وجوهاً:
الأول: أنَّ المرأة قامت إلى صنم مكلَّلٍ بالدُّرِّ، والياقوت في زاوية البيت، فسترته بثوبٍ، فقال يوسف عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ، [ولم؟ قالت: أستحي من إلهي أن يراني على المعصية، فقال يوسف:] أتستحين من صنم لايسمعُ، ولا يبصرُ ولا أستحي من إلهي القائمِ على كلِّ نفس بما كسبت، فوالله لا أفعلُ ذلك أبداً، قال هذا هو البُرهَانُ.
الثاني: نقلُوا عن ابن عبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما أنَّهُ تمثَّل له يعقوب، فرآه عاضًّا على أصبعه يقول له: لا تعمل عمل الفُجَّار، وأنت مكتوبٌ في زمرة الأنبياء عليهم
67
الصلاة والسلام فاستحى منه. قالوا: وهو قول عكرمة، ومجاهدٍ، الحسن، وسعيد بن جبير.
وروى سعيد بن جبير رَضِيَ اللَّهُ عَنْه عن ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما تمثَّل له يعقوب، فضرب في صدره فخرجت شهوته من أنامله.
الثالث: قالوا: إنَّه سمع في الهواء قائلاً: يا بْنَ يعقوب، لا تكن كالطَّير له ريش، فإذا زنا ذهب ريشه.
الرابع: نقلوا عن ابن عباس أن يوسف عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ لم ينزجر بكلامِ يعقوب حتى ركضه جبريلُ، فلم يبقَ به شيءٌ من الشَّهوة إلا خرج.
قال ابنُ الخطيب: «ولما ذكر الواحديُّ هذه الروايات تصلف وقال: هذا الذي ذكرنا قول أئمَّة التَّفسير الذين أخذوا التَّأويل عمن شاهدوا التنزيل فيقال له: إنَّك لا تأتينا ألبتة إلا بهذه التصلفات التي لا فائدة فيها، فأين هذا من الحجة والدليل الذي ذكرناه، وأيضاً: فإن ترادف الدلائل على الشَّيء الواحد جائزٌ وإنه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ كان ممتنعاً من الزِّنا بحسب الدَّلائل الأصلية، فلما انضاف إليها هذه الزَّواجِر ازدادت قوةً.
وأيضاً: روي أن جبريل عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ امتنع من دخول حجرة النبي المختار صلوات الله وسلامه عليه بسبب وقع هناك بغير علمه؛ قالوا: فامتنع جبريل عليه السلام من الدخول [عليه] أربعين يوماً، وههنا زعموا أنَّ يوسف حين اشتغاله بالفاحشة ذهب إليه جبريل، والعجب أيضاً أنَّهم زعموا أنه لم يمتنع عن ذلك العمل بسبب حضور جبريل عليه السلام، ولو أنَّ أفسق الخلق، وأكفرهم كان مشتغلاً بفاحشة، فإذا دخل عليه رجلٌ في زِيّ الصَّالحين استحى منه؛ وترك [ذلك] العمل وهاهنا يعقوب عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ عضّ على أنامله، فلم يلتفت، ثمَّ إنَّ جبريل عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ على جلالة قدره دخل عليه، فلم يمتنع أيضاً عن ذلك القبيح بدخوله حتى احتاج جبريل إلى أن ركضه على ظهره «.
68
فنسأل الله أن يصوننا عن الغي في الدين، الخذلان في طلب اليقين.

فصل


والفرق بين السوء، والفحشاء من وجهين:
الأول: أنَّ السوء: جناية اليد، والفحشاء: الزِّنا.
الثاني: السُّوء: مقدمات الفاحشة من القُبلةِ، والنَّظر بالشَّهوة. والفحشاءُ: هو الزنا.
قوله:» وكَذلِكَ «في هذه الكاف أوجه:
أحدها: أنَّها في محل نصبٍ، وقدَّره الزمشخريُّ مثل ذلك التَّثبيتِ ثبَّتناه.
وقدَّرهُ الحرفيُّ أريناه البراهين بذلك، وقدَّره ابنُ عطيَّة: جرت أفعالنا، وأقدارنا كذلك، وقدره أبو البقاء: نراعيه كذلك.
الثاني: أن الكاف في محل رفع، فقدَّره الزمخشريًّ، وأبو البقاء: الأمر مثل ذلك، وقدَّره أبنُ عيطةك عصمته كذلك. وقال الحوفيُّ: أمر البراهين بذلك ثمَّ قال: والنصب أجودُ لمطالبة حروف الجرّ للأفعال أو معانيها.
الثالث: أنَّ في الكلام تقديماً، وتأخيراً، وتقديره: همَّت به، وهمَّ بها كذلك ثم قال: لولا أن رأى برهان ربه، كذلك لنصرف عنه ما هم بها هذا نص ابن عطيَّة.
وليس بشيءٍ؛ إذْ مع تسليم جوازِ التَّقديم، والتَّأخير لا معنى لما ذكره.
قال أبو حيَّان: وأقولُ: إنَّ التقديرك مثل تِلْك الرُّؤية، أو مثل ذلك الرَّأي نري براهيننا، لنصرف عنه، فتجعل الإشارة إلى الرَّأي، أو الرُّؤيةِ، والنَّاصب الكاف مما دل عليه قوله: ﴿لولاا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ﴾، و»
لِنَْرفَ «متعلق بذلك الفعل النَّاصب للكاف، ومصدر» رَأى «» رُؤيةٌ ورأيٌ «؛ قال: [الرجز]
٣٠٦٧ - ورَأيُ عَيْنَيَّ الفَتَى أبَاكَا [يُعْطِي الجَزيلَ فعَليْكَ ذَاكَا]
وقرأ الاعمش «ليَصْرِفَ»
بياء الغيبةِ، والفاعل هو الله سبحانه وتعالى، قوله تعالى: ﴿المخلصين﴾ قرأ هذه اللفظة [حيث وردت] إذا كانت معرفة بأل مكسورة
69
اللام: ابن كثير، وأبو عمرو، وابن عامر أي: الذين أخلصوا دينهم لله على اسم الفاعلِ، والمفعول محذوفٌ، والباقون بفتحها على أنَّه اسم مفعولٍ من أخصلهم الله، أي: اجتباهم، واختارهم، وأخلصهم من كلِّ سوءٍ، ويحتمل أن يكون لكونه من ذرية إبراهيم قال فيهم: ﴿إِنَّآ أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدار﴾ [ص: ٤٦].
وقرأ الكوفيُّون في مريم ﴿إِنَّهُ كَانَ مُخْلِصاً﴾ [مريم: ٥١] بفتحِ اللاَّم بالمعنى المقتدِمِ والباقون بكسرها بالمعنى المتقدم.
قوله تعالى: ﴿واستبقا الباب﴾ [الآية: ٢٥] «البَابَ» منصوبٌ إمَّا على إسقاطِ الخافض اتّساعاً، إذ أصلُ «اسْتبَقَ» أن يتعدَّى ب «إلى»، وإما على تضمين «اسْتَبقَ» معنى ابتدر، فينصب مفعولاً به. قوله تعالى: ﴿وَقَدَّتْ﴾ يحتمل أن تكون الجملة نسقاً على «اسْتبقَا» أي: استبق، وقدت، ويحتمل أن يكون في محل نصب على الحال، أي: وقد قدَّت. والقدّ: الشَّقُّ مطلقاً، قال بعضهم: القدُّ: فيما كان يشقُّ طولاً القطُّ: فيما كان يشقُّ عَرْضاً.
قال ابن عطية «وقرأت فرقة: وقَطّ» قال أبو الفضل بنُ حربٍ: رأيت في مصحب «وقطَّ مِنْ دبُرٍ» أي: شقَّ.
قال يعقوب: القطُّ في الجلدِ الصحيح، والثوب الصحيح؛ وقال الشاعر: [الطويل]
٣٠٧٧ - تَقُدُّ السَّلُوقيَّ المُضاعفَ نَسْجهُ وتُوقِدُ بالصفَّاحِ نَارَ الحُباحِبِ

فصل


قال العلماء رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم وهذا الكلامْ من اختصار القرآن المعجز الذي يجتمع فيه المعاني، وذلك أنَّ يوسف عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ لما رأى برهان ربِّه، خرج حينئذ هارباً، وتبعته المرأة فتعلقت بقميصه من خلفه، فجذبته إليها حتى لا يخرج «وقدَّتْ قَميصَهُ» [أي] : فشققته المرأة من دبر.
والاستباقُ: طلبُ السَّبْق، أي: يجتهدُ كلُّ واحدٍ منهما أن يسبق صاحبهُ فإن سبق يوسف فتح الباب، وخرج، وإن سبقت المرأةُ أمسكتِ الباب لئلا يخرج فسبقها يوسف عليه السلام إلى الباب، والمرأة تعدو خلفه، فلم تصلْ إلا إلى دبر القميص، فتعلقت به فقدته من خلفه، فلمَّا خرجا «ألْفَيَا»، أي: وجدا «سيِّدهَا»، وإنما لم يقل سيدهما؛ لأنَّ
70
يوسف عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ لم يكن مملوكاً لذلك الرجل حقيقة «لَدى البابِ» أي: عند البابِ، والمرأة تقول لبعلها: سيِّدي.
فإن قيل: فالمرأةُ أيضاً ليست مملوكة لبعلها حقيقة.
فالجواب: أن الزَّوج لما ملك الانتفاع بالمرا’ من الوطء والخلوةِ، والمباشرةِ، والسفر بها من غير اختيارها أشبهت المملوكة، فلذلك حسن إطلاقُ السيِّد عليه.
قال القرطبيُّ: «والقبط يسمون الزوج سيداً، ويقال: ألفاه، وصادفهُ، وواله ووَالطَه، ولاطَهُ، وكلٌّ بمعنى واحدٍ».
فعند ذلك، خافتِ المرأةُ من التُّهمِ، فبادرت إلى أن رمتْ يوسف عليه السلام بالعفلِ القبيح، ﴿وقالت ما جزاء من أراد بأهلك سوءاً﴾ يعنى الزِّنا، ثم خافت عليه أن يقتل فقالت: ﴿إلاَّ أن يُسجنَ﴾، أي: يحبس، ﴿أوْ عذابٌ أليمٌ﴾ أي: يُعَاقبُ بالضَّربِ.
قوله: «مَا جزاءُ» يجوز في «مَا» هذه أن تكون نافية، وأن تكون استفهاميَّة، و «مَنْ» يجوز أن تكون موصولة، أو نكرة موصوفة.
قوله: «إلاَّ أن يُسْجنَ» خبر المبتدأ، ولما كان «أن يُسْجنَ» في قوَّة المصدر عطف عليه المصدر، وهو قوله: «أو عذابٌ». و «أوْ» تحتملُ معانيها، وأظهرها التنويع.
وقرأ زيد بن علي: (أو عذاباً أليماً] بالنصب، وخرَّجه الكسائي على إضمار فعل، أو أن يعذَّب عذباً أليماً.
قوله: «هِيَ» ولم يقل هذه، ولا تلك، لفرط استحايئه «وهو أدبٌ حسنٌ حيث أتى بلفظ الغيبة دون الحضور.

فصل


قال ابن اخلطيب: في الآية لطائف:
إحداها: أن حُبَّها الشَّديد ليوسف، حملها على رعايةِ دقيقتين في هذا الموضع، وذلك لأنهَّا بدأت بذكر السِّجن، وأخرت ذكر العذاب؛ لأنَّ المحبَّة لا تسعى في إيلام المحبوب، وأيضاً: لم تقل إنَّ يوسف يجب أن يقابل بهذين الأمرين، بل ذكرت ذلك ذكراً كليًّا صوناً للمحبوب عن الذِّكر بالشر وأيضاً قالت:»
إلاَّ أنْ يُسْجنَ «والمرادُ أن يسجن يوماً، أو يومين، أو أقل على سبيل التخفيف، فأمَّا الحبسُ الدَّائمُ فإنَّه لا يعبِّر عنه بهذه العبارة، بل يقال: يجبُ أن يجعل من المسجونين، كما قال فرعون لموسى عَلَيْهِ
71
الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ حين هدَّدُ ﴿لَئِنِ اتخذت إلها غَيْرِي لأَجْعَلَنَّكَ مِنَ المسجونين﴾ [الشعراء: ٢٩] وأيضاً: لما شاهدت من يوسف أنه استعصم، مع أنه كان في عنفوان العمر، وكمال القوة، ونهاية الشهوة، وعظم اعتقادها في طهارته، ونزاهته، فاستحيتْ أن تقول: إنَّ يوسف قصدني بالسُّوءِ، ولم تجد من نفسها أن ترميهُ بالكذبِ، وهؤلاء نسبُوا إليه هذا الذَّنب القبيحَ.
وأيضاً: يوسف عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ أراد أن يضربها، ويدفعها عن نفسه [وكان] ذلك بالنسبة إليها جارياً مجرى السُّوء، فقولها ﴿ما جزاء من أراد بأهلك سوءاً﴾ له ظاهر وباطن، باطنه أنَّها التي أرادت السُّوء، وظاهره دفعه لها ومنعها، فأرادت بقولها: ﴿ما جزاء من أراد بأهلك سوءاً﴾ فعل نفسها بقلبها، أو في ظاهر الأمر، أو همت أنه قصدني بما لا ينبغي، ولما لطَّخت عرض يوصف بهذا الكلام؛ احتاج يوسف إلى إزالة هذه التهمة فقال: ﴿هي راودتني عن نفسي﴾ واعلم أنَّ العلاماتِ الكثيرة دالةٌ على صدق يوسف:
منها: أنَّ يوسف عليه السلام في ظاهر الأمر كان عبداً لهم، والعبد لا يمكنه أن يتسلط على مولاه إلى هذه الحدّ.
ومنها: أنَّهم شاهدوا يوسف هارباً ليخرج، والطالبُ للمرأة لا يخرج من الدَّار على هذا الوجه.
ومنها: أنهم رأوا المرأة زينت نفسها على أكمل الوجوه، ويوسف لم يكن عليه أثر من آثار تزيين النَّفس.
ومنها: أنَّهم كانوا شاهدوا أحوال يوسف في المُدَّة الطَّويلة، فما رأوا عليه حالة تناسب إقدامه على مثل هذا الفعل المنكر.
ومنها: أنَّ المرأة ما نسبته إلى طلب الفاحشة على سبيل التصريح، بل ذكرت كلاماً مجملاً، وأما يوسف فإنَّه صرَّح بالأمر، ولو كان مطاوعاً لها، ما قدر على التَّصريح، فإنَّ الخائنَ خائفٌ.
وكلُّ هذه الوجوه مما يقوِّي غلبة الظن ببراءة يوسف في هذه المسألة، ثم إنَّه تعالى أظهر ليوسف دليلاً يقوي تلك الدَّلائل على براءته من الذَّنب، وأن المرأة هي المذنبةن وهو قوله تعالى: ﴿وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّنْ أَهْلِهَآ﴾ فقوله: «مِنْ أهْلِهَا» صفة ل: «شَاهِدٌ»، وهو المسوغ لمجيء الفاعل من لفظ الفعل، إذْ لا يجوزُ قام القائم، ولا: قعد القاعدُ، لعدم الفائدةِ.
واختلفوا في ذلك الشَّاهد على ثلاثةِ أقوالٍ:
72
الأول: أنه كان ابن عمَّها، وكان رجلاً حكيماً، واتَّفق في ذلك الوقت أنَّهُ كان ممع زوجها، يريد أن يدخل عليها، وفقال الحكيمُ: ﴿إنْ كَانَ قَميصهُ قُدَّ مِنْ قُبلِ﴾، فأت صادقة، والرَّجلُ كاذبٌ، ﴿وإنْ كانَ قَمِيصهُ قُدَّ مِنْ دُبرٍ﴾، فالرَّجلُ صادقٌ، وأنت كاذبة فلما نظرُوا إلى القميصِ رأوا الشقَّ من خلفه، قال ابن عمِّها: ﴿إِنَّهُ مِن كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ﴾ [اي: من عَملكن] ثم قال ليوسف: «أعْرِضْ عَنْ هَذَا» أي اكتمهُ، وقال لها: ﴿واستغفري لِذَنبِكِ﴾، وهذا قولُ السدي، وطائفة من المفسرين.
قال السُّهيلي: وهذا من باب الحكم بالأمارات، وله أصلٌ في الشَّرعِ، قال تعالى: ﴿وَجَآءُوا على قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ﴾ [يوسف: ١٨] حيثُ لا أثر لأنياب الذئب فيه، وقال تعالى: ﴿إِن كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الكَاذِبِينَ﴾ وقال عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ في الحدّ: «انْظرُوا فإنْ جَاءَتْ بِهِ أبْيضَ خَالياً فَهُو للَّذي رُمِيَتْ بِهِ».
قال السهيلي: كان عامر بن الظرف العدوانيُّ لا يكون بين العرب ثائر إلا تحاكموا إليه فيرضون بما يقضي به، فتحاكموا إليه في ميراث خنثى بات ليلة ساهراً يرى ماذا يحم به؟ فرأته جارية له ترعى، وكان اسمها سخيلة، فقالت له: ما لك، لا أبا لك اللَّيلة ساهِراً؛ فذكر لها ما هو مفكر فيه، وقال: لعلها يكون عندها في ذلك شيء، فقالت له: «اتْبَع القضاء المَبال» فقال: فرجتها والله يا سخيلة، وحكم بذلك القول.
القول الثاني: منقولٌ عن ابن عبَّاسٍ، وسعيد بن جبيرٍ، والضحاك رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم أن ذلك الشَّاهد كان صبيًّا في المهد، أنطقه اللهُ.
قال ابن عبًّاس رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: تكلَّم في المهدِ ثلاثةُ صغارٍ: شاهدُ يوسف، وعيسى ابن مريم عليه السلام، وصاحبُ جريج الرَّاهب.
قال الجبائيُّ: القول الأول أولى لوجوه:
الأول: أنَّه سبحانه وتعالى لو أنطق الطفل بهذا الكلام، لكان مجرد قوله: «إنَّها كَاذبةٌ» كافياً، وبرهاناً قاطعاً؛ لأنَّه من المعجزات العجيبة الباهرة والاستدلال بتمزيق
73
القميص من قُبُل ومن دُبُرٍ دليل ظنيّ ضعيف، والعدول عن الحجَّة الواضحة القاطعة حال حصولها إلى الدلالة الظَّنية لا يجوزُ.
الثاني: أنه تبارك وتعالى قال: ﴿وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّنْ أَهْلِهَآ﴾ يشيرُ بذلك إلى أنَّ شهادة الشَّاهد على قريبه، أولى بالقبولِ من شهادته له؛ لأن الظاهر من حال القريب أن يشهد لقريبه، لا أن يشهد عليه، وهذا التَّرجيحُ إنما يُصَارُ إليه إذا كانت دلالة الشَّهادة ظنية، وذلك إنَّما يكون في شهادة الرجل، ولو يكون هذا القول صادراً من الصَّبي الذي كان في المهد، لكان قوله حجَّة قاطعة، ولا يتفاوتُ الحال بين أن يكون من أهلها، وبين ألا يكون، وحينئذٍ لا يبقى لهذا القيد وجه.
الثالث: أن لفظ الشَّاهد لا يقعُ في العرف، إلا على من تقدَّمت معرفته بالواقعة، وإحاطته بها.
القول الثالث: أن هذا الشاهد هو القميص، قال مجاهد رَضِيَ اللَّهُ عَنْه الشاهد: «قُدَّ قيمصه من دُبُر»، وهذا في غاية الضعف؛ لأن القميص لا يوصف بهذا ولا ينسب إلى الأهل.
واعلم أنَّ القول الأول عليه إشكال، وذلك أنَّ العلامة المذكورة لا تدلُّ قطعاً على براءة يوسف من المعصية؛ لأن من المحتملِ أنَّ الرجل قصد المرأة لطلب الزِّنا، والمرأة غضبت عليه، فهرب الرجل، فعدتِ المرأةُ خلف الرجل، وجذبته لقصد أن تضربه ضرباً وجيعاً، فعلى هذا الوجه يكون قدُّ القميص من دبرٍ، مع أنَّ المرأة تكون بريئة عن [الذنب] وأنَّ الرجل يكون مذنباً.
جوابه: أنَّا بيَّنا أنَّ علامات كذب المرأة كانت كثيرة بالغة مبلغ اليقين، فضمّ إليها هذه العلامة الأخرى، لا لأجل أن يُعوِّلُوا في الحكم عليها، بل لأجل أن يكون ذلك جارياً مجرى المقدمات، والمرجّحات.
قوله: «إنْ كَانَ... » هذه الجملة الشرطية، إما معمولةٌ لقولٍ مضمر تقديره: «فقال» إن كان عند البصريين، وإمَّا معمولة «لِشَهدِ» ؛ لأنه بمعنى القول عند الكوفيين. قوله «مِنْ دُبرٍ..»، و «مِنْ قُبُلٍ... » قرأ العامَّة جميع ذلك بضمتين، والجر والتنوين، بمعنى: من خلف، من قدام، أي: من خلف القميص، وقدامه وقرأ الحسن، وأبو عمرو في رواية بتسكين لعين تخفيفاً، وهي لغة الحجاز، وأسد، وقرأ ابن يعمر، وابن أبي إسحاق [والعطاردي والجارود بثلاث ضمات، وروي عن الجارود وابن أبي إسحاق وبن يعمر] أيضاً بسكون العين وبنائها على الضم ووجه ضمهما: أنَّهم جعلوهما ك «قَبلُ، وبعْدُ» في
74
بنائهما على الضم عند قطعهما عن الإضافة، فجعلوهما غاية، ومعنى الغاية: أن يجعل المضاف غاية نفسه، بعد ما كان المضاف إليه غايته، والأصل إعرابهما؛ لأنَّهما اسمان متمكنان، وليسا بظرفين.
قال أبو حاتم: وهذا رديءٌ في العربية، وإنما هذا البناء في الظروف.
وقال الزمخشري: «والمعنى: من قبل القميص، ومن دُبرهِ، وأما التنكيرُ فمعناه: من جهةٍ يقال لها قبلٌ، ومن جهة يقال لها دبرٌ» وعن ابن أبي إسحاق: أنَّهُ قرأ «مِنْ قُبْلَ»، و «مِنْ دُبْرَ» بالفتح كأنَّه جعلهما علمين للجهتين، فمنعهما الصرف للعملية، والتَّأنيث، وقد تقدم [البقرة: ٢٣٥] الخلاف في «كان» الواقعة في حيز الشرط، هل تبقى على معناها من المضي، وإليه ذهب المبرِّدُ، أم تنقلب إلى الاستقبال كسائر الأفعالِ، وأنَّ المعنى على التَّبيينِ؟.
قوله: «فَكذَبَتْ»، و «صَدقَتْ» على إضمار «قَدْ»، لأنها تقرب الماضي من الحالِ، هذا إذا كان الماضي متصرِّفاص، فأما إذا كان جامداً، فلا يحتاجُ إلى «قَدْ» لا لفظاً، ولا تقديراً.
قوله: ﴿فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ﴾ : أي: فلمَّا رأى زوجها قميصه قُدّ من دُبُرٍ؛ عرف خيانة امرأته، وبراءة يوسف صلوات الله وسلامه عليه قال لها: «إنَّهُ»، هذا الصَّنِيعُ، أو قولك ﴿ما جزاء من أراد بأهلك سوءاً﴾ ﴿مِن كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ﴾ وقيل: هذا من قول الشاهد.
فإن قيل: إنه تعالى قال: ﴿وَخُلِقَ الإنسان ضَعِيفاً﴾ [الإنسان: ٢٨] فكيف وصف كيد المرأة بالعظيم، وأيضاً: فيكدُ الرِّجال قد يزيدُ على كيد النِّساءِ؟.
فالجواب عن الأوَّل: أن خلقة الإنسان بالنِّسبة إلى خلقة الملائكة، والسموات، والكواكب خلقة ضعيفة، وكيد النسوان بالنسبة إلى كيد البشر عظيمٌ؛ ولا منافاة بين القولين، وأيضاً: فالنِّساءُ لهُنَّ من هذا الباب من المكرِ، والحِيل، ما لا يكون للرجال؛ لأنَّ كيدهنَّ في هذا الباب، يورث من العار ما لا يورثه كيدُ الرَّجال.
ولما ظهر للقوم براءةٌ يوسف عن ذلك الفعل قال زوجها ليوسف: «أعْرِضٍ عَنْ هَذَا» الحديث، فلا تذكرة لأحدٍ حتى لا ينتشر، ولا يحصلُ العارُ العظيم وقيل: إنَّهُ من قول الشَّاهد. ثم قال للمرأة [ «واستغفري لِذنبكِ» إي: إلى الله ﴿إِنَّكِ كُنتِ مِنَ الخاطئين﴾ وقيل هذا من قول الشاهد] «واسْتَغفِري»، أي: اطلبي من زوجك المغفرة، والصَّفح؛ حتَّى لا يعاقبك.
75
قال أبو بكرٍ الأصمُّ: إنَّ ذلك الزوج كان قليل الغيرةِ، فاكتفى منها بالاستغفار وقيل: إنَّ الله تعالى عزَّ وجلَّ سلبه الغيرة لطفاً بيوسف، حتى كفى بادرته وحلم عنها.
قال الزمخشري: «وإنما قال: ﴿مِنَ الخاطئين﴾ ؛ تغليباً للذكور على الإناث» ويحتملُ أن يقال: إنك من قبيل الخاطئين، فمن ذلك القبيل جرى ذلك العرفُ فيك.
قال البغوي رَحِمَهُ اللَّهُ: تقديره: إنَّك من القوم الخاطئين، ولم يقصد به الخبر عن النِّساء؛ بل قصد الخبر عن كُلِّ من يعفعلُ ذلك؛ كقوله تعالى: ﴿وَكَانَتْ مِنَ القانتين﴾ [التحريم: ١٢]، وبيانه قوله: ﴿إِنَّهَا كَانَتْ مِن قَوْمٍ كَافِرِينَ﴾ [النمل: ٤٣].
قوله تعالى: «يُوسُفُ»، منادى محذوفٌ منه حرفُ النداءِ. قال الزمشخريُّ: «لأنه منادى قريب مقاطن للحديث، وفيه تقريبٌ له، وتلطيفٌ بمحله» انتهى.
وكُلُّ منادي يجوز حذف حرفُ النِّداء منه، إلا الجلالة المعظمة، واسم الجنس غالباً، والمستغاثَ، والمندوب، واسم الإشارة عند البصريين، وفي المضمر إذا نودِيَ.
والجمهورُ على ضمِّ فاءِ يوسف عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ؛ لكونه مفرداً معرفةً، وقرأ الأعمش بفتحها، وقيل لم تثبت هذه القراءة عنه، وعلى تقدير ثبوتها، فقال أبو البقاء: فيها وجهان:
أحدهما: أن يكون أخرجه على أصل المنادى؛ كما جاء في الشِّعر: [الخفيف]
٣٠٧٨ -..................... يَا عَدِيًّا لقَدْ وقَتْكَ الأوَاقِي
76
يريد بأصلِ المنادى: أنه مفعولٌ به، فحقه النصب؛ كالبيت الذي أنشده، واتفق أن يوسف لا ينصرف، ففتحته فتحةُ إعرابٍ.
والثاني، وجعله الأشبه: أن يكون وقف على الكلمة، ثم وصل، وأجرى الوصل مجرى الوقف؛ فألقى حركة الهمزة على الفاء، وحذفها؛ فصار اللفظ بها: «يُوسفَ أعْرض» ؛ وهذا كما حي: «اللهُ أكبرَ، أشْهَدَ ألاّ»، بالوصلِ والفتح في الجلالةِ وفي «أكْبر»، وفي أشْهد «؛ وذلك أنه قدَّر الوقف على كل كلمة من هذا الكلم، وألقى حركة الهمزة [من] كل من الكلمِ الثَّلاث، على السَّاكن قبله، وأجرى الوصل مجرى الوقف في ذلك.
والذي حكوه الناسُ، إنَّما هو في»
أكْبَر «خاصَّة؛ لأنَّها مظنة الوقف، وتقدم ذلك في سورة آل عمران [الآية: ١].
ورىء»
يُوسفُ أعْرضَ «بضمِّ الفاءِ، و» أعْرضَ «فعلاً ماضياً، وتخريجها أن يكون» يُوسفُ «مبتدأ، و» أعْرضَ «جلمة من فعلٍ وفاعلٍ خبره.
قال أبو البقاءِ:»
وفيه ضعفٌ؛ لقوله: «واسْتَغْفرِي»، وكان الأشبه أن يكون بالفاء: «فاسْتَغفِري».
77
قوله تعالى :﴿ وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لولاا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ ﴾ [ الآية : ٢٤ ] جواب " لولاَ ما تقدَّم عليها، وقوله :" وهَمَّ بِهَا " عند من يجيز تقديم جواب أدوات الشرط عليها، وإما محذوف لدلالة هذا عليه عند من لا يرى ذلك، وقد تقدَّم تقريرُ المذهبين مراراً، كقولهم :" أنْتَ ظَالمٌ إنْ فَعلْتَ "، أي : فعلت، فأنت ظالزٌ، ولا تقول : إن " أنت ظَالمٌ " هو الجوابُ، بل دلَّ عليه دليلٌ، وعلى هذا فالوقف عند قوله :" بُرْهَانَ ربِّه " والمعنى : لولا رُؤيته برهان ربه لهمَّ بها، لكنه امتنع همَّهُ بها لوجودِ رُؤية برهانِ ربِّه، فلم يحصل منه همِّ ألبتَّة، كقولك : لولا زيدٌ لأكرمتك، فالمعنى : إنَّ الإكرام ممتنعٌ لوجود زيد، وبهذا يتخلَّص من الإشكال الذي يورد، وهو : كيف يليقُ بنبي أن يهم بامرأة.
قال الزمخشري :" فإن قلت : قوله " وهمَّ بِهَا " داخل تحت القسم في قوله :" وَلقَدْ هَمَّتْ بِهِ " أم خارج عنه ؟. قلت : الأمران جائزان، و من حقِّ القارىء إذا قصد خروجه من حكم القسم، وجعله كلاماً برأسه أن يقف على قوله :" ولقَدْ هَمَّتْ بِهِ " يبتدىء قوله :﴿ وَهَمَّ بِهَا لولاا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ ﴾، وفيه أيضاً إشعارٌ بالفرقِ بين الهمَّينِ.
فإن قلت : لِمَ جعلت جواب " لَوْلاَ " محذوفاً يدلٌّ عليه :" هَمَّ بِهَا "، وهلاَّ جعلته هو الجواب مقدماً ؟.
قلت : لأن " لوْلاً " لا يتقدم عليها جو ابها من قبل أنَّه في حكم الشرطِ، وللشَّرطِ صدر الكلام، وهو وما في حيِّزهِ مم الجملتين، مثل كلمة واحدة، ولا يجوزُ تقديمُ بعض الكلمة على بعضٍ، وأما حذف بعضها إذا دلَّ عليه دليلٌ ؛ فهو جاءزٌ ".
فقوله :" وأما حذف بعضها. . . . إلخ " جواب عن سؤال مقدرٍ، وهو أنَّهُ إذا كان جواب الشَّرط مع الجملتين بمنزلة كلمةٍ ؛ فينبغي أن لا يحذف منهما شيء ؛ لأنَّ الكلمة لا يحذفُ منها شيء.
فأجاب بأنَّهُ يجوز إذا دلَّ دليل على ذلك، وهو كما قال، ثم قال : فإن قلتَ لمَ جعلتَ " لَوْلاَ " متعلقة ب " هَمَّ بِهَا " وحدة، ولم تجعلها متعلقة بجلمة وقله :﴿ وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا ﴾ ؛ لأن الهمَّ لا يتعلق بالجواهر، ولكن بالمعاني، ولا بد من تقدير المخالطةِ، والمخالطة لا تكون إلا من اثنين معاً، فكأنه قيل : همَّا بالمخالطة لولا أن منع مانعٌ أحدهما ؟
قلتُ : نعم ما قلت : ولكن الله سبحانه وتعالى قد جاء بالهمين على سبيل التفضيل حيث قال :﴿ وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا ﴾ اه.
والزجاج لم يرتض هذه المقالة، أي : كون قوله :" لَوْلاَ " متعلقة ب " هَمَّ بِهَا " فإنه قال : ولو كان الكلام " لَهمَّ بِهَا " لكان بعيداً، فيكف مع سُقوطِ الكلام ؟ [ يعني ] الزجاج أنه : لا جائز أن يكون " هَمَّ بِهَا " جواباً ل :" لَوْلاَ " ؛ لأنه لو كان جوابها لاقترن باللاَّمِ ؛ لأنه مُثبتٌ، وعلى تقدير أنَّهُ كان مقترناً باللاَّم كان يبعد من جهة أخرى، وهي تقديمُ الجواب عليها.
وجواب ما قاله الزجاجُ : ما تقدم عن الزمخشري من أن الجواب محذوفٌ مدلولٌ عليه بما تقدَّم.
وأما قوله :[ ولو كان ] الكلام :" ولهمَّ بِهَا " فغيرُ لازم ؛ لأنَّه متى كان جواب " لَوْ "، و " لَوْلاَ " مثبتاً جاز فيه الأمران : اللام وعدمها، وإن كان الإتيانُ اللاَّم هو الأكثر.
وتابع ابنُ عطيَّة في هذا المعنى فقال :" قول من قال : إنَّ الكلام قد تمَّ في قوله :" ولقَدْ هَمَّتْ بِهِ "، وأن جواب " لَوْلاَ " في قوله :" وهَمَّ بَهَا " ؛ وأنَّ المعنى : لولا أن رأى البرهان لهم بها، فلم يهمَّ يوسف عليه الصلاة والسلام قال : وهذا قولٌ يردُّه لسان العرب، وأقوال السَّلف ".
فقوله :" يردُّه لسانُ العرب " فليس كذلك ؛ لأنَّ وزن هذه الآية قوله :﴿ إِن كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لولاا أَن رَّبَطْنَا على قَلْبِهَا ﴾ [ القصص : ١٠ ] فقوله :﴿ إِن كَادَتْ ﴾ أمَّا أن تكون جواباً عند من يرى ذلك، وإمَّا أن يكون دالاً على الجواب، وليس فيه خروجٌ عن كلامِ العربِ، هذا ما ردَّ عليه أبو حيَّان.
وكأن ابن عطيَّة إنما يعني بالخروج عن لسان العرب تجرد الجواب من اللاَّم على تقدير جواز تقديمه، والغرض أن اللاَّم لم توجد.

فصل


الهمُّ هو المقاربةٌ من الفعل من غير دخولٍ فيه، فهَمُّهَا : عزمُها على المعصية، وأما همُّه : فرُوِيَ عن أبن عبَّاسٍ رضي الله عنهما أنه حلَّ الهميان، وجلس منها مجلسَ الخاتنِ.
وعن مجاهد رحمه الله أنَّه حلّ سراويله، وجعل يعالجُ ثيابه، وهذا قولُ سعيد بن جبير، والحسن، وأكثر المتقدمين رضي الله عنهم.
وقيل غير ذلك.
وقال أكثرُ المتأخِّرين : إنَّ هذا لا يليقُ بحال الأنبياء عليه الصلاة والسلام وقالوا : تم الكلام عند قوله :" ولقد همَّتْ بِهِ "، ابتدأ الخبر عن يوسف فقال :﴿ وَهَمَّ بِهَا لولاا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ ﴾ على التَّقديمِ، والتأخير، أي : لولا أنه رأى برهان ربِّه لهم بها، لكنه رأى البُرهان، فلم يهمّ.
قال البغويُّ :" وأنكره النُّحاة، وقالوا : إنَّ العربَ لا تُؤخِّرُ " لَوْلاَ " عن الفعلِ فلا يقولون : قُمْتُ لولا زيدٌ، وهي تريدُ : لولا زيدٌ لقُمْتُ ".
وذكر ابنُ الخطيبِ : عن الواحديِّ أنه قال في البسيطِ :" قال المفسِّرُون : هم يوسف أيضاً بالمرأة همَّا صحيحاً، وجلس منها مجلس الرجُل من المرأةِ فلمَّا رأى البُرهانَ من ربه ؛ زالت كلُّ شهوة عنه.
قال أبُو جعفرٍ الباقرُ بإسناده عن عليِّ كرَّم الله وجهه أنه قال : طمعت فيه، وطمع فيها ".
ثمَّ إنَّ الواحديَّ طول في كلمات عاريةٍ عن الفائدة في هذا الباب، ولم يذكر فيما احتج به حديثاً صحيحاً يعوَّل عليه في هذه المقالة، ورُويَ أنَّ يوسف عليه الصلاة والسلام لمَّا قال :﴿ ذلك لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بالغيب ﴾ [ يوسف : ٥٢ ] قال له جبريل عليه السلام : ولا جين هممت يَا يوسف فقال عند ذلك :" ومَا أبرِّىءُ نَفْسِي ".
وقال بعضُ العلماءِ رضي الله عنهم : الهمُّ همَّان :
همٌّ يخطرُ بالبالِ من غير أن يبرز إلى الفعل.
وهمٌّ يخطرُ بالبالِ، ويبرز إلى الفعل، فالأوَّلُ مغفورٌ، والثاني : غير مغفورٍ إلا أنْ يشاءَ اللهُ، ويشهدُ لذلك قوله تعالى :﴿ وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا ﴾، فهمُّه عليه الصلاة والسلام كان خُطُراً بالبال من غير أن يخرج إلى الفعلِ، وهمُّها خرج إلى الفعل بدليل أنَّها ﴿ وَغَلَّقَتِ الأبواب وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ ﴾ [ يوسف : ٢٣ ]، ﴿ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِن دُبُرٍ ﴾ [ يوسف : ٢٥ ].
ويشهد للثاني قوله عليه الصلاة والسلام " إذَا التَقَى المُسْلمَانِ بسيفَيْهِمَا فالقَاتِلُ والمقْتولُ في النَّار، فَقيلَ يا رسُول اللهِ هَذا القَاتِلُ فمَا بَالُ المَقْتُولِ ؟ قال : لأنَّه كَانَ حَرِيصاً عَلَى قَتْلِ صَاحِبهِ ".
قال ابن الخطيب : وقال المُحققُونَ من المُفسِّرين، والمتكلِّمين : إنَّ يُوسفَ عليه الصلاة والسلام ت كان بَرِيئاً من العملِ البَاطلِ، والهَمّ المُحرَّم، وبه نقولُ، وعنه نذبُّ، والدلائل الدَّالةُ على وُجوبِ عصمة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام مذكورة مقرّرة ونزيد هاهنا وجوههاً :
الأول : أن الزِّنا من منكرات الكبائرِ، الخيانةٌ في معرض الأمانةِ أيضاً من منكرات الذُّنوبِ وأيضاً : الصبيُّ إذا تربَّى في حجر الإنسان، وبقي مكفيَّ المؤنةِ، مصون العرضِ من أوَّلِ صباهُ إل زمان شبابه، وكما قوَّته، فإقدام هذا الصبي على إيصال أقبح أنواع الإساءة إلى ذلك المنعم المفضل من منكرات الأعمال، وإذا ثبت هذا فنقول : إن هذه المعصية إذا نسبوها إلى يوسف عليه الصلاة والسلام كانت موصوفة بجميع الجهالات، ومثلُ هذه المعصية إذا نسيت إلى أفسقِ خلقِ الله، وأبعدهم من كلِّ حسنٍ، لا ستنكف منه، فكيف يجوز إسنادهُ إلى الرَّسولِ المُؤيّد بالمعجزات الباهرة مع قوله تعالى :﴿ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السواء والفحشآء ﴾ وأيضاً فلا يليق بحكمة الله تعالى وذلك يدلُّ على أنَّ ما هيَّة السُّوء، ما هية الفحشاء مصروفةٌ عنه، والمعصية التي نسوها إليه أعظم أنواع السوء، والفحشاء، وأيضاً فلا يليق بحمة الله تعالى أن يحكي عن إنسان إقدامه على معصية، ثم يمدحه، ويثني عليه بأعظم المدائح والأثنية عقيب ما حكى عنه ذلك الذَّنب العظيم، فإنَّ مثاله ما إذا حكى السطان عن بعض عبيده أقبح الذنوب، وأفحش الأعمال، ثم يذكره بالمدح العظيم، والثناءِ البالغ عقيبه، فإنَّ ذلك متسنكرٌ جدًّا، فكذا هاهنا.
وأيضاًَ : فإن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام متى صدرت عنهم زلةٌ، أو هفوةٌ ؛ استعظموا ذلك، وأتبعوه بإظهار النَّدامةِ، والتوبة، والتَّواضع، ولو كان يوسف أقدم ههنا على هذه الكبيرة المنكرة، لكان من المحال أن لا يتبعها بالتَّوبةِ، والاستغفار، ولو أتى بالتَّوبةِ لحكى الله ذلك عنه كما في سائر المواضع، وحيثُ لم يقع شيءٌ من ذلك علمنا أنه ما صدر عنه في هذه الواقعة ذنب، ولا معصية.
وأيضاً : فكلُّ من كان له تعلق بهذه الواقعة، فقد شهد ببراءة يوسف عليه الصلاة والسلام عن المعصية، والذين لهم تعلق بهذه الواقعة : يوسف والمرأة وزوجها، والنسوة الشهود، ورب العالم، وإبليس.
فأمَّا يوسف صلوات الله وسلامه عليه فأدَّعى أنَّ الذنب للمرأة وقال :﴿ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَن نَّفْسِي ﴾ [ يوسف : ٢٦ ] و ﴿ قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ ﴾ [ يوسف : ٣٣ ] وأما المرأة، فاعترفت بذلك، وقالت للنسوة :﴿ وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ فَاسَتَعْصَمَ ﴾ [ يوسف : ٣٢ ] وقالت :﴿ الآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَاْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ ﴾ [ يوسف : ٥١ ] وأمَّا زوج المرأة فقوله :﴿ إِنَّهُ مِن كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هذا واستغفري لِذَنبِكِ ﴾ [ يوسف : ٢٨ ٢٩ ].
وأمَّا الشهود فقوله تعالى :﴿ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّنْ أَهْلِهَآ إِن كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن قُبُلٍ ﴾ [ يوسف : ٢٦ ].
وأمَّا شهادة الله تعالى : فقوله :﴿ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السواء والفحشآء إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا المخلصين ﴾ [ يوسف : ٢٤ ] فقد شهد الله تعالى في هذه الآية على طهارته أربع مرات.
أولها : قوله :﴿ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السواء ﴾.
وثانيها : قوله :﴿ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السواء والفحشآء ﴾.
والثالث : قوله :﴿ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا ﴾ مع أنه تعالى قال :﴿ وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا ﴾ [ الفرقان : ٦٣ ].
والرابع : قوله :" المُخْلصِينَ "، وفيه قراءتا، تارة باسم الفاعل، وأخرى بسام المفعول وهذا يدلُّ على أنَّ الله تعالى استخلصه لنفسه، وأصطفاه لحضرته، وعلى كل [ وجه ] فإنَّه أدلُّ الألفاظ على كونه منزهاً عمَّا أضافوه إليه.
وأما إقرار إبليس بطهارته فقوله :{ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْ
قوله تعالى :﴿ واستبقا الباب ﴾ [ الآية : ٢٥ ] " البَابَ " منصوبٌ إمَّا على إسقاطِ الخافض اتّساعاً، إذ أصلُ " اسْتبَقَ " أن يتعدَّى ب " إلى "، وإما على تضمين " اسْتَبقَ " معنى ابتدر، فينصب مفعولاً به. قوله تعالى :﴿ وَقَدَّتْ ﴾ يحتمل أن تكون الجملة نسقاً على " اسْتبقَا " أي : استبق، وقدت، ويحتمل أن يكون في محل نصب على الحال، أي : وقد قدَّت. والقدّ : الشَّقُّ مطلقاً، قال بعضهم : القدُّ : فيما كان يشقُّ طولاً القطُّ : فيما كان يشقُّ عَرْضاً.
قال ابن عطية " وقرأت فرقة : وقَطّ " قال أبو الفضل بنُ حربٍ : رأيت في مصحب " وقطَّ مِنْ دبُرٍ " أي : شقَّ.
قال يعقوب : القطُّ في الجلدِ الصحيح، والثوب الصحيح ؛ وقال الشاعر :[ الطويل ]
٣٠٧٧ تَقُدُّ السَّلُوقيَّ المُضاعفَ نَسْجهُ وتُوقِدُ بالصفَّاحِ نَارَ الحُباحِبِ

فصل


قال العلماء رضي الله عنهم وهذا الكلامْ من اختصار القرآن المعجز الذي يجتمع فيه المعاني، وذلك أنَّ يوسف عليه الصلاة والسلام لما رأى برهان ربِّه، خرج حينئذ هارباً، وتبعته المرأة فتعلقت بقميصه من خلفه، فجذبته إليها حتى لا يخرج " وقدَّتْ قَميصَهُ " [ أي ] : فشققته المرأة من دبر.
والاستباقُ : طلبُ السَّبْق، أي : يجتهدُ كلُّ واحدٍ منهما أن يسبق صاحبهُ فإن سبق يوسف فتح الباب، وخرج، وإن سبقت المرأةُ أمسكتِ الباب لئلا يخرج فسبقها يوسف عليه السلام إلى الباب، والمرأة تعدو خلفه، فلم تصلْ إلا إلى دبر القميص، فتعلقت به فقدته من خلفه، فلمَّا خرجا " ألْفَيَا "، أي : وجدا " سيِّدهَا "، وإنما لم يقل سيدهما ؛ لأنَّ يوسف عليه الصلاة والسلام لم يكن مملوكاً لذلك الرجل حقيقة " لَدى البابِ " أي : عند البابِ، والمرأة تقول لبعلها : سيِّدي.
فإن قيل : فالمرأةُ أيضاً ليست مملوكة لبعلها حقيقة.
فالجواب : أن الزَّوج لما ملك الانتفاع بالمرا’ من الوطء والخلوةِ، والمباشرةِ، والسفر بها من غير اختيارها أشبهت المملوكة، فلذلك حسن إطلاقُ السيِّد عليه.
قال القرطبيُّ :" والقبط يسمون الزوج سيداً، ويقال : ألفاه، وصادفهُ، وواله ووَالطَه، ولاطَهُ، وكلٌّ بمعنى واحدٍ ".
فعند ذلك، خافتِ المرأةُ من التُّهمِ، فبادرت إلى أن رمتْ يوسف عليه السلام بالعفلِ القبيح، ﴿ وقالت ما جزاء من أراد بأهلك سوءاً ﴾ يعنى الزِّنا، ثم خافت عليه أن يقتل فقالت :﴿ إلاَّ أن يُسجنَ ﴾، أي : يحبس، ﴿ أوْ عذابٌ أليمٌ ﴾ أي : يُعَاقبُ بالضَّربِ.
قوله :" مَا جزاءُ " يجوز في " مَا " هذه أن تكون نافية، وأن تكون استفهاميَّة، و " مَنْ " يجوز أن تكون موصولة، أو نكرة موصوفة.
قوله :" إلاَّ أن يُسْجنَ " خبر المبتدأ، ولما كان " أن يُسْجنَ " في قوَّة المصدر عطف عليه المصدر، وهو قوله :" أو عذابٌ ". و " أوْ " تحتملُ معانيها، وأظهرها التنويع.
وقرأ زيد بن علي :( أو عذاباً أليماً ] بالنصب، وخرَّجه الكسائي على إضمار فعل، أو أن يعذَّب عذباً أليماً.
قوله :" هِيَ " ولم يقل هذه، ولا تلك، لفرط استحايئه " وهو أدبٌ حسنٌ حيث أتى بلفظ الغيبة دون الحضور.

فصل


قال ابن الخطيب : في الآية لطائف :
إحداها : أن حُبَّها الشَّديد ليوسف، حملها على رعايةِ دقيقتين في هذا الموضع، وذلك لأنهَّا بدأت بذكر السِّجن، وأخرت ذكر العذاب ؛ لأنَّ المحبَّة لا تسعى في إيلام المحبوب، وأيضاً : لم تقل إنَّ يوسف يجب أن يقابل بهذين الأمرين، بل ذكرت ذلك ذكراً كليًّا صوناً للمحبوب عن الذِّكر بالشر وأيضاً قالت :" إلاَّ أنْ يُسْجنَ " والمرادُ أن يسجن يوماً، أو يومين، أو أقل على سبيل التخفيف، فأمَّا الحبسُ الدَّائمُ فإنَّه لا يعبِّر عنه بهذه العبارة، بل يقال : يجبُ أن يجعل من المسجونين، كما قال فرعون لموسى عليه الصلاة والسلام حين هدَّدُ ﴿ لَئِنِ اتخذت إلها غَيْرِي لأَجْعَلَنَّكَ مِنَ المسجونين ﴾ [ الشعراء : ٢٩ ] وأيضاً : لما شاهدت من يوسف أنه استعصم، مع أنه كان في عنفوان العمر، وكمال القوة، ونهاية الشهوة، وعظم اعتقادها في طهارته، ونزاهته، فاستحيتْ أن تقول : إنَّ يوسف قصدني بالسُّوءِ، ولم تجد من نفسها أن ترميهُ بالكذبِ، وهؤلاء نسبُوا إليه هذا الذَّنب القبيحَ.
وأيضاً : يوسف عليه الصلاة والسلام أراد أن يضربها، ويدفعها عن نفسه [ وكان ] ذلك بالنسبة إليها جارياً مجرى السُّوء، فقولها ﴿ ما جزاء من أراد بأهلك سوءاً ﴾ له ظاهر وباطن، باطنه أنَّها التي أرادت السُّوء، وظاهره دفعه لها ومنعها، فأرادت بقولها :﴿ ما جزاء من أراد بأهلك سوءاً ﴾ فعل نفسها بقلبها، أو في ظاهر الأمر، أو همت أنه قصدني بما لا ينبغي.
ولما لطَّخت عرض يوصف بهذا الكلام احتاج يوسف إلى إزالة هذه التهمة فقال :﴿ هي راودتني عن نفسي ﴾ واعلم أنَّ العلاماتِ الكثيرة دالةٌ على صدق يوسف :
منها : أنَّ يوسف عليه السلام في ظاهر الأمر كان عبداً لهم، والعبد لا يمكنه أن يتسلط على مولاه إلى هذه الحدّ.
ومنها : أنَّهم شاهدوا يوسف هارباً ليخرج، والطالبُ للمرأة لا يخرج من الدَّار على هذا الوجه.
ومنها : أنهم رأوا المرأة زينت نفسها على أكمل الوجوه، ويوسف لم يكن عليه أثر من آثار تزيين النَّفس.
ومنها : أنَّهم كانوا شاهدوا أحوال يوسف في المُدَّة الطَّويلة، فما رأوا عليه حالة تناسب إقدامه على مثل هذا الفعل المنكر.
ومنها : أنَّ المرأة ما نسبته إلى طلب الفاحشة على سبيل التصريح، بل ذكرت كلاماً مجملاً، وأما يوسف فإنَّه صرَّح بالأمر، ولو كان مطاوعاً لها، ما قدر على التَّصريح، فإنَّ الخائنَ خائفٌ.
وكلُّ هذه الوجوه مما يقوِّي غلبة الظن ببراءة يوسف في هذه المسألة، ثم إنَّه تعالى أظهر ليوسف دليلاً يقوي تلك الدَّلائل على براءته من الذَّنب، وأن المرأة هي المذنبة وهو قوله تعالى :﴿ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّنْ أَهْلِهَآ ﴾ فقوله :" مِنْ أهْلِهَا " صفة ل :" شَاهِدٌ "، وهو المسوغ لمجيء الفاعل من لفظ الفعل، إذْ لا يجوزُ قام القائم، ولا : قعد القاعدُ، لعدم الفائدةِ.
واختلفوا في ذلك الشَّاهد على ثلاثةِ أقوالٍ :
الأول : أنه كان ابن عمَّها، وكان رجلاً حكيماً، واتَّفق في ذلك الوقت أنَّهُ كان ممع زوجها، يريد أن يدخل عليها، وفقال الحكيمُ :﴿ إنْ كَانَ قَميصهُ قُدَّ مِنْ قُبلِ ﴾، فأت صادقة، والرَّجلُ كاذبٌ، ﴿ وإنْ كانَ قَمِيصهُ قُدَّ مِنْ دُبرٍ ﴾، فالرَّجلُ صادقٌ، وأنت كاذبة فلما نظرُوا إلى القميصِ رأوا الشقَّ من خلفه، قال ابن عمِّها :﴿ إِنَّهُ مِن كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ ﴾ [ اي : من عَملكن ] ثم قال ليوسف :" أعْرِضْ عَنْ هَذَا " أي اكتمهُ، وقال لها :﴿ واستغفري لِذَنبِكِ ﴾، وهذا قولُ السدي، وطائفة من المفسرين.
قال السُّهيلي : وهذا من باب الحكم بالأمارات، وله أصلٌ في الشَّرعِ، قال تعالى :﴿ وَجَآءُوا على قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ ﴾ [ يوسف : ١٨ ] حيثُ لا أثر لأنياب الذئب فيه، وقال تعالى :﴿ إِن كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الكَاذِبِينَ ﴾ وقال عليه الصلاة والسلام في الحدّ :" انْظرُوا فإنْ جَاءَتْ بِهِ أبْيضَ خَالياً فَهُو للَّذي رُمِيَتْ بِهِ ".
قال السهيلي : كان عامر بن الظرف العدوانيُّ لا يكون بين العرب ثائر إلا تحاكموا إليه فيرضون بما يقضي به، فتحاكموا إليه في ميراث خنثى بات ليلة ساهراً يرى ماذا يحم به ؟ فرأته جارية له ترعى، وكان اسمها سخيلة، فقالت له : ما لك، لا أبا لك اللَّيلة ساهِراً ؛ فذكر لها ما هو مفكر فيه، وقال : لعلها يكون عندها في ذلك شيء، فقالت له :" اتْبَع القضاء المَبال " فقال : فرجتها والله يا سخيلة، وحكم بذلك القول.
القول الثاني : منقولٌ عن ابن عبَّاسٍ، وسعيد بن جبيرٍ، والضحاك رضي الله عنهم أن ذلك الشَّاهد كان صبيًّا في المهد، أنطقه اللهُ.
قال ابن عبًّاس رضي الله عنه : تكلَّم في المهدِ ثلاثةُ صغارٍ : شاهدُ يوسف، وعيسى ابن مريم عليه السلام، وصاحبُ جريج الرَّاهب.
قال الجبائيُّ : القول الأول أولى لوجوه :
الأول : أنَّه سبحانه وتعالى لو أنطق الطفل بهذا الكلام، لكان مجرد قوله :" إنَّها كَاذبةٌ " كافياً، وبرهاناً قاطعاً ؛ لأنَّه من المعجزات العجيبة الباهرة والاستدلال بتمزيق القميص من قُبُل ومن دُبُرٍ دليل ظنيّ ضعيف، والعدول عن الحجَّة الواضحة القاطعة حال حصولها إلى الدلالة الظَّنية لا يجوزُ.
الثاني : أنه تبارك وتعالى قال :﴿ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّنْ أَهْلِهَآ ﴾ يشيرُ بذلك إلى أنَّ شهادة الشَّاهد على قريبه، أولى بالقبولِ من شهادته له ؛ لأن الظاهر من حال القريب أن يشهد لقريبه، لا أن يشهد عليه، وهذا التَّرجيحُ إنما يُصَارُ إليه إذا كانت دلالة الشَّهادة ظنية، وذلك إنَّما يكون في شهادة الرجل، ولو يكون هذا القول صادراً من الصَّبي الذي كان في المهد، لكان قوله حجَّة قاطعة، ولا يتفاوتُ الحال بين أن يكون من أهلها، وبين ألا يكون، وحينئذٍ لا يبقى لهذا القيد وجه.
الثالث : أن لفظ الشَّاهد لا يقعُ في العرف، إلا على من تقدَّمت معرفته بالواقعة، وإحاطته بها.
القول الثالث : أن هذا الشاهد هو القميص، قال مجاهد رضي الله عنه الشاهد :" قُدَّ قيمصه من دُبُر "، وهذا في غاية الضعف ؛ لأن القميص لا يوصف بهذا ولا ينسب إلى الأهل.
واعلم أنَّ القول الأول عليه إشكال، وذلك أنَّ العلامة المذكورة لا تدلُّ قطعاً على براءة يوسف من المعصية ؛ لأن من المحتملِ أنَّ الرجل قصد المرأة لطلب الزِّنا، والمرأة غضبت عليه، فهرب الرجل، فعدتِ المرأةُ خلف الرجل، وجذبته لقصد أن تضربه ضرباً وجيعاً، فعلى هذا الوجه يكون قدُّ القميص من دبرٍ، مع أنَّ المرأة تكون بريئة عن [ الذنب ] وأنَّ الرجل يكون مذنباً.
جوابه : أنَّا بيَّنا أنَّ علامات كذب المرأة كانت كثيرة بالغة مبلغ اليقين، فضمّ إليها هذه العلامة الأخرى، لا لأجل أن يُعوِّلُوا في الحكم عليها، بل لأجل أن يكون ذلك جارياً مجرى المقدمات، والمرجّحات.
قوله :" إنْ كَانَ. . . " هذه الجملة الشرطية، إما معمولةٌ لقولٍ مضمر تقديره :" فقال " إن كان عند البصريين، وإمَّا معمولة " لِشَهدِ " ؛ لأنه بمعنى القول عند الكوفيين. قوله " مِنْ دُبرٍ. . "، و " مِنْ قُبُلٍ. . . " قرأ العامَّة جميع ذلك بضمتين، والجر والتنوين، بمعنى : من خلف، من قدام، أي : من خلف القميص، وقدامه وقرأ الحسن، وأبو عمرو في رواية بتسكين لعين تخفيفاً، وهي لغة الحجاز، وأسد، وقرأ ابن يعمر، وابن أبي إسحاق [ والعطاردي والجارود بثلاث ضمات، وروي عن الجارود وابن أبي إسحاق وبن يعمر ] أيضاً بسكون العين وبنائها على الضم ووجه ضمهما : أنَّهم جعلوهما ك " قَبلُ، وبعْدُ " في بنائها على الضم عند قطعهما عن الإضافة، فجعلوهما غاية، ومعنى الغاية : أن يجعل المضاف غاية نفسه، بعد ما كان المضاف إليه غايته، والأصل إعرابهما ؛ لأنَّهما اسمان متمكنان، وليسا بظرفين.
قال أبو حاتم : وهذا رديءٌ في العربية، وإنما هذا البناء في الظروف.
وقال الزمخشري :" والمعنى : من قبل القميص، ومن دُبرهِ، وأما التنكيرُ فمعناه : من جهةٍ يقال لها قبلٌ، ومن جهة يقال لها دبرٌ " وعن ابن أبي إسحاق : أنَّهُ قرأ " مِنْ قُبْلَ "، و " مِنْ دُبْرَ " بالفتح كأنَّه جعلهما علمين للجهتين، فمنعهما الصرف للعملية، والتَّأنيث، وقد تقدم [ البقرة : ٢٣٥ ] الخلاف في " كان " الواقعة في حيز الشرط، هل تبقى على معناها من المضي، وإليه ذهب المبرِّدُ، أم تنقلب إلى الاستقبال كسائر الأفعالِ، وأنَّ المعنى على التَّبيينِ ؟.
قوله :" فَكذَبَتْ "، و " صَدقَتْ " على إضمار " قَدْ "، لأنها تقرب الماضي من الحالِ، هذا إذا كان الماضي متصرِّفاص، فأما إذا كان جامداً، فلا يحتاجُ إلى " قَدْ " لا لفظاً، ولا تقديراً.
قوله :﴿ فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ ﴾ : أي : فلمَّا رأى زوجها قميصه قُدّ من دُبُرٍ ؛ عرف خيانة امرأته، وبراءة يوسف صلوات الله وسلامه عليه قال لها :" إنَّهُ "، هذا الصَّنِيعُ، أو قولك ﴿ ما جزاء من أراد بأهلك سوءاً ﴾ ﴿ مِن كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ ﴾ وقيل : هذا من قول الشاهد.
فإن قيل : إنه تعالى قال :﴿ وَخُلِقَ الإنسان ضَعِيفاً ﴾ [ الإنسان : ٢٨ ] فكيف وصف كيد المرأة بالعظيم، وأيضاً : فيكدُ الرِّجال قد يزيدُ على كيد النِّساءِ ؟.
فالجواب عن الأوَّل : أن خلقة الإنسان بالنِّسبة إلى خلقة الملائكة، والسموات، والكواكب خلقة ضعيفة، وكيد النسوان بالنسبة إلى كيد البشر عظيمٌ ؛ ولا منافاة بين القولين، وأيضاً : فالنِّساءُ لهُنَّ من هذا الباب من المكرِ، والحِيل، ما لا يكون للرجال ؛ لأنَّ كيدهنَّ في هذا الباب، يورث من العار ما لا يورثه كيدُ الرَّجال.
ولما ظهر للقوم براءةٌ يوسف عن ذلك الفعل قال زوجها ليوسف :" أعْرِضٍ عَنْ هَذَا " الحديث، فلا تذكرة لأحدٍ حتى لا ينتشر، ولا يحصلُ العارُ العظيم وقيل : إنَّهُ من قول الشَّاهد. ثم قال للمرأة [ " واستغفري لِذنبكِ " إي : إلى الله ﴿ إِنَّكِ كُنتِ مِنَ الخاطئين ﴾ وقيل هذا من قول الشاهد ] " واسْتَغفِري "، أي : اطلبي من زوجك المغفرة، والصَّفح ؛ حتَّى لا يعاقبك.
قال أبو بكرٍ الأصمُّ : إنَّ ذلك الزوج كان قليل الغيرةِ، فاكتفى منها بالاستغفار وقيل : إنَّ الله تعالى عزَّ وجلَّ سلبه الغيرة لطفاً بيوسف، حتى كفى بادرته وحلم عنها.
قال الزمخشري :" وإنما قال :﴿ مِنَ الخاطئين ﴾ ؛ تغليباً للذكور على الإناث " ويحتملُ أن يقال : إنك من قبيل الخاطئين، فمن ذلك القبيل جرى ذلك العرفُ فيك.
قال البغوي رحمه الله : تقديره : إنَّك من القوم الخاطئين، ولم يقصد به الخبر عن النِّساء ؛ بل قصد الخبر عن كُلِّ من يعفعلُ ذلك ؛ كقوله تعالى :﴿ وَكَانَتْ مِنَ القانتين ﴾ [ التحريم : ١٢ ]، وبيانه قوله :﴿ إِنَّهَا كَانَتْ مِن قَوْمٍ كَافِرِينَ ﴾ [ النمل : ٤٣ ].
قوله تعالى :" يُوسُفُ "، منادى محذوفٌ منه حرفُ النداءِ. قال الزمشخريُّ :" لأنه منادى قريب مقاطن للحديث، وفيه تقريبٌ له، وتلطيفٌ بمحله " انتهى.
وكُلُّ منادي يجوز حذف حرفُ النِّداء منه، إلا الجلالة المعظمة، واسم الجنس غالباً، والمستغاثَ، والمندوب، واسم الإشارة عند البصريين، وفي المضمر إذا نودِيَ.
والجمهورُ على ضمِّ فاءِ يوسف عليه الصلاة والسلام ؛ لكونه مفرداً معرفةً، وقرأ الأعمش بفتحها، وقيل لم تثبت هذه القراءة عنه، وعلى تقدير ثبوتها، فقال أبو البقاء : فيها وجهان :
أحدهما : أن يكون أخرجه على أصل المنادى ؛ كما جاء في الشِّعر :[ الخفيف ]
٣٠٧٨. . . . . . . . . . . . . . . . . . يَا عَدِيًّا لقَدْ وقَتْكَ الأوَاقِي
يريد بأصلِ المنادى : أنه مفعولٌ به، فحقه النصب ؛ كالبيت الذي أنشده، واتفق أن يوسف لا ينصرف، ففتحته فتحةُ إعرابٍ.
والثاني، وجعله الأشبه : أن يكون وقف على الكلمة، ثم وصل، وأجرى الوصل مجرى الوقف ؛ فألقى حركة الهمزة على الفاء، وحذفها ؛ فصار اللفظ بها :" يُوسفَ أعْرض " ؛ وهذا كما حي :" اللهُ أكبرَ، أشْهَدَ ألاّ "، بالوصلِ والفتح في الجلالةِ وفي " أكْبر "، وفي أشْهد " ؛ وذلك أنه قدَّر الوقف على كل كلمة من هذا الكلم، وألقى حركة الهمزة [ من ] كل من الكلمِ الثَّلاث، على السَّاكن قبله، وأجرى الوصل مجرى الوقف في ذلك.
والذي حكوه الناسُ، إنَّما هو في " أكْبَر " خاصَّة ؛ لأنَّها مظنة الوقف، و تقدم ذلك في سورة آل عمران [ الآية : ١ ].
ورىء " يُوسفُ أعْرضَ " بضمِّ الفاءِ، و " أعْرضَ " فعلاً ماضياً، وتخريجها أن يكون " يُوسفُ " مبتدأ، و "
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٢٦:ولما لطَّخت عرض يوصف بهذا الكلام احتاج يوسف إلى إزالة هذه التهمة فقال :﴿ هي راودتني عن نفسي ﴾ واعلم أنَّ العلاماتِ الكثيرة دالةٌ على صدق يوسف :
منها : أنَّ يوسف عليه السلام في ظاهر الأمر كان عبداً لهم، والعبد لا يمكنه أن يتسلط على مولاه إلى هذه الحدّ.
ومنها : أنَّهم شاهدوا يوسف هارباً ليخرج، والطالبُ للمرأة لا يخرج من الدَّار على هذا الوجه.
ومنها : أنهم رأوا المرأة زينت نفسها على أكمل الوجوه، ويوسف لم يكن عليه أثر من آثار تزيين النَّفس.
ومنها : أنَّهم كانوا شاهدوا أحوال يوسف في المُدَّة الطَّويلة، فما رأوا عليه حالة تناسب إقدامه على مثل هذا الفعل المنكر.
ومنها : أنَّ المرأة ما نسبته إلى طلب الفاحشة على سبيل التصريح، بل ذكرت كلاماً مجملاً، وأما يوسف فإنَّه صرَّح بالأمر، ولو كان مطاوعاً لها، ما قدر على التَّصريح، فإنَّ الخائنَ خائفٌ.
وكلُّ هذه الوجوه مما يقوِّي غلبة الظن ببراءة يوسف في هذه المسألة، ثم إنَّه تعالى أظهر ليوسف دليلاً يقوي تلك الدَّلائل على براءته من الذَّنب، وأن المرأة هي المذنبة وهو قوله تعالى :﴿ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّنْ أَهْلِهَآ ﴾ فقوله :" مِنْ أهْلِهَا " صفة ل :" شَاهِدٌ "، وهو المسوغ لمجيء الفاعل من لفظ الفعل، إذْ لا يجوزُ قام القائم، ولا : قعد القاعدُ، لعدم الفائدةِ.
واختلفوا في ذلك الشَّاهد على ثلاثةِ أقوالٍ :
الأول : أنه كان ابن عمَّها، وكان رجلاً حكيماً، واتَّفق في ذلك الوقت أنَّهُ كان ممع زوجها، يريد أن يدخل عليها، وفقال الحكيمُ :﴿ إنْ كَانَ قَميصهُ قُدَّ مِنْ قُبلِ ﴾، فأت صادقة، والرَّجلُ كاذبٌ، ﴿ وإنْ كانَ قَمِيصهُ قُدَّ مِنْ دُبرٍ ﴾، فالرَّجلُ صادقٌ، وأنت كاذبة فلما نظرُوا إلى القميصِ رأوا الشقَّ من خلفه، قال ابن عمِّها :﴿ إِنَّهُ مِن كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ ﴾ [ اي : من عَملكن ] ثم قال ليوسف :" أعْرِضْ عَنْ هَذَا " أي اكتمهُ، وقال لها :﴿ واستغفري لِذَنبِكِ ﴾، وهذا قولُ السدي، وطائفة من المفسرين.
قال السُّهيلي : وهذا من باب الحكم بالأمارات، وله أصلٌ في الشَّرعِ، قال تعالى :﴿ وَجَآءُوا على قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ ﴾ [ يوسف : ١٨ ] حيثُ لا أثر لأنياب الذئب فيه، وقال تعالى :﴿ إِن كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الكَاذِبِينَ ﴾ وقال عليه الصلاة والسلام في الحدّ :" انْظرُوا فإنْ جَاءَتْ بِهِ أبْيضَ خَالياً فَهُو للَّذي رُمِيَتْ بِهِ ".
قال السهيلي : كان عامر بن الظرف العدوانيُّ لا يكون بين العرب ثائر إلا تحاكموا إليه فيرضون بما يقضي به، فتحاكموا إليه في ميراث خنثى بات ليلة ساهراً يرى ماذا يحم به ؟ فرأته جارية له ترعى، وكان اسمها سخيلة، فقالت له : ما لك، لا أبا لك اللَّيلة ساهِراً ؛ فذكر لها ما هو مفكر فيه، وقال : لعلها يكون عندها في ذلك شيء، فقالت له :" اتْبَع القضاء المَبال " فقال : فرجتها والله يا سخيلة، وحكم بذلك القول.
القول الثاني : منقولٌ عن ابن عبَّاسٍ، وسعيد بن جبيرٍ، والضحاك رضي الله عنهم أن ذلك الشَّاهد كان صبيًّا في المهد، أنطقه اللهُ.
قال ابن عبًّاس رضي الله عنه : تكلَّم في المهدِ ثلاثةُ صغارٍ : شاهدُ يوسف، وعيسى ابن مريم عليه السلام، وصاحبُ جريج الرَّاهب.
قال الجبائيُّ : القول الأول أولى لوجوه :
الأول : أنَّه سبحانه وتعالى لو أنطق الطفل بهذا الكلام، لكان مجرد قوله :" إنَّها كَاذبةٌ " كافياً، وبرهاناً قاطعاً ؛ لأنَّه من المعجزات العجيبة الباهرة والاستدلال بتمزيق القميص من قُبُل ومن دُبُرٍ دليل ظنيّ ضعيف، والعدول عن الحجَّة الواضحة القاطعة حال حصولها إلى الدلالة الظَّنية لا يجوزُ.
الثاني : أنه تبارك وتعالى قال :﴿ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّنْ أَهْلِهَآ ﴾ يشيرُ بذلك إلى أنَّ شهادة الشَّاهد على قريبه، أولى بالقبولِ من شهادته له ؛ لأن الظاهر من حال القريب أن يشهد لقريبه، لا أن يشهد عليه، وهذا التَّرجيحُ إنما يُصَارُ إليه إذا كانت دلالة الشَّهادة ظنية، وذلك إنَّما يكون في شهادة الرجل، ولو يكون هذا القول صادراً من الصَّبي الذي كان في المهد، لكان قوله حجَّة قاطعة، ولا يتفاوتُ الحال بين أن يكون من أهلها، وبين ألا يكون، وحينئذٍ لا يبقى لهذا القيد وجه.
الثالث : أن لفظ الشَّاهد لا يقعُ في العرف، إلا على من تقدَّمت معرفته بالواقعة، وإحاطته بها.
القول الثالث : أن هذا الشاهد هو القميص، قال مجاهد رضي الله عنه الشاهد :" قُدَّ قيمصه من دُبُر "، وهذا في غاية الضعف ؛ لأن القميص لا يوصف بهذا ولا ينسب إلى الأهل.
واعلم أنَّ القول الأول عليه إشكال، وذلك أنَّ العلامة المذكورة لا تدلُّ قطعاً على براءة يوسف من المعصية ؛ لأن من المحتملِ أنَّ الرجل قصد المرأة لطلب الزِّنا، والمرأة غضبت عليه، فهرب الرجل، فعدتِ المرأةُ خلف الرجل، وجذبته لقصد أن تضربه ضرباً وجيعاً، فعلى هذا الوجه يكون قدُّ القميص من دبرٍ، مع أنَّ المرأة تكون بريئة عن [ الذنب ] وأنَّ الرجل يكون مذنباً.
جوابه : أنَّا بيَّنا أنَّ علامات كذب المرأة كانت كثيرة بالغة مبلغ اليقين، فضمّ إليها هذه العلامة الأخرى، لا لأجل أن يُعوِّلُوا في الحكم عليها، بل لأجل أن يكون ذلك جارياً مجرى المقدمات، والمرجّحات.
قوله :" إنْ كَانَ... " هذه الجملة الشرطية، إما معمولةٌ لقولٍ مضمر تقديره :" فقال " إن كان عند البصريين، وإمَّا معمولة " لِشَهدِ " ؛ لأنه بمعنى القول عند الكوفيين. قوله " مِنْ دُبرٍ.. "، و " مِنْ قُبُلٍ... " قرأ العامَّة جميع ذلك بضمتين، والجر والتنوين، بمعنى : من خلف، من قدام، أي : من خلف القميص، وقدامه وقرأ الحسن، وأبو عمرو في رواية بتسكين لعين تخفيفاً، وهي لغة الحجاز، وأسد، وقرأ ابن يعمر، وابن أبي إسحاق [ والعطاردي والجارود بثلاث ضمات، وروي عن الجارود وابن أبي إسحاق وبن يعمر ] أيضاً بسكون العين وبنائها على الضم ووجه ضمهما : أنَّهم جعلوهما ك " قَبلُ، وبعْدُ " في بنائها على الضم عند قطعهما عن الإضافة، فجعلوهما غاية، ومعنى الغاية : أن يجعل المضاف غاية نفسه، بعد ما كان المضاف إليه غايته، والأصل إعرابهما ؛ لأنَّهما اسمان متمكنان، وليسا بظرفين.
قال أبو حاتم : وهذا رديءٌ في العربية، وإنما هذا البناء في الظروف.
وقال الزمخشري :" والمعنى : من قبل القميص، ومن دُبرهِ، وأما التنكيرُ فمعناه : من جهةٍ يقال لها قبلٌ، ومن جهة يقال لها دبرٌ " وعن ابن أبي إسحاق : أنَّهُ قرأ " مِنْ قُبْلَ "، و " مِنْ دُبْرَ " بالفتح كأنَّه جعلهما علمين للجهتين، فمنعهما الصرف للعملية، والتَّأنيث، وقد تقدم [ البقرة : ٢٣٥ ] الخلاف في " كان " الواقعة في حيز الشرط، هل تبقى على معناها من المضي، وإليه ذهب المبرِّدُ، أم تنقلب إلى الاستقبال كسائر الأفعالِ، وأنَّ المعنى على التَّبيينِ ؟.
قوله :" فَكذَبَتْ "، و " صَدقَتْ " على إضمار " قَدْ "، لأنها تقرب الماضي من الحالِ، هذا إذا كان الماضي متصرِّفاص، فأما إذا كان جامداً، فلا يحتاجُ إلى " قَدْ " لا لفظاً، ولا تقديراً.
قوله :﴿ فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ ﴾ : أي : فلمَّا رأى زوجها قميصه قُدّ من دُبُرٍ ؛ عرف خيانة امرأته، وبراءة يوسف صلوات الله وسلامه عليه قال لها :" إنَّهُ "، هذا الصَّنِيعُ، أو قولك ﴿ ما جزاء من أراد بأهلك سوءاً ﴾ ﴿ مِن كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ ﴾ وقيل : هذا من قول الشاهد.
فإن قيل : إنه تعالى قال :﴿ وَخُلِقَ الإنسان ضَعِيفاً ﴾ [ الإنسان : ٢٨ ] فكيف وصف كيد المرأة بالعظيم، وأيضاً : فيكدُ الرِّجال قد يزيدُ على كيد النِّساءِ ؟.
فالجواب عن الأوَّل : أن خلقة الإنسان بالنِّسبة إلى خلقة الملائكة، والسموات، والكواكب خلقة ضعيفة، وكيد النسوان بالنسبة إلى كيد البشر عظيمٌ ؛ ولا منافاة بين القولين، وأيضاً : فالنِّساءُ لهُنَّ من هذا الباب من المكرِ، والحِيل، ما لا يكون للرجال ؛ لأنَّ كيدهنَّ في هذا الباب، يورث من العار ما لا يورثه كيدُ الرَّجال.
ولما ظهر للقوم براءةٌ يوسف عن ذلك الفعل قال زوجها ليوسف :" أعْرِضٍ عَنْ هَذَا " الحديث، فلا تذكرة لأحدٍ حتى لا ينتشر، ولا يحصلُ العارُ العظيم وقيل : إنَّهُ من قول الشَّاهد. ثم قال للمرأة [ " واستغفري لِذنبكِ " إي : إلى الله ﴿ إِنَّكِ كُنتِ مِنَ الخاطئين ﴾ وقيل هذا من قول الشاهد ] " واسْتَغفِري "، أي : اطلبي من زوجك المغفرة، والصَّفح ؛ حتَّى لا يعاقبك.
قال أبو بكرٍ الأصمُّ : إنَّ ذلك الزوج كان قليل الغيرةِ، فاكتفى منها بالاستغفار وقيل : إنَّ الله تعالى عزَّ وجلَّ سلبه الغيرة لطفاً بيوسف، حتى كفى بادرته وحلم عنها.
قال الزمخشري :" وإنما قال :﴿ مِنَ الخاطئين ﴾ ؛ تغليباً للذكور على الإناث " ويحتملُ أن يقال : إنك من قبيل الخاطئين، فمن ذلك القبيل جرى ذلك العرفُ فيك.
قال البغوي رحمه الله : تقديره : إنَّك من القوم الخاطئين، ولم يقصد به الخبر عن النِّساء ؛ بل قصد الخبر عن كُلِّ من يعفعلُ ذلك ؛ كقوله تعالى :﴿ وَكَانَتْ مِنَ القانتين ﴾ [ التحريم : ١٢ ]، وبيانه قوله :﴿ إِنَّهَا كَانَتْ مِن قَوْمٍ كَافِرِينَ ﴾ [ النمل : ٤٣ ].
قوله تعالى :" يُوسُفُ "، منادى محذوفٌ منه حرفُ النداءِ. قال الزمشخريُّ :" لأنه منادى قريب مقاطن للحديث، وفيه تقريبٌ له، وتلطيفٌ بمحله " انتهى.
وكُلُّ منادي يجوز حذف حرفُ النِّداء منه، إلا الجلالة المعظمة، واسم الجنس غالباً، والمستغاثَ، والمندوب، واسم الإشارة عند البصريين، وفي المضمر إذا نودِيَ.
والجمهورُ على ضمِّ فاءِ يوسف عليه الصلاة والسلام ؛ لكونه مفرداً معرفةً، وقرأ الأعمش بفتحها، وقيل لم تثبت هذه القراءة عنه، وعلى تقدير ثبوتها، فقال أبو البقاء : فيها وجهان :
أحدهما : أن يكون أخرجه على أصل المنادى ؛ كما جاء في الشِّعر :[ الخفيف ]
٣٠٧٨.................. يَا عَدِيًّا لقَدْ وقَتْكَ الأوَاقِي
يريد بأصلِ المنادى : أنه مفعولٌ به، فحقه النصب ؛ كالبيت الذي أنشده، واتفق أن يوسف لا ينصرف، ففتحته فتحةُ إعرابٍ.
والثاني، وجعله الأشبه : أن يكون وقف على الكلمة، ثم وصل، وأجرى الوصل مجرى الوقف ؛ فألقى حركة الهمزة على الفاء، وحذفها ؛ فصار اللفظ بها :" يُوسفَ أعْرض " ؛ وهذا كما حي :" اللهُ أكبرَ، أشْهَدَ ألاّ "، بالوصلِ والفتح في الجلالةِ وفي " أكْبر "، وفي أشْهد " ؛ وذلك أنه قدَّر الوقف على كل كلمة من هذا الكلم، وألقى حركة الهمزة [ من ] كل من الكلمِ الثَّلاث، على السَّاكن قبله، وأجرى الوصل مجرى الوقف في ذلك.
والذي حكوه الناسُ، إنَّما هو في " أكْبَر " خاصَّة ؛ لأنَّها مظنة الوقف، و تقدم ذلك في سورة آل عمران [ الآية : ١ ].
ورىء " يُوسفُ أعْرضَ " بضمِّ الفاءِ، و " أعْرضَ " فعلاً ماضياً، وتخريجها أن يكون " يُوسفُ " مبتدأ، و "

ت٢٦
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٢٦:ولما لطَّخت عرض يوصف بهذا الكلام احتاج يوسف إلى إزالة هذه التهمة فقال :﴿ هي راودتني عن نفسي ﴾ واعلم أنَّ العلاماتِ الكثيرة دالةٌ على صدق يوسف :
منها : أنَّ يوسف عليه السلام في ظاهر الأمر كان عبداً لهم، والعبد لا يمكنه أن يتسلط على مولاه إلى هذه الحدّ.
ومنها : أنَّهم شاهدوا يوسف هارباً ليخرج، والطالبُ للمرأة لا يخرج من الدَّار على هذا الوجه.
ومنها : أنهم رأوا المرأة زينت نفسها على أكمل الوجوه، ويوسف لم يكن عليه أثر من آثار تزيين النَّفس.
ومنها : أنَّهم كانوا شاهدوا أحوال يوسف في المُدَّة الطَّويلة، فما رأوا عليه حالة تناسب إقدامه على مثل هذا الفعل المنكر.
ومنها : أنَّ المرأة ما نسبته إلى طلب الفاحشة على سبيل التصريح، بل ذكرت كلاماً مجملاً، وأما يوسف فإنَّه صرَّح بالأمر، ولو كان مطاوعاً لها، ما قدر على التَّصريح، فإنَّ الخائنَ خائفٌ.
وكلُّ هذه الوجوه مما يقوِّي غلبة الظن ببراءة يوسف في هذه المسألة، ثم إنَّه تعالى أظهر ليوسف دليلاً يقوي تلك الدَّلائل على براءته من الذَّنب، وأن المرأة هي المذنبة وهو قوله تعالى :﴿ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّنْ أَهْلِهَآ ﴾ فقوله :" مِنْ أهْلِهَا " صفة ل :" شَاهِدٌ "، وهو المسوغ لمجيء الفاعل من لفظ الفعل، إذْ لا يجوزُ قام القائم، ولا : قعد القاعدُ، لعدم الفائدةِ.
واختلفوا في ذلك الشَّاهد على ثلاثةِ أقوالٍ :
الأول : أنه كان ابن عمَّها، وكان رجلاً حكيماً، واتَّفق في ذلك الوقت أنَّهُ كان ممع زوجها، يريد أن يدخل عليها، وفقال الحكيمُ :﴿ إنْ كَانَ قَميصهُ قُدَّ مِنْ قُبلِ ﴾، فأت صادقة، والرَّجلُ كاذبٌ، ﴿ وإنْ كانَ قَمِيصهُ قُدَّ مِنْ دُبرٍ ﴾، فالرَّجلُ صادقٌ، وأنت كاذبة فلما نظرُوا إلى القميصِ رأوا الشقَّ من خلفه، قال ابن عمِّها :﴿ إِنَّهُ مِن كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ ﴾ [ اي : من عَملكن ] ثم قال ليوسف :" أعْرِضْ عَنْ هَذَا " أي اكتمهُ، وقال لها :﴿ واستغفري لِذَنبِكِ ﴾، وهذا قولُ السدي، وطائفة من المفسرين.
قال السُّهيلي : وهذا من باب الحكم بالأمارات، وله أصلٌ في الشَّرعِ، قال تعالى :﴿ وَجَآءُوا على قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ ﴾ [ يوسف : ١٨ ] حيثُ لا أثر لأنياب الذئب فيه، وقال تعالى :﴿ إِن كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الكَاذِبِينَ ﴾ وقال عليه الصلاة والسلام في الحدّ :" انْظرُوا فإنْ جَاءَتْ بِهِ أبْيضَ خَالياً فَهُو للَّذي رُمِيَتْ بِهِ ".
قال السهيلي : كان عامر بن الظرف العدوانيُّ لا يكون بين العرب ثائر إلا تحاكموا إليه فيرضون بما يقضي به، فتحاكموا إليه في ميراث خنثى بات ليلة ساهراً يرى ماذا يحم به ؟ فرأته جارية له ترعى، وكان اسمها سخيلة، فقالت له : ما لك، لا أبا لك اللَّيلة ساهِراً ؛ فذكر لها ما هو مفكر فيه، وقال : لعلها يكون عندها في ذلك شيء، فقالت له :" اتْبَع القضاء المَبال " فقال : فرجتها والله يا سخيلة، وحكم بذلك القول.
القول الثاني : منقولٌ عن ابن عبَّاسٍ، وسعيد بن جبيرٍ، والضحاك رضي الله عنهم أن ذلك الشَّاهد كان صبيًّا في المهد، أنطقه اللهُ.
قال ابن عبًّاس رضي الله عنه : تكلَّم في المهدِ ثلاثةُ صغارٍ : شاهدُ يوسف، وعيسى ابن مريم عليه السلام، وصاحبُ جريج الرَّاهب.
قال الجبائيُّ : القول الأول أولى لوجوه :
الأول : أنَّه سبحانه وتعالى لو أنطق الطفل بهذا الكلام، لكان مجرد قوله :" إنَّها كَاذبةٌ " كافياً، وبرهاناً قاطعاً ؛ لأنَّه من المعجزات العجيبة الباهرة والاستدلال بتمزيق القميص من قُبُل ومن دُبُرٍ دليل ظنيّ ضعيف، والعدول عن الحجَّة الواضحة القاطعة حال حصولها إلى الدلالة الظَّنية لا يجوزُ.
الثاني : أنه تبارك وتعالى قال :﴿ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّنْ أَهْلِهَآ ﴾ يشيرُ بذلك إلى أنَّ شهادة الشَّاهد على قريبه، أولى بالقبولِ من شهادته له ؛ لأن الظاهر من حال القريب أن يشهد لقريبه، لا أن يشهد عليه، وهذا التَّرجيحُ إنما يُصَارُ إليه إذا كانت دلالة الشَّهادة ظنية، وذلك إنَّما يكون في شهادة الرجل، ولو يكون هذا القول صادراً من الصَّبي الذي كان في المهد، لكان قوله حجَّة قاطعة، ولا يتفاوتُ الحال بين أن يكون من أهلها، وبين ألا يكون، وحينئذٍ لا يبقى لهذا القيد وجه.
الثالث : أن لفظ الشَّاهد لا يقعُ في العرف، إلا على من تقدَّمت معرفته بالواقعة، وإحاطته بها.
القول الثالث : أن هذا الشاهد هو القميص، قال مجاهد رضي الله عنه الشاهد :" قُدَّ قيمصه من دُبُر "، وهذا في غاية الضعف ؛ لأن القميص لا يوصف بهذا ولا ينسب إلى الأهل.
واعلم أنَّ القول الأول عليه إشكال، وذلك أنَّ العلامة المذكورة لا تدلُّ قطعاً على براءة يوسف من المعصية ؛ لأن من المحتملِ أنَّ الرجل قصد المرأة لطلب الزِّنا، والمرأة غضبت عليه، فهرب الرجل، فعدتِ المرأةُ خلف الرجل، وجذبته لقصد أن تضربه ضرباً وجيعاً، فعلى هذا الوجه يكون قدُّ القميص من دبرٍ، مع أنَّ المرأة تكون بريئة عن [ الذنب ] وأنَّ الرجل يكون مذنباً.
جوابه : أنَّا بيَّنا أنَّ علامات كذب المرأة كانت كثيرة بالغة مبلغ اليقين، فضمّ إليها هذه العلامة الأخرى، لا لأجل أن يُعوِّلُوا في الحكم عليها، بل لأجل أن يكون ذلك جارياً مجرى المقدمات، والمرجّحات.
قوله :" إنْ كَانَ... " هذه الجملة الشرطية، إما معمولةٌ لقولٍ مضمر تقديره :" فقال " إن كان عند البصريين، وإمَّا معمولة " لِشَهدِ " ؛ لأنه بمعنى القول عند الكوفيين. قوله " مِنْ دُبرٍ.. "، و " مِنْ قُبُلٍ... " قرأ العامَّة جميع ذلك بضمتين، والجر والتنوين، بمعنى : من خلف، من قدام، أي : من خلف القميص، وقدامه وقرأ الحسن، وأبو عمرو في رواية بتسكين لعين تخفيفاً، وهي لغة الحجاز، وأسد، وقرأ ابن يعمر، وابن أبي إسحاق [ والعطاردي والجارود بثلاث ضمات، وروي عن الجارود وابن أبي إسحاق وبن يعمر ] أيضاً بسكون العين وبنائها على الضم ووجه ضمهما : أنَّهم جعلوهما ك " قَبلُ، وبعْدُ " في بنائها على الضم عند قطعهما عن الإضافة، فجعلوهما غاية، ومعنى الغاية : أن يجعل المضاف غاية نفسه، بعد ما كان المضاف إليه غايته، والأصل إعرابهما ؛ لأنَّهما اسمان متمكنان، وليسا بظرفين.
قال أبو حاتم : وهذا رديءٌ في العربية، وإنما هذا البناء في الظروف.
وقال الزمخشري :" والمعنى : من قبل القميص، ومن دُبرهِ، وأما التنكيرُ فمعناه : من جهةٍ يقال لها قبلٌ، ومن جهة يقال لها دبرٌ " وعن ابن أبي إسحاق : أنَّهُ قرأ " مِنْ قُبْلَ "، و " مِنْ دُبْرَ " بالفتح كأنَّه جعلهما علمين للجهتين، فمنعهما الصرف للعملية، والتَّأنيث، وقد تقدم [ البقرة : ٢٣٥ ] الخلاف في " كان " الواقعة في حيز الشرط، هل تبقى على معناها من المضي، وإليه ذهب المبرِّدُ، أم تنقلب إلى الاستقبال كسائر الأفعالِ، وأنَّ المعنى على التَّبيينِ ؟.
قوله :" فَكذَبَتْ "، و " صَدقَتْ " على إضمار " قَدْ "، لأنها تقرب الماضي من الحالِ، هذا إذا كان الماضي متصرِّفاص، فأما إذا كان جامداً، فلا يحتاجُ إلى " قَدْ " لا لفظاً، ولا تقديراً.
قوله :﴿ فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ ﴾ : أي : فلمَّا رأى زوجها قميصه قُدّ من دُبُرٍ ؛ عرف خيانة امرأته، وبراءة يوسف صلوات الله وسلامه عليه قال لها :" إنَّهُ "، هذا الصَّنِيعُ، أو قولك ﴿ ما جزاء من أراد بأهلك سوءاً ﴾ ﴿ مِن كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ ﴾ وقيل : هذا من قول الشاهد.
فإن قيل : إنه تعالى قال :﴿ وَخُلِقَ الإنسان ضَعِيفاً ﴾ [ الإنسان : ٢٨ ] فكيف وصف كيد المرأة بالعظيم، وأيضاً : فيكدُ الرِّجال قد يزيدُ على كيد النِّساءِ ؟.
فالجواب عن الأوَّل : أن خلقة الإنسان بالنِّسبة إلى خلقة الملائكة، والسموات، والكواكب خلقة ضعيفة، وكيد النسوان بالنسبة إلى كيد البشر عظيمٌ ؛ ولا منافاة بين القولين، وأيضاً : فالنِّساءُ لهُنَّ من هذا الباب من المكرِ، والحِيل، ما لا يكون للرجال ؛ لأنَّ كيدهنَّ في هذا الباب، يورث من العار ما لا يورثه كيدُ الرَّجال.
ولما ظهر للقوم براءةٌ يوسف عن ذلك الفعل قال زوجها ليوسف :" أعْرِضٍ عَنْ هَذَا " الحديث، فلا تذكرة لأحدٍ حتى لا ينتشر، ولا يحصلُ العارُ العظيم وقيل : إنَّهُ من قول الشَّاهد. ثم قال للمرأة [ " واستغفري لِذنبكِ " إي : إلى الله ﴿ إِنَّكِ كُنتِ مِنَ الخاطئين ﴾ وقيل هذا من قول الشاهد ] " واسْتَغفِري "، أي : اطلبي من زوجك المغفرة، والصَّفح ؛ حتَّى لا يعاقبك.
قال أبو بكرٍ الأصمُّ : إنَّ ذلك الزوج كان قليل الغيرةِ، فاكتفى منها بالاستغفار وقيل : إنَّ الله تعالى عزَّ وجلَّ سلبه الغيرة لطفاً بيوسف، حتى كفى بادرته وحلم عنها.
قال الزمخشري :" وإنما قال :﴿ مِنَ الخاطئين ﴾ ؛ تغليباً للذكور على الإناث " ويحتملُ أن يقال : إنك من قبيل الخاطئين، فمن ذلك القبيل جرى ذلك العرفُ فيك.
قال البغوي رحمه الله : تقديره : إنَّك من القوم الخاطئين، ولم يقصد به الخبر عن النِّساء ؛ بل قصد الخبر عن كُلِّ من يعفعلُ ذلك ؛ كقوله تعالى :﴿ وَكَانَتْ مِنَ القانتين ﴾ [ التحريم : ١٢ ]، وبيانه قوله :﴿ إِنَّهَا كَانَتْ مِن قَوْمٍ كَافِرِينَ ﴾ [ النمل : ٤٣ ].
قوله تعالى :" يُوسُفُ "، منادى محذوفٌ منه حرفُ النداءِ. قال الزمشخريُّ :" لأنه منادى قريب مقاطن للحديث، وفيه تقريبٌ له، وتلطيفٌ بمحله " انتهى.
وكُلُّ منادي يجوز حذف حرفُ النِّداء منه، إلا الجلالة المعظمة، واسم الجنس غالباً، والمستغاثَ، والمندوب، واسم الإشارة عند البصريين، وفي المضمر إذا نودِيَ.
والجمهورُ على ضمِّ فاءِ يوسف عليه الصلاة والسلام ؛ لكونه مفرداً معرفةً، وقرأ الأعمش بفتحها، وقيل لم تثبت هذه القراءة عنه، وعلى تقدير ثبوتها، فقال أبو البقاء : فيها وجهان :
أحدهما : أن يكون أخرجه على أصل المنادى ؛ كما جاء في الشِّعر :[ الخفيف ]
٣٠٧٨.................. يَا عَدِيًّا لقَدْ وقَتْكَ الأوَاقِي
يريد بأصلِ المنادى : أنه مفعولٌ به، فحقه النصب ؛ كالبيت الذي أنشده، واتفق أن يوسف لا ينصرف، ففتحته فتحةُ إعرابٍ.
والثاني، وجعله الأشبه : أن يكون وقف على الكلمة، ثم وصل، وأجرى الوصل مجرى الوقف ؛ فألقى حركة الهمزة على الفاء، وحذفها ؛ فصار اللفظ بها :" يُوسفَ أعْرض " ؛ وهذا كما حي :" اللهُ أكبرَ، أشْهَدَ ألاّ "، بالوصلِ والفتح في الجلالةِ وفي " أكْبر "، وفي أشْهد " ؛ وذلك أنه قدَّر الوقف على كل كلمة من هذا الكلم، وألقى حركة الهمزة [ من ] كل من الكلمِ الثَّلاث، على السَّاكن قبله، وأجرى الوصل مجرى الوقف في ذلك.
والذي حكوه الناسُ، إنَّما هو في " أكْبَر " خاصَّة ؛ لأنَّها مظنة الوقف، و تقدم ذلك في سورة آل عمران [ الآية : ١ ].
ورىء " يُوسفُ أعْرضَ " بضمِّ الفاءِ، و " أعْرضَ " فعلاً ماضياً، وتخريجها أن يكون " يُوسفُ " مبتدأ، و "

قوله تعالى: ﴿وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي المدينة﴾ الآية، النسوة فيها أقوالٌ:
[أشهرها] : أنه جمعُ تكسير للقلَّة، على فعلة؛ كالصبية والغلمة، ونصَّ بعضهم على عدم أطَّرادها، وليس لها واحدٌ من لفظها.
الثاني: أنها اسمٌ مفردٌ، لجمع المرأة قاله الزمخشريُّ.
الثالث: أنَّها اسم جمعٍ؛ قاله أبو بكرٍ بنُ السَّراج رَحِمَهُ اللَّهُ، وكذلك أخواتها، كالصِّبيةِ، والفِتْيَةِ.
وقيل: على كُلِّ قولٍ، فتأنيثها غير حقيقي، باعتبارِ الجماعةِ؛ ولذلك لم يلحق فعلها تاء التأنيث.
77
وقال الواحديُّ: تقديمُ الفعل يدعُو إلى إسقاطِ علامِ التأنيثِ، على قياس إسقاط علامة التَّثنية، والجمع.
والمشهورُ: كسر نونها، ويجوز ضمُّها في لغةٍ، ونقلها أبو البقاءِ عن قراءة، قال القرطبي: وهي قراءة الأعمش، والمفضل والسلمي.
وإذا ضُمَّتْ نونه، كان اسم جمع بلا خلافٍ، ويكسَّرُ في الكثرة على نسوانٍ، والنساءُ: جمعٌ كثرةٍ أيضاً، ولا واحداَ لَهُ مِنْ لفظه، كذا قالهُ أبو حيَّان.
ومقتضى ذلك ألاَّ يكون النساءُ جمعاً لنسوةٍ؛ لقوله: لا واحِدَ له من لفظه.
و «فِي المَدينَةِ» يجوزُ تعلُّقه بمحذوفٍ، صفةٍ ل «نِسْوةٌ»، وهو ظاهرٌ، ويقال: ليس بظاهرٍ.

فصل في عدد النسوة


في: إنَّهن خمسُ: امرأة حاجب الملك، وامرأةُ صاحب دوابه، وامرأةُ الخازن، وامرأة السَّاقي، وامرأة صاحب السِّجن، قاله مقاتل.
وقال الكلبيُّ: أربعٌ؛ فأسقط امرأة الحاجب. والأشبه أنَّ تلك الواقعة شاعت في البلد، واشتهرت، وتحدث بها النساء، والمراد بالمدينة: مِصْرُ، وقيل: مدينة عَين شَمْسٍ.
قوله: «تُروادُِ» خبرُ «امْرأةُ العَزيزِ»، وجيءَ بالمضارع، تنبيهاً على أنَّ المراودة صارت سجيةً لها، ودَيْدناً، دون الماضي فلم يقلْ: رَاودتْ، ولامُ الفتى ياءٌ؛ لقولهم: الفتيان، وفتى، وعلى هذا؛ فقولهم: الفُتُوَّة في المصدر شاذٌّ.
قال: «فَتَاهَا»، وهو فتى زوجها؛ لأن يوسف كان عندهم في حكم المماليك، وكان ينفذُ أمرها فيه.
وروى مقاتلٌ، عن أبي عثمان النهدي، عن سلمان الفارسي رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قال: «إنَّ امرأة العزيز استوهبتْ يوسف من زوجها، فوهبهُ لها، وقال: ما تصنعين به؟ قالت: اتخذه ولداً، قال: هو لك؛ فربَّتُهُ حتى [أيفع]، وفي نفسها منه ما في نفسها، فكانت تتكشَّلإ له، وتتزيَّن، وتدعوه من وجه اللُّطفِ؛ فعصمه الله».
قوله: ﴿قَدْ شَغَفَهَا حُبّاً﴾، وهذه الجملة يجوز أن تكمون خبراً ثانياً، وأن تكون مستأنفة، وأن تكون حالاً؛ إمَّا من فاعل «تُرَاوِدُ»، وإمَّا من مفعوله، و «حُبًّا» تمييزٌ؛ وهو منقولٌ من الفاعليَّة، وإذ الأصل: قد شغفها حبُّه.
78
والعامةُ على «شَغَفَهَا» بالغين المعجمة المفتوحمةِ، بمعنى: خَرقَ شِغافَ قلبها، وهو مأخوذٌ من الشِّغاف، والشِّغاف: حجابُ القلب، جليدةٌ رقيقةٌ، وقيل: سويداءُ القلبِ.
فعلى الأول، يقال: شَغفتُ فلاناً، إذا أصبت شِغفافهُ؛ كما تقولُ: كبدتهُ إذا أصبتَ كبدَه، فمعنى: «شَغَفَهَا حُبّاً» أي: خرق الحبُّ الجلدَ؛ حتَّى أصاب القلب، أي: أنَّ حبَّه أحاط بقلبها، مثل إحاطةِ الشِّغاف بالقلبِ، ومعنى إحاطة ذلك الحبِّ بقلبها: هو أنَّ اشتغالها بحبه صار حجاباً بينها، وبين كلِّ ما سوى هذه المحبَّة، فلا يخطر ببالها سواه، وإن قلنا: إنَّ الشِّغافُ سويداء القلبِ، فالمعنى: أنَّ حبُّهُ وصل إلى سويداءِ قلبها.
وقيل: الشِّغافُ داء يصلُ إلى القلب مِنْ أجل الحبِّ، وقيل: جليدةٌ رقيقةٌ يقال لها: لسانُ القلبِن ليست محيطةً به.
ومعنى: «شَغَفَ قلبَهُ» أي: خرق حجابهُ، إذا أصابه؛ فأحرقه بحرارةِ الحبِّ، وهو من شغف البعير بالهِناءِ، إذا طلاهُ بالقطرانِ، فأحرقهُ. [والمشغوف من وصل الحب لقلبه] قال الأعشى: [البسيط]
٣٠٧٩ - يَعْصِي الوُشَاةَ وكَانَ الحُبُّ آونَةٌ مِمَّا يُزَّينُ للمَشْغُوفِ ما صَنَعَا
وقال النابغةُ الذبيانيُّ: [الطويل]
٣٠٨٠ - وقَدْ حَالَ هَمٌّ دُونَ ذلِكَ والِجٌ مَكَانَ الشِّغافِ تَبْتغيِهِ الأصَابعُِ
وقرأ ثابت البناني: بكسر الغين، وقيل: هي لغة تميم، وقرأ أمير المؤمنين عليُّ بن أبي طالب كرم الله وجهه، وعليُّ بن الحسين، وابنه محمدٌ، وابنه جعفر والشعبي، وقتادة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم بتفحِ العين المهملةِ.
وروي عن ثابت البناني، وأبي رجاء: كسر العين المهملة أيضاً، واختلف الناسُ في ذلك: فقيل: هو من شغف البعير، إذا هنأهُ، فأحرقه بالطقرانِ، قاله الزمخشريُّ؛ وأنشد: [الطويل]
٣٠٨١ -......................... كَمَا شَعَفَ المَهْنُوءةَ الرَّجلُ الطَّالِي
79
وهذا البيتُ لامرىء القيس: [الطويل]
٣٠٨٢ - أتَقْتُلنِي وقدْ شَعَفْتُ فُؤادهَا كَما شَعَفَ المَهْنُوءةَ الرَّجلُ الطَّالِي
والناسُ إنما يروونهُ بالمعجمة، ويسفرونه بأنه أصاب حبُّه شغاف قلبها، أي: أحرقَ حجابهُ، وهي جليدةٌ رقيقةٌ دونه، كما شغف، أي: كما أحرق، وأراد بالمَهْنُوءةِ: المطليَّة بالهناءِ، أي: القطران، ولا ينشدونه بالمهملة، وكشف أبو عبيدة عن هذا المعنى؛ فقال: «الشَّغف: إحراقُ الحُبِّ للقلب مع لذة يجدها؛ كما أنَّ البعير إذا طُلِيَ بالقطرانِ، بلغ منه مثل ذلك، ثم يَسْتَرْوحُ إليه».
وقال أبو البقاء رَحِمَهُ اللَّهُ لما حكى هذه القراءة: «مِن قولِكَ: فلانٌ مشغوفٌ بكذا، أي: مغرمٌ به».
وقال ابنُ الأنباريِّ: «الشَّغفُ: رُءوسُ الجبالِ، ومعنى شغف بفلانٍ: إذا ارتفع حبُّه إلى أعْلَى موضعٍ من قلبهِ».
وعلى هذه الأقوال فمعناهما متقاربٌ، وفرق بعضهم بينهمان فقال ابنُ زيدٍ: «الشَّغفُ يعني بالمعجمة في الحبِّ، والشعف: في البغضِ».
وقال الشعبيُّ: الشَّغَفُ، والمشغوفُ بالغينِ منقوطة في الحبِّ، والشَّعفُ: الجنونُ، والمَشْعُوفُ: المَجنْونُ «.
قوله: ﴿إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ﴾، أي: خطأ مبين ظاهر، وقيل: معناه: إنَّها تركت ما يكون عليه أمثالها من العفاف والستر.
»
فلَّما سَمِعَتْ «راعيلُ» بِمكْرهِنَّ «؛ بقولهنَّ، وسمى قولهنَّ مكراً؛ لوجوه:
الأول: أنَّ النسوة، إنما قلن ذلك؛ مكراً بها؛ لتُريهنَّ يوسف، كان يوصف لهن حسنهُ وجماله؛ لأنَّهن إذا قلن ذلك، عرضتْ يوسف عليهنَّ؛ ليتمهد عذرها عندهن.
الثاني: أنَّها أسرَّت إليهنَّ حبَّها ليوسف استكتمهُنَّ، فأفشين ذلك السرَّ؛ فلذلك سمَّاه مكراً.
الثالث: أنهن وقعن في الغيبة، والغيبة إنما تذكر على سبيل الخفيةِ، فأشبهت المكر.
﴿أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ﴾ : قال المفسرون: اتخذت مأدبة، ودعت جماعة من أكابرهن، «وأعْتدَتْ»
أي: أعدَّت «لهُنَّ مُتَّئاً».
80
قرأ العامة: «مُتَّكئاً» بضم الميم، وتشديد التاءِ، وفتح الكاف والهمز، وهو مفعولٌ به، ب «أعْتَدتْ» أي: هيَّأتْ، وأحضَرتْ.
والمُتَّكأ: الشيءُ الذي يتكأ عليه، من وسادةٍ ونحوها، والمُتَّكأ: مكان الاتِّكاءِ، وقيل: طعام يُجزُّ جزًّا.
قال ابن عباسٍ، وسعيد بن جبير، والحسن، وقتادة، ومجاهد رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم: «مُتَّكَئاً، أي: طعاماً، سمَّاه» مُتَّكَئاً «؛ لأنَّ أهل الطعامِ إذا جلسوا، يتكئُون على الوسائدِ، فسمى الطعامُ متكئاً؛ على الاستعارة».
وقيل: «مُتَّكئاً»، طعام يحتاج إلى أن يقطع بالسكِّين؛ لأنه إذا كان كذلك، احتاج الإنسانُ إلى أن يتكىء عليه عند القطع.
وقال القتبي: يقالُ: اتكأنا عند فلانٍ، أي أكلنا.
وقال الزمخشري: من قولك: اتكأنا عند فلانٍ، طعمنا على سبيل الكناية؛ لأنه من دعوتهُ ليطعمَ عندك اتخذت له تكأةً يتكىءُ عليها؛ قال جميلٌ: [الخفيف]
٣٠٨٣ - فَظَلِلْنَا بنِعْمَةٍ واتَّكأنَا وَشَرِبْنَا الحلالَ مِنْ قُلَلِهْ
فقوله: «وشَرِبْنَا» مرشحٌ لمعنى «اتَّكأنَا» : أكلنا.
وقرأ أبو جعفر، والزهريُّ رحمهما الله: «مُتَّكأً» مشددة التاء، دون همزٍ، وفيه وجهان:
أحدهما: أن يكون أصله: متكأ «كقراءة العامَّة، وإنما خفف همزُهُ؛ كقولهم:» تَوضَّيْتُ «في توضَّأتُ، فصار بوزن» مُتَّقى «.
والثاني: أن يكون»
مُفْتَعَلاً «من أوكيتُ القِربَة، إذا شدَدْتَ فَاهَا بالوكاءِ.
فالمعنى: أعْتدَتْ شيئاً يَشْتدِدْنَ عليه؛ إمَّا بالاتِّكاءِ، وإمَّا بالقطْعِ بالسكِّين، وهذا الثاني تخريجُ أبي الفتحِ.
وقرأ الحسن، وابن هرمز:»
مُتَّكاءً «بالتشديد والمد، وهي كقراءةِ العامة، إلاَّ أنه أشبع الفتحة؛ فتولد منها الألفُ؛ كقوله: [الوافر]
٣٠٨٤ -....................
81
ومِنْ ذمِّ الرِّجالَ بمُنْتزَاحِ
وقول الآخر: [الكامل]
٣٠٨٥ - يَنْبَاعُ مِنْ ذِفْرَى أسيلٍ جَسْرَةٍ...........................
وقوله: [الرجز]
٣٠٨٦ - أعُوذُ باللهِ من العَقرَابِ الشَّائِلاتِ عُقدَ الأذْنَابِ
بمعنى: بِمُنتزحٍ، وينبع، والعقرب الشَّائلة.
وقرأ ابن عباسٍ، وابن عمر، ومجاهدٌن وقتادة، والضحاك، الجحدري، وأبان بن تغلب رحمهم الله:» مُتْكاً «بضمِّ الميم، وسكون التاء، وتنوين الكافِ، وكذلك قرأ ابن هرمزٍ، وعبد الله، ومعاذ؛ إلاَّ أنهما فتحا الميم.
والمُتْكُ: بالضم والفتح: الأترجُ، ويقال: الأترنج، لغتان؛ وأنشدوا: [الوافر]
٣٠٨٧ - نَشْرَبُ الإثْمَ بالصُّواعِ جِهَارَا وتَرَى المُتْك بَيْنَنا مُسْتَعَارَا
قيل: هو من متك، بمعنى بَتَكَ الشيء، أي: قطعه، فعلى هذا يحتمل أن تكون الميم بدلاً من الباء، وهو بدلٌ مطردٌ في لغة قومٍ، ويحتمل أن تكون مادة أخرى وافقتم هذه.
وقيل: بالضمِّ: العسلُ الخالصُ عند الخليل، والأترجُّ عند الأصمعيِّ، ونقل أبو عمرو فيه اللغات الثلاث؛ أعني: ضمَّ الميم، وفتحها، وكسرها، قال: وهو الشرابُ الخالصُ.
وقال المفضلُ: هو بالضم: المائدة، أو الخمر، في لغة كندةن وقال ابن عباس: هو الأترجُّ بالحبشة، وقال الضحاك: الزَّمَاوْرَد، وقال عكرمةك كل شيء يقطع بالسكين.
82
وقوله: «لهُنَّ مُتَّكَئاً» إما أن يريد: كُلَّ واحدةٍ متكئاً؛ ويدلُّ له قوله: ﴿وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِّنْهُنَّ سِكِّيناً﴾، وإما أن يريد: الجِنْسَ.
والسِّكينُ: تذكرُ وتؤنث، قاله الكسائي: والفراء، وأنكر الأصمعي تأنثه، والسكِّينةُ: فعلية من السكون، قال الراغب: سُمي به لإزالة حركةِ المذبُوحِ بهِ، فقوله: «وأتتْ»، أي: أعطتْ ﴿كُلَّ وَاحِدَةٍ مِّنْهُنَّ سِكِّيناً﴾، إما لأجل الفواكه، أو لأجل قطع اللحم، ثم أمرت يوسف عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ بأن يخرج عليهن، وأنه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ ما قدر على مخالفتها؛ خوفاً منها.
﴿فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ﴾، الظاهرُ أنَّ الهاء ضميرُ يوسف، ومعنى «أكْبَرنَهُ» أعظمنهُ، ودهشن من حسنه، وقيل: هي هاءُ السكتِ؛ قال الزمخشري.
وقيل: «أكْبَرْنَ» بمعنى: حِضْنَ، والهاءُ للسَّكتِ؛ يقال: أكبرت المرأةُ: إذا حاضتْ، وحقيقته: دخلت في الكبرِح لأنها بالحيض تخرج عن حدَّ الصِّغر إلى الكبرِ؛ فإنَّ أبا الطَّيب رَحِمَهُ اللَّهُ أخذ من هذا التفسير قوله: [الطويل]
٣٠٨٩ - خَفِ الله واسْترْ ذَا الجَمالَ بِبُرقُعٍ فإنّْ لُحْتَ حاضتْ في الخُدورِ العَواتِق
وكون الهاء للسَّكتِ، يردُّه ضم الهاءِ، ولو كانت للسكتِ، لسكنتن وقد يقال: إنه أجراها مجرى هاء الضمير، وأجرى الوصل مجرى الوقف في إثباتها.
قال أبو حيَّان رَحِمَهُ اللَّهُ: «وإجماع القراء على ضم الهاء في الوصل، دليلٌ على أنها ليست هاء السَّكت، إذا لو كانت هاء السَّكت، فكان من أجرى الوصل مجرى الوقف لم يضمّ الهاء».
قال شهابُ الدِّين: «وهاءُ السَّكت قد تحرك بحركةِ هاء الضمير؛ إجراءً لها مجراها»، وقد تقدَّم تحقيقُ هذا في الأنعامِ، وقد قالوا ذلك في قول المتنبيّ أيضاً: [البسيط]
٣٠٩٠ - واحَرَّ قَلْبَاهُ مِمَّنْ قَلْبهُ شَبِمُ... قإنه رُوي بضم الهاء في «قَلْبَاهُ»، وجعلوها هاء السَّكتن ويمكن أن يكون «أكْبَرْنَ» بمعنى حضن، ولا تكون الهاء للسكت؛ بل تجعل ضميراً للمصدر المدلول عليه بفعله، أي: أكبرن الإكبار، وأنشدوا على أنَّ الإكبار بمعنى الحيضِ، قوله [البسيط]
83
قال الطبريُّ: البيت مصنوعٌ.

فصل في صفة يوسف الخلقية


روى أبو سعيد الخدريُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ:
«رَأيْتُ ليلةُ أسْرِيَ بِي إلى السَّماء يُوسفَ، كالقَمرِ ليْلةَ البَدْرِ».
وقال إسحاقُ بنُ أبي فروة: «كان يوسفُ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ إذا سَار في أزِقََّةِ مِصر يُرى تَلألُوء وجْههِ على الجُدرانِ، كمَا يُرَى نُورُ الشَّمس في الماءِ عَليْهَا».
وقال عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ في حديث الإسراء: «فَمَررْتُ بيُوسفَ فإذَا هُوَ قَدْ أعْطِي شَطْرَ الحُسنِ».
قال العلماءُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم: معناه أنه كان على النِّصفِ من حسن آدم صلوات الله وسلامه عليه.
قال أبو العالية: «هَالهُنّ أمره إنَّهُن من دهْشتهِنَّ، وحيْرتِهنَّ؛ قطَّعن أيْديهُنَّ، وهُنَّ يَحْسبنَ أنَّهن يقطِّعْنَ الأرتجَ، ولم يجدن الألَم؛ لشغلِ قلوبهنَّ بيوسف».
وقال مجاهدٌ: ما أحْسَسْنَ إلا بالدَّمِن وذلك كنايةٌ عن الجرحِ، لا أنَّهن ابنَّ أيديهنَّ، كما قال قتادة.
وقيل: إنهن لما دهشن، صارت المرأةُ منهن بحيثُ لا تميز نصاب السِّكين من حديدها؛ فكانت تأخذُ الجانب الحادِّ من تلك السكينة بكفِّها؛ فكان تحصل تلك الجراحةُ بكفها.
84
قال وهبٌ: ماتت جماعةٌ منهن.
قال ابن الخطيب: وعندي أنَّهُ يحتملُ وجهاً آخر، وهو أنهنَّ إنَّما أكبرنه؛ لأنَّهن رأين عليه نُور النبوَّة، وبهاء الرِّسالة وآثار الخضوع، والإنابة، وشاهدنَ منه معاني الهيْبَة، والسكينة، وهي عدمُ الالتفاتِ إلى المطعُومِ المنكُوحِ، وعدم الاعتدادِ بهنَّ، واقرانِ هذه الهيبة الإلهية، بذلك الجمال العظيم، فَتعجبن من تلك الحالةِ، فلا جرم أكبرنه، وعظمنهُ، ووقع الرُّعبُ والمهابة في قولبهن، وهذا عندي أولى.
فإن قيل: كيف يطابقُ على هذا التَّأويل قوله: «فَذلكُنَّ الَّذي لمتنَّني فيه» ؟ وكيف تصير هذه الحالة عذراً لها في قوَّة العشق، وإفراط المحبَّة؟.
قلت: تقرر أن المحبُوب متبوع، فكأنَّها قالت لهُنَّ: هذا الخلق العجيب انضمَّ إليه هذه السيرةُ الملكية الطَّاهرة المطهرة. فحسنه يوجب الحب الشَّديد، والسِّيرة الملكية توجب اليأسَ عن الوصول إليه، فلهذا وقعت في المحبَّة والحسرةِ، وهذا التأويل أحسنُ، ويؤيده قولهم: ﴿مَا هذا بَشَراً إِنْ هاذآ إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ﴾.
قوله: «حَاشَا للهِ» عدَّها النحويون من الأدواتِ المترددة بين الحرفية والفعلية، فإن جرَّت، فهي حرفٌ، وإن نصبت، فهي فعلٌ، هي من أدوات الاستثناء، ولم يعرف سيبويه فعليَّتها، وعرفها غيره، وحكوا عن العرب: «غَفَرَ اللهُ لِي، ولِمَنْ سَمِعَ دُعائِي، حَاشَا الشَّيطانَ، وابن أبي الأصْبَعِ» بالنصب، وأنشدوا: [الوافر]
٣٠٩١ - يَأتِي النِّساءَ على أطْهَارِهنَّ وَلاَك يَأتِي النِّساءً إذَا أكْبَرْنَ إكْبَارَا
٣٠٩٢ - حَشَا رَهْطَ النبيِّ فإنَّ مِنهُمْ بُحُوراً لا تُكدِّرُها الدِّلاءُ
بنصب «رَهْطَ»، و «حَشَا» لغة في «حَاشَا» كما سيأتي.
قال الزمخشري: «حَاشَى» كلمةٌ تفيد التنزيه، في باب الاستثناء، تقول: أساء القوم حَاشَى زَيدٍ، وقال: [الكامل]
٣٠٩٣ - حَاشَى أبِي ثَوْبَانَ إنَّ بهِ ضَنًّا عَنِ المَلْحَاةِ والشَّتْمِ
وهي حرفٌ من حروف الجرِّ؛ فوضعت موضع التنزيه، والبراءةٍ، فمعنى حاشا للهِ: براءة الله، وتنزيه الله، وهي قراءة ابن مسعودٍ.
85
قال أبو حيَّان: وما ذكر أنها تفيد التنزيه في باب الاستثناء، غير معروفٍ عند النحويين، لا فرق في قولك: قَامَ القومُ إلاَّ زيداًن وقَامَ القوْمُ حَاشَا زيْد ولمَّا مثل بقوله: أساء القوم حاشا زيد، وفهم من هذا التمثيل براءة زيدٍ من الإساءةِن جعل ذلك مستفاداً منها في كل موضعٍ، وأما ما أنشده من قوله: [الكامل]
حَاشَا إبِي ثَوْبانَ... البيت.
فهكذا ينشدهُ ابن عطيَّة، وأكثر النحاة، وهو بيتٌ ركَّبوا فيه صدر بيتٍ على عجز آخر من بيتين، وهما: [الكامل]
٣٠٩٤ - حَاشَى أبِي ثَوْبانَ إنَّ أبَا... ثَوْبانَ لَيْسَ بِبَكْمَةٍ فَدْمِ
عَمرو بنِ عَبْدِ اللهِ إنَّ بِهِ... ضنًّا عن المَلْحَاةِ والشَّتْمِ
قال شهابُ الدِّين: «قوله:» إنَّ المعنى الذي ذكره الزمخشريُّ لا يعرفه النحاة «ولم ينكروه؛ وإنما لم يذكروه في كتبهم؛ لأنَّ غالب: فَنِّهِمْ» صناعة الألفاظ دون المعاني، ولما ذكروا مع أدوات الاستنثاءِ «لَيْسَ»، و «لا يكُونُ» و «غَيْر»، لم يذكروا معانيها. إذ مرادهم مساواتها ل «إلاَّ» في الإخراج، وذلك لا يَمْنَع من زيادة معنى في تلك الأدوات «.
وزعم المبردُ، وغيره كابن عطيَّة: أنَّها تتعينُ فعليتها، إذا وقع بعدها حرف جرٍّ كالآية الكريمةن قالوا: لأن حرف الجرِّ لا يدخل على مثله إلا تأكيداً؛ كقوله: [الوافر]
٣٠٩٥ -......................... وَلا لِمَا بِهِمْ أبَداً دَواءُ
وقول الآخر: [الطويل]
٣٠٩٦ - فأصْبَحنَ لا يَسْألنَهُ عَن بِمَا بِهِ.........................
فيتعيَّن أن يكون فعلاً فاعله ضمير يوسف، أي: حَاشَى يوسف، و»
للهِ «جارٌّ ومجرورٌ، متعلق بالفعل قبله، واللام تفيد العلَّة، أي: حَاشَا يوسف أن يُقارِفَ ما رمته به؛ لطاعة الله، ولمكانه منه، أو لترفيع الله أن يرمى بما رمتهُ به، أي: جَانَبَ المعصية؟ لأجل الله.
وأجاب النَّاسُ عن ذلك: بأنَّ»
حَاشَا «في الآية الكريمة، ليست حرفاً ولا فعلاً وإنَّما هي اسم مصدر بدلٌ من اللفظِ بفعله؛ كأنه قيل: تنزيهاً للهِ، وبراءة له، وإنما لم ينون؛ مراعاة لأصله الذي نقل منه، وهو الحرف، ألا تراهم قالوا:» مِنْ عَنْ يَمِينه «فجعلوا»
86
عَنْ «اسماً، ولم يعربوه، وقالوا:» مِن عليه «فلم يثبتوا ألفه مع الضمر بل أبقوا» عَنْ «على بنائه، وقلبوا ألف» عَلى مع المضمر؛ مراعاة لأصلها، كذا أجاب الزمخشريُّ، وتابعه أبو حيَّان، ولم يَعزُ لهُ الجواب، وفيه نظرٌ؛ أما قوله: «مراعاة لأصله» فيقتضي أنه نقل من الحرفيَّة، إلى الاسمية، وليس ذلك إلاَّ في جانب الأعلام، يعني أنهم يُسمّون الشَّخص بالحرفِ، ولهم ذلك مذهبان: الإعرابُ، الحكايةٌ. أما أنهَم ينقلون الحرف إلى الاسم، أي: يجعلونه اسماً، فهذا غير معروف.
وأما استشهاده ب «عَنْ»، و «عَلَى» فلا يفيده ذلك؛ لأنَّ «عَنْ» حال كونها اسماً بنيت، لشبهها بالحرف في الوضع على حرفين، لا أنَّها باقيةٌ على بنائها، وأما قلب ألف «عَلَى» مع الضمير، فلا دلالة فيه؛ لأنَّا عهدنا ذلك، فيما هو ثابتُ الاسمية بالاتفاق كالذي، والأولى أن يقال: الذي يظهرُ في الجواب عن قراءة العامَّة، وأنها اسمٌ منصوبٌ كما تقدم، ويدلُّ عليه قراءة أبي السَّمال: «حَاشاً للهِ» منصوباً منوناً، ولكنهم أبدلوا التنوين ألفاً؛ كما يبدلونه في الوقف، ثم إنهم أجروا الوصل مجرى الوقف، كما فعلوا ذلك في مواضع كثيرةٍ، تقدم منها جلمةٌ، وسيأتي مثلها، إن شاء الله تعالى.
وقيل: في الجواب عن ذلك: بل بُنِيَتْ «حَاشَا» في حال اسميتها؛ لشبهها ب «حَاشَا» في ح الِ حرفيَّتها، لفظاً ومعنى، كما بُنيَتْ «عَنْ»، و «عَلَى» لما ذكرناه.
وقال بعضهم: إنَّ اللام زائدة، وهذا ضعيف جدًّا بابه الشِّعر.
واستدلَّ المبرد وأتباعه على فعليتها، بمجيء المضارع منها؛ قال النَّابغة الذبيانيُّ: [البسيط]
٣٠٩٧ - وَلا أرَى فَاعِلاً في النَّاسِ يُشْبِههُ وَلا أحَاشِى من الأقْوامِ من أحَدِ
قالوا: تصرف الكلمةِ من الماضي إلى المستقبل، دليلٌ على فعليتها، لا محالة.
وقد أجاب الجمهور عن ذلك: بأنَّ ذلك مأخوذٌ من لفظ الحرف؛ كما قالوا: سوَّفت بزيدٍ، ولو كيت له، أي: قلت له: سوف أفعل، وقلت له: لو كان، ولو كان، وهذا من ذلك، وهو محتملٌ.
وممن رجح جانب الفعلية، أبو علي الفارسي رَحِمَهُ اللَّهُ قال: «لا تَخْلُوا حَاشَى في قوله» حَاشَى للهِ «من أن يكون الحرف الجارُّ في الاستثناءِ، أو يكون فعلاً على فاعل، ولا يجوز أن يكون الحرف الجار؛ لأنه لا يدخل على مثله؛ ولأن الحروف لا يحذف
87
منها، إذا لم يكن فيها تضعيفٌ، فثبت أنه فاعلٌ من» الحَشَا «الذي يراد به الناحية.
والمعنى: أنه صار في حشا، أي: في ناحية، وفاعل»
حَاشَى «يوسف، والتقدير: بعد من هذا الأمر؛ لله، أي: لخوفهِ».
فقوله: «حرفُ الجرِّ لا يدخل على مثله» مُسلَّمٌ، ولكن ليس هو هنا حرفُ جرِّ، كما تقدم تقريره.
وقوله: «لا يحذفُ من الحرفِ إلا إذا كان مُضَعَّفاً»، ممنوعٌ، ويدل له قولهم: «مُذْ» في «مُنْذُ» إذا جُرَّ بها، فحذفوا عينها ولا تضعيف، قالوا: ويدلَّ على أنَّ أصلها: «منذ» بالنون، تصغيرها على «مُنَيْذ» وهذا مقررٌ في بابه.
وقرأ أبو عمرو وحده: «حَاشَا» بألفين الفٌ بعد الحاءِ، وألفٌ بعد الشين، في كلمتي هذه السورة وصلاً، ويحذفها وقفاً؛ اتباعاً للرسم، كما سيأتي، والباقون بحذف الألف الأخيرة؛ وصلاً، ووقفاً.
فأما قراءة أب عمرو، فإنه جاء فيها بالكلمةِ على أصلها، وأما الباقون: فإنهم ابتعوا في ذلك الرسم، ولما طال اللفظُ، حسن تخفيفه بالحذف، ولا سيَّما على قول من يدَّعي فعليتها، كالفارسيّ.
قال الفارسي: «وأما حذفُ الألف، فعلى: لمْ يَكُ، وَلا أدْرِ، وأصَابَ النَّاس جهدٌ، ولو تَرَ ما أهْلَ مَكَّة، وقوله: [الرجز]
٣٠٩٨ - وصَّانِي العَجَّاجُ فِيمَا وَصَّني... في شعر رُؤبة، يريد: لَمْ يكن، ولا أدْرِي، ولو ترى، ووصَّاني»
. وقال أبو عبيدة: رأيتها في الذي يقال له إنه الإمامُ مصحف عثمان رَضِيَ اللَّهُ عَنْه «حَاشَ لله» بغير ألف، والآخرى مثلها.
وحكى الكسائيُّ: أنه رآها في مصحف عبد الله، كذلك. قالوا: فعلى ما قال أبُوا عبيد، والكسائي: تُرجَّح هذه القراءةُ، ولأن عليها ستةٌ من السبعةِ.
ونقل الفراء: أن الإتمام لغةُ بعض العرب، والحذف لغة أهل الحجاز، قال: ومِنَ العرب من يقول «حَاشَى زَيْداً» أراد «حَشَى لزيدٍ»، فقد نقل الفراء: أنَّ اللغات الثلاثة مسموعةٌ ولكنَّ لغة أهل الحجازِ مُرجحةٌ عندهم.
88
وقرأ الأعمش، في طائفة «حِشَى للهِ» بحذف الألفين، وقد تقدم أنَّ الفراء حكاها لغة عن بعض العرب؛ وعليه قوله: [الوافر]
٣٠٩٩ - حَشَى رَهْطَ النَّبيِّ....................................
لبيت.
وقرأ أبي، وعبد الله: «حَاشَى اللهِ» بجر الجلالةِ، وفيها وجهان:
أحدهما: أن تكون اسماً مضافاً للجلالة، نحو سبحان الله، وهو اختيارُ الزمخشريِّ.
والثاني: أنه حرف استنثاءٍ، جر به ما بعده؛ وإليه ذهب الفارسيُّ.
وفي جعله: «حَاشَا» حرف جرِّ مُراداً به الاستثناء، نظرٌ، إذْ لم يتقدم في الكلام شيءٌ يستثنى منه الاسم المعظَّم، بخلاف: قام القومُ حَاشَا زيدٍ، واعلم أنَّ النحويين لما ذكروا هذا الحرف، جعلوه من المتردِّد بين الفعلية، والحرفية كما عند من أثبت فعليّته، وجعله في ذلك ك «خَلاَ» و «عَدَ»، وهذا عند من أثبت حرفيته، وكان ينبغي أن يذكروه من المتردد بين الاسمية، والفعلية، والحرفية، كما فعلوا ذلك في «عَلَى» فقالوا: يتكون حرف جرٍّ في «عَلْكَ»، واسماً في قوله: «مِنْ عَليْه»، وفعلاً في قوله: [الطويل]
٣١٠٠ - عَلاَ زَيْدُنَا يوْمَ النَّقَا...................................
وإن كان فيه نظرٌ، تلخيصه: أنَّ «عَلاَ» حال كونها فعلاً غيرُ «عَلَى»، حال كونها غير فعلٍ؛ بدليل أنَّ الألف الفعلية منقلبةٌ عن واوٍ، ويدخلها التصريفُ، والاشتقاقُ دون ذينك.
وقد يتعلق من ينتصر للفارسي بهذا، فيقول: لو كان «حَاشَا» في قراءة العامَّة اسماً، لذكر ذلك النحويون عند ترددها بين الحرفية، والفعلية، فلمَّا لم يذكروه، دلَّ على عدم اسميتها.
وقرأ الحسن: «حَاشْ» بسكون الشين، وصلاً ووقفاً، كأنه أجرى الوصل مجرى
89
الوقف، ونقل ابن عطية عن الحسن أنه قرأ: «حَاشَ الإله» قال محذوفاً من «حَاشَا» يعني أنه قرأ بحذف الألف الأخيرةِ، ويدلُّ لى ذلك، ما صرَّح به صاحبُ اللوامح، فإنه قال: «بحذف الألف» ثم قال: وهذا يدلُّ على أنه حرف جرٍّ، يجر به ما بعده. فأما الإله: فإنه فكَّه عن الإدغام، وهو مصدرٌ أقيم مقام المفعول، ومعناه: المبعودُ، وحذف الألف من «حَاشَ» ؛ للتخفيف.
قال أبو حيَّان: «وهذا الذي قاله ابن عطية، وصاحب اللوامح: من أنَّ الألف في» حَاشَا «في قراءة الحسنِ، محذوفةٌ، لا يتعيَّن إلاَّ أن ينقل عنه أنه يقف في هذه القراءة بسكون الشِّين، فإنه لم ينقل عنه في ذلك شيء، فاحتمل أن تكون الألف حذفت؛ لالتقاء الساكنين، والأصل: حاشا الإله، ثم نقل فحذف الهمزة، وحرَّك اللام بحركتها، ولم يعتدَّ بهذا التحريك؛ لأنه عارضٌ، كما تحذف في نحو» يخشى الإله «ولو اعتد بالحركة لم يحذف الألف».
قال شهابُ الدِّين رَحِمَهُ اللَّهُ: الظاهر أن الحسن يقف في هذه القراءة بسكون الشِّين، ويستأنس له، بأنه سكَّن الشين في الراوية الآخرى عنه، فلما جيء بشيءٍ محتمل، ينبغي أن يحمل على ما خرج به، وقول صاحب اللّوامح: وهذا يدلُّ على أنه حرف جرٍّ بجرُّ به ما بعده، لا يصحُّ؛ لما تقدم من أنَّه لو كان حرف جرٍّ، لكان مُستثنى به، ولم يتقدم ما يُسْتثنى منه بمجروره.
واعلم أنَّ اللام الداخلة على الجلالة، متعلقةٌ بمحذوفٍ على سبيل البيانِ، كهي في «سَقْياً لَكَ»، و «رَعْياً لزيد» عند الجمهور، وأما عند المبرد، والفارسي: فإنها متعلقةٌ بنفس «حَاشَى» ؛ لأنها فعلٌ صريحٌ، وقد تقدَّم أن بعضهم يرى زيادتها.
قال المفسِّرون: معنى قوله: «حَاشَى لله» أي: تنزَّه الله تعالى عن العجز، حيث قدر على خلق جميلٍ مثله، وقيلك معاذ الله أن يكون هذا بشراً.
قوله: «مَا هَذا بشراً» العامة على إعمال «ما» على اللغة الجازيَّة وهي اللغة الفُصْحَى، ولغة تميم الإهمالُ، وقد تقدَّم تخفيف هذا، أول البقرة [البقرة: ٨]، وما أنشده عليه من قوله: [الكامل]
٣١٠١ - وأنا النذيرُ بحَرَّةٍ مُسْودًّةٍ....................
البيتين.
ونقل ابن عطيَّة: أنه لم يقرأ أحدٌ إلاَّ بلغة الحجاز، وقال الزمخشري: ومن قرأ على
90
سليقته من بني تميمٍ، قرأ «بشرٌ» بالرفع، وهي قراءة ابن مسعودٍ.
فادعاءُ ابن عطية، أنه لم يقرأ به، غير مسلم. وقرأ العامة: «بَشَرا» بفتح الباءِ على أنها كلمةٌ واحدةٌ، ونصب ينزع حرفِ الخفض، أيّ: بِبشَرٍ.
وقرأ الحسن، وأبو الحويرث الحنفي: «بِشرَى» بكسر الباء، وهي باءُ جرَّ، دخلت على «شِرَى» فهما كلمتان، جارٌّ ومجرورٌ، وفيها تأويلات:
أحدهما: ما هذا بمُشْتَرَى، فوضع المصدر موضع المفعول به، ك «ضَرَبَ الأميرِ».
الثاني: ما هذا بمباع، فهو أيضاً مصدرٌ واقعٌ موقع المفعول به، إلاَّ أنَّ المعنى مختلفٌ.
الثالث: ما هذا بثمنٍ، يعنين أنه أرفعُ من أن يجري عليه شيءٌ من هذه الأشياء، وروى عبدُ الوارث، عن أبي عمرو كقراءة الحسن، وأبي الحويرث، إلاَّ أنه قرأ عنه إلا «مَلِك» بكسر اللام، واحد الملوكِ، نفو عنه ذُلَّ المماليك، وأثبتوا له عزَّ المُلوكِ، وذكر ابنُ عطية: كسْرَ اللام عن الحسنِ، وأبي الحُوَيْرث.
وقال أبو البقاءِ: وعلى هذا قُرىء «مَلِك» بكسر اللام، كأنه فهم أنَّ من قرأ بكسرِ الباءِ، وقرأ بكسرِ اللام أيضاً؛ للمناسبة بين المعنيين، ولم يذكر الزمخشريُّ هذه القراءة مع كسر الباء ألبتة؛ بل يفهم من كلامه أنَّه لم يطلْ عليها، فإنه قال: وقُرِىء ما هذا بِشِرَى أي: ما هو بعبدٍ مملوكِ لئيمٍ، «إنْ هَذَا إلاَّ ملكٌ كَريمٌ»، تقول: «هذا بِشرَى»، أي: حاصلٌ بِشرَى، بمعنى مُشْترَى، وتقولك هذا لك بِشرَى، أو بِكِرَى «والقراءةُ هي الأولى؛ لموافقتها المصحف، ومطابقة» بَشَر «ل» مَلِك «.
قوله»
لموافقتها المصحف «يعني أنَّ الرَّسم:» بَشَراً «بالألفِ، لا بالياءِ، ولو كان المعنى على» بُشْرَى «لرسم بالياءِ، وقوله:» ومُطابَقة بشراً الملك «، دليلٌ على أنه لم يطلع على كسرِ اللامِ، فضلاً عمن قرأ بكسرِ الباءِ.

فصل


في معنى قوله: ﴿مَا هذا بَشَراً إِنْ هاذآ إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ﴾ وجهان:
أشهرهما: أن المقصود منه إثباتُ الحسن العظيم له، قالوا: لأنه تعالى ركب في الطبائع أنَّ لا حيَّ أحسنُ من الملكِ، كما ركَّب فيها أنَّ لا حيَّ أقبحُ من الشَّيطان،
91
ولذلك قال في صفة شجرةٍ جهنَّم: ﴿طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشياطين﴾ [الصافات: ٦٥] وذلك لما تقرَّر في الطبائع، أنَّ أقبح الأشياءِ، هو الشيطانُ، فكذا هاهنا، تقرَّر في الطبائع أنَّ أحسن الأشياءِ، هو الملكُ، فلما أرادت النسوةُ المبالغة في وصفِ يوسف في الحسنِ، لا جرم شبَّهنهُ بالملك، وقلن:» إنْ هَذَا إلاَّ مَلكٌ كَرِيمٌ «على الله من الملائكة.
والوجه الثاني: قال ابنُ الخطيب: وهو الأقربُ عندي، أن المشهور عند الجمهور، أنَّ الملائكة مطهَّرون عن بواعثِ الشهوةِ، وحوادث الغضب، ونوازع الوهم، والخيال، فطعامهم توحيد الله، وشرابهم الثناءُ على الله، ثم إنَّ النسوة لما رأين يوسف، لم يلتفتْ إليهن، ورأين عليه هيبة النُّبوةِ، وهَيْبة الرسالةِ، وسيما الطَّهارة، قلن: ما رأينا فيه أثراً من الشَّهوة، ولا شيئاً من البشرية، ولا صفة من الإنسانيةِ، ودخل في الملائكة، فإن قالوا: فإن كان المرادُ ما ذكرتم، فكيف يتمهدُ عُذْرٌ المرأةِ عند النسوةِ؟ فالجواب قد سبق.

فصل فيمن احتج بالآية على أن الملك أفضل من البشر


احتج القائلون بأ الملك أفضلُ من البشر بهذه الآية فقالوا: لا شك أنهن إنما ذكرن هذا الكلام في مع رض تعظيم يوسف صلوات الله وسلامه عليه، فوجب أم يكون إ خراجه من البشرية، وإدخاله في الملكيِّة، سبباً لتعظيم شأنه، وإعلاء مرتبتة، وإنما يكون كذلك، إذا كان الملك أعلى حالاً من البشر.
ثم نقول: لا خلُوا إما أن يكون المقصودُ بيان كماله في الحسنِ الظاهر، أو بيان كمال حُسْنِ الباطنِ الذي هو الخلق الباطن، والأول باطلٌ لوجهين:
الأول: أنهن وصفنه بكونه كريماً؛ بحسب الأخلاق الباطنة، لا بحسب الخلقةِ الظاهرة.
والثاني: أنا نعلمُ بالضرورة أنَّ وجه الإنسان لا يشبه وجوه الملائكةِ ألبتة، وأما كونه بعيداً عن الشهوة، والغضب، معرضاً عن اللَّذات الجسمانية، مُتوجِّهاً إلى عبوديةِ الله، مستغرق القلبِ والرُّوحِ، فهو مشتركٌ فيه بين الإنسان الكاملِ، وبين الملائكةِ.
إذا ثبت هذا فنقول: تشبيه الإنسانِ بالملكِ، في الأمرِ الذي حصلت المشابهةُ فيه على سبيلِ الحقيقة، أولى من تشبيهه بالملك فيما لم تحصل فيه المشابهة ألبتة؛ فثبت أن تشبيه يوسف بالملك في هذه الآية، إنَّما وقع في الخُلق الباطن، لا في الصُّورة الظاهرةِ، وإذا كان كذلك، وجب أن يكون الملك أعلى حالاً من الإنسان في هذه الفضائل.
قوله: «فَذلِكُنَّ»
مبتدأ، والموصول خبره، أشارت إليه إشارة البعيد، وإن كان
92
حاضراً؛ تعظيماً له، ورفعاً منه لتُظهرَ عذرها في شغفها.
وجوَّز ابنُ عطية: «أن يكون» ذَلِكَ «إشارةٌ إلى حبِّ يوسف عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ والضمير في» فِيهِ «عائدٌ على الحبِّ، فيكون» ذَلِكَ «إشارةً إلى غَائبٍ على بابه».
يعنى بالغائب: البَعيِدَ، وإلا فالإشارةُ لا تكون إلاَّ لحاضرٍ مُطلقاً.
وقال ابن الأنباري: «أشارت بصيغةِ» ذَلِكَ «إلى يوسف بعد انصرافه من المجلسِ».
وقال الزمخشري: «إنَّ النسوة كُنَّ قلن: إنها عَشقَتْ عبْدَها الكنْعَانيَّ، فلمَّا رأينه، وفعن في تلك الدَّهشة، قالت: هذا الذي رأيتموهُ، هو العبد الكنعاني الذي لمُتُنَّنِي فيه، يعني: أنكَّن لم تصورنه بحقِّ صورتهن فلو حصلت في خيالكُنَّ صُرتهُ، لتركتن هذه الملامةً».
واعلم أنها لما أظهرت عذرها عند النسوة، في شدَّة محبَّتها له، كشف عن حقيقة الحال؛ فقالت: ﴿ولقَدْ رَاوَدتُهُ عَنْ نَفسِهِ فاسْتَعْصمَ﴾ وهذا تصريحٌ بأنه عليه الصلاة واسلام كان بريئاً من تلك التُّهمةِ.
وقال السديُّ: «فاسْتَعْصمَ» بعد حلِّ السَّراويل.
قال ابن الخطيب: «وما أدري ما الذي حمله على إلحاقِ هذه الزيادةِ الفَاسدةِ الباطلةِ بنص الكتاب؟! وذل أنَّها صرَّحتْ بما فعلت: ﴿ولقَدْ رَاوَدتُهُ عَنْ نَفسِهِ فاسْتَعْصمَ﴾ أي: فامتنع، وإنما صرَّحت به؛ لأنها علمت أنه لا ملامة عليها منهنَّ، وقد أصابهنَّ ما أصابهن، من رُؤيته.
قوله: «فاسْتَعْصمَ» في هذه السين وجهان:
أحدهما: أنها ليست على بابها من الطلب، بل «اسْتَفْعَل» هنا مبعنى «افْتَعَل» فاستعصم و «اعْتصَمَ» واحدٌ وقال الزمخشريُّ: «الاستعصام بناءُ للمبالغة يدلُّ على الامتناع البليغ، والتحفُّظ الشَّديد، كأنه في عصمةِ، وهو مجتهدٌ في الزيادة فيها، والاستزادة منها، ونحوه: اسْتمْسَكَ، واسْتوْسَعَ الفتقُ، واسْتجْمَعَ الرَّأيُ، واستفحل الخَطْبُ» فردّ السين إلى بابها من الطلبِ، وهو معنّى حسنٌ، ولذلك قال ابن عطية: «معناه طَلبَ العِصْمَةَ، واسْتمْسَكَ بها وعصاني» قال أبو حيان: ذكره التَّصريفيَّون في «اسْتَعْصَم» : أنه موافقٌ ل «اعتصم»، و «اسْتَفْعَلَ» فيه: موافق ل «افتعل» وهذا أجودُ من جعل «استعفل» فيه للطلبِ؛ لأن «اعْتَصَمَ» يدلُّ على اعتصامه، وطلبُ المعصمةِ لا يدلُّ على حصولها، وأما أنه بناءُ مبالغةٍ يدلُّ على الاجتهادِ في الاستزادة من العصمة، فلم
93
يذكر التصريفيون هذا المعنى ل «اسْتَفْعَلَ»، وأما «اسْتَمْسكَ، واسْتَجْمَعَ الرأي، واسْتوْسَعَ الفَتْقُ، ف» اسْتَفْعَل «فيه لموافقةِ» افْتَعَلَ «، والمعنى: امتسك، واتسع، واجتمع، وأما» اسْتَفْحَلَ الخَطْبُ «ف» فاستَفْعَلَ «فيه موافقة ل» تَفعَّل «أي: تفَحَّل الخطب نحو» استْتَكْبرَ وتَكبَّرَ «.
قوله:»
مَا آمُرُهُ «في» مَا «وجهان:
أحدهما: مصدريةٌ.
والثاني: أنها موصولةٌ، وهي مفعولٌ بها بقوله:»
يَفْعَل «، والهاءُ في» آمرُرُهُ «تحتمل وجهين:
أحدهما: العودُ على»
مَا «الموصولة، وإذا جعلناها بمعنى الذي.
الثاني: العودُ على يوسف.
ولم يجوِّز الزمخشريُّ عودها على يوسف إلا إذا جعلت»
ما «مصدرية، فإنه قال: فإنْ قلت: الضميرُ في:» مَا آمُرُهُ «راجعٌ إلى الموصول أم إلى يوسف؟ قلتُ: بل إلى الموصول، والمعنى: ما آمرُ به، فحذف الجار؛ كما في قوله: [البسيط]
٣١٠٢ - أمَرْتُكَ الخَيْرَ.......................................
ويجوز أن تجعل»
ما «مصدرية، فيعود على يوسف، ومعناه: ولئنْ لم يفعل أمري إيَّاه، أي: موجبُ أمري، ومُقْتَضَاهُ».
وعلى هذا، فالمفعولُ الأول محذوفٌ، تقديره: ما آمره به، وهو ضمير يوسف عليه السلام.
قوله: ﴿وَلَيَكُوناً﴾ قرأ العامة يتخفيف نون «وليَكُوناً»، ويقفون عليها بالألف؛ إجراءً لها مجرى التنوين، ولذلك يحذفونها بعد ضمةٍ، أو كسرةٍ، نحو: هل تقومون؛ وهل تقومين؟ في: هل تقومن؟ والنونُ الموجودة في الوقف، نونُ الرفع، رجعوا بها عند عدم ما يقتضي حذفها، وقد تقرر فيما تقدَّم أنَّ نون التوكيدِ تثقَّلن وتخفف، والوقفُ على قوله: «ليُسْجَنَنَّ» بالنُّونِ؛ لأنَّها مشددةٌ، على قوله: «وليَكُوناً» بالألف؛ لأنها مخففةٌ، وهي شبيهةٌ بنون الإعراب في الأسماءْ؛ كقولك: رأيتُ رجلاً، وإذا وقفت قلت: رجلا، بالألف، ومثله:
﴿لَنَسْفَعاً
بالناصية
[العلق: ١٥].
و «مِنَ الصَّاغرينَ» من الأذلاَّءِ، وقرأت فرقة بتشديدها وفيها مخالفةٌ لسوادِ المصحف؛ لكتبها فيه ألفاً؛ لأ، الوقف عليها كذلك؛ كقوله: [الطويل]
94
أي: فاعْبُدونْ، فأبدلها ألفاً، وهو أحدُ الأقوالِ في قول امرىء القيس: [الطويل]
٤١٠٤ - قِفَا نَبْكِ..............................
وأجرى الوصل مجرى الوقف.
95
" فلَّما سَمِعَتْ " راعيلُ " بِمكْرهِنَّ " ؛ بقولهنَّ، وسمى قولهنَّ مكراً ؛ لوجوه :
الأول : أنَّ النسوة، إنما قلن ذلك ؛ مكراً بها ؛ لتُريهنَّ يوسف، كان يوصف لهن حسنهُ وجماله ؛ لأنَّهن إذا قلن ذلك، عرضتْ يوسف عليهنَّ ؛ ليتمهد عذرها عندهن.
الثاني : أنَّها أسرَّت إليهنَّ حبَّها ليوسف استكتمهُنَّ، فأفشين ذلك السرَّ ؛ فلذلك سمَّاه مكراً.
الثالث : أنهن وقعن في الغيبة، والغيبة إنما تذكر على سبيل الخفيةِ، فأشبهت المكر.
﴿ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ ﴾ : قال المفسرون : اتخذت مأدبة، ودعت جماعة من أكابرهن، " وأعْتدَتْ " أي : أعدَّت " لهُنَّ مُتَّئاً ".
قرأ العامة :" مُتَّكئاً " بضم الميم، وتشديد التاءِ، وفتح الكاف والهمز، وهو مفعولٌ به، ب " أعْتَدتْ " أي : هيَّأتْ، وأحضَرتْ.
والمُتَّكأ : الشيءُ الذي يتكأ عليه، من وسادةٍ ونحوها، والمُتَّكأ : مكان الاتِّكاءِ، وقيل : طعام يُجزُّ جزًّا.
قال ابن عباسٍ، وسعيد بن جبير، والحسن، وقتادة، ومجاهد رضي الله عنهم :" مُتَّكَئاً، أي : طعاماً، سمَّاه " مُتَّكَئاً " ؛ لأنَّ أهل الطعامِ إذا جلسوا، يتكئُون على الوسائدِ، فسمى الطعامُ متكئاً ؛ على الاستعارة ".
وقيل :" مُتَّكئاً "، طعام يحتاج إلى أن يقطع بالسكِّين ؛ لأنه إذا كان كذلك، احتاج الإنسانُ إلى أن يتكىء عليه عند القطع.
وقال القتبي : يقالُ : اتكأنا عند فلانٍ، أي أكلنا.
وقال الزمخشري : من قولك : اتكأنا عند فلانٍ، طعمنا على سبيل الكناية ؛ لأنه من دعوتهُ ليطعمَ عندك اتخذت له تكأةً يتكىءُ عليها ؛ قال جميلٌ :[ الخفيف ]
٣٠٨٣ فَظَلِلْنَا بنِعْمَةٍ واتَّكأنَا *** وَشَرِبْنَا الحلالَ مِنْ قُلَلِهْ
فقوله :" وشَرِبْنَا " مرشحٌ لمعنى " اتَّكأنَا " : أكلنا.
وقرأ أبو جعفر، والزهريُّ رحمهما الله :" مُتَّكأً " مشددة التاء، دون همزٍ، وفيه وجهان :
أحدهما : أن يكون أصله : متكأ " كقراءة العامَّة، وإنما خفف همزُهُ ؛ كقولهم :" تَوضَّيْتُ " في توضَّأتُ، فصار بوزن " مُتَّقى ".
والثاني : أن يكون " مُفْتَعَلاً " من أوكيتُ القِربَة، إذا شدَدْتَ فَاهَا بالوكاءِ.
فالمعنى : أعْتدَتْ شيئاً يَشْتدِدْنَ عليه ؛ إمَّا بالاتِّكاءِ، وإمَّا بالقطْعِ بالسكِّين، وهذا الثاني تخريجُ أبي الفتحِ.
وقرأ الحسن، وابن هرمز :" مُتَّكاءً " بالتشديد والمد، وهي كقراءةِ العامة، إلاَّ أنه أشبع الفتحة ؛ فتولد منها الألفُ ؛ كقوله :[ الوافر ]
٣٠٨٤. . . . . . . . . . . . . . . . . *** ومِنْ ذمِّ الرِّجالَ بمُنْتزَاحِ
وقول الآخر :[ الكامل ]
٣٠٨٥ يَنْبَاعُ مِنْ ذِفْرَى أسيلٍ جَسْرَةٍ ***. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وقوله :[ الرجز ]
٣٠٨٦ أعُوذُ باللهِ من العَقرَابِ *** الشَّائِلاتِ عُقدَ الأذْنَابِ
بمعنى : بِمُنتزحٍ، وينبع، والعقرب الشَّائلة.
وقرأ ابن عباسٍ، وابن عمر، ومجاهدٌن وقتادة، والضحاك، الجحدري، وأبان بن تغلب رحمهم الله :" مُتْكاً " بضمِّ الميم، وسكون التاء، وتنوين الكافِ، وكذلك قرأ ابن هرمزٍ، وعبدالله، ومعاذ ؛ إلاَّ أنهما فتحا الميم.
والمُتْكُ : بالضم والفتح : الأترجُ، ويقال : الأترنج، لغتان ؛ وأنشدوا :[ الوافر ]
٣٠٨٧ نَشْرَبُ الإثْمَ بالصُّواعِ جِهَارَا *** وتَرَى المُتْك بَيْنَنا مُسْتَعَارَا
قيل : هو من متك، بمعنى بَتَكَ الشيء، أي : قطعه، فعلى هذا يحتمل أن تكون الميم بدلاً من الباء، وهو بدلٌ مطردٌ في لغة قومٍ، ويحتمل أن تكون مادة أخرى وافقتم هذه.
وقيل : بالضمِّ : العسلُ الخالصُ عند الخليل، والأترجُّ عند الأصمعيِّ، ونقل أبو عمرو فيه اللغات الثلاث ؛ أعني : ضمَّ الميم، وفتحها، وكسرها، قال : وهو الشرابُ الخالصُ.
وقال المفضلُ : هو بالضم : المائدة، أو الخمر، في لغة كندةن وقال ابن عباس : هو الأترجُّ بالحبشة، وقال الضحاك : الزَّمَاوْرَد، وقال عكرمةك كل شيء يقطع بالسكين.
وقوله :" لهُنَّ مُتَّكَئاً " إما أن يريد : كُلَّ واحدةٍ متكئاً ؛ ويدلُّ له قوله :﴿ وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِّنْهُنَّ سِكِّيناً ﴾، وإما أن يريد : الجِنْسَ.
والسِّكينُ : تذكرُ وتؤنث، قاله الكسائي : والفراء، وأنكر الأصمعي تأنثه، والسكِّينةُ : فعلية من السكون، قال الراغب : سُمي به لإزالة حركةِ المذبُوحِ بهِ، فقوله :" وأتتْ "، أي : أعطتْ ﴿ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِّنْهُنَّ سِكِّيناً ﴾، إما لأجل الفواكه، أو لأجل قطع اللحم، ثم أمرت يوسف عليه الصلاة والسلام بأن يخرج عليهن، وأنه عليه الصلاة والسلام ما قدر على مخالفتها ؛ خوفاً منها.
﴿ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ ﴾، الظاهرُ أنَّ الهاء ضميرُ يوسف، ومعنى " أكْبَرنَهُ " أعظمنهُ، ودهشن من حسنه، وقيل : هي هاءُ السكتِ ؛ قال الزمخشري.
وقيل :" أكْبَرْنَ " بمعنى : حِضْنَ، والهاءُ للسَّكتِ ؛ يقال : أكبرت المرأةُ : إذا حاضتْ، وحقيقته : دخلت في الكبرِح لأنها بالحيض تخرج عن حدَّ الصِّغر إلى الكبرِ ؛ فإنَّ أبا الطَّيب رحمه الله أخذ من هذا التفسير قوله :[ الطويل ]
٣٠٨٩ خَفِ الله واسْترْ ذَا الجَمالَ بِبُرقُعٍ *** فإنّْ لُحْتَ حاضتْ في الخُدورِ العَواتِق
وكون الهاء للسَّكتِ، يردُّه ضم الهاءِ، ولو كانت للسكتِ، لسكنتن وقد يقال : إنه أجراها مجرى هاء الضمير، وأجرى الوصل مجرى الوقف في إثباتها.
قال أبو حيَّان رحمه الله :" وإجماع القراء على ضم الهاء في الوصل، دليلٌ على أنها ليست هاء السَّكت، إذا لو كانت هاء السَّكت، فكان من أجرى الوصل مجرى الوقف لم يضمّ الهاء ".
قال شهابُ الدِّين :" وهاءُ السَّكت قد تحرك بحركةِ هاء الضمير ؛ إجراءً لها مجراها "، وقد تقدَّم تحقيقُ هذا في الأنعامِ، وقد قالوا ذلك في قول المتنبيّ أيضاً :[ البسيط ]
٣٠٩٠ واحَرَّ قَلْبَاهُ مِمَّنْ قَلْبهُ شَبِمُ *** قإنه رُوي بضم الهاء في " قَلْبَاهُ "، وجعلوها هاء السَّكتن ويمكن أن يكون " أكْبَرْنَ " بمعنى حضن، ولا تكون الهاء للسكت ؛ بل تجعل ضميراً للمصدر المدلول عليه بفعله، أي : أكبرن الإكبار، وأنشدوا على أنَّ الإكبار بمعنى الحيضِ، قوله [ البسيط ]
٣٠٩١ يَأتِي النِّساءَ على أطْهَارِهنَّ وَلاَك *** يَأتِي النِّساءً إذَا أكْبَرْنَ إكْبَارَا
قال الطبريُّ : البيت مصنوعٌ.

فصل في صفة يوسف الخلقية


روى أبو سعيد الخدريُّ رضي الله عنه : قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
" رَأيْتُ ليلةُ أسْرِيَ بِي إلى السَّماء يُوسفَ، كالقَمرِ ليْلةَ البَدْرِ ".
وقال إسحاقُ بنُ أبي فروة :" كان يوسفُ عليه الصلاة والسلام إذا سَار في أزِقََّةِ مِصر يُرى تَلألُوء وجْههِ على الجُدرانِ، كمَا يُرَى نُورُ الشَّمس في الماءِ عَليْهَا ".
وقال عليه الصلاة والسلام في حديث الإسراء :" فَمَررْتُ بيُوسفَ فإذَا هُوَ قَدْ أعْطِي شَطْرَ الحُسنِ ".
قال العلماءُ رضي الله عنهم : معناه أنه كان على النِّصفِ من حسن آدم صلوات الله وسلامه عليه.
قال أبو العالية :" هَالهُنّ أمره إنَّهُن من دهْشتهِنَّ، وحيْرتِهنَّ ؛ قطَّعن أيْديهُنَّ، وهُنَّ يَحْسبنَ أنَّهن يقطِّعْنَ الأرتجَ، ولم يجدن الألَم ؛ لشغلِ قلوبهنَّ بيوسف ".
وقال مجاهدٌ : ما أحْسَسْنَ إلا بالدَّمِن وذلك كنايةٌ عن الجرحِ، لا أنَّهن ابنَّ أيديهنَّ، كما قال قتادة.
وقيل : إنهن لما دهشن، صارت المرأةُ منهن بحيثُ لا تميز نصاب السِّكين من حديدها ؛ فكانت تأخذُ الجانب الحادِّ من تلك السكينة بكفِّها ؛ فكان تحصل تلك الجراحةُ بكفها.
قال وهبٌ : ما تت جماعةٌ منهن.
قال ابن الخطيب : وعندي أنَّهُ يحتملُ وجهاً آخر، وهو أنهنَّ إنَّما أكبرنه ؛ لأنَّهن رأين عليه نُور النبوَّة، وبهاء الرِّسالة وآثار الخضوع، والإنابة، وشاهدنَ منه معاني الهيْبَة، والسكينة، وهي عدمُ الالتفاتِ إلى المطعُومِ المنكُوحِ، وعدم الاعتدادِ بهنَّ، واقرانِ هذه الهيبة الإلهية، بذلك الجمال العظيم، فَتعجبن من تلك الحالةِ، فلا جرم أكبرنه، وعظمنهُ، ووقع الرُّعبُ والمهابة في قولبهن، وهذا عندي أولى.
فإن قيل : كيف يطابقُ على هذا التَّأويل قوله :" فَذلكُنَّ الَّذي لمتنَّني فيه " ؟ وكيف تصير هذه الحالة عذراً لها في قوَّة العشق، وإفراط المحبَّة ؟.
قلت : تقرر أن المحبُوب متبوع، فكأنَّها قالت لهُنَّ : هذا الخلق العجيب انضمَّ إليه هذه السيرةُ الملكية الطَّاهرة المطهرة. فحسنه يوجب الحب الشَّديد، والسِّيرة الملكية توجب اليأسَ عن الوصول إليه، فلهذا وقعت في المحبَّة والحسرةِ، وهذا التأويل أحسنُ، ويؤيده قولهم :﴿ مَا هذا بَشَراً إِنْ هاذآ إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ ﴾.
قوله :" حَاشَا للهِ " عدَّها النحويون من الأدواتِ المترددة بين الحرفية والفعلية، فإن جرَّت، فهي حرفٌ، وإن نصبت، فهي فعلٌ، هي من أدوات الاستثناء، ولم يعرف سيبويه فعليَّتها، وعرفها غيره، وحكوا عن العرب :" غَفَرَ اللهُ لِي، ولِمَنْ سَمِعَ دُعائِي، حَاشَا الشَّيطانَ، وابن أبي الأصْبَعِ " بالنصب، وأنشدوا :[ الوافر ]
٣٠٩٢ حَشَا رَهْطَ النبيِّ فإنَّ مِنهُمْ *** بُحُوراً لا تُكدِّرُها الدِّلاءُ
بنصب " رَهْطَ "، و " حَشَا " لغة في " حَاشَا " كما سيأتي.
قال الزمخشري :" حَاشَى " كلمةٌ تفيد التنزيه، في باب الاستثناء، تقول : أساء القوم حَاشَى زَيدٍ، وقال :[ الكامل ]
٣٠٩٣ حَاشَى أبِي ثَوْبَانَ إنَّ بهِ *** ضَنًّا عَنِ المَلْحَاةِ والشَّتْمِ
وهي حرفٌ من حروف الجرِّ ؛ فوضعت موضع التنزيه، والبراءةٍ، فمعنى حاشا للهِ : براءة الله، وتنزيه الله، وهي قراءة ابن مسعودٍ.
قال أبو حيَّان : وما ذكر أنها تفيد التنزيه في باب الاستثناء، غير معروفٍ عند النحويين، لا فرق في قولك : قَامَ القومُ إلاَّ زيداًن وقَامَ القوْمُ حَاشَا زيْد ولمَّا مثل بقوله : أساء القوم حاشا زيد، وفهم من هذا التمثيل براءة زيدٍ من الإساءةِن جعل ذلك مستفاداً منها في كل موضعٍ، وأما ما أنشده من قوله :[ الكامل ]
حَاشَا إبِي ثَوْبانَ *** البيت.
فهكذا ينشدهُ ابن عطيَّة، وأكثر النحاة، وهو بيتٌ ركَّبوا فيه صدر بيتٍ على عجز آخر من بيتين، وهما :[ الكامل ]
٣٠٩٤ حَاشَى أبِي ثَوْبانَ إنَّ أبَا *** ثَوْبانَ لَيْسَ بِبَكْمَةٍ فَدْمِ
عَمرو بنِ عَبْدِ اللهِ إنَّ بِهِ *** ضنًّا عن المَلْحَاةِ والشَّتْمِ
قال شهابُ الدِّين :" قوله :" إنَّ المعنى الذي ذكره الزمخشريُّ لا يعرفه النحاة " ولم ينكروه ؛ وإنما لم يذكروه في كتبهم ؛ لأنَّ غالب : فَنِّهِمْ " صناعة الألفاظ دون المعاني، ولما ذكروا مع أدوات الاستنثاءِ " لَيْسَ "، و " لا يكُونُ " و " غَيْر "، لم يذكروا معانيها. إذ مرادهم مساواتها ل " إلاَّ " في الإخراج، وذلك لا يَمْنَع من زيادة معنى في تلك الأدوات ".
وزعم المبردُ، وغيره كابن عطيَّة : أنَّها تتعينُ فعليتها، إذا وقع بعدها حرف جرٍّ كالآ
قوله :" فَذلِكُنَّ " مبتدأ، والموصول خبره، أشارت إليه إشارة البعيد، وإن كان حاضراً ؛ تعظيماً له، ورفعاً منه لتُظهرَ عذرها في شغفها.
وجوَّز ابنُ عطية :" أن يكون " ذَلِكَ " إشارةٌ إلى حبِّ يوسف عليه الصلاة والسلام والضمير في " فِيهِ " عائدٌ على الحبِّ، فيكون " ذَلِكَ " إشارةً إلى غَائبٍ على بابه ".
يعنى بالغائب : البَعيِدَ، وإلا فالإشارةُ لا تكون إلاَّ لحاضرٍ مُطلقاً.
وقال ابن الأنباري :" أشارت بصيغةِ " ذَلِكَ " إلى يوسف بعد انصرافه من المجلسِ ".
وقال الزمخشري :" إنَّ النسوة كُنَّ قلن : إنها عَشقَتْ عبْدَها الكنْعَانيَّ، فلمَّا رأينه، وفعن في تلك الدَّهشة، قالت : هذا الذي رأيتموهُ، هو العبد الكنعاني الذي لمُتُنَّنِي فيه، يعني : أنكَّن لم تصورنه بحقِّ صورتهن فلو حصلت في خيالكُنَّ صُرتهُ، لتركتن هذه الملامةً ".
واعلم أنها لما أظهرت عذرها عند النسوة، في شدَّة محبَّتها له، كشف عن حقيقة الحال ؛ فقالت :﴿ ولقَدْ رَاوَدتُهُ عَنْ نَفسِهِ فاسْتَعْصمَ ﴾ وهذا تصريحٌ بأنه عليه الصلاة واسلام كان بريئاً من تلك التُّهمةِ.
وقال السديُّ :" فاسْتَعْصمَ " بعد حلِّ السَّراويل.
قال ابن الخطيب :" وما أدري ما الذي حمله على إلحاقِ هذه الزيادةِ الفَاسدةِ الباطلةِ بنص الكتاب ؟ ! وذل أنَّها صرَّحتْ بما فعلت :﴿ ولقَدْ رَاوَدتُهُ عَنْ نَفسِهِ فاسْتَعْصمَ ﴾ أي : فامتنع، وإنما صرَّحت به ؛ لأنها علمت أنه لا ملامة عليها منهنَّ، وقد أصابهنَّ ما أصابهن، من رُؤيته.
قوله :" فاسْتَعْصمَ " في هذه السين وجهان :
أحدهما : أنها ليست على بابها من الطلب، بل " اسْتَفْعَل " هنا مبعنى " افْتَعَل " فاستعصم و " اعْتصَمَ " واحدٌ وقال الزمخشريُّ :" الاستعصام بناءُ للمبالغة يدلُّ على الامتناع البليغ، والتحفُّظ الشَّديد، كأنه في عصمةِ، وهو مجتهدٌ في الزيادة فيها، والاستزادة منها، ونحوه : اسْتمْسَكَ، واسْتوْسَعَ الفتقُ، واسْتجْمَعَ الرَّأيُ، واستفحل الخَطْبُ " فردّ السين إلى بابها من الطلبِ، وهو معنّى حسنٌ، ولذلك قال ابن عطية :" معناه طَلبَ العِصْمَةَ، واسْتمْسَكَ بها وعصاني " قال أبو حيان : ذكره التَّصريفيَّون في " اسْتَعْصَم " : أنه موافقٌ ل " اعتصم "، و " اسْتَفْعَلَ " فيه : موافق ل " افتعل " وهذا أجودُ من جعل " استعفل " فيه للطلبِ ؛ لأن " اعْتَصَمَ " يدلُّ على اعتصامه، وطلبُ المعصمةِ لا يدلُّ على حصولها، وأما أنه بناءُ مبالغةٍ يدلُّ على الاجتهادِ في الاستزادة من العصمة، فلم يذكر التصريفيون هذا المعنى ل " اسْتَفْعَلَ "، وأما " اسْتَمْسكَ، واسْتَجْمَعَ الرأي، واسْتوْسَعَ الفَتْقُ، ف " اسْتَفْعَل " فيه لموافقةِ " افْتَعَلَ "، والمعنى : امتسك، واتسع، واجتمع، وأما " اسْتَفْحَلَ الخَطْبُ " ف " فاستَفْعَلَ " فيه موافقة ل " تَفعَّل " أي : تفَحَّل الخطب نحو " استْتَكْبرَ وتَكبَّرَ ".
قوله :" مَا آمُرُهُ " في " مَا " وجهان :
أحدهما : مصدريةٌ.
والثاني : أنها موصولةٌ، وهي مفعولٌ بها بقوله :" يَفْعَل "، والهاءُ في " آمرُرُهُ " تحتمل وجهين :
أحدهما : العودُ على " مَا " الموصولة، وإذا جعلناها بمعنى الذي.
الثاني : العودُ على يوسف.
ولم يجوِّز الزمخشريُّ عودها على يوسف إلا إذا جعلت " ما " مصدرية، فإنه قال : فإنْ قلت : الضميرُ في :" مَا آمُرُهُ " راجعٌ إلى الموصول أم إلى يوسف ؟ قلتُ : بل إلى الموصول، والمعنى : ما آمرُ به، فحذف الجار ؛ كما في قوله :[ البسيط ]
٣١٠٣ - وإيَّاكَ والمَيْتَاتِ لا تَقْربنَّهَا ولا تَعْبُدِ الشَّيطانَ واللهَ فاعْبُدَا
٣١٠٢ أمَرْتُكَ الخَيْرَ. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ويجوز أن تجعل " ما " مصدرية، فيعود على يوسف، ومعناه : ولئنْ لم يفعل أمري إيَّاه، أي : موجبُ أمري، ومُقْتَضَاهُ ".
وعلى هذا، فالمفعولُ الأول محذوفٌ، تقديره : ما آمره به، وهو ضمير يوسف عليه السلام.
قوله :﴿ وَلَيَكُوناً ﴾ قرأ العامة يتخفيف نون " وليَكُوناً "، ويقفون عليها بالألف ؛ إجراءً لها مجرى التنوين، ولذلك يحذفونها بعد ضمةٍ، أو كسرةٍ، نحو : هل تقومون ؛ وهل تقومين ؟ في : هل تقومن ؟ والنونُ الموجودة في الوقف، نونُ الرفع، رجعوا بها عند عدم ما يقتضي حذفها، وقد تقرر فيما تقدَّم أنَّ نون التوكيدِ تثقَّلن وتخفف، والوقفُ على قوله :" ليُسْجَنَنَّ " بالنُّونِ ؛ لأنَّها مشددةٌ، على قوله :" وليَكُوناً " بالألف ؛ لأنها مخففةٌ، وهي شبيهةٌ بنون الإعراب في الأسماءْ ؛ كقولك : رأيتُ رجلاً، وإذا وقفت قلت : رجلا، بالألف، ومثله :
﴿ لَنَسْفَعاً بالناصية ﴾ [ العلق : ١٥ ].
و " مِنَ الصَّاغرينَ " من الأذلاَّءِ، وقرأت فرقة بتشديدها وفيها مخالفةٌ لسوادِ المصحف ؛ لكتبها فيه ألفاً ؛ لأ، الوقف عليها كذلك ؛ كقوله :[ الطويل ]
٣١٠٣ وإيَّاكَ والمَيْتَاتِ لا تَقْربنَّهَا ولا تَعْبُدِ الشَّيطانَ واللهَ فاعْبُدَا
أي : فاعْبُدونْ، فأبدلها ألفاً، وهو أحدُ الأقوالِ في قول امرىء القيس :[ الطويل ]
٤١٠٤ قِفَا نَبْكِ. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وأجرى الوصل مجرى الوقف.
قوله: ﴿رَبِّ السجن﴾ العامة على كسر الباء؛ لأنه مضافٌ لياء المتكلم، اجتزىء عنها باكسرة، وهي الفصحى، و «السِّجنُ» : بكسر السين، ورفع النُّون، على أنَّه مبتدأ، والخبر: «أحَبُّ» و «السِّجنُ» الحبسُن والمعنى: دخول السِّجنِ.
وقرأ بعضهم: «ربُّ السِّجنُ» بضمِّ الباءِ، وجرِّ النون، على أنَّ «ربُّ» مبتدأ و «السِّجن» خفض بالإضافة، وأَحبُّ «: خبره، والمعنى: ملاقاةُ صاحب السجن، ومقاساته أحبُّ إليَّ.
وقرأ عثمان، ومولاه طارق، وزيد بن علي، والمرهريُّ، وابن أبي إسحاق، وابن هرمز، ويعقوب: بفتح السِّين، وفي الباقي كالعامَّة.
والسِّجنُ: مصدرٌ، أي: الحبسُ أحبُّ [إليَّ]، و»
إليَّ «متعلقٌ ب» أحَبُّ «، وقد تقدم [يوسف: ٨] : وإنَّما هذان شرَّان، فآثر أحد الشَّرينِ على الآخر.

فصل


الظَّاهر أنَّ النسوة لما سمعن هذا التهديد، قلن له: لا مصحلة لك في مخالفة أمرها، وإلاَّ وقعت في السِّجنِ وفي الصَّغار، فعند ذلك اجتمع في حقِّ يوسف، أنواع الترغيب في الموافقة:
أحدهما: أنَّ»
زُلَيْخَا «كانت في غاية الحسن.
والثاني: أنها كانت على عزم أن تبذُل الكُّلَّ ليوسف، إن طاوعها.
95
الثالث: أن النسوة اجتمعن عليه، وكلُّ واحدةٍ منهم كانت ترغبه، وتخوفه بطريقٍ غير طريقِ الأخرى، ومكرُ النساءِ في هذا الكتاب شديدٌ.
الرابع: أنه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ كان خائفاً من شرِّها، ومن إقدامها على قتله، وإهلاكه.
فاجتمع في حقِّه جميع جهات الترغيب؛ على موافقتها، وجميع جهات التَّخويف؛ على مخالفتها، فخاف صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أن تؤثر هذه الأسباب الكثيرة فيه، والوقوة البشريَّة لا تفي بحصول هذه القضية القوية؛ فعند ذلك التجأ إلى الله تعالى وقال: ﴿رَبِّ السجن أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يدعونني إِلَيْهِ﴾ وقدَّم محبته السِّجن وإن كانت معصية؛ لأنها أخفُّ، وذلك أنه متى لزم ارتكابُ أحد قسمين، كلِّ واحدٍ منهما يضرُّ، فارتكابُ اقلِّ الضررين أولى؛ والأولى بالمرءِ أن يسأل الله العافية.
فإن قيل: كيف قال:» يَدْعُوننِي إليْهِ «وإنما دعتْه زُلَيْخَا خاصَّة؟.
فالجواب: أضافهُ إليهنَّ؛ خُروجاً من التصريح إلى التعريض، وأراد الجنس، وقيل إنهن جميعاً دعونه إلى أنفُسهِنَّ، وقيل أراد ترغيبهنّ له في مُطَاوعِتهَا.

فصل


﴿وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ﴾ قرأ العامة بتخفيف الباء، من: صَبَا يَصْبُو، أي: رقَّ شوقُه، والصَّبْوة: الميلُ إلى الهوى، ومنه»
الصَّبَا «؛ لأن النُّفوسَ تصبُّو إليها، أي: تميِلُ إلى نسيمها ورَوْحِهَا، يقال: صَبَا يَصْبُو صَبَاءً وصُبُوًّا، وصَبِيَ يُصبْي صَباً، والصِّبَا بالكسرة: اللَّهو، واللَّعب.
وقرأت فرقةٌ»
أصُبَّ «بتشديدهخا من صَبَيْتُ صَبَابَةً، فأنا صبٌّ، والصَّبابَةُ: رقَّةُ الشْوقِ، وإفراطه؛ كأنه لفَرْطِ حُبِّه يَنْصَبُّ فِيمَا يَهْوَاه كما يَنصَبُّ المَاءُ.

فصل


احتجُّوا بهذه الآيةِ على أنَّ الإنسان لا ينصرفُ عن المعصية، إلاَّ إذا صرفه الله عنها.
قالوا: لأن هذه الآية تدلُّ على أنه إنْ لم يصرفه عن ذلك القبيح، وقع فيه. وتقريره: أنَّ الداعي إلى الفعل، والترْكِ، إن استويا، امتنع الفعل؛ لأن الفعل أحدْ رجحان الطرفين، ومَرْجُوحيَّة الطرفِ الآخرن وحصولهما حال استواء الطرفين جمع بين النقيضين؛ وهو محالٌ، فإن حص الرجحانُ في أحد الطرفين، فذلك الرجحانُ ليس من
96
العبدِ، وإلا لذهبت المراتب إلى غير نهايةٍ، بل نقول: من الله تعالى، فالصَّرفُ عبارةٌ عن جعله مَرْجُوحاً؛ لأنه متى صار مَرْجُوحاً، صار ممتنع الوقوع؛ لأن الوقوع رجحانٌ، فلو وقع في حالِ المرجوحةِ، لحصل الرجحان حال حصولِ المرجوحيَّة، وهو مقتضى حصول الجمع بين النقيضين؛ وهو محالٌ.
فثبت بهذا أنَّ انصراف العبد عن القبيح ليس إلا الله من الله.
وأيضاً: فإنَّه كان قد حصل في «يُوسفَ» جميعُ الأسباب المرغِّبةِ في المعصية، وهو الانتفاعُ بالمالِ والجاه، والتَّمتُّع بالمطعومِ، فقد فويتْ دواعي الفعل، وضعفت الدَّواعي المعارضة لدواعي المعصيةِ؛ إذْ لو لم يحصل هذا التعارضُ، لحصل الترجيحُ للوقوع في المعصية خالياً عما يعارضه؛ وذلك يوجبُ وقوع الفعل، وهو المراد من قوله ﴿أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُن مِّنَ الجاهلين﴾ وفيه دليلٌ على أنَّ المؤمن إذا ارتكب ذنباً، يرتكبه عن جهالةٍ.
قوله: ﴿فاستجاب لَهُ رَبُّهُ﴾، أجاب له ربُّهُ، ﴿فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ﴾ ؛ وذلك يدلُّ على أنَّ الصارف عنه، هو الله تعالى ﴿إِنَّهُ هُوَ السميع﴾ لدعائه، ﴿العليم﴾ بمكرهن.
97
قوله :﴿ فاستجاب لَهُ رَبُّهُ ﴾، أجاب له ربُّهُ، ﴿ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ ﴾ ؛ وذلك يدلُّ على أنَّ الصارف عنه، هو الله تعالى ﴿ إِنَّهُ هُوَ السميع ﴾ لدعائه، ﴿ العليم ﴾ بمكرهن.
قوله: ﴿ثُمَّ بَدَا لَهُمْ﴾، في [فاعل «بدا» ] أربعةُ أوجه:
97
أحسنها: أنَّه ضميرٌ يعود على «السَّجْن» فتح السِّين، أي: ظهر لهم حبسُه؛ ويدلُّ على ذلك اللَّفظ ب: السِّجْن «في قراءةِ العامَّة، وهو بطريقِ اللازمِ، ولفظ» السَّجْن «في قراءةِ العامَّة، وهو بطريقِ اللازمِ، ولفظ» السَّجْن «في قراءة من فتح السين.
والثاني: أنَّ الفاعل ضمير المصدر المفهوم من الفعل؛ وهو»
بَدَا «، أي: بدا لهُم بداءٌ، وقد صرَّح الشاعرُ به قول قوله: [الطويل]
٣١٠٥ -.................... بَدَا لَكَ فِي تِلْكَ القَلُوصِ بَدَاءُ
والثالث: أنَّ الفاعل مضمرٌ يدلُّ عليه السِّياقُ، أي: لهم رأيٌ.
والرابع: أنَّ نفس الجملة من»
لَيَسْجننَّهُ «هي الفاعل، وهذا من أصولِ الكوفيين، وهذا يَقْتضِي إسنادَ الفعلِ إلى فعلٍ آخر؛ واتفق النحاة على أنَّ ذلك لا يجوزٌ.
فإذا قلت:»
خَرَجَ ضَرَبَ «، لم يفذْ ألبتة، فقدَّروا: ثمُّ بدا لهم سجنهُ، إلاَّ أنه أقيمَ هذا الفعل مقام ذلك الاسم.
قال ابنُ الخطيب: الاسمُ قد يكون خبراً؛ كقولك: زيدٌ قائمٌ، ف»
قائم «اسمٌ وخبرٌ، فعلمنا أنَّ كون الشيءِ خبراً، لا ينافي كونه مخبراً عنه، وفي هذا الباب شكوكٌ:
أحدها: أنَّا إذا قلنا:»
ضَرَبَ فَعَلَ «، والمخبر عنه بأنَّه فعل هو ضرب، فالفعل صار مُخْبراً عنه.
فإن قالوا: المخبر عنه هو هذه الصيغةُ، وهذه الصيغة اسم، فنقول: فعلى هذا التقدير؛ يلزم أن يكون المخبر عنه بأنه فعل هو هذه الصيغة وهذه الصيغة اسم، لا فعلٌ، وذلك كذبٌ باطلٌ، بل نقول: المخبر عنه بأنه فعلٌ: إن كان فعلاً، فقد ثبت أنَّ الفعل يصحُّ الإخبار عنه، وإن كان اسماً، كان معناه: أنَّا أخبرنا عن الاسم بأنه فعلٌ، وذلك باطلٌ.
و»
حتَّى «: غاية لما قبله، وقوله:» ليَسْجُنُنَّهُ «؛ على قول الجمهور: جوابٌ لقسم محذوفٍ، وذلك القسم وجوابه معمولٌ لقولٍ مضمرٍ، وذلك القول المضمر في محلِّ نصبٍ على الحالِ، أي: ظهر لهم كذا قائلين: والله، لنَسْجُننَّهُ حتَّى حينٍ.
وقرأ الحسن:»
لتَسْجُنُنَّهُ «، بتاء الخطاب، وفيه تأويلان:
أحدهما: أن يكون خاطب بعضهم بعضاً بذلك.
والثاني: أن يكون خُوطبَ به العزيزُ؛ تعظيماً له.
وقرأ ابنُ مسعودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه:»
عَتَّى «بإبدال حاءِ» حتَّى «عيناً، وأقرأ بها
98
غيره، فبلغ ذلك عمر بن الخطَّاب رَضِيَ اللَّهُ عَنْه فكتب إليه:» إنَّ هَذَا القُرآنَ نَزلَ بلُغةِ قُريشٍ فأقْرىءِ النَّاس بُغتِهِمْ «وإبدالُ الحاءِ عيناً لغةٌ هُذيلٍ.

فصل في معنى الآية


المعنى: ثُمَّ بَدَا للعزيزِ، وأصحابه في الرأي؛ وذلك أنَّهم أرادوا أن يقتصروا من أمر»
يُوسفَ «على الإعراض عنه، ثم بدا لهم أن يحبسُوه من بعد ما رأوا الآياتِ الدَّالة على براءةِ» يُوسفَ «من: قدِّ القميصِ، وكلام الشَّاهِد، وقطع النساءِ أيديهنَّ، وذهابِ عقولهنَّ» ليَسْجُنُنَّهُ حتَّى حِينٍ «: إلى مُدَّةٍ يرون فيهَا رأيهم.
وقال عطاء عن ابن عبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم: إلى أن تنقطع قالة النَّاس، قال عكرمةٌ: تِسْع سِنينَ، وقال الكلبيُّ: خمس سنين.
قال السديُّك وذلك أنَّ المرأة قالت لزوجها: إنَّ هذا العبرانيَّ قد فَضحَنِي في الناس؛ يُخْبرهم بأنِّي رَاودْتُه عن نفسه، فإمَّا أن تأذن لي أن أخرج، فأعتذرَ إلى الناسِ، وإما أن تحبسه، فحبسه.
قال ابنُ عبَّاس عَثرَ يُوسفُ ثلاثَ عثراتٍ: حِينَ هَمَّ بها؛ فسُجِنَ، وحين قال: ﴿اذكرني عِندَ رَبِّكَ﴾ [يوسف: ٤٢] ؛ ﴿فَلَبِثَ فِي السجن بِضْعَ سِنِينَ﴾ [يوسف: ٤٢]، وحين قال لإخوته: ﴿إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ﴾ [يوسف: ٧٠] ؛ ﴿قالوا إِن يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَّهُ مِن قَبْلُ﴾ [يوسف: ٧٧].
قوله: ﴿وَدَخَلَ مَعَهُ السجن فَتَيَانَ﴾ يوسف: ٣٦] قيل: هما غُلامانِ للملك الأكبر بمصر:
أحدهما: خَبَّازٌ، صاحبُ طعامه.
والآخر: صاحبُ شَرابه، غضب الملكُ عليهما فحَبسَهُما.
قوله: «قَالَ أحَدهُمَا»
: مُسْتأنفٌ لا محلَّ له، ولا يجوز أن يكون حالاً؛ لأنهما لم
99
يقولا ذلك حال الدُّخولِ، ولا جائزٌ أن تكون مقدَّرة؛ لأنَّ الدخول لا يَئُولُ إلى الرؤيا، و «إنِّي» وما في حيِّزه: في محل نصبٍ بالقول.
و «أَرَانِي» : مُتعدِّيةٌ لمفعولين عند بعضهم؛ إجراءً للحلمية مجرى العلمية؛ فتكون الجملة من قوله: «أعْصِرُ» في محلِّ المفعول الثاني، ومن منع، كانت عنده في محلِّ الحالِ.
وجرت الحلمية مجرى العلمية أيضاً في اتحاد فاعلها، ومفعولها ضميرين متَّصلين؛ ومنه الآيةٌ الكريمةُ؛ فإنَّ الفاعل المفعول مُتَّحدانِ في المعنى؛ إذ هما للمتكلِّم، وهما ضميران متصلان، ومثله: رأيتك في المنام قائماً، وزيدٌ رآه قائماً، ولا للمتكلِّم، وهما ضميران متصلان، ومثله: رأيتك في المنام قائماً، وزيدٌ رآه قائماًن ولا يجوزُ ذلك في غير ما ذكر.
لا تقول: «أكْرَمتُنِي»، ولا «أكرمتَك»، ولا «زيدٌ أكْرمَهُ» ؛ فإ، أردت بذلك، قل: أكْرمْتُ نَفْسِي، أو إيَّاي ونفسكَ، أوْ [أكْرَمْتَ] إيَّاك ونفسهُ، وقَدْ تقدَّم تحقيق ذلك.
وإذا دخلت همزةٌ النقل على هذه الحلمية، تعدت لثالثٍ، وتقدم هذا في قوله تعالى: ﴿إِذْ يُرِيكَهُمُ الله فِي مَنَامِكَ قَلِيلاً وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيراً﴾ [الأنفال: ٤٢].
والخَمْرُ: العِنَبُ، أطلق عليه ذلك؛ مجازاً؛ لأنه آيلٌ إليه؛ كما يطلق الشيء على الشيء؛ باعتبار ما كان عليه؛ كقوله ﴿وَآتُواْ اليتامى﴾ [النساء: ٢]، ومجاز هذا أقربُ، وقيل: بل الخَمْرُ: العِنَبُ حقيقةً في لغةِ غسَّانٍ، وإزْدِ عمان.
وعن المُعْتَمر: لقيتُ أعْرابياً حاملاً عنباً في وعاءٍ، فقلتُ: ما تحمل؟ قال: خَمْراً.
وقراءة «أبيَّ»، وعبد الله: «أعْصِرُ عِنَباً»، لا تدلُّ على الترادف؛ لإرداتهما؛ لإرادتهما التفسير، لا التلاوة، وهذا كما في مصحف عبد الله: «فَوْقَ رأسِي ثَرِيداً»، فإنه اراد التَّفسيرَ فقط.
و «تَأكُلُ الطَّيْرُ» : صفةٌ ل «خُبْزاً»، و «فَوْقَ» يجوز أن يكون ظرفاً للحملِ، وأن يتعلق بمحذوفٍ، حالاً من «خُبْزاً» إلاّ أنه في الأصل صفة له، والضمير في قوله «نَبِّئْنَا بِتَأويلهِ» : قال أبو حيَّان: «عائدٌ على ما قَصَّا عليه، أجري مُجْرَى اسم الإشارةِ؛ كأنَّه قيل: تأويله ما رَأيْتَ».
وقد سبقه إليه الزمخشريُّ، وجعله سُؤالاً، وجواباً، وقال اغيره: إنَّما واحد الضمير؛ لأن كلَّ واحدٍ سأل عن رُؤياه؛ وكأن كلَّ واحد منهما قال: نبئنا مارأيتُ.
و «تُرْزَقانِهِ» صفةٌ ل «طَعَامٌ»، وقوله «إلاَّ نَبَّأتُكُمَا» : استثناء مفرَّغٌ، وفي موضِ الجملة بعدها وجهان:
100
أحدهما: أنَّها في محلِّ نصبٍ على الحالِ، وساغ ذلك من النكرةِ؛ لتخصُهصا بالوصف.
الثاني: أن تكون في محلِّ رفعٍ؛ نعتاً ثانياً ل «طَعَامٌ».
والتدقير: لا يأتيكما طعامٌ مرزوقٌ إلا حال كونه مُنَبَّاً بتأويله، أو مُنَبَّاٌ بتأويله، و «قَبْلَ: الظاهرُ أنَّها ظرفٌ ل» نَبَّأتُكُما «، ويجوز أن يتعلق بتأويله، أي: نبأتكما بتأويله الواقع قبل إتيانه.

فصل


قيل: إنَّ جماعة من أهل مصر، أرادوا المكر بالملك، فَضَمِنُوا لهذين الرجلين مالاً، ليَسُمَّا الملك في طعامه، وشرابه، فأجابهم، ثمَّ إن الساقي نكل عنه، وقبل الخبازُ الرشوة فسمَّ الطَّعام، فلما أحضروا الطعام، قال السَّاقي: لا تأكلْ أيُّها الملك؛ فإنَّ الطعام مسمومٌ، وقال الخبَّازُ: لا تشربْ أيها الملكُ؛ فإنَّ الشراب مسمومٌ، فقال الملك للساقي: اشربْ، فشربهُ فلم يضرُّه، وقال للخبَّاز: كل من طعامك، فأبى، فجرَّب ذلك الطعام على دابَّة، فأكلتهُ: فهلكتْ؛ فأمر الملك بحبسهما.
وكان يوسف حين دخل السِّجن، جعل ينشر عمله، ويقول: إنِّي أعبِّر الأحلام، فقال أحدٌ الفتين لصاحبه: هلُمَّ فلنجرب هذا العبد العبرانيِّ، فتراءيا له، فسألاه من غير أن يكون رأياً شيئاً.
قال ابنُ مسعودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه:»
مَا رَأيَا شَيْئاً وإنَّما تَحالَمَا ليُجَرِّبَا يُوسفَ «عليه السلام.
وقيل: بل رأيا حقيقة، فرآهما يوسف عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ وهما مهمومان، فسألهما عن شأنهما، فكذرا أنَّهما صاحبا الملك حبسهما وقد رأيا رؤية همَّتهما، فقال يوسف صلوات الله وسلام عليه وعلى الأنبياء والمرسلين: قُصَّا عليَّ ما رأيتما! فقصَّا عليهن فعبَّر لهما ما رأياهُ، وعرف حرفة كلِّ واحدٍ من منامه.
وتأويلُ الشَّيء: ما يرجعُ إليه، وهو الذي يَئُولُ إليه آخرُ ذلك الأمر.
ثم قالا: ﴿إِنَّا نَرَاكَ مِنَ المحسنين﴾ : في أمر الدين، أي: نراك تُؤثِرُ الإحسانَ، وتأتي مكارمَ الأخلاق.
وقيل: ﴿إِنَّا نَرَاكَ مِنَ المحسنين﴾ في علم التعبير؛ وذلك أنَّه حين عبَّر لم يخطىء.
[وقيل: إنه كان يعود مرضاهم ويوقّر كبيرهم، فقالوا إنَّا لنراك من المحسنين في حقّ الأصحاب].
101

فصل في حقيقة علم التعبير


وحقيقة علم التَّعبير: أنه تعالى خلق جوهر النَّفس الناطقة، بحيث يمكنها الصعودُ إلى عالم الأفلاكِ، ومطالعةُ اللَّوحِ المحفوظِ، والمانعُ لها من ذلك: اشتغالها بتدبير البدنِ، فوقت يقلُّ هذا الاشتغال، يقوى على هذه المطالعة، فإن وقعت على حالةٍ من الأحوال، ترك آثاراً مخصوصة مناسبة لذلك الإدراكِ الرَّوحاني، إلى علم الخيال، فالمعبِّر يستدلُّ بتلك الآثار الخيالية على تلك الإدراكات القلبيَّة.
قال صلوات الله وسلامه عليه: «الرُّؤيَا ثلاثةٌ: رُؤيَا ما يُحدِّثُ الرَّجلُ بِهِ نفسهُ، ورُؤيَا تحدثُ من الشَّيطانِ، ورُؤيَا جُزءٌ مِنْ ستَّةٍ وأرْبَعينَ جُزْءاً مِنَ النُّبوَّةِ».

فصل


في قوله يوسف ما أحد قط الإ دخل عليّ من حبه بلاء، أو في البلاء الذي حل بيوسف بسبب حب الناس له: رُويَ أنَّ الفتيين لمَّا رأيا يُوسُفَ، قالا: لقد أحببناك حين رأيناك، فقال لهما يوسفُ: ناشدتكما، لا تُحِبَّاني؛ فواللهِ ما أحبَّنِي أحدٌ قط؛ إلاَّ دخل عليَّ مِنْ حبِّه بلاءٌ، لقد أحَبَّتْنِي عمَّتي، فدخل عليَّ بلاءٌ، ثم أحبَّني أبِي، فألقيتُ في الجبِّ، وأحبَّتْنِي امرأةُ العزيز، فحُبِسْتُ.
فلما قصَّا عليه الرؤية، كره يوسفُ أن يعبِّر لهما ما سألاه، لما علم ما في ذلك من المكروه على أحدهما، فأعرض عن سؤالهما، وأخذ في غيره، من إظهار المعجزة، والدُّعاءِ إلى التَّوحيدِ.
فقال: «لا يأتيكما طعام ترزقانه» قيلك أراد به في النوم، أي لا يأتيكما طعام ترزقانه في نومكما، إلاَّ نبأتكما بتأويله في اليقظةِ، وقيل: أراد به في اليقظةِ؛ فقوله ﴿لاَ يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ﴾ في منازلكما تطعمانه، وتأكلانه «إلاَّ نَبَّأتُكمَا» أخبرتكما «بتأويلهِ» بقدره، ولو، والوقت الذي يصلُ إليكما، قبل أن يصل، وأيَّ طعام أكلتم، وكم أكلتم ومتى أكلتم.
وهذا مثلُ معجزةِ عيسى عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ حيثُ قال: ﴿وَأُنَبِّئُكُم بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ﴾ [آل عمران: ٤٩].
فقال: هذا فعلُ القوَّافين والكهنةِ، فمن أين لك هذا العلم؟.
فقال: ما أنا بكاهنٍ، وإنما ذلك العلمُ مما علَّمني ربِّي.
ثم قال: ﴿إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ بالله وَهُمْ بالآخرة هُمْ كَافِرُونَ﴾، وفي سؤالٌ:
102
وهو قوله: ﴿إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ بالله﴾ يوهمُ أنه صلوت الله وسلامه عليه كان في هذه الملَّة؟.
والجوابُ من وجوه:
الأول: أنَّ التَّرك عبارةٌ عن عدمِ التعرُّضِ للشيء، وليس من شرطه أن يكون قد
كان خائضاً فيه.
والثاني: أن يقال: إنه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ كان عبداً لهم بحسب زعمهم ولعلَّه قبل ذلك كان لا يظهرُ التوحيد، والإيمان؛ خوفاً منهم، ثم إنَّه أظهره في هذا الوقت؛ فكان هذا جارياً مجرى تركِ ملَّة أولئك الكفرة بحسب الظاهر.
قوله: (إني تركت) يجُوز أن تكون هذه مستأنفة، أخبر بذلك عن نفسه، ويجوز أن تكون تعليلاً لقوله: ﴿ذلك مما علمني ربي﴾، أي: تركي عبادة غير الله، سببٌ لتعليمه إيَّاي ذلك، وعلى الوجهين لا محلَّ لها من الإعراب، و «لا يُؤمِنُونَ» : صفةٌ ل «قومٍ».
وكرَّر «هُمْ» في قوله: ﴿وَهُمْ بالآخرة هُمْ كَافِرُونَ﴾ ؛ قال الزخشريُّ: «للدَّلالة على أنهم خُصُوصاً كافرون بالآخرة، وأنَّ غيرهم مؤمنون بها».
قال أبُوا حيَّان: «وليستْ» هُمْ «عندنا تدلُّ على الخُصوصِ».
قال شهابٌ الدِّينك «لم يَقل الزمخشريُّ إنها تدلُّ على الخُصُوصِ، وإنَّما قال:» وتكرير «هُمْ» للدلالةِ على الخصوصِ «فالتكريرُ هو الذي أفاد الخصوص وهو معنٌى حسنٌ».
وقيل: «كرَّر» هُمْ «؛ للتوكيد.
وسكَّن الكوفيُّون الياء مِنْ:»
آبَائِي «، ورويت عن أبي عمرٍو، وإبراهيم، وما بعده: بدلٌ، أو عطفٌ بيانِ، أو منصوبٌ على المدح.
قوله ﴿واتبعت مِلَّةَ آبآئي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ﴾، لمَّا أدَّعى النبوة، وتحدَّى بالمعجزة وهوعلمُ التَّعبير قرَّر كونه من أهل النبوة، وأنَّ أباه وأجداه كانوا أنبياء عليهم الصلاة والسلام فإنَّ الإنسان متى ادَّعى حرفة أبيه وجده، لم يستبعد ذلك منه، وأيضاً: فكما أنَّ درجة إبراهيم عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ وإسحاق، ويعقوب، كان أمْراً مشهوراً في الدنيا، فإذا ظهر أنَّه ولدهم، عظَّموه، ونظروا إليه بعينِ الإجلالِ؛ فكان انقيادهم له أتمَّ وتتأثر قلوبهم بكلامه.
فإن قيل: إنَّه كان نبيَّا، فكيف قال: ﴿واتبعت مِلَّةَ آبآئي﴾، والنبيُّ لا بدَّ وأن يكون مختصاً بتشريعة نفسه؟.
103
فالجواب: لعلَّ مراده أنَّ التوحيد كلا يتغيَّر، ولعله كان رسُولاً من عند الله؛ إلاَّ أنه كان على شريعةِ إبراهيم صلوات الله وسلام عليه وعلى الأنبياء المرسلين.
قوله: ﴿مَا كَانَ لَنَآ أَن نُّشْرِكَ بالله مِن شَيْءٍ﴾ فيه سؤال:
وهو أنَّ حال كُلِّ من المكلفين كذلك؟.
والجواب: ليس المراد بقوله:» مَاكَانَ لنَا «أنَّهُ حرَّم ذلك عليهم، بل المرادُ أنه تبارك وتعالى طهَّره، وطهر آباءه عن الكفر؛ كقوله ﴿مَا كَانَ لِلَّهِ أَن يَتَّخِذَ مِن وَلَدٍ﴾ [مريم: ٣٥].
قوله:»
مِنْ شيءٍ «يحوز أن يكون مصدراً، أي: شيئاً من الإشراك، ويجوزُ أن يكون واقعاً على الشِّرك، أي: ما كان لنا أن نُشرِكَ شيئاً غيره من ملكِ، أو إنسٍ، أو جنٍّ، فكيم بصنَم؟.
و»
مِنْ « [مزيدة] على التَّقديرين؛ لوجود الشرطين.
ثم قال: «ذلِكَ»
أي: التَّوحيد والعلمُ ﴿مِن فَضْلِ الله عَلَيْنَا وَعَلَى الناس﴾، بِمَا بيَّن لهم من الهدى؛ ﴿ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَشْكُرُونَ﴾ نعم الله على الإيمان.
حُكِيَ أنَّ واحداً من أهْلِ السُّنَّةِ دخل على بشرِ بن المعتمر، وقال له: يا هذا: هل تشكرُ الله على الإيمان أم لا؟ فإنْ قلت لا، فقد خالفت الإجماع، وإن شكرته، فكيف تشكرُ على ما ليس فعلاً له؟.
فقال له بشرٌ: إنَّا نشكرُ الله على أنه تعالى أعطانا: القدرة، والعقل، والآلة، فيجبُ علينا أن نشكره على إعطاءِ القدرةِ والآلةِ، فأمَّا أن نشكرهُ على الإيمان، مع أنَّ الإيمان ليس فعلاً، فذلك باطلٌ، فدخل عليهم ثمامةُ بن الأشرسِ، وقال: إنَّا لا نشكرُ الله على الإيمان، بل اللهُ يشكرنا عليه؛ كما قال تعالى: ﴿فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُورًا﴾ [الإسراء: ١٩] فقال بشرٌ: «لمَّا صعب الكلامُ، سهُلَ».
قال ابن الخطيب: «واعلم أنَّ الذي اقترحه ثمامة باطلٌ؛ بنص هذه الآية؛ لأنَّه تعالى بين أن عدم الإشراك من فضل الله، ثم بيَّن أنَّ أكثر الناس لا يشكُرون هذه النعمةَ، وإنما ذكره على سبيل الذَّمِّ، فدل هذا على أنه يجبُ على كل مؤمن أن يشكُر الله على نعمةِ الإيمانِ، وحينئذٍ تقوى الحجَّةُ، وتكمُل الدلالة».
قال القاضي: قوله: ذلِكَ «إن جعلناه إشارة إلى التمسك بالتوحيدِ، فهو من فضل الله تعالى لأنه إنما حصل بإلطافه، وتسهيله، ويحتملُ أن يكون إشارة إلى النبوة.
والجواب: أنَّ»
ذَلِكَ إشارة إلى المذكورِ السابقِ، وذلك هو تركُ الإشراكِ فوجب
104
أن يكون ترك الإشراك من فضل الله تعالى والقاضي يصرفه إلى الإلطاف والتسهيل؛ فكان هذا تركاً للظاهر، وأمَّا صرفه إلى النبوة، فبعيدٌ؛ لأن اللفظ الدالَّ على الإشارة يجبُ صرفه إلى أقرب المذكورات، وهو هنا عدمُ الإشراك.
قوله تعالى: ﴿ياصاحبي السجن﴾ : يجوزُ أن يكون من باب الإضافة للظروف؛ إذ الأصل: يا صاحبيّ في السِّجن، ويجوز أن تكون من باب الإضافة إلى المشبه بالمعفول به، والمعنى: يا سَاكِني السِّجن، وذكر الصُّحبة، لطُولِ مقامهما فيه؛ كقوله تعالى: ﴿أَصْحَابُ النَّارِ﴾ [الأعراف: ٤٤ ٥٠].
وقوله: ﴿أَمِ الله﴾، هنا: متًّصلةٌ؛ عطفت الجلالة على «أرْبَابٌ».

فصل


اعلم أنه عليه الصلاة والسلام لما أدَّعى النبوة في الآية الأولى، وكان إثباتُ النبوة مبينًّا على إثبات الإلهيَّة، لا جرم شرع في هذه الآيةِ في تقريرِ الإلهياتِ، ولما كان أكثرُ الخلقِ مقرِّين بوجودِ الإله العالم القادر، وإنما الشأنُ في أنهم يتخذُون أصناماً على صُورِ الأرواح الفكلية، ويعبدونها، ويتوقَّعُون حصول النَّفْعِ والضُّر منها، لا جرم كان سعيُ أكثر الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم في المنع من هذه، وكان الأمر على هذا إلى زمانِ يوسف صلوات الله وسلامه عليه وعلى الأنبياء والمرسلين.
فلهذا السبب، شرع في ذكر ما يدلُّ على فسادِ العقول بعبادةِ الأصنام؛ فقال: ﴿أَأَرْبَابٌ مُّتَّفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ الله الواحد القهار﴾، والمراد منه الاستفهام على سبيل الإنكارِ، وتقريرُ فساد القول بعبادة الأصنام: أنه تعالى بيَّن أن كثرة الآلهةِ توجب الخلل والفاسد في هذا العالم؛ لقوله تعالى: ﴿لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا﴾ [الأنبياء: ٢٢] فلمَّا قرَّر أنَّ كثرة الآلهة تُوجبُ الخلل والفساد، وكونُ الإله واحدٌ، يقتضي حصول الأنتظام، وحسن الترتيب قال هاهنا: ﴿أَأَرْبَابٌ مُّتَّفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ الله الواحد القهار﴾.
وأما تقرير كون كثرةِ الآلهةِ، توجب الخلل والفساد في العالم: إنَّه لو كان اثْنانِ أو ثلاثةُ، لم نعلم من الذي خلقنا، ورزقنا، ودفع الآفاتِ عنَّا؛ فيقع الشِّرْكُ في أنَّا نعبدُ هذا أم ذاك.
ومعنى: كونهم متفرقين، أي: شتَّى، هذا من ذهب، وهذا من فضةٍ، وها من حديدٍ، وهذا أعلى، وهذا أوسط، وهذا أدْنَى، متباينون لا تضر ولا تنفعُ.
﴿خَيْرٌ أَمِ الله الواحد القهار﴾، «الوَاحِدُ» : لا ثاني لهُ، «القَهَّارُ» الغالبُ عل الكلِّ.
105
ثُمَّ عجز الأصنام، فقال: ﴿مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ أَسْمَآءً﴾ أي: من دون الله، وإنما ذكر بلفظ الجمعِ، وقد ابتدأ الخطاب لاثنين؛ لأنه أراد جميع أهل السِّجن، وكلَّ من هو على مثل حالهمَا من الشرك.
فإن قيل: لم سمَّاها أرباباً، وليست كذلك؟.
فالجوابك لا عتقادهم فيها أنَّها كذلك، وأيضاً: الكلامُ خرج على سبيل الفرضِ، والتقدير، والمعنى: أنَّها إن كانت أرباباً، فهي خيرٌ أم الله الواحدج القهار؟.
فإن قيل: كيف يجوزُ التفاضلُ بين الأصنامِ، وبين الله تعالى، حتَّى قيل: إنها خيرٌ أم اللهِ؟.
فالجوابُ: أنَّهُ خرج على سبيل الفرض، والمعنى: لو سلمنا أنَّه حصل فيها ما يوجبُ الخير، فهي خيرُ أم اللهُ الواحدُ القهار؟.
قوله تعالى: ﴿إِلاَّ أَسْمَآءً﴾، إما أن يراد بها المسميات، أو على حذف مضاف، أي: ذواتُ المُسمَّيات، و «سَمِّتُمُوهَا» ك صفةٌ، وهي متعديةٌ لاثنين حذف ثانيهما، أي: سَمَّيتُمُوها آلهة.
و «مَا أنْزَلَ» : صفةٌ ل: أسْمَاء «، و» مِنْ «: زائدةٌ في:» مِنْ سُلطَانٍ «، أي: حُجَّةٍ.
و»
إن الحُكْمُ «:» إنْ «نافيةٌ، ولا يجوز الإتباع بضمَّة الحاء؛ كقوله: ﴿وَقَالَتِ اخْرُجْ﴾ [يوسف: ٣١]، ونحو؛ لأنَّ الألف واللام كلمةٌ مستقلةٌن فهي فاصلةٌ بينهما.

فصل


قال في الآية: ﴿أَأَرْبَابٌ مُّتَّفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ الله الواحد القهار﴾، وذلك يدلُّ على وجودِ هذه المسميات، ثم قال في عقبه: ﴿مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ أَسْمَآءً سَمَّيْتُمُوهَآ﴾، وهذا يدلُّ على أنَّ المسمى غير حاصلٍ، وبينها تناقضٌ.
والجوابُ: أنَّ الذوات موجودةٌ حاصلةٌ إلاَّ أنَّ المسمى بالإله غيرُ حاصلٍ؛ وبيانه من وجهين:
الأول: أن ذوات الأصنام، وإن كانت موجودةً، إلاَّ أنَّها غيرُ موصوفةٍ بصفاتِ الإلهية، وإذا كان كذلك، كان الشيءُ الذي هو مسمَّى بالإلهيَة في الحقيقة غير موجودٍن ولا حاصلٍ.
الثاني: رُوِيَ أنَّ عبدةً الأصنام مشبهةٌ، فاعتقدوا أنَّ الإله هو النورُ الأعظمُ، وأن الملائكة أنوارٌ صغيرةٌ؛ فوضعوا علَى صورة تلك الأنوارِ هذه الأرباب، ومعبودهم في الحقيقةِ هو تلك الأنوارُ، ثُمَّ إنَّ جماعة ممن يعبدون الأصنام، قالوا: نحن لا نقولُ إنَّ هذه الأصنام آلهةٌ للعالم، بمعنى أنَّها هي التي خلقت العالم، إلاَّ أنَّا نسميها آلهةٌ نعبدها؛ لا عتقادنا أنَّ الله أمرنا بذلك.
106
فأجاب الله تعالى عنه، فقال: أمَّا تسميتها بالآلهةِ، فما أمر الله بذلك، ولا أنزل في هذه التَّسمية حُجَّة، ولا برهاناً، وليس لغيرِ الله حكمٌ يجبُ قبوله، ولا أمرٌ يجبُ إلزامهُ بل الحُكْمُ والأمرُ ليس إلاَّ للهِ.
ثم إنه تعالى: ﴿أَمَرَ أَلاَّ تعبدوا إِلاَّ إِيَّاهُ﴾ : لأنَّ العبادة نهايةُ التعظيم؛ فلا يليقُ إلاَّ بمن حصل منه: الخلقُ، والإحياءُ، والعقلُ، والرزقُ، والهدايةُ، ونَعمُ الله كثيرةٌ، وإحسانه إلى الخلق غير متناهِ.
ثم قال تعالى: ﴿ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَعْلَمُونَ﴾، وذلك أنَّ أكثر الخلق ينسبون حدُوثَ الحوادثِ الأرضية إلى الاتصالاتِ الفلكية، والمناسباتِ الكوكبيَّة؛ لأجل أنه تقرر في العقولِ أنَّ الحادثَ لا بُدَّ له من سببٍ، فاعتبروا أحْوالَ الشمسِ في أرباع الفلكِ، وربطُوا الفُصُول الأربعة بحركة الشمسِ.
ثم إنهم لما شاهدوا أحوال النَّباتِ والحيوان، تختلفُ باختلافِ الفصول الأربعة غلب على طباع أكثرِ الخلقِ، أنَّ المدبِّر [لحدوث] الحوادث في العالم، هو الشمسُ والقمر، وسائرُ الكواكب.
ثم إنه تعالى إذا وفَّق إنساناً حتَّى ترقَّى في هذه الدَّرجةِ، وعرف أنَّها في ذواتها، وصفاتها مُفتقرةٌ إلى موجودٍ، مبدع قادرٍ، قاهر، عليم، حكيمٍ، فذلك الشخصًُ يكون في غاية النُّدرةِ؛ فلهذا قال: ﴿ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَعْلَمُونَ﴾.
قوله «أمَرَ» يجوز أن يكون مستأنفاً، وهو الظاهر، وأن يكون حالاً، و «قد» معه مرادة عند بعضهم.
قال أبو البقاءِ: وهو ضعيفٌ لعضف العامل فيه.
يعني بالعامل: ما تضمنه الجَارُّ في قوله «إلاَّ الله» من الاستقرار.
قوله تعالى: ﴿ياصاحبي السجن أَمَّآ أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي﴾، العامَّة على فتح الياء، من سقاه يسقيه، وقرأ عكرمة في رواية «فيُسْقِي» بضم حرفِ المضارعة من «أسْقَى» وهما لغتان، قال: سقاه، وأسقاه، وسيأتي أنَّهُما قراءتان في السبع، و ﴿نُّسْقِيكُم مِّمَّا فِي بُطُونِهِ﴾ [النحل: ٦٦]، هي هما بمعنَى أم بينهما فرقٌ؟.
ونقل ابنُ عطيَّة، عن كرمة، والجحدريِّ: أنَّهما قرءا «فيُسْقَى ربُّهُ» مبنيًّا للمعفول، ورفع «ربُّهُ»، ونسبها الزمخشريُّ لعكرمة فقط.
107

فصل


اعلم أنه صلوات الله وسلامه عليه لما قرَّر التوحيد والنبوة، عاد إلى الجواب عن السُّؤالِ الذي ذكر، ففسَّر رُؤياهما، فقال: ﴿ياصاحبي السجن أَمَّآ أَحَدُكُمَا﴾، وهو صاحبُ الشَّراب «فيَسْقِي ربَّهُ» : يعني الملك، وأما الآخرُ: يعنى الخبَّاز، فيدعوه الملكُ، ويخرجه، ويصلبه؛ فتأكل الطيرُ مِنْ رأسه.
قال ابنُ مسعودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: «لمَّا سَمِعَا قول يوسف صلوات الله وسلامه عليه قالا: مَا رَأيْنَا شَيْئاً إنَّما كُنَّا نلعَبُ»، قال يوسف: «قُضَيَ الأمْرُ الذي فِيهِ تَسْتفتيَانِ».
فإن قيل: هذا الجوابُ الذي ذكره يوسف عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ ذكره؛ بناءً على أنَّ الوحي من قب لالله تعالى أو نباءً على علم التَّعبير.
والأول باطلٌ؛ لأن ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما نقل أنَّما ذكره على سبيل التعبير، وأيضاً قال الله: ﴿وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِّنْهُمَا﴾، ولو كان ذلك التعبير مبنيًّا على الوحي، كان الحاصلُ مه القطعُ واليقينُ، لا الظنُّ والتَّخمينُ.
والثاني أيضاً باطلٌ؛ لأن علم التعبير مبنيٌّ على الظنِّ، والقضاءُ: هو الإلزامُ الجزمُ والحكمُ البتُّ، فكيف بني الجزم والقطع على الظنِّ والحسبانِ؟.
والجواب: لا يبعد أن يقال: إنهما سألاه عن ذلك المنام، صدقا فيه أو كذبا، فإنَّ الله تعالى أوحى إليه أنَّ عاقبة كُلَّ واحدٍ منهما تكون على ذلك الوجهِ المخصوص، فملا نزل الوحيُ بذلك الغيب عند ذلك السؤال، وقع في الظنَّ أنَّه ذكره على سبيل [التَّعبير].
ولا يبعد أيضاً أن يقال: إنه بنى ذلك الجواب على علم التعبير.
وقوله «قُضِيَ الأمْرُ الَّذي فِيهِ تَسْتفْتيانِ» ما عنى به أنَّ الذي ذكره واقعٌ لا محالة، بل عنى أنَّ حكمه في تعبير ما سألاه عنه ذلك الذي ذكره.
قوله: «قُضِيَ الأمْرُ» قال الزمخشريُّ: «ما اسْتفْتَيَا في أمرٍ واحدٍ، بل في أمرين مختلفين، فما وجهُ التوحيدِ؟ قلتُ: المرادُ بالأمرِ ما أتهما به من سمِّ الملك، وما يُجِنَا من أجله، والمعنى: فُرغَ من الأمر الذي عنه تسألان».
108
قوله تعالى: ﴿وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ﴾، فاعلُ «ظنَّ» : يجوزُ أن يكون يوسف عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ إن كان تأويله بطريقِ الاجتهادِ، وأن يكون الشَّرابي إن كان تأويله بطريقِ الوحي، أو يكون الظنُّ بمعنى اليقين؛ كقوله تعالى: ﴿الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاَقُو رَبِّهِمْ﴾ [البقرة: ٤٦] و ﴿إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيهْ﴾ [الحاقة: ٢٠] قال الزمخشريُّ. يعني أنه إن كان الظنُّ على بابه، فلا يستقيمُ إسناده إلى يوسف؛ إلاَّ ان يكون تأويله بطريق الاجتهاد، لأه منتى كان بِطَريقِ الوحْيِ، كان يَقِيناً؛ فينسب الظنُّ حينئذٍ للشرابيّ لا ليوسف عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ.
وأمَّا إذا كان الظنُّ بمعنى اليقينِ، فيصح نسبتُه إلى يوسف عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ إن كان تأويله بطريق الوحْيِ.
وذهب قتادة: إلى كونِ الظن على بابه وهو مسندٌ إلى يوسف إن كان تأويله بطريق الاجتهاد، فإنه قال: «الظنُّ هو على بابه؛ لأنّ عبارة الرُّؤيا ظنٌّ».
قوله: «مِنْهُمَا»، يجوزُ أن يكون صفةً ل «نَاجٍ»، وأن يتعلَّق بمحذوفٍ؛ على أنَّهُ حالٌ من الموصول.
قال أبو البقاءِ: ولا يكونُ متعلقاً ب «نَاجِ» لأنَّه ليس المعنى عليه «قال شهاب الدين: لو تعلق ب» نَاجِ «لأفْهم أنَّ غيرهما نَجَا منهما، أي: انفلت منهما، والمعنى: أنَّ أحدهما هو النَّاجي، وهذا المعنى الذي نبه عليه بعيدٌ توهُّمهُ.
والضميرُ في»
فَأنْسَاهُ «، يعودُ على الشرابيِّ، وقيل: على يوسف؛ وهو ضعيفٌ.

فصل في الاختلاف فيمن أنساه الشيطان ذكر ربه


قال يوسف عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ للناجي من الرجلين: ﴿اذكرني عِندَ رَبِّكَ﴾، إي: عند الملك، أي: اذكرني عنده أنَّهُ مظلومٌ من جهة إخوته، لما أخرجوه، وباعوه، ثم إنَّه مظلوم في هذه الواقعة؛ التي لأجلها حُبِسَ.
ثم قال تعالى: ﴿فَأَنْسَاهُ الشيطان ذِكْرَ رَبِّهِ﴾ قيل: أنْسَى الساقي ذكر يوسف للملك، تقديره: فأنساه الشيطان ذكره لربه.
ورجَّح بعضُ العلماء هذا القول، فقال: لو أنَّ الشيطان أنْسَى يوسف ذكر الله، لما استحقَّ العقاب باللَّبثِ في السِّجْنِ؛ إذ النَّاسي غيرٌ مُؤاخذٍ.
109
وقد يجابُ عن ذلك بأنَّ النِّسيانَ قد يكونُ بمعنى التَّركِ، فلما ترك ذكر اللهِ، ودعاهُ الشَّيطانُ إلى ذلك، عوقب.
وأجيب عن هذا الجواب بقوله تعالى: ﴿وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ﴾ [يوسف: ٤٥]، فدلَّ على أن النَّاسي هو السَّاقِي لا يوسف، مع قوله تعالى: ﴿إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ﴾ [الحجر: ٤٢]، فكيف يصحُّ أن يضاف نسيانه إلى الشيطان، وليس له على الأنبياء سلطان؟.
وأجيب عن هذا بأن النيسان لا عصمة للأنبياء عنه، إلاَّ في وجه واحد وهو الخبرُ من الله تعالى، فيما يلقَّونه؛ فإنَّهم مَعْصُومُون فيه، وإذا وقع منهم النيسان حيثُ يجوزُ وقوعه، فإنَّه ينسبُ إلى الشيطان؛ وذلك إنَّما يكونُ فميا أخبر الله عنهم، ولا يجوز لنا نحن ذلك فيهم، قال عليه السلام:» نَسِيَ آدمُ فنَسِيَتْ ذُريته «وقال:» إنَّما أنا بشرٌ، أنْسَى كما تَنْسَوْن «.
وقال ابنُ عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما وعليه الأكثرون:»
أنسى الشيطانُ يوسف ذكر ربِّه؛ حتَّى ابتغى الفرج من غيره، واستعان بمخلوقٍ؛ وتلك غفلة عرضتْ ليُوسفَ مِنَ الشَّيطانِ «.
»
فَلبِثَ «: مكث» في السِّجنِ بضْعَ سِنينَ «قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ:» يَرْحَمُ اللهُ أخِي يُوسفَ؛ لوْ لَمْ يقُلْ: «اذْكرنِي عِنْدَ ربِّكَ» ؛ ما لبثَ فِي السِّجن «ومما يدلُّ على أنَّه المراد قوله: ﴿فَأَنْسَاهُ الشيطان ذِكْرَ رَبِّهِ﴾ ولو كان المراد الساقي لقال فأنساه الشيطان ذكر يوسف.
واعلم أنَّ الاستعانة بغيرِ الله في دفع الظلمن جائزةٌ في الشريعة، لا إنكار عليه.
وإذا كان كذلك، فلم صار يوسف عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ مُؤاخذاً بهذا القدر؟ وكيف لا يصيرُ مؤاخذاً بالإقدام على الزِّنا؟ ومكافأة الإحسان بالإساءة [أولى] ؟.
فلما رأينا الله أخذ يوسف بهذا القدرِ، ولمْ يؤاخذه في تلك القضية ألبتَّة، وما عابهُ، بل ذكره بأعظمِ وجوهِ المدحِ والثناءِ علمنا أنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ كان مُبَرًّأ ممَّا نسبوهُ إليهِ.

فصل في اشتقاق البضع وما يدل عليه


قال الزجاج: «اشتقاقُ الضْعِ من بَضعْتُ بمعنى قَطْعْتُ»
.
110
قال النَّواوي: «والبِضْعُ بكسر الباء، وقد تفتح: ومعناه القطعةُ من العدد».
قال الفراء: لا تذكرُ إلاَّ مع عشرةٍ، أو عشرينَ إلى التِّسعينَ؛ وذلك يقتضي أن يكون مخصوصاً بما بين الثلاثة إلى التسعةِ، قال: وهكذا رأيتُ العرب يقولون، وما رأيتهم يقولون: بضعٌ ومائةٌ، قال: وإنما يقالُ نيِّفٌ مائة؛ والقرآنُ يردُّ عليه.
ويقال: بضعُ نسوة، وبضعةُ رجالٍ.
روى الشعبيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه «أنَّ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قيل لهُ: كم البِضْعُ؟ قال: مَا دُونَ العَشرة».
وقال ابنُ عبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما: «مَا دُونَ العشرة».
وقال مجاهدٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: مابين الثَّلاث إلى السَّبع.
وقيل إلى الخمسِ.
وقال قتادةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: مابين الثَّلاث إلى التِّسعِ.
وأكثر المفسرين على أن البِضْعَ في هذه الآية سبعُ سنينَ، وقد لبث قبلهُ خمس سنين فجملته، اثنتا عشرة سنة.
قال ابن عبَّاسِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما: «لما تضرَّع يوسفُ صلوات الله وسلامه عليه لذلك الرجلِ، كان قد قرُبَ وقتُ خروجه، فلما ذكر ذلك لبث في السجن بعده سبع سنينَ».
وقيل: البِضْعُك فوق الخمسةِ ودُون العشرة.
وقد تقدم عند قوله ﴿بِضَاعَةً﴾ [يوسف: ١٩]، والبَعْضُ قد تقدَّم أه من هذا المعنى، عند ذكر البعوضةِ.
وفي المدَّة التي أقامها يوسف في السجن أقوالٌ:
أحدهما: قال ابنُ جريجٍ، وقتادة، ووهبُ بنُ منبِّه: أقام أيوبُ في البلاءِ سبعَ سنينَ، وأقام يوسفُ في السِّجن سبع سنينَ.
وقال ابن عباسك اثنتَيْ عَشْرة سنة.
وقال الضحاكُ: أرْبع عشرة سنة.
111
قوله :﴿ وَدَخَلَ مَعَهُ السجن فَتَيَانَ ﴾ يوسف : ٣٦ ] قيل : هما غُلامانِ للملك الأكبر بمصر :
أحدهما : خَبَّازٌ، صاحبُ طعامه.
والآخر : صاحبُ شَرابه، غضب الملكُ عليهما فحَبسَهُما.
قوله :" قَالَ أحَدهُمَا " : مُسْتأنفٌ لا محلَّ له، ولا يجوز أن يكون حالاً ؛ لأنهما لم يقولا ذلك حال الدُّخولِ، ولا جائزٌ أن تكون مقدَّرة ؛ لأنَّ الدخول لا يَئُولُ إلى الرؤيا، و " إنِّي " وما في حيِّزه : في محل نصبٍ بالقول.
و " أَرَانِي " : مُتعدِّيةٌ لمفعولين عند بعضهم ؛ إجراءً للحلمية مجرى العلمية ؛ فتكون الجملة من قوله :" أعْصِرُ " في محلِّ المفعول الثاني، ومن منع، كانت عنده في محلِّ الحالِ.
وجرت الحلمية مجرى العلمية أيضاً في اتحاد فاعلها، ومفعولها ضميرين متَّصلين ؛ ومنه الآيةٌ الكريمةُ ؛ فإنَّ الفاعل المفعول مُتَّحدانِ في المعنى ؛ إذ هما للمتكلِّم، وهما ضميران متصلان، ومثله : رأيتك في المنام قائماً، وزيدٌ رآه قائماً، ولا للمتكلِّم، وهما ضميران متصلان، ومثله : رأيتك في المنام قائماً، وزيدٌ رآه قائماًن ولا يجوزُ ذلك في غير ما ذكر.
لا تقول :" أكْرَمتُنِي "، ولا " أكرمتَك "، ولا " زيدٌ أكْرمَهُ " ؛ فإ، أردت بذلك، قل : أكْرمْتُ نَفْسِي، أو إيَّاي ونفسكَ، أوْ [ أكْرَمْتَ ] إيَّاك ونفسهُ، وقَدْ تقدَّم تحقيق ذلك.
وإذا دخلت همزةٌ النقل على هذه الحلمية، تعدت لثالثٍ، وتقدم هذا في قوله تعالى :﴿ إِذْ يُرِيكَهُمُ الله فِي مَنَامِكَ قَلِيلاً وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيراً ﴾ [ الأنفال : ٤٢ ].
والخَمْرُ : العِنَبُ، أطلق عليه ذلك ؛ مجازاً ؛ لأنه آيلٌ إليه ؛ كما يطلق الشيء على الشيء ؛ باعتبار ما كان عليه ؛ كقوله ﴿ وَآتُواْ اليتامى ﴾ [ النساء : ٢ ]، ومجاز هذا أقربُ، وقيل : بل الخَمْرُ : العِنَبُ حقيقةً في لغةِ غسَّانٍ، وإزْدِ عمان.
وعن المُعْتَمر : لقيتُ أعْرابياً حاملاً عنباً في وعاءٍ، فقلتُ : ما تحمل ؟ قال : خَمْراً.
وقراءة " أبيَّ "، وعبدالله :" أعْصِرُ عِنَباً "، لا تدلُّ على الترادف ؛ لإرداتهما ؛ لإرادتهما التفسير، لا التلاوة، وهذا كما في مصحف عبدالله :" فَوْقَ رأسِي ثَرِيداً "، فإنه اراد التَّفسيرَ فقط.
و " تَأكُلُ الطَّيْرُ " : صفةٌ ل " خُبْزاً "، و " فَوْقَ " يجوز أن يكون ظرفاً للحملِ، وأن يتعلق بمحذوفٍ، حالاً من " خُبْزاً " إلاّ أنه في الأصل صفة له، والضمير في قوله " نَبِّئْنَا بِتَأويلهِ " : قال أبو حيَّان :" عائدٌ على ما قَصَّا عليه، أجري مُجْرَى اسم الإشارةِ ؛ كأنَّه قيل : تأويله ما رَأيْتَ ".
وقد سبقه إليه الزمخشريُّ، وجعله سُؤالاً، وجواباً، وقال اغيره : إنَّما واحد الضمير ؛ لأن كلَّ واحدٍ سأل عن رُؤياه ؛ وكأن كلَّ واحد منهما قال : نبئنا مارأيتُ.
و " تُرْزَقانِهِ " صفةٌ ل " طَعَامٌ "، وقوله " إلاَّ نَبَّأتُكُمَا " : استثناء مفرَّغٌ، وفي موضِ الجملة بعدها وجهان :
أحدهما : أنَّها في محلِّ نصبٍ على الحالِ، وساغ ذلك من النكرةِ ؛ لتخصُهصا بالوصف.
الثاني : أن تكون في محلِّ رفعٍ ؛ نعتاً ثانياً ل " طَعَامٌ ".
والتدقير : لا يأتيكما طعامٌ مرزوقٌ إلا حال كونه مُنَبَّاً بتأويله، أو مُنَبَّاٌ بتأويله، و " قَبْلَ : الظاهرُ أنَّها ظرفٌ ل " نَبَّأتُكُما "، ويجوز أن يتعلق بتأويله، أي : نبأتكما بتأويله الواقع قبل إتيانه.

فصل


قيل : إنَّ جماعة من أهل مصر، أرادوا المكر بالملك، فَضَمِنُوا لهذين الرجلين مالاً، ليَسُمَّا الملك في طعامه، وشرابه، فأجابهم، ثمَّ إن الساقي نكل عنه، وقبل الخبازُ الرشوة فسمَّ الطَّعام، فلما أحضروا الطعام، قال السَّاقي : لا تأكلْ أيُّها الملك ؛ فإنَّ الطعام مسمومٌ، وقال الخبَّازُ : لا تشربْ أيها الملكُ ؛ فإنَّ الشراب مسمومٌ، فقال الملك للساقي : اشربْ، فشربهُ فلم يضرُّه، وقال للخبَّاز : كل من طعامك، فأبى، فجرَّب ذلك الطعام على دابَّة، فأكلتهُ : فهلكتْ ؛ فأمر الملك بحبسهما.
وكان يوسف حين دخل السِّجن، جعل ينشر عمله، ويقول : إنِّي أعبِّر الأحلام، فقال أحدٌ الفتين لصاحبه : هلُمَّ فلنجرب هذا العبد العبرانيِّ، فتراءيا له، فسألاه من غير أن يكون رأياً شيئاً.
قال ابنُ مسعودٍ رضي الله عنه :" مَا رَأيَا شَيْئاً وإنَّما تَحالَمَا ليُجَرِّبَا يُوسفَ " عليه السلام.
وقيل : بل رأيا حقيقة، فرآهما يوسف عليه الصلاة والسلام وهما مهمومان، فسألهما عن شأنهما، فكذرا أنَّهما صاحبا الملك حبسهما وقد رأيا رؤية همَّتهما، فقال يوسف صلوات الله وسلام عليه وعلى الأنبياء والمرسلين : قُصَّا عليَّ ما رأيتما ! فقصَّا عليهن فعبَّر لهما ما رأياهُ، وعرف حرفة كلِّ واحدٍ من منامه.
وتأويلُ الشَّيء : ما يرجعُ إليه، وهو الذي يَئُولُ إليه آخرُ ذلك الأمر.
ثم قالا :﴿ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ المحسنين ﴾ : في أمر الدين، أي : نراك تُؤثِرُ الإحسانَ، وتأتي مكارمَ الأخلاق.
وقيل :﴿ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ المحسنين ﴾ في علم التعبير ؛ وذلك أنَّه حين عبَّر لم يخطىء.
[ وقيل : إنه كان يعود مرضاهم ويوقّر كبيرهم، فقالوا إنَّا لنراك من المحسنين في حقّ الأصحاب ].

فصل في حقيقة علم التعبير


وحقيقة علم التَّعبير : أنه تعالى خلق جوهر النَّفس الناطقة، بحيث يمكنها الصعودُ إلى عالم الأفلاكِ، ومطالعةُ اللَّوحِ المحفوظِ، والمانعُ لها من ذلك : اشتغالها بتدبير البدنِ، فوقت يقلُّ هذا الاشتغال، يقوى على هذه المطالعة، فإن وقعت على حالةٍ من الأحوال، ترك آثاراً مخصوصة مناسبة لذلك الإدراكِ الرَّوحاني، إلى علم الخيال، فالمعبِّر يستدلُّ بتلك الآثار الخيالية على تلك الإدراكات القلبيَّة.
قال صلوات الله وسلامه عليه :" الرُّؤيَا ثلاثةٌ : رُؤيَا ما يُحدِّثُ الرَّجلُ بِهِ نفسهُ، ورُؤيَا تحدثُ من الشَّيطانِ، ورُؤيَا جُزءٌ مِنْ ستَّةٍ وأرْبَعينَ جُزْءاً مِنَ النُّبوَّةِ ".

فصل


في قوله يوسف ما أحد قط الإ دخل عليّ من حبه بلاء، أو في البلاء الذي حل بيوسف بسبب حب الناس له : رُويَ أنَّ الفتيين لمَّا رأيا يُوسُفَ، قالا : لقد أحببناك حين رأيناك، فقال لهما يوسفُ : ناشدتكما، لا تُحِبَّاني ؛ فواللهِ ما أحبَّنِي أحدٌ قط ؛ إلاَّ دخل عليَّ مِنْ حبِّه بلاءٌ، لقد أحَبَّتْنِي عمَّتي، فدخل عليَّ بلاءٌ، ثم أحبَّني أبِي، فألقيتُ في الجبِّ، وأحبَّتْنِي امرأةُ العزيز، فحُبِسْتُ.
فلما قصَّا عليه الرؤية، كره يوسفُ أن يعبِّر لهما ما سألاه، لما علم ما في ذلك من المكروه على أحدهما، فأعرض عن سؤالهما، وأخذ في غيره، من إظهار المعجزة، والدُّعاءِ إلى التَّوحيدِ.
فقال :" لا يأتيكما طعام ترزقانه " قيلك أراد به في النوم، أي لا يأتيكما طعام ترزقانه في نومكما، إلاَّ نبأتكما بتأويله في اليقظةِ، وقيل : أراد به في اليقظةِ ؛ فقوله ﴿ لاَ يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ ﴾ في منازلكما تطعمانه، وتأكلانه " إلاَّ نَبَّأتُكمَا " أخبرتكما " بتأويلهِ " بقدره، ولو، والوقت الذي يصلُ إليكما، قبل أن يصل، وأيَّ طعام أكلتم، وكم أكلتم ومتى أكلتم.
وهذا مثلُ معجزةِ عيسى عليه الصلاة والسلام حيثُ قال :﴿ وَأُنَبِّئُكُم بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ ﴾ [ آل عمران : ٤٩ ].
فقال : هذا فعلُ القوَّافين والكهنةِ، فمن أين لك هذا العلم ؟.
فقال : ما أنا بكاهنٍ، وإنما ذلك العلمُ مما علَّمني ربِّي.
ثم قال :﴿ إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ بالله وَهُمْ بالآخرة هُمْ كَافِرُونَ ﴾، وفي سؤالٌ :
وهو قوله :﴿ إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ بالله ﴾ يوهمُ أنه صلوت الله وسلامه عليه كان في هذه الملَّة ؟.
والجوابُ من وجوه :
الأول : أنَّ التَّرك عبارةٌ عن عدمِ التعرُّضِ للشيء، وليس من شرطه أن يكون قد
كان خائضاً فيه.
والثاني : أن يقال : إنه عليه الصلاة والسلام كان عبداً لهم بحسب زعمهم ولعلَّه قبل ذلك كان لا يظهرُ التوحيد، والإيمان ؛ خوفاً منهم، ثم إنَّه أظهره في هذا الوقت ؛ فكان هذا جارياً مجرى تركِ ملَّة أولئك الكفرة بحسب الظاهر.
قوله :( إني تركت ) يجُوز أن تكون هذه مستأنفة، أخبر بذلك عن نفسه، ويجوز أن تكون تعليلاً لقوله :﴿ ذلك مما علمني ربي ﴾، أي : تركي عبادة غير الله، سببٌ لتعليمه إيَّاي ذلك، وعلى الوجهين لا محلَّ لها من الإعراب، و " لا يُؤمِنُونَ " : صفةٌ ل " قومٍ ".
وكرَّر " هُمْ " في قوله :﴿ وَهُمْ بالآخرة هُمْ كَافِرُونَ ﴾ ؛ قال الزخشريُّ :" للدَّلالة على أنهم خُصُوصاً كافرون بالآخرة، وأنَّ غيرهم مؤمنون بها ".
قال أبُوا حيَّان :" وليستْ " هُمْ " عندنا تدلُّ على الخُصوصِ ".
قال شهابٌ الدِّينك " لم يَقل الزمخشريُّ إنها تدلُّ على الخُصُوصِ، وإنَّما قال :" وتكرير " هُمْ " للدلالةِ على الخصوصِ " فالتكريرُ هو الذي أفاد الخصوص وهو معنٌى حسنٌ ".
وقيل :" كرَّر " هُمْ " ؛ للتوكيد.
وسكَّن الكوفيُّون الياء مِنْ :" آبَائِي "، ورويت عن أبي عمرٍو، وإبراهيم، وما بعده : بدلٌ، أو عطفٌ بيانِ، أو منصوبٌ على المدح.
قوله ﴿ واتبعت مِلَّةَ آبآئي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ ﴾، لمَّا أدَّعى النبوة، وتحدَّى بالمعجزة وهوعلمُ التَّعبير قرَّر كونه من أهل النبوة، وأنَّ أباه وأجداه كانوا أنبياء عليهم الصلاة والسلام فإنَّ الإنسان متى ادَّعى حرفة أبيه وجده، لم يستبعد ذلك منه، وأيضاً : فكما أنَّ درجة إبراهيم عليه الصلاة والسلام وإسحاق، ويعقوب، كان أمْراً مشهوراً في الدنيا، فإذا ظهر أنَّه ولدهم، عظَّموه، ونظروا إليه بعينِ الإجلالِ ؛ فكان انقيادهم له أتمَّ وتتأثر قلوبهم بكلامه.
فإن قيل : إنَّه كان نبيَّا، فكيف قال :﴿ واتبعت مِلَّةَ آبآئي ﴾، والنبيُّ لا بدَّ وأن يكون مختصاً بتشريعة نفسه ؟.
فالجواب : لعلَّ مراده أنَّ التوحيد كلا يتغيَّر، ولعله كان رسُولاً من عند الله ؛ إلاَّ أنه كان على شريعةِ إبراهيم صلوات الله وسلام عليه وعلى الأنبياء المرسلين.
قوله :﴿ مَا كَانَ لَنَآ أَن نُّشْرِكَ بالله مِن شَيْءٍ ﴾ فيه سؤال :
وهو أنَّ حال كُلِّ من المكلفين كذلك ؟.
والجواب : ليس المراد بقوله :" مَاكَانَ لنَا " أنَّهُ حرَّم ذلك عليهم، بل المرادُ أنه تبارك وتعالى طهَّره، وطهر آباءه عن الكفر ؛ كقوله ﴿ مَا كَانَ لِلَّهِ أَن يَتَّخِذَ مِن وَلَدٍ ﴾ [ مريم : ٣٥ ].
قوله :" مِنْ شيءٍ " يحوز أن يكون مصدراً، أي : شيئاً من الإشراك، ويجوزُ أن يكون واقعاً على الشِّرك، أي : ما كان لنا أن نُشرِكَ شيئاً غيره من ملكِ، أو إنسٍ، أو جنٍّ، فكيم بصنَم ؟.
و " مِنْ " [ مزيدة ] على التَّقديرين ؛ لوجود الشرطين.
ثم قال :" ذلِكَ " أي : التَّوحيد والعلمُ ﴿ مِن فَضْلِ الله عَلَيْنَا وَعَلَى الناس ﴾، بِمَا بيَّن لهم من الهدى ؛ ﴿ ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَشْكُرُونَ ﴾ نعم الله على الإيمان.
حُكِيَ أنَّ واحداً من أهْلِ السُّنَّةِ دخل على بشرِ بن المعتمر، وقال له : يا هذا : هل تشكرُ الله على الإيمان أم لا ؟ فإنْ قلت لا، فقد خالفت الإجماع، وإن شكرته، فكيف تشكرُ على ما ليس فعلاً له ؟.
فقال له بشرٌ : إنَّا نشكرُ الله على أنه تعالى أعطانا : القدرة، و العقل، والآلة، فيجبُ علينا أن نشكره على إعطاءِ القدرةِ والآلةِ، فأمَّا أن نشكرهُ على الإيمان، مع أنَّ الإيمان ليس فعلاً، فذلك باطلٌ، فدخل عليهم ثمامةُ بن الأشرسِ، وقال : إنَّا لا نشكرُ الله على الإيمان، بل اللهُ يشكرنا عليه ؛ كما قال تعالى :﴿ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُورًا ﴾ [ الإسراء : ١٩ ] فقال بشرٌ :" لمَّا صعب الكلامُ، سهُلَ ".
قال ابن الخطيب :" واعلم أنَّ الذي اقترحه ثمامة باطلٌ ؛ بنص هذه الآية ؛ لأنَّه تعالى بين أن عدم الإشراك من فضل الله، ثم بيَّن أنَّ أكثر الناس لا يشكُرون هذه النعمةَ، وإنما ذكره على سبيل الذَّمِّ، فدل هذا على أنه يجبُ على كل مؤمن أن يشكُر الله على نعمةِ الإيمانِ، وحينئذٍ تقوى الحجَّةُ، وتكمُل الدلالة ".
قال القاضي : قوله : ذلِكَ " إن جعلناه إشارة إلى التمسك بالتوحيدِ، فهو من فضل الله تعالى لأنه إنما حصل بإلطافه، وتسهيله، ويحتملُ أن يكون إشارة إلى النبوة.
والجواب : أنَّ " ذَلِكَ إشارة إلى المذكورِ السابقِ، وذلك هو تركُ الإشراكِ فوجب أن يكون ترك الإشراك من فضل الله تعالى والقاضي يصرفه إلى الإلطاف والتسهيل ؛ فكان هذا تركاً للظاهر، وأمَّا صرفه إلى النبوة، فبعيدٌ ؛ لأن اللفظ الدالَّ على الإشارة يجبُ صرفه إلى أقرب المذكورات، وهو هنا عدمُ الإشراك.
قوله تعالى :﴿ ياصاحبي السجن ﴾ : يجوزُ أن يكون من باب الإضافة للظروف ؛ إذ الأصل : يا صاحبيّ في السِّجن، ويجوز أن تكون من باب الإضافة إلى المشبه بالمعفول به، والمعنى : يا سَاكِني السِّجن، وذكر الصُّحبة، لطُولِ مقامهما فيه ؛ كقوله تعالى :﴿ أَصْحَابُ النَّارِ ﴾ [ الأعراف : ٤٤ ٥٠ ].
وقوله :﴿ أَمِ الله ﴾، هنا : متًّصلةٌ ؛ عطفت الجلالة على " أرْبَابٌ ".

فصل


اعلم أنه عليه ا لصلاة والسلام لما أدَّعى النبوة في الآية الأولى، وكان إثباتُ النبوة مبينًّا على إثبات الإلهيَّة، لا جرم شرع في هذه الآيةِ في تقريرِ الإلهياتِ، ولما كان أكثرُ الخلقِ مقرِّين بوجودِ الإله العالم القادر، وإنما ا لشأنُ في أنهم يتخذُون أصناماً على صُورِ الأرواح الفكلية، ويعبدونها، ويتوقَّعُون حصول النَّفْعِ والضُّر منها، لا جرم كان سعيُ أكثر الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم في المنع من هذه، وكان الأمر على هذا إلى زمانِ يوسف صلوات الله وسلامه عليه وعلى الأنبياء والمرسلين.
فلهذا السبب، شرع في ذكر ما يدلُّ على فسادِ العقول بعبادةِ الأصنام ؛ فقال :﴿ أَأَرْبَابٌ مُّتَّفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ الله الواحد القهار ﴾، والمراد منه الاستفهام على سبيل الإنكارِ، وتقريرُ فساد القول بعبادة الأصنام : أنه تعالى بيَّن أن كثرة الآلهةِ توجب الخلل والفاسد في هذا العالم ؛ لقوله تعالى :﴿ لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا ﴾ [ الأنبياء : ٢٢ ] فلمَّا قرَّر أنَّ كثرة الآلهة تُوجبُ الخلل والفساد، وكونُ الإله واحدٌ، يقتضي حصول الأنتظام، وحسن الترتيب قال هاهنا :﴿ أَأَرْبَابٌ مُّتَّفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ الله الواحد القهار ﴾.
وأما تقرير كون كثرةِ الآلهةِ، توجب الخلل والفساد في العالم : إنَّه لو كان اثْنانِ أو ثلاثةُ، لم نعلم من الذي خلقنا، ورزقنا، ودفع الآفاتِ عنَّا ؛ فيقع الشِّرْكُ في أنَّا نعبدُ هذا أم ذاك.
ومعنى : كونهم متفرقين، أي : شتَّى، هذا من ذهب، وهذا من فضةٍ، وها من حديدٍ، وهذا أعلى، وهذا أوسط، وهذا أدْنَى، متباينون لا تضر ولا تنفعُ.
﴿ خَيْرٌ أَمِ الله الواحد القهار ﴾، " الوَاحِدُ " : لا ثاني لهُ، " القَهَّارُ " الغالبُ عل الكلِّ.
ثُمَّ عجز الأصنام، فقال :﴿ مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ أَسْمَآءً ﴾ أي : من دون الله، وإنما ذكر بلفظ الجمعِ، وقد ابتدأ الخطاب لاثنين ؛ لأنه أراد جميع أهل السِّجن، وكلَّ من هو على مثل حالهمَا من الشرك.
فإن قيل : لم سمَّاها أرباباً، وليست كذلك ؟.
فالجوابك لا عتقادهم فيها أنَّها كذلك، وأيضاً : الكلامُ خرج على سبيل الفرضِ، والتقدير، والمعنى : أنَّها إن كانت أرباباً، فهي خيرٌ أم الله الواحدج القهار ؟.
فإن قيل : كيف يجوزُ التفاضلُ بين الأصنامِ، وبين الله تعالى، حتَّى قيل : إنها خيرٌ أم اللهِ ؟.
فالجوابُ : أنَّهُ خرج على سبيل الفرض، والمعنى : لو سلمنا أنَّه حصل فيها ما يوجبُ الخير، فهي خيرُ أم اللهُ الواحدُ القهار ؟.
قوله تعالى :﴿ إِلاَّ أَسْمَآءً ﴾، إما أن يراد بها المسميات، أو على حذف مضاف، أي : ذواتُ المُسمَّيات، و " سَمِّتُمُوهَا " ك صفةٌ، وهي متعديةٌ لاثنين حذف ثانيهما، أي : سَمَّيتُمُوها آلهة.
و " مَا أنْزَلَ " : صفةٌ ل : أسْمَاء "، و " مِنْ " : زائدةٌ في :" مِنْ سُلطَانٍ "، أي : حُجَّةٍ.
و " إن الحُكْمُ " :" إنْ " نافيةٌ، ولا يجوز الإتباع بضمَّة الحاء ؛ كقوله :﴿ وَقَالَتِ اخْرُجْ ﴾ [ يوسف : ٣١ ]، ونحو ؛ لأنَّ الألف واللام كلمةٌ مستقلةٌن فهي فاصلةٌ بينهما.

فصل


قال في الآية :﴿ أَأَرْبَابٌ مُّتَّفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ الله الواحد القهار ﴾، وذلك يدلُّ على وجودِ هذه المسميات، ثم قال في عقبه :﴿ مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ أَسْمَآءً سَمَّيْتُمُوهَآ ﴾، وهذا يدلُّ على أنَّ المسمى غير حاصلٍ، وبينها تناقضٌ.
والجوابُ : أنَّ الذوات موجودةٌ حاصلةٌ إلاَّ أنَّ المسمى بالإله غيرُ حاصلٍ ؛ وبيانه من وجهين :
الأول : أن ذوات الأصنام، وإن كانت موجودةً، إلاَّ أنَّها غيرُ موصوفةٍ بصفاتِ الإلهية، وإذا كان كذلك، كان الشيءُ الذي هو مسمَّى بالإلهيَة في الحقيقة غير موجودٍن ولا حاصلٍ.
الثاني : رُوِيَ أنَّ عبدةً الأصنام مشبهةٌ، فاعتقدوا أنَّ الإله هو النورُ الأعظمُ، وأن الملائكة أنوارٌ صغيرةٌ ؛ فوضعوا علَى صورة تلك الأنوارِ هذه الأرباب، ومعبودهم في الحقيقةِ هو تلك الأنوارُ، ثُمَّ إنَّ جماعة ممن يعبدون الأصنام، قالوا : نحن لا نقولُ إنَّ هذه الأصنام آلهةٌ للعالم، بمعنى أنَّها هي التي خلقت العالم، إلاَّ أنَّا نسميها آلهةٌ نعبدها ؛ لا عتقادنا أنَّ الله أمرنا بذلك.
فأجاب الله تعالى عنه، فقال : أمَّا تسميتها بالآلهةِ، فما أمر الله بذلك، ولا أنزل في هذه التَّسمية حُجَّة، ولا برهاناً، وليس لغيرِ الله حكمٌ يجبُ قبوله، ولا أمرٌ يجبُ إلزامهُ بل الحُكْمُ والأمرُ ليس إلاَّ للهِ.
ثم إنه تعالى :﴿ أَمَرَ أَلاَّ تعبدوا إِلاَّ إِيَّاهُ ﴾ : لأنَّ العبادة نهايةُ التعظيم ؛ فلا يليقُ إلاَّ بمن حصل منه : الخلقُ، و الإحياءُ، والعقلُ، والرزقُ، والهدايةُ، ونَعمُ الله كثيرةٌ، وإحسانه إلى الخلق غير متناهِ.
ثم قال تعالى :﴿ ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَعْلَمُونَ ﴾، وذلك أنَّ أكثر الخلق ينسبون حدُوثَ الحوادثِ الأرضية إلى الاتصالاتِ الفلكية، والمناسباتِ الكوكبيَّة ؛ لأجل أنه تقرر في العقولِ أنَّ الحادثَ لا بُدَّ له من سببٍ، فاعتبروا أحْوالَ الشمسِ في أرباع الفلكِ، وربطُوا الفُصُول الأربعة بحركة الشمسِ.
ثم إنهم لما شاهدوا أحوال النَّباتِ والحيوان، تختلفُ باختلافِ الفصول الأربعة غلب على طباع أكثرِ الخلقِ، أنَّ المدبِّر [ لحدوث ] الحوادث في العالم، هو الشمسُ والقمر، وسائرُ الكواكب.
ثم إنه تعالى إذا وفَّق إنساناً حتَّى ترقَّى في هذه الدَّرجةِ، وعرف أنَّها في ذواتها، وصفاتها مُفتقرةٌ إلى موجودٍ، مبدع قادرٍ، قاهر، عليم، حكيمٍ، فذلك الشخصًُ يكون في غاية النُّدرةِ ؛ فلهذا قال :﴿ ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَعْلَمُونَ ﴾.
قوله " أمَرَ " يجوز أن يكون مستأنفاً، وهو الظاهر، وأن يكون حالاً، و " قد " معه مرادة عند بعضهم.
قال أبو البقاءِ : وهو ضعيفٌ لعضف العامل فيه.
يعني بالعامل : ما تضمنه الجَارُّ في قوله " إلاَّ الله " من الاستقرار.
قوله تعالى :﴿ ياصاحبي السجن أَمَّآ أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي ﴾، العامَّة على فتح الياء، من سقاه يسقيه، وقرأ عكرمة في رواية " فيُسْقِي " بضم حرفِ المضارعة من " أسْقَى " وهما لغتان، قال : سقاه، وأسقاه، وسيأتي أنَّهُما قراءتان في السبع، و ﴿ نُّسْقِيكُم مِّمَّا فِي بُطُونِهِ ﴾ [ النحل : ٦٦ ]، هي هما بمعنَى أم بينهما فرقٌ ؟.
ونقل ابنُ عطيَّة، عن كرمة، والجحدريِّ : أنَّهما قرءا " فيُسْقَى ربُّهُ " مبنيًّا للمعفول، ورفع " ربُّهُ "، ونسبها الزمخشريُّ لعكرمة فقط.

فصل


اعلم أنه صلوات الله وسلامه عليه لما قرَّر التوحيد والنبوة، عاد إلى الجواب عن السُّؤالِ الذي ذكر، ففسَّر رُؤياهما، فقال :﴿ ياصاحبي السجن أَمَّآ أَحَدُكُمَا ﴾، وهو صاحبُ الشَّراب " فيَسْقِي ربَّهُ " : يعني الملك، وأما الآخرُ : يعنى الخبَّاز، فيدعوه الملكُ، ويخرجه، ويصلبه ؛ فتأكل الطيرُ مِنْ رأسه.
قال ابنُ مسعودٍ رضي الله عنه :" لمَّا سَمِعَا قول يوسف صلوات الله وسلامه عليه قالا : مَا رَأيْنَا شَيْئاً إنَّما كُنَّا نلعَبُ "، قال يوسف :" قُضَيَ الأمْرُ الذي فِيهِ تَسْتفتيَانِ ".
فإن قيل : هذا الجوابُ الذي ذكره يوسف عليه الصلاة والسلام ذكره ؛ بناءً على أنَّ الوحي من قب لالله تعالى أو نباءً على علم التَّعبير.
والأول باطلٌ ؛ لأن ابن عباس رضي الله عنهما نقل أنَّما ذكره على سبيل التعبير، وأيضاً قال الله :﴿ وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِّنْهُمَا ﴾، ولو كان ذلك التعبير مبنيًّا على الوحي، كان الحاصلُ مه القطعُ واليقينُ، لا الظنُّ والتَّخمينُ.
والثاني أيضاً باطلٌ ؛ لأن علم التعبير مبنيٌّ على الظنِّ، والقضاءُ : هو الإلزامُ الجزمُ والحكمُ البتُّ، فكيف بني الجزم والقطع على الظنِّ والحسبانِ ؟.
والجواب : لا يبعد أن يقال : إنهما سألاه عن ذلك المنام، صدقا فيه أو كذبا، فإنَّ الله تعالى أوحى إليه أنَّ عاقبة كُلَّ واحدٍ منهما تكون على ذلك الوجهِ المخصوص، فملا نزل الوحيُ بذلك الغيب عند ذلك السؤال، وقع في الظنَّ أنَّه ذكره على سبيل [ التَّعبير ].
ولا يبعد أيضاً أن يقال : إنه بنى ذلك الجواب على علم التعبير.
وقوله " قُضِيَ الأمْرُ الَّذي فِيهِ تَسْتفْتيانِ " ما عنى به أنَّ الذي ذكره واقعٌ لا محالة، بل عنى أنَّ حكمه في تعبير ما سألاه عنه ذلك الذي ذكره.
قوله :" قُضِيَ الأمْرُ " قال الزمخشريُّ :" ما اسْتفْتَيَا في أمرٍ واحدٍ، بل في أمرين مختلفين، فما وجهُ التوحيدِ ؟ قلتُ : المرادُ بالأمرِ ما أتهما به من سمِّ الملك، وما يُجِنَا من أ جله، والمعنى : فُرغَ من الأمر الذي عنه تسألان ".
قوله تعالى :﴿ وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ ﴾، فاعلُ " ظنَّ " : يجوزُ أن يكون يوسف عليه الصلاة والسلام إن كان تأويله بطريقِ الاجتهادِ، وأن يكون الشَّرابي إن كان تأويله بطريقِ الوحي، أو يكون الظنُّ بمعنى اليقين ؛ كقوله تعالى :﴿ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاَقُو رَبِّهِمْ ﴾ [ البقرة : ٤٦ ] و ﴿ إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيهْ ﴾ [ الحاقة : ٢٠ ] قال الزمخشريُّ. يعني أنه إن كان الظنُّ على بابه، فلا يستقيمُ إسناده إلى يوسف ؛ إلاَّ ان يكون تأويله بطريق الاجتهاد، لأه منتى كان بِطَريقِ الوحْيِ، كان يَقِيناً ؛ فينسب الظنُّ حينئذٍ للشرابيّ لا ليوسف عليه الصلاة والسلام.
وأمَّا إذا كان الظنُّ بمعنى اليقينِ، فيصح نسبتُه إلى يوسف عليه الصلاة والسلام إن كان تأويله بطريق الوحْيِ.
وذهب قتادة : إلى كونِ الظن على بابه وهو مسندٌ إلى يوسف إن كان تأويله بطريق الاجتهاد، فإنه قال :" الظنُّ هو على بابه ؛ لأنّ عبارة الرُّؤيا ظنٌّ ".
قوله :" مِنْهُمَا "، يجوزُ أن يكون صفةً ل " نَاجٍ "، وأن يتعلَّق بمحذوفٍ ؛ على أنَّهُ حالٌ من الموصول.
قال أبو البقاءِ : ولا يكونُ متعلقاً ب " نَاجِ " لأنَّه ليس المعنى عليه " قال شهاب الدين : لو تعلق ب " نَاجِ " لأفْهم أنَّ غيرهما نَجَا منهما، أي : انفلت منهما، والمعنى : أنَّ أحدهما هو النَّاجي، وهذا المعنى الذي نبه عليه بعيدٌ توهُّمهُ.
والضميرُ في " فَأنْسَاهُ "، يعودُ على الشرابيِّ، وقيل : على يوسف ؛ وهو ضعيفٌ.

فصل في الاختلاف فيمن أنساه الشيطان ذكر ربه


قال يوسف عليه الصلاة والسلام للناجي من الرجلين :﴿ اذكرني عِندَ رَبِّكَ ﴾، إي : عند الملك، أي : اذكرني عنده أنَّهُ مظلومٌ من جهة إخوته، لما أخرجوه، وباعوه، ثم إنَّه مظلوم في هذه الواقعة ؛ التي لأجلها حُبِسَ.
ثم قال تعالى :﴿ فَأَنْسَاهُ الشيطان ذِكْرَ رَبِّهِ ﴾ قيل : أنْسَى الساقي ذكر يوسف للملك، تقديره : فأنساه الشيطان ذكره لربه.
ورجَّح بعضُ العلماء هذا القول، فقال : لو أنَّ الشيطان أنْسَى يوسف ذكر الله، لما استحقَّ العقاب باللَّبثِ في السِّجْنِ ؛ إذ النَّاسي غيرٌ مُؤاخذٍ.
وقد يجابُ عن ذلك بأنَّ النِّسيانَ قد يكونُ بمعنى التَّركِ، فلما ترك ذكر اللهِ، ودعاهُ الشَّيطانُ إلى ذلك، عوقب.
وأجيب عن هذا الجواب بقوله تعالى :﴿ وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ ﴾ [ يوسف : ٤٥ ]، فدلَّ على أن النَّاسي هو السَّاقِي لا يوسف، مع قوله تعالى :﴿ إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ ﴾ [ الحجر : ٤٢ ]، فكيف يصحُّ أن يضاف نسيانه إلى الشيطان، وليس له على الأنبياء سلطان ؟.
وأجيب عن هذا بأن النيسان لا عصمة للأنبياء عنه، إلاَّ في وجه واحد وهو الخبرُ من الله تعالى، فيما يلقَّونه ؛ فإنَّهم مَعْصُومُون فيه، وإذا وقع منهم النيسان حيثُ يجوزُ وقوعه، فإنَّه ينسبُ إلى الشيطان ؛ وذلك إنَّما يكونُ فميا أخبر الله عنهم، ولا يجوز لنا نحن ذلك فيهم، قال عليه السلام :" نَسِيَ آدمُ فنَسِيَتْ ذُريته " وقال :" إنَّما أنا بشرٌ، أنْسَى كما تَنْسَوْن ".
وقال ابنُ عباس رضي الله عنهما وعليه الأكثرون :" أنسى الشيطانُ يوسف ذكر ربِّه ؛ حتَّى ابتغى الفرج من غيره، واستعان بمخلوقٍ ؛ وتلك غفلة عرضتْ ليُوسفَ مِنَ الشَّيطانِ ".
" فَلبِثَ " : مكث " في السِّجنِ بضْعَ سِنينَ " قال صلى الله عليه وسلم :" يَرْحَمُ اللهُ أخِي يُوسفَ ؛ لوْ لَمْ يقُلْ :" اذْكرنِي عِنْدَ ربِّكَ " ؛ ما لبثَ فِي السِّجن " ومما يدلُّ على أنَّه المراد قوله :﴿ فَأَنْسَاهُ الشيطان ذِكْرَ رَبِّهِ ﴾ ولو كان المراد الساقي لقال فأنساه الشيطان ذكر يوسف.
واعلم أنَّ الاستعانة بغيرِ الله في دفع الظلمن جائزةٌ في الشريعة، لا إنكار عليه.
وإذا كان كذلك، فلم صار يوسف عليه الصلاة والسلام مُؤاخذاً بهذا القدر ؟ وكيف لا يصيرُ مؤاخذاً بالإقدام على الزِّنا ؟ ومكافأة الإحسان بالإساءة [ أولى ] ؟.
فلما رأينا الله أخذ يوسف بهذا القدرِ، ولمْ يؤاخذه في تلك القضية ألبتَّة، وما عابهُ، بل ذكره بأعظمِ وجوهِ المدحِ والثناءِ علمنا أنَّهُ عليه الصلاة والسلام كان مُبَرًّأ ممَّا نسبوهُ إليهِ.

فصل في اشتقاق البضع وما يدل عليه


قال الزجاج :" اشتقاقُ الضْعِ من بَضعْتُ بمعنى قَطْعْتُ ".
قال النَّواوي :" والبِضْعُ بكسر الباء، وقد تفتح : ومعناه القطعةُ من العدد ".
قال الفراء : لا تذكرُ إلاَّ مع عشرةٍ، أو عشرينَ إلى التِّسعينَ ؛ وذلك يقتضي أن يكون مخصوصاً بما بين الثلاثة إلى التسعةِ، قال : وهكذا رأيتُ العرب يقولون، وما رأيتهم يقولون : بضعٌ ومائةٌ، قال : وإنما يقالُ نيِّفٌ مائة ؛ والقرآنُ يردُّ عليه.
ويقال : بضعُ نسوة، وبضعةُ رجالٍ.
روى الشعبيُّ رضي الله عنه " أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قيل لهُ : كم البِضْعُ ؟ قال : مَا دُونَ العَشرة ".
وقال ابنُ عبَّاسٍ رضي الله عنهما :" مَا دُونَ العشرة ".
وقال مجاهدٌ رضي الله عنه : مابين الثَّلاث إلى السَّبع.
وقيل إلى الخمسِ.
وقال قتادةُ رضي الله عنه : مابين الثَّلاث إلى التِّسعِ.
وأكثر المفسرين على أن البِضْعَ في هذه الآية سبعُ سنينَ، وقد لبث قبلهُ خمس سنين فجملته، اثنتا عشرة سنة.
قال ابن عبَّاسِ رضي الله عنهما :" لما تضرَّع يوسفُ صلوات الله وسلامه عليه لذلك الرجلِ، كان قد قرُبَ وقتُ خروجه، فلما ذكر ذلك لبث في السجن بعده سبع سنينَ ".
وقيل : البِضْعُك فوق الخمسةِ ودُون العشرة.
وقد تقدم عند قوله ﴿ بِضَاعَةً ﴾ [ يوسف : ١٩ ]، والبَعْضُ قد تقدَّم أه من هذا المعنى، عند ذكر البعوضةِ.
وفي المدَّة التي أقامها يوسف في السجن أقوالٌ :
أحدهما : قال ابنُ جريجٍ، وقتادة، ووهبُ بنُ منبِّه : أقام أيوبُ في البلاءِ سبعَ سنينَ، وأقام يوسفُ في السِّجن سبع سنينَ.
وقال ابن عباسك اثنتَيْ عَشْرة سنة.
وقال الضحاكُ : أرْبع عشرة سنة.
قوله تعالى: ﴿وَقَالَ الملك إني أرى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ﴾ الآية.
اعلم أنَّه تعالى عزَّ وجلَّ إذا أرادَ شيئاً، هيّأ أسبابه، ولما دنا فرجُ يوسف عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ رأى ملكُ مصر في النوم سبع بقراتٍ سمانٍ خرجن من نهرٍ يابسٍ، ثم خرج عَقِيبَهُنَّ سبعُ بقراتٍ عجافٍ في غايةِ الهُزال، فابتلعتِ العجافُ السِّمان، ورأى سبعَ سُنبلاتٍ خُضرٍ، قد انعقد حبُّها، وسبعاً أخر يابساتٍ، قد استحصدت، فالتوتِ اليابساُ على الخضرِ حتَّى غلبْنَ عليها، فلم يبق من خضرتها شيءٌ؛ فجمع الكهنة، والسَّحرة، والنجامة، والمُعبِّرين، وقصَّ عليهم رؤياه؛ وهو قوله ﴿يا أيها الملأ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِن كُنتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ قالوا أَضْغَاثُ أَحْلاَمٍ﴾، أخلاط أحلامٍ مُشْتبهَةٌ أهاويلُ.

فصل


قال عليٌّ بنُ أبي طالب كرم الله وجهه: «المعز والبقر إذا دخلت المدينة، فإن كانت سماناً، فهي سِني رخاءٍ، وإن كانت عجافاً، كانت شداداً، وإن كانت المدينة مدينة بحرٍ، وأبَّان سفرٍ، قدمت سفنٌ على عددها، وحالها؛ وإلاَّ كانت فتناً مترادفةً كأنها وجوهُ البقر يشبه بعضها بعضاً؛ كما قال عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ في الفتنِ:» كأنَّها صَياصِيُّ البقَرِ «؛ لتشابهها، إلاَّ أن تكون صفراً كلَّها، فإنَّها أمراضٌ تدخل على النَّاس، وإن كانت مختلفة الألوان شنيعة القرون، كان الناسُ ينفرون منها، أو كان النارُ والدخانُ يخرج من أفواهها؛ فإنها عسكر، أو غارة أو عدوّ، يضرب عليهم، وينزلُ بساحتهم، وقد تدلُّ البقرة على الزَّوجة، والخادم، والغلَّة والسَّنة: لما يكونُ فهيا من الغلَّةِ، والولدِ، والنباتٍ».
قوله: «سِمَانٍ»، صفةٌ ل «بَقَراتٍ»، وهو جمعُ سمينةٍ، ويجمع «سَمِين» أيضاً عليه يقال: رجالٌ سمانٌ ونساءُ سمان؛ كما يقال: رجالُ كرامٌ ونساءٌ كرامٌ، و «السِّمن» :
112
مصدر سَمِنَ يَسْمَنُ فهو سَمِينٌ، فالاسمُ والمصدر، جاءا على غير قاسٍ؛ إذا قياسهما «سَمَن» بفتح الميم فهو سَمِن بسكرها؛ نحو فَرِحَ فرحاً فهو فرح.
قال الزمخشريُّ: «فإن قلتَ: هل من فوقٍ بين إيقاع سمانٍ صفة للتمييز: وهو بقراتٍ دون المُميَّزِ: سَبْعَ بقرات سماناً؟ قلتُ: إذا أوقعتها صفة ل» بقَراتٍ «، فقد قصدت إلى أن تميِّز السبع بنوعٍ من البقرات، وهو السِّمان منهم، لا بِجِنْسهِنَّ، ولو وصفت السبع بها، لقصدت إلى تمييز السبع بجنس البقراتِ لا بنوع منها، ثم رجعت فوصفت المُميَّز بالجنس بالسمن.
فإن قلت: هلا قيل:»
سبع عجافٍ «على الإضافة.
قلت: التمييز موضوع الجنسِ، والعجافُ وصفٌ لا يقع البيان به وحده، فإن قلت: فقد يقولون: ثلاثة فرسانٍ، وخمسة أصحابٍ، لبيانِ؛ قلتُ: الفارسُ، والصاحبُ، والرَّاكب، ونحوها صفاتٌ جرت مجرى الأسماءِ؛ فأخذت حكمها، وجاز فيها ما لم يجز في غيرها، ألا تراك ألا تقول: عندي ثلاثةً ضخامٌ ولا أربعةٌ غلاظٌ.
فإن قلت: ذلك مما يشكل، وما نحنُ بسبيله لا إشكال فيه، ألا ترى أنه لم يقل: وبقرات سبع عجاف؛ لوقوع العلم بأن المراد البقرات قلت: ترك الأصل لا يجوز مع وقوع الاستغناء عما ليس بأصل، وقد وقع الاستغناء عن قولك: سبع عجاف عمَّا تقترحهُ من التمييز بالوصف «انتهى.
وهي أسئلةٌ وأجوبةٌ حسنة، وتحقيق السؤال الأول وجوابه: أنه يلزمُ من وصفِ التَّمييز بشيء وصف المميز به، ولا يلزم من وصف المميز وصف التمييز بذلك الشيء؛ بيانه: أنك إذا قلت:»
عندي أربعة رجالٍ حسانٍ «بالجر، كان معناه: أربعةٌ من الرجال الحسانِ؛ فيلزُم حسنُ الإربعةِ؛ لأنهم بعض الرجالِ الحسانِ، وإذا قلت: عندي أربعة رجالٍ حسانٌ برفع حسان كان معناه: أربعةٌ من الرجال حسان، وليس فيه دلالة على وصف الرجال بالحسن.
وتحقيق الثاني وجوابه: أنَّ أسماء العدد لا تضافُ إلى الأوصاف إلا في ضرورة وإنما يجاء بها تابعة لأسماء [العدد] ؛ فيقال: عندي ثلاثةٌ قُرشيُّونَ، ولا يقال ثلاثة قرشيِّين بالإضافة إلا في شعرٍ، ثم أعترض بثلاثةٍ فرسانٍ، وأجاب بجريانِ ذلك مجرى الأسماء.
وتحقيقُ الثالث: أنه إنَّما امتنع»
ثلاثةُ ضخامٍ «ونحوه؛ لأنه لا يعلم موصوفه، بخلاف الآية الكريمة، فإنَّ الموصوف معلومٌ، ولذلك لم يصرخ به.
113
وأجاب عن ذلك: بأنَّ الأصل عدم إضافةِ العددِ إلى الصِّفة كما تقدم، فلا يترك هذا الأصل مع الاستغناء عنه بالفرع.
وبالجملةِ: ففي هذه العبارةِ قلقٌ، هذا مُلخَّصُهَا.
ولم يذكر أبو حيَّان نصه ولا اعترض عليه، بل لخًّص بعض معانيه، وتركهُ على إشكاله.

فصل في اشتقاق» عجاف «


جمعُ عجفاء: عِجَاف والقياس: عُجْف؛ نحو: حَمْرَاء، وحُمْر؛ حملاً له على سمانٍ؛ لأنَّه نقيضُه، ومن دأبهم حملُ النظير على النظيرِ، والنَّقيضِ على النقيض، قاله الزمخشريُّ
والعَجَفُ: شدةُ الهزالِ الذي ليس بعده هزال؛ قال: [الكامل]
٣١٠٦ - عَمْرُو الَّذي هَشَمَ الشَّريدَ لقَوْمِهِ ورِجَالُ مَكَّة مُسْنِتُونَ عِجَافُ
قال الليث: العَجَفُ: ذهابُ السِّمن، والفِعْلُ: عجف يَعجفُ، والذَّكرُ: أعْجفُ، والأنثى: عَجْفاء، والجمع عِجَافٌ في الذكران والإناث.
وليس في كلام العربِ: أفْعَلُ، وفعلاء، وجمعها على: فِعَالٍ غَيْر أعْجفُ، وعِجَاف، هي شاذة حملوها على لفظ سمانٍ، وعجافٍ؛ لأنهما نقيضان، ومن عادتهم حملُ النَّظيرِ على النظير، والنَّقيضِ على النَّقيضِ.
وقال الرَّاغب: هو من قولهم: نَصْلٌ أعجفُ، أي: رقيقٌ.
وعَجَفَتْ نفسي عن الطَّعام وعن فلانٍ: إذا نبت عنهما، وأعْجفَ الرَّجل أي: صارتْ [إيله] عِجَافاً.
»
وأخَرَ يَابِساتٍ «، قوله:» وأخَرَ «نسقٌ على قوله» سَبْعَ «لا على» سُنْبُلاتٍ «ويكون قد حذف اسم العددِ، من قوله:» وأخَرَ يَابِساتٍ «والتقدير: سَبْعاً أخَرَ، وإنما حذف؛ لأنَّ التقسيم في البقرات نقيضُ التَّقسيم في السنبلات.
قال الزمخشريُّ: «فإن قلت: هل في الآية دليلٌ على أنَّ السنبلات اليابسة كانت كالخُضرِ؟ قلت: الكلامُ منبيٌّ على انصبابه إلى هذا العددِ في البقراتِ السِّمان والعجافِ، والسنبلات الخضرِ، فوجب أن يتناول معنى الأخر السبع، ويكون قوله:»
وأخَرَ يَابسَاتٍ «بمعنى: وسبعاً أخر» انتهى.
وإنَّما لم يَجُز عطفُ أخر على التمييز، وهو «سُنْبُلاتٍ»، فيكون أخر مجروراً لا
114
منصًوباً؛ لأنه من حيثُ العطف عليه يكونُ من جملة مميز سبع ومن جهة كونه أخر يكون مبايناً لسبع فتدافعا ولو كان ترتيبُ الآية الكريمة سبع سُنبلآتٍ خُضرس ويابِساتٍ، لصحَّ العطف، ويكون من توزيع السنبلات إلى هذينِ الموضعين أعني: الاخضرار واليبس.
وقد أوضح الزمخشريُّ هذا حيث قال: «فإن قلتَ: هل يجوز أن يعطف قوله» وأخَرَ يَابسَاتٍ «على» سُنْبُلاتٍ خُضرٍ «، فيكون مجرور المحلِّ؟ قلت: يؤدِّي إلى تدافع؛ وهو أنَّ عطفها على» سُنبُلاتٍ خُضرٍ «يقتضي أن يكون داخلاً في حكمها فيكون معها مميز السبع المذكور، ولفظ» أخَر «يقتضي أن يكون غير السَّبْعِح بيانه تقول عنده سبعة رجال قيام وقعود بالجر فيصحّ لأنك ميَّزت السبعة برجالٍ موصوفين بالقيام والقعودِ على أنَّ بعضهم قيام، وبعضهم قعودٌ، فلو قلت: عنده سبعةٌ قيامٌ وآخرين قعودٌ؛ تدافع؛ ففسد».
قوله للرُّؤيَا فيه أربعة أقوالٍ:
أحدهما: أن اللام فيه مزيدة، فلا تعلق لها بشيء؛ وزيدت لتقدم المعمول مقوية للعامل؛ كما زيدت فيه إذا كان العامل فرعاً؛ كقوله تعالى: ﴿فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ﴾ [هود: ١٠٧]، ولا تزاد فيما عدا ذنبك إلا ضرورة؛ كقوله: [الوافر]
٣١٠٧ - فلمَّا أنْ تَوافَيْنَا قَلِيلاً أنَخْنَا للكَلاكِلِ فارْتَمَيْنَا
يريد: أنخنا الكلاكِلَ، فزيدت مع فقدان الشرطين، هكذا عبارة بعضهم يقول: إلا في ضرورة.
وبعضهم يقول: الأكثر ألاَّ تزاد، ويتحرزُ من قوله تعالى ﴿رَدِفَ لَكُم﴾ [النمل: ٧٢]، لأنَّ الأصل: ردفكُم، فزيدتْ فيه اللامُ، ولا تقدم، ولا فرعيَّة، ومن أطلق ذلك جعل الآية من باب التَّضمين، وسيأتي في مكانه إن شاء الله تعالى، وقد تقدم من ذلك طرفٌ جيدٌ.
الثاني: أن يضمَّن تعبرون معنى ما يتعدَّى باللام، تقديره أي: إن كنتم تنتدبون لعبارةِ الرؤيا.
الثالث: أن يكون «للرُّؤيا» خبرُ «كنتم» ؛ كما تقول: «كان فلانٌ لهذا الأمرِ»، أي: إذا استقلّ به متمكِّناً منه، وعلى هذا فيكون في «تَعْبرُونَ» وجهان:
أحدهما: أنًَّهُ خبر ثانٍ ل «كُنْتُمْ».
الثاني: أنه حالٌ من الضمير المُرتفعِ بالجار؛ لوقوعه خبراً.
الرابع: أن تتعلق اللام بمحذوفٍ على أنَّها للبيان؛ كقوله تعالى {وَكَانُواْ فِيهِ مِنَ
115
الزَّاهِدِينَ} [يوسف: ٢٠] تقديره: أعني فيه، وكذلك هذا، تقديره: أعني للرُّؤيا، وعلى هذا يكون مفعولُ «تَعْبُرُونَ» محذوفاً تقديره: تعبرونها.
وقرأ أبو جعفر: الرُّيَّا [وبابها الرؤيا] بالإدغام؛ وذلك أنَّه قلب الهمزة واواً؛ لسكونها بعد ضمةٍ، فاجتمعت «واوٌ»، و «ياءٌ» وسبقت إحداهما بالسكون؛ فقلبت الواو ياء، وأدغمت الياءُِ في الياءِ.
وهذه القراءة عندهم ضعيفةٌ؛ لأن البدل غير لازمٍ، فكأنَّه لم يوجد واوٌ؛ نظراً إلى الهزة.

فصل في معنى «تعبرون»


يقال: عَبَرْتُ الرُّؤيَا أعبرها عبارة، وعبَرةً بالتخفيف، قال الزمخشريُّ: «وهو الذي اعتمدهُ الأثباتُ، ورأيتهم يُنْكِرُونَ» عَبَّرتُ «بالتشديد، والتَّعبير والمُعبِّر» قال: وقد عثرتُ على بيتٍ أشده المبرِّد في كتاب الكاملِ لبعضِ الأعرابِ: [السريع]
٣١٠٨ - رَأيتُ رُؤيَا ثُمَّ عبَّرتُهَا وكُنْتُ للأحْلامِ عَبَّارَا
قال وحقيقة تعبير الرؤيا: ذكرُ عاقبتها، وآخر أمرها؛ كما تقول: عبرتُ النَّهر إذا قطتعهُ حتَّى تبلغ آخرَ عرضه.
قال الأزهريُّ: «مأخوذٌ من العُبْرِ، وهو جانبُ النَّهر، ومعنى عبرتُ النَّهرَ والطريق: قطعتهُ إلى الجانب الآخر، فقيل لعابرِ الرؤيا: عابرٌ؛ لأنَّه يتأمل جانبي الرُّؤيا، ويتفكرُ في أطرافها وينتقل من أحد الطَّرفين إلى الآخر».
قال بعضُ أهل اللغة: العينُ، والباءُ، والراءُ، تضعها العرب: لجوار الشيء، ومضيفه، وقلَّة تمكنه، ولبثه، وهو فعل، يقال: عبر الرؤيا: أخرجها من حال النَّوم إلى حال اليقظةِ، كعبور البحر من جانب إلى جانبٍ.
وناقة عبراء سفار، أي: يقطعُ بها الطريق ويعبرُ.
والشِّعرى: العبُورُ؛ لأنها عبرت المجرَّة.
والاعتبارُ بالشيء: هو التَّمثيلُ بينه وبين حاكيه.
والعبرةُ: الدَّمعةٌ؛ لعبورها العين، وخروجها من الجفنِ.
والعَنْبَرُ: منهح لأنَّ نونه زائدةٌ، وهو عبر لحي طفاوة على الماء لا يعرف معدته.
116
والعَنْبَرُ أيضاً سمكةٌ في البحرِ، والعنبرُ: اسمُ قبيلة، والعنبرُ: شدَّة الشتاء.
قال بعضهم: ثلاثةُ أشياء لا يعرف معدنها:
أحدها: العَنْبَرُ يجيءُ ظفاؤه على وجه الماءِ.
وثانيها: المومياء بأرض فارس، ومعناه: مُومٌ، أي: شمعُ الماء لا يعرف من أين يجيءُ، ولا من أين ينبع، يُعْمَلُ له حوضٌ في البحر وينصب عليه مصفاة كالغربال يجري منه الماء، وينبع منه تبقى المومياء؛ فتؤخذ إلى خزانة السُّلطان.
وثالثها: الكهلُ: وهو نوعٌ من الخَرزِ أصفر يطفو على وجهِ الماءِ في بحر المغرب وبحر طبرستان، ولا يعرف معدنه.
قوله جلَّ وعلا: ﴿أَضْغَاثُ أَحْلاَمٍ﴾، خبر متبدإ مضمر، أي: هي أضغاث، يعنون: ما قصصته علينا، والجملة منصوبةٌ بالقول.
والأضغاثُ: جمع ضِغْث بكسر الضاد وهو ما جمع من النبات، سواءٌ كان جنساً واحداً، أو أجناساً مختلطة.
قال بن الخطيب: بشرط أن يكون مما قام على ساقٍ، وهو أصغرُ من الحزمة، وأكبر من القبضة، فمن مجيئه من جنسٍ واحدٍ، قوله تعالى: ﴿وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً﴾ [ص: ٤٤]، ويُروى أنه أخذ عثكالاً من نخلةٍ، وفي الحديث: «أنَّه أتي بمريضٍ وحب عليْهِ الحدُّ ففعل به ذلِكَ».
وقال ابن مقبل: [الكامل]
٣١٠٩ - خَودٌ كأنَّ فِراشَهَا وضِعَتْ بِهِ أضْغَاثُ ريْحَانٍ غَداةَ شَمالِ
ومن مجيئه من أخلاط النبات قولهم في أمثالهم: «ضِغثٌ على إبَّالةٍ».
وقال الرَّاغب رَحِمَهُ اللَّهُ: الضَّغْثُ: قبضة ريحانٍ، أو حشيشٍ، أو قصبان، وقد تقدم أنه أكثر من القبضةِ.
واستعمال الأضغاث هنا من باب الاستعارة، فإن الرؤيا إذا كانت مخلوطةً من أشياء غير متناسبةٍ، كانت شبهية بالضِّغثِ.
والإضافة في ﴿أَضْغَاثُ أَحْلاَمٍ﴾، إضافةٌ بمعنى «مِنْ»، والتقدير: أضغاثُ من أحلام.
والأحلامُ: جمعُ حلم، وهو الرؤيا، والفعل منه حلمتُ أحلم، بفتح اللام في
117
الماضي وضهما في الغابر حُلُماً، وحُلْماً: مثقلٌ، ومخففٌ.
قوله تعالى: «بتأويل» الباء متعلقةٌ ب «عَالمِينَ»، والباءُ في «بِعَالمِينَ» لا تعلق لها؛ لأنها زائدة إمَّا في خبر الحجازيَّة أو التَّميميَّة، وقولهم ذلك يحتمل أن يكون نفياً للعلم بالرؤيا مطلقاً، وأن يكون نفياً للعلم بتأويل الأضغاث منها خاصة دون المنام الصَّحيح.
وقال أبو البقاءِ: أي: بتأويل أضغاثِ الأحلام لا بد من ذلك؛ لأنَّهم لم يدَّعوا الجهل [بتعبير] الرؤيا انتهى.
وقوله «الأحلام» وإنَّما كان واحداً، قال الزمخشريُّ: «كما تقولُ: فلان يركب الخيل، ويلبسُ عمائمَ الخزِّ، لمن لا يركبُ إلا فرساً واحداً، ولا يتعمَّمُ إلاَّ بعمامةٍ واحدةٍ تأكيداً في الوصف، ويجوز أن يكون قصَّ عليهم مع هذه الرؤيا غيرها».
والتأويلُ: هو ما يَئُولُ الشيء إليه، أي: يرجعُ الشيء إليه، ومنه تأوَّل وهو معنى التفسير؛ لأنَّ التأويل تفسير اللفظ الراجع إلى المعنى.

فصل


اعلم أنه سبحانه وتعالى جعل هذه الرؤيا سبباً لخلاص يوسف صلوات الله وسلامه عليه من السِّجن؛ وذلك أنَّ الملك لمَّا رأى ذلك، قلق واضطرب بسببه؛ لأنه شاهد أن الناقِصَ الضَّعيف استولى على الكاملِ، فشهدت فطرته بأن هذا أمرُ عداوةٍ ومقدّرٍ بنوع من أنواع الشرِّ، إلا أنه ما عرف كيفية الحالِ فيه.
والشيء إذا صار معلوماً من وجهٍ، وبقي مجهُولاً من وجه آخر عظم شوقُ النفس إلى تمام تلك المعرفةِ، وقويتِ المعرفةُ في إتمام الناقصِ لا سيِّما إذا كان الإنسان عظيمَ الشَّأنِ، واسِعَ المملكةِ، وكان ذلك الشيء دالاًّ علَى الشرِّ من بعض الوجوه، فبهذا الطريق قوَّى الله داعية ذلك الملك في تحصيل العلم، بتفسير هذه الرؤيا، وأنه تعالى عجَّز المُعبِّرين الحاضرين عن جواب هذه المسألة؛ ليصير ذلك سبباً لخلاصِ يوسف عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ من تلك المحنةِ.
واعلم أنَّ القوم ما نفوا عن أنفسهم كونهم عالمين بعلم التعبير؛ بل قالوا إنَّ علم التعبير على قسمين:
منه ما يكون الرؤيا فيه منتظمة، فيسهلُ الانتقال من الأمور المتخيلةِ إلى الحقائق العقلية.
ومنه ما يكون مختلطاً مضطرباً، ولا يكون فيه ترتيبٌ معلومٌ، وهو المسمَّى بالأضغاث.
118
فقالوا: إنَّ رؤيا الملكِ من قسم الأضغاث، ثُمَّ أخبرُوا أنهم غير عالمينَ بتعبير هذا القسم، وفيه [إبهام] أنَّ الكامل في هذا العلم، والمُتبحِّر فيه يهتدي إليها، فعند هذه المقالة تذكَّر السَّاقي واقعة يوسف عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ لأنه كان يعتقدُ فيه كونه مُتَبحِّراً في هذا العلم.
قوله: «وادَّكَرَ» فيه وجهان:
أظهرهما: أنَّها جملة حالية، إمَّا من الموصول، وإما من عائده، وهو فاعل نَجَا.
والثاني: أنها عطف على نَجَا فلا محل لها؛ لنسقها على ما لا محل له.
والعامَّةُ على ادَّكَرَ بدالٍ مهلمة مشدَّدة، وأصلها: اذْتَكَرَ، افْتَعَلَ، من الذكر فوقعت تاءُ الافتعال بعد الدال؛ فأبدلت دالاً، فاجتمع متقارن؛ فأبدل الأول من جنس الثاني، وأدغم.
قال الزخشريُّ: وادَّكَرَ بالدال هو الفصيحُ.
وقرأ الحسن البصريُّ: بذالٍ معجمة. ووجَّهوها بأنه أبدل التَّاء ذالاً؛ من جنس الأولى، وأدغم، وكذا الحكمُ في مًُدِّكِر كما سيأتي إن شاء الله تعالى.
والعامةُ: على (أمة) بضم الهمزة، وتشديد الميم، وتاء منونةِ، وهي المدة الطويلة.
وقرأ الأشهب العقيليُّ: بكسر الهمزة؛ وفسَّروها بالنعمةِ، أي: بعد نعمةٍ [أنعم بها] عليه؛ وهي خلاصه من السِّجن، ونجاته من القَتلِ؛ وأنشد الزمخشريُّ لعديِّ: [الخفيف]
٣١١٠ - ثُمَّ بَعْدَ الفَلاحِ والمُلْكِ والإمْمَةِ وارتْهُمُ هُناكَ القُبُورُ
وأنشد غيره: [الطويل]
٣١١١ - ألاَ لاَ أرَى ذَا أمَّةٍ أصْبَحَتْ بِهِ فَتتْرُكُه الأيَّامُ وهيَ كَماهِيَا
وقرأ ابن عبَّاس، وزيدُ بنُ عليّ، وقتادة، الضحاك، وأبو رجاء رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم «أَمَه» فتح الهمزة وتخفيف الميم منونة وهي المدة من الأمة وهو النيسان يقال أمِه يَأمَهُ
119
أمَهَاً بفتح الميم وسكونها، والسكون غير مقيسٍ؛ قال الشاعر: [الوافر]
٣١١٢ - أمِهْتُ وكُنْتُ لا أنْسَى حَدِيثاً كَذاكَ الدَّهْرُ يُودِي بالعُقُولِ
وقرأ مجاهدٌ، وشبل بن عزرة: بعد أمْه بسكون الميم، وتقدَّم أنه مصدر ل «أَمِهَ» على غير قياسٍ.
قال الزمخشري: «ومن قرأ بسكون الميم، فقد خُطِّىءَ».
قال أبو حيَّان: «وهذه على عادته في نسبةِ الخطأ إلى القراء».
قال شهابُ الدِّين رَحِمَهُ اللَّهُ: لَمْ يسنبْ إليهم خطأ؛ وإنما حكى أنَّ بعضهم خطَّأ هذا القارىء؛ فإنه قال: «خُطِّىءَ» بلفظ ما لم يسمَّ فاعله ولم يقل: فقد أخطأ، على أنَّه إذا صحَّ أنَّ من ذكره قرأ بذلك فلا سبيل إلى نسبة الخطأ إليه ألبتَّة.
وبَعْدَ منصوب ب «ادَّكَرَ» وقوله أنَا أنَبِّئُكمْ هذه الجملة هي المحكية بالقول.
وقرأ العامة أنَبِّئُكُمْ من الإنْباءِ، وقرأ الحسن أنا آتِيكُم مضارع أتى من الإتيانِ، وهو قريب من الأول.

فصل


لمَّا اعترف الحاضرون بالعجز عن الجواب، فذكر الشَّرابيُّ قول يوسف ﴿اذكرني عِندَ رَبِّكَ﴾
[يوسف: ٤٢]، ﴿بَعْدَ أُمَّةٍ﴾ بعد حينٍ، بعد سَبْعِ سنينَ، وذلك أنَّ الحينَ أنَّما يحصل عند اجتماع الأيام الكثيرة، كما أن الأمة إنما تحصل عند اجتماع الجمع العظيم، فالحين كان أمة من الأيام والسَّاعاتِ. فإن قيل: قوله ﴿وادكر بَعْدَ أُمَّةٍ﴾ يدل على أنّ الناسي هو الشرابي، وأنتم تقولونك إنَّ النَّاسي هو يوسف عليه السلام.
فالجواب: قال ابنُ الأنباري: ادَّكرَ بمعنى: ذَكَرَ وأخْبَر، فهذا لا يدلُّ على سبقِ النسيان، فلعلَّ الساقي إنما لم يذكر يوسف عليه السلام عند الملكِ، خوفاً عليه من أن يكون ادِّكَاراً لذنبه الذي من أجله حُبس، فترك للشر، ويحتمل أن يكون حصل النسيانُ ليوسف صلوات الله وسلامه عليه [وحصل] أيضاً لذلك الشرابي.
رُوِيَ أنَّ الغلام جثا بين يدي الملك، وقال إنَّ بالسجْنِ رجُلاً يُعبِّر الرؤيا.
120
«فأرْسِلُون» خطابٌ، إما للملك، والجمع، أو للملك وحده؛ على سبيل التعظيم، وفيه اختصارٌ، تقديره: فأرسلْنِي إيها الملكُ إليه، فأرسله فأتى السِّجن.
قال ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: ولم يكن السجُ في المدينة.
فقال: يُوسُف، أي: يا يُوسف «أيُّها الصِّديقُ» والصِّدِّيقُ: هو المبالغ في الصدقِ، وصفهُ بهذه الصفة؛ لأنه لم يجرب عليه كذباً، وقيل: لأنه مصدق في تعبير رؤياه، وهذا يدلُّ على أنَّ الساقي الخباز لم يكذبا على يوسف في منامهما، ولم يذكراه امتحاناً له، كما زعم بعضهم ثم إنَّه أعاد السؤال باللفظ الَّذي ذكره الملكُ؛ فإن تعبير الرُّؤيا قد تخلتفُ باختلافِ الألفاظِ؛ كما هو مذكورٌ في علم التعبير لعَلِّي أرجعُ إلى النَّاس بفتواك؛ لأنه عجز سائرُ المُعبِّرين على جواةب، فخاف أني يعجز هو أيضاً؛ فلهذا السبب قال: ﴿لعلي أرجع إلى الناس لعلهم يعلمون﴾ منزلتك من العلم.
قوله: «تَزْرعُونَ» ظاهر هذا، إخبار من يوسف عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ بذلك.
وقال الزمخشريُّ: تَزْرعُونَ خبرٌ في معنى الأمر؛ كقوله ﴿تُؤْمِنُونَ بالله وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ﴾ [الصف: ١١]، وإنما خرج الأمر في صورة الخبر؛ للمبالغة في إيجاب المأمور به فيجعل كأنَّه وجد، فهو مخبر عنه؛ والدليلُ على كونه في معنى الأمر قوله: ﴿فَذَرُوهُ فِي سُنبُلِهِ﴾.
قال أبو حيان: ولا يدلُّ الأمر بتركه في سنبلة على أنَّ تَزْرعُونَ في معنى: ازْرَعُوا، بل تَزْرعُونَ إخبار غيب، وأمَّا فَذرُوهُ فهو أمرُ إشارةٍ بما ينبغي أن يفعلوه.
وهذا هو الظاهرُ، ولا مدخل لأمر الله لهم بالزراعةِ، لأنهم يزرعون على عادتهم أمرهم، أو لم يأمرهم، وإنما يحتاج إلى الأمر فيما لم يكن من عادة الإنسان أن يفعله كقوله في سُنبلهِهِ.
قوله دَأباً قرأ حفصٌ: بفتحِ الهمزة، والباقون: بسكونها؛ وهما لغتان في مصدر: دَأبَ يدأبُ دأباً، أي: دَاومَ على الشيء ولازمه.
وقيل: بجدٍّ، واجتهادٍ؛ وهذا كما قالوا: ضأنُ وضَأن، ومعَز ومَعْز: بفتحِ العين وسكونها.
قال أبو علي الفارسي: الأكثرون في «دَأبَ» الإسكانُ، ولعلَّ الفتح لغةٌ وفي انتصابه أوجه.
121
أحدها: وهو قول سيبويه: أنه منصوبٌ بعفلٍ محذوفٍ، تقديره: تدْأبُون دأباً.
والثاني: وهو قول أبي العبَّاس رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: أنه منصوبٌ ب: تَزْرعُونَ «؛ لأنه من معناه، فهو من باب: قعدت القُرْفُصَاء.
وفيه نظرٌ؛ لأنه ليس نوعاً خاصًا به بخلافِ القرفصاء مع القعودِ.
والثالث: أنه مصدر واقعٌ موقع الحال، فيكون فيه الأوجه المعروفةُ، إما للمبالغة وإما وقوعه موقع الصِّفة، وإما على حذف مضاف، أي: دائبين أو ذوي دأبٍ، أو جعلهم نفس الدَّأب؛ مبالغة.
وقد تقدم الكلامُ على الدَّأب في»
آل عمران «عند قوله ت عَزَّ وَجَلَّ ﴿كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ﴾ [آل عمران: ١١].
قوله: ﴿فَمَا حَصَدتُّمْ﴾، يجوز أن تكون شرطيَّة أو موصولة.
قوله: ﴿فَذَرُوهُ فِي سُنبُلِهِ﴾ أمرهم بترك الحنطةِ في النسبل؛ لتكون أبقى على الزمان، ولا تفسد.
قوله: ﴿إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّا تَأْكُلُونَ﴾، أي تدرسون قليلاً؛ للأكل، أمرهم بحفظ الأكثر، والأكل قدر الحاجة.
وقرأ أبو عبد الرحمن يَأكُلونَ بالغيبة، أي: الناسُ، ويجوز أن يكون التفاتاً.

فصل


قال القرطبيُّ:»
هذه الآية أصلٌ في القول بالمصالح الشرعية التي هي حفظ للأديان، والنفوس، والعقول والأنساب، والأموال، فكل ما يضمن تحصيل شيء من هذه الأمور، فهو مصلحةٌ وكل ما يفوت شيئاً منها، فهو مفسدةٌ؛ ودفعه مصلحةٌ، ولا خلاف أنَّ مقصود الشرائع إرشادُ النَّاس إلى مصالحهم الدُّنيويَّة، ليحصل لهم التمكن من معرفة الله تعالى، وعبادته [الموصلتين] إلى السعادةِ الأخرويَّة، ومراعاةُ ذلك فضلٌ من الله ورحمة «.
قوله تعالى: ﴿ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذلك سَبْعٌ شِدَادٌ﴾ حذف المميز، وهو الموصوف؛ لدلالة ما تقدَّم عليه، ونسب الأكل إليهن، مجازاً؛ كقوله: ﴿والنهار مُبْصِراً﴾ [يونس: ٦٧] لمَّا كان الأكل، والإبصار فيهما، جعلا كأنهما واقعان منهما، مبالغة.
و»
الشِّدادُ «: الصِّعابُ التي تشتدُّ على الناس؛ فلذلك سمَّى السنين المجدبة شداداً.
122
يَأكْلْنَ، أي: يُفْنِين، ويهلكن الطعام إلاَّ قليلاً ممَّا تُحْصِنُونك تحرزُونَ، وتدَّخِرُونَ؛ للبذر.
» والإحصانُ: الإحرازُ، وهو [إبقاء] الشيء في الحصنِ، يقال: أحْصَنَهُ إحصاناً، إذا جعله في حِرْزٍ «.
قوله [تعالى] :﴿يُغَاثُ الناس﴾ يجوز أن تكون الألف عن واوٍ، وأن تكون عن ياءٍ: إما من الغوث، وهو الفرج، وفعله رباعي، يقال: أغَاثَنا اللهُ إذَا أنْقذنَا من كرْبٍ أو غمٍّ، ومعناه: يغاثُ الناسُ من كَرْبِ الجَدبِ.
وإما من الغيثِن وهو المطرُ، يقال: أغْيَثَت الأرض، أي: أمطرتْ، وفعله ثلاثي، يقال: أغَاثَنَا الله من الغَيْثِ، وقالت اعرابيةٌ: غِثْنَا ما شِئْنَا، اي: أمْطِرنا ما أردْنَا.

فصل


يقال: أسْنَتُوا، أي: دخلوا في سنةٍ مجدبة:»
وقال المفسِّرون: السبعة المتقدمةُ: هي الخصبُ وكثرةُ النِّعم، والسَّبعة الثانية: هي القَحْطُ، وهي معلومةٌ من الرؤيا، وأمَّا حالُ هذه السنةِن فما حصل في ذلك المنام ما يدلُّ عليه، بل حصل ذلك مِنَ الوَحْيِ «.
قال قتادةُ رَحِمَهُ اللَّهُ: زادهُ الله علمَ سنةٍ.
فإن قيل: لما كانت العِجافُ سَبْعاً، دلَّ على أنَّ السنين المجدبة لا تزيدْ على هذا العدد، ومن المعلوم أنَّ الحاصل بعد انقضاء القحطِ، هو الخصبُ، فكان هذا أيضاً من مدلُولاتِ المنامِ، فلم قلتم: إنَّه حصل بالوحي والإلهام؟.
فالجواب: هَبْ أنَّ تبدل القحْطِ بالخصب معلومٌ، وأما تفصيلُ الحال فيه، وهو قوله: ﴿فِيهِ يُغَاثُ الناس وَفِيهِ يَعْصِرُونَ﴾ لا يعلمُ إلا بالوحي.
قوله يَعْصِرونَ قرأ الأخوان: «تَعْصِرُونَ»
بالخطاب، والباقون بياء الغيبة، وهما واضحتان؛ لتقدم مخاطبٍ أو غائبٍن فكلُّ قراءةٍ ترجعُ إلى ما يليقُ بها.
و «يَعْصِرُونَ» يحتمل أوجهاً:
أظهرها: أنه من عصر العِنبِ، والزيتونِ، والسمسمِ، ونحو ذلك.
والثاني: أنَّه من عصر الضَّرع، إذا حلبه.
123
والثالث: أنه من العصرةِ، وهي النجاةٌ، والعُصْر: المنجي. وقال أبو زيد في عثمان رضي الله ع نه: [الخفيف]
٣١١٣ - صَادِياً يَسْتغِيثُ غَيْرَ مُغاثٍ ولقَدْ كَان عُصْرةَ المَنجُودِ
[ويعضدُ] هذا الوجه مطابقة قوله: ﴿فِيهِ يُغَاثُ الناس﴾ يقال: عَصَرَه يَعْصِرهُ، أي: أنجاه. وقرأ جعفر بن محمدٍ، والأعرجك «يُعْصَرُونَ» بالياء من تحت، وعيسَى بالتاءِ من فوقُ، وهو في كلتا القراءتين مبني للمفعولِ، وفي هاتين القراءتين تأويلان:
أحدهما: أنها من عصره، إذا أنجاه: قال الزمخشريُّ: «وهو مطابق للإغاثةِ».
والثاني: قاله قُطربٌ أنَّهما من الإعْصارِ، وهو إمطار السحابةِ الماء؛ كقوله تعالى: ﴿وَأَنزَلْنَا مِنَ المعصرات مَآءً ثَجَّاجاً﴾ [النبأ: ١٤]، وقال الزمخشريُّ: وقُرىء: «يُعْصَرُون، تُمْطرُونَ»، من أعصرتِ السَّحابةُ، وفيه وجهان:
إمَّا أن يضمَّن أعصرت معنى مُطِرَت، فيعدّى تعْدِيتَه، وإما أن يقال: الأصلُ: أعْصِرَتْ عليهم، فحذف الجار وأوصل الفعل إلى ضميرهم أو يسندُ الإعصارُ إليهم؛ مجازاً، فجعلوا معصرين.
وقرأ زيد بن عليّ: «تِعِصّرُون» بكسر التاء، والعين، والصاد مشددة، وأصلها يعْتَصِرُون، فأدغم التاء في الصاد، وأتبع العين للصادِ، ثمَّ أتبعَ التاء للعين وتقدم [تقريره] في قوله ﴿إِلاَّ أَن يهدى﴾ [يونس: ٣٥].
ونقل النقاشُ قراءة «يُعَصِّرُونَ» بضمِّ الياء، وفتح العين، وكسر الصّاد مشددة؛ من «عَصَّر» للتكثير، وهذه القراءة، وقراءة زيدٍ المقتدمة، تحتملان أن يكونا من العصرِ للنبات، أو الضَّرع، أو النَّجاة؛ كقول الشاعر: [الرمل]
124
قوله جلَّ وعلا :﴿ أَضْغَاثُ أَحْلاَمٍ ﴾، خبر متبدإ مضمر، أي : هي أضغاث، يعنون : ما قصصته علينا، والجملة منصوبةٌ بالقول.
والأضغاثُ : جمع ضِغْث بكسر الضاد وهو ما جمع من النبات، سواءٌ كان جنساً واحداً، أو أجناساً مختلطة.
قال بن الخطيب : بشرط أن يكون مما قام على ساقٍ، وهو أصغرُ من الحزمة، وأكبر من القبضة، فمن مجيئه من جنسٍ واحدٍ، قوله تعالى :﴿ وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً ﴾ [ ص : ٤٤ ]، ويُروى أنه أخذ عثكالاً من نخلةٍ، وفي الحديث :" أنَّه أتي بمريضٍ وحب عليْهِ الحدُّ ففعل به ذلِكَ ".
وقال ابن مقبل :[ الكامل ]
٣١١٤ - لَوْ بِغيْرِ الماءِ حَلقِي شَرقٌ كُنْتُ كالغَصَّانِ بالمضاءِ اعتِصَارِي
٣١٠٩ خَودٌ كأنَّ فِراشَهَا وضِعَتْ بِهِ أضْغَاثُ ريْحَانٍ غَداةَ شَمالِ
ومن مجيئه من أخلاط النبات قولهم في أمثالهم :" ضِغثٌ على إبَّالةٍ ".
وقال الرَّاغب رحمه الله : الضَّغْثُ : قبضة ريحانٍ، أو حشيشٍ، أو قصبان، وقد تقدم أنه أكثر من القبضةِ.
واستعمال الأضغاث هنا من باب الاستعارة، فإن الرؤيا إذا كانت مخلوطةً من أشياء غير متناسبةٍ، كانت شبهية بالضِّغثِ.
والإضافة في ﴿ أَضْغَاثُ أَحْلاَمٍ ﴾، إضافةٌ بمعنى " مِنْ "، والتقدير : أضغاثُ من أحلام.
والأحلامُ : جمعُ حلم، وهو الرؤيا، والفعل منه حلمتُ أحلم، بفتح اللام في الماضي وضهما في الغابر حُلُماً، وحُلْماً : مثقلٌ، ومخففٌ.
قوله تعالى :" بتأويل " الباء متعلقةٌ ب " عَالمِينَ "، والباءُ في " بِعَالمِينَ " لا تعلق لها ؛ لأنها زائدة إمَّا في خبر الحجازيَّة أو التَّميميَّة، وقولهم ذلك يحتمل أن يكون نفياً للعلم بالرؤيا مطلقاً، وأن يكون نفياً للعلم بتأويل الأضغاث منها خاصة دون المنام الصَّحيح.
وقال أبو البقاءِ : أي : بتأويل أضغاثِ الأحلام لا بد من ذلك ؛ لأنَّهم لم يدَّعوا الجهل [ بتعبير ] الرؤيا انتهى.
وقوله " الأحلام " وإنَّما كان واحداً، قال الزمخشريُّ :" كما تقولُ : فلان يركب الخيل، ويلبسُ عمائمَ الخزِّ، لمن لا يركبُ إلا فرساً واحداً، ولا يتعمَّمُ إلاَّ بعمامةٍ واحدةٍ تأكيداً في الوصف، ويجوز أن يكون قصَّ عليهم مع هذه الرؤيا غيرها ".
والتأويلُ : هو ما يَئُولُ الشيء إليه، أي : يرجعُ الشيء إليه، ومنه تأوَّل وهو معنى التفسير ؛ لأنَّ التأويل تفسير اللفظ الراجع إلى المعنى.

فصل


اعلم أنه سبحانه وتعالى جعل هذه الرؤيا سبباً لخلاص يوسف صلوات الله وسلامه عليه من السِّجن ؛ وذلك أنَّ الملك لمَّا رأى ذلك، قلق واضطرب بسببه ؛ لأنه شاهد أن الناقِصَ الضَّعيف استولى على الكاملِ، فشهدت فطرته بأن هذا أمرُ عداوةٍ ومقدّرٍ بنوع من أنواع الشرِّ، إلا أنه ما عرف كيفية الحالِ فيه.
والشيء إذا صار معلوماً من وجهٍ، وبقي مجهُولاً من وجه آخر عظم شوقُ النفس إلى تمام تلك المعرفةِ، وقويتِ المعرفةُ في إتمام الناقصِ لا سيِّما إذا كان الإنسان عظيمَ الشَّأنِ، واسِعَ المملكةِ، وكان ذلك الشيء دالاًّ علَى الشرِّ من بعض الوجوه، فبهذا الطريق قوَّى الله داعية ذلك الملك في تحصيل العلم، بتفسير هذه الرؤيا، وأنه تعالى عجَّز المُعبِّرين الحاضرين عن جواب هذه المسألة ؛ ليصير ذلك سبباً لخلاصِ يوسف عليه الصلاة والسلام من تلك المحنةِ.
واعلم أنَّ القوم ما نفوا عن أنفسهم كونهم عالمين بعلم التعبير ؛ بل قالوا إنَّ علم التعبير على قسمين :
منه ما يكون الرؤيا فيه منتظمة، فيسهلُ الانتقال من الأمور المتخيلةِ إلى الحقائق العقلية.
ومنه ما يكون مختلطاً مضطرباً، ولا يكون فيه ترتيبٌ معلومٌ، وهو المسمَّى بالأضغاث.
فقالوا : إنَّ رؤيا الملكِ من قسم الأضغاث، ثُمَّ أخبرُوا أنهم غير عالمينَ بتعبير هذا القسم، وفيه [ إبهام ] أنَّ الكامل في هذا العلم، والمُتبحِّر فيه يهتدي إليها،
فعند هذه المقالة تذكَّر السَّاقي واقعة يوسف عليه الصلاة والسلام لأنه كان يعتقدُ فيه كونه مُتَبحِّراً في هذا العلم.
قوله :" وادَّكَرَ " فيه وجهان :
أظهرهما : أنَّها جملة حالية، إمَّا من الموصول، وإما من عائده، وهو فاعل نَجَا.
والثاني : أنها عطف على نَجَا فلا محل لها ؛ لنسقها على ما لا محل له.
والعامَّةُ على ادَّكَرَ بدالٍ مهلمة مشدَّدة، وأصلها : اذْتَكَرَ، افْتَعَلَ، من الذكر فوقعت تاءُ الافتعال بعد الدال ؛ فأبدلت دالاً، فاجتمع متقارن ؛ فأبدل الأول من جنس الثاني، وأدغم.
قال الزخشريُّ : وادَّكَرَ بالدال هو الفصيحُ.
وقرأ الحسن البصريُّ : بذالٍ معجمة. ووجَّهوها بأنه أبدل التَّاء ذالاً ؛ من جنس الأولى، وأدغم، وكذا الحكمُ في مًُدِّكِر كما سيأتي إن شاء الله تعالى.
والعامةُ : على ( أمة ) بضم الهمزة، وتشديد الميم، وتاء منونةِ، وهي المدة الطويلة.
وقرأ الأشهب العقيليُّ : بكسر الهمزة ؛ وفسَّروها بالنعمةِ، أي : بعد نعمةٍ [ أنعم بها ] عليه ؛ وهي خلاصه من السِّجن، ونجاته من القَتلِ ؛ وأنشد الزمخشريُّ لعديِّ :[ الخفيف ]
٣١١٠ ثُمَّ بَعْدَ الفَلاحِ والمُلْكِ والإمْمَةِ وارتْهُمُ هُناكَ القُبُورُ
وأنشد غيره :[ الطويل ]
٣١١١ ألاَ لاَ أرَى ذَا أمَّةٍ أصْبَحَتْ بِهِ فَتتْرُكُه الأيَّامُ وهيَ كَماهِيَا
وقرأ ابن عبَّاس، وزيدُ بنُ عليّ، وقتادة، الضحاك، وأبو رجاء رضي الله عنهم " أَمَه " فتح الهمزة وتخفيف الميم منونة وهي المدة من الأمة وهو النيسان يقال أمِه يَأمَهُ أمَهَاً بفتح الميم وسكونها، والسكون غير مقيسٍ ؛ قال الشاعر :[ الوافر ]
٣١١٢ أمِهْتُ وكُنْتُ لا أنْسَى حَدِيثاً كَذاكَ الدَّهْرُ يُودِي بالعُقُولِ
وقرأ مجاهدٌ، وشبل بن عزرة : بعد أمْه بسكون الميم، وتقدَّم أنه مصدر ل " أَمِهَ " على غير قياسٍ.
قال الزمخشري :" ومن قرأ بسكون الميم، فقد خُطِّىءَ ".
قال أبو حيَّان :" وهذه على عادته في نسبةِ الخطأ إلى القراء ".
قال شهابُ الدِّين رحمه الله : لَمْ يسنبْ إليهم خطأ ؛ وإنما حكى أنَّ بعضهم خطَّأ هذا القارىء ؛ فإنه قال :" خُطِّىءَ " بلفظ ما لم يسمَّ فاعله ولم يقل : فقد أخطأ، على أنَّه إذا صحَّ أنَّ من ذكره قرأ بذلك فلا سبيل إلى نسبة الخطأ إليه ألبتَّة.
وبَعْدَ منصوب ب " ادَّكَرَ " وقوله أنَا أنَبِّئُكمْ هذه الجملة هي المحكية بالقول.
وقرأ العامة أنَبِّئُكُمْ من الإنْباءِ، وقرأ الحسن أنا آتِيكُم مضارع أتى من الإتيانِ، وهو قريب من الأول.

فصل


لمَّا اعترف الحاضرون بالعجز عن الجواب، فذكر الشَّرابيُّ قول يوسف ﴿ اذكرني عِندَ رَبِّكَ ﴾
[ يوسف : ٤٢ ]، ﴿ بَعْدَ أُمَّةٍ ﴾ بعد حينٍ، بعد سَبْعِ سنينَ، وذلك أنَّ الحينَ أنَّما يحصل عند اجتماع الأيام الكثيرة، كما أن الأمة إنما تحصل عند اجتماع الجمع العظيم، فالحين كان أمة من الأيام والسَّاعاتِ. فإن قيل : قوله ﴿ وادكر بَعْدَ أُمَّةٍ ﴾ يدل على أنّ الناسي هو الشرابي، وأنتم تقولونك إنَّ النَّاسي هو يوسف عليه السلام.
فالجواب : قال ابنُ الأنباري : ادَّكرَ بمعنى : ذَكَرَ وأخْبَر، فهذا لا يدلُّ على سبقِ النسيان، فلعلَّ الساقي إنما لم يذكر يوسف عليه السلام عند الملكِ، خوفاً عليه من أن يكون ادِّكَاراً لذنبه الذي من أجله حُبس، فترك للشر، ويحتمل أن يكون حصل النسيانُ ليوسف صلوات الله وسلامه عليه [ وحصل ] أيضاً لذلك الشرابي.
رُوِيَ أنَّ الغلام جثا بين يدي الملك، وقال إنَّ بالسجْنِ رجُلاً يُعبِّر الرؤيا.
" فأرْسِلُون " خطابٌ، إما للملك، والجمع، أو للملك وحده ؛ على سبيل التعظيم، وفيه اختصارٌ، تقديره : فأرسلْنِي إيها الملكُ إليه، فأرسله فأتى السِّجن.
قال ابن عباس رضي الله عنه : ولم يكن السجن في المدينة.
فقال : يُوسُف، أي : يا يُوسف " أيُّها الصِّديقُ " والصِّدِّيقُ : هو المبالغ في الصدقِ، وصفهُ بهذه الصفة ؛ لأنه لم يجرب عليه كذباً، وقيل : لأنه مصدق في تعبير رؤياه، وهذا يدلُّ على أنَّ الساقي الخباز لم يكذبا على يوسف في منامهما، ولم يذكراه امتحاناً له، كما زعم بعضهم ثم إنَّه أعاد السؤال باللفظ الَّذي ذكره الملكُ ؛ فإن تعبير الرُّؤيا قد تخلتفُ باختلافِ الألفاظِ ؛ كما هو مذكورٌ في علم التعبير لعَلِّي أرجعُ إلى النَّاس بفتواك ؛ لأنه عجز سائرُ المُعبِّرين على جواةب، فخاف أني يعجز هو أيضاً ؛ فلهذا السبب قال :﴿ لعلي أرجع إلى الناس لعلهم يعلمون ﴾ منزلتك من العلم.
قوله :" تَزْرعُونَ " ظاهر هذا، إخبار من يوسف عليه الصلاة والسلام بذلك.
وقال الزمخشريُّ : تَزْرعُونَ خبرٌ في معنى الأمر ؛ كقوله ﴿ تُؤْمِنُونَ بالله وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ ﴾ [ الصف : ١١ ]، وإنما خرج الأمر في صورة الخبر ؛ للمبالغة في إيجاب المأمور به فيجعل كأنَّه وجد، فهو مخبر عنه ؛ والدليلُ على كونه في معنى الأمر قوله :﴿ فَذَرُوهُ فِي سُنبُلِهِ ﴾.
قال أبو حيان : ولا يدلُّ الأمر بتركه في سنبلة على أنَّ تَزْرعُونَ في معنى : ازْرَعُوا، بل تَزْرعُونَ إخبار غيب، وأمَّا فَذرُوهُ فهو أمرُ إشارةٍ بما ينبغي أن يفعلوه.
وهذا هو الظاهرُ، ولا مدخل لأمر الله لهم بالزراعةِ، لأنهم يزرعون على عادتهم أمرهم، أو لم يأمرهم، وإنما يحتاج إلى الأمر فيما لم يكن من عادة الإنسان أن يفعله كقوله في سُنبلهِهِ.
قوله دَأباً قرأ حفصٌ : بفتحِ الهمزة، والباقون : بسكونها ؛ وهما لغتان في مصدر : دَأبَ يدأبُ دأباً، أي : دَاومَ على الشيء ولازمه.
وقيل : بجدٍّ، واجتهادٍ ؛ وهذا كما قالوا : ضأنُ وضَأن، ومعَز ومَعْز : بفتحِ العين وسكونها.
قال أبو علي الفارسي : الأكثرون في " دَأبَ " الإسكانُ، ولعلَّ الفتح لغةٌ وفي انتصابه أوجه.
أحدها : وهو قول سيبويه : أنه منصوبٌ بعفلٍ محذوفٍ، تقديره : تدْأبُون دأباً.
والثاني : وهو قول أبي العبَّاس رضي الله عنه : أنه منصوبٌ ب : تَزْرعُونَ " ؛ لأنه من معناه، فهو من باب : قعدت القُرْفُصَاء.
وفيه نظرٌ ؛ لأنه ليس نوعاً خاصًا به بخلافِ القرفصاء مع القعودِ.
والثالث : أنه مصدر واقعٌ موقع الحال، فيكون فيه الأوجه المعروفةُ، إما للمبالغة وإما وقوعه موقع الصِّفة، وإما على حذف مضاف، أي : دائبين أو ذوي دأبٍ، أو جعلهم نفس الدَّأب ؛ مبالغة.
وقد تقدم الكلامُ على الدَّأب في " آل عمران " عند قوله ت عز وجل ﴿ كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ ﴾ [ آل عمران : ١١ ].
قوله :﴿ فَمَا حَصَدتُّمْ ﴾، يجوز أن تكون شرطيَّة أو موصولة.
قوله :﴿ فَذَرُوهُ فِي سُنبُلِهِ ﴾ أمرهم بترك الحنطةِ في النسبل ؛ لتكون أبقى على الزمان، ولا تفسد.
قوله :﴿ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّا تَأْكُلُونَ ﴾، أي تدرسون قليلاً ؛ للأكل، أمرهم بحفظ الأكثر، والأكل قدر الحاجة.
وقرأ أبو عبدالرحمن يَأكُلونَ بالغيبة، أي : الناسُ، ويجوز أن يكون التفاتاً.

فصل


قال القرطبيُّ :" هذه الآية أصلٌ في القول بالمصالح الشرعية التي هي حفظ للأديان، والنفوس، والعقول والأنساب، والأموال، فكل ما يضمن تحصيل شيء من هذه الأمور، فهو مصلحةٌ وكل ما يفوت شيئاً منها، فهو مفسدةٌ ؛ ودفعه مصلحةٌ، ولا خلاف أنَّ مقصود الشرائع إرشادُ النَّاس إلى مصالحهم الدُّنيويَّة، ليحصل لهم التمكن من معرفة الله تعالى، وعبادته [ الموصلتين ] إلى السعادةِ الأخرويَّة، ومراعاةُ ذلك فضلٌ من الله ورحمة ".
قوله تعالى :﴿ ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذلك سَبْعٌ شِدَادٌ ﴾ حذف المميز، وهو الموصوف ؛ لدلالة ما تقدَّم عليه، ونسب الأكل إليهن، مجازاً ؛ كقوله :﴿ والنهار مُبْصِراً ﴾ [ يونس : ٦٧ ] لمَّا كان الأكل، والإبصار فيهما، جعلا كأنهما واقعان منهما، مبالغة.
و " الشِّدادُ " : الصِّعابُ التي تشتدُّ على الناس ؛ فلذلك سمَّى السنين المجدبة شداداً.
يَأكْلْنَ، أي : يُفْنِين، ويهلكن الطعام إلاَّ قليلاً ممَّا تُحْصِنُونك تحرزُونَ، وتدَّخِرُونَ ؛ للبذر.
" والإحصانُ : الإحرازُ، وهو [ إبقاء ] الشيء في الحصنِ، يقال : أحْصَنَهُ إحصاناً، إذا جعله في حِرْزٍ ".
قوله [ تعالى ] :﴿ يُغَاثُ الناس ﴾ يجوز أن تكون الألف عن واوٍ، وأن تكون عن ياءٍ : إما من الغوث، وهو الفرج، وفعله رباعي، يقال : أغَاثَنا اللهُ إذَا أنْقذنَا من كرْبٍ أو غمٍّ، ومعناه : يغاثُ الناسُ من كَرْبِ الجَدبِ.
وإما من الغيثِن وهو المطرُ، يقال : أغْيَثَت الأرض، أي : أمطرتْ، وفعله ثلاثي، يقال : أغَاثَنَا الله من الغَيْثِ، وقالت اعرابيةٌ : غِثْنَا ما شِئْنَا، اي : أمْطِرنا ما أردْنَا.

فصل


يقال : أسْنَتُوا، أي : دخلوا في سنةٍ مجدبة :" وقال المفسِّرون : السبعة المتقدمةُ : هي الخصبُ وكثرةُ النِّعم، والسَّبعة الثانية : هي القَحْطُ، وهي معلومةٌ من الرؤيا، وأمَّا حالُ هذه السنةِن فما حصل في ذلك المنام ما يدلُّ عليه، بل حصل ذلك مِنَ الوَحْيِ ".
قال قتادةُ رحمه الله : زادهُ الله علمَ سنةٍ.
فإن قيل : لما كانت العِجافُ سَبْعاً، دلَّ على أنَّ السنين المجدبة لا تزيدْ على هذا العدد، ومن المعلوم أنَّ الحاصل بعد انقضاء القحطِ، هو الخصبُ، فكان هذا أيضاً من مدلُولاتِ المنامِ، فلم قلتم : إنَّه حصل بالوحي والإلهام ؟.
فالجواب : هَبْ أنَّ تبدل القحْطِ بالخصب معلومٌ، وأما تفصيلُ الحال فيه، وهو قوله :﴿ فِيهِ يُغَاثُ الناس وَفِيهِ يَعْصِرُونَ ﴾ لا يعلمُ إلا بالوحي.
قوله يَعْصِرونَ قرأ الأخوان :" تَعْصِرُونَ " بالخطاب، والباقون بياء الغيبة، وهما واضحتان ؛ لتقدم مخاطبٍ أو غائبٍن فكلُّ قراءةٍ ترجعُ إلى ما يليقُ بها.
و " يَعْصِرُونَ " يحتمل أوجهاً :
أظهرها : أنه من عصر العِنبِ، والزيتونِ، والسمسمِ، ونحو ذلك.
والثاني : أنَّه من عصر الضَّرع، إذا حلبه.
والثالث : أنه من العصرةِ، وهي النجاةٌ، والعُصْر : المنجي. وقال أبو زيد في عثمان رضي الله ع نه :[ الخفيف ]
٣١١٣ صَادِياً يَسْتغِيثُ غَيْرَ مُغاثٍ ولقَدْ كَان عُصْرةَ المَنجُودِ
[ ويعضدُ ] هذا الوجه مطابقة قوله :﴿ فِيهِ يُغَاثُ الناس ﴾ يقال : عَصَرَه يَعْصِرهُ، أي : أنجاه. وقرأ جعفر بن محمدٍ، والأعرجك " يُعْصَرُونَ " بالياء من تحت، وعيسَى بالتاءِ من فوقُ، وهو في كلتا القراءتين مبني للمفعولِ، وفي هاتين القراءتين تأويلان :
أحدهما : أنها من عصره، إذا أنجاه : قال الزمخشريُّ :" وهو مطابق للإغاثةِ ".
والثاني : قاله قُطربٌ أنَّهما من الإعْصارِ، وهو إمطار السحابةِ الماء ؛ كقوله تعالى :﴿ وَأَنزَلْنَا مِنَ المعصرات مَآءً ثَجَّاجاً ﴾ [ النبأ : ١٤ ]، وقال الزمخشريُّ : وقُرىء :" يُعْصَرُون، تُمْطرُونَ "، من أعصرتِ السَّحابةُ، وفيه وجهان :
إمَّا أن يضمَّن أعصرت معنى مُطِرَت، فيعدّى تعْدِيتَه، وإما أن يقال : الأصلُ : أعْصِرَتْ عليهم، فحذف الجار وأوصل الفعل إلى ضميرهم أو يسندُ الإعصارُ إليهم ؛ مجازاً، فجعلوا معصرين.
وقرأ زيد بن عليّ :" تِعِصّرُون " بكسر التاء، والعين، والصاد مشددة، وأصلها يعْتَصِرُون، فأدغم التاء في الصاد، وأتبع العين للصادِ، ثمَّ أتبعَ التاء للعين وتقدم [ تقريره ] في قوله ﴿ إِلاَّ أَن يهدى ﴾ [ يونس : ٣٥ ].
ونقل النقاشُ قراءة " يُعَصِّرُونَ " بضمِّ الياء، وفتح العين، وكسر الصّاد مشددة ؛ من " عَصَّر " للتكثير، وهذه القراءة، وقراءة زيدٍ المقتدمة، تحتملان أن يكونا من العصرِ للنبات، أو الضَّرع، أو النَّجاة ؛ كقول الشاعر :[ الرمل ]
٣١١٤ لَوْ بِغيْرِ الماءِ حَلقِي شَرقٌ كُنْتُ كالغَصَّانِ بالمضاءِ اعتِصَارِي
قوله تعالى: ﴿وَقَالَ الملك ائتوني بِهِ﴾ الآية.
اعلم أنَّ الساقي لما رجع إلى الملك، وأخبره بما أفتاه يوسف من تأويل رؤياه، وعرف الملك أنَّ الذي قاله كائنٌ قال ائتُونِي به، فلمَّا جَاءه الرسُول قال: أجب الملكَ، فأبى أن يخرج مع الرسول، حتَّى تظهر براءته، فقال للرسول: ارْجِعْ إلى ربِّكَ، أي: سيِّدك، قال عليه الصلاة السلام: «عَجِبْتُ مِن يُوسفَ وكَرمهِ وصَبْرهِ واللهُ يَغْفرُ لهُ حِينَ سُئِلَ عَنِ البَقراتِ العِجِافِ والسِّمانِ، ولوْ كُنْتُ مَكانَهَ ما أخْبرْتُهمْ حتَّى أشْترطَ أنْ يُخْرِجُونِي ولقَدْ عِجِبْتُ منهُ حِينَ أتاهُ الرَّسولُ فقَال لَهُ: ارْجِعْ إلى ربِّك، ولوْ كُنْتُ مَكَانَهُ ولَبِثْتُ في السِّحن طول ما لبِثَ لأسْرعْتُ إلى الإجَابةِ وبَادرتُهثم البَابَ».
قال ابن الخطيب: الذي فعله يوسف عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ ت من الصَّبر، والتَّوقٌُّف إلى أن يفحص الملك عن حاله، هو الأليقُ بالحزم والعقل، وبيانه من وجوه:
الأول: أنه لو خرج في الحالِ، فربما كان يبقى في قلب الملك أثر ما، فلما التمس من الملكِ أن يفحص عن حال تلك الواقعةِ، دلَّ ذلك على براءته من التهمةِ، فبعد خروجه لا يقدر أحدٌ أن يلطِّخه بتلك الرذيلة، وأن يتوصل بها إلى الطعن فيه.
والثاني: أن الإنسان الذي يبقى في [السجن] اثنتي عشرة سنةً، إذا طلبه الملك، وأمر بأخراجه، فالظاهر أنه يبادرُ إلى الخروكج، فحيث يخرج، عرف منه أنه في نهايةِ
125
العقلِ، والصَّبر، والثباتِ؛ وذلك [يكون] سبباً لاعتقادِ البراءةِ فيه عن جميع أنواع التهم، وأن يحكم بأنَّ كلَّ ما قيل فيه، كان كذباً.
الثالث: أن التماسهُ من الملك أن يفحص عن حاله من تلك النسوةِ، يدل أيضاً على شدَّة طهارته، إذ لو كان ملوثاً بوجه ما، لكان يخاف أن يذكر ما سبق.
الرابع: أنه قال للشَّرابي: «اذكُرْنِي عندَ ربِّكَ» فبقي بسبب هذه الكلمة في السجن [بضع] سنين، وهنا طلبهُ الملك فلم يلتفت إليه، ولم يقمْ لطلبه وزناً، واشتغل بإظهار براءته من التُّهمةِ، ولعلَّه كان غرضه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ من ذلك ألاَّ يبقى في قلبه التفاتٌ إلى ردِّ الملك وقبوله، وكان هذا العمل جارياً مجرى التَّلافي، لما صدر منه من التوسُّلِ إليه، في قوله: «اذْكُرنِي عِندَ ربِّك»، وليظهر هذا المعنى لذلك الشرابي؛ فإنه هو الذي كان واسطةً في الحالين معاً.
قوله: ﴿فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النسوة﴾ قرأ ابن كثير، والكسائي: «فَسَلهُ»، بغير همز، والباقون: بالهمز؛ وهما لغتان.
والعامة على كسر نونِ «النِّسوةِ» وضمها عاصم في رواية أبي بكرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما وليست بالمشهورة، وكذلك قرأها أبو حيوة.
وقرىء «اللاَّئِي» بالهمز، وكلاهما جمع ل: «الَّتي»، و «الخَطْبُ» : الأمْرُ والشَّأن الذي فيه خطرٌ؛ وأنشد [الطويل]
٣١١٥ - ومَا المَرْءُ ما دَامتْ حُشَاشَةُ نَفْسهِ بمُدْرِك أطرْافِ الخُطوبِ ولا آلِ
وهو في الأصل مصدر: خَطَبَ يُخْطبُ وإنَّما يُخْطَبُ في الأمور العظام.

فصل ما في الآية من لطائف


أولها: أنَّ المعنى؛ قوله تعالى ﴿فَاسْأَلْهُ﴾ سئل الملك ﴿مَا بَالُ النسوة﴾ ليعلم براءتي من تلك التهمة إلا أنَّه اقتصر على سؤال الملك عن تلك الواقعة؛ لئلاًَ يشتمل اللفظ على ما يجرى مجرى أمر الملك بعمل أو فعلٍ.
وثانيها: أنَّه لم يذكر سيدته مع أنها التي سعت في إلقائه في السجن الطويل، بل اقتصر على ذكر سائر النسوة.
وثالثها: أنَّ الظاهر أن أولئك النسوة نسبنه إلى عملٍ قبيحٍ عند الملك، فاقتصر
126
يوسف عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ على مجرَّد قوله: ﴿مَا بَالُ النسوة اللاتي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ﴾، وما شكى منهم على سبيل التَّعيين، والتفصيل.
ثم قال يوسف عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ ﴿إنّ ربي بكيدهن عليم﴾.
وفي المراد بقوله «إنَّ ربِّي» وجهان:
أحدهما: أنه هو الله تعالى فإنه هو العالم بخفيَّات الأمور.
والثاني: المراد به الملك، وجعله ربًّا؛ لكونه مربِّياً، وفيه إشارةٌ إلى كون ذلك الملك عالماً بمكرهنَّ وكيدهنَّ.
واعلم أنَّ كيدهن في حقه يحتمل وجوهاً:
أحدها: أنَّ كل واحدٍ منهن طمعت فيه، فلما لم يجدن المطلوب أخذن يطعن فيه، وينسبنه إلى القبيح.
وثانيها: لعلَّ كلَّ واحدةٍ منهمن بالغت في ترغيب يوسف في موافقته سيدته على مرادها، ويوسف علم أنَّ مثل هذه الخيانة في حقِ السَّيِّد المنعم لا تجوزُ.
وثالثها: أنه استخرجد منهنَّ وجوهاً من المكرِ والحيل في تقبيح صورة يوسف عند الملك، فكان المراد منهم اللفظ ذلك.
ثم إنه تعالى حَكَى أنَّ يوسف عليه السلام لما التمس من الملك ذلك، أمر الملكُ بإحْضَارهنَّ، وقال لهُّنَّ: «مَا خَطْبُكُنَّ» : ما شَأنُكُنَّ، وأمركنَّ «إذْ رَاودتُّنَّ يوسف عَنْ نَفْسِهِ»، وفيه وجهان:
الأول: أن قوله: «إذْ رَاودتُّنَّ يُوسفَ»، وإن كان صيغة جمع، فالمراد منها الواحد؛ كقوله جلَّ ذكره: ﴿الذين قَالَ لَهُمُ الناس إِنَّ الناس قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ﴾ [آل عمران: ١٧٣].
والثاني: أنَّ المراد منه خطابُ الجماعة، ثم هاهنا وجهان:
الأول: أنَّ كلَّ واحدة منهنَّ روادتْ يوسف عن نفسه.
والثاني: أنَّ كلَّ واحدةٍ منهنَّ روادتْ يوسف؛ لأجل امرأة العزيز، فاللفظ محتمل لكل هذه الوجوه.
وعند هذا السؤال ﴿قلن حاش لله ما علمنا عليه من سوء﴾، وهذا كالتأكيد؛ لما ذكرنا في أوَّل الأمر في حقه، وهو قولهنَّ: ﴿مَا هذا بَشَراً إِنْ هاذآ إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ﴾ [يوسف: ٣١].
وقوله «إذْ رَوادتنَّ»، هذا الظرف منصوبٌ ب «خَطْبُكُنَّ» ؛ لأنه في معنى الفعل إذ المعنى: ما فعلتُنَّ، وما أردتنَّ به في ذلك الوقتِ.
وكانت امرأةُ العزيز حاضرة، وكانت تعلم أن هذه المناظرات، والتفحصات، إنما
127
وقعت بسببها، ولأجلها. وقيل: إ نَّ النسوة أقبلن على امرأة العزيز يقررنها.
وقيل: خَافتْ أن يَشْهدْنَ عليها؛ فأقرَّت، وقالت: ﴿الآن حَصْحَصَ الحق﴾ أي: ظهر، وتبيَّن: ﴿أَنَاْ رَاوَدْتُّهُ عَن نَّفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصادقين﴾، في قوله: ﴿هِيَ رَاوَدَتْنِي عَن نَّفْسِي﴾ [يوسف: ٢٦].
هذه شهادةٌ جازمةٌ من تلك المرأة أنَّ يوسفَ صلوات الله وسلامه عليه راعى جانب العزيز حيثُ قال: ﴿ما بال النسوة اللاتي قطعن أيديهن﴾ ؛ ولم يذكر تلك المرأة ألبتة؛ فعرفت المرأةُ أنَّهُ ترك ذكرها؛ رعايةً، وتعظيماً لجانبها، وإخفاءً للأمر عليها؛ فأرادت أن تكافئه على هذا الفعل الحسن، فلا جرم كشفت الغطاء، واعترفت بأنَّ الذنب كُلَّه من جانبها، وأنَّ يوسف كان مُبَرّأ عن الكل.
حُكِيَ أنَّ امرأة جاءت بزوجها إلى القاضي، فادَّعت عليه المهر، فأمر القَاضِي أن يَكْشفَ عَنْ وَجْهِها؛ حتَّى يتمَكَّنَ الشُّهودُ من إقَامةِ الشَّهادةِ، فقال الزَّوحُ: لا حَاجةَ إلى ذلِكَ؛ فإنِّي مقرٌّ بصَداقِهَا في دَعْواهَا، فقالت المرأةُ: أكْرمْتَنِي إلى هذا الحد؟ اشْهَدُوا أنِّي أبْرَأتُ ذمَّتهُ من كُلِّ حقِّ لِي عليْهِ.
قوله «الآنَ» منصوب بما بعده، و «حَصْحَصَ» معناه: تبيَّن وظهر بعد خفاءٍ، قاله الخليل رَحِمَهُ اللَّهُ.
وقال بعضهم: هو مأخوذٌ من الحصَّة، والمعنى: بانتْ حصَّةُ الحق من حصَّة الباطل، كما تتميَّزُ حِصَصُ الأرَاضِي وغيرها، وقيل: بمعنى ثبت واستقرَّ.
وقال الرَّاغب: «حَصْحَصَ الحقُّ»، أي: وضَحَ ذلِكَ بانكِشافِ ما يُقهِره، وحصَّ وحَصْحَصَِ، نحو: كفَّ وكَفْكَفَ، وكَبَّ وكَبْكَبَ، وحصَّه: قطعهُ؛ إمَّا بالمباشرة وإمَّا بالحكمِ؛ فمن الأولِ قوله الشاعر: [السريع].
٣١١٦ - قَدْ حَصَّتِ البَيْضَةُ رَأسِي فَمَا............................
ومنه: رجلٌ أحَصّ: انقطع بعض شعره، وامرأةٌ حصَّاءُ، والحَصَّةُ: القطعة من الجملة، ويستعمل استعمال النصيب.
وقيل: هو مِنْ حَصْحَصَ البعير، إذا ألقى ثفناته؛ للإناخَةِ؛ قال الشاعر: [الطويل]
128
قوله تعالى: «ذَلِكَ» خبرُ مبتدإٍ مضمرٍ، أي: الأمرُ ذلك، و «لِيَعْلمَ»، متعلقٌ بضميرٍ، أي: أظهر ذلك؛ ليعلم، أو مبتدأ، وخبره محذوفٌ، أي: ذلك الذي صرَّحتُ به عن براءته، أمرٌ من الله لا بُدَّ منه، و «لِيَعْلمَ» متعلقُ بذلك الخبر، أو يكون «ذَلِكَ» مفعولاً لفعلٍ مقدَّرٍ يتعلق به هذا الجار أيضاً، أي: فعل الله ذلك، أو فعلته أنا بتيسير الله.
قوله: «بِالغَيْبِ» يجوز أن تكون الباءُ ظرفية قال الزمخشريُّ: أي مكان الغيب، وهو الخفاء، والاستتارُ وراء الأباب السبعة المغلقةِ، ويجوز أن تكون الباءُ للحالِ، إمَّا من الفاعل، على معنى: وأنا غائبٌ عنه خفي عن عينه.
وإمَّا من المعفولِ على معنى: وهو غائب عني خفي عن عيني.
«وأنَّ اللهَ» نسقٌ على «أنِّي»، أي: ليعلم الأمرينِ، وهذا من كلام يوسف صلوات الله وسلامه عليه وبه بدأ الزمخشري، كالمختار له.
وقال غيره: إنه من كلام امرأة العزيزِ، وهو الظَّاهرُ.
فإن قلنا: هو من كلام يوسف عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ فمتى قالهُ؟.
وروى عطاءٌ، عن ابن عبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم: أنَّ يوسف لما دخل على الملك، قال «ذلكَ»، وإنما ذكره بلفظِ الغيبة تعظيماً للملك عن الخطاب.
قال ابنُ الخطيب: «والأولى أنه صلوات الله وسلامه عليه إنما قال ذلك عند عود الرسول إليه، لأنَّ ذكر هذا الكلام في حضرةِ الملك، سوء أدبٍ».
فإن قيل: هذه الخيانة لو وقعت، كانت في حقِّ العزيزِ، فكيف قال: ﴿ذلك لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بالغيب﴾ ؟.
فالجوابُ: قيل: المرادُ ذلك ليعلم الملك أنِّي لم أخنِ العزيز بالغيبِ، فتكون الهاءُ في «أخُنْهُ» تعود على العزيز.
وقيل: إنَّه إذا خان وزيره، فقد خانه من بعض الوجوه.
وقيل: إن الشرابي لما رجع إلى يوسف عليه السلام وهو في السجن، قال: ﴿ذلك لِيَعْلَمَ﴾، العزيزُ ﴿أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بالغيب﴾.
ثم ختم الكلام بقوله: ﴿وَأَنَّ الله لاَ يَهْدِي كَيْدَ الخائنين﴾، ولعلَّ المراد منه: أني لو كنت خائناً، لما خلَّصني الله من هذه الورطةِ، وحيث خلصني منها، ظهر أنِّي كنت بريئاً مما نسبوني إليه.
وإن قلنا: إن قوله: ﴿ذلك لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بالغيب﴾ كلام امرأة العزيز، فالمعنى: أني
129
ولو أدخلت الذنب عليه عند حضوره، لكنني لم أدخل الذنب عليه عند غيبته؛ لأني لم أقلْ فيه وهو في السجن خلاف الحقِّ، ثم إنها بالغت في تأكيد هذا القول وقالت: ﴿وَأَنَّ الله لاَ يَهْدِي كَيْدَ الخائنين﴾، أيك لما أقدمتُ على الكيدِ، والمكرِ، لا جرم افتضحْتُ؛ فإنه لمَّا كان بريئاً، لاجرم أظهره الله، عز وعلا.
قال صاحبُ هذا القولِ: الي يدلُّ على صحَّتهِ: أنَّ يوسف صلوات الله وسلامه عليه ما كان حاضراً في ذلك الملجلس حتَّى يقال: لمَّا ذكرتِ المرأةُ قولها: ﴿الآن حَصْحَصَ الحق أَنَاْ رَاوَدْتُّهُ عَن نَّفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصادقين﴾، ففي تلك الحالة قال يوسف: ﴿ذلك لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بالغيب﴾، بل يحتاج فيه إلى أن يرجع الرسول عن ذلك المجلس إلى السجن، ويذكر تلك الحكاية.
ثم إنَّ يوسف يقول ابتداء: ﴿ذلك لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بالغيب﴾ ومثلُ هذا الوصل بين الكلامين الأجنبيين، ما جاء ألبتة في نثر ولا نظم؛ فعلمنا أن هذا من تمام كلام المرأة.
قال القرطبي: وهو متصلٌ بقولِ امرأة العزيز: «الآنَ حَصْحَصَ الحقٌّ» أي: أقررتُ بالصدقِ؛ ﴿ذلك لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بالغيب﴾ بالكذب عليه، ولم أذكره بسوءٍ، وهو غائبٌ، بل صدقتُ، وزجرت عنه الخيانة، ثم قالت: «ومَا أبرِّىءُ نَفسِي» ؛ بل أنا روادته وعلى هذا هي كانت مقرة بالصانع؛ ولهذا قالت: ﴿إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾.
وقيل
: ﴿ذلك
لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بالغيب﴾
، مِنْ قولِ العزيز، وإنِّي لم أغفل عن مجازاته على أمانته.
﴿وَأَنَّ الله لاَ يَهْدِي كَيْدَ الخائنين﴾ معناه: إنَّ الله لا يهدي الخائنين بكيدهم.

فصل


دلَّت هذه الآية على ظهارةِ يوسف صلوات الله وسلامه عليه من الذنب من وجوه:
الأول: أن الملك لما أرسل إلى يوسف صلوات الله وسلامه عليه وطلبه، فلو كان يوسف متهماً بفعلٍ قبيحٍ، وقد كان صدر منه ذنبٌ، وفحشٌ؛ لاستحال بحسب العرفِ العادةِ، أن يطلب من الملك أن يفحص عن تلك الواقعة، وكان ذلك سعياً منه في فضيحةِ نفسه، وفي حمل الأعداءِ على أن يبالغوا في إظهار عيوبه.
والثاني: أنَّ النسوة شهدن في المرة الأولى بطهارته، ونزاهته، ﴿وَقُلْنَ حَاشَ للَّهِ مَا هذا بَشَراً إِنْ هاذآ إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ﴾ [يوسف: ٣١]، وفي المرة الثانية: ﴿حَاشَ للَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِن سواء﴾.
130
والثالث: أنَّ امرأة العزيز اعترفت في المرة الأولى بطهارته، حيثُ قالت: ﴿وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ فاستعصم﴾ [يوسف: ٣٢]، وفي المرة الثانية قولها: ﴿الآن حصحص الحق أنا روادته عن نفسه وإنه لمن الصادقين﴾، وهذا إشارةٌ إلى أنَّه صادقٌ في قوله: ﴿هِيَ رَاوَدَتْنِي عَن نَّفْسِي﴾ [يوسف: ٢٦].
والرابع قول يوسف ﴿ذلك لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بالغيب﴾.
قال ابن الخطيب: «الحشويَّةُ يذكرون أنَّه لما قال هذا الكلام، قال جبريل عليه السلام: ولا حين هَمَمْتَ، وهذا من رواياتهم الخبيثة، وما صحَّت هذه الرواية في كتابٍ معتمدٍ، بل هم يلحقونها بهذا الموضع سعياً منهم في تحريفِ ظاهر القرآن».
والخامس: قوله: ﴿وَأَنَّ الله لاَ يَهْدِي كَيْدَ الخائنين﴾، يقتضي أن الخائن لا بدَّ أن يفتضح، فلو كان خائناً، لوجب أن يفتضحح ولما خلصه الله من هذه الورطة، دلَّ ذلك على أنه لم يكن من الخائنين.
ووجه آخر: وهو أنَّ ت في هذا الوقت تلك الواقعة صارت مندرسةً، فإقدامه في قوله ﴿ذلك لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بالغيب﴾، مع أنَّهُ [خانه] بأعظم وجوه الخيانة وأقدم على فاحشةٍ عظيمةٍ، وعلى كذبٍ عظيمٍ من غير أن يتعلق به مصلحة بوجهٍ ما، والإقدامُ على مثل هذه الوقاحة من غير فائدة أصلاًح لا يليق بأحدٍ من العقلاءِ، فكيف يليق إسناده إلى سيِّد العقلاء، وقدوة الأصفياء، فثبت أنَّ هذه الآية تدلُّ دلالة قطعيَّة على براءته مما يقول الجُهَّال.
قوله تعالى: ﴿وَمَآ أُبَرِّىءُ نفسي﴾ الآية اعلمْ أنَّ تفسير هذه الآية يختلف باخلاف ما قبلها؛ لأنَّه إن قلنا قوله ﴿ذلك لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بالغيب﴾، كلام يوسف، كان هذا أيضاً كلام يوسف، وإن قلنا:: إنه من تمام كلام المرأة، كان هذا أيضاً كذلك، وإذا قلنا: إنه من كلام يوسف عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ، فقالوا: إنه صلوات الله وسلامه عليه لما قال: ﴿ذلك لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بالغيب﴾، قال جبريلُ عليه السلامُ ولا حين هَمَمْتَ، فعند هذا، قال يوسف عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: ﴿وَمَآ أُبَرِّىءُ نفسي إِنَّ النفس لأَمَّارَةٌ بالسواء﴾، أي: بالزِّنا، ﴿إِلاَّ مَا رَحِمَ ربي﴾ أي عصم، ﴿إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ لِلْهمِّ الذي همَّ به، «رَحِيمٌ»، أي لو فعلته، لتابَ عليَّ.
قال ابنُ الخطيب رَحِمَهُ اللَّهُ: «هذا ضعيفٌ؛ فإنَّا بينا في الآية الأولى برهاناً قاطعاً على براءته من الذنب».
131
فإن قيل: ما جوابكم عن هذه الآية؟.
فنقول: فيه وجهان:
الأول: أنه صلوات الله وسلامه عليه لما قال ﴿ذلك لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بالغيب﴾، كان ذلك جارياً مجرى المدحِ لنفسه، وتزيكتها؛ وقال سبحانه ﴿فَلاَ تزكوا أَنفُسَكُمْ﴾ [النجم: ٣٢] فاستدركه على نفسه بقوله: ﴿وَمَآ أُبَرِّىءُ نفسي﴾، والمعنى: فلا أزكِّى نفسيح ﴿إِنَّ النفس لأَمَّارَةٌ بالسواء﴾، ميَّالةٌ إلى القبائحِ، راغبٌ في المعصيةِ.
الثاني: أنَّ الآية لا تدلُّ البتة على شيءٍ مما ذكروه؛ لأنَّ يوسف صوات الله وسلامه عليه لما قال: ﴿ذلك لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بالغيب﴾، بيَّن أنَّ ترك الخيانة ما كان لعدمِ الرغبة، ولعدم ميل النفس، والطعبيةِ؛ لأنَّ النفس أمَّارة بالسوءِ، توَّاقةٌ إلى اللذات، فبيَّن بهذا الكلام أن ترك الخيانة، ما كان لعدم الرغبةِ، بل لقيام الخوف من الله تعالى.
وإذا قلنا: إنَّ هذا الكلام من بقية كلامِ المرأةِ، ففيه وجهان:
الأول: ﴿وَمَآ أُبَرِّىءُ نفسي﴾، عن مراودته، ومرادها تصديقُ يوسف في قوله: ﴿هِيَ رَاوَدَتْنِي عَن نَّفْسِي﴾ [يوسف: ٢٦].
والثاني: أنها لما قالت: ﴿ذلك لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بالغيب﴾، قالت: ﴿وَمَآ أُبَرِّىءُ نفسي﴾، من الخيانة مطلقاً؛ فإنٍّي قد خنته حين أحلت الذنب عليه، وقلت: ﴿مَا جَزَآءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سواءا إِلاَّ أَن يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ [يوسف: ٢٥] ؛ وأودعته في السِّجن، كأنَّها أرادت الاعتذارَ مما كان.
فإن قيل: أيُّهما أولى، جعل هذا الكلام كلاماً ليوسف، أم جعله كلاماً للمرأة.
قلنا: جعله كلاماً ليوسف مشكل؛ لأنَّ قوله: «قالت امرأة العَزيزِ الآن حَصْحَصَ الحقٌّ» كلامٌ موصولٌ بغضه ببعضٍ إلى آخره، فالقول بأنَّ بعضه كلام المرأةِ، والبعض كلام يوسف، تخلُّل الفواصل الكثيرة بين القولين، وبين المجلسين بعيد.
فإن قيل: جعله كلاماً للمرأة مشكل أيضاً؛ لأن قوله ﴿وَمَآ أُبَرِّىءُ نفسي إِنَّ النفس لأَمَّارَةٌ بالسواء إِلاَّ مَا رَحِمَ ربي﴾ كلامٌ لا يحسنُ صدوره إلاَّ ممَّن احترز عن المعاصِي، ثم يذكر هذا الكلام على سبيل النَّفس، ولا يليق ذلك بالمرأةِ التي استفرغت جهدها في المعصية.
قوله: ﴿إِلاَّ مَا رَحِمَ ربي﴾ فيه أوجهٌ:
أحدها: أنه مستثنى من الضمير المستكنِّ في «أمَّارةٌ» كأنه قيل: إن النفس لأمارةٌ بالسوءِ إلاَّ نفساً رحمها ربِّي، فيكون أراد بالنفس الجنس؛ فلذلك ساغ الاستثناء منها؛ لقوله تعالى: ﴿إِنَّ الإنسان لَفِى خُسْرٍ إِلاَّ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات﴾ [العصر: ٢، ٣] وإلى
132
هذا نحا الزمخشريُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فإنه قال: «إلا البعض الذي رحمهُ ربِّي بالعصمة؛ كالملائكة».
وفيه نظرٌ؛ من حيث إيقاع «ما» على من يعقل، والمشهور خلافه.
قال ابن الخطيب: «ما» بمعنى «مَنْ» أي: إ لا من رحم ربي، و «مَا» و «مَنْ» كلُّ واحدٍ منهما يقوم مقام الآخر؛ قال تعالى: ﴿فانكحوا مَا طَابَ لَكُمْ مِّنَ النسآء﴾ [النساء: ٣]، وقال: ﴿وَمِنْهُمْ مَّن يَمْشِي على أَرْبَعٍ﴾ [النور: ٤٥].
والثاني: أنَّ «مَا» في معنى الزمان؛ فيكون مستثنى من الزمنِ العامِ المقدر، والمعنى: إنَّ النَّشفس لأمارة بالسوءِ في كل وقتٍ وأوانٍ، إلاَّ وقت رحمة ربِّي إيَّاها بالعصمةِ. ونظره أبو البقاءِ بقوله: ﴿وَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إلى أَهْلِهِ إِلاَّ أَن يَصَّدَّقُواْ﴾ [النساء: ٩٢]، وقد تقدَّم [النساء: ٩٢] أنَّ الجمهور لا يجيزون أن تكون «أنْ» واقعة موقع ظرف الزمان.
والثالث: أنه مستثنى من معفولِ «أمَّارةٌ»، أي: لأمَّارة صاحبها بالسُّوءِ إلا الذي رَحِمَهُ اللَّهُ، وفيه إيقاع «مَا» على العاقل.
والرابع: أنه استثناء منقطع، قال ابن عطيَّة: وهو قول الجمهور. وقال الزمخشريُّ: ويجوز أن يكن استثناء منقطعاً، أيك ولكن رحمةُ ربي التي تصرفُ الإساءة؛ كقوله: ﴿وَلاَ هُمْ يُنقَذُونَ إِلاَّ رَحْمَةً مِّنَّا﴾ [يس: ٤٣، ٤٤].

فصل في أن الإيمان والطاعات لا يحصلان للعبد إلا برحمة الله له


هذه الآية تدل على أن الطاعات والإيمان لا يحصلان إلا من الله تعالى؛ لقوله تعالى: ﴿إِلاَّ مَا رَحِمَ ربي﴾ فدلَّ ذلك على إنَّ انصراف النفس من السوءِ لا يكون إلا برحمة الله، ودلَّت الآية على أنَّ من حصلت تلك الحرمةُ له، حصل ذلك الانصرافُ، ولا يمكن تفسيرُ هذه الرحمة بإعطاءِ العقل، والقدرةِ، والألطافِ، كما قاله القاضي رَحِمَهُ اللَّهُ؛ لأنَّ كلَّ ذلك مشتركٌ بين الكافر والمؤمن، فوجب تفسيرها بشيءٍ آخر، وهو ترجيحُ داعية الطاعة على داعيةِ المعصيةِ.
133
ثم إنه تعالى حَكَى أنَّ يوسف عليه السلام لما التمس من الملك ذلك، أمر الملكُ بإحْضَارهنَّ، وقال لهُّنَّ :" مَا خَطْبُكُنَّ " : ما شَأنُكُنَّ، وأمركنَّ " إذْ رَاودتُّنَّ يوسف عَنْ نَفْسِهِ "، وفيه وجهان :
الأول : أن قوله :" إذْ رَاودتُّنَّ يُوسفَ "، وإن كان صيغة جمع، فالمراد منها الواحد ؛ كقوله جلَّ ذكره :﴿ الذين قَالَ لَهُمُ الناس إِنَّ الناس قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ ﴾ [ آل عمران : ١٧٣ ].
والثاني : أنَّ المراد منه خطابُ الجماعة، ثم هاهنا وجهان :
الأول : أنَّ كلَّ واحدة منهنَّ روادتْ يوسف عن نفسه.
والثاني : أنَّ كلَّ واحدةٍ منهنَّ روادتْ يوسف ؛ لأجل امرأة العزيز، فاللفظ محتمل لكل هذه الوجوه.
وعند هذا السؤال ﴿ قلن حاش لله ما علمنا عليه من سوء ﴾، وهذا كالتأكيد ؛ لما ذكرنا في أوَّل الأمر في حقه، وهو قولهنَّ :﴿ مَا هذا بَشَراً إِنْ هاذآ إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ ﴾ [ يوسف : ٣١ ].
وقوله " إذْ رَوادتنَّ "، هذا الظرف منصوبٌ ب " خَطْبُكُنَّ " ؛ لأنه في معنى الفعل إذ المعنى : ما فعلتُنَّ، وما أردتنَّ به في ذلك الوقتِ.
وكانت امرأةُ العزيز حاضرة، وكانت تعلم أن هذه المناظرات، والتفحصات، إنما وقعت بسببها، ولأجلها. وقيل : إ نَّ النسوة أقبلن على امرأة العزيز يقررنها.
وقيل : خَافتْ أن يَشْهدْنَ عليها ؛ فأقرَّت، وقالت :﴿ الآن حَصْحَصَ الحق ﴾ أي : ظهر، وتبيَّن :﴿ أَنَاْ رَاوَدْتُّهُ عَن نَّفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصادقين ﴾، في قوله :﴿ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَن نَّفْسِي ﴾ [ يوسف : ٢٦ ].
هذه شهادةٌ جازمةٌ من تلك المرأة أنَّ يوسفَ صلوات الله وسلامه عليه راعى جانب العزيز حيثُ قال :﴿ ما بال النسوة اللاتي قطعن أيديهن ﴾ ؛ ولم يذكر تلك المرأة ألبتة ؛ فعرفت المرأةُ أنَّهُ ترك ذكرها ؛ رعايةً، وتعظيماً لجانبها، وإخفاءً للأمر عليها ؛ فأرادت أن تكافئه على هذا الفعل الحسن، فلا جرم كشفت الغطاء، واعترفت بأنَّ الذنب كُلَّه من جانبها، وأنَّ يوسف كان مُبَرّأ عن الكل.
حُكِيَ أنَّ امرأة جاءت بزوجها إلى القاضي، فادَّعت عليه المهر، فأمر القَاضِي أن يَكْشفَ عَنْ وَجْهِها ؛ حتَّى يتمَكَّنَ الشُّهودُ من إقَامةِ الشَّهادةِ، فقال الزَّوحُ : لا حَاجةَ إلى ذلِكَ ؛ فإنِّي مقرٌّ بصَداقِهَا في دَعْواهَا، فقالت المرأةُ : أكْرمْتَنِي إلى هذا الحد ؟ اشْهَدُوا أنِّي أبْرَأتُ ذمَّتهُ من كُلِّ حقِّ لِي عليْهِ.
قوله " الآنَ " منصوب بما بعده، و " حَصْحَصَ " معناه : تبيَّن وظهر بعد خفاءٍ، قاله الخليل رحمه الله.
وقال بعضهم : هو مأخوذٌ من الحصَّة، والمعنى : بانتْ حصَّةُ الحق من حصَّة الباطل، كما تتميَّزُ حِصَصُ الأرَاضِي وغيرها، وقيل : بمعنى ثبت واستقرَّ.
وقال الرَّاغب :" حَصْحَصَ الحقُّ "، أي : وضَحَ ذلِكَ بانكِشافِ ما يُقهِره، وحصَّ وحَصْحَصَِ، نحو : كفَّ وكَفْكَفَ، وكَبَّ وكَبْكَبَ، وحصَّه : قطعهُ ؛ إمَّا بالمباشرة وإمَّا بالحكمِ ؛ فمن الأولِ قوله الشاعر :[ السريع ].
٣١١٦ قَدْ حَصَّتِ البَيْضَةُ رَأسِي فَمَا ***. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ومنه : رجلٌ أحَصّ : انقطع بعض شعره، وامرأةٌ حصَّاءُ، والحَصَّةُ : القطعة من الجملة، ويستعمل استعمال النصيب.
وقيل : هو مِنْ حَصْحَصَ البعير، إذا ألقى ثفناته ؛ للإناخَةِ ؛ قال الشاعر :[ الطويل ]
٣١١٧ فَحَصْحَصَ في صُمِّ القَنَا ثَفِنَاتِهِ *** ونَاءَ بِسلمَى نَوْءَة ثُمَّ صَمَّمَا
قوله تعالى :" ذَلِكَ " خبرُ مبتدإٍ مضمرٍ، أي : الأمرُ ذلك، و " لِيَعْلمَ "، متعلقٌ بضميرٍ، أي : أظهر ذلك ؛ ليعلم، أو مبتدأ، وخبره محذوفٌ، أي : ذلك الذي صرَّحتُ به عن براءته، أمرٌ من الله لا بُدَّ منه، و " لِيَعْلمَ " متعلقُ بذلك الخبر، أو يكون " ذَلِكَ " مفعولاً لفعلٍ مقدَّرٍ يتعلق به هذا الجار أيضاً، أي : فعل الله ذلك، أو فعلته أنا بتيسير الله.
قوله :" بِالغَيْبِ " يجوز أن تكون الباءُ ظرفية قال الزمخشريُّ : أي مكان الغيب، وهو الخفاء، والاستتارُ وراء الأباب السبعة المغلقةِ، ويجوز أن تكون الباءُ للحالِ، إمَّا من الفاعل، على معنى : وأنا غائبٌ عنه خفي عن عينه.
وإمَّا من المعفولِ على معنى : وهو غائب عني خفي عن عيني.
" وأنَّ اللهَ " نسقٌ على " أنِّي "، أي : ليعلم الأمرينِ، وهذا من كلام يوسف صلوات الله وسلامه عليه وبه بدأ الزمخشري، كالمختار له.
وقال غيره : إنه من كلام امرأة العزيزِ، وهو الظَّاهرُ.
فإن قلنا : هو من كلام يوسف عليه الصلاة والسلام فمتى قالهُ ؟.
وروى عطاءٌ، عن ابن عبَّاسٍ رضي الله عنهم : أنَّ يوسف لما دخل على الملك، قال " ذلكَ "، وإنما ذكره بلفظِ الغيبة تعظيماً للملك عن الخطاب.
قال ابنُ الخطيب :" والأولى أنه صلوات الله وسلامه عليه إنما قال ذلك عند عود الرسول إليه، لأنَّ ذكر هذا الكلام في حضرةِ الملك، سوء أدبٍ ".
فإن قيل : هذه الخيانة لو وقعت، كانت في حقِّ العزيزِ، فكيف قال :﴿ ذلك لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بالغيب ﴾ ؟.
فالجوابُ : قيل : المرادُ ذلك ليعلم الملك أنِّي لم أخنِ العزيز بالغيبِ، فتكون الهاءُ في " أخُنْهُ " تعود على العزيز.
وقيل : إنَّه إذا خان وزيره، فقد خانه من بعض الوجوه.
وقيل : إن الشرابي لما رجع إلى يوسف عليه السلام وهو في السجن، قال :﴿ ذلك لِيَعْلَمَ ﴾، العزيزُ ﴿ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بالغيب ﴾.
ثم ختم الكلام بقوله :﴿ وَأَنَّ الله لاَ يَهْدِي كَيْدَ الخائنين ﴾، ولعلَّ المراد منه : أني لو كنت خائناً، لما خلَّصني الله من هذه الورطةِ، وحيث خلصني منها، ظهر أنِّي كنت بريئاً مما نسبوني إليه.
وإن قلنا : إن قوله :﴿ ذلك لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بالغيب ﴾ كلام امرأة العزيز، فالمعنى : أني ولو أدخلت الذنب عليه عند حضوره، لكنني لم أدخل الذنب عليه عند غيبته ؛ لأني لم أقلْ فيه وهو في السجن خلاف الحقِّ، ثم إنها بالغت في تأكيد هذا القول وقالت :﴿ وَأَنَّ الله لاَ يَهْدِي كَيْدَ الخائنين ﴾، أيك لما أقدمتُ على الكيدِ، والمكرِ، لا جرم افتضحْتُ ؛ فإنه لمَّا كان بريئاً، لاجرم أظهره الله، عز وعلا.
قال صاحبُ هذا القولِ : الي يدلُّ على صحَّتهِ : أنَّ يوسف صلوات الله وسلامه عليه ما كان حاضراً في ذلك الملجلس حتَّى يقال : لمَّا ذكرتِ المرأةُ قولها :﴿ الآن حَصْحَصَ الحق أَنَاْ رَاوَدْتُّهُ عَن نَّفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصادقين ﴾، ففي تلك الحالة قال يوسف :﴿ ذلك لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بالغيب ﴾، بل يحتاج فيه إلى أن يرجع الرسول عن ذلك المجلس إلى السجن، ويذكر تلك الحكاية.
ثم إنَّ يوسف يقول ابتداء :﴿ ذلك لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بالغيب ﴾ ومثلُ هذا الوصل بين الكلامين الأجنبيين، ما جاء ألبتة في نثر ولا نظم ؛ فعلمنا أن هذا من تمام كلام المرأة.
قال القرطبي : وهو متصلٌ بقولِ امرأة العزيز :" الآنَ حَصْحَصَ الحقٌّ " أي : أقررتُ بالصدقِ ؛ ﴿ ذلك لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بالغيب ﴾ بالكذب عليه، ولم أذكره بسوءٍ، وهو غائبٌ، بل صدقتُ، وزجرت عنه الخيانة، ثم قالت :" ومَا أبرِّىءُ نَفسِي " ؛ بل أنا روادته وعلى هذا هي كانت مقرة بالصانع ؛ ولهذا قالت :﴿ إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴾.
وقيل :﴿ ذلك لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بالغيب ﴾، مِنْ قولِ العزيز، وإنِّي لم أغفل عن مجازاته على أمانته.
﴿ وَأَنَّ الله لاَ يَهْدِي كَيْدَ الخائنين ﴾ معناه : إنَّ الله لا يهدي الخائنين بكيدهم.

فصل


دلَّت هذه الآية على ظهارةِ يوسف صلوات الله وسلامه عليه من الذنب من وجوه :
الأول : أن الملك لما أرسل إلى يوسف صلوات الله وسلامه عليه وطلبه، فلو كان يوسف متهماً بفعلٍ قبيحٍ، وقد كان صدر منه ذنبٌ، وفحشٌ ؛ لاستحال بحسب العرفِ العادةِ، أن يطلب من الملك أن يفحص عن تلك الواقعة، وكان ذلك سعياً منه في فضيحةِ نفسه، وفي حمل الأعداءِ على أن يبالغوا في إظهار عيوبه.
والثاني : أنَّ النسوة شهدن في المرة الأولى بطهارته، ونزاهته، ﴿ وَقُلْنَ حَاشَ للَّهِ مَا هذا بَشَراً إِنْ هاذآ إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ ﴾ [ يوسف : ٣١ ]، وفي المرة الثانية :﴿ حَاشَ للَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِن سواء ﴾.
والثالث : أنَّ امرأة العزيز اعترفت في المرة الأولى بطهارته، حيثُ قالت :﴿ وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ فاستعصم ﴾ [ يوسف : ٣٢ ]، وفي المرة الثانية قولها :﴿ الآن حصحص الحق أنا روادته عن نفسه وإنه لمن الصادقين ﴾، وهذا إشارةٌ إلى أنَّه صادقٌ في قوله :﴿ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَن نَّفْسِي ﴾ [ يوسف : ٢٦ ].
والرابع قول يوسف ﴿ ذلك لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بالغيب ﴾.
قال ابن الخطيب :" الحشويَّةُ يذكرون أنَّه لما قال هذا الكلام، قال جبريل عليه السلام : ولا حين هَمَمْتَ، وهذا من رواياتهم الخبيثة، وما صحَّت هذه الرواية في كتابٍ معتمدٍ، بل هم يلحقونها بهذا الموضع سعياً منهم في تحريفِ ظاهر القرآن ".
والخامس : قوله :﴿ وَأَنَّ الله لاَ يَهْدِي كَيْدَ الخائنين ﴾، يقتضي أن الخائن لا بدَّ أن يفتضح، فلو كان خائناً، لوجب أن يفتضحح ولما خلصه الله من هذه الورطة، دلَّ ذلك على أنه لم يكن من الخائنين.
ووجه آخر : وهو أنَّ ت في هذا الوقت تلك الواقعة صارت مندرسةً، فإقدامه في قوله ﴿ ذلك لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بالغيب ﴾، مع أنَّهُ [ خانه ] بأعظم وجوه الخيانة وأقدم على فاحشةٍ عظيمةٍ، وعلى كذبٍ عظيمٍ من غير أن يتعلق به مصلحة بوجهٍ ما، والإقدامُ على مثل هذه الوقاحة من غير فائدة أصلاًح لا يليق بأحدٍ من العقلاءِ، فكيف يليق إسناده إلى سيِّد العقلاء، وقدوة الأصفياء، فثبت أنَّ هذه الآية تدلُّ دلالة قطعيَّة على براءته مما يقول الجُهَّال.
قوله تعالى :﴿ وَمَآ أُبَرِّىءُ نفسي ﴾ الآية اعلمْ أنَّ تفسير هذه الآية يختلف باختلاف ما قبلها ؛ لأنَّه إن قلنا قوله ﴿ ذلك لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بالغيب ﴾، كلام يوسف، كان هذا أيضاً كلام يوسف، وإن قلنا :: إنه من تمام كلام المرأة، كان هذا أيضاً كذلك.
وإذا قلنا : إنه من كلام يوسف عليه الصلاة والسلام، فقالوا : إنه صلوات الله وسلامه عليه لما قال :﴿ ذلك لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بالغيب ﴾، قال جبريلُ عليه السلامُ ولا حين هَمَمْتَ، فعند هذا، قال يوسف عليه الصلاة والسلام :﴿ وَمَآ أُبَرِّىءُ نفسي إِنَّ النفس لأَمَّارَةٌ بالسواء ﴾، أي : بالزِّنا، ﴿ إِلاَّ مَا رَحِمَ ربي ﴾ أي عصم، ﴿ إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴾ لِلْهمِّ الذي همَّ به، " رَحِيمٌ "، أي لو فعلته، لتابَ عليَّ.
قال ابنُ الخطيب رحمه الله :" هذا ضعيفٌ ؛ فإنَّا بينا في الآية الأولى برهاناً قاطعاً على براءته من الذنب ".
فإن قيل : ما جوابكم عن هذه الآية ؟.
فنقول : فيه وجهان :
الأول : أنه صلوات الله وسلامه عليه لما قال ﴿ ذلك لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بالغيب ﴾، كان ذلك جارياً مجرى المدحِ لنفسه، وتزيكتها ؛ وقال سبحانه ﴿ فَلاَ تزكوا أَنفُسَكُمْ ﴾ [ النجم : ٣٢ ] فاستدركه على نفسه بقوله :﴿ وَمَآ أُبَرِّىءُ نفسي ﴾، والمعنى : فلا أزكِّى نفسي ﴿ إِنَّ النفس لأَمَّارَةٌ بالسواء ﴾، ميَّالةٌ إلى القبائحِ، راغبةٌ في المعصيةِ.
الثاني : أنَّ الآية لا تدلُّ البتة على شيءٍ مما ذكروه ؛ لأنَّ يوسف صوات الله وسلامه عليه لما قال :﴿ ذلك لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بالغيب ﴾، بيَّن أنَّ ترك الخيانة ما كان لعدمِ الرغبة، ولعدم ميل النفس، والطبيعةِ ؛ لأنَّ النفس أمَّارة بالسوءِ، توَّاقةٌ إلى اللذات، فبيَّن بهذا الكلام أن ترك الخيانة، ما كان لعدم الرغبةِ، بل لقيام الخوف من الله تعالى.
وإذا قلنا : إنَّ هذا الكلام من بقية كلامِ المرأةِ، ففيه وجهان :
الأول :﴿ وَمَآ أُبَرِّىءُ نفسي ﴾، عن مراودته، ومرادها تصديقُ يوسف في قوله :﴿ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَن نَّفْسِي ﴾ [ يوسف : ٢٦ ].
والثاني : أنها لما قالت :﴿ ذلك لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بالغيب ﴾، قالت :﴿ وَمَآ أُبَرِّىءُ نفسي ﴾، من الخيانة مطلقاً ؛ فإنٍّي قد خنته حين أحلت الذنب عليه، وقلت :﴿ مَا جَزَآءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سواءا إِلاَّ أَن يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ [ يوسف : ٢٥ ] ؛ وأودعته في السِّجن، كأنَّها أرادت الاعتذارَ مما كان.
فإن قيل : أيُّهما أولى، جعل هذا الكلام كلاماً ليوسف، أم جعله كلاماً للمرأة.
قلنا : جعله كلاماً ليوسف مشكل ؛ لأنَّ قوله :﴿ قالت امرأة العَزيزِ الآن حَصْحَصَ الحقٌّ ﴾ كلامٌ موصولٌ بعضه ببعضٍ إلى آخره، فالقول بأنَّ بعضه كلام المرأةِ، والبعض كلام يوسف، تخلّل الفواصل الكثيرة بين القولين، وبين المجلسين بعيد.
فإن قيل : جعله كلاماً للمرأة مشكل أيضاً ؛ لأن قوله ﴿ وَمَآ أُبَرِّىءُ نفسي إِنَّ النفس لأَمَّارَةٌ بالسواء إِلاَّ مَا رَحِمَ ربي ﴾ كلامٌ لا يحسنُ صدوره إلاَّ ممَّن احترز عن المعاصِي، ثم يذكر هذا الكلام على سبيل النَّفس، ولا يليق ذلك بالمرأةِ التي استفرغت جهدها في المعصية.
قوله :﴿ إِلاَّ مَا رَحِمَ ربي ﴾ فيه أوجهٌ :
أحدها : أنه مستثنى من الضمير المستكنِّ في " أمَّارةٌ " كأنه قيل : إن النفس لأمارةٌ بالسوءِ إلاَّ نفساً رحمها ربِّي، فيكون أراد بالنفس الجنس ؛ فلذلك ساغ الاستثناء منها ؛ لقوله تعالى :﴿ إِنَّ الإنسان لَفِى خُسْرٍ إِلاَّ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات ﴾ [ العصر : ٢، ٣ ] وإلى هذا نحا الزمخشريُّ رحمه الله فإنه قال :" إلا البعض الذي رحمهُ ربِّي بالعصمة ؛ كالملائكة ".
وفيه نظرٌ ؛ من حيث إيقاع " ما " على من يعقل، والمشهور خلافه.
قال ابن الخطيب :" ما " بمعنى " مَنْ " أي : إ لا من رحم ربي، و " مَا " و " مَنْ " كلُّ واحدٍ منهما يقوم مقام الآخر ؛ قال تعالى :﴿ فانكحوا مَا طَابَ لَكُمْ مِّنَ النسآء ﴾ [ النساء : ٣ ]، وقال :﴿ وَمِنْهُمْ مَّن يَمْشِي على أَرْبَعٍ ﴾ [ النور : ٤٥ ].
والثاني : أنَّ " مَا " في معنى الزمان ؛ فيكون مستثنى من الزمنِ العامِ المقدر، والمعنى : إنَّ النَّفس لأمارة بالسوءِ في كل وقتٍ وأوانٍ، إلاَّ وقت رحمة ربِّي إيَّاها بالعصمةِ. ونظره أبو البقاءِ بقوله :﴿ وَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إلى أَهْلِهِ إِلاَّ أَن يَصَّدَّقُواْ ﴾ [ النساء : ٩٢ ]، وقد تقدَّم [ النساء : ٩٢ ] أنَّ الجمهور لا يجيزون أن تكون " أنْ " واقعة موقع ظرف الزمان.
والثالث : أنه مستثنى من معفولِ " أمَّارةٌ "، أي : لأمَّارة صاحبها بالسُّوءِ إلا الذي رحمه الله، وفيه إيقاع " مَا " على العاقل.
والرابع : أنه استثناء منقطع، قال ابن عطيَّة : وهو قول الجمهور. وقال الزمخشريُّ : ويجوز أن يكن استثناء منقطعاً، أيك ولكن رحمةُ ربي التي تصرفُ الإساءة ؛ كقوله :﴿ وَلاَ هُمْ يُنقَذُونَ إِلاَّ رَحْمَةً مِّنَّا ﴾ [ يس : ٤٣، ٤٤ ].

فصل في أن الإيمان والطاعات لا يحصلان للعبد إلا برحمة الله له


هذه الآية تدل على أن الطاعات والإيمان لا يحصلان إلا من الله تعالى ؛ لقوله تعالى :﴿ إِلاَّ مَا رَحِمَ ربي ﴾ فدلَّ ذلك على إنَّ انصراف النفس من السوءِ لا يكون إلا برحمة الله، ودلَّت الآية على أنَّ من حصلت تلك الحرمةُ له، حصل ذلك الانصرافُ، ولا يمكن تفسيرُ هذه الرحمة بإعطاءِ العقل، والقدرةِ، والألطافِ، كما قاله القاضي رحمه الله ؛ لأنَّ كلَّ ذلك مشتركٌ بين الكافر والمؤمن، فوجب تفسيرها بشيءٍ آخر، وهو ترجيحُ داعية الطاعة على داعيةِ المعصيةِ.
قوله تعالى: ﴿وَقَالَ الملك ائتوني بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي﴾.
لما تبيَّن للملكِ عذرُ يوسف وعرف أمانتهُ وعلمهُ، قال: ﴿ائتوني بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي﴾، أي: أجعله خالصاً لنفسي.
133
قال القرطبيُّ: «انظر إلى قول الملكِ أولاً حين تحقَّق علمهُ:» ائتُونِي بِهِ «، فقط فلمَّا فعل يوسف ما مفعل، قال ثانياً ﴿ائتوني بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي﴾ والاستخلاصُ: طلب خلوصِ الشَّيء من شوائبِ الإشراكِ».
قال القرطبي: «أسْتَخْلصهُ» جزم؛ لأنه جواب الأمرِ؛ وهذا يدل على أنَّ قوله: «ذلِكَ ليَعْلمَ»، جرى في السجن، ويحتمل أنه جرى عند الملك، ثم قال في جلس آخر: «ائتُوني بِهِ» ؛ تأكيداً.
واختلفوا في هذال الملك، فقيل: هو العزيز، وقيل هو الملك الأكبر. وهذا هو الاظهر لوجهين:
الأول: لقول يوسف عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: ﴿اجعلني على خَزَآئِنِ الأرض﴾.
الثاني: أن قوله: ﴿أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي﴾ يدلُّ على أنه قبل ذلك، ما كان خالصاً له، وكان خالصاً للعزيزن فدلَّ على أنَّ هذا الملك هو الملك الأكبر.
قوله: «فَلمَّا كَلَّمهُ»، يجوز أن يكون الفاعل ضمير الملكِ، والمفعول يوسف صلوات الله وسلامه عليه هو الظاهر؛ لأنَّ مجالس الملوكِ لا يحسنُ لأحدٍ أن يبدأ فيها بالكلام، وإنما الملك هو الذي يبدأن ويجوز العكس، وفي الكلام اختصارٌ تقديره: فجاء الرسول يوسفن فقال له: أجب الملك الآن.

فصل


رُوِيَ أنَّه قام، ودعا لأهلِ السِّجن، فقال: اللَّهُمَّ اعطف عليهم قلوب الأخيار، ولا تعمِّ عليهم الأخبار، فهم أعلمُ النَّاس بالأخبار في كل بلدٍ.
فلما خرج من السِّجن، كتب على السجن: هذا قبرُ الأحياءِ، وبيتُ الأحزانِ، وتجربة الأصدقاءِ، وشماتةُ الأعداءِ، ثمَّ اغتسل، وتنظَّف من درنِ السِّجن، ولبس ثِياباً حسنة وقصد الملكَ.
وقال وهبٌ رَحِمَهُ اللَّهُ: كَانَ يوسفُ يومئذ ابن ثلاثين سنة، ولما دخل عليه دعا، وقال: اللهمَّ إني أسالك بخيرك من خيره، وأعوذُ بعزَّتكَ وقُدرتِكَ من شرِّه، ثمَّ سلَّم عليه العربيَّة، فقال الملك: ما هذا اللسانُ؟ قال: لِسانُ عمِّي، إسماعيل، ثم دعا لهُ بالعِبرانِيّةِ، فقال: ما هذا اللسانُ؟ قال: لِسانُ آبائي: إبراهيم، وإسحاق، ويعقوب، وكان الملك يتكلَّم بسبعين لساناً، وكُلمَّا كَلَّمَ يوسف بلسانٍ، أجابه بذلك اللسان؛ فأعجب الملك أمرهُ، كان يوسف إذ ذاك ابن ثلاثين سنة، فلما رآه الملكُ حدثاً شابًّا، قال
134
للشرابي هذا هو الذي علم تأويل رُؤياي؟ قالك نعم، فأقبل على يوسف، فقال الملك: أحبُّ أن أسمع منك تأويل رؤياي شفاهاً.
فأجابه بذلك الجواب شفاهاً، وشهد قلبه بصحته؛ فعند ذلك قال له الملك: ﴿إِنَّكَ اليوم لَدَيْنَا مِكِينٌ أَمِينٌ﴾ يقال: فلانٌ مكينٌ عند فلانِ، بَيِّنُ المكانة، أي: المنزلة، وهي حالةٌ يتمكن بها صاحبها مما يريد، وقوله: «أمِينٌ» أي: قد عرفنا أمانتكَ، وبراءتك مما نسبت إليه.
واعلم أن قوله: «أمِينٌ» كلمةٌ جامعةٌ لكلِّ ما يحتاج إليه من الفضائلِ، والمناقبِ؛ وذلك لأنَّه لا بُدَّ في كونه أميناً من القدرة والعلم، أما القدرة؛ فلأن يحصل بها المكنةُ، وأما العلم؛ فلأنَّ كونه متمكِّناً من أفعال الخيرِ لا يحصل إلاَّ به، إذ لو لم يكن عالماً بما ينبغي، وبما لا ينبغي، لا يمكن تخصيص بيان ما ينبغي بالفعل، ولا تخصيص ما لا ينبغي بالتِّرك؛ فثبت أنَّ كونه مكيناً لا يحصل إلاَّ بالقدرةِ والعلمِ، وأما كونه أميناً، فهو عبارةٌ عن كونه لا يفعل الفعل لداعي الشَّهوة، وإنَّما يفعله لداعي الحكمةِ، فثبت أنَّ كونه مكيناً أميناً يدلُّ على كونه قادراً، وعلى كونه عالماً بمواضع الصًَّلاح، والفسادِ، وعلى كونه يفعل لداعي الحكمة، لا لداعي الشَّهوة، وكل من كان كذلك، فإنَّه لا يصدر عنه فعلُ السُّوء والفحشاء.
ثم حكى سبحانه وتعالى أنَّ يوسف عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ قال في هذا المقام: ﴿اجعلني على خَزَآئِنِ الأرض إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ﴾ قال المفسرون: لمَّا عبَّر يوسف رؤيا الملك بين يديه، قال له الملك: فما ترى أيُّها الصديقُ؟ فقال: أرى أن تزرع في هذه السنين المخصبة زرعاً كثيراً، وتبني الخزائنن وتجمع فيها الطَّعام، فإذا جاءت السنون المجدبةُ بعت الغلات، فيحصل بهذا الطريق مالٌ عظيمٌ، فقال الملك: ومن لي بهذا الشُّغل؟ فقال يوسف: ﴿اجعلني على خَزَآئِنِ الأرض﴾، أي: على خزائن أرض مصر. أدخل الألف واللام على الأرض والمراد منه المعهود السابق.
روى ابنُ عبَّاسٍ رضي البله عنهما عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أنَّهُ قال: «رحِمَ اللهُ أخي يوسف، لو لَمْ يقُل: اجعلنِي على خَزائنِ الأرض لا ستَعْملهُ من سَاعتهِ لكنَّهُ لمَّا قال ذلِكَ أخَّرهُ عنهُ سنَةً».
قال ابن الخطيب: «وهذا من العجائب؛ لأنه لما تأبَّى عن الخروج من السِّجن، سهَّل الله عليه ذلك على أحسنِ الوجوه، ولما سارع في ذكر هذا الالتماسِ، أخَّر الله ذلك
135
المطلوب عنه، وهذا يدلُّ على أنَّ ترك التَّصرفِن والتفويض إلى الله تعالى أولى.
فإن قيل: لِمَ طلب يوسف الإمارة، والنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال لعبدِ الرَّحمنِ بن سمُرة:» يَا عَبْدَ الرَّحمنِ: لا تَسْألِ الإمَارَةَ «
؟.
وأيضاً: فكيف طلب الإمارة من سُلطانٍ كافرٍ؟ وأيضاً: لِمَ لَمْ يصبر مُدَّة فأظهر الرغبة في طلب الإمارة؟ وأيضاً: لم طلب أمر الخزائنِ في أوَّل الأمْرِ، مع أنَّ هذا يورثُ نوع تهمةٍ؟ وأيضاً: كيف مدح نفسه بقوله:»
إني حفيظ عليم «؟ مع أنه تعالى قال: ﴿فَلاَ تزكوا أَنفُسَكُمْ﴾
[النجم: ٣٢]، وأيضاً ما الفائدة في قوله: «إنِّي حفيظٌ عليمٌ»
؟ ولِمَ لَمْ يقل: إن شاء الله تعالى؛ لقوله تعالى ﴿وَلاَ تَقْولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذلك غَداً إِلاَّ أَن يَشَآءَ الله﴾ [الكهف: ٢٣٢٤] ؟.
فالجوابك أن الأصل في جواب هذه المسألةِ: أنَّ التَّصرف في أمور الخَلقِ كان واجباً عليه فجاز له أن يتوصل إليه بأي طريق كان إنما قلنا إن ذلك التصرف كان واجبابً عليه لوجوه:
الأول: أنه كان رسُولاً حقًّا من الله تعالى إلى الخلق، والرسول تجب عليه مصالحُ الأمةِ بقدر الإمكانِ.
والثاني: أنه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ علمَ بالوحي أنًَّهُ سَيحْصُلُ القَحْطُ والضيقُ الشديد، الذي ربَّما أفضى إلى هلاك الخلق، فلعلَّه تعالى أمره بأن يدبِّر في ذلك الوقت، ويأتي بطريقٍ في آجله يقلُّ ضَررُ ذلك القحْطِ في حق الخلق.
الثالث: أنَّ السَّعي في إيصال النفع إلى المُستضعفين، ودفع الضرر عنهم أمرٌ مستحسنٌ في العقول.
وإذا ثبت هذا، فنقولُ: إنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ مكلَّفاً برعاية المصالح من هذه الوجوه، وما كان يمكنه رعايتها إلاَّ بهذا الطريق، وما لا يتمُّ الواجبُ إلا به، فهو واجبٌ، فكان هذا الطريق واجباً، ولمَّا كان واجباً، سقطتِ الأسئلة بالكلية.
وأما تركُ الاستثناءِ، فقال الواحديُّ: «كان ذلك من خطيئةٍ أوجبتْ عُقوبةٌ وهو أنه تعالى أخَّر عنه حصول ذلك المقصودِ سنةً».
قال ابنُ الخطيب: «لعلَّ السبب فيه أنه لو ذكر هذا الاستثناء، لاعتقد الملكُ فيه أنه ذكره لعلمه بأنه لا قدرة له على ضبط هذه المصلحة كما ينبغي؛ فالأجل هذا المعنى ترك الاستثناء».
136
ثم حكى سبحانه وتعالى أنَّ يوسف عليه الصلاة والسلام قال في هذا المقام :﴿ اجعلني على خَزَآئِنِ الأرض إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ ﴾ قال المفسرون : لمَّا عبَّر يوسف رؤيا الملك بين يديه، قال له الملك : فما ترى أيُّها الصديقُ ؟ فقال : أرى أن تزرع في هذه السنين المخصبة زرعاً كثيراً، وتبني الخزائنن وتجمع فيها الطَّعام، فإذا جاءت السنون المجدبةُ بعت الغلات، فيحصل بهذا الطريق مالٌ عظيمٌ، فقال الملك : ومن لي بهذا الشُّغل ؟ فقال يوسف :﴿ اجعلني على خَزَآئِنِ الأرض ﴾، أي : على خزائن أرض مصر. أدخل الألف واللام على الأرض والمراد منه المعهود السابق.
روى ابنُ عبَّاسٍ رضي الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنَّهُ قال :" رحِمَ اللهُ أخي يوسف، لو لَمْ يقُل : اجعلنِي على خَزائنِ الأرض لا ستَعْملهُ من سَاعتهِ لكنَّهُ لمَّا قال ذلِكَ أخَّرهُ عنهُ سنَةً ".
قال ابن الخطيب :" وهذا من العجائب ؛ لأنه لما تأبَّى عن الخروج من السِّجن، سهَّل الله عليه ذلك على أحسنِ الوجوه، ولما سارع في ذكر هذا الالتماسِ، أخَّر الله ذلك المطلوب عنه، وهذا يدلُّ على أنَّ ترك التَّصرفِ، والتفويض إلى الله تعالى أولى.
فإن قيل : لِمَ طلب يوسف الإمارة، والنبي صلى الله عليه وسلم قال لعبدِ الرَّحمنِ بن سمُرة :" يَا عَبْدَ الرَّحمنِ : لا تَسْألِ الإمَارَةَ " ؟. وأيضاً : فكيف طلب الإمارة من سُلطانٍ كافرٍ ؟ وأيضاً : لِمَ لَمْ يصبر مُدَّة فأظهر الرغبة في طلب الإمارة ؟ وأيضاً : لم طلب أمر الخزائنِ في أوَّل الأمْرِ، مع أنَّ هذا يورثُ نوع تهمةٍ ؟ وأيضاً : كيف مدح نفسه بقوله :﴿ إني حفيظ عليم ﴾ مع أنه تعالى قال :﴿ فَلاَ تزكوا أَنفُسَكُمْ ﴾ ؟ [ النجم : ٣٢ ]، وأيضاً ما الفائدة في قوله :﴿ إنِّي حفيظٌ عليمٌ ﴾ ؟ ولِمَ لَمْ يقل : إن شاء الله تعالى ؛ لقوله تعالى ﴿ وَلاَ تَقْولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذلك غَداً إِلاَّ أَن يَشَآءَ الله ﴾ [ الكهف : ٢٣٢٤ ] ؟.
فالجواب : أن الأصل في جواب هذه المسألةِ : أنَّ التَّصرف في أمور الخَلقِ كان واجباً عليه فجاز له أن يتوصل إليه بأي طريق كان إنما قلنا إن ذلك التصرف كان واجباً عليه لوجوه :
الأول : أنه كان رسُولاً حقًّا من الله تعالى إلى الخلق، والرسول تجب عليه مصالحُ الأمةِ بقدر الإمكانِ.
والثاني : أنه عليه الصلاة والسلام علمَ بالوحي أنًَّهُ سَيحْصُلُ القَحْطُ والضيقُ الشديد، الذي ربَّما أفضى إلى هلاك الخلق، فلعلَّه تعالى أمره بأن يدبِّر في ذلك الوقت، ويأتي بطريقٍ في آجله يقلُّ ضَررُ ذلك القحْطِ في حق الخلق.
الثالث : أنَّ السَّعي في إيصال النفع إلى المُستضعفين، ودفع الضرر عنهم أمرٌ مستحسنٌ في العقول.
وإذا ثبت هذا، فنقولُ : إنه صلى الله عليه وسلم كان مكلَّفاً برعاية المصالح من هذه الوجوه، و ما كان يمكنه رعايتها إلاَّ بهذا الطريق، وما لا يتمُّ الواجبُ إلا به، فهو واجبٌ، فكان هذا الطريق واجباً، ولمَّا كان واجباً، سقطتِ الأسئلة بالكلية.
وأما تركُ الاستثناءِ، فقال الواحديُّ :" كان ذلك من خطيئةٍ أوجبتْ عُقوبةٌ وهو أنه تعالى أخَّر عنه حصول ذلك المقصودِ سنةً ".
قال ابنُ الخطيب :" لعلَّ السبب فيه أنه لو ذكر هذا الاستثناء، لاعتقد الملكُ فيه أنه ذكره لعلمه بأنه لا قدرة له على ضبط هذه المصلحة كما ينبغي ؛ فلأجل هذا المعنى ترك الاستثناء ".
وأما قوله لِمَ مَدحَ نفسه ؟ فجوابه من وجوه :
الأول : لا نُسلِّمُ أنه مدح نفسه، بل بيَّن كونه موصوفاً بهاتين الصفتين الوافيتين بحصولِ هذا المطلوبِ، فاحتاج إلى ذكر هذا الوصفِ ؛ لأنَّ الملك وإن علمَ كمالهُ في علومِ الدين ما كان عالماً بأنه يفي بهذا الأمر.
ثم نقول : هبْ أنَّه مدح نفسه، إلاَّ أنَّ مدح النفس لا يكونُ مذموماً ؛ إلا إذا قصد به الرجل التَّطاول، والتفاخر، والتوصل إلى ما لا يحلُّ، وأمَّا على هذا الوجه، فلا نسلِّم أنه يحرمُ، وقوله تعالى ﴿ فَلاَ تزكوا أَنفُسَكُمْ ﴾ [ النجم : ٢٣ ]، والمراد منه : تزكيةٌ النفس وهو يعلمُ كونها غير زَكيَّةٍ ؛ ويدلُّ عليه قوله تعالى بعده :﴿ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتقى ﴾ [ النجم : ٢٣ ] أما إذا كان عالماً بأنه صدقٌ، فهو غير ممنوعٍ منه، والله أعلم.
وأما القول : ما الفائدة في وصف نفسه بأنه حفيظٌ عليمٌ ؟.
قلنا : إنه جار مجرى أن يقول : حفيظٌ بجميع الوجوه التي منها يمكن الرجل تحصيل المالِ، وعليمٌ بالجهاتِ التي تصلح لأن يصرف المال إليها، أو حفيظ للخزائن عليمٌ بوجوه مصَالِحهَا أو كاتبٌ حَاسِبٌ، أو حفيظٌ لِمَا اسْتودَعْتَنِي، عليمٌ بما وليتني، أو حفيظ للحساب، عليمٌ بالألسن، أعلمُ لغة من يأتيني.
وقال الكلبيُّ :" حفيظٌ بتقديره في السِّنين الخصبةِ، عليم بوقت الجوعِ حين يقعُ في الأرض الجَدبةِ ".
فقال الملك : من أحقُّ به مِنْكَ فولاَّهُ ذلك، وقال له :﴿ إِنَّكَ اليوم لَدَيْنَا مِكِينٌ أَمِينٌ ﴾ ذُو مكانةٍ ومنزلةٍ، أمينٌ على خزائنِ الأرض.
وأما قوله لِمَ مَدحَ نفسه؟ فجوابه من وجوه:
الأولك لا نُسلِّمُ أنه مدح نفسه، بل بيَّن كونه موصوفاً بهاتين الصفتين الوافيتين بحصولِ هذا المطلوبِ، فاحتاج إلى ذكر هذا الوصفِ؛ لأنَّ الملك وإن علمَ كمالهُ في علومِ الدين ما كان عالماً بأنه يفي بهذا الأمر.
ثم نقول: هبْ أنَّه مدح نفسه، إلاَّ أنَّ مدح النفس لا يكونُ مذموماً؛ إلا إذا قصد به الرجل التَّطاول، والتفاخر، والتوصل إلى ما لا يحلُّ، وأمَّا على هذا الوجه، فلا نسلِّم أنه يحرمُ، وقوله تعالى ﴿فَلاَ تزكوا أَنفُسَكُمْ﴾ [النجم: ٢٣]، والمراد منه: تزكيةٌ النفس وهو يعلمُ كونها غير زَكيَّةٍ؛ ويدلُّ عليه قوله تعالى بعده: ﴿هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتقى﴾ [النجم: ٢٣] أما إذا كان عالماً بأنه صدقٌ، فهو غير ممنوعٍ منه، والله أعلم.
وأما القول: ما الفائدة في وصف نفسه بأنه حفيظٌ عليمٌ؟.
قلنا: إنه جار مجرى أن يقول: حفيظٌ بجميع الوجوه التي منها يمكن الرجل تحصيل المالِ، وعليمٌ بالجهاتِ التي تصلح لأن يصرف المال إليها، أو حفيظ للخزائن عليمٌ بوجوه مصَالِحهَا أو كاتبٌ حَاسِبٌ، أو حفيظٌ لِمَا اسْتودَعْتَنِي، عليمٌ بما وليتني، أو حفيظ للحساب، عليمٌ بالألسن، أعلمُ لغة من يأتيني.
وقال الكلبيُّ: «حفيظٌ بتقديره في السِّنين الخصبةِ، عليم بوقت الجوعِ حين يقعُ في الأرض الجَدبةِ».
فقال الملك: من أحقُّ به مِنْكَ فولاَّهُ ذلك، وقال له: ﴿إِنَّكَ اليوم لَدَيْنَا مِكِينٌ أَمِينٌ﴾ ذُو مكانةٍ ومنزلةٍ، أمينٌ على خزائنِ الأرض.
قوله
تعالى
: ﴿وكذلك
مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الأرض﴾
الآية قال المفسرون: لما التمس من الملكم أن يجعله على خزائن الأرض، لم يذكر الله عن الملك أنه قال: قد فعلتُ؛ بل قال: ﴿وكذلك مكنا ليوسف في الأرض﴾ ؛ فقال المفسرون: ف يالكلام محذوفٌ تقديره: قال الملك: قد فعلت؛ لأنَّ تمكين الله له في الأرض يدلُّ على أن الملك قد أجابه ما سأل.
قال ابن الخطيب: «وما قالوه حسنٌ، إلا أنَّ هاهنا ما هو أحسن منه، وهو أنَّ ما
137
أجابه الملك في عالم الظاهر، وأمَّا المؤثر الحقيقيُّ، فليس إلاَّ أنه تعالى هو الذي مكَّنه في الأرض، وذلك؛ لأنَّ الملك كان متمكناً من القبول والرد فنسبة قدرته إلى القبول والرد على التَّساوي وما دام يبقى هذا التَّساوي، يمتنعُ حصولُ القبولِ، فلا بُدَّ وأن يرجح القبولُ على الردِّ في خاطر ذلك الملك؛ وذلك لأنَّ الترجيح لا يكونُ إلاَّ بمرجعٍ يخلقهُ الله تعالى وإذا خلق الله ذلك المرجح، حصل القبولُ لا محالة، فالتمكين ليوسف في الأرض ليس إلاَّ من خلق الله تعالى بمجموع القدرة والدَّاعية الجازمة التي عند حصولها، يجب ُ ألاَّ يؤخَّر هذا السببُ، فترك الله إجابة الملك، واقتصر على ذكر التَّمكينِ الإلهي؛ لأنَّ المؤثِّر الحقيقيَّ ليس إلا هو».
قوله: «وكَذلِكَ» الكافُ منصوبةٌ بالتمكين، و «ذلِكَ» إشارةٌ إلى ما تقدم أي: ومثل ذلك الإنعام الذي أنعمنا عليه في تقريبنا إياه من قلب الملكِ، وإنجائنا إياه من غمِّ الحَبْس، ﴿مَكنا له في الأرض﴾.
ووله: «لِيُوسُف» يجوز في هذه اللام أن تكون متعلقة ب «مَكَّنَّا» على أن يكن مفعول «مَكَّنَّا» محذوفاً، تقديره: مكنا ليسوف الامورَ، أو على أن يكون المفعول به «حَيْثُ»، كما سيأتي، ويجوز أن تكون زائدة عند من يرى ذلك.
وقد تقدَّم أنَّ الجمهور يأبون ذلك إلاَّ في موضعين.
وقله «يَتَبَوَّأ» جملةٌ حاليةٌ من «يُوسفَ»، و «مِنْهَا» يجوز أن تتعلَّق ب «يَتَبَوَّأ»، وأجاز أبو البقاءِ: أن يتعلق بمحذوفٍ، على أنَّها حالٌ من «حَيْثُ»، و «حَيْثُ» يجوز أن يكون ظرفاً ل «يَتَبَوَّأ»، ويجوز أن يكون مفعولاً به وقد تقدم تحقيقه في الأنعامِ.
وقرأ ابن كثير: «نَشَاءُ» بالنُّون على أنَّها نونُ العظة لله تعالى.
وجوَّز أبو البقاء: أن يكون الفاعل ضمير يوسف صلوات الله وسلامه عليه قال: «لأنَّ مشيئتهُ من مشيئةِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ» ؛ وفيه نظرٌ؛ لأن نظم الكلام يأباهُ.
والباقون: بالياء على أنه ضمير يوسف، ولا خلاف في قوله: «نُصِيبُ بِرحْمتِنَا من نَشاءُ»، أنَّها بالنون.
وجوزَّ أبو حيَّان: أن يكون الفاعل في قراءة الياء ضمير الله تعالى، ويكون التفاتاً. ومعنى «يَتَبَوَّأ منها» أي: ينزلُ مها حيث يشاء ويصنع فيها ما يشاء.
138

فصل


روى الزمخشريُّ: أنَّ الملك أخرج خاتم الملك، ووضعه في أصعبه، وقلَّده سيفه، ووضع له سريراً من ذهب مُكَلَّلاً بالدُّرِّ والياقوت، فقال يوسف عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ أما السريرُ، فأشدُّ به ملكك، وأما الخاتمُ، فأدبِّر به أمرك، وأمَّا التَّاجُ، فليس من لِباسِي، ولا لِباسِ آبائي، وجلس على السَّرير، ودان له القومُ، وأنَّ قُطْفِير زوج المرأةِ مات بعد ذلك، وزُوج يوسف راعيل امرأة قطفير، فلما دخل عليها قال: أليس هذاخيراً مما طلبتِ؟ فوجدها عذراء، فأصابها، فولدت له إفرائيم، وميشا، وأقام العدل بمصر، وأحبه الرجال والنساء، وأسلم على يديه الملك، وكثير من النَّاس، وفوَّض الملك أمر مصر إلى يوسف.
قال وهبٌ، السديُّ، وابن عبَّاس، وغيرهم: ثم دخلت السنون المحصبة، فأمر يوسف بإصلاح الزراع، وأمرهم أن يتوسَّعُوا في الزراعةِ، فلما أدركت الغلةُ أمر بها فجمعت، ثم بنَى لها المخازن، فجمعت فيها ف يتلك السنة غلةٌ ضاقت عنها المخازن؛ لكثرتها، ثم جمع غلَّة كُلِّ سنةٍ كذلك، حتى انقضتِ السبع المخصبة، وجاءت السنونُ المجدبةُ، فنزل جبريلُ عليه السلام وقال: يا أهلَ مِصْر: جوعوا فإنَّ الله سلَّط عليكم الجوع سبع سنين، فجعل الناسُ ينادون: الجُوع الجُوع، وأباع من أهل مصر في سنين القحط بالدراهم والدنانير في السنة الأولى، وبالحليِّ والجواهر في السنة الثانية، ثم بالدَّوابِّ، ثم بالضياع، ثم بالعقار، ثم ترقَّى بهم حتَّى استرقَّهم؛ فقالوا: والله، ما رأينا ملكاً أعظم ثباتاً من هذا، فلما صار كلُّ الخلق عبيداً له، قال: إنيِّ أشهدُ الله أنِّي اعتقتُ أهل مصر عن آخرهم، ورددت عليهم أملاكهم، وكاتن لا يبيعُ من أحدٍ ممن يطلب الطعام أكثر من حملٍ؛ لئلا يضيق الطعامُ عن الباقين.

فصل


قال ابن عبَّاس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما «نُصِيبُ بِرَحْمتِنَا مَن نشَاءُ» أي: بنِعْتِنَا.
﴿وَلاَ نُضِيعُ أَجْرَ المحسنين﴾ يعني الصابرينَ، هذا في الدنيا، ﴿وَلأَجْرُ الآخرة﴾ : ثواب الآخرة خير.
قال ابن الخطيب قوله تعالى: ﴿وَلاَ نُضِيعُ أَجْرَ المحسنين﴾ ؛ لأن إضافة الأجر إما أن تكون للعجزِ، أو للجهلِ، أو للبخلِ، والكلُّ ممتنعٌ في حقِّ الله سبحانه وتعالى فكانت الإضاعة ممتنعة، وهذه شهادةٌ من الله تعالى على يوسف أنَّه كان من المُحْسنِينَ، ولو صدق بأنه جلس بين شعبها الأربع لامتنع أن يقال إنه كان من المحسنين؛ فهاهنا لزم إمَّا تكذيبُ الله في حكمه على يوسف أنَّه كان من المحسنين؛ وهو عينُ الكفرِ أو لزوم
139
تكذيب ما رووهُ بأنَّه جلس منها موضع الرجلِ من امرأته، وهو عينُ الإيمانِ بالحقِّ.
واعلم أنَّ لفظ الخيرِ قد يستعملُ لكونِ أحدٍ الخيرينِ أفضل من الآخر؛ كما يقال: الجلابُ خيرُ من الماءِ، وقد يستعمل لبيانِ كونه في نفسه خيراً من غير أن يكون المراد منه بيان التفضيل؛ كما يقال: «الثَّريدُ خيرٌ مِنْ عِند الله تعالى».
يعني: الثَّريدُ خير من الخيراتِ حصل من الله.
وإذا ثبت هذا فنقول: قوله: ﴿وَلأَجْرُ الآخرة﴾ : إن حملناه على الوجه الأوَّل، لزم أن تكون ملاذُّ الدنيا موصوفة بالخيرية أيضاً، وإذا حملتْ على الوجه الثاني، لزم أن يقال: منافع الآخرة خيرات، ولا شكَّ أن قوله تعالى: ﴿وَلأَجْرُ الآخرة خَيْرٌ لِّلَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ﴾، شرح حال يوسف عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ وجب أن يصدق في حقه أنَّه من ﴿الذين آمنوا وكانوا يتقون﴾، وهذا تنصيص من الله عَزَّ وَجَلَّ أنه كان في الزمنِ السَّابق من المتقين، وليس هاهنا زمنٌ سابقٌ ليوسف يحتاج إلى أنه كان فيه من المتَّقين، إلاَّ الوقت الذي قال الله فيه: ﴿وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا﴾ [يوسف: ٢٤]، فكان هذا شهادة من الله تعالى على أنَّهُ عليه السلام كان في ذلك الوقت من المتَّقين.
وأيضاً: قوله تعالى: ﴿وَلاَ نُضِيعُ أَجْرَ المحسنين﴾ شهادة من الله عَزَّ وَجَلَّ أنه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ من المحسنين، قوله: ﴿إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا المخلصين﴾ [يوسف: ٢٤] وكل هذه التأكيدات تبطل ما رووهُ عنه، والله أعلم.

فصل


قال القاضي رَحِمَهُ اللَّهُ: قوله: ﴿وَلأَجْرُ الآخرة خَيْرٌ لِّلَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ﴾ يدلُّ على بطلان قول المرجئةِ الذين يزعمون أنَّ الثواب يحصل في الآخرة لمن لمْ يتَّق الكبَائرِ.
وهذا ضعيفٌ؛ لأنا إن حلمنا لفظ «خَيْرٌ» على التَّفضيل، لزم أن يكون الثَّواب الحاصل للمتقين أفضل، ولا يلزمُ ألا يحصل لغيرهم أصلاً، وإن حلمناه على أصل معنى الخيرِ، فهذا يدلُّ على حصول هذا الخير للمتقين، ولا يدلُّ على أنَّ غيرهم لا يحصل له هذا الخير، والله أعلم.
140
واعلم أنَّ لفظ الخيرِ قد يستعملُ لكونِ أحدٍ الخيرينِ أفضل من الآخر ؛ كما يقال : الجلابُ خيرُ من الماءِ، وقد يستعمل لبيانِ كونه في نفسه خيراً من غير أن يكون المراد منه بيان التفضيل ؛ كما يقال :" الثَّريدُ خيرٌ مِنْ عِند الله تعالى ".
يعني : الثَّريدُ خير من الخيراتِ حصل من الله.
وإذا ثبت هذا فنقول : قوله :﴿ وَلأَجْرُ الآخرة ﴾ : إن حملناه على الوجه الأوَّل، لزم أن تكون ملاذُّ الدنيا موصوفة بالخيرية أيضاً، وإذا حملتْ على الوجه الثاني، لزم أن يقال : منافع الآخرة خيرات، ولا شكَّ أن قوله تعالى :﴿ وَلأَجْرُ الآخرة خَيْرٌ لِّلَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ ﴾، شرح حال يوسف عليه الصلاة والسلام وجب أن يصدق في حقه أنَّه من ﴿ الذين آمنوا وكانوا يتقون ﴾، وهذا تنصيص من الله عز وجل أنه كان في الزمنِ السَّابق من المتقين، وليس هاهنا زمنٌ سابقٌ ليوسف يحتاج إلى أنه كان فيه من المتَّقين، إلاَّ الوقت الذي قال الله فيه :﴿ وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا ﴾ [ يوسف : ٢٤ ]، فكان هذا شهادة من الله تعالى على أنَّهُ عليه السلام كان في ذلك الوقت من المتَّقين.
وأيضاً : قوله تعالى :﴿ وَلاَ نُضِيعُ أَجْرَ المحسنين ﴾ شهادة من الله عز وجل أنه عليه الصلاة والسلام من المحسنين، قوله :﴿ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا المخلصين ﴾ [ يوسف : ٢٤ ] وكل هذه التأكيدات تبطل ما رووهُ عنه، والله أعلم.

فصل


قال القاضي رحمه الله : قوله :﴿ وَلأَجْرُ الآخرة خَيْرٌ لِّلَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ ﴾ يدلُّ على بطلان قول المرجئةِ الذين يزعمون أنَّ الثواب يحصل في الآخرة لمن لمْ يتَّق الكبَائرِ.
وهذا ضعيفٌ ؛ لأنا إن حلمنا لفظ " خَيْرٌ " على التَّفضيل، لزم أن يكون الثَّواب الحاصل للمتقين أفضل، ولا يلزمُ ألا يحصل لغيرهم أصلاً، وإن حلمناه على أصل معنى الخيرِ، فهذا يدلُّ على حصول هذا الخير للمتقين، ولا يدلُّ على أنَّ غيرهم لا يحصل له هذا الخير، والله أعلم.
قوله: ﴿وَجَآءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُواْ عَلَيْهِ﴾ الآية:
ورُوِيَ أنَّ يوسف عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ لا يشبعُ من طعامٍ في تلك الأيَّام؛ فقيل له:
140
أتجوعُ ويبدِكَ خزائِنُ الأرض؟ فقال: أخافُ إن شبعتُ نسيت الجياع، وأمر يوسفُ طبَّاخِي الملك أن يَجْعلُوا غذاءه نصف النهار؛ وأراد بذلك أن يذوق الملك طعم الجُوعِ، ولا يَنْسَى الجَائعِينَ، من ثمَّ جعل الملوكَ غذاءهم نصف النَّهار.
وعمَّ القَحْطُ البلاد حتَّى أصاب أرض كنعان وبلاد الشام. ونزل بيعقوب ما نزل بالنَّاس؛ فأرسل بنيه إلى مصر؛ للميرة، وأمسك بنيامين أخا يوسف لأمه، فذلك قوله تعالى: ﴿وَجَآءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ﴾ وكانوا عشرة، وكان منزلهم بالقُرياتِ من أرض فلسطين بغور الشام، وكانوا أهل باديةٍ، وإبل، وشاء، فقال لهم يعقوب: بلغنِي أنَّ بمصرَ مَلِكاً صالِحاً يبيعُ الطعامَ فتجهَّزوا، واذهبُوا؛ لتَشْتَروا منه الطعام، فقدوا على مصر، فدخلوا على يوسف، فعرفهم يوسفُ.
قال ابنُ عباسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما، ومجاهدٌ: عرفهم بأول ما نظر إليهم، وهم ما عرفوه ألبتة.
وقال الحسنُك لَمْ يعْرِفهُمْ حتَّى تعرَّفُوا إليه. وكان كلُّ من وصل إلى بابه من البلادِ، وتفَحَّصَ عنهُم، وتعرَّف أحوالهم؛ ليعرف هل هُمْ إخوتهُ أمْ لاَ، فلما وصل إخوة يوسف إلى باب داره تفحص عن أحوالهم فظهر له أنهم إخوته، وأما كونهم ما عرفوه؛ فلأنه صلوات الله وسلامه عليه أمر حُجَّابُه بأنْ يُوقِفُوهم على البعد وما كان يتكلم معه إلاَّ بالواسطة أيضاً، فمهابة الملكِ، وشدةُ الحاجةِ، توجِبُ كثرة الخوفِ.
وأيضاً: إنما رأوهُ بعد وُفُورِ اللَّحيةِ، وتغير الزيِّ والهيئةِ؛ لأنَّهم رأوه جالساً على سريرٍ، وعليه ثيابُ الحرير، وفي عُنقِهِ طوقٌ من ذهبٍ، وعلى رأسه تاجٌ من ذهبٍ، وايضاً نسوا واقعة يُوسفَ؛ لطول المُدَّة، ويقال: إنَّ من وقْتِ ما ألقوهُ في الجُبِّ إلى هذا الوقت أربعين سنةً، وكلُّ واحدٍ من هذه الأسباب يَمْنَعُ حصول المعرفةِ لا سيّما عند اجتماعها.
قوله: ﴿وَلَمَّا جَهَّزَهُم بِجَهَازِهِمْ﴾ العامة على فتح الجيم وقرىء بكسرها، وهما لغتان، فيما يحتاجه الإنسان من زادٍ ومتاعٍ. منه: جِهَاز العرُوس، وجِهازُ الميت.
قال الليثُ رَحِمَهُ اللَّهُ: جَهَّزْتُ القَوْمَ تَجْهِيزاً: إذا تكلَّفت لهُمْ جِهَازهُمْ للسَّفرِ، وقال: وسمعت أهل البصرة يقولون: الجِهازُ بالكسر.
قال الأزهريُّ: «القراءُ كلُّهم على فتح الجيم، والكسر لغةٌ ليست بجيدةٍ».
141

فصل


قال المفسرون: حمل لكُلِّ واحدٍ منهم بعيراً، أكرمهم بالنزُولِ وأعطاهم ما احتاجوا إليه؛ فذلك قوله تعالى: ﴿وَلَمَّا جَهَّزَهُم بِجَهَازِهِمْ قَالَ ائتوني بِأَخٍ لَّكُمْ مِّنْ أَبِيكُمْ﴾ ولم يقل بأخيكم بالإضافة؛ مبالغة في عدم تعرفه بهم.
ولذلك فرَّقوا بين مررت بغلامك، وبغلام لك.
فإنَّ الأول يقتضي عرفانك بالغُلامِ، وأنَّ بينك وبين مُخَاطِبك نوعُ عهدٍ.
والثاني لا يَقْتَضِي ذلك، وقد تخبرُ عن المعرفةِ إخبار النكرةِ، فتقول: قال رجلٌ كذا، وأنت تعرفه؛ لصدقِ إطلاقِ النكرةِ على المعرفةِ.
واعلم أنَّهُ لا بُدَّ من كلامٍ سابقٍ يكون سبباً لعرفان يوسف صلوات الله وسلامه عليه ت [وطلبه ل] أخيهم، وذكروا فيه وجوهاً:
الأول وهو أحسنها: أنَّ عادة يوسف عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ مع الكلِّ أن يعطي كل احدٍ حمل بعيرٍ، وكان إخوته عشرةً؛ فأعطاهم عشرة أحمال؛ فقالوا: إنَّ لنا أباً شيخاً كبيراً، وأخاً آخر بقي معه، وذكروا أنَّ أباهم لاجل كبر سنِّه، وشدَّة حزنه لم يحضرْ، وأنَّ أخاهم بقي في خدمةِ أبيه، فلما ذكروا ذلك قال يوسف: هذا يدلُّ على أنَّ حبَّ أبيكم له أزيدُ من حُبَّه لكم، وهذا شيءٌ عجيبٌّ ﴿لأنكم مع جمالكم، وعقلكم، وأدبكم، إذا كانت محبةُ أبيكم لذلك الأخ أكثر من محبته لكم، دل هذا على أن ذلك أعجوبةٌ في العقلِ، الفضلِ، والأدبِ، فائتُونِي به حتى أراهُ.
الثاني: لعلَّهم لما ذكروا أباهم، قال يوسف: فَلِمَ تركتموه وحيداً فريداً؟.
قالوا ما تركناه وحيداً بل بقي عنده واحد، فقال لهم: ولِمَ استخلصه لنفسه؟
لأجل نقصِ في جسده؟ فقالوا: لا بل لأجلِ أنه يُحبُّه أكثر من محبته لسائرِ الأولادِ، فقال: لما ذكرتم أن أباكم رجلٌ عالمٌ حكيمٌ، ثم إنه خصَّه بمزيدِ المحبةِ، وجب أن يكن زائداً عليكم في الفضلِ، والكمالِ مع أنِّي أراكم فضلاء علماء حكماء؛ فاشتاقت نفسي إلى رؤية ذلك الأخ؛ فائتُونِي بهِ.
الثالث: قال المفسرون: ولما دخَلُوا عليه وكلَّمُوه بالعِبرانيَّةِ، قال لهم: مَنْ أنتُمْ؟ وما أمركم؟ فإني أنكرتُ شأنكم؟.
قالوا: قومٌ من أرضِ الشام رعاة، أصابنا الجَهْد؛ فجِئْنَا نَمْتَارُ، فقال: لعلكم جِئتُم عُيُونا تنظرون عَوْرَة بلادِي، قالوا: معَاذ اللهِ﴾
ما نحن بجَواسِيسَ؛ إنما نحنُ إخوةٌ بنو إبٍ
142
واحدٍ، وهو شيخٌ صدِّيقٌ يقال له يعقوب نَبِيٌّ من أنبياء الله تعالى؟
قال: كم أنتم؟ قالوا: كُنَّا اثني عشر، هلك مِنَّا واحدٌ، وبقي واحدٌ مع الأب؛ يتسلَّى به عن ذلك الولدِ الذي هلك، ونحن عشرةٌ.
قال: فمن يعلم أنَّش الذي تقولونه حق؟.
قالوا: أيُّها الملك: إننَّا ببلادٍ لا يعرفنا فيها أحدٌ.
قال: فدعوا بعضكم عندي؛ رهينةً، وائْتُونِي بأخٍ لكم، ليبلغ لكم رسالة أبيكم إن كنتم صادقين.
فعند هذا أقرعوا بينهم؛ فأصبت القرعُة شمعون، وكان أحسنهم رأياً في يُوسُفَ، فخلفوه عنده.
ثم إنه تعالى حَكَى عنه أنَّه قال: ﴿ألا ترون إني أوفي الكيل﴾، أي: أوَفِّيه، ولا أبخسُه، وأزيدكم حمل بعيرٍ؛ لأجل أخيكم.
﴿وَأَنَاْ خَيْرُ المنزلين﴾ أي: خَيُْ المضيفين؛ لأنه أحسن إنزالهم، وأحسن ضيافتهم.
قال ابنُ الخطيب رَحِمَهُ اللَّهُ: «وهذا الكلامُ يُضعِّفُ ما نُقِل عن المفسرين بأنَّه أتَّهَمَهُم، ونسبهُم إلى أنَّهم جواسِيسَ، ولم يشافههم بذلك الكلام فلا يليقُ به أن يقول لهم: ﴿ألا ترون أني أوفي الكيل وأنا خير المنزلين﴾، وأيضاً: بعيدٌ من يوسف مع كونه صديقاً ت أن يقول لهم: أتنم جواسيسُ وعيون، مع أنه يعرف براءتهم عن هذه التُّهمةِ؛ لأن البُهْتَان لا يليق بحال الصديق.
ثم قال: ﴿فَإِن لَّمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلاَ كَيْلَ لَكُمْ عِندِي﴾، أي: ليس لكم عندي طعام أكيله لكم، ﴿وَلاَ تَقْرَبُونِ﴾ أي: لا تقربوا داري وبلادي، وكانوا في نهاية الحاجةِ إلى الطعام، وما يمكنهم تحصيله إلاَّ من عنده، فإذا منعهم من الحضورِ، كان ذلك نهاية التَّخويف.
قوله: ﴿وَلاَ تَقْرَبُونِ﴾ يتحمل أن تكون «لا»
ناهية؛ فيكون ﴿تَقْرَبُونِ﴾ مجزوماً، ويحتمل أن تكون لا النافية، وفيها وجهان:
أحدهما: أن يكون داخلاً في حيز الجزاءِ معطوفاً عليه، فيكون أيضاً مجزوماً على ما تقدم.
والثاني: أنه نفي مستقل معطوفٍ على جزاءِ الشرطِ، وهو خبرٌ ف يمعنى النَّهي؛ كقوله: ﴿فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ﴾ [البقرة: ١٩٢].

فصل


لما سَمِعُوا هذا الكلام من يوسف صلوات الله وسلامه عليه ﴿قَالُواْ سَنُرَاوِدُ عَنْهُ أَبَاهُ﴾، أي: نطلبه، ونجتهد في أن يرسله معنا، ﴿وَإِنَّا لَفَاعِلُونَ﴾ ما امَرْتنَا به، والغرض من التكريرِ؛ التأكيد.
143
وقيل: «وإنا لفاعلون» أيْْ: كل ما في وسعنا من هذا الباب.
144
قوله :﴿ وَلَمَّا جَهَّزَهُم بِجَهَازِهِمْ ﴾ العامة على فتح الجيم وقرىء بكسرها، وهما لغتان، فيما يحتاجه الإنسان من زادٍ ومتاعٍ. منه : جهَاز العرُوس، وجهازُ الميت.
قال الليثُ رحمه الله : جَهَّزْتُ القَوْمَ تَجْهِيزاً : إذا تكلَّفت لهُمْ جهَازهُمْ للسَّفرِ، وقال : وسمعت أهل البصرة يقولون : الجِهازُ بالكسر.
قال الأزهريُّ :" القراءُ كلُّهم على فتح الجيم، والكسر لغةٌ ليست بجيدةٍ ".

فصل


قال المفسرون : حمل لكُلِّ واحدٍ منهم بعيراً، وأكرمهم بالنزُولِ وأعطاهم ما احتاجوا إليه ؛ فذلك قوله تعالى :﴿ وَلَمَّا جَهَّزَهُم بِجَهَازِهِمْ قَالَ ائتوني بِأَخٍ لَّكُمْ مِّنْ أَبِيكُمْ ﴾ ولم يقل بأخيكم بالإضافة ؛ مبالغة في عدم تعرفه بهم.
ولذلك فرَّقوا بين مررت بغلامك، وبغلام لك.
فإنَّ الأول يقتضي عرفانك بالغُلامِ، وأنَّ بينك وبين مُخَاطِبك نوعُ عهدٍ.
والثاني لا يَقْتَضِي ذلك، وقد تخبرُ عن المعرفةِ إخبار النكرةِ، فتقول : قال رجلٌ كذا، وأنت تعرفه ؛ لصدقِ إطلاقِ النكرةِ على المعرفةِ.
واعلم أنَّهُ لا بُدَّ من كلامٍ سابقٍ يكون سبباً لعرفان يوسف صلوات الله وسلامه عليه [ وطلبه ل ] أخيهم، وذكروا فيه وجوهاً :
الأول وهو أحسنها : أنَّ عادة يوسف عليه الصلاة والسلام مع الكلِّ أن يعطي كل احدٍ حمل بعيرٍ، وكان إخوته عشرةً ؛ فأعطاهم عشرة أحمال ؛ فقالوا : إنَّ لنا أباً شيخاً كبيراً، وأخاً آخر بقي معه، وذكروا أنَّ أباهم لاجل كبر سنِّه، وشدَّة حزنه لم يحضرْ، وأنَّ أخاهم بقي في خدمةِ أبيه، فلما ذكروا ذلك قال يوسف : هذا يدلُّ على أنَّ حبَّ أبيكم له أزيدُ من حُبّه لكم، وهذا شيءٌ عجيبٌّ ! لأنكم مع جمالكم، وعقلكم، وأدبكم، إذا كانت محبةُ أبيكم لذلك الأخ أكثر من محبته لكم، دل هذا على أن ذلك أعجوبةٌ في العقلِ والفضلِ والأدبِ، فائتُونِي به حتى أراهُ.
الثاني : لعلَّهم لما ذكروا أباهم، قال يوسف : فَلِمَ تركتموه وحيداً فريداً ؟.
قالوا ما تركناه وحيداً بل بقي عنده واحد، فقال لهم : ولِمَ استخلصه لنفسه ؟ لأجل نقصِ في جسده ؟ فقالوا : لا بل لأجلِ أنه يُحبُّه أكثر من محبته لسائرِ الأولادِ، فقال : لما ذكرتم أن أباكم رجلٌ عالمٌ حكيمٌ، ثم إنه خصَّه بمزيدِ المحبةِ، وجب أن يكن زائداً عليكم في الفضلِ، والكمالِ مع أنِّي أراكم فضلاء علماء حكماء ؛ فاشتاقت نفسي إلى رؤية ذلك الأخ ؛ فائتُونِي بهِ.
الثالث : قال المفسرون : ولما دخَلُوا عليه وكلَّمُوه بالعِبرانيَّةِ، قال لهم : مَنْ أنتُمْ ؟ وما أمركم ؟ فإني أنكرتُ شأنكم ؟.
قالوا : قومٌ من أرضِ الشام رعاة، أصابنا الجَهْد ؛ فجِئْنَا نَمْتَارُ، فقال : لعلكم جِئتُم عُيُونا تنظرون عَوْرَة بلادِي، قالوا : معَاذ اللهِ ! ما نحن بجَواسِيسَ ؛ إنما نحنُ إخوةٌ بنو إبٍ واحدٍ، وهو شيخٌ صدِّيقٌ يقال له يعقوب نَبِيٌّ من أنبياء الله تعالى ؟
قال : كم أنتم ؟ قالوا : كُنَّا اثني عشر، هلك مِنَّا واحدٌ، وبقي واحدٌ مع الأب ؛ يتسلَّى به عن ذلك الولدِ الذي هلك، ونحن عشرةٌ.
قال : فمن يعلم أنَّ الذي تقولونه حق ؟.
قالوا : أيُّها الملك : إننَّا ببلادٍ لا يعرفنا فيها أحدٌ.
قال : فدعوا بعضكم عندي ؛ رهينةً، وائْتُونِي بأخٍ لكم، ليبلغ لكم رسالة أبيكم إن كنتم صادقين.
فعند هذا أقرعوا بينهم ؛ فأصبت القرعة شمعون، وكان أحسنهم رأياً في يُوسُفَ، فخلفوه عنده.
ثم إنه تعالى حَكَى عنه أنَّه قال :﴿ ألا ترون إني أوفي الكيل ﴾، أي : أوَفِّيه، ولا أبخسُه، وأزيدكم حمل بعيرٍ ؛ لأجل أخيكم.
﴿ وَأَنَاْ خَيْرُ المنزلين ﴾ أي : خَير المضيفين ؛ لأنه أحسن إنزالهم، وأحسن ضيافتهم.
قال ابنُ الخطيب رحمه الله :" وهذا الكلامُ يُضعِّفُ ما نُقِل عن المفسرين بأنَّه أتَّهَمَهُم، ونسبهُم إلى أنَّهم جواسِيسَ، ولم يشافههم بذلك الكلام فلا يليقُ به أن يقول لهم :﴿ ألا ترون أني أوفي الكيل وأنا خير المنزلين ﴾، وأيضاً : بعيدٌ من يوسف مع كونه صديقاً أن يقول لهم : أتنم جواسيسُ وعيون، مع أنه يعرف براءتهم عن هذه التُّهمةِ ؛ لأن البُهْتَان لا يليق بحال الصديق.
ثم قال :﴿ فَإِن لَّمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلاَ كَيْلَ لَكُمْ عِندِي ﴾، أي : ليس لكم عندي طعام أكيله لكم، ﴿ وَلاَ تَقْرَبُونِ ﴾ أي : لا تقربوا داري وبلادي، وكانوا في نهاية الحاجةِ إلى الطعام، وما يمكنهم تحصيله إلاَّ من عنده، فإذا منعهم من الحضورِ، كان ذلك نهاية التَّخويف.
قوله :﴿ وَلاَ تَقْرَبُونِ ﴾ يتحمل أن تكون " لا " ناهية ؛ فيكون ﴿ تَقْرَبُونِ ﴾ مجزوماً، ويحتمل أن تكون لا النافية، وفيها وجهان :
أحدهما : أن يكون داخلاً في حيز الجزاءِ معطوفاً عليه، فيكون أيضاً مجزوماً على ما تقدم.
والثاني : أنه نفي مستقل معطوفٍ على جزاءِ الشرطِ، وهو خبرٌ في معنى النَّهي ؛ كقوله :﴿ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ ﴾ [ البقرة : ١٩٢ ].

فصل


لما سَمِعُوا هذا الكلام من يوسف صلوات الله وسلامه عليه ﴿ قَالُواْ سَنُرَاوِدُ عَنْهُ أَبَاهُ ﴾، أي : نطلبه، ونجتهد في أن يرسله معنا، ﴿ وَإِنَّا لَفَاعِلُونَ ﴾ ما امَرْتنَا به، والغرض من التكريرِ ؛ التأكيد.
وقيل :﴿ وإنا لفاعلون ﴾ أيْ : كل ما في وسعنا من هذا الباب.
قوله تعالى: ﴿لِفِتْيَانِهِ﴾ قرأ الأخوان، وحفص: «لِفِتْيَانهِ»، والباقون: «لِفِتْيَتهِ» قال أبو عليِّ الفارسيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: «الفِتْيَان جمعُ كثرة، والفِتْيَةُ: جمعُ قلَّةٍ، فالتكثير بالنسبة إلى المأمُورينَ، والقلةُ بالنسبة إلى المُتنَاولينَ، وفتًى: يجمعُ على فِتيَانٍ، وفِتْيَة، وقد تقدَّم هل فِعْلة في الجموع اسم جمعٍ، أو جمعُ تكسير، ومثله» أخ «؛ فإنه جمع على أخوةٍ وإخوان؛ وهما لغتانح بمثل الصِّبيان والصِّبْيَة».

فصل


اتفق الأكثرون على أنه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ أمر بوضعِ تلك البضاعة وهي ثمُ طعامهم، في رحالهم بحيثُ لا يعرفون ذلك.
وقيل: إنَّهم كانوا عارفين به.
وهي ضعيفُ؛ لقوله: ﴿لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَهَآ إِذَا انقلبوا إلى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾.
وذُكِر في السبب الذي لأجله أمر يوسف بوضع بضاعتهم في رحالهم وجوهاً:
أولها: أنَّهم إذ فتحُوا المتاع، فوجدوا بضاعتهم فيهح علموا أنَّ ذلك كرمٌ من يوسف؛ فيبعثهم ذلك على العود إليه.
وثانيها: خاف ألاَّ يكون عندهم غيره؛ لأنَّه زمان قحطٍ.
وثالثها: رأى أنَّ أخذ ثمنِ الطّعامِ من أبيه، وإخوته شدة حاجتهم إلى الطعام لؤمٌ.
ورابعها: قال الفراء رَحِمَهُ اللَّهُ: إنَّهم متى شاهدُوا بضاعتهم في رحالهم؛ فيحسبوا أنَّ وقع سهواً، وهم أنبياء وأولاد أنبياء؛ فيحملهم ذلك على رد البضاعةِ؛ نفياً للغلطِ ولا يستحلُّون إمساكها.
وخامسها: أراد أن يُحسِنَ إليهم على وجهٍ لا يلحقهم منه عتب، ولا منَّة.
144
وسادسها: قال الكلبيُّ: تخوَّف ألاَّ يكون عند أبيه من الورقِ ما يرجعون به مرة أخرى.
وسابعها: أنَّ مقصودهُ أن يعرفوا أنَّه لم يطلب أخاهم؛ لأجل الإيذاء والظلم؛ وإلا لطلب زيادةَ في الثمَّنِ.
وثامنها: أن يعرف أباه أنه أكرمهم، وطلبهم بعد الإكرام؛ فلا يثقلُ على أبيه إرسالُ أخيه.
وتاسعها: أراد أن يكون ذلك المالُ معونةً لهم على شدَّة الزمن وكان يخافُ اللصوص من قطع الطَّريق، فوضع الدَّراهم في رحالهم؛ حتى تبقى مخفية إلى أن يصلوا إلى أبيهم.
وعاشرها: أنه قالب مبالغتهم في الإساءة مبالغة في الإحسان إليهم.
وقوله: ﴿يَرْجِعُونَ﴾ يحتمل أن يكون متعدٍّياً، وحذف مفعوله، أي: يرجعون البضاعة؛ لأنه عرف دينهم ذلك، وأن يكون قاصراً بمعنى يرجعون إلينا.
قوله تعالى: ﴿فَلَمَّا رَجِعُوا إلى أَبِيهِمْ قَالُواْ ياأبانا مُنِعَ مِنَّا الكيل﴾ فيه قولان:
أحدهما: أنَّهُم لما طلبوا الطعام لأبيهم وللأخ الباقي عند أبيهم، منعوا منه.
والثاني: أنَّه منع الكيل في المستقبلِ، وهو قول يوسف: ﴿فَإِن لَّمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلاَ كَيْلَ لَكُمْ عِندِي وَلاَ تَقْرَبُونِ﴾ [يوسف: ٦٠]، قال الحسنُ رَحِمَهُ اللَّهُ: معناه: يمنعُ منَّا الكيل إنْ لم نحمل أخانا معنا، وهذا أولى؛ لأنه لم يمنعهُم الكيل؛ بل اكتالَ لهم، وجهَّزهم، ويدلُّ على ذلك قوله تعالى: ﴿فَأَرْسِلْ مَعَنَآ أَخَانَا نَكْتَلْ﴾، والمراد بالكَيْلِ: الطعامُ؛ لأنه يكالُ.
قوله: «نَكْتَلْ» قرأ الأخوان: بالياءِ من تحتُ، أي: يَكِيلُ أخونا.
والباقون بالنون، أي: نَكِيلُ نحنُ، وهو الطعامُ، وهو مجزومٌ على جواب الأمرِ.
ويحكى أنَّه جرى بحضرةِ المتوكِّل، أو وزيره ابن الزَّيات: بين المازنِيّ، وابنِ السِّكيت مسألةٌ، وهي: ما وزنُ «نَكْتَل» ؟ فقال يعقوبُ: نَفْتَل، فَسَخِرَ بِهِ المازني وقال: إنَّما وزنُها نَفْتَعِل.
قال شهابُ الدِّين رَحِمَهُ اللَّهُ: «وهذا ليس بخطأح لأنَّ التَّصريفيين نصُّوا على أنَّه إذا كان في الكلمةِ حذفٌ أو قلبٌ حذفت في الزنة، وقلبت، فتقول في وزن: قُمْتُ،
145
وبعِْتُ: فُعْتُ، وفِعْتُ، ووزن» عِدَة «» عِلَة «، وإن شئت أتيتَ بالأصل؛ فعلى هذا لا خطأ في قوله: وزن» نَكْتَلْ «: نَفْتَل؛ لأنه اعتبر اللفظ، لا الأصل، ورأيت في بعض الكتب أنَّ وزنها:» نَفْعَل «بالعينِ، وهذا خطأٌ محضٌ، على أنَّ الظاهر من أمر يعقوب أنه لم يتقنْ هذا، ولو أتقنه لقال: وزنه على الأصل كذا، وعلى اللفظ كذا، ولذلك أنحى عليه المازنيُّ، فلم يرد عليه بشيء».
ثم قال سبحانه وتعالى: ﴿وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾ ضمنوا كونهم حافظين له: لما قالوا ذلك، قال يعقوب عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ ﴿هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلاَّ كَمَآ أَمِنتُكُمْ على أَخِيهِ مِن قَبْلُ﴾ والمعنى: أنكم ذكرتم مثل هذا الكلام في يوسف، وضمنتم لي حفظه حيث قلت: ﴿وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾ وهاهنا ذكرتم هذا اللفظ بعينه، فهل يكون هاهنا إلا ما كان هناك، فكما لا يحصل الأمانُ هناك لا يحصلُ هنا.
قوله: ﴿إِلاَّ كَمَآ أَمِنتُكُمْ﴾ منصوبٌ على نعتِ مصدرٍ حذوفٍ، أو على الحال منه إي: إلاَّ أئتماناً كائتمانه لكم على أخيه، شبه ائتمانه لهم على هذه بائتمانه لهم على ذلك، و «مِن قَبْلُ» متعلق ب «أمِنْتُكمْ».
قال: ﴿فالله خَيْرٌ حَافِظاً﴾، قرأ الأخوان، وحفص «حَافِظاً» وفيه وجهان:
أظهرهما: أنه تمييزٌ؛ كقوله: هو خيْرهُمْ رجُلاً، واللهِ دَرُّهُ فَارِساً.
قال أبُو البقاءِ: «ومثلُ هذا يجُوزُ إضافته» وقد قرأ بذلك الأعمشُ: فاللهُ خيرُ حافظٍ «والله تعالى متَّصفٌ بأن حفظهُ يزيدُ على حفظِ غيره؛ كقولك: هُوَ أفضلُ عالمٍ
والثاني: أنه حالٌ ذَكَر ذلك الزمخشريُّ وأبُوا البقاءِ، وغيرهما.
قال أبو حيَّان: وقد نقله عن الزمخشري وحده:»
وليس بجيِّدٍ؛ لأنَّ فيه تقييدَ خيرٍ بهذه الحال «.
قال شهابُ الدِّين:»
ولا محذُور، فإنَّ هذه الحال لازمةٌ؛ لأنَّها مؤكدةٌ لا مبينةٌ وليس هذا بأول حال وردتْ لازمةً «.
وقرأ الباقون»
حِفْظاً «ولم يجيزُوا فيهاغير التَّمييزِ؛ لأنَّهم لو جعلوها حالاً، لكانت من صفة ما يصدقُ عليه» خَيْرٌ «ولا يصدقُ ذلك على ما يصدق عليه» خَيْرٌ «؛ لأن الحفظ معنى من المعاني.
146
ومن يتأولُ: «زَيْدٌ عَدْلٌ» على المبالغةِ أو على حذفِ مضافٍ، أو على وقوع المصدر موقع الوصفِ يجيزُ في «حِفْظاً» أيضاً الحاليَّة بالتأويلاتِ المذكورة، وفيه تعسُّفٌ
وقرأ أبو هريرة: «خَيْر الحَافظينَ»، وأرْحَمُ الرَّاحِمينَ «قيل: معناهُ: وثِقْتُ بكم في حفظِ يوسف، فكان ما كان، والآن أتوكَّلُ على الله في حفظ بِنيَامِينَ.
فإن قيل: لِمَ بعثه معهم وقد شاهد ما شاهد؟.
فالجوابُ من وجوهٍ:
الأول: أنهم كبروا، ومالُوا إلى الخبرِ والصَّلاحِ.
والثاني: أنه كان يشَاهِدُ أنَّه ليس بينهم وبين بنيامين من الحسدِ، والحقدِ مثل ما كان بينهم وبين يوسف عليه السلام.
والثالث: أن ضرورة القَحْطِ أحوجتُه إلى ذلك.
الرابع: لعلَّه تعالى أوحى إليه، ضمن له فحظه، وإيصاله إليه، فإن قيل: هل يدلُّ قوله: ﴿فالله خَيْرٌ حَافِظاً﴾ على أنَّه أذن في ذهاب بنياميَنَ في ذلك الوقت.
فقال الأكثرون: يدلُّ عليه. وقال آخرون: لا يدل عليه، وفيه وجهان:
الأول: أنَّ التقدير: أنَّه لو أذن في خُروجهِ معهم، لكان في حفظِ اللهِ تعالى لا في حفظهم.
الثاني: لما ذكر يُوسف صلوات الله وسلامه عليه قال: ﴿فالله خَيْرٌ حَافِظاً﴾ أي ليُوسُفَ؛ لأنه كان يعلم أنه حيٍّ.
147
قوله تعالى :﴿ فَلَمَّا رَجِعُوا إلى أَبِيهِمْ قَالُواْ ياأبانا مُنِعَ مِنَّا الكيل ﴾ فيه قولان :
أحدهما : أنَّهُم لما طلبوا الطعام لأبيهم وللأخ الباقي عند أبيهم، منعوا منه.
والثاني : أنَّه منع الكيل في المستقبلِ، وهو قول يوسف :﴿ فَإِن لَّمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلاَ كَيْلَ لَكُمْ عِندِي وَلاَ تَقْرَبُونِ ﴾ [ يوسف : ٦٠ ]، قال الحسنُ رحمه الله : معناه : يمنعُ منَّا الكيل إنْ لم نحمل أخانا معنا، وهذا أولى ؛ لأنه لم يمنعهُم الكيل ؛ بل اكتالَ لهم، وجهَّزهم، ويدلُّ على ذلك قوله تعالى :﴿ فَأَرْسِلْ مَعَنَآ أَخَانَا نَكْتَلْ ﴾، والمراد بالكَيْلِ : الطعامُ ؛ لأنه يكالُ.
قوله :" نَكْتَلْ " قرأ الأخوان : بالياءِ من تحتُ، أي : يَكِيلُ أخونا.
والباقون بالنون، أي : نَكِيلُ نحنُ، وهو الطعامُ، وهو مجزومٌ على جواب الأمرِ.
ويحكى أنَّه جرى بحضرةِ المتوكِّل، أو وزيره ابن الزَّيات : بين المازنِيّ، وابنِ السِّكيت مسألةٌ، وهي : ما وزنُ " نَكْتَل " ؟ فقال يعقوبُ : نَفْتَل، فَسَخِرَ بِهِ المازني وقال : إنَّما وزنُها نَفْتَعِل.
قال شهابُ الدِّين رحمه الله :" وهذا ليس بخطأح لأنَّ التَّصريفيين نصُّوا على أنَّه إذا كان في الكلمةِ حذفٌ أو قلبٌ حذفت في الزنة، وقلبت، فتقول في وزن : قُمْتُ، وبعِْتُ : فُعْتُ، وفِعْتُ، ووزن " عِدَة " " عِلَة "، وإن شئت أتيتَ بالأصل ؛ فعلى هذا لا خطأ في قوله : وزن " نَكْتَلْ " : نَفْتَل ؛ لأنه اعتبر اللفظ، لا الأصل، ورأيت في بعض الكتب أنَّ وزنها :" نَفْعَل " بالعينِ، وهذا خطأٌ محضٌ، على أنَّ الظاهر من أمر يعقوب أنه لم يتقنْ هذا، ولو أتقنه لقال : وزنه على الأصل كذا، وعلى اللفظ كذا، ولذلك أنحى عليه المازنيُّ، فلم يرد عليه بشيء ".
ثم قال سبحانه وتعالى :﴿ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ﴾ ضمنوا كونهم حافظين له : لما قالوا ذلك، قال يعقوب عليه الصلاة والسلام ﴿ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلاَّ كَمَآ أَمِنتُكُمْ على أَخِيهِ مِن قَبْلُ ﴾ والمعنى : أنكم ذكرتم مثل هذا الكلام في يوسف، وضمنتم لي حفظه حيث قلت :﴿ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ﴾ وهاهنا ذكرتم هذا اللفظ بعينه، فهل يكون هاهنا إلا ما كان هناك، فكما لا يحصل الأمانُ هناك لا يحصلُ هنا.
قوله :﴿ إِلاَّ كَمَآ أَمِنتُكُمْ ﴾ منصوبٌ على نعتِ مصدرٍ حذوفٍ، أو على الحال منه إي : إلاَّ أئتماناً كائتمانه لكم على أخيه، شبه ائتمانه لهم على هذه بائتمانه لهم على ذلك، و " مِن قَبْلُ " متعلق ب " أمِنْتُكمْ ".
قال :﴿ فالله خَيْرٌ حَافِظاً ﴾، قرأ الأخوان، وحفص " حَافِظاً " وفيه وجهان :
أظهرهما : أنه تمييزٌ ؛ كقوله : هو خيْرهُمْ رجُلاً، واللهِ دَرُّهُ فَارِساً.
قال أبُو البقاءِ :" ومثلُ هذا يجُوزُ إضافته " وقد قرأ بذلك الأعمشُ : فاللهُ خيرُ حافظٍ " والله تعالى متَّصفٌ بأن حفظهُ يزيدُ على حفظِ غيره ؛ كقولك : هُوَ أفضلُ عالمٍ
والثاني : أنه حالٌ ذَكَر ذلك الزمخشريُّ وأبُوا البقاءِ، وغيرهما.
قال أبو حيَّان : وقد نقله عن الزمخشري وحده :" وليس بجيِّدٍ ؛ لأنَّ فيه تقييدَ ﴿ خير ﴾ بهذه الحال ".
قال شهابُ الدِّين :" ولا محذُور، فإنَّ هذه الحال لازمةٌ ؛ لأنَّها مؤكدةٌ لا مبينةٌ وليس هذا بأول حال وردتْ لازمةً ".
وقرأ الباقون " حِفْظاً " ولم يجيزُوا فيها غير التَّمييزِ ؛ لأنَّهم لو جعلوها حالاً، لكانت من صفة ما يصدقُ عليه " خَيْرٌ " ولا يصدقُ ذلك على ما يصدق عليه " خَيْرٌ " ؛ لأن الحفظ معنى من المعاني.
ومن يتأولُ :" زَيْدٌ عَدْلٌ " على المبالغةِ أو على حذفِ مضافٍ، أو على وقوع المصدر موقع الوصفِ يجيزُ في " حِفْظاً " أيضاً الحاليَّة بالتأويلاتِ المذكورة، وفيه تعسُّفٌ.
وقرأ أبو هريرة :" خَيْر الحَافظينَ "، وأرْحَمُ الرَّاحِمينَ " قيل : معناهُ : وثِقْتُ بكم في حفظِ يوسف، فكان ما كان، والآن أتوكَّلُ على الله في حفظ بِنيَامِينَ.
فإن قيل : لِمَ بعثه معهم وقد شاهد ما شاهد ؟.
فالجوابُ من وجوهٍ :
الأول : أنهم كبروا، ومالُوا إلى الخبرِ والصَّلاحِ.
والثاني : أنه كان يشَاهِدُ أنَّه ليس بينهم و بين بنيامين من الحسدِ، والحقدِ مثل ما كان بينهم وبين يوسف عليه السلام.
والثالث : أن ضرورة القَحْطِ أحوجتُه إلى ذلك.
الرابع : لعلَّه تعالى أوحى إليه وضمن له حفظه، وإيصاله إليه، فإن قيل : هل يدلُّ قوله :﴿ فالله خَيْرٌ حَافِظاً ﴾ على أنَّه أذن في ذهاب بنياميَنَ في ذلك الوقت.
فقال الأكثرون : يدلُّ عليه. وقال آخرون : لا يدل عليه، وفيه وجهان :
الأول : أنَّ التقدير : أنَّه لو أذن في خُروجهِ معهم، لكان في حفظِ اللهِ تعالى لا في حفظهم.
الثاني : لما ذكر يُوسف صلوات الله وسلامه عليه قال :﴿ فالله خَيْرٌ حَافِظاً ﴾ أي ليُوسُفَ ؛ لأنه كان يعلم أنه حيٍّ.
قوله تعالى: ﴿وَلَمَّا فَتَحُواْ مَتَاعَهُمْ﴾ الآية: المتاعُ: ما يصلح لأن يُستمتع به، وهو عامًّ في كلِّ ما يُسْتَمْتعُ به، والمراد به ههنا: الطعامُ الذي حملوه، ويجوز أن يرادُ به أوعيةُ الطعام، ﴿وَجَدُواْ بِضَاعَتَهُمْ﴾، ثمن البضاعة.
﴿رُدَّتْ إِلَيْهِمْ﴾ ؛ قرأ الأكثرون بضمِّ الراء، وقرأ علقمة ويحيى، والأعمش: «
147
رِدَّتْ» بكسر الرَّاءِ، على نقل حركة الدَّال المدغمةِ إلى الراء بعد توهُّم خلوها من حركتها، وهي لغةُ بني ضبَّة.
على أنَّ قطرُباً حكى عن العرب: نقل حركةِ العين إلى الفاء في الصحيح؛ فيقولون: ضِرْبُ زَيْد، بمعنى: ضُرِبَ زيد، وقد تقدم ذلك في قوله: ﴿وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ﴾ [الأنعام: ٢٨] في الأنعام.
قوله: «مَا نَبْغِي» في «مَا» هذه وجهان:
أظهرهما: أنها استفهاميةٌ، فهي مفعولٌ مقدمٌ، واجبُ التقديم؛ لأن لها صدر الكلام، أي: أيَّ شيء نبغِي، أعطانا الطعام على أحسنِ الوجوه، فأي شيء نبغي وراء ذلك.
والثاني: أن تكون نافية ولها معنيان:
أحدهما: قال الزجاج رَحِمَهُ اللَّهُ: ما بقي لنا ما نطلبُ، أي: بلغَ الإكرامُ إلى غايةٍ، ما نَبْغِي وراءها شيئاً آخر. وقيل: المعنى أنَّه ردَّ بضاعتنا إلنا، فنحن لا نَبْغِي عند رجوعنا إليه بضاعة أخرى، فإنَّ هذه التي معنا كافية لنا.
والثاني: ما نَبْغِي، من البَغْيِ، أي: ما أفْتريْنا، ولا كذبنا على هذا الملك في إكرامهِ وإحسانه.
قال الزمخشريُّ: «ما نَبْغِي في القولِ، ومانتزيَّد فيما وصفنا لك من إحسانِ الملكِ».
وأثبت القرأء هذه الياء في «نَبْغِي» وصلاً ووقفاً، ولم يجعلوها من الزَّوائد، بخلاف التي في الكهفِ، في قوله عزَّ وجلَّ: ﴿ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ﴾ [الكهف: ٦٤]، والفرقُ أنَّ «ما» هناك موصولةٌ، فحذف عائدها، والحذف يؤنس بالحذف.
وهذه عبارةٌ مستفيضة عند أهلِ هذه الصناعة؛ يقولون: التغييرُ يُؤنسُ بالتغيير، بخلافها هنا، فإنها: إما إستفهاميةٌ، وإما نافيةٌ، ولا حذف على القولين حتى يؤنس بالحذفِ.
وقرأ عبد الله، وأبو حيوة، وروتها عائشة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «ما تَبْغِي» بالخطاب و «مَا» تحتملُ الوجهين أيضاً في هذه القراءةِ، والجملة من قوله: «هَذِه بِضَاعَتُنَا» يحتملُ أن تكون مفسرةً لقولهم «مَا نَبْغِي» وأن تكون مستأنفة.
قوله «ونميرُ» معطوفةٌ على الجملة الاسميةِ، وإذا كانت «مَا» نافية جاز أن تعطف على «نَبْغِي» فيكون عطف جملة فعلية على مثلها.
148
وقرأت عائشة، وأبو عبد الرحمن رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما «ونُمِيرُ» من أمارهُ إذا جعل لَهُ المِيرَة، يقال: مَارَهُ يَمِيرهُ، وأمَارَهُ يُمِيرُه، والمِيرَةُ: جَلْبُ الخَيْرِ؛ قال: [الوافر]
٣١١٧ - فَحَصْحَصَ في صُمِّ القَنَا ثَفِنَاتِهِ ونَاءَ بِسلمَى نَوْءَة ثُمَّ صَمَّمَا
٣١١٨ - بَعَثْتُكَ مَائراً فَمَكثْتَ حَوْلاً مَتَى يَأتِي غِيَاثُكَ مَنْ تُغِيثُ
والبعير لغة يقع على الذكر خاصة، وأطلقه بعضهم على الناقةِ أيضاً وجعلهُ نظير «إنْسَانٍ» ويجوز كسر بائه إتباعاً لعينه، ويجمع في القلَّة على أبعرة، وفي الكثرة على بعران.
والمعنى: ونزدادُ كيل بعيرٍ بسبب حُضُور أخينا؛ لأنه كان يكيلُ لكل رجلٍ حمل بعير.
ثم قال: ﴿ذلك كَيْلٌ يَسِيرٌ﴾ قال مقاتل رَحِمَهُ اللَّهُ: ذلك كيلٌ يسير على هذا الرجل المحسن، وحرصه على البذل، وهو اختيار الزجاج.
وقيل: ﴿ذلك كَيْلٌ يَسِيرٌ﴾، أي قصير المدة ليس سبيل مثله أن تطول مدته بسبب الحَبْسِ والتَّأخير. وقيل: ذلك الذي يدفع إلينا بدُون أخينا شيئاً يسيراً قليلاً، لا يكفينا وأهلنا؛ فابعثْ أخانا معنا؛ لكي يكثر ما نأخذه.
وقال مجاهدٌ: البعِيرُ ههنا الحمارُ، «كَيْلُ بعيرٍ» أي: حِمْلُ حمار، وهي لغة، يقال للحَمير بَعِير، وهم كانوا أصحاب حُمُر، والأول أصحُّ؛ بأنه البعيرُ المعروف.
قوله تعالى: ﴿قَالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حتى تُؤْتُونِ مَوْثِقاً مِّنَ الله﴾ الآية.
الموْثِق: مصدر بمعنى الثقةِ، ومعناه: العَهْدُ الذي يُوثق به، فهو مصدرٌ بمعنى المفعول، يقول: لن أرسله معكم حتى تعطوني عهداً يوثقُ به
وقوله «مِنْ اللهِ» أيك عهداً موثوقاً به؛ بسبب تأكد الشهادة من الله، أو بسببِ القسمِ بالله عليه.
والمَوْثِقُ: العهدُ المؤكَّد بالقسم، وقيل: المؤكَّد بإشهادِ الله على نفسه.
قوله: ﴿لَتَأْتُنَّنِي بِهِ﴾ هذا جوابٌ للقسم المضمر في قوله «مَوْثِقاً» ؛ لأنَّ معناه حتى تحلفوا لي لتأتنني به.
قوله ﴿إِلاَّ أَن يُحَاطَ بِكُمْ﴾ في هذا الإستثناء أوجه:
أحدها: أنه منقطع، قاله أبو البقاء. يعني فيكون تقدير الكلام: لكن إذا أحيط بكم
149
خرجتم من عتبي، وغضبي عليكم إن لم تَأتُوني به؛ لوضوحِ عُذْركُم.
والثاني: أنه متصلٌ، وهو استثناء من المفعول له العام. قال الزمخشريُّ: «فإن قلت: أخبرني عن حقيقة هذا الاستثناءِ، ففيه إشكالٌ. ؟ قلتُ:» أنْ يُحاطَ بِكُمْ «معفولٌ له، والكلام المثبت، الذي هو قوله» لتَأتُنَّنِي بهِ «في معنى النَّفي، معناه: لا تَمْتنِعُون من الإتيان به؛ إلا للإحاطة بكم، أو لا تمتنعون منه لعلةٍ واحدة وهي ﴿أَن يُحَاطَ بِكُمْ﴾ فهو استثناءُ من أعمِّ العامِّ في المفعول له، والاستثناءُ من أعم العام لا يكونُ إلا في النفي وحده؛ فلا بُدَّ من تأويله بالنَّفي، ونظيره في الإثبات المتأول بالنفي بمعنى النفي قولهم: أقْسَمْتُ باللهِ لما فعَلتَ وإلاَّ فعلتَ بزَيْدٍ يريد ما أطلب منك إلاًَّ الفعل». ولوضوح هذا الوجه لم يذكره غيرهُ.
الثالث: أنه مستثنى من أعمَّ العام من الأحوال قال أبو البقاء: تقديرهك لتَأتُنَّنِي به على كلِّ حالٍ، إلا في حالٍ، إلا في حالِ الإحاطةِ بكم.
قال شهابُ الدِّين: «قد نصُّوا على أنَّ أنْ الناصبة للفعلِ، لا تقعُ موقع الحال وإن كانت مُؤولةً بمصدرٍ، يجوز أن تقع موقع الحالِ؛ لأنهم لم يَغتَفِرُوا في المؤولِ ما يَغْتفرونه في الصَّريح، فيجيزون: جِئْتُك رَكْضاً، ولا يجيزون: جِئْتُكَ أن أرْكُض وإنْ كانا في تأويله».
الرابع: أنُّه مسثنى من أعمَّ العامِّ في الأزمان، والتقدير: لتَأتُنَّنِي به في كل وقتٍ إلا في وقت الإحاطة بكم، وقد تقدم [البقرة: ٢٥٨] الخلافُ في هذه المسألة، وأنَّ أبا الفتح أجاز ذلك كما يجوزه في المصدر الصريح، فكما تقول: «آتيك صِيَاحَ الدِّيك» يجوز أن تقول: آتيك أنْ يَصِيحَ الدِّيكُ، جعل من ذلك قول تأبَّط شرًّا: [الطويل]
٣١١٩ - وقَالُوا لهَا:
لا تَنْكِحِيهِ فإنَّهُ لأوَّلِ نَصْلٍ أنْ يُلاقِيَ مَجْمَعَا
وقول أبِي ذُؤيبٍ الهُذليِّ: [الطويل]
٣١٢٠ - وتَاللهِ مَا إنْ شَهْلَةٌ أمُّ واحدٍ بأوْجَدَ مِنِّي أنْ يُهانَ صَغِيرُهَا
قال: تقديره: وقت ملاقاته الجمع، ووقت إهانة صغيرها.
قال أبو حيَّان: «فعلى ما قاله يجوز تخريج الآية، ويبقى ﴿لَتَأْتُنَّنِي بِهِ﴾ على ظاهره من الإثبات».
150
قال شهابُ الدِّين رَحِمَهُ اللَّهُ: «الظَّاهر من هذا أنه استثناء مفرغ، ومتى كان مُفرغاً وجب تأويله بالنفي».
ومنع ابن الأنباري ذلك في «إنْ» وفي «مَا» أيضاً، قال: «فيجوزُ أن تقول: خُروجُنَا صِيَاح الدِّيك، ولا يجوز: خُرُوجنَا أن يَصِيحَ الدِّيكُ، أوْ مَا يَصِيح الديك. فاغتفر في الصريح ما لم يغتفر في المؤوَّل، وهذا قياسُ ما تقدم في منع وقوع أن وما في حيِّزها موقع الحالِ، ولك أن تفرق بينهما بأنَّ الحال تلزم التنكير، و» أنْ «وما في حيزها نصُّوا على أنها في رتبة المضمر في التعريف، وذلك يغني عن وُقُوعِهَا موقع الحال، بخلاف الظَّرف، فإنه لا يشترط تنكيره، فلا يمتنع وقوعُ» أنْ «وما في حيزها موقعه».

فصل


قال الواحيُّ: للمفرسين في الإحاطةِ قولان:
الأول: معناه الهلاكُ. قال مجاهد: إلاَّ أن تموتوا كلكم فيكمون ذلك عذراً عندي، والعرب تقول: أحيط بفلانٍ إذا قرب هلاكه.
قال الزمخشري: قال تعالى: ﴿وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ﴾ [الكهف: ٤٢] أي أصالبه ما أهلكه، وقال تعالى: ﴿وظنوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ﴾ [يونس: ٢٢]، وأصله؛ أنَّ من أحاط به العدوُّ، وانسدت عليه مسالكُ النجاةِ، ودنا هلاكه؛ فقد أحيط به
والثاني: قال قتادة: ومعناه إلاَّ أن تَصِيرُوا مَغلُوبِين مَقْهُورين، لا تقدرون على الرجوع.
﴿فلما ءاتوه موثقهم﴾، أي: أعطوه عهدهم. قال يعقوب صلوات الله وسلامه عليه ﴿الله على مَا نَقُولُ وَكِيلٌ﴾ أي: شهيدٌ بمعنى شاهدٍ.
وقيل: حافظاً، أي: أنه موكلٌ إليه هذا العهد فإن وفيتم به، جازاكم خير الجزاءِ، وإن غدرتم به، كافأكم بأعظم العقوبات.
قوله تعالى: ﴿وَقَالَ يابني لاَ تَدْخُلُواْ مِن بَابٍ وَاحِدٍ﴾ الآية، وذلك أنه كان يخافُ عليهم العين؛ لأنَّهم كانوا أعطوا جمالاً، وقوة، وامتداد قامة، وكانوا ولد رجلٍ واحد، فأمرهم أن يتفرَّقُوا في دخولها؛ لئلا يصابوا بالعين، فإن العين حقٌّ، ويدل عليه وجوه:
الأول: رُويَ عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أنَّه كان يعوِّذُ الحسن فيقول:
«أعُودُ بِكلمَاتِ اللهِ التّامةِ من كُلِّ شيْطَانٍ وهَامَّةٍ، ومن كُلِّ عَْنٍ لامَّةٍ».
151
ويقول: هكذا يُعوذُ إبراهيم إسماعيل وإسحاق صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.
ورُوِيَ عن عبادة بن الصَّامت رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قال: «دَخَلْتُ على رسُولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في أوَّلِ النَّهارِ فَرَأيْتهُ شَديدَ الوَجع، ثُمَّ عدت إليْهِ آخِرَ النَّهارِ فوَجَدتهُ مُعَافى، فقال:» إنَّ جِبْريلَ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ أتَانِي فرقَانِي، فقال: بسمِ اللهِ أرْقِيكَ مِنْ كُلِّ شَيءٍ يُؤذِيكَ، ومِنْ كُلِّ عَيْنٍ وحَاسدٍ اللهُ يَشْفِيكَ، قال صلواتُ اللهِ وسلامُه عليْهِ فأفَقْتُ «.
»
وأتِيَ بابْنَي جَعْفَرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وكانوا غلماناً بيضاً، فقيل: يا رسول الله «إنَّ العيْنَ تسرعُ إليْهِمَا، أفأسْتَرقِي لهُمَا مِنَ العيْنِ، فقال صلوات الله وسلامه عليه: نَعَم».
«ودخل رسول الله بيت أم سلمة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما وعندها صَبِيٌّ يَشْتَكِي فقَالُوا يَا رَسُول اللهِ: أصَابَتْهُ العَيْنُ، فقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ:» ألا تَسْتَرقُونَ لَهُ مِنَ العَيْنِ «.
وقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ:»
العَيْنُ حقٌّ ولوْ كَانَ شَيءٌ يَسْبِقُ القَدرَ لسَبقَتِ العيْنُ القدرَ «.
وجاء في الأثرِ:»
إن العين تُدخِلْ الرَّجُلَ القبر والجَمَل القِدْرَ «.
وقالت عائشة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما:»
كَانَ يَأمرُ العَائِنَ أنْ يَتوضَّأ، ثُمَّ يَغْتَسِلُ مِنْهُ المَعِينُ الذي أصيبَ بالعَيْنِ «.
والذين أثبتُوا العين قالوا: إنه يبدو من العَيْنِ أجزاءُ، فتتصل بالشيء المستحسن؛ فتُؤثِّر، وتسري فيه، كما يؤثر السُّم النار، والنصوصُ النبويةُ نطقت به، والتجاربُ من الزمن القديم ساعدت عليه.
وروى الزمخشري في كتاب»
ربيع الأبْرارِ «، قال الجاحظُ: علماءُ الفرس، والهندِ، وأطباءُ اليونانيين، ودهاةُ العرب، وأهل التجربة من نازلة الأمصار، وحذَّاق المتكلمين،
152
يكرهُون الأكل بني يدي السٍّباع؛ يَخافُونَ عُيُونها؛ لِمَا فيها من النَّهم، والشَّره، ولما ينحلُّ عند ذلك من أجوافها من البخار الرَّديءِ، وينفصل من عيونها إذا خالط الإنسان نقصه وأفسده، وكانوا يكرهون قيام الخدم بالباب والأشربة على رُءُوسهِم مخافة العين، وكانوا يأمرون بإشباعهم قبل أن يأكلوا، وكانوا يقولون في الكلب السِّنورِ: إمَّا أن يطرد، وإمَّا أن يشغل بما يطرح له، قال: ونظيره: أن الرجل يضربُ الحية بعصاً؛ فيموتُ الضاربُ؛ لأنَّ السُّمَّ فصل من الحيةِ، فسرى فيه حتى داخله، ويديم الإنسانُ النظر إلى العين المحمرة؛ فيعتري عينه حمرة.
وعن الأصمعيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ: أنَّ عَيُوناً كان يقول: إذا رأت الشَّيْ يعجبني، وجدتُ حرارة تخرج من عيني.
وعنه: كان عندنا عيَّانان، فمرَّ أحدهما بحوض من حجارةٍ، فقال: بالله، ما رأيت كاليوم مثله، فانصدع فلقتين، فصُبَّ، فمرَّ عليه فقال: رأيتك تقل ما خزرت أهْلَكَ فيكَ، فتَطَايَرَ أرْبعاً.
وسمع آخرُ صوت بولِ من وراء جدار فقال: إنَّك تراني كثير الشَّخب جيِّد البول، قالوا: هذا آتيك، قال: وانقطاع ظهراهُ، فقيل: لا بأس فقال: لا يبولُ بعدها أبداً، فما بال حتَّى مات.
وسمع صوت شخب بقرة فأعجبه، فقال: أيتهُنَّ هذه، فواروا بأخرى عنها؛ فهلكتا جميعاً، المُورَى بها، والمُورَى عنها.
والمنقولاتُ في هذا كثيرة؛ فثبت أنَّ الإصابة بالعين حقٌّ، لا يمكن إنكارهُ.
قال القرطبيُّ: وإذا كان هذا معنى الآيةِ؛ فكيون فيها دليلٌ على التَّحرُّزِ من العين، وواجب على كل مسلم إذا أعجبه شيء أن يبرك، فإنه إذا دعا بالبركة صرف المحذور لا محالة، ألا ترى لقوله صلوات الله وسلامه عليه: «ألاَ برَّكْتَ» فدلَّ على أنَّ العين لا تضرُّ، ولا تعدوا إذا برَّك العَائِنُ، وأنها إنَّما تعدو؛ إذا لم يبرك، والتَّبْرِيكُ أن يقول: «تَبارَك اللهُ أحْسَنُ الخَالقينَ، اللَّهُمَّ بَارِك فِيهِ» وإذا أصاب العائن بعينه؛ فإنَّه يُؤمَرُ بالاغتِسَالِ، ويجبرُ على ذلك إن أبى؛ لأنَّ الأمر للوجوب، ولا سيِّما هنا، فإنَّه يخاف على المعين الهلاك، ولا ينبغي لأحدٍ أن يمنع أخاهُ ما ينتفع به، ولا يضرهُ هو، ولا سيما غذا كان بسببه، كان الجاني عليه.
قال القرطبيُّ: «مَنْ عُرِفَ بالإصاَبَةِ بالعيْنِ مُنِعَ مِنْ مُداخَلةِ النَّاس دفعاً للضَّرُورةِ».
وقال بعضُ العلماءِ: يأَمره الإمامُ بلزوم بيته، وإن كان فقيراً رزقه ما يقوم بهِ، ويكفّ أذاه عن الناس.
153
وقيل: يُنفَى. والَّذي ورد في الحديث أنَّهُ لم ينفِ العَائن، ولا أمره بِلزُومِ بيته ولا حبسه، بل قالوا: يكونُ الرَّجُل الصَّالحُ عائناً، وأنه لا يقدحُ فيه، ولا يفسَّقُ به ومن قال: يحبس، ويؤمر بلزوم بيته؛ فذلك للاحتياط، ودفع ضرره.
قال الجبائيُّ: إنَّ أبناء يعقوب اشتهروا، وتحدَّث النَّاسُ بهم، وبحسنهم، وكمالهم فقال: «لا تَدْخُلُوا» تلك المدينة «مِنْ بابِ واحدٍ» على ما أنتم عليه من العددِ، والهيئة، ولم يأمن عليهم حسد النَّاس، أو قالك لم يأمن عليهم أن يخافهم الملك على ملكه، فحيبسهم.
وهذا وجهٌ محتملٌ لا إنكار فيه إلاَّ أنَّ القول الأوَّل أولى؛ لأنَّه لا امتناع فيه بحسب العقلِ، والعرف كما بيَّنا، والمتقدِّمُون من المفسرين أطبقوا عليه، فوجب المصيرُ إليه.
ونقل عن الحسنِ أنه قال: خاف عليهم العين، فقال: ﴿لاَ تَدْخُلُواْ مِن بَابٍ وَاحِدٍ﴾ ثُمَّ رجع إلى علمه، فقال: ﴿وَمَآ أُغْنِي عَنكُمْ مِّنَ الله مِن شَيْءٍ﴾، وعرف أن العين ليست بشيء.
وكان قتادة يفسِّر الآية بإصابة العين، ويقول: ليس في قوله: ﴿وَمَآ أُغْنِي عَنكُمْ مِّنَ الله مِن شَيْءٍ﴾ إبطال له؛ لأن العين، وإن صحّ فاللهُ قادر على دفع أثره.
وقال النَّخعيُّ: كان عالماً بأنَّ مالك مصر هو ولده يوسف إلاَّ أنَّ الله تبارك وتعالى ما أذن لهُ في إظهار ذلك، فلمَّا بعث أولاده إليه، وقال: ﴿لاَ تَدْخُلُواْ مِن بَابٍ وَاحِدٍ وادخلوا مِنْ أَبْوَابٍ مُّتَفَرِّقَةٍ﴾، وكان غرضه أن يصل بنيامني إلى يوسف في وقت الخلوة، وقوله: ﴿وَمَآ أُغْنِي عَنكُمْ مِّنَ الله مِن شَيْءٍ﴾ فالإنسان مأمورٌ بأن يراعي الأسباب المُعتبرة في هذا العالم، ومأمورٌ بأن يجزم بأنَّه لا يصل إليه إلاَّ ما قدره الله تعالى وأنَّ الحذر لا يُنْجِي من القدرِ، فإنَّ الإنسان مأور بالحَذرِ عن الأشياءِ المُهلكةِ، والأغذيةِ الضَّارةِ، وبالسَّعي في تحصيل المنافع، ودفع المضار بقدر الإمكان، ثمَّ مع ذلك ينبغي أن يكن جازماً بأنَّه لا يصل إليه إلاَّ ما قدره الله ولا يحصل في الوجود إلاَّ ما أراد اللهُ، فقوله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ ﴿لاَ تَدْخُلُواْ مِن بَابٍ وَاحِدٍ وادخلوا مِنْ أَبْوَابٍ مُّتَفَرِّقَةٍ﴾ إشارة إلى رعاية الأسباب المعتبرة في هذا العالم، وقوله ﴿وَمَآ أُغْنِي عَنكُمْ مِّنَ الله مِن شَيْءٍ﴾ إشارة إلى عدم الالتفات إلى الأسباب وإلى الالتفات إلى التَّوحيدِ المحض، والبراءة عن كُلِّ شيءٍ سوى الله تعالى.
فإن قيل: كيف السَّبيلُ إلى الجمعِ بين هذه القولين؟.
154
فالجوابُ: أنَّ هذا السُّؤال غير مختصٍّ به، فإنه لا نزاع في أنَّه لا بدَّ من إقامة الطَّاعات والاحْترازِ من السَّيئاتِ، مع أنَّا نعتقدُ أنَّ السَّعيدَ من سعد في بطن أمه، والشَّقي من شَقِيَ في بطن أمِّه، فكذ هاهنا.
وأيضاً: نأكلُ، ونشربُ، ونحترزُ عن السموم، وعن الدُّخولِ في النَّار، مع أنَّ الموت والحياة لا يحصلان إلا بتقدير الله سبحانه وتعالى، فكذا ههنا، فظهر أنَّ السؤال ليس مختصًّا بهذا المقام، بل هو بحثٌُ عن سرٍّ مسألة الخيرِ، والشرِّ.
والحقُّ أن العبد يجبُ عليه أن يسعى بأقصى الجهد، والقدرة، وبعد السَّعي البليغ، يعلم أنَّ كل ما يدخل في الوجود لا بُدَّ وأن يكن بمشيئة الله عزَّ وجلَّ وسابق حكمه، وحكمته.
ثم إنَّهُ تعالى أكَّد هذا المعنى، فقال: ﴿إِنِ الحكم إِلاَّ للَّهِ﴾، وهذا من أدلِّ الدَّلائل على صحَّةِ القول بالقضاءِ، والقدر؛ لأنَّ الحكم عبارة عن الإلزام والمنع ومنه سميت حكمة الدَّابَّة بهذا الاسم؛ لأنَّها تمنع الدَّابَّة من الحركاتِ الفاسدةِ والحكم إنَّما يمسى حكماً؛ لأنه يرجح أحد طرفي الممكنِ على الآخر، بحيثُ يصيرُ الطَّرفُ «الآخر» ممتنع الحصولِ، فبيَّن تعالى أنَّ الحكم ليس إلاَّ لله، وذلك يدلُّ على أنَّ جميع الممكنات ترجع إلى قضائه، وقدرته، ومشيئته، وحكمه إمَّا بواسطةٍ، أو بغير واسطةٍ، ولذلك فوَّض يعقوب أمرهُ إلى الله تعالى.
ثم قال: ﴿عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ﴾ اعتمدت: ﴿وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ المتوكلون﴾، والمعنى: أنَّهُ لمَّا ثبت أنَّ الكُلَّ من الله تعالى ثبت أنَّهُ لا يتوكل إلاَّ على اللهِ سبحانه وتعالى.
155
قوله تعالى :﴿ قَالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حتى تُؤْتُونِ مَوْثِقاً مِّنَ الله ﴾ الآية.
الموْثِق : مصدر بمعنى الثقةِ، ومعناه : العَهْدُ الذي يُوثق به، فهو مصدرٌ بمعنى المفعول، يقول : لن أرسله معكم حتى تعطوني عهداً يوثقُ به
وقوله " مِنْ اللهِ " أي عهداً موثوقاً به ؛ بسبب تأكد الشهادة من الله، أو بسببِ القسمِ بالله عليه.
والمَوْثِقُ : العهدُ المؤكَّد بالقسم، وقيل : المؤكَّد بإشهادِ الله على نفسه.
قوله :﴿ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ ﴾ هذا جوابٌ للقسم المضمر في قوله " مَوْثِقاً " ؛ لأنَّ معناه حتى تحلفوا لي لتأتنني به.
قوله ﴿ إِلاَّ أَن يُحَاطَ بِكُمْ ﴾ في هذا الاستثناء أوجه :
أحدها : أنه منقطع، قاله أبو البقاء. يعني فيكون تقدير الكلام : لكن إذا أحيط بكم خرجتم من عتبي وغضبي عليكم إن لم تَأتُوني به ؛ لوضوحِ عُذْركُم.
والثاني : أنه متصلٌ، وهو استثناء من المفعول له العام. قال الزمخشريُّ :" فإن قلت : أخبرني عن حقيقة هذا الاستثناءِ، ففيه إشكالٌ. ؟ قلتُ :" أنْ يُحاطَ بِكُمْ " معفولٌ له، والكلام المثبت، الذي هو قوله " لتَأتُنَّنِي بهِ " في معنى النَّفي، معناه : لا تَمْتنِعُون من الإتيان به ؛ إلا للإحاطة بكم، أو لا تمتنعون منه إلا لعلةٍ واحدة وهي ﴿ أَن يُحَاطَ بِكُمْ ﴾ فهو استثناءُ من أعمِّ العامِّ في المفعول له، والاستثناءُ من أعم العام لا يكونُ إلا في النفي وحده ؛ فلا بُدَّ من تأويله بالنَّفي، ونظيره في الإثبات المتأول بالنفي بمعنى النفي قولهم : أقْسَمْتُ باللهِ لما فعَلتَ وإلاَّ فعلتَ بزَيْدٍ يريد ما أطلب منك إلاًَّ الفعل ". ولوضوح هذا الوجه لم يذكره غيرهُ.
الثالث : أنه مستثنى من أعمَّ العام من الأحوال قال أبو البقاء : تقديره لتَأتُنَّنِي به على كلِّ حالٍ، إلا في حالٍ، إلا في حالِ الإحاطةِ بكم.
قال شهابُ الدِّين :" قد نصُّوا على أنَّ أنْ الناصبة للفعلِ، لا تقعُ موقع الحال وإن كانت مُؤولةً بمصدرٍ، يجوز أن تقع موقع الحالِ ؛ لأنهم لم يَغتَفِرُوا في المؤولِ ما يَغْتفرونه في الصَّريح، فيجيزون : جِئْتُك رَكْضاً، ولا يجيزون : جِئْتُكَ أن أرْكُض وإنْ كانا في تأويله ".
الرابع : أنُّه مسثنى من أعمَّ العامِّ في الأزمان، والتقدير : لتَأتُنَّنِي به في كل وقتٍ إلا في وقت الإحاطة بكم، وقد تقدم [ البقرة : ٢٥٨ ] الخلافُ في هذه المسألة، وأنَّ أبا الفتح أجاز ذلك كما يجوزه في المصدر الصريح، فكما تقول :" آتيك صِيَاحَ الدِّيك " يجوز أن تقول : آتيك أنْ يَصِيحَ الدِّيكُ، جعل من ذلك قول تأبَّط شرًّا :[ الطويل ]
٣١١٩ وقَالُوا لهَا :
لا تَنْكِحِيهِ فإنَّهُ لأوَّلِ نَصْلٍ أنْ يُلاقِيَ مَجْمَعَا
وقول أبِي ذُؤيبٍ الهُذليِّ :[ الطويل ]
٣١٢٠ وتَاللهِ مَا إنْ شَهْلَةٌ أمُّ واحدٍ بأوْجَدَ مِنِّي أنْ يُهانَ صَغِيرُهَا
قال : تقديره : وقت ملاقاته الجمع، ووقت إهانة صغيرها.
قال أبو حيَّان :" فعلى ما قاله يجوز تخريج الآية، ويبقى ﴿ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ ﴾ على ظاهره من الإثبات ".
قال شهابُ الدِّين رحمه الله :" الظَّاهر من هذا أنه استثناء مفرغ، ومتى كان مُفرغاً وجب تأويله بالنفي ".
ومنع ابن الأنباري ذلك في " إنْ " وفي " مَا " أيضاً، قال :" فيجوزُ أن تقول : خُروجُنَا صِيَاح الدِّيك، ولا يجوز : خُرُوجنَا أن يَصِيحَ الدِّيكُ، أوْ مَا يَصِيح الديك. فاغتفر في الصريح ما لم يغتفر في المؤوَّل، وهذا قياسُ ما تقدم في منع وقوع أن وما في حيِّزها موقع الحالِ، ولك أن تفرق بينهما بأنَّ الحال تلزم التنكير، و " أنْ " وما في حيزها نصُّوا على أنها في رتبة المضمر في التعريف، وذلك يغني عن وُقُوعِهَا موقع الحال، بخلاف الظَّرف، فإنه لا يشترط تنكيره، فلا يمتنع وقوعُ " أنْ " وما في حيزها موقعه ".

فصل


قال الواحديُّ : للمفسرين في الإحاطةِ قولان :
الأول : معناه الهلاكُ. قال مجاهد : إلاَّ أن تموتوا كلكم فيكون ذلك عذراً عندي، والعرب تقول : أحيط بفلانٍ إذا قرب هلاكه.
قال الزمخشري : قال تعالى :﴿ وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ ﴾ [ الكهف : ٤٢ ] أي أصابه ما أهلكه، وقال تعالى :﴿ وظنوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ ﴾ [ يونس : ٢٢ ]، وأصله ؛ أنَّ من أحاط به العدوُّ، وانسدت عليه مسالكُ النجاةِ، ودنا هلاكه ؛ فقد أحيط به
والثاني : قال قتادة : ومعناه إلاَّ أن تَصِيرُوا مَغلُوبِين مَقْهُورين، لا تقدرون على الرجوع.
﴿ فلما ءاتوه موثقهم ﴾، أي : أعطوه عهدهم. قال يعقوب صلوات الله وسلامه عليه ﴿ الله على مَا نَقُولُ وَكِيلٌ ﴾ أي : شهيدٌ بمعنى شاهدٍ.
وقيل : حافظاً، أي : أنه موكلٌ إليه هذا العهد فإن وفيتم به، جازاكم خير الجزاءِ، وإن غدرتم به، كافأكم بأعظم العقوبات.
قوله تعالى :﴿ وَقَالَ يابني لاَ تَدْخُلُواْ مِن بَابٍ وَاحِدٍ ﴾ الآية، وذلك أنه كان يخافُ عليهم العين ؛ لأنَّهم كانوا أعطوا جمالاً، وقوة، وامتداد قامة، وكانوا ولد رجلٍ واحد، فأمرهم أن يتفرَّقُوا في دخولها ؛ لئلا يصابوا بالعين، فإن العين حقٌّ، ويدل عليه وجوه :
الأول : رُويَ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنَّه كان يعوِّذُ الحسن والحسين فيقول :" أعُودُ بِكلمَاتِ اللهِ التّامةِ من كُلِّ شيْطَانٍ وهَامَّةٍ، و من كُلِّ عَيْنٍ لامَّةٍ ". ويقول : هكذا يُعوذُ إبراهيم إسماعيل وإسحاق صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.
ورُوِيَ عن عبادة بن الصَّامت رضي الله عنه قال :" دَخَلْتُ على رسُولِ الله صلى الله عليه وسلم في أوَّلِ النَّهارِ فَرَأيْتهُ شَديدَ الوَجع، ثُمَّ عدت إليْهِ آخِرَ النَّهارِ فوَجَدتهُ مُعَافى، فقال :" إنَّ جِبْريلَ عليه الصلاة والسلام أتَانِي فرقَانِي، فقال : بسمِ اللهِ أرْقِيكَ مِنْ كُلِّ شَيءٍ يُؤذِيكَ، ومِنْ كُلِّ عَيْنٍ وحَاسدٍ اللهُ يَشْفِيكَ، قال صلواتُ اللهِ وسلامُه عليْهِ فأفَقْتُ ".
" وأتِيَ بابْنَي جَعْفَرٍ رضي الله عنه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانوا غلماناً بيضاً، فقيل : يا رسول الله " إنَّ العيْنَ تسرعُ إليْهِمَا، أفأسْتَرقِي لهُمَا مِنَ العيْنِ، فقال صلوات الله وسلامه عليه : نَعَم ".
" ودخل رسول الله بيت أم سلمة رضي الله عنهما وعندها صَبِيٌّ يَشْتَكِي فقَالُوا يَا رَسُول اللهِ : أصَابَتْهُ العَيْنُ، فقال صلى الله عليه وسلم :" ألا تَسْتَرقُونَ لَهُ مِنَ العَيْنِ ".
وقال صلى الله عليه وسلم :" العَيْنُ حقٌّ ولوْ كَانَ شَيءٌ يَسْبِقُ القَدرَ لسَبقَتِ العيْنُ القدرَ ".
وجاء في الأثرِ :" إن العين تُدخِلْ الرَّجُلَ القبر والجَمَل القِدْرَ ".
وقالت عائشة رضي الله عنهما :" كَانَ يَأمرُ العَائِنَ أنْ يَتوضَّأ، ثُمَّ يَغْتَسِلُ مِنْهُ المَعِينُ الذي أصيبَ بالعَيْنِ ".
والذين أثبتُوا العين قالوا : إنه يبدو من العَيْنِ أجزاءُ، فتتصل بالشيء المستحسن ؛ فتُؤثِّر، وتسري فيه، كما يؤثر السُّم النار، والنصوصُ النبويةُ نطقت به، والتجاربُ من الزمن القديم ساعدت عليه.
وروى الزمخشري في كتاب " ربيع الأبْرارِ "، قال الجاحظُ : علماءُ الفرس، والهندِ، وأطباءُ اليونانيين، ودهاةُ العرب، وأهل التجربة من نازلة الأمصار، وحذَّاق المتكلمين، يكرهُون الأكل بين يدي السٍّباع ؛ يَخافُونَ عُيُونها ؛ لِمَا فيها من النَّهم، والشَّره، ولما ينحلُّ عند ذلك من أجوافها من البخار الرَّديءِ، وينفصل من عيونها إذا خالط الإنسان نقصه وأفسده، وكانوا يكرهون قيام الخدم بالباب والأشربة على رُءُوسهِم مخافة العين، وكانوا يأمرون بإشباعهم قبل أن يأكلوا، وكانوا يقولون في الكلب السِّنورِ : إمَّا أن يطرد، وإمَّا أن يشغل بما يطرح له، قال : ونظيره : أن الرجل يضربُ الحية بعصاً ؛ فيموتُ الضاربُ ؛ لأنَّ السُّمَّ فصل من الحيةِ، فسرى فيه حتى داخله، ويديم الإنسانُ النظر إلى العين المحمرة ؛ فيعتري عينه حمرة.
وعن الأصمعيِّ رحمه الله : أنَّ عَيُوناً كان يقول : إذا رأت الشَّيْء يعجبني، وجدتُ حرارة تخرج من عيني.
وعنه : كان عندنا عيَّانان، فمرَّ أحدهما بحوض من حجارةٍ، فقال : بالله، ما رأيت كاليوم مثله، فانصدع فلقتين، فصُبَّ، فمرَّ عليه فقال : رأيتك تقل ما خزرت أهْلَكَ فيكَ، فتَطَايَرَ أرْبعاً.
وسمع آخرُ صوت بولِ من وراء جدار فقال : إنَّك تراني كثير الشَّخب جيِّد البول، قالوا : هذا آتيك، قال : وانقطع ظهراهُ، فقيل : لا بأس فقال : لا يبولُ بعدها أبداً، فما بال حتَّى مات.
وسمع صوت شخب بقرة فأعجبه، فقال : أيتهُنَّ هذه، فواروا بأخرى عنها ؛ فهلكتا جميعاً، المُورَى بها، والمُورَى عنها.
والمنقولاتُ في هذا كثيرة ؛ فثبت أنَّ الإصابة بالعين حقٌّ، لا يمكن إنكارهُ.
قال القرطبيُّ : وإذا كان هذا معنى الآيةِ ؛ فيكون فيها دليلٌ على التَّحرُّزِ من العين، وواجب على كل مسلم إذا أعجبه شيء أن يبرك، فإنه إذا دعا بالبركة صرف المحذور لا محالة، ألا ترى لقوله صلوات الله وسلامه عليه :" ألاَ برَّكْتَ " فدلَّ على أنَّ العين لا تضرُّ، ولا تعدو إذا برَّك العَائِنُ، وأنها إنَّما تعدو ؛ إذا لم يبرك، والتَّبْرِيكُ أن يقول :" تَبارَك اللهُ أحْسَنُ الخَالقينَ، اللَّهُمَّ بَارِك فِيهِ " وإذا أصاب العائن بعينه ؛ فإنَّه يُؤمَرُ بالاغتِسَالِ، ويجبرُ على ذلك إن أبى ؛ لأنَّ الأمر للوجوب، ولا سيِّما هنا، فإنَّه يخاف على المعين الهلاك، ولا ينبغي لأحدٍ أن يمنع أخاهُ ما ينتفع به، ولا يضرهُ هو، ولا سيما غذا كان بسببه، كان الجاني عليه.
قال القرطبيُّ :" مَنْ عُرِفَ بالإصاَبَةِ بالعيْنِ مُنِعَ مِنْ مُداخَلةِ النَّاس دفعاً للضَّرُورةِ ".
وقال بعضُ العلماءِ : يأَمره الإمامُ بلزوم بيته، وإن كان فقيراً رزقه ما يقوم بهِ، ويكفّ أذاه عن الناس.
وقيل : يُنفَى. والَّذي ورد في الحديث أنَّهُ لم ينفِ العَائن، ولا أمره بِلزُومِ بيته ولا حبسه، بل قالوا : يكونُ الرَّجُل الصَّالحُ عائناً، وأنه لا يقدحُ فيه، ولا يفسَّقُ به ومن قال : يحبس، ويؤمر بلزوم بيته ؛ فذلك للاحتياط، ودفع ضرره.
قال الجبائيُّ : إنَّ أبناء يعقوب اشتهروا، وتحدَّث النَّاسُ بهم، وبحسنهم، وكمالهم فقال :" لا تَدْخُلُوا " تلك المدينة " مِنْ بابِ واحدٍ " على ما أنتم عليه من العددِ، والهيئة، ولم يأمن عليهم حسد النَّاس، أو قال : لم يأمن عليهم أن يخافهم الملك على ملكه، فيحبسهم.
وهذا وجهٌ محتملٌ لا إنكار فيه إلاَّ أنَّ القول الأوَّل أولى ؛ لأنَّه لا امتناع فيه بحسب العقلِ، والعرف كما بيَّنا، والمتقدِّمُون من المفسرين أطبقوا عليه، فوجب المصيرُ إليه.
ونقل عن الحسنِ أنه قال : خاف عليهم العين، فقال :﴿ لاَ تَدْخُلُواْ مِن بَابٍ وَاحِدٍ ﴾ ثُمَّ رجع إلى علمه، فقال :﴿ وَمَآ أُغْنِي عَنكُمْ مِّنَ الله مِن شَيْءٍ ﴾، وعرف أن العين ليست بشيء.
وكان قتادة يفسِّر الآية بإصابة العين، ويقول : ليس في قوله :﴿ وَمَآ أُغْنِي عَنكُمْ مِّنَ الله مِن شَيْءٍ ﴾ إبطال له ؛ لأن العين، وإن صحّ فاللهُ قادر على دفع أثره.
وقال النَّخعيُّ : كان عالماً بأنَّ مالك مصر هو ولده يوسف إلاَّ أنَّ الله تبارك وتعالى ما أذن لهُ في إظهار ذلك، فلمَّا بعث أولاده إليه، وقال :﴿ لاَ تَدْخُلُواْ مِن بَابٍ وَاحِدٍ وادخلوا مِنْ أَبْوَابٍ مُّتَفَرِّقَةٍ ﴾، وكان غرضه أن يصل بنيامين إلى يوسف في وقت الخلوة، وقوله :﴿ وَمَآ أُغْنِي عَنكُمْ مِّنَ الله مِن شَيْءٍ ﴾ فالإنسان مأمورٌ بأن يراعي الأسباب المُعتبرة في هذا العالم، ومأمورٌ بأن يجزم بأنَّه لا يصل إليه إلاَّ ما قدره الله تعالى وأنَّ الحذر لا يُنْجِي من القدرِ، فإنَّ الإنسان مأمور بالحَذرِ عن الأشياءِ المُهلكةِ، والأغذيةِ الضَّارةِ، وبالسَّعي في تحصيل المنافع، ودفع المضار بقدر الإمكان، ثمَّ مع ذلك ينبغي أن يكن جازماً بأنَّه لا يصل إليه إلاَّ ما قدره الله ولا يحصل في الوجود إلاَّ ما أراد اللهُ، فقوله عليه الصلاة والسلام ﴿ لاَ تَدْخُلُواْ مِن بَابٍ وَاحِدٍ وادخلوا مِنْ أَبْوَابٍ مُّتَفَرِّقَةٍ ﴾ إشارة إلى رعاية الأسباب المعتبرة في هذا العالم، وقوله ﴿ وَمَآ أُغْنِي عَنكُمْ مِّنَ الله مِن شَيْءٍ ﴾ إشارة إلى عدم الالتفات إلى الأسباب وإلى الالتفات إلى التَّوحيدِ المحض، والبراءة عن كُلِّ شيءٍ سوى الله تعالى.
فإن قيل : كيف السَّبيلُ إلى الجمعِ بين هذه القولين ؟.
فالجوابُ : أنَّ هذا السُّؤال غير مختصٍّ به، فإنه لا نزاع في أنَّه لا بدَّ من إقامة الطَّاعات والاحْترازِ من السَّيئاتِ، مع أنَّا نعتقدُ أنَّ السَّعيدَ من سعد في بطن أمه، والشَّقي من شَقِيَ في بطن أمِّه، فكذا هاهنا.
وأيضاً : نأكلُ، ونشربُ، ونحترزُ عن السموم، وعن الدُّخولِ في النَّار، مع أنَّ الموت والحياة لا يحصلان إلا بتقدير الله سبحانه وتعالى، فكذا ههنا، فظهر أنَّ السؤال ليس مختصًّا بهذا المقام، بل هو بحثٌُ عن سرٍّ مسألة الخيرِ والشرِّ.
والحقُّ أن العبد يجبُ عليه أن يسعى بأقصى الجهد، والقدرة، وبعد السَّعي البليغ، يعلم أنَّ كل ما يدخل في الوجود لا بُدَّ وأن يكن بمشيئة الله عزَّ وجلَّ وسابق حكمه، وحكمته.
ثم إنَّهُ تعالى أكَّد هذا المعنى، فقال :﴿ إِنِ الحكم إِلاَّ للَّهِ ﴾، وهذا من أدلِّ الدَّلائل على صحَّةِ القول بالقضاءِ، والقدر ؛ لأنَّ الحكم عبارة عن الإلزام والمنع ومنه سميت حكمة الدَّابَّة بهذا الاسم ؛ لأنَّها تمنع الدَّابَّة من الحركاتِ الفاسدةِ والحكم إنَّما يمسى حكماً ؛ لأنه يرجح أحد طرفي الممكنِ على الآخر، بحيثُ يصيرُ الطَّرفُ " الآخر " ممتنع الحصولِ، فبيَّن تعالى أنَّ الحكم ليس إلاَّ لله، وذلك يدلُّ على أنَّ جميع الممكنات ترجع إلى قضائه، وقدرته، ومشيئته، وحكمه إمَّا بواسطةٍ، أو بغير واسطةٍ، ولذلك فوَّض يعقوب أمرهُ إلى الله تعالى.
ثم قال :﴿ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ ﴾ اعتمدت :﴿ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ المتوكلون ﴾، والمعنى : أنَّهُ لمَّا ثبت أنَّ الكُلَّ من الله تعالى ثبت أنَّهُ لا يتوكل إلاَّ على اللهِ سبحانه وتعالى.
قوله تعالى: ﴿وَلَمَّا دَخَلُواْ مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُم﴾ الآية في جواب «لمَّا» هذه ثلاثة أوجه:
أظهرها: أنَّه الحملة المنفيَّةُ من قوله: ﴿مَّا كَانَ يُغْنِي﴾، وفيه حجَّةٌ لمن يدَّعي كون [لمَّا] حرفاً لا ظرفاً، إذ لو كانت ظرفاً لعمل فيها جوابها، إذْ لا يصلحُ للعمل سواه لكن ما بعد: «مَا» النَّافية لا يعمل فيها قبلها، ولا يجوز حين قَامَ أبُوكَ مَا قَامَ أخُوكَ، مع جوازِك لمَّا قَامَ أخُوكَ مَا قَامَ أبُوكَ.
والثاني: أنَّ جوابها محذوف، فقدَّشره أبو البقاء رَحِمَهُ اللَّهُ: امتثلوا وقضوا حاجته، وإليه نحا ابن عطيِّة أيضاً.
155
وهو تعسًّفٌ؛ لأَنَّ في الكلام ما هو جوابٌ صريحٌ كما تقدَّم.
والثالث: أنَّ الجواب هو قوله: «آوَى» قال أبو البقاء: «وهو جواب:» لمَّا «الأولى، والثانية، كقولك: لمَّا كلَّمْتُكَ أجَبْتَنِي، وحسَّن ذلك أن دخولهم على يوسف صلوات الله وسلامه عليه تعقب دخولهم من الأبواب. يعنى أنَّ» آوَى «جواب الأولى، والثانية، وهو واضحٌ.

فصل


قال المفسرون: لمَّا قال يعقوبُ صلوات الله وسلامه عليه: ﴿وَمَآ أُغْنِي عَنكُمْ مِّنَ الله مِن شَيْءٍ﴾ [يوسف: ٦٧] صدَّق الله يعقوب فميا قاله، أي: وما كان ذلك التَّفيق يغني من الله من شيءٍ.
قال ابن عبَّاس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما: ذلك التَّفريق ما كان يرد من قضاء الله تعالى ولا أمراً قدره الله تعالى. وقال الزجاجك لو قدر أن يصيبهم لأصابهم، وهم مُتفرِّقون كما يصيبهم، [وهم مجتمعون].
وقال ابنُ الأنباري: لو سبق في علم الله تعالى أنَّ العين تهلكهم عند الاجتماع؛ لكان تفرقهم كاجتماعهم، وهذه كلمات متقاربة وحاصلها: أنَّ الحذر لا يدفع القدر.
وقوله:»
مِنْ شيءٍ «يحتملُ النَّصب بالمفعولية، والرفع بالفاعلية.
أمَّا الأول فهو كقولك: مَا رأيتُ من أحدٍ، والتقدير: ما رَأيتُ أحداً، كذا ههنا، وتقدير الآية: أن تفرقهم ما كان يغني من قضاء الله شيئاً.
وأما الثَّاني: فكقولك: ما جَاءَنِي من أحدٍ وتقديره: ما جَاءنِي أحدٌ، فيكون التقدير هنا: ما كان يغني عنهم من الله شيء مع قضائه.
قوله: إلاَّ حَاجةٌ»
فيه وجهان:
أحدهما: أنه استثناء منقطعٌن وتقديره: ولكن حاجة في نفس يعقوب قضاها، ولم يذكر الزمخشريُّ غيره.
والثاني: أنه مفعولٌ من أجله، ولم يذكر أبو البقاءِ غيره، ويكون التقدير: ما كان يغني عنهم بشيء من الأشياء إلاَّ لأجل حاجة كانت في نفس يعقوب عليه السلام، وفاعل: «يُغْنِي» ضمير التفريق المدلول عليه من الكلام المتقدِّم. وفيما أجازه أبو البقاءِ رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى نظر من حيث المعنى لا يخفى على مُتأمِّلهِ. و «قَضَاهَا» صفة ل: «حاجة».

فصل


قال بعضُ المفسرين: من تلك الحَاجةِ: خوفهُ عليهم من إصابةِ العينِ وقيل: خوفه عليهم من حسدِ أهل مصرَ، وقيل: خوفه عليهم من أن يصيبهم ملكُ مصر بسُوءٍ.
156
ثم قال: ﴿وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِّمَا عَلَّمْنَاهُ﴾ قال الواحدي: «مَا» مصدريَّة، والهاء عائدةٌ إلى يعقوب صلوات الله وسلام عليه أي: وإنَّ يعقوب لذو علم للشيء الذي علمناه، يعني: أنَّا لما علمناه شيئاً حصل له العلم بذلك الشيء.
والمراد بالعلم: الحفظُ، أي: وإنه لذو حفظ لماعلمناه. وقيل: المراد بالعلم: العمل، أي وإنه لذَوا عمل بفوائد ما علمناه.
ثم قال: ﴿ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَعْلَمُونَ﴾ مثل ما علم يعقوب، لأنهم لم يسلكوا طريق إصابة العلم.
وقيل: لا يعلمون أنَّ يعقوب بهذه الصِّفة.
وقال ابن عبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما: لا يعلم المشركون ما آلهم الله [أولياءه]. فالمراد ب: «أكْثرَ النَّاسِ» المشركون.
157
قوله تعالى: ﴿وَلَمَّا دَخَلُواْ على يُوسُفَ﴾ قالوا: هذا أخونا الذي أمرتنا أن نأتيك به قد جئنا به، فأكرمهم، وأحسن إليهم، وأجلس كل اثنين على مائدة، فبقي بنيامين وحده، فقال: لو كان أخي يوسف حيًّا لأجلسني معه فقال يوسف: بقي أخوكم وحيداً؛ فأجلسه معه على مائدته؛ فجعل يُؤاكلهُ فلما كان اللَّيل أمر لهم بمثل ذلكح فأمر أن ينزل كل اثنين منهم بيتاً، وقال: هذا لا ثاني له أخذه معي، فآواه إليه، فلمَّا خلا به قال: ما اسمك؟ قال: بنيامين قال: وما بنيامين؟ قال: أبنْ المُيكلِ. وذلك أنَّه لما ولد؛ هلكت أمُّه، قال: وما اسم أمك، قال راحيل بن لاوي، فلمَّا تأسُّفهُ على أخ له هلك، فقال له أتحبُّ أن أكون أخاك بدل أخيك الهالك؟ قال: ومن يجدُ أخاً مثلَك، ولكنَّك لم يلدك يعقوب ولا راحيلُ، فَبكَى يوسف صلوات الله وسلامه عليه، وسار إليه [وعَانقَهُ].
و: ﴿قَالَ إني أَنَاْ أَخُوكَ﴾ قال وهبٌ: لم يُرِدْ أنه أخوه من النَّسب، وإنَّما أراد به: إني أقُومُ لك مقَامَ أخيك في الإيناس، لئلا تستوحش بالأنفراد.
والصحيحُ: ما عليه سائرٌ المسِّرين من أنَّهُ أراد تعريف النَّسب؛ لأنَّ ذلك أقوى في إزالة الوحشة، وحصول الأنس، والأصل في الكلام الحقيقة.
157
﴿فَلاَ تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ﴾ قال أهل اللغة: تَبْتَئِسْ: تَفْتَعِل من البُؤسِ وهو الضَّررُ والشِّدةُ، والابتِئَاس: اجتِلابُ الحُزْنِ والبُؤسِ.
وقوله: ﴿بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ﴾ من إقامتهم على حسدنا، والحرص على انصراف وجه أبينا عنَّا.
وقال ابنُ إسحاق وغيره: «أخبره بأنَّه أخوه حقيقة، واستكتمه، وقال لهُ: لا تُبَالِي بكلِّ ما تراه من المكوره في تحيلي في أخذك منهم».
وعلى هذا التَّأويل يحتمل أن يشير بقوله: ﴿بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ﴾ إلى ما يعمله فتيان يوسف من أمر السِّقاية، ونحو ذلك.
وقيل: إنَّ يوسف صلوات الله وسلامه عليه ما بقي في قلبه شيءٌ من العداوةِ وصار صافياً لإخوته؛ فأراد أن يجعل قلب أخيه صافياً معهم أيضاً، فقال: ﴿فَلاَ تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ﴾ أي: لا تلتفت إلى صنيعهم فيم تقدَّم.
وقيل: إنما فعلوا بيوسف ما فعلوا حسداً لإقبال الأب عليه، وتخصيصه بمزي الإكرام فخاف بنيامين أن يحسدوه، بسبب تخصيص الملكِ له بالإكرام، فآمنه منهم، وقال ك لا تفتلت إلى ذلك، فإنَّ الله قد جمع بيني وبينك.
وروى الكلبيُّ عن ابن عبَّاسٍ: رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما أنَّ إخوة يوسف عليه السلام: كانوا يُعيِّرُونَ يوسف، أخاه بسبب أنَّ جدهما أبا أمَّهما كان يعبدُ الأصنام، فإنَّ أمَّ يوسف أمرت يوسف بسرقة جونة كانت لأبيها، فيها أصنام رجاء أن يترك عبادتها، إذا فقدها، فقال له: ﴿فَلاَ تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ﴾ أي: من التَّعيير لنا مبما كان عليه جدّنا. اللهُ أعلم.
158
قوله تعالى: ﴿فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ جَعَلَ السقاية فِي رَحْلِ أَخِيهِ﴾.
تقدَّم الكلامُ في الجهَازِ. أمَّا قوله: ﴿جَعَلَ السقاي﴾ فالعامة على: «جعلش» بلا واو قبلها، وقرأ عبدُ الله «وَجَعَلَ» وهي تحتمل وجهين:
أحدهما: أن الجواب محذوفٌ.
158
والثاني: أنَّ الواو مزيدة في الجواب على رأي الكوفيين، والأخفش.
قال أبو حيَّان: وقرأ عبدُ الله فيما نقل عن الزمخشري ﴿وجعل السقاية في رحل أخيه﴾ : أمْهَلهُمْ حتّى انطلقوا. ﴿ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ﴾، وفي نقل ابنِ عطيَّة: «وَجَعلَ» بزيادة واوٍ في: «جَعَلَ» دون الزيادة التي زادها الزمخشريُّ، بعد قوله: «في رَحْل أخيهِ» فاحتمل أن تكون الواو زائدة على مذهب الكوفيِّين، واحتمل أن يكون جواب: «لمَّا» محذوفاً تقديره: فقدها حافظها كما قيل: إنَّما أوحي إلى يوسف بأن يجعل السِّقاية فقطن ثمَّ إنَّ صاحبها فقدها فنادى برأيه فيما ظهر له، ورجَّحهُ الطبريُّ، وتفتيتش الأوعية يردُّ هذا القول.
قال شهابُ الدِّين: «لم ينقل الزمخشريُّ هذه الزِّيادة كلها قراءة عن عبد الله، إنَّما جعل [الزِّيادة] المذكورة بعد قوله:» رحْلِ أخِيهِ «تقدير جواب من عنده، وهذا نصُّه:
قال الزمخشريُّ:»
وقرأ ابنُ مسعودٍ: وجَعَلَ السِّقاية «على حذف جواب» لمَّا «كأنه قيل: فلمَّا جهزهم بجهازهم، وجعل السِّقاية في رحل أخيه؛ أمهلهم حتى انطلقوا، ثمَّ أذَّن مؤذِّنٌ» فهذا من الزمخشريُّ إنما هو تقدير لا تلاوة منقولة عن عبد الله، ولعلَّهُ وقع للشَّيخ نسخةٌ سقيمةٌ «.

فصل


قال الزمخشريُّ:»
السِّقاية: مَشْربةٌ يُسْقَى بها وهِيَ الصواع «.
قيل: كَانَ يُسْقى بها الملكُ، ثُمَّ جعلت صاعاً يكالُ به، وقيل: كانت الدَّوابُّ تسقى بها، ويُكَالُ بِهَا أيضاً، وقيل: كانت من فضَّةٍ، وقيل: كَانتْ من ذهَبٍ، وقيل: كَانتْ مُرصَّعة بالجَواهرِ.
والأولى أن يقال: كان ذلِكَ الإنَاء شيئاً لهُ قِيمَة، أمَّا إلى هذا الحدِّ الذي ذكروهُ فَلاً؟

فصل


روي أنَّ يوسف صلوت الله وسلامه عليه قال لأخيه: لا تُعْلِمهُمْ شيئاً ممَّا أعلمتك، ثمَّ أوفى يوسف لإخوته الكيل، وحمل لكلِّ واحدٍ بعيراً، ولبنيامين بعيرٌ باسمه، ثمَّ أمر بسقاية الملك، فجعلت في رحل بنيامين.
قال السديُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: لما قال له يوسف: ﴿إني أَنَاْ أَخُوكَ﴾ [يوسف: ٦٩] قال بنيامني: فأنا لا أفارقك، فقال له يوسف: قد علمت اغتمام والدي بي، وإذا أجلستك، ازداد غمه ولا يمكنني هذا إلاَّ بعد أن أشهرك بأمر فظيع، وأنسبك إلى ما لا يُحْمدُ، قال لا أبالي
159
فافعل ما بدا لك؛ فإني لا أفارقك، قال: فإنِّي أدس صاعي في رحلك، ثمَّ أنادي عليك بالسِّرقةِ ليتهيأ لي ردّك بعد تسريحك، قال: فافعل.
فعند ذلك جعل السِّقاية في طعام أخيه بنيامين، إمَّا بنفسه بحيثُ لم يطِّلعْ عليه أحدٌ، أو أمر أحداً من بعض خواصه بذلك، ثمَّ ارتحلوا وأمهلهم يوسف حتَّى نزلوا منزلاً.
وقيل: حتَّى خرجوا من العمارة، ثمَّ بعث خلفهم من استوقفهم، وحبسهم.
﴿ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ﴾ نادى منادٍ: ﴿أَيَّتُهَا العير﴾، وهي القافلةُ التي فيها الأحمال، يقال: أذَّن، أي: أعلمَ.
وفي الفرق بين «أذَّنَ»، و «آذَنَ» وجهان:
قال ابن الأنباريِّ: «أذن بمعنى أعلم إعلاماً بعد إعلام، لأنَّ» فعَّل «يوجب تكرير الفعل، قال: ويجوز أن يكون إعلاماً واحداً، من قبل أنَّ العرب يجعل فعَّل بمعنى أفعل، في كثير من المواضع».
وقال سيبويه: الفرقُ بين أذنتُ وآذنْتُ معناه: أعلمتُ، لا فرق بينهما والتَّأذينُ معناه: النِّداءُ، والتَّصويتُ بالإعلام.
﴿أَيَّتُهَا العير﴾ منادى حذف منه حرف النِّداء، والعير مؤنثٌ، ولذلك أنث أي المتوصل بها إلى ندائه، والعير فيها قولان:
أحدهما: أنها في الأصل جماعة الإبل، سُمِّت بذلك؛ لأنها تعير، أي: تذهب وتجيء به.
والثاني: أنَّها في الأصل قافلة الحمير؛ كأنها جمع عير، والعِيرُ: الحِمارُ؛ قال الشاعر: [البسيط]
٣١٢١ - ولاَ يُقِيمُ عَلى ضَيْمٍ يُرادُ بِهِ إلاَّ الأذَلانِ عَيْرُ الحيِّ والوَتِدُ
وأصلُ «عُيْرٌ»، بضم العين، ثمَّ فعل به ما فعل ب «بيض»، والأصل [بُيض] بضم الأول، ثم أطلق العير على كلِّ قافلة حميرٍ كُنَّ أو غيرها، وعلى كلِّ فتقدير نسبة النداء إليها على سبيل المجاز؛ لأنَّ المنادى في الحقيقة أهلها، ونظره الزمخشريُّ بقوله: «يَاخَيْل اللهِ ارْكبِي» ولو التفت لقال: اركَبُوا «. ويجوز أن يعبر عن أهلها بها للمجاورة، فلا يكون من مجاز الحذف، بل من مجاز العلاقة، وتجمعه العرب قاطبةٌ على» عيرات «بفتح الياءِ، وهذا ممَّا اتُّفق على شذوذِهِ؛ لأن فعلة المعتلة العين حقها في جمعها بالألف
160
والتاء أن تسكن عينها، نحو: قِيمَة وقِيمَات، ودِيمَة ودِيمَات، وكذلك» فِعْل «دون ياء إذا جمع حقه أن تسكن عينه؛ قال امرؤ القيس: [الطويل]
٣١٢٢ - غَشِيتُ دِيَارَ الحيِّ بالبَكرَاتِ فعَارِمَةٍ فبُرْقَةِ العِيَراتِ
قال الأعلمُ الشَّنتمَرِيُّ: العِيرَات هنا موضع الأعيار، وهي الحمر.
قال شهابُ الدِّين:»
وفي عِيرَات «شذوذ آخر، وهو جمعها بالألف، والتَّاء مع جمعها على أعيار أيضاً جمع تكسيرٍ، وقد نصُّوا على ذلك، قيل: ولذلك لحن المتنبي في قوله: [الطويل]
٣١٢٣ - إذَا كَانَ بَعَث النَّاسِ سُيْفاً لِدوْلَةٍ فَفِي النَّاس بُوقاتٌ لهَا وطُبُولُ
قالوا: فجمع:»
بُوقاً «على:» بُوقَات «مع تكسيرهم له على» أبْوَاق «.
وقال أبُو الهيثم:»
كلُّ ما يسير عليه من الإبل، والحمير، والبغال فهو عير خلافاً لقول من قال: العيِرُ: الإبلُ خاصَّة «.
فإن قيلك هل كان ذلك النداء بأمر يوسف عليه السلام، أو ماكان بأمره؟ فإن كان بأمره فكيف يليق الرًَّسُول الحق من عند الله أن يتهمهم وينسبهم إلى السرقة كذباً وبهتاناً؟.
وإنْ لم يكن بأمره، فهلا أظهر براءتهم عن تلك التُّهمةِ؟.
فالجواب من وجوه:
الأول: ما تقدَّم من أنَّه صولات الله وسلامه عليه أظهر لأخيه أنَّه يوسف وقال: لا سبيل إلى حبسك هنا إلاَّ بهذه الحيلة، فرضي أخوهُ بها، ولم يتألم قلبه.
والثاني: أراد إنكم لسارقون يوسف من أبيه، والمعاريض لا تكون إلا كذلك.
والثالث: أن [المؤذن] إنما نادى مستفهماً.
والرابع: هو الظاهر أنَّهم نادوا من عند أنفسهم؛ لأنهم طلبوا السِّقاية فلم يجدوها، ما كان هناك غيرهم، فغلب على ظنهم أنَّهم هم الَّذين أخذوها، وليس في القرآن أنَّهم نادوا عن أمر يوسف صلوات الله وسلامه عليه.
وقيل: إنَّهم لما كانوا باعوا يوسف استجاز أن يقال لهم هذا، وأنَّه عوقب على ذلك بأن قالوا: ﴿فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَّهُ مِن قَبْلُ﴾ [يوسف: ٧٧].
161
وقيل: أراد أيتها العيرُ حالكم حال السارق، والمعنى: إن شيئاً لغيركم صار عندكم، من غير رضى الملك، ولا علم له.
وقيل: إنَّ ذلك كان حيلة لاجتماع شمله بأخيه، وفصله عنهم إليه، وهذا بناءً على أنَّ بنيامين لم يعلم بدسّ الصَّاع في رحله، ولا أخبره بنفسه.
وقيل: معنى الكلامِ: الاستهفام، أي: أو إنكم لسارقون، كقوله: ﴿وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ﴾ [الشعراء: ٢٢] والغرضُ ألا يعزى الكذب إلى يوسف.
فإن قيل: كيف رضي بنيامين بالقعود طوعاً، وفيه عقوق الأب بزيادة الحزن، ووافقه على ذلك يوسف؟.
فالجواب: أنَّ الحزن كان قد غلب على يعقوب بحيث لا يؤثِّر فيه فقد بنيامين كل التأثير، ألا تراهُ لما فقده قال: ﴿يا أسفا على يوسف﴾، ولم يعرج على بنيامين ولعلَّ يوسف إنَّما وافقه على القعود بوحي، فلا اعتراض.
قوله: ﴿وَأَقْبَلُواْ عَلَيْهِمْ﴾ هذه الجملة حاليةٌ من فاعل قالوا أي: قالوا: وقد أقبلوا، أي: في حال إقبالهم عليهم.
﴿مَّاذَا تَفْقِدُونَ﴾ تقدم الكلام على هذه المسألة أوَّل الكتاب.
وقرأ العامة: «تَفْقِدُونَ» بفتح حرف المضارعة؛ لأن المستعمل منه «فَقَدَ» ثلاثياً وقرأ السلميُّ بضمةٍ من أفقدتُّه إذا وجدته مفقوداً كأحمدتهُ وأبخلته، [إذا] وجدته محموداً وبخيلاً.
وضعَّف أبو حاتمٍ هذه القراءة، ووجهها ما تقدَّم.
قوله: ﴿نَفْقِدُ صُوَاعَ الملك﴾ «الصَّواعُك هو المِكْيَال، وهو السِّقاية المتقدِّمة سمَّاه تارة والسِّقايةُ: وصفٌ.
وقيل:»
ذُكِّرَ؛ لأَنَّه صاعٌ، وأنْثَ لأنَّهُ سِقايَة.
والصّواع السّقاية: إناءٌ له رأسان في وسطه مقبض، كان الملك يشربُ منه من الرَّأسِ الواحدة ويكالُ الطَّعام بالرَّأسِ الآخرِ.
162
وقال ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما: كلُّ شيء يُشربُ به فهو صُواعٌ؛ وأنشد: [الخفيف]
٣١٢٤ - نَشْرَبُ الخَمْرَ بالصُّواعِ جِهَاراً.......................
قيل: إنما كان الطعَّام بالصَّواع مبالغة في إكرامهم.
وقال مجاهدٌ، وأبو صالح: الصُّواع الطرجهالة بلغة حميرٍ. وإنَّما اتخذ هذا الإناء مكيلاً لعزة ما يكال به في ذلك الوقت. وفيه قراءات كلُّها لغات في ذلك الحرف، ويُذكِّر، ويؤنَّث فالعامة: «صُوَاع» بزنة: «غُرَاب»، العين مهملة، وقرأ ابن جبير، والحسن كذلك إلاَّ أنه بالغين المعجمة وقرأ يحيى بن يعمر كذلك؛ إلا أنه حذف الألف، وسكن الواو، وقرأ زيد بن عليِّ «صَوْغ» كذلك إلا أنه فتح الصَّاد، وجعله مصدراً ل: «صَاغَ» يَصُوغُ. والقراءتان [قبله] مشتقان منه وهو واقع موقع مفعول. أي: مصوغ الملك.
وقرأ أبو حميرة وابن جبير والحسن رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم في رواية عنهما «صِواعَ» كالعامة إلا أنهم كسروا الفاء. وقرأ أبو هريرة ومجاهد رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما: «صَاع» بزنة بَاب وألفه كألفه في كونها منقلبة عن واو مفتوحة وقرأ أبو رجاء: «صَوْع» بزنة «قَوْس».
وقرأ عبد الله بن عون كذلك إلا أنه ضم الفاء فهذه ثمان قراءات متواترة وواحدة في الشاذ.
قوله: ﴿وَلِمَن جَآءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ﴾ أي من الطعام، ﴿وَأَنَاْ بِهِ زَعِيمٌ﴾.
قال مجاهد: الزعيم هو المؤذن الذي أذن، والزعيم: الكفيل.
قال الكلبيُّ: الزَّعيمُ: هو الكفيل بلسانِ أهل اليمنِ.
163
روى أبو عبيدة عن الكسائيِّ: زعمْتُ بِهِ أزعُم زُعْماً وزَعَامَةً، أي: تكفلت به.
وهذه الآية تدلُّ على أنَّ الكفالة كانت صحيحة في شرعهم، وقد حكم بها رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في قوله: «الزَّعيمُ غَارِمٌ».
فإن قيل: هذه الكفالةُ شيءٌ مجهولٌ؟.
فالجواب: حمل البعير من الطَّعام كان معلوماً عندهم، فصحت الكفالةُ به إلاَّ أن هذه الكفالة ما لرد السَّرقة، وهي كفالةٌ بما لم يجب؛ لأنَّه لا يحلُّ للسَّارقِ أن يأخذ شيئاً على ردّ السِّرقةِ، ولعلّ مثل هذه الكفالة كانت تصحُّ عندهم.

فصل


قال القطربيُّ: «تجوز الكفالةُ عن الرِّجلُ؛ لأنَّ المؤذن هو الضَّامنُ وهو غير يوسف صلوات الله وسلامه عليه.
قال علماؤنا: إذا قال الرجلُ: تحمَّلتُ، أو [تكفلت] أو ضمِنتُ، أو أنا حميلٌ لكل أو زعيمٌ، أو كفيلٌ، أو ضامنٌ، أو قبيلٌ، أو لك عندي، أو علي، أو إليّ، أو قبلي، فذلك كلُّه [حَمالةٌ] لازمةٌ.
واختلفوا فيمن تكفل بالنفس، أو بالوجه هل يلزمه ضمانُ المالِ»
.
فقال الشافعيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه في المشهور عنه، وأحمد: مَن تكفَّل بالنَّفس لم يلزمه الحقٌّ الذي على المطلوب إن ماتَ.
وقال مالكُ، والليثُ، والأوزاعيُّ: إذا تكفل نفسه، وعليه مال، فإن لم يأت به غرم المال، ويرجع به على المطلوب، فإن اشترط ضمان نفسه، أو وجهه، وقال: لا أضمن المال، فلا شيء عليه من المال «.

فصل


واختلفوا فيما إذا تكفَّل رجلٌ عن رجلٍ بمالٍ، هل للطالب أن يأخذ من شاء منهما؟.
فقال الأوزاعيُّ، والشافعيُّ، وأحمد، وإسحاق: يأخذ من شاء منهما، وهذا كان قولم مالكٍ، ثمُّ رجع عنه فقال: لا يأخذُ من الكفيل إلاَّ أن يفلس الغريمُ، أو يغيبُ؛ لأنَّ البداءة بالذي عليه الحق أولى إلاَّ أن يكون معدماً، فإنَّه يأخذُ من الحميل؛ لأنه معذورٌ في أخذه في هذه الحالةِ، وهذا قولٌ حسنٌ، والقياسُ: أنَّ للرَّجُلِ مطالبة من شاء منهما.
164
وقال ابنُ أبي ليلى: إذا ضمن الرَّجلُ عن صاحبه مالاً؛ تحوَّل على الكفيل، وبرىء الأصيل، إلاَّ أن يشترط المكفول له عليهما أن يأخذ من أيهما شاء.
قوله «تاللهِ» التاء حرف قسم، وهي عند الجمهور بدل من واو القسم ولذلك لا تدخل إلاَّ على الجلالة المعظمة، أو الرب مضافاً للكعبة، أو الرحمن في قول ضعيف، ولو قلت: تالرحْمن «لم يجز، وهي فرعُ الفرعِ. وهذا مذهب الجمهور.
وزعم السيهليُّ: أنهَّا أصلٌ بنفسها، ويلازمها التَّعجب غالباً كقوله: (تالله تفتأ تذكر يوسف).
وقال ابنُ عطيَّة:»
والتَّاء في «تَاللهِ» بدلٌ من واو، كما أبدلت في تراثٍ، وفي التَّوراةِ، وفي التخمة، ولا تدخلُ التَّاء في القسم، إلاَّ في المكتوبة، من بين أسماء الله تعالى وغير ذلك لا تقول تالرحمنِ، وتَا الرَّحيم «انتهى وقد تقدَّم أنَّ السُّهيليَّ خالف في كونها بدلاً من واوٍ.
وأمَّا قوله:»
في التَّوراةِ «يريد عند البصريين، وزعم بعضهم أنَّ التَّاء فيها زائدةٌ، وأمَّا قوله» إلا في المكتُوبَةٍ «هذا هُوا المشهور، وقد تقدَّم دخولها على غير ذلك.
قوله:»
مَا جِئْنَا «يجوز أن يكون معلقاً للعلم، ويجوز أن يضمن العلم نفسه معنى القسم فيجاب بما يجاب به القسم، وقيل هذان القولان في قول الشاعر: [الكامل]
٣١٢٥ - ولقَدْ عَلمْتُ لتأتِينَّ مَنيِّتِي إنَّ المَنايَا لا تَطِيشُ سِهَامُهَا
قوله ﴿وَمَا كُنَّا سَارِقِينَ﴾ يحتمل أن يكون جواباً للقسم فيكونون قد أقسموا على شيئين: نفي الفساد، ونفي السَّرقة.

فصل


قال المفسرونك حلفوا على أمرين:
أحدهما: على أنهم ما جاءوا لأجل الفسادِ في الأرض؛ لأنَّه ظهر من أحوالهم وامتناعهم من التصرف في أموال النَّاس بالكليَّة لا بأكل، ولا بإرسال في مزارع النَّاس حتَّى روي أنهم كانوا يسدون أفواه دوابهم لئلا يفسد زرع النَّاس، وكانوا مواظبين على أنواع الطَّاعات.
165
والثاني: أنهم ما كانوا سارقين، وقد حصل لهم في شاهد قاطع، وهو أنهم لما وجدوا بضاعتهم في رحالهم حملوها من بلادهم إلى مصر، ولم يستحلُّوا أخذها والسارق لا يفعل ذلك ألبتَّة، فلمَّا بينوا براءتهم من تلك التهمة قال أصحابُ يوسف صلوات الله عليه: ﴿فَمَا جَزَآؤُهُ إِن كُنتُمْ كَاذِبِينَ﴾ فأجابوه، ﴿قَالُواْ جَزَآؤُهُ مَن وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ﴾ قال ابن عباسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما: كانوا يستعبدون في ذلك الزمان كُلَّ سارقٍ بسرقته، فلذلك قالوا: ﴿جَزَآؤُهُ مَن وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ﴾ أي: فالسَّارقُ جزاؤه، أي: فيسلم السَّارق إلى المسرُوق منه، وكان سنة آل يعقوب في حكم السَّارق، وكان حكم ملك مصر أن يضرب السَّارق، ويغرمه قيمة المسروق، فأراد يوسف أن يحبس أخاه عند فردَّ الحكم إليهم؛ ليتمكن من حبسه عنده على حكمهم.
قوله تعالى: ﴿جَزَآؤُهُ مَن وُجِدَ فِي رَحْلِهِ﴾ فيه أربعة أوجه:
أحدهما: أن يكون «جَزاؤهُ» مبتدأ، والضمير للسَّارق، و «مَنْ» شرطيَّة أو موصولة مبتدأ ثاني، والفاء جواب الشَّرط، أو مزيدة في خبر الموصول لشبهه بالشَّرطِ و «مَنْ» وما في حيزها على وجهيها خبر المبتدأ الأوَّلِ، قاله ابن عطيَّة، وهو مردودٌ؛ لعدم رابط بين المبتدأ، وبين الجملة الواقعة خبراً عنه، هكذا ردَّه أبو حيَّان عليه.
وليس بظاهر؛ لأنَّه يجاب عنه بأن هذه المسألة من باب إقامة الظاهر مقام الضمير ويتَّضح هذا بتقدير الزمخشري رَحِمَهُ اللَّهُ فإنَّه قال: «ويجوز أن يكون» جَزاؤهُ «مبتدأ، والجملة الشرطية كما هي خبره، وعلى إقامة الظَّاهر فيها مقام المضمر، والأصل: جزاؤه، من وجد في رحله فهو هو، فوضع الجزاء موضع» هو «كما تقول لصاحبك: مَنْ أخُوا زيدٍ؟ فيقول لك: من يقْعُد إلى جَنْبِهِ فهُوا هو يرجع الضمير الأول إلى:» مَنْ «، والثاني إلى الأخِ، فتقولُ:» فهو أخوه «مقيماً الظاهر مقام المضمر».
وأبو حيان جعل هذا المحكيّ عن الزَّمخشري وجهاً ثانياً بعد الأوَّلِ، ولم يعتقد أنه هو بعينه، ولا أنه جوابٌ عما ردَّ به على ابن عطيَّة.
ثمَّ قال: «وضع الظَّاهر موضع المضمر للرَّبطِ، وإنَّما هو فيصحٌ في مواضع التفخيم والتَّهويل، وغير فصيح فيما سوى ذلك، نحو: قام زيدٌ، وينزه عنه القرآن.
قال سيبويه:»
لو قلت: كان زيدٌ منطلقا زيدٌ «لم يكن حدُّ الكلام وكان ههنا ضعيفاً، ولم يكن كقولك: مازيدٌ مُنْطكلقاً هُوَ؛ لأك قد استغنيت عن إظَهاره، وإنَّما ينبغي لك أن تضمره».
قال شهابُ الدِّين: ومذهبُ الأخفش أنَّه جائزٌ مطلقاً، وعليه بنى الزمخشريُّ،
166
وقد جوَّز أبو البقاء ما توهم أنَّهُ جواب عن ذلك فقال:
والوجه الثالث: أن يكون «جَزاؤهُ» مبتدأ، و «مَنْ وُجِدَ» متبدأ ثان، و «هُوَ» مبتدأ ثالثُ، و «جَزَاؤهُ» خير الثالث، والعائدُ على المبتدأ الأول الهاء الأخيرة وعلى الثاني «هُوَ» انتهى.
وهذا الذي ذكره أبو البقاء لا يصح؛ إذ يصير التقدير: فالذي وجد في رحله جزاؤه الجزاء؛ لأنَّه جعل «هُوَ» عبارة عن المبتدأ الثاني، وهو: ﴿مَن وُجِدَ فِي رَحْلِهِ﴾ وجعل الهاء الأخيرة، وهي التي في: «جَزاؤهُ» الأخير عائدةٌ على: «جَزاؤهُ» الأوَّل، فصار التقدير كما ذكرنا.
الوجه الثاني من الأوجه المتقدمة: أن يكون: «جَزَاؤهُ» مبتدأ، والهاء تعود على المسروق، و ﴿مَن وُجِدَ فِي رَحْلِهِ﴾ خبره، و «مَنْ» بمعنى الذي، والتقدير: جزاء الصّواع الذي وجد في رحله.
ولذلك كانت شريعتهم يسترق السَّارق؛ لذلك استفتوا في جزائه، وقوله: ﴿فَهُوَ جَزَاؤُهُ﴾ متبدأ، وخبر مؤكدٌ لمعنى الأولد، ولما ذكر أبو حيَّان هذا الوجه ناقلاً له عن الزمخشريُّ، قال: «وقال معناه ابنُ عطيَّة إلاَّ أنَّهُ جعل القول الواحد قولين، قال: ويصحُّ أن يكون» مَنْ «خبراً على أن المعنى: جزاء السَّارق من وجد في رحله، ويكون قوله: ﴿فَهُوَ جَزَاؤُهُ﴾ زيادة بيانٍ وتأكيد، ثم قال: ويحتمل أن يكون التقدير: جزاؤه استرقاق من وجد في رحله، ثم يؤكد قوله: ﴿فَهُوَ جَزَاؤُهُ﴾، وهذا القول هو الذي قبله غير أنَّهُ أبرز المضاف المحذوف في قوله: استرقاق من وجد في رحله، وفيما قبله لا بدَّ من تقديره؛ لأنَّ الذَّات لا تكُون خبراً عن المصدرِ، فالتَّقدير في القول قبله: جزاؤهُ أخذ من وجد في رحله أو استرقاقه، هذا لا بُدَّ منه على هذا الإعراب.
وهذا ظاهره، أنه جعل المقول الواحد قولين.
الوجه الثالث من الأوجه المتقدمة: أن يكون:»
جَزاءهُ «خبر مبتدأ محذوف أي: المسئول عنه جزاؤه، ثمَّ أفتوا بقولهم: ﴿مَن وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ﴾ كما تقول: من يَسْتَفتِ] في جزاء صَيْدِ المحرمِ جزاءُ صَيْدِ المحرمِ، ثمَّ يقول: ﴿وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمِّداً فَجَزَآءٌ مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النعم﴾ [المائدة: ٩٥] قاله الزمخشري.
167
قال أبو حيَّان:» وهو متكلف، إذ تصير الجملة من قوله «المسئول عنه جزاؤه» على هذا التقدير، ليس فيه كبير فائدة، إذ قدلم علم من قوله: «فما جَزاؤهُ» أي الشيء المسئولُ عنه جزاء سرقته، فأيُّ فائدة في نطقهم بذلك، وكذلك القول في المثال الثَّاني الذي مثل به من قول المستفتي «.
قال شهابُ الدِّين:»
قوله: «ليس فيه كبيرة فائدة» ممنوعٌ، بل فيه فائدة الإضمار المذكور في علم البيان، وفي القرآن أمثال ذلك «.
الوجه الرابع: أني كون»
جَزَاؤهُ «مبتدأ، وخبره محذوف، تقديره: جزاؤه عندنا كجزائه عندكم، والهاء تعود على السَّارق، أو على المسروق، وفي الكلام المتقدِّم دليل عليهما، ويكون قوله: ﴿مَن وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ﴾ على ما تقدَّم في الوجه الذي قبله وبها الوجه بدأ أبُوا البقاءِ رَحِمَهُ اللَّهُ ولم يذكره الشَّيخُ.
قوله: ﴿كذلك نَجْزِي الظالمين﴾ محل الكاف نصب إمَّا على أنَّها نعت لمصدر محذوفٍ، إمَّا حال من ضميره، أي: مثل ذلك الجزاء الفضيع نجزي الضالمين أي: إذا سرق استرق.
قيل: هذا من بقيَّة كلام أخوة يوسف صلوات الله وسلامه عليه.
وقيل: إنهم لما قالوا: ﴿جَزَآؤُهُ مَن وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ﴾ قال أصحاب يوسف: ﴿كذلك نَجْزِي الظالمين﴾ ماليس لهم فعلُهُ من سرقة مال الغير، فعند ذلك قال لهم المؤذن: لا بُدَّ من تفتيش أوعيتكم، فانصرف بهم إلى يوسف.
168
قوله :﴿ وَأَقْبَلُواْ عَلَيْهِمْ ﴾ هذه الجملة حاليةٌ من فاعل قالوا أي : قالوا : وقد أقبلوا، أي : في حال إقبالهم عليهم.
﴿ مَّاذَا تَفْقِدُونَ ﴾ تقدم الكلام على هذه المسألة أوَّل الكتاب.
وقرأ العامة :" تَفْقِدُونَ " بفتح حرف المضارعة ؛ لأن المستعمل منه " فَقَدَ " ثلاثياً وقرأ السلميُّ بضمةٍ من أفقدتُّه إذا وجدته مفقوداً كأحمدتهُ وأبخلته، [ إذا ] وجدته محموداً وبخيلاً.
وضعَّف أبو حاتمٍ هذه القراءة، ووجهها ما تقدَّم.
قوله :﴿ نَفْقِدُ صُوَاعَ الملك ﴾ " الصَّواعُ هو المِكْيَال، وهو السِّقاية المتقدِّمة سمَّاه تارة والسِّقايةُ : وصفٌ.
وقيل :" ذُكِّرَ ؛ لأَنَّه صاعٌ، وأنْثَ لأنَّهُ سِقايَة.
والصّواع السّقاية : إناءٌ له رأسان في وسطه مقبض، كان الملك يشربُ منه من الرَّأسِ الواحدة ويكالُ الطَّعام بالرَّأسِ الآخرِ.
وقال ابن عباس رضي الله عنهما : كلُّ شيء يُشربُ به فهو صُواعٌ ؛ وأنشد :[ الخفيف ]
٣١٢٤ نَشْرَبُ الخَمْرَ بالصُّواعِ جِهَاراً . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
قيل : إنما كان الطعَّام بالصَّواع مبالغة في إكرامهم.
وقال مجاهدٌ، وأبو صالح : الصُّواع الطرجهالة بلغة حميرٍ. وإنَّما اتخذ هذا الإناء مكيلاً لعزة ما يكال به في ذلك الوقت. وفيه قراءات كلُّها لغات في ذلك الحرف، ويُذكِّر، ويؤنَّث فالعامة :" صُوَاع " بزنة :" غُرَاب "، العين مهملة، وقرأ ابن جبير، والحسن كذلك إلاَّ أنه بالغين المعجمة وقرأ يحيى بن يعمر كذلك ؛ إلا أنه حذف الألف، وسكن الواو، وقرأ زيد بن عليِّ " صَوْغ " كذلك إلا أنه فتح الصَّاد، وجعله مصدراً ل :" صَاغَ " يَصُوغُ. والقراءتان [ قبله ] مشتقان منه وهو واقع موقع مفعول. أي : مصوغ الملك.
وقرأ أبو حميرة وابن جبير والحسن رضي الله عنهم في رواية عنهما " صِواعَ " كالعامة إلا أنهم كسروا الفاء. وقرأ أبو هريرة ومجاهد رضي الله عنهما :" صَاع " بزنة بَاب وألفه كألفه في كونها منقلبة عن واو مفتوحة وقرأ أبو رجاء :" صَوْع " بزنة " قَوْس ".
وقرأ عبدالله بن عون كذلك إلا أنه ضم الفاء فهذه ثمان قراءات متواترة وواحدة في الشاذ.
قوله :﴿ وَلِمَن جَآءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ ﴾ أي من الطعام، ﴿ وَأَنَاْ بِهِ زَعِيمٌ ﴾.
قال مجاهد : الزعيم هو المؤذن الذي أذن، والزعيم : الكفيل.
قال الكلبيُّ : الزَّعيمُ : هو الكفيل بلسانِ أهل اليمنِ.
روى أبو عبيدة عن الكسائيِّ : زعمْتُ بِهِ أزعُم زُعْماً وزَعَامَةً، أي : تكفلت به.
وهذه الآية تدلُّ على أنَّ الكفالة كانت صحيحة في شرعهم، وقد حكم بها رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله :" الزَّعيمُ غَارِمٌ ".
فإن قيل : هذه الكفالةُ شيءٌ مجهولٌ ؟.
فالجواب : حمل البعير من الطَّعام كان معلوماً عندهم، فصحت الكفالةُ به إلاَّ أن هذه الكفالة ما لرد السَّرقة، وهي كفالةٌ بما لم يجب ؛ لأنَّه لا يحلُّ للسَّارقِ أن يأخذ شيئاً على ردّ السِّرقةِ، ولعلّ مثل هذه الكفالة كانت تصحُّ عندهم.

فصل


قال القطربيُّ :" تجوز الكفالةُ عن الرِّجلُ ؛ لأنَّ المؤذن هو الضَّامنُ وهو غير يوسف صلوات الله وسلامه عليه.
قال علماؤنا : إذا قال الرجلُ : تحمَّلتُ، أو [ تكفلت ] أو ضمِنتُ، أو أنا حميلٌ لكل أو زعيمٌ، أو كفيلٌ، أو ضامنٌ، أو قبيلٌ، أو لك عندي، أو علي، أو إليّ، أو قبلي، فذلك كلُّه [ حَمالةٌ ] لازمةٌ.
واختلفوا فيمن تكفل بالنفس، أو بالوجه هل يلزمه ضمانُ المالِ ".
فقال الشافعيُّ رضي الله عنه في المشهور عنه، وأحمد : مَن تكفَّل بالنَّفس لم يلزمه الحقٌّ الذي على المطلوب إن ماتَ.
وقال مالكُ، والليثُ، والأوزاعيُّ : إذا تكفل نفسه، وعليه مال، فإن لم يأت به غرم المال، ويرجع به على المطلوب، فإن اشترط ضمان نفسه، أو وجهه، وقال : لا أضمن المال، فلا شيء عليه من المال ".

فصل


واختلفوا فيما إذا تكفَّل رجلٌ عن رجلٍ بمالٍ، هل للطالب أن يأخذ من شاء منهما ؟.
فقال الأوزاعيُّ، والشافعيُّ، وأحمد، وإسحاق : يأخذ من شاء منهما، وهذا كان قولم مالكٍ، ثمُّ رجع عنه فقال : لا يأخذُ من الكفيل إلاَّ أن يفلس الغريمُ، أو يغيبُ ؛ لأنَّ البداءة بالذي عليه الحق أولى إلاَّ أن يكون معدماً، فإنَّه يأخذُ من الحميل ؛ لأنه معذورٌ في أخذه في هذه الحالةِ، وهذا قولٌ حسنٌ، والقياسُ : أنَّ للرَّجُلِ مطالبة من شاء منهما.
وقال ابنُ أبي ليلى : إذا ضمن الرَّجلُ عن صاحبه مالاً ؛ تحوَّل على الكفيل، وبرىء الأصيل، إلاَّ أن يشترط المكفول له عليهما أن يأخذ من أيهما شاء.
قوله " تاللهِ " التاء حرف قسم، وهي عند الجمهور بدل من واو القسم ولذلك لا تدخل إلاَّ على الجلالة المعظمة، أو الرب مضافاً للكعبة، أو الرحمن في قول ضعيف، ولو قلت : تالرحْمن " لم يجز، وهي فرعُ الفرعِ. وهذا مذهب الجمهور.
وزعم السيهليُّ : أنهَّا أصلٌ بنفسها، ويلازمها التَّعجب غالباً كقوله :( تالله تفتأ تذكر يوسف ).
وقال ابنُ عطيَّة :" والتَّاء في " تَاللهِ " بدلٌ من واو، كما أبدلت في تراثٍ، وفي التَّوراةِ، وفي التخمة، ولا تدخلُ التَّاء في القسم، إلاَّ في المكتوبة، من بين أسماء الله تعالى وغير ذلك لا تقول تالرحمنِ، وتَا الرَّحيم " انتهى وقد تقدَّم أنَّ السُّهيليَّ خالف في كونها بدلاً من واوٍ.
وأمَّا قوله :" في التَّوراةِ " يريد عند البصريين، وزعم بعضهم أنَّ التَّاء فيها زائدةٌ، وأمَّا قوله " إلا في المكتُوبَةٍ " هذا هُوا المشهور، وقد تقدَّم دخولها على غير ذلك.
قوله :" مَا جِئْنَا " يجوز أن يكون معلقاً للعلم، ويجوز أن يضمن العلم نفسه معنى القسم فيجاب بما يجاب به القسم، وقيل هذان القولان في قول الشاعر :[ الكامل ]
٣١٢٥ ولقَدْ عَلمْتُ لتأتِينَّ مَنيِّتِي إنَّ المَنايَا لا تَطِيشُ سِهَامُهَا
قوله ﴿ وَمَا كُنَّا سَارِقِينَ ﴾ يحتمل أن يكون جواباً للقسم فيكونون قد أقسموا على شيئين : نفي الفساد، ونفي السَّرقة.

فصل


قال المفسرون : حلفوا على أمرين :
أحدهما : على أنهم ما جاءوا لأجل الفسادِ في الأرض ؛ لأنَّه ظهر من أحوالهم وامتناعهم من التصرف في أموال النَّاس بالكليَّة لا بأكل، ولا بإرسال في مزارع النَّاس حتَّى روي أ نهم كانوا يسدون أفواه دوابهم لئلا يفسد زرع النَّاس، وكانوا مواظبين على أنواع الطَّاعات.
والثاني : أنهم ما كانوا سارقين، وقد حصل لهم في شاهد قاطع، وهو أنهم لما وجدوا بضاعتهم في رحالهم حملوها من بلادهم إلى مصر، ولم يستحلُّوا أخذها والسارق لا يفعل ذلك ألبتَّة.
فلمَّا بينوا براءتهم من تلك التهمة قال أصحابُ يوسف صلوات الله عليه :﴿ فَمَا جَزَآؤُهُ إِن كُنتُمْ كَاذِبِينَ ﴾ فأجابوه، ﴿ قَالُواْ جَزَآؤُهُ مَن وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ ﴾
قال ابن عباسٍ رضي الله عنهما : كانوا يستعبدون في ذلك الزمان كُلَّ سارقٍ بسرقته، فلذلك قالوا :﴿ جَزَآؤُهُ مَن وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ ﴾ أي : فالسَّارقُ جزاؤه، أي : فيسلم السَّارق إلى المسرُوق منه، وكان سنة آل يعقوب في حكم السَّارق، وكان حكم ملك مصر أن يضرب السَّارق، ويغرمه قيمة المسروق، فأراد يوسف أن يحبس أخاه عند فردَّ الحكم إليهم ؛ ليتمكن من حبسه عنده على حكمهم
قوله تعالى :﴿ جَزَآؤُهُ مَن وُجِدَ فِي رَحْلِهِ ﴾ فيه أربعة أوجه :
أحدهما : أن يكون " جَزاؤهُ " مبتدأ، و الضمير للسَّارق، و " مَنْ " شرطيَّة أو موصولة مبتدأ ثاني، والفاء جواب الشَّرط، أو مزيدة في خبر الموصول لشبهه بالشَّرطِ و " مَنْ " وما في حيزها على وجهيها خبر المبتدأ الأوَّلِ، قاله ابن عطيَّة، وهو مردودٌ ؛ لعدم رابط بين المبتدأ، وبين الجملة الواقعة خبراً عنه، هكذا ردَّه أبو حيَّان عليه.
وليس بظاهر ؛ لأنَّه يجاب عنه بأن هذه المسألة من باب إقامة الظاهر مقام الضمير ويتَّضح هذا بتقدير الزمخشري رحمه الله فإنَّه قال :" ويجوز أن يكون " جَزاؤهُ " مبتدأ، والجملة الشرطية كما هي خبره، وعلى إقامة الظَّاهر فيها مقام المضمر، والأصل : جزاؤه، من وجد في رحله فهو هو، فوضع الجزاء موضع " هو " كما تقول لصاحبك : مَنْ أخُوا زيدٍ ؟ فيقول لك : من يقْعُد إلى جَنْبِهِ فهُو هو يرجع الضمير الأول إلى :" مَنْ "، والثاني إلى الأخِ، فتقولُ :" فهو أخوه " مقيماً الظاهر مقام المضمر ".
وأبو حيان جعل هذا المحكيّ عن الزَّمخشري وجهاً ثانياً بعد الأوَّلِ، ولم يعتقد أنه هو بعينه، ولا أنه جوابٌ عما ردَّ به على ابن عطيَّة.
ثمَّ قال :" وضع الظَّاهر موضع المضمر للرَّبطِ، وإنَّما هو فيصحٌ في مواضع التفخيم والتَّهويل، وغير فصيح فيما سوى ذلك، نحو : قام زيدٌ، وينزه عنه القرآن.
قال سيبويه :" لو قلت : كان زيدٌ منطلقا زيدٌ " لم يكن حدُّ الكلام وكان ههنا ضعيفاً، ولم يكن كقولك : مازيدٌ مُنْطلقاً هُوَ ؛ لأنك قد استغنيت عن إظَهاره، وإنَّما ينبغي لك أن تضمره ".
قال شهابُ الدِّين : ومذهبُ الأخفش أنَّه جائزٌ مطلقاً، وعليه بنى الزمخشريُّ، وقد جوَّز أبو البقاء ما توهم أنَّهُ جواب عن ذلك فقال :
والوجه الثالث : أن يكون " جَزاؤهُ " مبتدأ، و " مَنْ وُجِدَ " متبدأ ثان، و " هُوَ " مبتدأ ثالثُ، و " جَزَاؤهُ " خير الثالث، والعائدُ على المبتدأ الأول الهاء الأخيرة وعلى الثاني " هُوَ " انتهى.
وهذا الذي ذكره أبو البقاء لا يصح ؛ إذ يصير التقدير : فالذي وجد في رحله جزاؤه الجزاء ؛ لأنَّه جعل " هُوَ " عبارة عن المبتدأ الثاني، وهو :﴿ مَن وُجِدَ فِي رَحْلِهِ ﴾ وجعل الهاء الأخيرة، وهي التي في :" جَزاؤهُ " الأخير عائدةٌ على :" جَزاؤهُ " الأوَّل، فصار التقدير كما ذكرنا.
الوجه الثاني من الأوجه المتقدمة : أن يكون :" جَزَاؤهُ " مبتدأ، والهاء تعود على المسروق، و ﴿ مَن وُجِدَ فِي رَحْلِهِ ﴾ خبره، و " مَنْ " بمعنى الذي، والتقدير : جزاء الصّواع الذي وجد في رحله.
ولذلك كانت شريعتهم يسترق السَّارق ؛ لذلك استفتوا في جزائه، وقوله :﴿ فَهُوَ جَزَاؤُهُ ﴾ مبتدأ، وخبر مؤكدٌ لمعنى الأول، ولما ذكر أبو حيَّان هذا الوجه ناقلاً له عن الزمخشريُّ، قال :" وقال معناه ابنُ عطيَّة إلاَّ أنَّهُ جعل القول الواحد قولين، قال : ويصحُّ أن يكون " مَنْ " خبراً على أن المعنى : جزاء السَّارق من وجد في رحله، ويكون قوله :﴿ فَهُوَ جَزَاؤُهُ ﴾ زيادة بيانٍ وتأكيد، ثم قال : ويحتمل أن يكون التقدير : جزاؤه استرقاق من وجد في رحله، ثم يؤكد قوله :﴿ فَهُوَ جَزَاؤُهُ ﴾، وهذا القول هو الذي قبله غير أنَّهُ أبرز المضاف المحذوف في قوله : استرقاق من وجد في رحله، وفيما قبله لا بدَّ من تقديره ؛ لأنَّ الذَّات لا تكُون خبراً عن المصدرِ، فالتَّقدير في القول قبله : جزاؤهُ أخذ من وجد في رحله أو استرقاقه، هذا لا بُدَّ منه على هذا الإعراب.
وهذا ظاهره، أنه جعل المقول الواحد قولين.
الوجه الثالث من الأوجه المتقدمة : أن يكون :" جَزاؤهُ " خبر مبتدأ محذوف أي : المسئول عنه جزاؤه، ثمَّ أفتوا بقولهم :﴿ مَن وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ ﴾ كما تقول : من يَسْتَفتِ ] في جزاء صَيْدِ المحرمِ جزاءُ صَيْدِ المحرمِ، ثمَّ يقول :﴿ وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمِّداً فَجَزَآءٌ مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النعم ﴾ [ المائدة : ٩٥ ] قاله الزمخشري.
قال أبو حيَّان :" وهو متكلف، إذ تصير الجملة من قوله " المسئول عنه جزاؤه " على هذا التقدير، ليس فيه كبير فائدة، إذ قدلم علم من قوله :" فما جَزاؤهُ " أي الشيء المسئولُ عنه جزاء سرقته، فأيُّ فائدة في نطقهم بذلك، وكذلك القول في المثال الثَّاني الذي مثل به من قول المستفتي ".
قال شهابُ الدِّين :" قوله :" ليس فيه كبيرة فائدة " ممنوعٌ، بل فيه فائدة الإضمار المذكور في علم البيان، وفي القرآن أمثال ذلك ".
الوجه الرابع : أني كون " جَزَاؤهُ " مبتدأ، وخبره محذوف، تقديره : جزاؤه عندنا كجزائه عندكم، والهاء تعود على السَّارق، أو على المسروق، وفي الكلام المتقدِّم دليل عليهما، ويكون قوله :﴿ مَن وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ ﴾ على ما تقدَّم في الوجه الذي قبله وبها الوجه بدأ أبُوا البقاءِ رحمه الله ولم يذكره الشَّيخُ.
قوله :﴿ كذلك نَجْزِي الظالمين ﴾ محل الكاف نصب إمَّا على أنَّها نعت لمصدر محذوفٍ، إمَّا حال من ضميره، أي : مثل ذلك الجزاء الفظيع نجزي الضالمين أي : إذا سرق استرق.
قيل : هذا من بقيَّة كلام أخوة يوسف صلوات الله وسلامه عليه.
وقيل : إنهم لما قالوا :﴿ جَزَآؤُهُ مَن وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ ﴾ قال أصحاب يوسف :﴿ كذلك نَجْزِي الظالمين ﴾ ماليس لهم فعلُهُ من سرقة مال الغير، فعند ذلك قال لهم المؤذن : لا بُدَّ من تفتيش أوعيتكم، فانصرف بهم إلى يوسف.
﴿فَبَدَأَ﴾ يوسف: ﴿بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَآءِ أَخِيهِ﴾ لإزالة التُّهمة.
قرأ العامة: «وعَاءِ» بكسر الواو. وقرأ الحسن بضمها، وهي لغةٌ نقلت عن نافع أيضاً، وقرأ سعيد بن جبير: «مِنْ إعَاءِ أخيهِ» بإبدال الواو همزة وهي لغة هذيليَّة،
168
يبدلون من الواو المكسورة، أوَّل الكلمة همزة، فيقولون: إشاح وإسادة، وإعاء في «وِشَاح، ووِسَادة، ووِعَاء» وقد تقدَّم ذلك في الجلالة المعظمة أول الكتاب.
والأوعية: جمع وِعَاء. هو كلُّ ما إذا وضع فيه أحاط به.
قوله تعالى: ﴿ثُمَّ استخرجها﴾ في الضمير المنصوب قولان:
أحدهما: أنَّه عائد على الصّواع؛ لأنَّ فيه التَّذكير، والتَّأنيث، كما تقدَّم.
وقيل: لأنه حمل على معنى الساقية. قال أبو عبيدٍ: قولك: «الصُّواعُ» يؤنَّث من حيُ هو سقاية، ويذكَّر من حيث هو صواع.
قالوا: وكأنَّ أبا عبيد لم يحفظ في الصواع التَّأنيث.
وقال الزخشريُّ: «قالوا رجع بالتَّأنيث على السِّقاية» ثم قال: ولعلَّ يوسف كان يسمِّه سقاية، وعبيدة صواعاً، فقد وقع فيما يتَّصل به من الكلام سقاية، وفيما يتَّصل بهم منه صواعاً «.
وهذا الأخيرُ أحسنُ.
والثاني: أنَّ الضمير عائد على السَّرقة.
وفيه نظرٌ؛ لأنَّ السرقة لا تستخرج إلا بمجاز.

فصل


قال قتادة: ذكر لنا أنه كان لا يفتح متاعاً، ولا ينظرُ من وعاءٍ ألاَّ استغفر الله تعالى تائباً ممَّا قذفهم به، حتى إذا لم يبق إلاَّ رحْلُ بنيامين قال: ما أظنُّ هذا أخذه، فقال إخوتهُ: والله لا يتركُ حتَّى ينظر في رحله، فإنه أطيبُ لنفسكن ولأنفسنا، فلما فتحوا متاعه استخرجوه منه؛ فنكس إخوته رءوسهم من الحياء وقالوا: إنَّ هذه الواقعة عجيبةٌ، إنَّ راحيل ولدت ولدين لصين، وأقبلوا على بنيامين، وقالوا: أيش الذي صنعتن فضحتنا، وسوَّدت وجُوهنا، يا بني راحيل لا يزال لنا منكم بلاءٌ [حتى أخذت هذا الصواع، فقال بنيامين: بل بنو راحيل لا يزال لهم منكم بلاء] ذهبتهم بأخي، ثم أهلكتموه في البريَّةن ثم تقولون لي هذاه الكلام، قالوا له: كيف خرج الصُّواعُ من رحلك؟ فقال: وضع هذا الصوع في رحلي الذي وضع البضاعة في رحالكم، قالوا: فأخذ بنيامين رقيقاً.
قوله: ﴿كذلك كِدْنَا﴾ الكلام فيك ﴿كذلك كِدْنَا﴾ [٧٥] كالكلام فيما كان قبلها أيك مثل ذلك الكيد العظيم، أيك كما فعلوا في الابتداء بيوسف من الكيد فعلنا بهمن وقد مقال يعقوب ليوسف صلوات الله وسلامه عليه ﴿فَيَكِيدُواْ لَكَ كَيْداً﴾ [يوسف: ٥]، فكدنا ليوسف في أمرهم.
169
فالمراد من هذا الكيد: هو أنَّهُ تعالى ألقى ف يقلب أخوته: أن احكموا بأنَّ جزاء السَّارق هو أن يسترقَّ، لا جرم لما ظهر الصُّواعُ في رحله؛ حكموا عليه بالاسترقاق؛ وصار ذلك سبباً لتمكُّنِ يوسف صلوات الله وسلام عليه من إمساكِ أخيه عند نفسه.
واعلم أنَّ الكيد يشعر بالحِيلةِ، والخَديعة، وذلك في حقل الله تعالى محال إلا أنَّه قد تقدم أصل معتبر في هذا الباب، وهو أنَّ أمثال هذه الألفاظ في حق الله تعالى تحمل على نهايات الأغراض، لا على بداياتها، وتقرَّر ذلك عند قوله: ﴿إِنَّ الله لاَ يَسْتَحْى﴾ [البقرة: ٢٦] فالكيدُ: السَّعي في الحلية، والخديعة، ونهايته اشتغال الإنسان من حيث لا يشعر في أمرٍ مكروهٍ، ولا سبيل له إلى دفعه، فالكَيْدُ في حقِّ اله محمولٌ على هذا المعنى.
وقيل: المرادُ بالكيد ههنا: أنَّ أخوة يوسف سعوا في إبطال أمره، والله نصرهُ وقوَّاه، وأعلى أمرهُ.
قال القرطبي: قال ابن عبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما: «كِدْنَا» معناه: صنعنا. وقال القتبيُّ: دبَّرنا. وقال ابنُ الأنباري: أردنا؛ قال الشاعر: [الكامل]
٣١٢٦ - كَادَتْ وكِدْتُ وتِلْكَ خَيرٌ إرَادَةٍ لَوْ مِنْ عَهْدِ الصِّبَا ما قَدْ مَضَى
قوله: ﴿مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ﴾ تفسير للكيد، وبيان له، وذلك أنه كان في زمان ملك مصر أن يغرَّم السَّارق مثلي ما أخذ لا أنه يستعبد.

فصل


قال القرطبيُّ: «في الآية دليلٌ على جواز التَّوصل إلى الأغراض بالحيل إذا لم تخالف شريعة، ولا هدمت أصلاً خلافاً لأبي حنيفة رَضِيَ اللَّهُ عَنْه في تجويز الحيل وإن خالفت الأصول، وخرمت التحليل، وأجمعوا على أنَّ للرَّجُلِ التَّصرف في ماله قبل حُلولِ الحوْلِ بالبيع، والهبةِ إذا لم ينوا الفرارَ من الزَّكاةِ، وأجمعوا على أنَّه إذا حال الحولُنو أظلَّ السَّاعِي أنه لا يحلّ له التّحيل، ولا النُّقصانُ ولا أن يفرق بين مجتمع ولا أن يجمع بين متفرق».

فصل


قال ابنُ العربيّ: قال بعضُ الشَّافيعة: في قوله تعالى: ﴿وكذلك مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الأرض﴾ [يوسف: ٢١] دليل على وجه الحيلة إلى المباح، واستخراجِ الحقوق، وهذا وهمٌ عظيم، وقوله
170
تعالى: ﴿وكذلك مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الأرض﴾ [يوسف: ٢١] قيل فيه: لمَّا مكَّنا ليوسف ملك نفسه عن امرأة العزيز مكَّنَّا له ملك الأرض عند العزيز، وهذا لا يشبهُ ما ذكروهُ.
قال الشعفوي: ومثله قوله: ﴿وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فاضرب بِّهِ وَلاَ تَحْنَثْ﴾ [ص: ٤٤] هذا ليس حيلة، إنما هو حمل [اليمين] على الألفاظ، أو على المقاصد.
قوله: ﴿إِلاَّ أَن يَشَآءَ الله﴾ فيه وجهان:
أحدهما: أنه استنثاءٌ منقطعٌ تقديره: ولكن بمشيئة الله أخذه في دينٍ غير دينِ الملكِ، وهو دينُ آلِ يعقوب أنَّ الاسترقاق جزاءُ للسَّارقِ.
قال ابن عبَّاس رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: «فِي دِين الملِكِ» أي في سلطانه.
﴿إِلاَّ أَن يَشَآءَ الله﴾ أي: أنَّ يوسف لم يتمكن من حبس أخيه في حكم الملك لولا ما كدنا له بلطفنا، حتى وجد السبيل إلى ذلك، وهو ما جرى على [السنة] الإخوة أنَّ جزاء السارق الاسترقاق فحصل مراد يوسف بمشيئة الله.
والثاني: أنَّه مفرغ من الأحوال العامَّة، والتقدير: ما كان ليأخذه من كلِّ حالٍ إلا في حال التباسه بمشيئة الله عزَّ وجلَّ أي: إذنه في ذلك.
وكلاُ ابن عطيَّة محتملٌ فإنه قال والاستثناء حكاية حال، والتقدير: إلاَّ أن يشاء ما وقع من هذه الحيلة.
قوله: ﴿نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَآءُ﴾ تقدَّم القراءتان فيها في الأنعام [الأنعام: ٨٣].
وقرأ يعقوب بالياء من تحت «يَرْفعُ: ، و» يَشاءُ «والفاعل الله تعالى.
وقرأ عيسى البصري»
نَرْفَعُ «بالنون» دَرجَاتٍ «منونة، و» يَشَاءُ «بالياء.
قال صاحبُ اللَّوامحُ:»
وهذه قراءة مرغوبٌ عنها تلاوة، وجملة، وإن لم يمكن إنكارها «.
قال شهابُ الدِّين رَحِمَهُ اللَّهُ:»
وتوجيهها: أنَّهُ التفت في قوله «يَشَاءُ» من التَّكلُّم إلى الغيبةِ، والمراد واحدٌ «.
قوله: ﴿وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ﴾ قرأ عبد الله بن مسعود: (وفوق كل ذي عالم). وفيها ثلاثة أوجه:
171
أحدها: أن يكون» عَالِم «هنا مصدراً، قالوأ: مثل الباطل فإنَّهُ مصدر فهي كالقراءة المشهورة.
الثاني: أنَّ ثمَّ مضافاً محذوفاً، تقديره: وفوق كل ذي مسمى عالمٍ؛ كقوله: [الطويل]
٣١٢٧ - إلى الحَوْلِ ثمَّ اسْمُ السَّلامِ عَليْكُمَا... أي: مُسمَّى السِّلام.
الثالث: أنَّ»
ذو «زائدة؛ كقوله الكميت: [الطويل]
٣١٢٨ -....... ذَوِي آلِ النَّبيِّ...........................

فصل


قوله: ﴿نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَآءُ﴾ بالعلم كما رفعنا درجة يوسف على إخوته والمعنى: أنه خصَّه بأنواع العلوم.
وهذه الآية تدلُّ على أنَّ العلم أشرف المقامات، وأعلى الدَّرجات لأنه تعالى لما هدى يوسف إلى هذه الحيلة مدحه لأجل ذلك فقال: ﴿نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَآءُ﴾.
ثم قال: ﴿وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ﴾ قال ابن عبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما: ﴿وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ﴾ على إلى أن ينتهي العلم إلى الله عَزَّ وَجَلَّ فالله فوق كلِّ عالمٍ.
والمعنى: أنَّ إخوة يوسف كانوا علماء فضلاء، إلاَّ أنَّ يوسف كان زائداً عليهم في العلم.
واحتجَّ المعتزلةُ بهذه الآيةِ على أنَّهُ تعالى عالم لذاته؛ لأنَّه لو كان عالماً بالعلم، لكان ذا علم، ولو كان كذلك لحصل فوقه عليهم تمسكاً بهذه الآية.
قال ابن الخطيب:»
وهذا باطلٌ؛ لأن أصحابنا قالوا: دلَّت سائر الآيات على إثبات العلم باللهِ تعالى وهو قوله: ﴿إِنَّ الله عِندَهُ عِلْمُ الساعة﴾ [لقمان: ٣٤] {أَنزَلَهُ
172
بِعِلْمِهِ} [النساء: ١٦٦]، ﴿وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ﴾ [البقرة: ٢٥٥]، ﴿وَلاَ تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ﴾ [فاطر: ١١] وإذا وقع التَّعارضُ، فنحن نحملُ الآية التي تمسَّك بها الخصمُ على واقعة يوسف وإخوته، غاية ما في الباب أنه يوجب تخصيص عموم إلا أنَّه لا بد من المصير إليه؛ لأن العالم مشتقٌّ من العلم، والمشتقُّ منه مفردٌ، وحصول المركب بدون حصول المفرد محالٌ في بديهة العقلِ، فكان التَّرجيحُ من جانبنا «.
قوله: ﴿فَقَدْ سَرَقَ﴾ الجمهور على «سرقَ»
مخففاً مبنيًّا للفاعل، وقرأ أحمدُ بن جبير الأنطاكيُّ، وابن شريحٍ عن الكسائيِّ، والوليد بن حسان عن يعقوب في آخرين: «سُرِّقَ» مشدداً مبينًّا للمفعول أي: نسب إلى السرقة؛ لأنَّهُ ورود في التَّفسيرِ: أنَّ عمته ربته، فأخذاهُ أبوه منها؛ فشدت في وسطه منطقة كانوا يتوارثونها من إبراهيم صلوات الله وسلامه عليه ففتشوا فوجودها تحت ثيابه، فقالت: هو لي، فأخذته كما في شريعتهم، ومن هنا تعلم يوسف وضع السِّقاية في رحل أخيه، كما فعلت به عمَّتهُ، وهذه القراءة منطبقةٌ على هذا.
وقال سعيدُ بن جبيرٍ: كان لجدِّهِ أبي أمه صنمٌ يعبده، فأخذه سراً، وكسره وألقاهُ في الطَّريق.
وقال مجاهدٌ: أخذ بيضةً من البيتِ فأعطاها سائلاً. وقيل: دجاجة وقال وهبٌ رَحِمَهُ اللَّهُ: كان يُخبىءُ الطَّعام من المائدة للفقراء فقالوا للملك: إنَّ هذا ليْسَ بغَريبٍ منهُ، فإنَّ أخاهُ الَّذي هلك كان أيضاً سارقاً، أي إنَّا لسنا على طريقته، ولا على سيرته، وهو وأخوه مختصان بهذه الطَّريقةِ؛ لأنهما من أم أخرى.
قوله: «فأسرَّها» قال بعضهم: الضَّمير المنصوب مفسَّر لسياق الكلام، أي: فأسرَّ الحزازة التي حصلت له من قولهم: ﴿فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَّهُ﴾ ؛ كقوله: [الطويل]
٣١٢٩ - أمَاوِيَّ ما يُغْنِي الثَّراءُ عَنِ الفَتَى إذَا حَشْرجَتْ يَوْماً وضَاقَ بِهَا الصَّدرُ
فالضمير في «حَشْرَجَتْ» يعود على النَّفسِ، كذا ذكرهُ أبو حيَّان.
173
وقد جعل بعضهم البيت ممَّا فُسِّر فيه الضمير بذكْرِ ما هُو كلُّ لصاحبِ الضَّمير، فلا يكُونُ ممَّا فُسِّر فيه بالسِّياقِ.
وقال الزخشريُّ إضمارٌ على شريطةِ التَّفسيرِ، يفسره «أنْتُمْ شَرٌّ مَكَاناً» وإنَّما أنَّث؛ لأن قوله: «شَرٌّ مَكَاناً» جملة، أو كلمة على تسميتهم الطَّائفة من الكلام كلمة، كأنَّه قيل: فأسر الجملة، أو الكلمة التي هي قوله: ﴿أَنْتُمْ شَرٌّ مَّكَاناً﴾ قال: لأن قوله: ﴿أَنْتُمْ شَرٌّ مَّكَاناً﴾ بدل من «أسَرَّها».
قال شهابُ الدِّينك وهذا عند من يبلد الظاهر من المضمر في غير المرفوع؛ نحو ضَرَبتهُ زيداً، والصحيح وقوعه؛ كقوله: [الرجز]
٣١٣٠ - فَلاَ تَلُمْهُ أنْ يَخَافَ البَائِسَا... وقرأ عبد الله وابنُ أبِي عبلة: «فأسَرَّهُ» بالتَّذكيرِ قال الزخشريُّ «يريد القول، أو الكلام».
وقيل: في الكلام تقديمٌ وتأخيرٌ، وتقديره: قال في نفسه: ﴿أَنْتُمْ شَرٌّ مَّكَاناً﴾ وأسرَّها أي هذه الكلمة.
قال شهاب الدين: ومثل هذا ينبغي ألاَّ يقال، فإنَّ القرآن ينزَّهُ عنه و «مَكَاناً» تتميز، أي: منزلة من غيركم، والمعنى: أنتم شرٌّ منزلاً عند الله ممن رميتموه بالسَّرقةِ في صنيعكم بيوسف؛ لأنه لم يكن من يوسف سرقة حقيقة، وخيانتكم حقيقة.
وقد طعن الفارسيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ على كلام الزمخشريِّ من وجهين:
الأول: قال الإضمارُ على شريطة التفسير يكون على ضربين:
أحدهما: أن يفسَّر بمفردٍ، كقولنا: نِعْمَ رجُلاً زيدٌ، ففي: «نعم» ضمير فاعلها و «رَجُلاًُ» تفسير لذلك الفاعل المضمر.
والآخر: أن يفسر بجملة، وأصلُ هذا يقع به الابتداء، كقوله: {فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ
174
أَبْصَارُ الذين كَفَرُواْ} [الأنبياء: ٩٧] و ﴿قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ﴾ [الإخلاص: ١] والمعنى: القصَّة شاخصة أبصار الذين كفروا والأمر: الله أحد، ثمَّ إنَّ العوامل الداخلة على المبتدأ والخبر تدخل عليه أيضاً، كقوله ﴿إِنَّهُ مَن يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً﴾ [طه: ٧٤] ﴿فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الأبصار﴾ [الحج: ٤٦].
وإذا عرفت هذا فنقول: نفس المضمر على شريطة التَّفسير في كلا الجملتين متَّصلٌ بالجملة التي فهيا الإضمار، ولا يكون خارجاً عن تلك الجملة، ولا مبايناً لها، وههنا التفسير منفصل عن الجملة الَّتي حصل فيها الإضمار؛ فوجب ألاَّ يحسن.
والثاني: أنَّهُ تعالى قال: ﴿أَنْتُمْ شَرٌّ مَّكَاناً﴾ وذلك يدل على أنه ذكر ذكر ذلك الكلام، ولو قلنا: إنَّهُ صلوات الله وسلامه عليه أضمر هذا الكلام لكان قوله: ﴿أَنْتُمْ شَرٌّ مَّكَاناً﴾ كذباً.
قال ابن الخطيب: «وهذا الطَّعنُ ضعيفٌ من وجوه:
الأول: لا يلزمُ من حسن القسمين الاولين قبح قسمٍ ثالثٍ.
وأما الثاني: فلأنا نحملُ ذلك على أنه صلوات الله وسلامه عليه قال ذلك على سبيل الخفيبة، وبهذا [التقسيم] سقط السُّؤالُ.
والوجه الثاني: وهو أنَّ الضمير في قوله:»
فأسَرَّهَا «عائدٌ إلى الإجابة، كأنَّهم لما قالوا: ﴿فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَّهُ مِن قَبْلُ﴾ أسرَّ يوسف عليه السلام إجابتهم في نفسه في ذلك الوقت، ولم يبدها لهم في تلك الحالة إلى وقتٍ ثانٍ، ويجوز أن يكون إضماراً للمقالة، والمعنى: أسرَّ يوسف مقالتهم، والمراد من المقالةِ متعلق تلك المقالة؛ كما يرادُ بالخلقِ الملخوقُ، وبالعِلْمِ المَعْلُوم، يعني: أسرَّ يوسف كيفية تلك السَّرقة، ولم يبين لهم أنها كيف وقعت، وأنه ليس فيها ما يوجب الطَّعن».
رُوِيَ عن ابن عبَّاس رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أنه قال: عُوقِبَ يوسف ثلاث مرَّاتِ: لأجْلِش همِّه بها؛ فعُوقِبَ بالحَبْسِ، وبقوله: ﴿اذكرني عِندَ رَبِّكَ﴾ [يوسف: ٤٢] ؛ عوقب بالحبل الطَّويل، وبقولهك «إنَّكُم لسَارقُونَ» ح عوقب بقوله: ﴿فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَّهُ مِن قَبْلُ﴾.
ثم قال: ﴿أَنْتُمْ شَرٌّ مَّكَاناً﴾، أي: أنتم شرٌّ منزلة عند الله، بما أقدمتم عليه من ظلم أخيكم، وعقوق أبيكم؛ ثم بعتموه بعشرين درهماً، ثمَّ بعد المدَّة الطويلة، والزَّمان المديد، ما زال الحقدُ والغضبُ عن قلوبكم؛ فرميتموه بالسَّرقة، ﴿والله أَعْلَمْ بِمَا تَصِفُونَ﴾، أي: إن سرقة يوسف كانت لله رضا؛ فلا توجب عود الذمِّ، واللَّوم إليه.
175
قوله :﴿ فَقَدْ سَرَقَ ﴾ الجمهور على " سرقَ " مخففاً مبنيًّا للفاعل، وقرأ أحمدُ بن جبير الأنطاكيُّ، وابن شريحٍ عن الكسائيِّ، والوليد بن حسان عن يعقوب في آخرين :" سُرِّقَ " مشدداً مبينًّا للمفعول أي : نسب إلى السرقة ؛ لأنَّهُ ورد في التَّفسيرِ : أنَّ عمته ربته، فأخذهُ أبوه منها ؛ فشدت في وسطه منطقة كانوا يتوارثونها من إبراهيم صلوات الله وسلامه عليه ففتشوا فوجدوها تحت ثيابه، فقالت : هو لي، فأخذته كما في شريعتهم، ومن هنا تعلم يوسف وضع السِّقاية في رحل أخيه، كما فعلت به عمَّتهُ، وهذه القراءة منطبقةٌ على هذا.
وقال سعيدُ بن جبيرٍ : كان لجدِّهِ أبي أمه صنمٌ يعبده، فأخذه سراً، وكسره وألقاهُ في الطَّريق.
وقال مجاهدٌ : أخذ بيضةً من البيتِ فأعطاها سائلاً. وقيل : دجاجة وقال وهبٌ رحمه الله : كان يُخبىءُ الطَّعام من المائدة للفقراء فقالوا للملك : إنَّ هذا ليْسَ بغَريبٍ منهُ، فإنَّ أخاهُ الَّذي هلك كان أيضاً سارقاً، أي إنَّا لسنا على طريقته، ولا على سيرته، وهو وأخوه مختصان بهذه الطَّريقةِ ؛ لأنهما من أم أخرى.
قوله :" فأسرَّها " قال بعضهم : الضَّمير المنصوب مفسَّر لسياق الكلام، أي : فأسرَّ الحزازة التي حصلت له من قولهم :﴿ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَّهُ ﴾ ؛ كقوله :[ الطويل ]
٣١٢٩ أمَاوِيَّ ما يُغْنِي الثَّراءُ عَنِ الفَتَى إذَا حَشْرجَتْ يَوْماً وضَاقَ بِهَا الصَّدرُ
فالضمير في " حَشْرَجَتْ " يعود على النَّفسِ، كذا ذكرهُ أبو حيَّان.
وقد جعل بعضهم البيت ممَّا فُسِّر فيه الضمير بذكْرِ ما هُو كلُّ لصاحبِ الضَّمير، فلا يكُونُ ممَّا فُسِّر فيه بالسِّياقِ.
وقال الزخشريُّ إضمارٌ على شريطةِ التَّفسيرِ، يفسره " أنْتُمْ شَرٌّ مَكَاناً " وإنَّما أنَّث ؛ لأن قوله :" شَرٌّ مَكَاناً " جملة، أو كلمة على تسميتهم الطَّائفة من الكلام كلمة، كأنَّه قيل : فأسر الجملة، أو الكلمة التي هي قوله :﴿ أَنْتُمْ شَرٌّ مَّكَاناً ﴾ قال : لأن قوله :﴿ أَنْتُمْ شَرٌّ مَّكَاناً ﴾ بدل من " أسَرَّها ".
قال شهابُ الدِّين : وهذا عند من يبلد الظاهر من المضمر في غير المرفوع ؛ نحو ضَرَبتهُ زيداً، والصحيح وقوعه ؛ كقوله :[ الرجز ]
٣١٣٠ فَلاَ تَلُمْهُ أنْ يَخَافَ البَائِسَا ***
وقرأ عبدالله وابنُ أبِي عبلة :" فأسَرَّهُ " بالتَّذكيرِ قال الزخشريُّ " يريد القول، أو الكلام ".
وقيل : في الكلام تقديمٌ وتأخيرٌ، وتقديره : قال في نفسه :﴿ أَنْتُمْ شَرٌّ مَّكَاناً ﴾ وأسرَّها أي هذه الكلمة.
قال شهاب الدين : ومثل هذا ينبغي ألاَّ يقال، فإنَّ القرآن ينزَّهُ عنه و " مَكَاناً " تمييز، أي : منزلة من غيركم، والمعنى : أنتم شرٌّ منزلاً عند الله ممن رميتموه بالسَّرقةِ في صنيعكم بيوسف ؛ لأنه لم يكن من يوسف سرقة حقيقة، وخيانتكم حقيقة.
وقد طعن الفارسيُّ رحمه الله على كلام الزمخشريِّ من وجهين :
الأول : قال الإضمارُ على شريطة التفسير يكون على ضربين :
أحدهما : أن يفسَّر بمفردٍ، كقولنا : نِعْمَ رجُلاً زيدٌ، ففي :" نعم " ضمير فاعلها و " رَجُلاًُ " تفسير لذلك الفاعل المضمر.
والآخر : أن يفسر بجملة، وأصلُ هذا يقع به الابتداء، كقوله :﴿ فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الذين كَفَرُواْ ﴾ [ الأنبياء : ٩٧ ] و ﴿ قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ ﴾ [ الإخلاص : ١ ] والمعنى : القصَّة شاخصة أبصار الذين كفروا والأمر : الله أحد، ثمَّ إنَّ العوامل الداخلة على المبتدأ والخبر تدخل عليه أيضاً، كقوله ﴿ إِنَّهُ مَن يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً ﴾ [ طه : ٧٤ ] ﴿ فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الأبصار ﴾ [ الحج : ٤٦ ].
وإذا عرفت هذا فنقول : نفس المضمر على شريطة التَّفسير في كلا الجملتين متَّصلٌ بالجملة التي فهيا الإضمار، ولا يكون خارجاً عن تلك الجملة، ولا مبايناً لها، وههنا التفسير منفصل عن الجملة الَّتي حصل فيها الإضمار ؛ فوجب ألاَّ يحسن.
والثاني : أنَّهُ تعالى قال :﴿ أَنْتُمْ شَرٌّ مَّكَاناً ﴾ وذلك يدل على أنه ذكر ذكر ذلك الكلام، ولو قلنا : إنَّهُ صلوات الله وسلامه عليه أضمر هذا الكلام لكان قوله :﴿ أَنْتُمْ شَرٌّ مَّكَاناً ﴾ كذباً.
قال ابن الخطيب :" وهذا الطَّعنُ ضعيفٌ من وجوه :
الأول : لا يلزمُ من حسن القسمين الاولين قبح قسمٍ ثالثٍ.
وأما الثاني : فلأنا نحملُ ذلك على أنه صلوات الله وسلامه عليه قال ذلك على سبيل الخفية، وبهذا [ التقسيم ] سقط السُّؤالُ.
والوجه الثاني : وهو أنَّ الضمير في قوله :" فأسَرَّهَا " عائدٌ إلى الإجابة، كأنَّهم لما قالوا :﴿ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَّهُ مِن قَبْلُ ﴾ أسرَّ يوسف عليه السلام إجابتهم في نفسه في ذلك الوقت، ولم يبدها لهم في تلك الحالة إلى وقتٍ ثانٍ، ويجوز أن يكون إضماراً للمقالة، والمعنى : أسرَّ يوسف مقالتهم، والمراد من المقالةِ متعلق تلك المقالة ؛ كما يرادُ بالخلقِ الملخوقُ، وبالعِلْمِ المَعْلُوم، يعني : أسرَّ يوسف كيفية تلك السَّرقة، و لم يبين لهم أنها كيف وقعت، وأنه ليس فيها ما يوجب الطَّعن ".
رُوِيَ عن ابن عبَّاس رضي الله عنه أنه قال : عُوقِبَ يوسف ثلاث مرَّاتِ : لأجْلِ همِّه بها ؛ فعُوقِبَ بالحَبْسِ، وبقوله :﴿ اذكرني عِندَ رَبِّكَ ﴾ [ يوسف : ٤٢ ] ؛ عوقب بالحبس الطَّويل، وبقوله :" إنَّكُم لسَارقُونَ " عوقب بقوله :﴿ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَّهُ مِن قَبْلُ ﴾.
ثم قال :﴿ أَنْتُمْ شَرٌّ مَّكَاناً ﴾، أي : أنتم شرٌّ منزلة عند الله، بما أقدمتم عليه من ظلم أخيكم، وعقوق أبيكم ؛ ثم بعتموه بعشرين درهماً، ثمَّ بعد المدَّة الطويلة، والزَّمان المديد، ما زال الحقدُ والغضبُ عن قلوبكم ؛ فرميتموه بالسَّرقة، ﴿ والله أَعْلَمْ بِمَا تَصِفُونَ ﴾، أي : إن سرقة يوسف كانت لله رضا ؛ فلا توجب عود الذمِّ واللَّوم إليه.
قوله تعالى: ﴿يا أيها العزيز إِنَّ لَهُ أَباً شَيْخاً كَبِيراً﴾ الآية.
اعلم: أنهم لمَّا قالوا: ﴿إن سرق فقد سرق أخ له من قبل﴾، أحبُّوا موافقته، والعدول إلى طريق الشَّفاعة، وأنهم، وإن كانوا قد اعترفوا بأن حكم الله في السارق أن يستعبد، إلاَّ أنَّ العفو وأخذ الفداء كان أيضاً جائزاً؛ فقالوا: ﴿يا أيها العزيز إِنَّ لَهُ أَباً شَيْخاً كَبِيراً﴾، في السنِّ، ويجوز أن يكون في القدر، والدِّين؛ لأن قولهم: «شَيْخاً» يعلم منه كبر سنه، وإنَّما ذكروا ذلك؛ لأنَّ كونه ابناً لرجلٍ كبير القدرِ يوجب العفو [والصفح].
قوله: مَكانَهُ «فيه وجهان:
أظهرهما: أنَّ»
مَكَانهُ «: نصب [على الظرف]، والعامل فيه:» خُذْ «.
والثاني: أنه ضمَّن»
خُذْ «معنى:» اجْعَلْ «، فيكونُ:» مَكَانهُ «في محلٌ المفعول الثاني.
واقل الزمخشريُّ:»
فخُذْ بدله على جهةِ الاسترهانِ؛ حتَّى نردّ الفداء إليك، أو الاستعباد «.
ثم قالوا: ﴿إِنَّا نَرَاكَ مِنَ المحسنين﴾، لو فعلت ذلك.
وقيل: من المحسنين إلينا في توفية الكيل، وحسن الضِّيافة، وردِّ البضاعة.
وقيل: من المحسنين في أفعالك، وقيل: لما اشتدّ القحطُ على القوم، ولم يجدوا ما يشترون به من الطَّعام، وكانوا يبيعون أنفسهم، فصار ذلك سبباً لصيرورة أكثر أهل مصر عبيداً له، ثم أعتق الكُلّ قالوا: ﴿إِنَّا نَرَاكَ مِنَ المحسنين﴾ إلى عامة النَّاس بالإعتاق، فكن محسناً أيضاً إلى هذا الإنسان بالإعتاق من هذه المحنة.
فقال يوسف: ﴿مَعَاذَ الله﴾ أي أعوذ بالله معاذاً ﴿أَن نَّأْخُذَ إِلاَّ مَن وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِندَهُ﴾ أي أعوذُ باللهِ أن نأخذ بريئاً بمذنب.
قال الزجاج:»
موضع «إنْ» نصب، والمعنى: أعوذُ باللهِ من أخذِ أحدٍ بيغره، فلمَّا سقطت كلمة: «مَنْ» تعدَّى الفعل «.
وقوله: ﴿إِنَّآ إِذاً﴾ حرف جواب وجزاء، تقدَّم الكلام [النساء: ٦٧ البقرة: ١٤] على أحكامها.
والعنى: لقد تعدّيت، وظلمت، إن إخذت بريئاً بجُرمٍ صدر من غيره، فقال:
فقال يوسف :﴿ مَعَاذَ الله ﴾ أي أعوذ بالله معاذاً ﴿ أَن نَّأْخُذَ إِلاَّ مَن وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِندَهُ ﴾ أي أعوذُ باللهِ أن نأخذ بريئاً بمذنب.
قال الزجاج :" موضع " إنْ " نصب، والمعنى : أعوذُ باللهِ من أخذِ أحدٍ بغيره، فلمَّا سقطت كلمة :" مَنْ " تعدَّى الفعل ".
وقوله :﴿ إِنَّآ إِذاً ﴾ حرف جواب وجزاء، تقدَّم الكلام [ النساء : ٦٧ البقرة : ١٤ ] على أحكامها.
والمعنى : لقد تعدّيت، وظلمت، إن إخذت بريئاً بجُرمٍ صدر من غيره، فقال :﴿ مَعَاذَ الله أَن نَّأْخُذَ إِلاَّ مَن وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِندَهُ ﴾ ولم يقل :" مَنْ سَرَقَ " تحرُّزاً من الكذب.
فإن قيل : هذه الواقعةُ من أوَّلها إلى آخرها، تزوير وكذب، فكيف يجوز ليوسف مع رسالته الإقدام على التَّزوير، وإيذاء النَّاس من غير ذنب لا سيَّما ويعلم أنَّهُ إذا حبس أخاه عنده بهذه التُّهمةِ فإنه يعظمُ حزنُ إبيه، ويشتدُّ غمُّه، فكيف يليقُ بالرسول المعصوم المباغلة في التَّزويرِ إلى هذا الحدّ ؟ !.
فالجواب : لعلَّه تعالى أمره بذلك تشديداً للمحنة على يعقوب، ونهاه عن العفوِ والصَّفح، وأخذ البدل، كما أمر تعالى صاحب موسى عليه الصلاة والسلام بقتل من لو بَقِي لَطَغَى وكفَر.
﴿مَعَاذَ الله أَن نَّأْخُذَ إِلاَّ مَن وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِندَهُ﴾ ولم يقل:» مَنْ سَرَقَ «تحرُّزاً من الكذب.
فإن قيل: هذه الواقعةُ من أوَّلها إلى آخرها، تزوير وكذب، فكيف يجوز ليوسف مع رسالته الإقدام على التَّزوير، وإيذاء النَّاس من غير ذنب لا سيَّما ويعلم أنَّهُ إذا حبس أخاه عنده بهذه التُّهمةِ فإنه يعظمُ حزنُ إبيه، ويشتدُّ غمُّه، فكيف يليقُ بالرسول المعصوم المباغلة في التَّزويرِ إلى هذا الحدّ؟!.
فالجواب: لعلَّه تعالى أمره بذلك تشديداً للمحنة على يعقوب، ونهاه عن العفوِ والصَّفح، وأخذ البدل، كما أمر تعالى صاحب موسى عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ بقتل من لو بَقِي لَطَغَى وكفَر.
قوله
: ﴿فَلَمَّا
استيأسوا
«اسْتَفْعَلَ»
هنا بمعنى «فَعِلَ» المجرَّد يقال: يَئِسَ، واسْتَيْأس [بمعنى] نحو «عَجِبَ واسْتَعْجَبَ، وسَخِرَ، واسْتَخَرَ.
وقال الزمخشري: وزيادة التَّاء والسِّين في المبالغة نحو ما مرَّ في:»
اسْتَعْصَمَ «وقرأ البزيُّ عن ابن كثير بخلاف عنه:» اسْتَأيَسُوا «بألف بعد التاء ثم ياء وكذلك في هذه السورة: ﴿وَلاَ تَيْأَسُواْ مِن رَّوْحِ الله﴾ [يوسف: ٨٧] إنَّه لا يَيْأسُ ﴿حتى إِذَا استيأس الرسل﴾ [يوسف: ١١٠]، وفي الرعد: ﴿أَفَلَمْ يَيْأَسِ﴾ [الرعد: ٣١] الخلاف واحد.
فأمَّا قرأءة العامة: فهي الأصل، إذ يقال: يَئِسَ، فالفاء ياء، والعين همزة وفيه [لغة] أخرى، وهي القلبُ [الرعد: ٣١] بتقديم العين على الفاءِ، فيقال: أيِسَ، ويدلُّ على ذلك شيئان:
أحدهما: المصدر الذي هو اليأسُ.
والثاني: أنَّه لو لم يكن مقلوباً للزم قلبُ الياءِ ألفاً، لتحركها، وانفتاح ماقبلها، ولكن منع من ذلك كون الياءِ في موضع لا تعلُّ فيه ما وقعت موقعه، وقراءة ابن كثير من هذا، ولما قلب الكلمة أبدل من الهمزة ألفاً لسكونها بعد فتحة، إذ صارت كهمزة رأس، وكأس، وإن لم يكن من أصله قلب الهمزة السَّاكنة حتىعلَّةِ وهذا كما تقدَّم أنه يقرأ»
177
القرآن «بالألف، وأنَّه يحتملُ أن يكون نقل حركة الهمزة، وإن لم يكن من أصله النقل.
قال أبو شامة بعد أن ذكر هذه الكلمات الخمسِ الَّتي وقع فيها الخلافُ»
وكذلك رسمت في المصحف، يعني كما قرأها البزيُّ يعنى بالألف مكان الياءِ، وبياء مكان الهمزة «.
وقال أبو عبد الله: واختلفت هذه الكلمات في الرَّسم، فرسم:»
يَأيَس «،» ولا تَأيسُوا «بألف، ورسم الباقي بغير ألف.
قال شهابُ الدين:»
وهذا هو الصَّوابُ، وكأنَّه غفلة من أبي شامة «.
ومعنى الآية:»
فلمَّا أيسُوا من يوسف أن يجيبهم إلى ما سألوا «.
وقال أبو عبيدة:»
اسْتَيْأسُوا «: استيقنوا أنَّ الأخ لا يرد إليهم.
قوله: ﴿خَلَصُواْ نَجِيّاً﴾ قال الواحديُّ: يقال: خلص الشَّيء يخلصُ خلوصاً إذا انفصل من غيره، ثم فيه وجهان:
أحدهما: قال الزجاج، خلصوا: أي: انفردوا، وليس معهم أخوهم.
وقال الباقون: تميزوا عن الأجانب، وهذا هو الأظهر، أي: خلا بعضهم ببعضٍ يتناجون ويتشاورون لا يخالطهم غيرهم.
وأمَّا قوله:»
نَجِيًّا «حال من فاعل:» خَلصُوا «أي: اعتزلوا في هذه الحالِ وإنَّما أفردت الحال، وصاحبها جمع، إمَّا لأن النَّجيَّ فعيلٌ بمعنى مفاعل كالعشير والخليط بمعنى المُخالِط والمُعاشِر، كقوله ﴿وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيّاً﴾ [مريم: ٥٢] أي: مناجياً وهذا في الاستعمال يفرد مطلقاً، يقال: هُم خَليطُكَ وعَشِيرتُك، أي: مخالطوك ومعاشروك وإما لأنَّه صفة على فعيل بمنزلة صَدِيق، وبابه يوحد، لأنه يزنة المصارد كالصَّهيل، والوجيب والذَّميل، وإمَّا لأنه مصدرٌ بمعنى التَّناجي كما قيل: النَّجْوى بمعناه، قال تعالى:
﴿وَإِذْ هُمْ نجوى﴾ [الإسراء: ٤٧]، وحينئذ يكون فيه التأويلات المذكورات في: «رجُلٌ عدلٌ»
وبابه، ويحمع على «أنْجِيَة»، وكان من حقِّه إذا جعل وصفاً أن يجمع على «أفْعِلاء»، ك «غَنِيّ»، وأغْنِيَاء «و» شَقِيّ، وأشْقِيَاء «؛ ومن مجيئه على» أنجِيَة «قول الشاعر: [الرجز] هناك أوصيني ولا تُوصِي بِيَهْ... وقول لبيد: [الكامل]
178
٣١٣١ - إنِّي إذَا ما القَوْمُ كَانُوا أنْجِيَهْ واضْطَرَبَ القَوْمُ اضطِرابَ الأرْشِيَهْ
٣١٣٢ - وشَهِدْتُ أنْجِيةً الأفَاقةِ عَالِياً كَعبي وَأرْدَافُ المُلوكِ شُهُودُ
وجمعه كذلك يقوي كونه جامداً، إذ يصيرُ كرغيب، وأرغِفَة.
وقال البغويُّ: النَّجِي يصلحُ للجماعة، كما قال ههنا، وللواحد كما قال: ﴿وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيّاً﴾ [مريم: ٥٢] وإنما جاز للواحد والجمع؛ لأنه مصدر جعل نعتاً كالعدل، ومثله النَّجوى يكونُ اسماً، ومصدراً، قال تعالى ﴿وَإِذْ هُمْ نجوى﴾ [الإسراء: ٤٧] أي: مُتنَاجِين، وقال حل ذكره ﴿مَا يَكُونُ مِن نجوى ثَلاَثَةٍ﴾ [المجادلة: ٧] وقال في المصدر ﴿إِنَّمَا النجوى مِنَ الشيطان﴾ [المجادلة: ١٠].
قال ابن الخطيب:» وأحسنُ الوجوه أن يقال: إنَّهم تمحَّضُوا تناجياً؛ وأنَّ من كمل حصول أمرٍ من الأمُورِ فيه وصف بأنَّه صار غير ذلك الشَّيء فلما أخذوا في التَّناجي على غاية الجدِّ؛ صاروا كأنهم في أنفسهم صاروا نفس التَّناجِي في الحقيقة «.
»
قالَ كَبيرُهمْ «في العقل، والعلم لا في السنِّ، وهو» يَهُوذَا «، قاله ابن عباسٍ، والكلبي.
وقال مجاهدٌ: شمعون، وكانت له الرِّئاسةُ على إخوته.
وقال قتادة، والسديُّ، والضحاك: وهو روبيلُ، كان أكبرهم في السنِّ، وهو الذي نهاهم عن قتل يوسف عليه السلام.
﴿أَلَمْ تعلموا أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَّوْثِقاً﴾ : عهداً: ﴿مِّنَ الله﴾، وأيضاً: نحنُ متَّهمُونَ بواقعة يوسف.
قوله ﴿وَمِن قَبْلُ مَا فَرَّطتُمْ﴾ في هذه الآية وجوه ستة:
أظهرها: أنَّ»
مَا «مزيدة فيتعلَّق الظَّرف بالعفل بعدها، والتقدير: ومن قبل هذا فرَّطتم، أي: قصَّرتم في حقِّ يوسف، وشأنه، وزيادة» مَا «كثيرة، وبه بدأ الزمخشري وغيره.
الثاني: أن تكون»
مَا «مصدرية في محلِّ رفع بالابتداء، والخبر الظَّرف المتقدم قال الزمخشريُّ: على أنَّ محل المصدر الرَّفع بالابتداء، والخبر الظرف وهو» مِنْ قَبْلُ «،
179
والمعنى: وقع من قبل تفريطكم في يوسف عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ وإلى هذا نحا ابنُ عطيَّة أيضاً فإنَّه قال: ولا يجوز أن يكون قوله:» مِنْ قَبْلُ «متعلقاً ب:» مَا فَرَّطْتُمْ «، وأنَّ» مَا «تكون على هذا مصدرية، والتقدير: ومن قَبْلِ تفريطكم في يوسف واقعٌ، أو مستقرٌ وبهذا المقدر يتعلق قوله:» مِنْ قَبْلُ «.
قال أبو حيَّان: هذا وقول الزمخشريُّ راجعان إلى معنى واحد، وهو أن»
مَا فرَّطتُمْ «يقدَّرُ بمصدرٍ مرفوع بالابتداء، و:» مِنْ قَبْلُ «في موضع الخبر وذهلا عن قاعدة عربيَّة، وحقَّ لهما أن يذهلا وهي أنَّ هذه الظروف التي هي غايات إذا بُنيت لا تقع أخباراً للمبتدأ جرَّت، أو لم تجرَّ، تقول: يومُ السَّبت مُباركٌ والسَّفر بعدهُ، ولا تقول: والسَّفر بَعد و» عَمْرٌو وزيْدٌ خَلفهُ «ولا يجوز: عمرٌو وزيدٌ خلف، وعلى ما ذكراه يكون:» تَفْريطُكُم «مبتدأ، و» مِنْ قَبْلُ «خبر وهو مبنيُّ وذلك لا يجوز، وهو مقررٌ في علم العربيِّة».
قال شهابُ الدِّين: «قوله:» وحُقًّ لهُمَا أنْ يَذْهَلا «تحامل على هذين الرجلين، وموضعهما من العلم معروفٌ، وأمَّا قوله:» إنَّ الظرف المقطوع لا يقعُ خبراً «، فمسلَّم، قالوا: لأنَّه لا يفيد، وما لا يفيد، لا يقع خبراً، ولذا لا يقع صفة، ولا صلة، ولا حالاً والآية الكريمةُ من هذا القبيل لو قلت:» جاء الذي قبل «أو» مررت برجل قبل «لم يجز لما ذكرت.
ولقائلٍ أن يقول: إنَّما امتنع ذلك؛ لعدم الفائدة، وعدم الفائدة لعدم العلم بالمضافِ إليه المحذوف، فينبغي إذا كان المضاف إليه معلوماً مدلولاً عليه أن يقع ذلك الظَّرف المضاف إلى ذلك المحذوف خبراً، وصفة، وصلة، وحالاً والآية الكريمة من هذا القبيل، أعني ممَّا علم فيه المضاف إليه كما مرَّ تقريره»
.
ثمَّ هذا الرَّد الذي ردّ به أبو حيَّان سبقه إليه أبو البقاءِ، فقال: «وهذا ضعيف؛ لأن» قَبْل «إذا وقعت خبراً أو صلة لا تقطع عن الإضافة لئلا تبقى ناقصة».
الثالث: أنها مصدرية أيضاً، في محل رفع بالابتداء، والخبر هو قوله «فِي يُوسفَ» أي: وتفريطكم كائن، أو مستقر في يوسف، وإلى هذا ذهب الفارسي كأنه استشعر أن الظرف المقطوع لا يقعُ خبراً؛ فعدل إلى هذا، وفيه نظر؛ لأنَّ السِّياق، والمعنى يجريان إلى تعلق: «فِي يُوسفَ» ب «فَرَّطْتُمْ»، فالقولُ بما قاله الفارسي يؤدِّي إلى تهيئة العامل [للعمل]، وقطعه عنه.
الرابع: أنَّها مصدرية أيضاً، ولكن محلها النَّصب على أنَّها منسوقة على «إنَّ أباكُمْ قد أخَذَ» أي: ألم تعلموا أخذ أبيكم الميثاق، وتفريطكم في يوسف.
180
قال الزمخشري: «كأنه قيل: ألم تعلموا أخذ أبيكم عليكم موثقاً، وتفريطكم من قبل في يوسف» وإلى هذا ذهب ابن عطية أيضاً.
قال أبو حيَّان: «وهذا الذي ذهبا إليه ليس بجيِّد؛ لأنَّ فيه الفصل بالجار والمجرور بين حرف العطف الذي هو حرفٍ واحدٍ، وبين المعطوف؛ فصار نظير: ضَربْتُ زيداً، وبِسَيفٍ عمراً، وقد زعم الفارسيُّ أنه لا يجوز ذلك إلاَّ في ضرورة الشِّعر».
قال شهابُ الدِّين: هذا الرَّدُّ سبقه إليه أبُو البقاءِ، ولم يرتضه وقال: «وقيل: هو ضعيفٌ؛ لأنَّ فيه الفصل بين حرفِ العطفِ، والمعطوفِ، وقد بينا في سورة النِّساء أن هذا ليس بشيء».
قال شهاب الدين: «يعني أنَّ منع الفصل بين حرفِ العطفِ، والمعطوفِ ليس بشيءِ، وقد تقدَّم إيضاحُ هذا، وتقريره في سورة النساء، كما أشار إليه أبو البقاء».
ثمَّ قال أبو حيَّان: «وأمَّا تقديرُ الزمخشري: وتفريطكم من قبل في يوسف؛ فلا يجوز؛ لأن فيه تقديم معمول المصدر المنحل لحرف مصدري، والفعل عليه، وهو لا يجوز».
وقال شهابُ الدِّين: «ليس في تقدير الزمخشريِّ شيء من ذلك؛ لأنَّه لمَّا صرح بالمقدر أخَّر الجارين، والمجرورين عن لفظ المصدر المقدَّر كما ترى، وكذا هو في سائر النسخ، وكذا ما نقله عنه الشيخ بخطهِ، فأين تقديمُ المعمولِ على المصدر ولو رد عليه، وعلى ابن عطيَّة بأنه يلزمُ من ذلك تقديمُ معمولِ الصِّلةِ على الموصول لكان ردًّا واضحاً، فإنَّ:» مِنْ قَبْلُ «متعلق» فَرَّطْتُمْ «، وقد تقدَّم الكلامُ على ما المصدرية، وفيه خلافٌ مشهورٌ».
الخامس: أن تكون مصدرية أيضاً، ومحلها النصب عطفاً على اسم: «أنَّ» أي: ألم تعلموا أنَّ أباكم، وأن تفريطكم من قبل في يوسف، وحينئذٍ يكون في خبر «أنَّ هذه المقدرة وجهان:
أحدهما: هو:»
مِنْ قَبْلُ «.
والثاني: هو»
فِي يُوسَفُ «واختاره أبو البقاء، وقد تقدَّم ما في كلِّ منهما، ويردُّ على هذا الوجه الخامس ما ردَّ به على ما قبله من الفصل بين حرف العطف، والمعطوف، وقد عرف ما فيه.
السادس: أن تكون موصولة اسمية، ومحلُّها الرفع، والنَّصب علكى ما تقدَّم في المصدريَّة.
181
قال الزمخشريُّ: يعنى ومن قبل هذا ما فرطتموه، أي: قدَّمتموهُ في حقِّ يوسف من الجنايةِ، ومحلُّها الرَّفع، أو النَّصب على الوجهين.
يعنى بالوجهين رفعها بالابتداء، وخبرها» مِنْ قبل «، ونصبها على مفعولِ» ألمْ تَعْلمُوا «، فإنَّهُ لم يذكر في المصدرية غيرهما، وقد تقدَّم ما اعترض به عليهما، وما قيل في جوابه.
فتحصل في»
مَا «ثلاثة أوجه:
الزيادة، وكونها مصدرية، أو بمعنى الذي، وأن في محلها وجهين: الرفع، أو النصب.
قوله تعالى: ﴿فَلَنْ أَبْرَحَ الأرض﴾ برح هنا تامة، ضمنت معنى أفارقُ ف:»
الأرْضَ «معفول به، ولا يجوز أن تكون تامَّة من غير تضمين؛ لأنها إذا كانت كذلك؛ كان معناها: ظهر أو ذهب، ومنه: بَرحَ الخفاءُ، أي: ظهر، أو ذهب، ومعنى الظهور لا يليق، والذهابُ لا يصلُ إلى الظَّرف المخصوص إلاَّ بواسطةِ» في «: تقول:» ذَهَبْتُ في الأرضِ «ولا يجوز ذهبتُ الأرْضَ، وقد جاء شيءٌ لا يقاس عليه.
وقال ابو البقاء: «ويجوز أن يكون ظرفاً»
.
قال شهابُ الدِّين: «يحتمل أن يكون سقط من النُّسخِ لفظ» لاَ «، كان:» ولا يجوز أن يكون ظرفاً «.
واعلم أنه لا يجوز في»
أبْرَحَ «هنا أن تكون ناقصة؛ لأنَّه لا ينتظم من الضمير الذي فيها، وما» من الأرض «مبتدأ أو خبرٌ، ألا ترى أنَّك لو قلت: أنَا الأرض لم يجز من غير» فِي «بخلاف» أنَا في الأرْضِ وزيدٌ في الأرْضِ «.
قوله: ﴿أَوْ يَحْكُمَ الله﴾ في نصبه وجهان:
أظهرهما: عطفه على:»
يَأذَنَ «.
والثاني: أنه منصوبٌ بإضمار»
أنْ «في جواب النَّفي، وهو قوله: ﴿فَلَنْ أَبْرَحَ الأرض﴾ أي: لنْ أبْرحَ الأرْضَ إلاَّ أن يحكم، كقولهم: لالزَمنَّكَ أوْ تَقْضِيَنِي حقِّي، أي: إلا أن تَقْضِيَنِي.
قال أبو حيَّان:»
ومَعْنَاهُ ومعنى الغية مُتقَارِبَان «.
182
قال شهابُ الدِّين:» وليْسَ المعنى على الثَّاني، بل سِياقُ المعنى على عطفه على «بَأذَنَ» فإنه غيًّا الأمر بغايتين: أحداهما خاصة، وهي إذْنُ أبيه والثانية عامة؛ لأنَّ إذن أبيه له في الانصراف هو من حكم الله عزَّ وجلَّ «.

فصل


اعلم أنَّهم لما أيسوا من تخليصه، وتناجوا فميا بينهم، قال كبيرهم: ﴿أَلَمْ تعلموا أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَّوْثِقاً﴾ أي: عهداً ﴿مِّنَ الله وَمِن قَبْلُ﴾ هذا فرَّطتم في شأن يوسف، ولم تحفظوا عهد أبيكم، ﴿فَلَنْ أَبْرَحَ الأرض﴾ التي أنا بها، وهي أرض مصر، فلن أفارق أرض مصر ﴿حتى يَأْذَنَ لي أبيا﴾ في الانصراف إليه والخروج مهنا ﴿أَوْ يَحْكُمَ الله لِي﴾ بالخروج منها بردّ أخي إليّ، أو خروجي، وترك أخي، أو بالانتصاف ممَّن أخذ أخي.
وقيل: أو يحكم الله لي بالسَّيفن وأقاتلهم واسترد أخي ﴿وَهُوَ خَيْرُ الحاكمين﴾ ؛ لأنه لا يحكم إلا بالعدل، والحق، فحينئذ تفكَّروا في الأصوب ماهو؟ فظهر لهم أنَّ الأصوب هو الرُّجوع، وأن يذكروا لأبيهم كيفية الواقعة، فقال الأخ المحتبس بمصر لإخوته: ﴿ارجعوا إلى أَبِيكُمْ فَقُولُواْ ياأبانا إِنَّ ابنك﴾ بنيامين»
سَرَقَ «.
قرأ العامة:»
سَرَقَ «مبنيًّا للفاعل مخففاً، وابن عباس، وأبو رزين، والضحاك، والكسائي في رواية» سُرِّقَ «بضمِّ السِّين، كسر الرَّاء مشدداً مبنيًّا للمفعول يعني: نسب إلى السَّرقة، كما يقال: خَوَّنته، أي: نسبته إلى الخِيانةِ، قال الزجاج:» سُرِّقَ «يحتمل معنيين:
أحدهما: علم منه السرقة، والآخر: اتهم بالسَّرقة.
قال الجوهريُّ:»
والسَّرِق والسَّرِقة بكسر الراء فيهما هو اسم الشيء المسروق، والمصدر: سَرَق، يَسْرِق، َرَقاً بفالتح «.
وقرأ الضحاك:»
سَارِق «جعله اسم فاعل.
﴿وَمَا شَهِدْنَآ إِلاَّ بِمَا عَلِمْنَا﴾ فإنَّا رأينا أخراج صاع من متاعه. وقيل: معناه ﴿وَمَا شَهِدْنَآ﴾ أي: ما كانت منَّا شهادة في عمرنا على الشَّيء إلاَّ بما علمنا، وليست هذه الشَّهادة منَّا، إنَّما هو خبرٌ عن صنيعِ ابنكَ بزعمهم.
فإن قيل: كيف حكموا عليه بأنَّه سرق من غير بينة، لا سيَّما وقد أجابهم بالنَّفي فقال: الذي جعل الصَّواع في رحلي، وهو الذي جعل البضاعة في رحالكم؟ فالجواب من وجوهٍ:
أحدها: أنهم شاهدوا أنَّ الصواع كان موضوعاً في [محلٍّ] لم يدخله غيرهم،
183
فلمَّا شاهدوا إخراج الصواع من رحله؛ غالب على ظنهم أنَّه هو الذي أخذ الصواع.
وأما قوله: «وضَعَ الصُّواعَ في رحْلِي الذي وضع البِضاعَة في رحالكم» فالفرق ظاهرٌ؛ لأنهم لمَّا رجعوا بالبضاعة إليهم اعتروفا بأنهم هم الذين وضعوها في رحالهم، وأمَّا الصُّواع، فلم يعترف أحدٌ بأنه هو الذي وضع الصُّواعَ؛ فلهذا غلب على ظنونهم أنه سرق؛ فشهدوا بناء على غلبة الظَّنِّ، ثمَّ بينوا أنهم غيرُ قاطعين بهذا الأمر بقوله: ﴿وَمَا شَهِدْنَآ إِلاَّ بِمَا عَلِمْنَا وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ﴾.
وثانيها: تقدير الكلام: ﴿إِنَّ ابنك سَرَقَ﴾ في قول الملك، وأصحابه، ومثله كثيرٌ في القرآن، قال تعالى: ﴿ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ العزيز الكريم﴾ [الدخان: ٤٩] أي: عند نفسك وأمَّا عندنا فلا فكذا هاهنا.
وثالثها: أنَّ ابنك ظهر عليه ما يشبه السَّرقة، ومثل هذال المعنى قد يسمَّى سرقة، فإن إطلاق أحد الشَّيئين على الشبيه الآخر جائزٌ، مثله في القرآن ﴿وَجَزَآءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا﴾ [الشورى: ٤٠].
ورابعها: أنهم ما كانوا أنبياء في ذلك الوقت، فلا يبعد أن يقال: إنهم ذكروا هذا الكلام على سبيل المجازفة، لا سيَّما، وقد شاهد سائرهم ذلك.
وخامسها: قراءة ابن عبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه المتقدمة «سُرِّقَ» أي: نسب إلى السَّرقة، فهذه لا تحتاجُ إلى تأويلٍ، إلاَّ أنه تقدَّم أنَّ أمثال هذه القراءة لا تدفعُ السَّؤال؛ لأنَّ الإشكال إنَّما يندفعُ إذا كانت القراءة الأولى باطلة، وهذه القراءة حقّ أمَّا إذا كانت الأولى حقّ، كان الإشكال باقياً صحَّت القراءة، أو لم تصحّ، فلا بدّ من الرجوعِ إلى أحدِ الوجوه المذكورة.

فصل


دلَّ قولهم: ﴿وَمَا شَهِدْنَآ إِلاَّ بِمَا عَلِمْنَا﴾ على أنَّ الشَّهادة غير العلم؛ لأن هذا الكلام يقتضي كون الشَّهادةِ مغايرة للعلم، ولقوله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «إذَا عَلمْتَ مثلَ الشَّمْسِ فاشْهَدْ»... وليست الشَّهادةٌ عبارةً عن قوله «اشْهَد» ؛ لأنه إخبار عن الشَّهادة، والأخبار عن الشَّهادة غير الشهادة.
وإذا ثبت هذا؛ فنقول: الشَّهادةُ عبارةٌ عن الحكم الذِّهنيِّ وهو الذي يسميه المتكلمون ب «الكلام» النفسي «.

فصل


قال القرطبيُّ: تضمنت هذه الآية جواز الإشهاد بأيّ [وجه] حصل العلمُ بها
184
فإنَّ الشَّهادة مرتبطةٌ بالعلم عقلاً وشرعاً، فلا تسمعُ إلاَّ ممَّن علم، ولا تقبلُ إلاَّ منهم، وهذا هو الأصل في الشَّهادات.
ولهذا قال أصحابنا: شهادة الأعمى جائزة، وشهادة المستمع جائزةٌ، وشهادة الأخرس إذا فهمت إشارته جائزة، وكذلك الشَّهادة على الخطّ أي: إذا تبيَّن أنه خطُّه، أو خطُّ فلان صحيحةٌ، فكلُّ من حصل كله العلم بشيء؛ جاز أن يشهد به، وإن لم يشهدهُ المشهودُ عليه. قال الله تعالى: ﴿إِلاَّ مَن شَهِدَ بالحق وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾ [الزخرف: ٨٦] وقال عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «ألاَ أخْبِرُكمْ بِخيْرِ الشُّهداءِ؟ الذي يأتِي بشهادة قَبْل أنْ يُسْألَها».
قوله تعلى: ﴿وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ﴾ قال مجاهدٌ وقتادة: وما كنا نعلم أنَّ ابنك يسرق، ويصيِّر أمرنا إلى هذا، ولو علمنا بلك ما ذهبنا به معنا، وإنَّما قلنا: ونحفظ أخانا مما لنا إلى حفظه من سبيل.
وقال عكرمة: لعلَّ الصُّواع دفن في اللَّيلِ، فإنَّ الغيب هو اسم لليل على بعض اللغات.
وقيل: رأيناهم أخرجوا الصواع من رحله، أمَّا حقيقة الحالِ، فغير معلومة لنا، فإن الغيب لا يعلمه إلا الله تعالى.
وعن ابن عبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما ما كنا لليله، ونهاره، ومجيئه، وذهابه حافظين.
وقيل: إنَّ يعقوب عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ قال لهم: فهبْ أنه سرق، ولكن كيف علم الملكُ أن شرع بني إسرائيل أنَّه من سرقَ يُسترقُّ بل أنتم ذكرتموه له لغرض لكم، فقالوا عند ذلك: إنَّا ذكرنا له هذا الحكم قبل أن نعلم أنّ هذه الواقعة نقع فيها، فوله: ﴿وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ﴾ أي: ما كنا نعلم أن الواقعة تصبينا.
فإن قيل: فهل يجوز من يعقوب أن يخفي حكم الله؟.
فالجواب: لعلَّ ذلك الحكم كان مخصوصاً بما إذا كان المسروق منه مسلماً، فلهذا أنكر ذلك الحكم عند الملك الذي ظنَّه كافراً.
185
قوله تعالى: ﴿واسأل القرية﴾ يحتمل ثلاثة أوجهٍ:
أشهرها: أنه على حذف مضافٍ، أي: واسألْ أهل القرية، وأهل العِير، وهو مجازٌ شائعٌ، قاله ابن عطيِّة وغيره.
وقال أبو عليِّ الفارسي: ودافع جواز هذا في اللغةِ كدافعِ الضَّرورات، وجاحد المحسوسات، وهذا على خلافٍ في المسألةِ، هل الإضمار من باب المجازِ، أو غيره؟ المشهور أنه قسم منه، وعليه اكثر النَّاسِ.
قال أبو المعالي: قال بعض المتكلمين: «هذا من الحذف، وليس من المجاز إنَّما المجازُ لفظة استعيرت لغير ما هي له، قال: وحذف المضاف هو عينُ المجاز وعظمه، هذا مذهب سيبويه وغيره، وحكي أنَّه قول الجمهور».
وقال ابن الخطيب: إن الإضمار، والمجاز [قسمان لا قسيمان]، فهما متباينان.
الثاني: أنَّه مجاز، ولكنه من باب إطلاق اسم المحل على الحال للمجاورة كالرواية.
الثالث: أنَّه حقيقة لا مجاز فيه، ولذلك قال أبو بكر الأنباري:
المعنى: واسْألِ القرية والعير؛ فإنَّها تجيبك، وتذكر لك صحَّة ما ذكرنا؛ لأنك من أكابر الأنبياء، فيجوز أن ينطق الله لك الجماد، والبهائم.
وقيل: إنَّ الشيء إذا ظهر ظهوراً تامًّا كاملاً فقد يقال فيه: سل السماءَ والأرض وجميع الأشياء عنه، والمراد أنه بلغ في الظُّهور إلى الغاية حتَّى لم يبق للشكِّ فيه مجالٌ، والمراد من القرية: مصر، وقيل: قرية على باب مصر قال ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: هي قرية من قرى مصر، كانوا ارتحلوا منها.
وأما قوله: ﴿والعير التي أَقْبَلْنَا فِيهَا﴾ أي القافلة التي كُنَّا فيها.
قال المفسِّرون: كان صحبهم قوم من الكنعانيين من جيران يعقوب.
قال ابنُ إسحاق: عرف الأخ المحتبس بمصر أنَّ إخوته أهل تهمة عند أبيهم لمَا كانوا صنعوا في أمر يوسف عليه السلام، فأمرهم أن يقولوا هذا لأبيهم.
ثم إنَّهم لما بالغوا في التَّأكيد، والتقرير قالوا: ﴿وَإِنَّا لَصَادِقُونَ﴾ يعنى سواء نسبتنا إلى التُّهمة، أم لم تنسب؛ فنحن صادقون، وليس غرضهم أن يثبتوا صدق أنفسهم؛ لأنَّ هذا يجري جرى إثبات الشيء بنفسه، بل الإنسان، إذا قدم ذكر الدَّليل القاطع على صحَّة الشيء، فقد يقول بعده: وأنَّا صادق في ذلك، يعني فتأمل فيما ذكرته من الدَّلائل، والبينات.
186

فصل


قال القرطبي: «دلَّت هذه الآية على أنَّ كل من كان على حقٍّ، وعلم أنه قد يظن به أنَّه على [خلاف] ما هو عليه، أو يتوهم أن يرفع التُّهمة، وكلَّ ريبةٍ عن نفسه ويصرِّح بالحق الذي هو عليه، حتَّى لا يبقى متكلِّم، وقد فعل هذا نبينا عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ بقوله للرجلين اللَّذين مرًّا، وهو قد خرج مع صفيَّة بن حييّ من المسجد:» على رسلكما، إنّما هي صفيّة بن حييّ «؛ فقالا: سبحان الله! وكبر علهيما، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ:» إنَّ الشَّيطَان يَجْرِي مِنَ آدم مُجْرَى الدَّم، وإِنِّي خَشِيتُ أن يَقْذِفَ في قُلوبِكُمَا شرًّا، أو قال: شَيْئاً «متفرقٌ عليه.
فإن قيل: كيف استجاز يوسف أن يعمل هذا بأبيه، ولم يخبره بمكانه، ويحبس أخاه مع علمه بشدّة وجد أبيه عليه، ففيه معنى العقوق، وقطيعة الرَّجمِ، وقلَّة الشَّفقةِ؟.
فالجواب: أنَّه فعل ذلك بأمر الله عزَّ وجلَّ أمره به ليزيد في بلاءِ يعقوب، فيضاعف له الأجر، ويلحقه في الدَّرجةِ بآبائه الماضين.
وقيل: إنَّه لم يظهر نفسه لإخوته؛ لأنَّه لم يأمن أن يدبِّروا في أمره تدبيراً، فيكتموه عن أبيه، والأول أصح.
187
﴿ ارجعوا إلى أَبِيكُمْ فَقُولُواْ ياأبانا إِنَّ ابنك ﴾ بنيامين " سَرَقَ ".
قرأ العامة :" سَرَقَ " مبنيًّا للفاعل مخففاً، وابن عباس، وأبو رزين، والضحاك، والكسائي في رواية " سُرِّقَ " بضمِّ السِّين، كسر الرَّاء مشدداً مبنيًّا للمفعول يعني : نسب إلى السَّرقة، كما يقال : خَوَّنته، أي : نسبته إلى الخِيانةِ، قال الزجاج :" سُرِّقَ " يحتمل معنيين :
أحدهما : علم منه السرقة، والآخر : اتهم بالسَّرقة.
قال الجوهريُّ :" والسَّرِق والسَّرِقة بكسر الراء فيهما هو اسم الشيء المسروق، والمصدر : سَرَق، يَسْرِق، سَرَقاً بالفتح ".
وقرأ الضحاك :" سَارِق " جعله اسم فاعل.
﴿ وَمَا شَهِدْنَآ إِلاَّ بِمَا عَلِمْنَا ﴾ فإنَّا رأينا أخراج صاع من متاعه. وقيل : معناه ﴿ وَمَا شَهِدْنَآ ﴾ أي : ما كانت منَّا شهادة في عمرنا على الشَّيء إلاَّ بما علمنا، وليست هذه الشَّهادة منَّا، إنَّما هو خبرٌ عن صنيعِ ابنكَ بزعمهم.
فإن قيل : كيف حكموا عليه بأنَّه سرق من غير بينة، لا سيَّما وقد أجابهم بالنَّفي فقال : الذي جعل الصَّواع في رحلي، وهو الذي جعل البضاعة في رحالكم ؟ فالجواب من وجوهٍ :
أحدها : أنهم شاهدوا أنَّ الصواع كان موضوعاً في [ محلٍّ ] لم يدخله غيرهم، فلمَّا شاهدوا إخراج الصواع من رحله ؛ غالب على ظنهم أنَّه هو الذي أخذ الصواع.
وأما قوله :" وضَعَ الصُّواعَ في رحْلِي الذي وضع البِضاعَة في رحالكم " فالفرق ظاهرٌ ؛ لأنهم لمَّا رجعوا بالبضاعة إليهم اعتروفا بأنهم هم الذين وضعوها في رحالهم، وأمَّا الصُّواع، فلم يعترف أحدٌ بأنه هو الذي وضع الصُّواعَ ؛ فلهذا غلب على ظنونهم أنه سرق ؛ فشهدوا بناء على غلبة الظَّنِّ، ثمَّ بينوا أنهم غيرُ قاطعين بهذا الأمر بقوله :﴿ وَمَا شَهِدْنَآ إِلاَّ بِمَا عَلِمْنَا وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ ﴾.
وثانيها : تقدير الكلام :﴿ إِنَّ ابنك سَرَقَ ﴾ في قول الملك، وأصحابه، ومثله كثيرٌ في القرآن، قال تعالى :﴿ ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ العزيز الكريم ﴾ [ الدخان : ٤٩ ] أي : عند نفسك وأمَّا عندنا فلا فكذا هاهنا.
وثالثها : أنَّ ابنك ظهر عليه ما يشبه السَّرقة، ومثل هذال المعنى قد يسمَّى سرقة، فإن إطلاق أحد الشَّيئين على الشبيه الآخر جائزٌ، مثله في القرآن ﴿ وَجَزَآءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا ﴾ [ الشورى : ٤٠ ].
ورابعها : أنهم ما كانوا أنبياء في ذلك الوقت، فلا يبعد أن يقال : إنهم ذكروا هذا الكلام على سبيل المجازفة، لا سيَّما، و قد شاهد سائرهم ذلك.
وخامسها : قراءة ابن عبَّاسٍ رضي الله عنه المتقدمة " سُرِّقَ " أي : نسب إلى السَّرقة، فهذه لا تحتاجُ إلى تأويلٍ، إلاَّ أنه تقدَّم أنَّ أمثال هذه القراءة لا تدفعُ السَّؤال ؛ لأنَّ الإشكال إنَّما يندفعُ إذا كانت القراءة الأولى باطلة، وهذه القراءة حقّ أمَّا إذا كانت الأولى حقّ، كان الإشكال باقياً صحَّت القراءة، أو لم تصحّ، فلا بدّ من الرجوعِ إلى أحدِ الوجوه المذكورة.

فصل


دلَّ قولهم :﴿ وَمَا شَهِدْنَآ إِلاَّ بِمَا عَلِمْنَا ﴾ على أنَّ الشَّهادة غير العلم ؛ لأن هذا الكلام يقتضي كون الشَّهادةِ مغايرة للعلم، ولقوله عليه الصلاة والسلام :" إذَا عَلمْتَ مثلَ الشَّمْسِ فاشْهَدْ ". . . وليست الشَّهادةٌ عبارةً عن قوله " اشْهَد " ؛ لأنه إخبار عن الشَّهادة، والأخبار عن الشَّهادة غير الشهادة.
وإذا ثبت هذا ؛ فنقول : الشَّهادةُ عبارةٌ عن الحكم الذِّهنيِّ وهو الذي يسميه المتكلمون ب " الكلام " النفسي ".

فصل


قال القرطبيُّ : تضمنت هذه الآية جواز الإشهاد بأيّ [ وجه ] حصل العلمُ بها فإنَّ الشَّهادة مرتبطةٌ بالعلم عقلاً وشرعاً، فلا تسمعُ إلاَّ ممَّن علم، ولا تقبلُ إلاَّ منهم، وهذا هو الأصل في الشَّهادات.
ولهذا قال أصحابنا : شهادة الأعمى جائزة، وشهادة المستمع جائزةٌ، وشهادة الأخرس إذا فهمت إشارته جائزة، وكذلك الشَّهادة على الخطّ أي : إذا تبيَّن أنه خطُّه، أو خطُّ فلان صحيحةٌ، فكلُّ من حصل كله العلم بشيء ؛ جاز أن يشهد به، وإن لم يشهدهُ المشهودُ عليه. قال الله تعالى :﴿ إِلاَّ مَن شَهِدَ بالحق وَهُمْ يَعْلَمُونَ ﴾ [ الزخرف : ٨٦ ] وقال عليه الصلاة والسلام :" ألاَ أخْبِرُكمْ بِخيْرِ الشُّهداءِ ؟ الذي يأتِي بشهادة قَبْل أنْ يُسْألَها ".
قوله تعلى :﴿ وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ ﴾ قال مجاهدٌ وقتادة : وما كنا نعلم أنَّ ابنك يسرق، ويصيِّر أمرنا إلى هذا، ولو علمنا بلك ما ذهبنا به معنا، وإنَّما قلنا : ونحفظ أخانا مما لنا إلى حفظه من سبيل.
وقال عكرمة : لعلَّ الصُّواع دفن في اللَّيلِ، فإنَّ الغيب هو اسم لليل على بعض اللغات.
وقيل : رأيناهم أخرجوا الصواع من رحله، أمَّا حقيقة الحالِ، فغير معلومة لنا، فإن الغيب لا يعلمه إلا الله تعالى.
وعن ابن عبَّاسٍ رضي الله عنهما ما كنا لليله، ونهاره، ومجيئه، وذهابه حافظين.
وقيل : إنَّ يعقوب عليه الصلاة والسلام قال لهم : فهبْ أنه سرق، ولكن كيف علم الملكُ أن شرع بني إسرائيل أنَّه من سرقَ يُسترقُّ بل أنتم ذكرتموه له لغرض لكم، فقالوا عند ذلك : إنَّا ذكرنا له هذا الحكم قبل أن نعلم أنّ هذه الواقعة نقع فيها، فوله :﴿ وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ ﴾ أي : ما كنا نعلم أن الواقعة تصيبنا.
فإن قيل : فهل يجوز من يعقوب أن يخفي حكم الله ؟.
فالجواب : لعلَّ ذلك الحكم كان مخصوصاً بما إذا كان المسروق منه مسلماً، فلهذا أنكر ذلك الحكم عند الملك الذي ظنَّه كافراً.
قوله تعالى :﴿ واسأل القرية ﴾ يحتمل ثلاثة أوجهٍ :
أشهرها : أنه على حذف مضافٍ، أي : واسألْ أهل القرية، وأهل العِير، وهو مجازٌ شائعٌ، قاله ابن عطيِّة وغيره.
وقال أبو عليِّ الفارسي : ودافع جواز هذا في اللغةِ كدافعِ الضَّرورات، وجاحد المحسوسات، وهذا على خلافٍ في المسألةِ، هل الإضمار من باب المجازِ، أو غيره ؟ المشهور أنه قسم منه، وعليه اكثر النَّاسِ.
قال أبو المعالي : قال بعض المتكلمين :" هذا من الحذف، وليس من المجاز إنَّما المجازُ لفظة استعيرت لغير ما هي له، قال : وحذف المضاف هو عينُ المجاز وعظمه، هذا مذهب سيبويه وغيره، وحكي أنَّه قول الجمهور ".
وقال ابن الخطيب : إن الإضمار، والمجاز [ قسمان لا قسيمان ]، فهما متباينان.
الثاني : أنَّه مجاز، ولكنه من باب إطلاق اسم المحل على الحال للمجاورة كالرواية.
الثالث : أنَّه حقيقة لا مجاز فيه، ولذلك قال أبو بكر الأنباري :
المعنى : واسْألِ القرية والعير ؛ فإنَّها تجيبك، وتذكر لك صحَّة ما ذكرنا ؛ لأنك من أكابر الأنبياء، فيجوز أن ينطق الله لك الجماد، والبهائم.
وقيل : إنَّ الشيء إذا ظهر ظهوراً تامًّا كاملاً فقد يقال فيه : سل السماءَ والأرض وجميع الأشياء عنه، والمراد أنه بلغ في الظُّهور إلى الغاية حتَّى لم يبق للشكِّ فيه مجالٌ، والمراد من القرية : مصر، وقيل : قرية على باب مصر قال ابن عباس رضي الله عنه : هي قرية من قرى مصر، كانوا ارتحلوا منها.
وأما قوله :﴿ والعير التي أَقْبَلْنَا فِيهَا ﴾ أي القافلة التي كُنَّا فيها.
قال المفسِّرون : كان صحبهم قوم من الكنعانيين من جيران يعقوب.
قال ابنُ إسحاق : عرف الأخ المحتبس بمصر أنَّ إخوته أهل تهمة عند أبيهم لمَا كانوا صنعوا في أمر يوسف عليه السلام، فأمرهم أن يقولوا هذا لأبيهم.
ثم إنَّهم لما بالغوا في التَّأكيد، والتقرير قالوا :﴿ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ ﴾ يعنى سواء نسبتنا إلى التُّهمة، أم لم تنسب ؛ فنحن صادقون، وليس غرضهم أن يثبتوا صدق أنفسهم ؛ لأنَّ هذا يجري جرى إثبات الشيء بنفسه، بل الإنسان، إذا قدم ذكر الدَّليل القاطع على صحَّة الشيء، فقد يقول بعده : وأنَّا صادق في ذلك، يعني فتأمل فيما ذكرته من الدَّلائل، والبينات.

فصل


قال القرطبي :" دلَّت هذه الآية على أنَّ كل من كان على حقٍّ، وعلم أنه قد يظن به أنَّه على [ خلاف ] ما هو عليه، أو يتوهم أن يرفع التُّهمة، وكلَّ ريبةٍ عن نفسه ويصرِّح بالحق الذي هو عليه، حتَّى لا يبقى متكلِّم، وقد فعل هذا نبينا عليه الصلاة والسلام بقوله للرجلين اللَّذين مرًّا، وهو قد خرج مع صفيَّة بن حييّ من المسجد :" على رسلكما، إنّما هي صفيّة بنت حييّ " ؛ فقالا : سبحان الله ! وكبر علهيما، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" إنَّ الشَّيطَان يَجْرِي مِنَ آدم مُجْرَى الدَّم، وإِنِّي خَشِيتُ أن يَقْذِفَ في قُلوبِكُمَا شرًّا، أو قال : شَيْئاً " متفرقٌ عليه.
فإن قيل : كيف استجاز يوسف أن يعمل هذا بأبيه، ولم يخبره بمكانه، ويحبس أخاه مع علمه بشدّة وجد أبيه عليه، ففيه معنى العقوق، وقطيعة الرَّجمِ، وقلَّة الشَّفقةِ ؟.
فالجواب : أنَّه فعل ذلك بأمر الله عزَّ وجلَّ أمره به ليزيد في بلاءِ يعقوب، فيضاعف له الأجر، ويلحقه في الدَّرجةِ بآبائه الماضين.
وقيل : إنَّه لم يظهر نفسه لإخوته ؛ لأنَّه لم يأمن أن يدبِّروا في أمره تدبيراً، فيكتموه عن أبيه، والأول أصح.
قوله: ﴿قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْراً﴾ هذا الإضراب لا بدَّ له من كلامٍ قبله متقدم عليه يضرب هذا عنه، والتقدير: فرجعوا إلى إبيهم، وذكروا له ما قال كبيرهم، وفقال يعقوب: ليس الأمر كما ذكرتم حقيقة، ﴿بل سولت﴾ : زيَّنَتْ ﴿لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْراً﴾ أي حمل أخيكم إلى مصر، وليس المراد منه الكذب كواقعة يوسف.
وقيل: ﴿سولت لكم أنفسكم﴾ أنَّه سرق، ما سرق.
﴿فصبر جميل﴾ وتقدَّم الكلام على نظيره، وقال هناك: ﴿والله المستعان على ما تصفون﴾ وقال ههنا ﴿عسى الله أن يأتيني بهم جميعاً﴾.
187
قال بعضهم: يعنى يوسف، وبنيامين، وأخاهم المقيم بمصر.
وإنَّما حكم بهذا الحكم؛ لأنَّه لما طال حزنه وبلاؤه علم أنَّ الله سيجعل له فرجاً ومخرجاً عن قريب، فقال ذلك على سبيل حسن الظنِّ برحمة الله تعالى.
وقيل: لعلَّه كان قد أخبر من بعد محنته بيوسف أنه حي، أو ظهرت له علامات على ذلك.
ثم قال: ﴿إِنَّهُ هُوَ العليم الحكيم﴾ العليم بحقائقِِ الأمْرِ، الحكيم فيها على الوجه المطابق للفضل، والإحسان.
وقيل: العليم بحزني، ووجدي على فقدهم، الحكيم في تدبير خلقه.
قوله تعالى: ﴿وتولى عَنْهُمْ وَقَالَ ياأسفا عَلَى يُوسُفَ وابيضت عَيْنَاهُ مِنَ الحزن فَهُوَ كَظِيمٌ﴾ الآية.
لما سعم يعقوب كلام بنيه، ضاق قلبه، وهاج حزنهُ على يوسف، فأعرض عنهم: ﴿وقال يا أسفى على يوسف﴾ يا حزنا على يوسف.
والأسفُ: أشدُّ الحُزْنِ، وإنما عظم حزنهُ على مُفارقةِ يوسف عند هذه الواقعة لوجوه:
الأول: أنَّ الحزن القديم الكامل إذا وقع عليه حزن آخر كان أوجع، قال متمّم بن نويرة: [الطويل]فقُلْتُ لَهُ:
٣١٣٣ - فَقَالَ أتَبْكِي كُلَّ قَبْرٍ رأيتَهُ لِمَيْتٍ ثَوَى بَيْنَ اللِّوى والدَّكَادِكَ
إنَّ الأسَى يَبْعَيُ الأسَى فدَعْنِي فَهذَا كُلُّهُ قَبْرُ مَالِكِ
وذلك؛ لأنه كلما رأى قبراً تجدَّ عليه حزنه على أخيه مالك، فلاموهُ؛ فأجاب: إنَّ الأسى يبعث الأسى.
الثاني: أنَّ ينيامين، ويسوف كانا من أمٍّ واحدة، وكانت المشابهة بينهما في الصِّفة متقاربة، فكان يعقوب عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ يتسلّى برؤيته عن رؤية يوسف عليه السلام، فلما وقع ما وقع، زال ما يوجبُ السَّلوة، فعظم الألم.
الثالث: أنَّ المصيبة بيوسف كانت أصل مصائبه الَّتي عليها ترتب سائر المصائب، فكان الأسفُ عليه أسفاً على الكُلِّ.
الرابع: أنَّ هذه المصائب كانت أسبابها جارية مجرى الأمور المعلومةِ، فلم يبحث
188
عنها وأما واقعة يوسف صلوات الله وسلامه عليه فهو عليه السلام كان يعلمُ كذبهم في السَّببِ الذي ذكروه، وأما السَّببُ الحقيقي، فلم يعلمه.
وأيضاً: أنه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ كان يعلم حياة هؤلاء، وأمَّا يوسف فما كان يعلم أنَّه حي، أو ميت، فلهذه الأسباب عظم حزنه على مفارقته.
قوله: ﴿ياأسفا﴾ الألف منقلبة عن ياء المتكلم، وإنَّما قلبت ألفاً؛ لأنَّ الصَّوت معها أتم، ونداؤه على سبيل المجازِ، كأنَّه قال: هذا أوانُك فاحضر، نحو: «يَا حَسْرَتَا».
وقيل هذه ألف الندبة، وحذفت هاء السَّكت وصلاً.
قال الزمخشريُّ: والتَّجانس بين لفظتي الأسف، ويوسف ممَّا يقعُ مطبوعاً غير متعمل فيملح، ويبدع، ونحوه: ﴿اثاقلتم إِلَى الأرض أَرَضِيتُمْ﴾ [التوبة: ٣٨] ﴿يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ﴾ [الأنعام: ٢٦] ﴿يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ﴾ [الكهف: ١٠] ﴿مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ﴾ [النمل: ٢٢].
قال شهابُ الدِّين: ويسمَّى هذا النَّوع تجنيس التَّصريف، وهو أن تشترك الكلمتان في لفظ، ويفرق بينهما بحرف ليس في الأخرى، وقد تقدَّم [الأنعام: ٢٦].
وقرأ ابن عباسٍ، مجاهدٌ «مِنَ الحَزَن» بفتحتين، وقتادة بضمتين والعامة بضمة فسكون.
فالحُزْن، والحَزَن، كالعُدْمِ، والعَدَم، والبُخْل والبَخَل، وأمَّا الضمتان فالثانية إتباعٌ. وقال الواحديُّ: اختلفوا في الحُزْنِ، الحَزَن، فقال قومٌ: الحُزْن: البُكاء والحَزَن ضد الفرحِ، وقال قومٌ: هما لغتان، يقال: أصَابهُ حُزْنٌ شديدٌ وحَزنٌ شديدٌ، إذا كان في مواضع النَّصب، فتحوا الحاء، والزَّاي كقوله: ﴿تَوَلَّوْا وَّأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدمع حَزَناً﴾ [التوبة: ٩٢]، وإذا كان في موضع الرفع، والخفض فبضم الحاءِ، كقوله: ﴿مِنَ الحزن﴾ وقوله: ﴿إِنَّمَآ أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى الله﴾ قال: هما في موضع رفع بالابتداء.
و «كَضِيمٌ» يجوز أن يكون مبالغة بمعنى فاعل، وأن يكون بمعنى مفعول، كقوله: ﴿وَهُوَ مَكْظُومٌ﴾ [القلم: ٤٨] وبه فسَّرهُ الزمخشريُّ، فإن كان بمعنى الكَاظِم فهو الممسكل على حزنه فلا يظهره، وإن كان بمعنى المكظُومِ، فقال ابنُ قتيبةك «معناه المملوء من الهمّ، والحزن مع سدّ طريق نفسه المصدور، من كَظَمَ السِّقاء، إذا اشتدّ على ملئه، ويجوز أن يكون بمعنى مَمْلُوء من الغيظِ على أولاده».

فصل


تقدَّم الكلام على الأسفِ، وأمَّا قوله: ﴿وابيضت عَيْنَاهُ مِنَ الحزن﴾ فقيل: إنَّه لما قال:
189
﴿يا أسفا عَلَى يُوسُفَ﴾ غلبه البُكَاءُ، وعند غلبةِ البُكاءِ يكثرُ الماء في العين، فتصير العينُ كأنها ابيضَّت من بياض ذلك الماءِ، فقوله: ﴿وابيضت عَيْنَاهُ﴾ كناية عن غلبة البكاءِ. رواه الواحدي عن ابن عبَّاسٍ. وقال مقاتلٌ: كناية عن العمى، فلم يبصر بهما شيئاً حتى كشفهُ اللهُ تعالى بقميص يوسف عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ بقوله: ﴿فَأَلْقُوهُ على وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيراً﴾ [يوسف: ٩٣]، وقال: ﴿فَلَمَّآ أَن جَآءَ البشير أَلْقَاهُ على وَجْهِهِ فارتد بَصِيراً﴾ [يوسف: ٩٦] : ولأنَّ الحزن الدَّائم، يوجب البكاء الدائم وهو يوجب العمىح لأنَّه يوجب كُدُورة على سوادِ العين.
وقيل: ما عمي، ولكنَّه صار بحيثُ يدرك إدراكاً ضعيفاً؛ كما قال: [الطويل]
٣١٣٤ - خَلِيليَّ إنِّي قَدْ غَشِيتُ مِنَ البُكَا فهَلْ عِنْدَ غَيْرِي مُقلَةٌ اسْتَعِيرُهَا
قيل: ما صحَّت عينا يعقوب من وقت فراق يوسف إلى حين لقائه، وتلك المدة ثمانون سنةن وما كان على وجه الأرض أكرم على الله من يعقوب عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ.
قولهك «تَفْتَؤ» هذا جواب القسم في قوله: «تَاللهِ» وهو على حذف لا أي: لا تفتؤ كقول الشَّاعر: [البسيط]
٣١٣٥ - تَاللهِ على الأيَّامِ ذُو حَيَدٍ بمُشْمَخرِّ بِهِ الظَّيَّانُ والآسُ
أي: لا تبقى، ويدلُّ على حذفها: أنَّهُ لو كان مثبتاً؛ لاقترن بلام الابتداء ونون التَّوكيد معاً عند البصريين، أو إحداهما عن الكوفيين، وتقول: واللهِ أحبُّك: تريد لأحبك، وهو من التَّوريةِ، فإن كثيراً من النَّاس يتبادر ذهنه إلى إثباتِ المحبَّة، و «تَفْتَأ» هنا ناقصة بمعنى لا تزال.
قال ابنُ السِّكيت: «ما زِلتُ أفعله، ما فَتِئت أفعلهُ، ما بَرحْتُ أفْعَلُه، ولا يتكلم بهنَّ إلاَّ في الجحد».
قال ابن قتيبة: «يقال: مَا فترت ومَا فَتِئت، لغتان، ومعناه: ما نسيته، وما انقطعتْ عنه»، وإذا كانت ناقصة؛ فهي ترفع الاسم، وهو الضمير، وتنصب الخبر، وهو الجملة من قوله: «تَذْكرُ» أي: لا تزالُ ذاكراً له، يقال: ما فَتِىء زيدٌ ذاهباً؛ قال أوس بن حجرٍ: [الطويل]
٣١٣٦ - فَمَا فَتِئَتْ حَتَّى كَأنَّ غُبَارهَا سُرَادِقُ يَوْمٍ ذِي ريَاحٍ تُرَفَّعُ
وقال أيضاً: [الطويل]
190
وعن مجاهدٍ: لا تفتر؛ قال الزمخشريُّ: كأنه جعل الفُتُوء، والفُتُورَ أخوين، كما تقدَّم عن ابنِ قتيبة، وفيهما لغتان: «فَتَأ» على وزن «ضَرَبَ»، و «أفْتَأ» على وزن «أكْرَمَ»، ويتكون تامَّة بمعنى: «سَكَنَ وأطْفَأ» كذا قاله ابنُ مالكٍ.
وزعم أبُو حيَّان: أنه تصحيفٌ منه، وإنَّما هي فَثَأ بالثَّاءِ المثلثة، ورسمت هذه اللَّفظة «تَفْتَؤ» بالواو، والقياس «تَفْتَأ» بالألفن وكذلك يوقف لحمزة بالوجهين اعتباراً بالخطِّ، والقياس.
قوله: «حَرَضاً» : الحَرَضُ: الإشفاءُ على الموت، يقال منه: حَرَضَ الرَّجلُ يحرُض حرضاً بفتح الرَّاء، فهو حرض بكسرهَا، فالحرض مصدر من هذه المادَّة فيجيء في الآية الأوجه التي في «رجُلُ عدلٌ» كما تقدم.
ويطلق المصدر من هذه المادَّة على: «الحُثث» إطلاقاً شائعاً؛ ولذلك يستوي فيه المفرد، والمثنى، والمجموع، والمذكر، والمؤنث، تقول: هو حرضٌ، وهما حرضٌ وهُم حَرَضٌ، وهي حَرَضٌ، وهُنَّ حَرَضٌ؛ ويقال: رجلٌ حُرُضٌ بضمتين، نحو: جُنُب، وشُلْل. ويقال: أحْرَضهُ كذا، أي أهلكهُ؛ قال: [البسيط]
٣١٣٧ - فَمَا فَتِئَتْ خَيلٌ تَثوبُ وتدَّعِي ويَلحَقُ منهَا لاحِقٌ وتُقطَّعُ
٣١٣٨ - إنِّي أمرؤُ لجَّ بِي حُبِّ فأحْرَضنِي حتَّى بَلِيتُ وحتَّى شَفَّنِي السَّقمُ
فهو مخرض.. قال الشَّاعر: [الطويل]
٣١٣٩ - أرَى المَرْءَ كالأذْوَادِ يُصْبحُ مُحْرَضاً كإحْرَاضِ بكرٍ في الدِّيارِ مَريضِ
وقرأ بعضهم «حَرِضاً» بكسر الرَّاء.
وقال الزمخشريُّ: «وجاءت القراءة بهما جميعاً» يعنى بفتح الراء، وكسرها.
وقرأ الحسن: «حُرُضاً» بضمتين، وقد تقدَّم أنه ك: «جُنُبٍ، وشُلُلٍ»، وزاد الزمخشريُّ: وغُرُب «.
وقال الراغب: الحَرَض: ما لا يعتدُّّ به، ولا خيرَ فِيهِ، ولذلك يقال لمن أشرف على الهلاك: حَرَض، قال تعالى: ﴿حتى تَكُونَ حَرَضاً﴾ [يوسف: ٨٥]، وقد أحرصهُ كذا قال الشَّاعر: [البسيط]
191
٣١٤٠ - إنِّي امْرُؤٌ لجَّ بِي همٌّ فأحْرَضْنِي... والحُرْضَة: من لا يأكل إلاَّ لحم الميسر لنذالتهِ، والتَّحريضُ: الحثُّ على الشَّيء بكثرة التَّزيينِ، وتسهيل الخطب فيه، كأنَّه إزالة الحرض نحو: قَذَّيتُه، أي: أزلتُ عنه القَذَى، وأحرضتهُ: أفسدتهُ، نحو: أقذيتهُ: إذا جعلت فيه القَذَى «انتهى».
والحُرُضُ: الأشنانُ، لإزالته الفساد، والمِحْرضَة: وعاؤه، وشذوذها كشذوذ: مُنْخُل، ومُسْعُط، ومُكْحُلة.
وحكى الواحديُّ عن أهل المعاني: أنَّ أصل الحَرَض: فساد الجسم، والعقل للحزن، والحبِّ، وقولهم: حرَّضتُ فلاناً على فلانٍ، تأويله: أفسدته وأحميته عليه، قال الله تعالى: ﴿حَرِّضِ المؤمنين عَلَى القتال﴾ [الأنفال: ٦٥].
وإذا عرفت هذا فوصف الرَّجُل بأنه حرض إمَّا أن يكون المراد منه: ذو حرض فحذف المضاف، أو المراد منه: أنَّه لما تناهى في الفسادِ، والضعفح فكأنَّه صار عين الحرض، ونفس الفسادِ، وأمَّا الحَرِض بكسر الراء فهو الصِّفة كما قرىء بها وللمفسِّرين فه عباراتُ:
أحدها: الحَرَض، والحَارِضُ، وهو الفساد في جسمه، وعقله.
وثانيها: قال نافع بن الأزرق: سئل ابنُ عبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما فقال: الفاسد الرَّأي.
وثالثها: أنه هو الذي يكون لا كالأحياء، ولا كالأموات.
وذكر أبو روق أنَّ أنس بن مالك قرأ: ﴿حتى تَكُونَ حَرَضاً﴾ بضمِّ الحاء وسكن الرَّاء.
ثم قال تعالى: ﴿أَوْ تَكُونَ مِنَ الهالكين﴾ من الأموات، والمعنى: لا تزال تذكر يوسف بالحزن، والبكاء عليه حتى تصير بحث لا تنتفع بنفسك، أو تموت من الغمّ،
وأرادوا بذلك منعه من كثرةِ البُكاءِ، والأسف.
فإن قيل: لم حلفوا على ذلك مع أنَّهم لم يعلموا ذلك قطعاً؟.
فاالجواب: أنَّهم بنوا الأمر على الظَّاهر.
قال المفسِّرون: القائل هذا الكلام، وهوقوله: ﴿تالله تفتؤ تذكر يوسف﴾ هم إخوة يوسف، وقال بعضهم: ليسوا الإخوة، بل الجماعة الذين كانوا في الدَّار من أولاده وخدمه، فقال يعقوب عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: ﴿إنما أشكو بثي وحزني إلى الله﴾ والبَثُّ: أشدُّ الحزن، كأنَّه لقوته لا يطاق حمله، فيبثه الإنسان، أي: يفرِّقه، ويذيعه وقد تقدَّم [آل
192
عمران: ١٨٦] أنَّ أصل هذه المادَّة الدلالة على الانتشار، وجوَّز فيه الرَّاغب هنا وجهين:
أحدهما: أنه مصدر في معنى المعفولِ، قال: «أي: غمّي الذي يبثه عن كتمانٍ، فهو مصدر في تقدير مفعول، أو يعني غمِّي الذي بثَّ فكري، فيكون في معنى الفاعل».
وقرأ الحسن وعيسى «وحَزَنِي» بفتحتين، وقتادة بضمتين، وقد تقدم.

فصل


المعنى: أن يعقوب عليه السلام لما رأى غلظتهم، قال: إنَّما أشكو شدَّة حزني إلى الله، وسمَّى شدَّة الحزن بثًّا؛ لأنَّ صابحه لا يبصر عليه حتى يبثه، أي: [يظهره].
وقال الحسن: بَثِّي، اي: حاجتي، والمعنى: أنَّ هذا الذي أذكره لا أذكره معكم، وإنَّما أذكره في حضرةِ الله تعالى والإنسان إذا ذكر شكواه إلى الله تعالى كان ف يزمرة المحققين.
وروي أنَّهُ قيل له: يا يعقوبك ما الذي أذهب بصرك، وقوَّص ظهرك؟ قال: أذهب بصري بكائي على يوسف، وقوس ظهري حزني على أخيه؛ فأوحى الله إليه: أتشكوني وعزتي لا أكشف ما بك حتى تدعوني، فعند ذلك قال: ﴿إِنَّمَآ أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى الله﴾ ثم قال: ﴿وَأَعْلَمُ مِنَ الله مَا لاَ تَعْلَمُونَ﴾ أي: أعلمُ من رحمته وأحسانه ما لا تعلمون، وهو أنَّه تعالى يأتيني بالفرج من حيث لا أحتسبه، وهو إشارة إلى أنه كان يتوقَّع رجوع يوسف إليه، وذكروا لسبب هذا التوقع وجوهاً:
أحدها: أنَّ مالك الموت أتاهُ فقال له: يا مالك الموت! هل قبضت روح ابني يوسف قال: لا يا نبيَّ الله، ثمَّ أشار إلى جانب مصر، وقال: اطلبهُ هاهنا.
وثانيها: أنه علم من رؤيا يوسف عليه السلام أنَّها صادقةٌ، وأنا وأنتم سنسجد له.
وثالثها: لعلَّه تعالى أوحى إليه أنَّه سيوصله إليه، ولكنَّه تعالى ما عيَّن الوقت؛ فلهذا بقي في القلب.
ورابعها: قال السديُّ: لما أخبره بنوه بسيرة الملك، وحاله في أقواله، وأفعاله؛ طمع أن يكون هو يوسف، وقال: لا يبعدُ أن يملك الكفَّار مثلُ هذا.
وخامسها: علم قطعاً أن بنيامين لا يسرقُ، وسمع أنَّ الملك ما آذاه، ولا ضربه؛ فغلب على [ظنه] أنَّ ذلك الملك هو يوسف عليه السلام، فعند ذلك قال: ﴿يا بني اذهبوا تحسّسوا من يوسف وأخيه﴾ أي: استقصوا خبره بحواسِّكم، والتَّحَسُّسُك لطب الشَّيء بالحاسَّة.
قال ابنُ الأنباريِّ «يقالُ: تَحَسَّسْتُ عن فلانٍ، ولا يقال: من فلان، وقيل: ههنا من
193
يوسف؛ لأنه أقيم:» مِنْ «مقام:» عَنْ «قال: ولا يجوز أن يقال:» مِنْ «للتعبيض، والمعنى: تحَسَّسُوا خبراً من أخبار يوسف، واستعملوا بعض أخبار يوسف فذكرت كلمة» مِنْ «لما فيها من الدلالة على التبعيض».
والتحسُّسُ: يكون في الخيرِ والشَّر، وقيل: بالحاء في الخير، وبالجيم في الشَّر، ولذلك قال هاهنا: «فتَحَسَّسُوا»، وفي الحجرات: ﴿وَلاَ تَجَسَّسُواْ﴾ [الحجرات: ١٢].
وليس كذلك فإنه قد قرىء بالجميم هنا.
ثم قال: ﴿وَلاَ تَيْأَسُواْ مِن رَّوْحِ الله﴾ وتقدَّم الخلاف في قوله: ﴿وَلاَ تَيْأَسُواْ﴾.
وقرأ الأعرج: «ولا تَيْسُوا» وقرأ العامة: «رَوْحِ اللهِ» بالفتح، وهو رحمته وتنفيسه.
قال الأصمعيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ «الرَّوحُ ما يجدهُ الإنسان من نسيم الهوى، فيسكن إليه، وتركيب الرَّاء، والواو، والحاء يفيد الحركة، وهو الاهتزازُ، فكلُّ ما يهتزُّ له الإنسان، ويلتذُّ بوجوده فهو روح».
قال ابن رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما: ﴿لا تيأسو من روح الله﴾ أي من رحمته وعن قتادة من فضل الله، وقيل: مِن فَرِجِِ اللهِ.
وقرأ الحسن، وعمر بن عبد العزيز، وقتادة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم بضمِّ الراء.
قال الزمخشريُّ: «لا تَيْأسوا، أي: من رحمته التي يحيى بها العباد».
وقال ابن عطية: وكأن معنى هذه القراءة لا تيأسوا من حي معه روح الله الذي وهبه فإن من بقي روحه يرجى؛ ومن هذا قول الشاعر: [الطويل]
٣١٤١ -........................ وفِي غَيْرِ من قَدْ وَارتِ الأرضًُ فاطْمَعِ
ومن هذا قول عبيد بن الأبرص: [مخلع البسيط]
194
وقرأ أبي: مِنْ رحْمةِ اللهِ، و «عِنْدَ اللهِ» :«مِنْ فضلِ الله» تفسير لاتلاوة.
وقال أبو البقاء: «والجمهور على فتح الرَّاء، وهو مصدر في معنى الرَّحمة إلا أنَّ استعمال الفعل منه قليل، وإنِّما يستعمل بالزِّيادة، مثل أراح، ويقرأ بضمِّ الرَّاء، وهي لغةٌ فيه، وقيل: هو اسم للمصدر، مثل الشُّربِ والشَّرب».
ثم قال: ﴿إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ الله إِلاَّ القوم الكافرون﴾ قال ابن عبَّاس: إن المؤمن من من الله على خير يرجوه في البلاءِ، ويحمده في الرَّخاء. واعلم أنَّ اليأس من رحمة الله لا يحصلُ إلاَّ إذا اعتقد الإنسان أنَّ إله العالم غير قادر على الكمالِ، أو غير عالم بجميع المعلوماتِ، أو ليس بكريمٍ، بل هو بخيلٌ، وكل واحد من هذه الثلاثة يوجب الكفر، والمعنى: أنَّ اليأس لا يحصل إلاَّ لمن كان كافراً، والله أعلم.

فصل


روي عن عبد الله بن يزيد بن أبي فروة: أنَّ يعقوب كتب كتاباً إلى يوسف عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ حين حبس بنيامين:
«من يعقوب إسرائيل الله بن إسحاق ذبيح الله بن إبراهيم خليل الله صلوات الله وسلامه عليه إلى ملك مصر، أما بعد:
فإنا أهلُ بيتٍ، وكل بناء البَلاءُ، أما جدّي إبراهيم عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ فشُدَّتْ يداه، ورجلاه، وألقي في النَّار؛ فجلعها الله عليه برداً وسلاماً، وأمَّا أبي فشدَّت يداه ورجلاه، ووض السِّيكن على قفاه؛ ففداه الله، وأمَّا أنا فكان لي ابنٌ، وكان أحبَّ أولادي إليّ، فذهب به إخوته إلى البرِّيةِ، ثم أتوني بقيمصه ملطّخاً بالدَّم، فقال: أكله الذِّئب؛ فذهبت عيناي، ثمَّ كان لي ابن، وكان أخاه من أمه، وكنت أتسلى به، وأنِّك حبسته، وزعمتَ أنَّه سرق، وأنَّا أهل بيتٍ لا نسرقُ، ولا نَلِدُ سَارقاً، فإن ردَدْتَهُ عليّن وإلاَّ دَعوتُ علَيْكَ دعْوة تُدرِكُ السَّابعَ من وَلدِك»
.
فلما قرأ يوسف لم يتمالك البُكاء، [وعيل] صبره، وأظهر نفسه على ما يأتي إن شاء الله تعالى.
قال ابن الخطيب: في الآية سؤالات:
195
الأول: أنَّ بلوغ يعقوب في محبة يوسف إلى هذا الحدِّ العظيم لا يليقُ إلا لمنْ كان غافلاً عن الله تعالى؛ لأنَّ من عرف اللهِ؛ أحبه، من أحبَّ اللهَ لم يتفرغْ قلبه بحب شيءٍ سوى اللهِ تعالى وأيضاً: القلبُ الواحدُ لا يسع الحب المستغرب لشيئين، فلمَّا كان قلبه مستغرقاً ف يحبّ ولده؛ امتنع أن يقال: إنَّه كان مستغرقاً في حبّ الله تعالى؟.
السؤال الثاني: أنّضه عند استيلاء الحزن الشَّديد عليه؛ كان من الواجب عليه أن يشتغل بذكر اللهِ تعالى والتفويض، والتَّسليم لقضائه.
وأما قوله: ﴿يا أسفا على يوسف﴾، فذلك لا يليقُ بأهل الدِّين والعلم فضلاً عن أكابرِ الأنبياء صلواتا لله وسلامه عليهم أجمعين؟.
السؤال الثالث: لا شكّ أن يعقوب عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ ت كان من أكابر الأنبياء وكان أبوه، وجده، وعمه كلهم من أكابر الأنبياء المشهورين في جميع الأنبياء ومن كان كذلك، ثم وقعت له واقعةٌ هائلة في أعزِّ أولاده، لم تبق تلك الواقعة خفيَّة، بل لا بدَّ، وأن تبلغ في الشُّهرة إلى حيث يعرفها كل أحدٍ، لا سيما، وقد انقضت المدَّة الطويلة فيها، وبقي يعقوب على حزنه الشديد، وأسفه العظيم، وكان يوسف في مصر، وكان يعقوب في بعض [بوادي] الشَّام قريباً من مصر، فمع قرب المسافة يمتنع بقاء هذه الواقعة خفية.
السؤال الرابع: لِمَ لَمْ يبعث يوسف إلى يعقوب ويعلمه أنَّه من الحياة صلاة الله عليهما وفي السِّلامة ولا يقال: إنه كان يخاف إخوته؛ لأنه بعد أن صار ملكاً قاهراً يمكنه إرسال الرسول إليه، وإخوته ما كانوا يقدرون على دفع رسوله؟.
السؤال الخامس: كيف جاز ليوسف عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ أن يضع الصَّواعَ في وعاءٍ أخيه، ثم يستخرجه ويلصقُ به تهمة السرقة مع أنَّه كان بريئاً عها.
السؤال السادس: كيف رغب في إلصاق هذه التُّهمة له، وحبسه عند نفسه مع أنَّهُ كان يعلم أنه يزداد حزن أبيه ويقوى؟.
والجواب عن الأول: أنَّ مع مثل هذه المحبة الشَّديدة يكون كثير الرُّجوع إلى الله تعالى كثير الاشتغال بالدُّعاء، والتضرُّع، وذلك يكون سبباً لكما الاستغراق وعن الثاني: أنَّ الداعية الإنسانية لا تزول في الحياة العاجلة، فتارة كان يقول ﴿يا أسفى على يوسف﴾ وتارة كان يقول: ﴿فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون﴾ وأما بقية الأسئلة، فالقاضي أجاب عنها فقال: هذه الوقائعُ الَّتي نقلت إلينا إمَّا أن يمكن تخريجها على الأحوال المعتادة أو لايمكن، فإن كان الأوَّل، فلا إشكالَ وإن كان الثاني فنقول: كان الزَّمان زمان الأنبياء، وخرق العادة في ذلك الزمان غير مستبعدٍ، فلم يمتنع أن يقال: إنَّ
196
بلدة يعقوب مع أنها كانت قريبة من بلدة يوسف عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ ولكن لم يصل خبر أحدهما إلى الآخر على سبيل يقتضي العلم.
197
قوله تعالى :﴿ وتولى عَنْهُمْ وَقَالَ ياأسفا عَلَى يُوسُفَ وابيضت عَيْنَاهُ مِنَ الحزن فَهُوَ كَظِيمٌ ﴾ الآية.
لما سمع يعقوب كلام بنيه، ضاق قلبه، وهاج حزنهُ على يوسف، فأعرض عنهم :﴿ وقال يا أسفى على يوسف ﴾ يا حزنا على يوسف.
والأسفُ : أشدُّ الحُزْنِ، وإنما عظم حزنهُ على مُفارقةِ يوسف عند هذه الواقعة لوجوه :
الأول : أنَّ الحزن القديم الكامل إذا وقع عليه حزن آخر كان أوجع، قال متمّم بن نويرة :[ الطويل ]
٣١٤٢ - وكُلُّ ذِي غيبَةٍ يَئُوبُ وغَائِبُ المَوتِ لا يَئُوبُ
فقُلْتُ لَهُ :
٣١٣٣ فَقَالَ أتَبْكِي كُلَّ قَبْرٍ رأيتَهُ لِمَيْتٍ ثَوَى بَيْنَ اللِّوى والدَّكَادِكَ
إنَّ الأسَى يَبْعَثُ الأسَى فدَعْنِي فَهذَا كُلُّهُ قَبْرُ مَالِكِ
وذلك ؛ لأنه كلما رأى قبراً تجدَّد عليه حزنه على أخيه مالك، فلاموهُ ؛ فأجاب : إنَّ الأسى يبعث الأسى.
الثاني : أنَّ ينيامين، ويوسف كانا من أمٍّ واحدة، وكانت المشابهة بينهما في الصِّفة متقاربة، فكان يعقوب عليه الصلاة والسلام يتسلّى برؤيته عن رؤية يوسف عليه السلام، فلما وقع ما وقع، زال ما يوجبُ السَّلوة، فعظم الألم.
الثالث : أنَّ المصيبة بيوسف كانت أصل مصائبه الَّتي عليها ترتب سائر المصائب، فكان الأسفُ عليه أسفاً على الكُلِّ.
الرابع : أنَّ هذه المصائب كانت أسبابها جارية مجرى الأمور المعلومةِ، فلم يبحث عنها يوسف صلوات الله وسلامه عليه فهو عليه السلام كان يعلمُ كذبهم في السَّببِ الذي ذكروه، وأما السَّببُ الحقيقي، فلم يعلمه.
وأيضاً : أنه عليه الصلاة والسلام كان يعلم حياة هؤلاء، وأمَّا يوسف فما كان يعلم أنَّه حي، أو ميت، فلهذه الأسباب عظم حزنه على مفارقته.
قوله :﴿ ياأسفا ﴾ الألف منقلبة عن ياء المتكلم، وإنَّما قلبت ألفاً ؛ لأنَّ الصَّوت معها أتم، ونداؤه على سبيل المجازِ، كأنَّه قال : هذا أوانُك فاحضر، نحو :" يَا حَسْرَتَا ".
وقيل هذه ألف الندبة، وحذفت هاء السَّكت وصلاً.
قال الزمخشريُّ : والتَّجانس بين لفظتي الأسف، ويوسف ممَّا يقعُ مطبوعاً غير متعمل فيملح، ويبدع، ونحوه :﴿ اثاقلتم إِلَى الأرض أَرَضِيتُمْ ﴾ [ التوبة : ٣٨ ] ﴿ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ ﴾ [ الأنعام : ٢٦ ] ﴿ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ ﴾ [ الكهف : ١٠ ] ﴿ مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ ﴾ [ النمل : ٢٢ ].
قال شهابُ الدِّين : ويسمَّى هذا النَّوع تجنيس التَّصريف، وهو أن تشترك الكلمتان في لفظ، ويفرق بينهما بحرف ليس في الأخرى، وقد تقدَّم [ الأنعام : ٢٦ ].
وقرأ ابن عباسٍ، مجاهدٌ " مِنَ الحَزَن " بفتحتين، وقتادة بضمتين والعامة بضمة فسكون.
فالحُزْن، والحَزَن، كالعُدْمِ، والعَدَم، والبُخْل والبَخَل، وأمَّا الضمتان فالثانية إتباعٌ. وقال الواحديُّ : اختلفوا في الحُزْنِ، الحَزَن، فقال قومٌ : الحُزْن : البُكاء والحَزَن ضد الفرحِ، وقال قومٌ : هما لغتان، يقال : أصَابهُ حُزْنٌ شديدٌ وحَزنٌ شديدٌ، إذا كان في مواضع النَّصب، فتحوا الحاء، والزَّاي كقوله :﴿ تَوَلَّوْا وَّأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدمع حَزَناً ﴾ [ التوبة : ٩٢ ]، وإذا كان في موضع الرفع، والخفض فبضم الحاءِ، كقوله :﴿ مِنَ الحزن ﴾ وقوله :﴿ إِنَّمَآ أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى الله ﴾ قال : هما في موضع رفع بالابتداء.
و " كَظِيمٌ " يجوز أن يكون مبالغة بمعنى فاعل، وأن يكون بمعنى مفعول، كقوله :﴿ وَهُوَ مَكْظُومٌ ﴾ [ القلم : ٤٨ ] وبه فسَّرهُ الزمخشريُّ، فإن كان بمعنى الكَاظِم فهو الممسك على حزنه فلا يظهره، وإن كان بمعنى المكظُومِ، فقال ابنُ قتيبة :" معناه المملوء من الهمّ، والحزن مع سدّ طريق نفسه المصدور، من كَظَمَ السِّقاء، إذا اشتدّ على ملئه، ويجوز أن يكون بمعنى مَمْلُوء من الغيظِ على أولاده ".

فصل


تقدَّم الكلام على الأسفِ، وأمَّا قوله :﴿ وابيضت عَيْنَاهُ مِنَ الحزن ﴾ فقيل : إنَّه لما قال :﴿ ياأسفا عَلَى يُوسُفَ ﴾ غلبه البُكَاءُ، وعند غلبةِ البُكاءِ يكثرُ الماء في العين، فتصير العينُ كأنها ابيضَّت من بياض ذلك الماءِ، فقوله :﴿ وابيضت عَيْنَاهُ ﴾ كناية عن غلبة البكاءِ. رواه الواحدي عن ابن عبَّاسٍ. وقال مقاتلٌ : كناية عن العمى، فلم يبصر بهما شيئاً حتى كشفهُ اللهُ تعالى بقميص يوسف عليه الصلاة والسلام بقوله :﴿ فَأَلْقُوهُ على وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيراً ﴾ [ يوسف : ٩٣ ]، وقال :﴿ فَلَمَّآ أَن جَآءَ البشير أَلْقَاهُ على وَجْهِهِ فارتد بَصِيراً ﴾ [ يوسف : ٩٦ ] : ولأنَّ الحزن الدَّائم، يوجب البكاء الدائم وهو يوجب العمىح لأنَّه يوجب كُدُورة على سوادِ العين.
وقيل : ما عمي، ولكنَّه صار بحيثُ يدرك إدراكاً ضعيفاً ؛ كما قال :[ الطويل ]
٣١٣٤ خَلِيليَّ إنِّي قَدْ غَشِيتُ مِنَ البُكَا فهَلْ عِنْدَ غَيْرِي مُقلَةٌ اسْتَعِيرُهَا
قيل : ما صحَّت عينا يعقوب من وقت فراق يوسف إلى حين لقائه، وتلك المدة ثمانون سنة، وما كان على وجه الأرض أكرم على الله من يعقوب عليه الصلاة والسلام.
قوله " تَفْتَؤ " هذا جواب القسم في قوله :" تَاللهِ " وهو على حذف لا أي : لا تفتؤ كقول الشَّاعر :[ البسيط ]
٣١٣٥ تَاللهِ على الأيَّامِ ذُو حَيَدٍ بمُشْمَخرِّ بِهِ الظَّيَّانُ والآسُ
أي : لا تبقى، ويدلُّ على حذفها : أنَّهُ لو كان مثبتاً ؛ لاقترن بلام الابتداء ونون التَّوكيد معاً عند البصريين، أو إحداهما عن الكوفيين، وتقول : واللهِ أحبُّك : تريد لأحبك، وهو من التَّوريةِ، فإن كثيراً من النَّاس يتبادر ذهنه إلى إثباتِ المحبَّة، و " تَفْتَأ " هنا ناقصة بمعنى لا تزال.
قال ابنُ السِّكيت :" ما زِلتُ أفعله، ما فَتِئت أفعلهُ، ما بَرحْتُ أفْعَلُه، ولا يتكلم بهنَّ إلاَّ في الجحد ".
قال ابن قتيبة :" يقال : مَا فترت ومَا فَتِئت، لغتان، ومعناه : ما نسيته، وما انقطعتْ عنه "، وإذا كانت ناقصة ؛ فهي ترفع الاسم، وهو الضمير، وتنصب الخبر، وهو الجملة من قوله :" تَذْكرُ " أي : لا تزالُ ذاكراً له، يقال : ما فَتِىء زيدٌ ذاهباً ؛ قال أوس بن حجرٍ :[ الطويل ]
٣١٣٦ فَمَا فَتِئَتْ حَتَّى كَأنَّ غُبَارهَا سُرَادِقُ يَوْمٍ ذِي ريَاحٍ تُرَفَّعُ
وقال أيضاً :[ الطويل ]
٣١٣٧ فَمَا فَتِئَتْ خَيلٌ تَثوبُ وتدَّعِي ويَلحَقُ منهَا لاحِقٌ وتُقطَّعُ
وعن مجاهدٍ : لا تفتر ؛ قال الزمخشريُّ : كأنه جعل الفُتُوء، والفُتُورَ أخوين، كما تقدَّم عن ابنِ قتيبة، وفيهما لغتان :" فَتَأ " على وزن " ضَرَبَ "، و " أفْتَأ " على وزن " أكْرَمَ "، ويتكون تامَّة بمعنى :" سَكَنَ وأطْفَأ " كذا قاله ابنُ مالكٍ.
وزعم أبُو حيَّان : أنه تصحيفٌ منه، وإنَّما هي فَثَأ بالثَّاءِ المثلثة، ورسمت هذه اللَّفظة " تَفْتَؤ " بالواو، والقياس " تَفْتَأ " بالألفن وكذلك يوقف لحمزة بالوجهين اعتباراً بالخطِّ، والقياس.
قوله :" حَرَضاً " : الحَرَضُ : الإشفاءُ على الموت، يقال منه : حَرَضَ الرَّجلُ يحرُض حرضاً بفتح الرَّاء، فهو حرض بكسرهَا، فالحرض مصدر من هذه المادَّة فيجيء في الآية الأوجه التي في " رجُلُ عدلٌ " كما تقدم.
ويطلق المصدر من هذه المادَّة على :" الحُثث " إطلاقاً شائعاً ؛ ولذلك يستوي فيه المفرد، والمثنى، والمجموع، والمذكر، والمؤنث، تقول : هو حرضٌ، وهما حرضٌ وهُم حَرَضٌ، وهي حَرَضٌ، وهُنَّ حَرَضٌ ؛ ويقال : رجلٌ حُرُضٌ بضمتين، نحو : جُنُب، وشُلْل. ويقال : أحْرَضهُ كذا، أي أهلكهُ ؛ قال :[ البسيط ]
٣١٣٨ إنِّي أمرؤُ لجَّ بِي حُبِّ فأحْرَضنِي حتَّى بَلِيتُ وحتَّى شَفَّنِي السَّقمُ
فهو مخرض. . قال الشَّاعر :[ الطويل ]
٣١٣٩ أرَى المَرْءَ كالأذْوَادِ يُصْبحُ مُحْرَضاً كإحْرَاضِ بكرٍ في الدِّيارِ مَريضِ
وقرأ بعضهم " حَرِضاً " بكسر الرَّاء.
وقال الزمخشريُّ :" وجاءت القراءة بهما جميعاً " يعنى بفتح الراء، وكسرها.
وقرأ الحسن :" حُرُضاً " بضمتين، وقد تقدَّم أنه ك :" جُنُبٍ، وشُلُلٍ "، وزاد الزمخشريُّ : وغُرُب ".
وقال الراغب : الحَرَض : ما لا يعتدُّّ به، ولا خيرَ فِيهِ، ولذلك يقال لمن أشرف على الهلاك : حَرَض، قال تعالى :﴿ حتى تَكُونَ حَرَضاً ﴾ [ يوسف : ٨٥ ]، وقد أحرصهُ كذا قال الشَّاعر :[ البسيط ]
٣١٤٠ إنِّي امْرُؤٌ لجَّ بِي همٌّ فأحْرَضْنِي *** والحُرْضَة : من لا يأكل إلاَّ لحم الميسر لنذالتهِ، والتَّحريضُ : الحثُّ على الشَّيء بكثرة التَّزيينِ، وتسهيل الخطب فيه، كأنَّه إزالة الحرض نحو : قَذَّيتُه، أي : أزلتُ عنه القَذَى، وأحرضتهُ : أفسدتهُ، نحو : أقذيتهُ : إذا جعلت فيه القَذَى " انتهى ".
والحُرُضُ : الأشنانُ، لإزالته الفساد، والمِحْرضَة : وعاؤه، وشذوذها كشذوذ : مُنْخُل، ومُسْعُط، ومُكْحُلة.
وحكى الواحديُّ عن أهل المعاني : أنَّ أصل الحَرَض : فساد الجسم، والعقل للحزن، والحبِّ، وقولهم : حرَّضتُ فلاناً على فلانٍ، تأويله : أفسدته وأحميته عليه، قال الله تعالى :﴿ حَرِّضِ المؤمنين عَلَى القتال ﴾ [ الأنفال : ٦٥ ].
وإذا عرفت هذا فوصف الرَّجُل بأنه حرض إمَّا أن يكون المراد منه : ذو حرض فحذف المضاف، أو المراد منه : أنَّه لما تناهى في الفسادِ، والضعفح فكأنَّه صار عين الحرض، ونفس الفسادِ، وأمَّا الحَرِض بكسر الراء فهو الصِّفة كما قرىء بها وللمفسِّرين فه عباراتُ :
أحدها : الحَرَض، والحَارِضُ، وهو الفساد في جسمه، وعقله.
وثانيها : قال نافع بن الأزرق : سئل ابنُ عبَّاسٍ رضي الله عنهما فقال : الفاسد الرَّأي.
وثالثها : أنه هو الذي يكون لا كالأحياء، ولا كالأموات.
وذكر أبو روق أنَّ أنس بن مالك قرأ :﴿ حتى تَكُونَ حَرَضاً ﴾ بضمِّ الحاء وسكن الرَّاء.
ثم قال تعالى :﴿ أَوْ تَكُونَ مِنَ الهالكين ﴾ من الأموات، والمعنى : لا تزال تذكر يوسف بالحزن، والبكاء عليه حتى تصير بحث لا تنتفع بنفسك، أو تموت من الغمّ،
وأرادوا بذلك منعه من كثرةِ البُكاءِ، والأسف.
فإن قيل : لم حلفوا على ذلك مع أنَّهم لم يعلموا ذلك قطعاً ؟.
فاالجواب : أنَّهم بنوا الأمر على الظَّاهر.
قال المفسِّرون : القائل هذا الكلام، وهوقوله :﴿ تالله تفتؤ تذكر يوسف ﴾ هم إخوة يوسف، وقال بعضهم : ليسوا الإخوة، بل الجماعة الذين كانوا في الدَّار من أولاده وخدمه،
فقال يعقوب عليه الصلاة والسلام :﴿ إنما أشكو بثي وحزني إلى الله ﴾ والبَثُّ : أشدُّ الحزن، كأنَّه لقوته لا يطاق حمله، فيبثه الإنسان، أي : يفرِّقه، ويذيعه وقد تقدَّم [ آل عمران : ١٨٦ ] أنَّ أصل هذه المادَّة الدلالة على الانتشار، وجوَّز فيه الرَّاغب هنا وجهين :
أحدهما : أنه مصدر في معنى المعفولِ، قال :" أي : غمّي الذي يبثه عن كتمانٍ، فهو مصدر في تقدير مفعول، أو يعني غمِّي الذي بثَّ فكري، فيكون في معنى الفاعل ".
وقرأ الحسن وعيسى " وحَزَنِي " بفتحتين، و قتادة بضمتين، وقد تقدم.

فصل


المعنى : أن يعقوب عليه السلام لما رأى غلظتهم، قال : إنَّما أشكو شدَّة حزني إلى الله، وسمَّى شدَّة الحزن بثًّا ؛ لأنَّ صاحبه لا يصبر عليه حتى يبثه، أي :[ يظهره ].
وقال الحسن : بَثِّي، اي : حاجتي، والمعنى : أنَّ هذا الذي أذكره لا أذكره معكم، وإنَّما أذكره في حضرةِ الله تعالى والإنسان إذا ذكر شكواه إلى الله تعالى كان في زمرة المحققين.
وروي أنَّهُ قيل له : يا يعقوب، ما الذي أذهب بصرك، وقوَّص ظهرك ؟ قال : أذهب بصري بكائي على يوسف، وقوس ظهري حزني على أخيه ؛ فأوحى الله إليه : أتشكوني وعزتي لا أكشف ما بك حتى تدعوني، فعند ذلك قال :﴿ إِنَّمَآ أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى الله ﴾ ثم قال :﴿ وَأَعْلَمُ مِنَ الله مَا لاَ تَعْلَمُونَ ﴾ أي : أعلمُ من رحمته وإحسانه ما لا تعلمون، وهو أنَّه تعالى يأتيني بالفرج من حيث لا أحتسبه، وهو إشارة إلى أنه كان يتوقَّع رجوع يوسف إليه، وذكروا لسبب هذا التوقع وجوهاً :
أحدها : أنَّ ملك الموت أتاهُ فقال له : يا مالك الموت ! هل قبضت روح ابني يوسف قال : لا يا نبيَّ الله، ثمَّ أشار إلى جانب مصر، وقال : اطلبهُ هاهنا.
وثانيها : أنه علم من رؤيا يوسف عليه السلام أنَّها صادقةٌ، وأنا وأنتم سنسجد له.
وثالثها : لعلَّه تعالى أوحى إليه أنَّه سيوصله إليه، ولكنَّه تعالى ما عيَّن الوقت ؛ فلهذا بقي في القلب.
ورابعها : قال السديُّ : لما أخبره بنوه بسيرة الملك، وحاله في أقواله، وأفعاله ؛ طمع أن يكون هو يوسف، وقال : لا يبعدُ أن يملك الكفَّار مثلُ هذا.
وخامسها : علم قطعاً أن بنيامين لا يسرقُ، وسمع أنَّ الملك ما آذاه، ولا ضربه ؛ فغلب على [ ظنه ] أنَّ ذلك الملك هو يوسف عليه السلام،
فعند ذلك قال :﴿ يا بني اذهبوا تحسّسوا من يوسف وأخيه ﴾ أي : استقصوا خبره بحواسِّكم، والتَّحَسُّسُك طلب الشَّيء بالحاسَّة.
قال ابنُ الأنباريِّ " يقالُ : تَحَسَّسْتُ عن فلانٍ، ولا يقال : من فلان، وقيل : ههنا من يوسفح لأنه أقيم :" مِنْ " مقام :" عَنْ " قال : ولا يجوز أن يقال :" مِنْ " للتعبيض، والمعنى : تحَسَّسُوا خبراً من أخبار يوسف، واستعملوا بعض أخبار يوسف فذكرت كلمة " مِنْ " لما فيها من الدلالة على التبعيض ".
والتحسُّسُ : يكون في الخيرِ والشَّر، وقيل : بالحاء في الخير، وبالجيم في الشَّر، ولذلك قال هاهنا :" فتَحَسَّسُوا "، وفي الحجرات :﴿ وَلاَ تَجَسَّسُواْ ﴾ [ الحجرات : ١٢ ].
وليس كذلك فإنه قد قرىء بالجميم هنا.
ثم قال :﴿ وَلاَ تَيْأَسُواْ مِن رَّوْحِ الله ﴾ وتقدَّم الخلاف في قوله :﴿ وَلاَ تَيْأَسُواْ ﴾.
وقرأ الأعرج :" ولا تَيْسُوا " وقرأ العامة :" رَوْحِ اللهِ " بالفتح، وهو رحمته وتنفيسه.
قال الأصمعيُّ رحمه الله " الرَّوحُ ما يجدهُ الإنسان من نسيم الهوى، فيسكن إليه، وتركيب الرَّاء، والواو، والحاء يفيد الحركة، وهو الاهتزازُ، فكلُّ ما يهتزُّ له الإنسان، ويلتذُّ بوجوده فهو روح ".
قال ابن رضي الله عنهما :﴿ لا تيأسو من روح الله ﴾ أي من رحمته وعن قتادة من فضل الله، وقيل : مِن فَرِجِِ اللهِ.
وقرأ الحسن، وعمر بن عبدالعزيز، وقتادة رضي الله عنهم بضمِّ الراء.
قال الزمخشريُّ :" لا تَيْأسوا، أي : من رحمته التي يحيى بها العباد ".
وقال ابن عطية : وكأن معنى هذه القراءة لا تيأسوا من حي معه روح الله الذي وهبه فإن من بقي روحه يرجى ؛ ومن هذا قول الشاعر :[ الطويل ]
٣١٤١. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . *** وفِي غَيْرِ من قَدْ وَارتِ الأرضًُ فاطْمَعِ
ومن هذا قول عبيد بن الأبرص :[ مخلع البسيط ]
٣١٤٢ وكُلُّ ذِي غيبَةٍ يَئُوبُ *** وغَائِبُ المَوتِ لا يَئُوبُ
وقرأ أبي : مِنْ رحْمةِ اللهِ، و " عِنْدَ اللهِ " :" مِنْ فضلِ الله " تفسير لاتلاوة.
وقال أبو البقاء :" والجمهور على فتح الرَّاء، وهو مصدر في معنى الرَّحمة إلا أنَّ استعمال الفعل منه قليل، وإنِّما يستعمل بالزِّيادة، مثل أراح، ويقرأ بضمِّ الرَّاء، وهي لغةٌ فيه، وقيل : هو اسم للمصدر، مثل الشُّربِ والشَّرب ".
ثم قال :﴿ إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ الله إِلاَّ القوم الكافرون ﴾ قال ابن عبَّاس : إن المؤمن من من الله على خير يرجوه في البلاءِ، ويحمده في الرَّخاء. واعلم أنَّ اليأس من رحمة الله لا يحصلُ إلاَّ إذا اعتقد الإنسان أنَّ إله العالم غير قادر على الكمالِ، أو غير عالم بجميع المعلوماتِ، أو ليس بكريمٍ، بل هو بخيلٌ، وكل واحد من هذه الثلاثة يوجب الكفر، والمعنى : أنَّ اليأس لا يحصل إلاَّ لمن كان كافراً، والله أعلم.

فصل


روي عن عبدالله بن يزيد بن أبي فروة : أنَّ يعقوب كتب كتاباً إلى يوسف عليه الصلاة والسلام حين حبس بنيامين :
" من يعقوب إسرائيل الله بن إسحاق ذبيح الله بن إبراهيم خليل الله صلوات الله وسلامه عليه إلى ملك مصر، أما بعد :
فإنا أهلُ بيتٍ، وكل بناء البَلاءُ، أما جدّي إبراهيم عليه الصلاة والسلام فشُدَّتْ يداه، ورجلاه، وألقي في النَّار ؛ فجلعها الله عليه برداً وسلاماً، وأمَّا أبي فشدَّت يداه ورجلاه، ووضع السِّكين على قفاه ؛ ففداه الله، وأمَّا أنا فكان لي ابنٌ، وكان أحبَّ أولادي إليّ، فذهب به إخوته إلى البرِّيةِ، ثم أتوني بقيمصه ملطّخاً بالدَّم، فقال : أكله الذِّئب ؛ فذهبت عيناي، ثمَّ كان لي ابن، وكان أخاه من أمه، وكنت أتسلى به، وأنِّك حبسته، وزعمتَ أنَّه سرق، وأنَّا أهل بيتٍ لا نسرقُ، ولا نَلِدُ سَارقاً، فإن ردَدْتَهُ عليّ وإلاَّ دَعوتُ علَيْكَ دعْوة تُدرِكُ السَّابعَ من وَلدِك ".
فلما قرأ يوسف لم يتمالك البُكاء، [ وعيل ] صبره، وأظهر نفسه على ما يأتي إن شاء الله تعالى.
قال ابن الخطيب : في الآية سؤالات :
الأول : أنَّ بلوغ يعقوب في محبة يوسف إلى هذا الحدِّ العظيم لا يليقُ إلا لمنْ كان غافلاً عن الله تعالى ؛ لأنَّ من عرف اللهِ ؛ أحبه، من أحبَّ اللهَ لم يتفرغْ قلبه بحب شيءٍ سوى اللهِ تعالى وأيضاً : القلبُ الواحدُ لا يسع الحب المستغرق لشيئين، فلمَّا كان قلبه مستغرقاً فيحبّ ولده ؛ امتنع أن يقال : إنَّه كان مستغرقاً في حبّ الله تعالى ؟.
السؤال الثاني : أنّه عند استيلاء الحزن الشَّديد عليه ؛ كان من الواجب عليه أن يشتغل بذكر اللهِ تعالى والتفويض، والتَّسليم لقضائه. وأما قوله :﴿ يا أسفا على يوسف ﴾، فذلك لا يليقُ بأهل الدِّين والعلم فضلاً عن أكابرِ الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين ؟.
السؤال الثالث : لا شكّ أن يعقوب عليه الصلاة والسلام كان من أكابر الأنبياء وكان أبوه، وجده، وعمه كلهم من أكابر الأنبياء المشهورين في جميع الأنبياء ومن كان كذلك، ثم وقعت له و اقعةٌ هائلة في أعزِّ أولاده، لم تبق تلك الواقعة خفيَّة، بل لا بدَّ، وأن تبلغ في الشُّهرة إلى حيث يعرفها كل أحدٍ، لا سيما، وقد انقضت المدَّة الطويلة فيها، وبقي يعقوب على حزنه الشديد، وأسفه العظيم، وكان يوسف في مصر، وكان يعقوب في بعض [ بوادي ] الشَّام قريباً من مصر، فمع قرب المسافة يمتنع بقاء هذه الواقعة خفية.
السؤال الرابع : لِمَ لَمْ يبعث يوسف إلى يعقوب ويعلمه أنَّه من الحياة صلاة الله عليهما وفي السِّلامة ولا يقال : إنه كان يخاف إخوته ؛ لأنه بعد أن صار ملكاً قاهراً يمكنه إرسال الرسول إليه، وإخوته ما كانوا يقدرون على دفع رسوله ؟.
السؤال الخامس : كيف جاز ليوسف عليه الصلاة والسلام أن يضع الصَّواعَ في وعاءٍ أخيه، ثم يستخرجه ويلصقُ به تهمة السرقة مع أنَّه كان بريئاً عها.
السؤال السادس : كيف رغب في إلصاق هذه التُّهمة له، وحبسه عند نفسه مع أنَّهُ كان يعلم أنه يزداد حزن أبيه ويقوى ؟.
والجواب عن الأول : أنَّ مع مثل هذه المحبة الشَّديدة يكون كثير الرُّجوع إلى الله تعالى كثير الاشتغال بالدُّعاء، والتضرُّع، وذلك يكون سبباً لكمال الاستغراق.
وعن الثاني : أنَّ الداعية الإنسانية لا تزول في الحياة العاجلة، فتارة كان يقول ﴿ يا أسفى على يوسف ﴾ وتارة كان يقول :﴿ فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون ﴾ وأما بقية الأسئلة، فالقاضي أجاب عنها فقال : هذه الوقائعُ الَّتي نقلت إلينا إمَّا أن يمكن تخريجها على الأحوال المعتادة أو لايمكن، فإن كان الأوَّل، فلا إشكالَ وإن كان الثاني فنقول : كان الزَّمان زمان الأنبياء، وخرق العادة في ذلك الزمان غير مستبعدٍ، فلم يمتنع أن يقال : إنَّ بلدة يعقوب مع أنها كانت قريبة من بلدة يوسف عليه الصلاة والسلام ولكن لم يصل خبر أحدهما إلى الآخر على سبيل يقتضي العلم.
قوله تعالى: ﴿فَلَمَّا دَخَلُواْ عَلَيْهِ قَالُواْ يا أيها العزيز﴾ الآية اتفق المفسِّرون على أنَّ هنا محذوفاً، وتقديره: فخرجوا راجعين إلى مصر، ودخلوا على يوسف، فقالوا: يا أيُّها العزيزُ.
فإن قيل: إذا كان يقعوب أمرهم أن يتحسسوا من يوسف وأخيه، فلم عادوا إلى الشكوى؟.
فالجواب: أنَّ المتحسِّسَ يصل إلى مطلوبه بجميع الطُّرقِ، والاعترافِ باِلعجز، وضموا رقَّة الحال، وقلَّة المال، وشدَّة الحاجة، وذلك ممَّا يرقِّقٌ القلب، فقالوا: نُجرِّبهُ في هذه الأمورِ، فإن قلبه لنا ذكرنا له المقصود، وإلا سكتنا، فلهذا قدَّموا ذكر فقالوا: «أيُّها العزيزُ» والعزيزُ: الملكُ القادرُ الممتنع: «مسَّنَا وأهْلنَا الضُرُّ» وهو الفقر، والحاجة، وكثرة العيال وقلَّة الطَّعام، وعنوا بأهلهم من خلفهم.
قوله: «مُزجَاةٍ» أي مدفوعة يدفعها كلُّ أحدٍ عنه لزهادته فيها، ومنه: ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله يُزْجِي سَحَاباً﴾ [النور: ٤٣] أي: يسوقها بالريح؛ وقال حاتم [الطويل]
٣١٤٣ - لِيًَبْكِ على مِلحَان ضَيْفٌ مُدفَعٌ وأرْمَلةٌ تُزْجِي مَعَ اللَّيْلِ أرْمَلاَ
ويقال: أزْجيتُ رَدِيء الدرهم فزُجِي، ومنه استعير زَجَا الجِرَاح تزْجُوا زجاً وجراح زَاج. وقول الشاعر: [البسيط]
٣١٤٤ - وحَاجَةٍ غَيْرِ مُزْجاةٍ مِن الحَاجِ... أي: غير يسيرة يمكنُ دفعها، وصرفها لقلَّة الاعتداد بها، فألف «مُزجَاةٍ» منقلبة عن واو.
197

فصل


وإنَّما وصفوا تلك البضاعة بأنها مزجاة إمَّا لنقصها، أو لدناءتها أو لهما جميعاً، قال بعضهم: المُزْجَاةُ القليلة. وقيلك كانت رَدِيئةً.
وقال ابنُ عبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما كانت دراهم رديئة لا تقبل في ثمن الطَّعام وقيل: أمتعة رديئة. وقيل: متاع الأعراب الصُّوفُ والسَّمْن. وقيل: الحبة الخضراء، وقيل: الأقط، وقيل: النعال والأدم، وقيل: سويق المقل.
وقيل: إنَّ الدَّراهم كانت منوقشة عليها صورة يوسف، والدَّراهم الَّتي جاؤا بها، ما كان فيها صورة يوسف.
وإنَّما سيمت البضاعة القليلة الرَّديئة مزجاة، قال الزجاج: من قولهم: فلانٌ يزْجِي العَيْشَ، أي: يدفع الزَّمان بالقليلِ، أي: إنَّا جئنا ببضاعة مزجاة ندافع بها الزَّمان، وليست مما ينتفعُ بها، وعلى هذا فالتقديرُ ببضاعة مزجاةٍ ندافع بها الأيام.
قال أبو عبيد: إنَّما قيل للدَّراهم الرّّديئةِ مزجاة؛ لأنَّها مردودة مدفوعة غير مقبولة ممَّن ينفقها، قال: وهي من الإزجاء، والإزجاء عند العرب: الدَّفعُ.
وقيل: مزجاة، أي: مؤخرة مدفوعة عن الإنفاقِ لا يقبل مثلها إلاَّ من اضطر، واحتاج إليها لفقد غيرها ممَّا هو أجود مها.
وقال الكلبيُّ: «مزجاة لغة العجم، وقيل: هي من لفظ القِبْطِ».
قال ابن الأنباريي: لا ينبغي أن يجعل لفظ عربي معروف الاشتقاق منسوباً إلى القبط.
وقرأ حمزة والكسائي: «مُزْجَاةٍ» بالإمالة؛ لأن اصله الياء، والباقون بالفتح والتفخيم.
ثمَّ لما وصفوا شدَّة حالهم، ووصفوا بضاعتهم بأنها مزجاة قالوا له: «فأوْفِ لنَا الكيْلَ: يجوز أن يراد به حقيقة من الآلة، وأن يراد به الكيل، فيكون مصدراً، والمعنى إنَّا نريدٌ أن نقيم النَّاقص مقام الزَّائد أو نقيم الرَّديء مقام الجيِّد.
﴿وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَآ﴾ : أي تفضل علينا بما بين الثمنين الجيّد، والرَّديء، وسامحنا ولا تنقصنا.
وقال ابن جريج، والضحاك، أي: تصدَّق علينا بردِّّ أخينا لنا: ﴿إِنَّ الله يَجْزِي المتصدقين﴾ يثيب المتصدقين.
198
قال الضحاك: لم يقولوا: إنَّ الله يجزيك؛ لأنَّهم لم يعلموا أنَّه مؤمنٌ.
وسُئل سفيان بن عيينة: هل حرمت الصدقة على نبيّ من الأنبياء سوى نبيِّنا صلوات الله وسلامه عليه؟.
قال سفيان: ألم تسمع قوله: ﴿وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَآ إِنَّ الله يَجْزِي المتصدقين﴾.
يريد: أنَّ الصَّدقة كانت حلالاً لهم، وأنكر الباقون ذلك، وقالوا: حالُ الأنبياء وحالُ أولادِ الأنبياء في طلب الصَّدقة سواء؛ لأنَّهم يأنفون من الخضوع إلى المخلوقين ويغلب عليهم الانقطاع إلى الله، والاستغناء به عمَّنْ سواه.
وروي عن الحسنِ ومجاهدٍ: أنَّهما كرها أن يقول الرَّجل في دعائه: اللَّهُمَّ تصدَّق علينا، قالوا: لأنَّ الله لا يتصدَّق، وإنَّما التَّصدُّق بمعنى الثَّواب، وإنما يقول اللَّهُمَّ أعطني وتفضَّل علينا.

فصل


قال القرطبيُّ: «استدلًَّ العلماء بهذه الآية على أنَّ أجرة الكيال على البائع، لقولهم ليسوف عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ» فأوْفِ لَنَا الكَيْلَ «فكان يوسفُ هو الذي يكيل، وكذلك الوزَّانُ، العدَّادُ وغيرهم؛ لأنَّ الرَّجُلَ إذا باع عدّة من طعامه معلومة، وأوجب العقد عليه؛ وجب عليه أن يبرزها، ويُمَيِّز حقَّ المشتري من حقِّه إلا إن كان المبيعُ فيه معيناً صبره، أو ما ليس فيه حق موفيه، فيخلي ما بينه وبينه، وما جرى على المبيع فهو ضمان المبتاع، وليس كذلك ما يتعلَّق به حقُّ موفيه من كيل أو وزنٍ، ألا ترى: أنَّه لا يستحقُّ البائع الثمن إلاَّ بعد التَّوفية، كذلك أجرة النقد على البائع أيضاً؛ لأنَّ المتباع الدَّافع لدراهمه يقول: إنَّها طيبة فأنت الذي تدّعي الرَّداءة، فانظر لنفسك، فيقع له فكان الأجرُ عليه، وكذلك لا يجبُ أجرة القاطع على من يجب عليه القصاص لأنه لا يجب عليه أن يقطع نفسه، ولا أن يمكن من ذلك طائعاً؛ ألا ترى أنَّ فرضاَ عليه أن يفدي يده، ويصالح عليه، إذا طلب المقتص ذلك.
وقال الشَّافعيُّ: إن الأجرة على المقتص منه كالبائع؛ لأنَّه يجب عليه تسليم يده.

فصل


روي: أنهم لما قالوا: ﴿مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضر﴾ وتضرَّعُوا إليه، أدركته الرِّقَّة، فارفضَّ دمعه، فباح الذي كان يكتمُ، فقال: ﴿هَلْ عَلِمْتُمْ مَّا فَعَلْتُم بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ﴾ وقيل: دفعوا إليه
199
كتاب يعقوب، فلما قرأ الكتاب ارتعدت مفاصله واقشعرَّ جلدهُ، ولانَ قلبه، وكثر بكاؤه؛ فصرح بأنه يوسف.
قوله: ﴿هَلْ عَلِمْتُمْ﴾ يجوز أن تكون استفهامية للتَّوبيخ، وهو الأظهر وقيل: هو خبر و» هَلْ «بمعنى» قَدْ «.
وقال الكلبيُّ: «إنما قال: ﴿هَلْ عَلِمْتُمْ مَّا فَعَلْتُم بِيُوسُفَ﴾ حين حكى لإخوته أنَّ مالك بن دعر قال: إنِّي وجدت غلاماً في بئر من حلاعه كَيْتَ وكيْتَ فأبتعته بكذا وكذا درهماً، فقالوا أيُّها الملك: نحن بِعْنَا ذلك الغلام منه؛ فغاظ يوسف عليه السلام ذلك، وأمر بقتلهم، فذهبوا بهم ليقتلوهم، فولى يَهُوذا وهو يقول: كان يعقوب قد حزن لِفقْدِ واحدة منَّا حتَّى كفَّ بصره، فكيف إذا أتاهُ قتل بنيه كلِّهم، ثم قالوا له: إن فعلت ذلك، فابعثْ بأمتعتنا إلى أبينا، فإنَّه بمكان كذا وكذا، فذلك حين رحمهم وبكى، وقال ذلك القول»
.
وفي هذه الآية تصديق قوله تعالى: ﴿وَأَوْحَيْنَآ إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هذا وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ﴾ [يوسف: ١٥]، وأمَّا قوله: «وَأخِيهِ» فالمراد ما فعلتم من تعريضه للغمِّ بسبب إفراده عن أخيه لأبيه وامِّه، وأيضاًك كانوا يؤذونه، ومن جملة الإيذاء، قالوا في حقه: ﴿إِن يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَّهُ مِن قَبْلُ﴾ [يوسف: ٧٧] وأما قوله: ﴿إِذْ أَنتُمْ جَاهِلُونَ﴾ فهو يجرى مجرى الغدرِ لهم كأنه قال: أنتم أقدمتم على ذلك الفعل القبيح المنكر حال كونكم من حالة الصِّبا، وفي جهالة الغرور، يعني: والآن لستُم كذلكن ونظيره قوله تعالى: ﴿مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الكريم﴾ [الانفطار: ٦] وقيل: إنما ذكر تعالى ذلك الوصف ليكون ذلك جارياً مجرى الجواب، فيقول العبدُ: يا ربِّ غرَّنِي كرَمُكَ، فكذا ههنا إنَّما قال لهم يوسف ذلك الكلام إزالة للخجل عنهم، وتخفيفاً للأمر عليهم.
وقيل: المعنى: إذ أنتم جاهلون بما يئول إليه أمر يوسف صلوات الله وسلامه عليه. فإن قيل: كيف قال: ﴿مَّا فَعَلْتُم بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ﴾، ولم يكن منهم إلى أخيه شيء، ولم يسعوا في حبسه؟.
قيل: هو قولهم حين أخرجوا الصواع من رحله، ما رأينا منكم يا بني راحيل إلاَّ البلاء.
وقيل: تفريقهم بينه، وبين أخيه يوسف، وكانوا يؤذونه بعد فقد يوسف.
قوله: «أئِنَّكَ» قرأ ابن كثير، وأبو جعفر: «إنَّكَ» بهمزة واحدة على الخبر
200
والباقون بهمزتين استفهاماً، وقد تقدَّم قراءتهم في هاتين الهمزتين تخفيفاً، وتسهيلاً وغير ذلك، فأمَّا قراءة ابن كثير، فيحتمل أن تكون خبراً محضاً واستبعد هذا من حيث تخالف القراءتين مع أنَّ القائل واحد.
وقد أجيب عن ذلك بأنَّ بعضهم قاله استفهاماً، وبعضهم قاله خبراً، ويحتمل أن يكون استفهاماً حذف منه الأداة لدلالة السِّياق، والقراءة الأخرى عليه، وقد تقدَّم نحو هذا في الإعراب.
وقرأ أبيّ (أَوَأَنْتَ يوسف) فمن قرأ بالاستفهما قالوا: إنَّ يوسف لما قال لهم: ﴿هل علمتم ما فعلتم﴾ تبيَّنوا يوسف، فأبصروا ثناياه كاللّؤلؤ المنظُوم.
وروى الضحاكُ عن ابنِ عبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما لما قال هذا القول تبسَّم فرأوْا ثناياه كاللّؤلؤن فشبهوه بيوسف، ولم يعرفوه، فقالوا استفهاماً: ﴿أَإِنَّكَ لأَنتَ يُوسُفُ﴾ ويدلُّ على أنه استفهام قوله: «أنَا يُوسفُ»، وإنَّما أجابهم عما اسْتَفْهَمُوا عنه، ومن قرأ على الخبر فحجته ما روى الضحاك عن ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما أنَّه قال: إنَّ أخوة يوسف لم يعرفوه حتّى وضع التَّاج عن رأسه، كان في قرنه شامة وكان لإسحاق، ويعقوب مثلها تشبه التَّاج عرفوه بتلك العلامة.
وقال ابن إسحاقك «كان يتكلَّم من وراء ستر، فلما قال: ﴿هَلْ عَلِمْتُمْ مَّا فَعَلْتُم بِيُوسُفَ﴾ رفع الحجاب فعرفوه» وقيل: قالوه على التَّوُّهمِ.
«واللام في:» لأنْتَ «لام الابتداء، و» أنْتَ «مبتدأ، و» يُوسفُ «خبره والجملة خبر» إنَّ «ويجوز أن تكون» أنْتَ «فصلاً، ولا يجوز أن يكن تأكيداً لاسم» إنَّ «لأنَّ هذه اللام لا تدخل على التوكيد».
وقرأ أبي: (أئنك أو أنت يوسف) وفيها وجهان:
أحدهما: قال أبُوا الفتح: إنَّ الأصل: أئنك لغير يوسف، أو أنت يوسف فحذف خبر «إن» لدلالة المعنى عليه.
والثاني: ما قاله الزمخشريُّ: المعنى: أئنَّك يوسف، أو أنت يوسف فحذف الأول لدلالته، وهذا كلام متعجب مستغرب لما يسمع، فهو يكرِّر الاستثبات فقال: ﴿أَنَاْ يُوسُفُ وهذا أَخِي﴾ وإنَّما صرَّح بالاسم تعظيماً لما نزل به من ظلم إخوته، وما عوضه الله من الظَّفر والنَّصر، فكأنه قال: أنا الذي ظلمتموني على أعظم الوجوه، والله أوصلني إلى أعظم المناصب، أنا ذلك العاجزُ الذي قصدتم قتله، وإلقاءه في الجبِّ، ثمَّ صرتُ كما ترون، ولهذا قال: «وهَذا أخِي» مع أنَّهم كانوا يعرفونه؛ لأن مقصوده أن يقول: وهذا أيضاً كان مظلوماً كما كنت، ثم إنه صار منعماً عليه من قبل الله كما ترون. {قَدْ مَنَّ الله
201
عَلَيْنَآ} قال ابنُ عباسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه بكلِّ عزِّ في الدنيا والآخرة.. وقيل: بالجمع بيننا بعد الفرقة.
قوله: ﴿إِنَّهُ مَن يَتَّقِ وَيِصْبِرْ﴾ قرأ قنبل «يتقي» بإثبات الياء وصلاً ووقفاً، والباقون بحذفها فيهما.
فأمَّا قراءة الجماعة فواضحة؛ لأنَّه مجزومٌ، وأمَّا قراءة قنبلٍ، فاختلف فيها النَّاس على قولين:
أحدهما: أنَّ إثبات حرف العلَّة في الجزم لغة لبعض العرب؛ وأنشدوا: [الوافر]
٣١٤٥ - أَلَمْ يَأتِيكَ والأنْبَاءُ تَنْمِي بِمَا لاقَتْ لبُونُ بَنِي زِيَادِ
وقول الآخر: [البسيط]
٣١٤٦ - هَجَوْتَ زبَّات ثُمذَ جِئتَ مُعْتَذِراً مِنْ هَجْوِ زبَّان لَمْ تَهْجُوا ولَمْ تَدعِ
وقول الآخر: [الرجز]
٣١٤٧ - إذَا العَجُوزُ غَضِبَتْ فَطلِّقِ ولا تَرضَّاهَا ولا تَملَّقِ
وقول الآخر: [الرجز]
٣١٤٨ - إنِّي إذَا مَا ما القَوْمُ كَانُوا أنْجِيَهْ واضْطَربَ القَوْمَ اضطرابَ الأرْشِيَهْ
هُنَاكَ أوْصِينِي ولا تُوصِي بِيَهْ
ومذهب سيبويه: أنَّ الجازم بحذف الحركة المقدرة، وأنَّما تبعها حرف العلَّة في الحذف تفرقة بين المرفوع، والمجزوم.
واعترض عليه: بأنَّ الجازم يبين أنَّه مجزوم، وعدمه يُبيِّنُ أنه غيرُ مجوزم.
وأجيب: بأنه ف بعض الصُّورِ يلتبس فاطرد الحذف، بيانه: أنَّك إذا قلت «زُرْنِي أعْطِتكَ» بثبوت الياءِ، احتمل أن يكون «أعْطِيكَ» جزاء الزيارة، وأن يكون خبراً مستأنفاً، فإذا قلت: «أعْطِكَ» بحذفها تعين أن يكون جزاء له؛ فقد وقع اللَّبس بثبوت حرف العلِّة،
202
وفقد بحذفه، فيقالُ: حرف العلَّة يحذف عند الجازمِ لا به.
ومذهب ابنِ السَّراجك أنَّ الجازم أثَّر في نفس الحرف فحذفه، وفيه البحثُ المتقدم.
والثاني: أنَّه مرفوعٌ غير مجزومٍ و «مَنْ» موصولةٌ، والفعل صلتها؛ فلذلك لم يحذف لامه.
واعترض على هذا بأنَّهُ قد عطف عليه مجزوم وهو قوله: «ويَصْبِرْ» فإنَّ قُنْبُلاً لم يقرأ إلا بإسكان الرَّاء.
وأجيب عن ذلك: بأنَّ التَّسكين لتوالي الحركات، وإن كان من كلمتين كقراءة أبي عمرو ﴿يَنصُرْكُمُ﴾ [آل عمران: ١٦٠]، و ﴿يَأْمُرَكُمْ﴾ [آل عمران: ٨٠]، وأجيب أيضاً: بأنه جزم علكى التوهم يعني لما كانت «مَنْ» الموصولة تشبه «مَنْ» الشرطية، وهذه العبارة فيها غلظ على القرآن، فينبغي أن يقال فيها مراعاة للشَّبهة اللَّفظي، ولا يقال للتَّوهُّم.
وأجيب أيضاً: بأنه سكن للوقف ثم أجرى الوصل مُجْرَى الوقف.
وأجيب أيضاً: بأنه إنما جزم حملاً ل «مَنْ» الموصولة على «مَنْ» الشَّرطيَّة؛ لأنَّها مثلها ف يالمعنى، ولذلك دخلت [الفاء] في خبرها.
قال شهابُ الدِّين: وقد يقالُ على هذا: يجوز أن تكون «مَنْ» شرطيَّة، وإنَّما ثبتت الياء، ولم تجزم «من» لشبهها ب «مَنْ» الموصولة ثمَّ لم يعتبر هذا الشبه في قوله: «ويَصْبِرْ»، فلذلك جزمه، إلاَّ أنه يبعد من جهة أنَّ العامل لم يؤثر فيما بعده، ويليه، ويؤثر فيما هو بعيد منه، وقد تقدَّم الكلام على مثل هذه المسألة أوَّل السُّورة في قوله: ﴿يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ﴾ [يوسف: ١٢].
وقوله: ﴿فَإِنَّ الله لاَ يُضِيعُ أَجْرَ﴾ الرَّابطُ بين جملة الشَّرط، وبين جوابها: إمَّا العموم في «المُحْسِنيِنَ»، وإمَّا الضمير المحذوف، أي: المحسنين منهم، وإمَّا لقيام: «ألْ» مقامه، والأصل: محسنيهم، فقامت «ألْ» مقام ذلك الضَّمير.

فصل


معنى الآية: من يتَّق معاصي الله، ويصبر على أذى النَّاسِ.
وقيل: من يتَّق بأداء الفرائض، واجتناب المعاصي ويصبر على ما حرم الله عليه.
وقال ابنُ عبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: يتّقي في الزِّنا، ويصبر على العُزوبةِ، وقال مجاهدٌ: يتقي المعصية، ويصبر على السجن.
﴿فَإِنَّ الله لاَ يُضِيعُ أَجْرَ المحسنين﴾ قال ابن الخطيب: «واعلم أنَّ يوسف عليه السلام وصف نفسه في هذا المقام الشَّريف بكونه متقِياً، ولو أنه أقدم على المعصية كما
203
قالوه في حق زليخا، لكان هذا القول كذباً منه، وذكر الكذب في مثل هذا المقام الذي يؤمن فيه الكافر، ويتوب فيه العاصي لا يليق بالعقلاء».
قوله
: ﴿تالله
لَقَدْ آثَرَكَ الله عَلَيْنَا﴾
أي تفضَّل عليك، والإيثارُ: التفضيل بأنواع جميع العطايا، آثرهُ يُؤثِرهُ إيثَاراً، وأصله من الأثر، وهو تتبع الشيء، فكأنه يَسْتقْصٍي جميع أنواع المَكارمِ، وفي الحديث: «سَتكُون بعدي أثرةٌ» أي: يستأثر بعضكم على بعض، ويقال: اسْتأثَر بكذا، أي: اختص به، واستأثر اللهُ بفلان، كناية عن اصطفائه له.
وقال الشاعر: [الرجز]
٣١٤٩ - واللهُ اسْماكَ سُماً مُبَاركَا آثَركَ الله بِهِ إيثَاركَا
قال الأصمعيُّ: يقالُ: آثَرَكَ الله إيثاراً، أي: فضَّلك، والمعنى: لقد فضلك الله علينا بالعلمِ، والعملِِ، والحسنِ، والملكِ.

فصل


احتجَّ بعضهم بهذه الآية على أنَّ إخوة يوسف ما كانوا أنبياء؛ لأنَّ جميع المناصب المغايرة لمنصب النبوة كالعدم بالنِّسبة لمنصب النُّبوة لما قالوا: ﴿تالله لَقَدْ آثَرَكَ الله عَلَيْنَا﴾، وعلى هذا يذهب سؤال من يقول: آثره عليهم بالملك، وإن شاركوه في النبوة؛ لأنَّا بيَّنا أنَّ سائر المناصب لا تعتبر في جنب منصب النُّبوًَّة.
ثم قالوا: ﴿وَإِن كُنَّا لَخَاطِئِينَ﴾ والخَاطِىءُ: هو الذي أتى بالخطيئة عمداً وهذا هو الفرقُ بين الخَاطىءِ، ولهذا يقالُ للمُجْتهدِ الذي لمْ يُصِبْ أنَّهُ مخطىءٌ، ولا يقال: إنه خاطىءٌ.

فصل


أكثر المفسرين على أن الذي اعتذروا منه هو إقدامهم على إلقائه في الجُبِّ وبيعه وتبعيده عن أبيه.
وقال أبو عليّ الجبائيٌّ: لم يعتذروا من ذلك؛ لأنَّ ذلك كان منهم قبل البلوغ، فلا يكون ذنباً، فلا يعتذر منه، وإنَّما اعتذروا من حيثُ إنهم أخطئوا بعد ذلك بأن لم يظهروا لأبيهم ما فعلوه ليعلم أنَّه حي، وأنَّ الذِّئب لم يأكله.
وأجاب ابنُ الخطيب عن ذلك: «بأنَّه لا يجوز أن يقال: إنهم أقدموا على ذلك الفعل في زمن الصِّبا؛ لأنه من البعيد في [مثل] يعقوب جمعاً غير بالغين من
204
غير أن يبعث معهم رجلاً عاقلاً يمنعهم عمَّا لا ينبغي، ويحملهم على ما ينبغي».
قوله: ﴿لاَ تَثْرَيبَ عَلَيْكُمُ﴾ عليكم يجوز أن يكون خبر «لاَ» و «اليَوْمَ» يحتمل أن يتعلق بما تعلَّق به هذا الخبر أي: لا تثريب مستقرٌ عليكم ويجوز أن يكون «اليَوْمَ» خبر «لاَ»، و «عَليْكُمْ» متعلق بما تعلق به هذا الظرف ويجوز أن يكون: «عليكم» صفة لاسم: «لا»، و «اليَوْمَ» خبرها أيضاً ولا يجوز أن يتعلق كل من الظرف، والجار ب: «تَثْرِيب» ؛ لأنه يصيرُ مطولاً شبيهاً بالمضاف ومتى كان كذكل أعرب ونُوِّن، نحو: «لا خَيْراً من زَيْدٍ عندكَ» ويزيدُ عليه الظرف بأنه يلزم الفصل بين المصدر المؤول بالموصول، ومعموله بأجنبي وهو: «عَليْكُمْ» لأنه إما خبر وإما صفة.
وقد جوَّز الزمخشريُّ: أن يكون الظَّرف متعلقاً ب: تَثْرِيبَ «فقال: فإن قلنا: بم يتعلق» اليوم «؟ قلت: بالتثريب، أو بالمقدر في» عَليْكُم «من معنى الاستقرار أو ب: يَغْفِرُ»، فجعله أنه متعلق ب «تَثْرِيب» وفيه ما تقدَّم.
وقد أجرى بعضهم الاسم العامل مجرى المضاف لشبهه به، فنزع ما فيه من تنوين أو نون؛ وجعل الفارسيُّ من ذلك قول الشاعر: [الطويل]
٣١٥٠ - أرَانِي ولا كُفْرانَ للهِ أيَّةً لِنفْسِي لقَدْ طَالبْتُ غَيْرَ مُنِيلِ
قال: فإية منصوب ب: «كُفْرانَ» أي: أكفر الله أية لنفسي، ولا يجوز أن تنصب «أيَّةً» ب: «أوَيْتُ» مضمراً، لئلا يلزم الفصل بين مفعولي: «أرَى» بجملتين أي: ب «لاَ»، وما في خبرها، وب «أوَيْتُ» المقدرة، ومعنى «أوَيْتُ» رققت وجعل منه بانُ مالكٍ ما جاء في الحديث: «لا صُمْتَ يومٌ إلى اللَّيلِ» برفع «يَوْمٌ» على أنه مرفوعٌ بالمصدر المنحل لحرف مصدريّ، وفعل مبني للمعفول وفي بعض ما تقدَّم خلافٌ، وأمَّا تعليقه بالاستقرار المقدَّر فواضح، ولذلك وقف أكثرُ القراء عليه، وابتدأ ب: «يَغفِرُ اللهُ لكُمْ» وأما تعليقه ب: «يَغْفِرُ» فواضحٌ أيضاً ولذلك وقف بعض القراء على: «عَليْكُمْ»، وابتدأ: «اليَوْم يغفرُ اللهُ لكُمْ» وجوَّزوا أن يكون خبر: «لا» محذوفاً، و «عَلَيْكُمْ»، و «اليَوْمَ» كلاهما متعلقان بمحذوف آخر يدلُّ عليه: «تَثْريبَ»، والتقدير: لا تثريبَ يتثرب علكيم اليوم كما قدروا في: ﴿لاَ عَاصِمَ اليوم مِنْ أَمْرِ الله﴾ [هود: ٤٣] لا عاصم يعصمُ اليوم.
قال أبو حيَّان: «لو قيل به لكان قويًّا»، وقد يفرَّق بينهما: بأنّ هنا يلزم كثرة المجاز، وذلك أنَّك تحذف الخبر، وتحذف هذا الذي تعلق به الظرف وحرف الجر،
205
وتنسب الفعل إليه، لأنَّ التثريب لا يثرب إلا مجازاً، كقولهم: «شِعرٌ شاعرٌ» بخلاف: «لا عَاصِمَ يَعْصِم» فإن نسبة الفعل إلى العاصم حقيقة، فهناك حذف شيءٍ واحد من غير مجاز، وهنا حذف شيئين مع مجاز.
والتَّثْرِيبُ: العَتبُ، والتَّأنيب، وعبَّر بعضهم عنه بالتَّعيير من عيَّرته بكذا إذا عتَبْته وفي الحديث: «إذَا زَنَتْ أمَةٌ أحدكُم، فليَجْلدْهَا، ولا يُثرِّبْ» أي: لا يعيِّر، وأصله من الثَّرب، وهو ما تغشى الكرش من الشَّحم، ومعناه: إزالةٌ الثَّرب، كما أنَّ التَّجليد إزالةٌ الجلدِ، فإذا قلت: ثرَّبتُ فلاناً، فكأنَّنك لشدَّة عتبك له أزلت ثربه، فضرب مثلاً في تزيق الأعراض.
وقال الرَّاغب: «ولا يُعْرَفُ من لفظه إلاَّ قولهم: الثَّرْبُ، وهو شحمةٌ رقيقةٌ وقوله تعالى: ﴿ياأهل يَثْرِبَ﴾ [الأحزاب: ١٣] يصحُّ أن يكون أصله من ذها الباب، والياء فيه مزيدية».

فصل


قال المفسريون: التَّثْريبُ: التَّوبيخُ، قال عطاءٌ الخراسانيُّ: طلب الحوائج إلى الشَّباب أسهل منها إلى الشيُّوخ ألا ترى إلى قول يوسف عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ «لا تَثْريب عَليْكُمْ»، وقول يعقوب عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ ﴿سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ ربي﴾ [يوسف: ٩٨].
واعلم أنَّا إذا جعلنا: «اليَوْمَ» متعلِّقاً ب: «لا تَثْريبَ» أي: لا أثرِّبُكمُ اليوم وهو اليوم الذي مظنته التَّثريب، فما ظنُّكم بسائر الأيَّام، ويحتمل أنِّي حكمت في هذا اليوم ألاّ تثريب مطلقاً؛ لأنَّ قوله: «لا تَثْرِيبَ» نفي للماهيَّة، ونفي الماهيَّة يقتضي نفي أفراد جميع الماهية، فكان ذلك مفيداً للنَّفي المتناول لكلِّ الأوقات والأحوال.
ثمَّ إنَّه أزال عنهم ملامة الدُّنيا طلب من اللهِ أن يزيل عنهم عقاب الآخرةِ، فدعا لهم بقوله: ﴿يَغْفِرُ الله لَكُمْ﴾.
وإن قلنا: «اليَوْمَ» متعلق بقوله: ﴿يَغْفِرُ الله لَكُمْ﴾ كأنه لما نفى الذَّنب عنهم مطلقاً بشَّرهم بأنَّ الله يغفر ذنبهم في ذلك اليوم، وذلك أنَّهم لما خجلوان واعترفوا وتابوا، فالله تعالى قَبِلَ توتبهم، وغفر ذنوبهم؛ فلذلك قال: ﴿اليوم يَغْفِرُ الله لَكُمْ﴾.
«روي أنَّ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أخذ بعِضَادتي الكعبة يوم الفتحِ وقال لقريش: ما تَرونَ؟
قالوا: خيراً أخٌ كريمٌ، وابنُ أخٍ كريمٍ، وقد قدرتَ، قال: أقُولُ ما قَالَ أخي يوسف:»
لاَ تَثْرَيبَ عَلَيْكُمُ «».
206
وروي أنَّ أبا سفيان لما جاء ليًسلم، قال لهُ العبَّاس رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: «إذا أتيت رسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فاتْلُ عليه: ﴿قَالَ لاَ تَثْرَيبَ عَلَيْكُمُ﴾ ففعل، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ غفر الله لَكَ ولمن علَّمك».
وروي: أنَّ أخوة يوسف لما عرفوه أرسلوا إليه: إنَّا نستحي منك لما صدر منَّا من الإساءة إليك، فقال يوسف: إنَّ أهل مصر لو ملكت فيهم، فإنهم ينظرون إليَّ بالعين الإولى، ويقولون: سبحان الذي بلغ عبداً بِيعَ بِعشرينَ درهماً ما بلغ، ولقد شَرُفتُ بإتيانكم، وعظُمتُ في العيون لما جئتم، علم النَّاس أنكم إخوتي، وأنِّي من حفدةِ إبراهيم عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ ثم سألهم عن أبيه، فقال: ما فعل أبي من بعدي قالوا: ذهبت عيناه؛ فأعطاهم قميصه وقال: ﴿اذهبوا بقميصي هذا فألقوه على وجه أبي يأت بصيراً﴾ أي يعيده مبصراً، وقيل: يأتيني بصيراً.
قال الحسنُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: لم يعلم أنه يعود بصيراً إلا بالوحي؛ لأنَّ العقل لا يدلُّ عليه وقال الضحاك: كان ذلك القميص من نسيج الجنَّة.
وعن مجاهدٍ: أمره جبريل صلوات الله عليه أن يرسل قميصه، وكان ذلك القميص قميص إبراهيم عليه الصلام وذلك أنه جُرِّد من يثابه، وألقي في النَّار عرياناً، فآتاه جبريل بمقيص من حرير الجنَّة، فألبسه إياه، فكان ذلك عند إبراهيم فلما مات إبراهيم عليه السلام ورِثهُ إسحاق، فلما مات إسحاق ورثهُ يعقوب، فلمَّا شبَّ يوسف عليه السلام جعل ذلك يعقوب في قصبةٍ من فضة وسد رأسها، وعلقها في عنقه لما كان يخافُ عليه من العين كانت لا تفارقه، فلمَّا ألقى في الجُبِّ عُرياناً جاءهُ جبريلُ عليه السلام وعلى يوسف ذلك التَّعويذُ؛ فأخرج القميص منه، وألبسه، ففي ذلك الوقت جاءهُ جبريل، وقال: أرسل ذلك القميص فإنَّ فيه ريحَ الجنَّة لا يقع على مبتلى، ولا سقيم إلا عُوفِي، فدفع يوسف ذلك القميص إلى إخوته، وقال: ﴿فَأَلْقُوهُ على وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيراً﴾ أي: مبصرا وإنَّما أفرد بالذِّكر تعظيماً له، وقال في الباقين: ﴿وائتوني بأهلكم أجمعين﴾.
قال ابن الخطيب: «ويمكن أن يقال: لعلَّ يوسف علم أنَّ أباهُ ما صدر أعمى إلاَّ من كثرة البكاءِ، وضيق القلبت، وذلك يضعفُ البصر، وإذا ألقي عليه قميصه، فلا بد وأن ينشرح صدره، وأن يحصل في قلبه الفرحُ الشديد، وذلك يقوِّي الرُّوحَ، ويزيلُ الضَّعف عن القوى فحينئذ يقوى بصره، ويزول عنه ذلك، فهذا القدرُ ممَّا يُمِكنُ معرفته بالقلبِ فإنَّ القوانين الطبيَّة تدلُّ على صحَّة هذا المعنى».
قوله: «بِقَمِيصِي» يجوز أن يتعلَّق بما قبله على أنَّ الباء معدِّية كهي في «ذَهَبتُ بهِ» وأن
207
تكون للحال فتتعلق بمحذوف، أي: اذهبوا معكم بقميصي، و «هَذَا» نعتٌ له، أو بدلٌ، أو بيانٌ، و «بَصِيراً» حالٌ، و «أجْمَعِينَ» توكيد له، وقد أكد بِهَا دُون كل، ويجوز أن تكون حالاً.
208

فصل


روي : أنهم لما قالوا :﴿ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضر ﴾ وتضرَّعُوا إليه، أدركته الرِّقَّة، فارفضَّ دمعه، فباح الذي كان يكتمُ، فقال :﴿ هَلْ عَلِمْتُمْ مَّا فَعَلْتُم بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ ﴾ وقيل : دفعوا إليه كتاب يعقوب، فلما قرأ الكتاب ارتعدت مفاصله واقشعرَّ جلدهُ، ولانَ قلبه، وكثر بكاؤه ؛ فصرح بأنه يوسف.
قوله :﴿ هَلْ عَلِمْتُمْ ﴾ يجوز أن تكون استفهامية للتَّوبيخ، وهو الأظهر وقيل : هو خبر و " هَلْ " بمعنى " قَدْ ".
وقال الكلبيُّ :" إنما قال :﴿ هَلْ عَلِمْتُمْ مَّا فَعَلْتُم بِيُوسُفَ ﴾ حين حكى لإخوته أنَّ مالك بن دعر قال : إنِّي وجدت غلاماً في بئر من حلاعه كَيْتَ وكيْتَ فأبتعته بكذا وكذا درهماً، فقالوا أيُّها الملك : نحن بِعْنَا ذلك الغلام منه ؛ فغاظ يوسف عليه السلام ذلك، وأمر بقتلهم، فذهبوا بهم ليقتلوهم، فولى يَهُوذا وهو يقول : كان يعقوب قد حزن لِفقْدِ واحدة منَّا حتَّى كفَّ بصره، فكيف إذا أتاهُ قتل بنيه كلِّهم، ثم قالوا له : إن فعلت ذلك، فابعثْ بأمتعتنا إلى أبينا، فإنَّه بمكان كذا وكذا، فذلك حين رحمهم وبكى، وقال ذلك القول ".
وفي هذه الآية تصديق قوله تعالى :﴿ وَأَوْحَيْنَآ إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هذا وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ ﴾ [ يوسف : ١٥ ]، وأمَّا قوله :" وَأخِيهِ " فالمراد ما فعلتم من تعريضه للغمِّ بسبب إفراده عن أخيه لأبيه وامِّه، وأيضاًك كانوا يؤذونه، ومن جملة الإيذاء، قالوا في حقه :﴿ إِن يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَّهُ مِن قَبْلُ ﴾ [ يوسف : ٧٧ ] وأما قوله :﴿ إِذْ أَنتُمْ جَاهِلُونَ ﴾ فهو يجرى مجرى الغدرِ لهم كأنه قال : أنتم أقدمتم على ذلك الفعل القبيح المنكر حال كونكم من حالة الصِّبا، وفي جهالة الغرور، يعني : والآن لستُم كذلكن ونظيره قوله تعالى :﴿ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الكريم ﴾ [ الانفطار : ٦ ] وقيل : إنما ذكر تعالى ذلك الوصف ليكون ذلك جارياً مجرى الجواب، فيقول العبدُ : يا ربِّ غرَّنِي كرَمُكَ، فكذا ههنا إنَّما قال لهم يوسف ذلك الكلام إزالة للخجل عنهم، وتخفيفاً للأمر عليهم.
وقيل : المعنى : إذ أنتم جاهلون بما يئول إليه أمر يوسف صلوات الله وسلامه عليه. فإن قيل : كيف قال :﴿ مَّا فَعَلْتُم بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ ﴾، ولم يكن منهم إلى أخيه شيء، ولم يسعوا في حبسه ؟.
قيل : هو قولهم حين أخرجوا الصواع من رحله، ما رأينا منكم يا بني راحيل إلاَّ البلاء.
وقيل : تفريقهم بينه، وبين أخيه يوسف، وكانوا يؤذونه بعد فقد يوسف.
قوله :" أئِنَّكَ " قرأ ابن كثير، وأبو جعفر :" إنَّكَ " بهمزة واحدة على الخبر والباقون بهمزتين استفهاماً، وقد تقدَّم قراءتهم في هاتين الهمزتين تخفيفاً، وتسهيلاً وغير ذلك، فأمَّا قراءة ابن كثير، فيحتمل أن تكون خبراً محضاً واستبعد هذا من حيث تخالف القراءتين مع أنَّ القائل واحد.
وقد أجيب عن ذلك بأنَّ بعضهم قاله استفهاماً، وبعضهم قاله خبراً، ويحتمل أن يكون استفهاماً حذف منه الأداة لدلالة السِّياق، والقراءة الأخرى عليه، وقد تقدَّم نحو هذا في الإعراب.
وقرأ أبيّ ( أَوَأَنْتَ يوسف ) فمن قرأ بالاستفهما قالوا : إنَّ يوسف لما قال لهم :﴿ هل علمتم ما فعلتم ﴾ تبيَّنوا يوسف، فأبصروا ثناياه كاللّؤلؤ المنظُوم.
وروى الضحاكُ عن ابنِ عبَّاسٍ رضي الله عنهما لما قال هذا القول تبسَّم فرأوْا ثناياه كاللّؤلؤن فشبهوه بيوسف، ولم يعرفوه، فقالوا استفهاماً :﴿ أَإِنَّكَ لأَنتَ يُوسُفُ ﴾ ويدلُّ على أنه استفهام قوله :" أنَا يُوسفُ "، وإنَّما أجابهم عما اسْتَفْهَمُوا عنه، ومن قرأ على الخبر فحجته ما روى الضحاك عن ابن عباس رضي الله عنهما أنَّه قال : إنَّ أخوة يوسف لم يعرفوه حتّى وضع التَّاج عن رأسه، كان في قرنه شامة وكان لإسحاق، ويعقوب مثلها تشبه التَّاج عرفوه بتلك العلامة.
وقال ابن إسحاقك " كان يتكلَّم من وراء ستر، فلما قال :﴿ هَلْ عَلِمْتُمْ مَّا فَعَلْتُم بِيُوسُفَ ﴾ رفع الحجاب فعرفوه " وقيل : قالوه على التَّوُّهمِ.
" واللام في :" لأنْتَ " لام الابتداء، و " أنْتَ " مبتدأ، و " يُوسفُ " خبره والجملة خبر " إنَّ " ويجوز أن تكون " أنْتَ " فصلاً، ولا يجوز أن يكن تأكيداً لاسم " إنَّ " لأنَّ هذه اللام لا تدخل على التوكيد ".
وقرأ أبي :( أئنك أو أنت يوسف ) وفيها وجهان :
أحدهما : قال أبُوا الفتح : إنَّ الأصل : أئنك لغير يوسف، أو أنت يوسف فحذف خبر " إن " لدلالة المعنى عليه.
والثاني : ما قاله الزمخشريُّ : المعنى : أئنَّك يوسف، أو أنت يوسف فحذف الأول لدلالته، وهذا كلام متعجب مستغرب لما يسمع، فهو يكرِّر الاستثبات فقال :﴿ أَنَاْ يُوسُفُ وهذا أَخِي ﴾ وإنَّما صرَّح بالاسم تعظيماً لما نزل به من ظلم إخوته، وما عوضه الله من الظَّفر والنَّصر، فكأنه قال : أنا الذي ظلمتموني على أعظم الوجوه، والله أوصلني إلى أعظم المناصب، أنا ذلك العاجزُ الذي قصدتم قتله، وإلقاءه في الجبِّ، ثمَّ صرتُ كما ترون، ولهذا قال :" وهَذا أخِي " مع أنَّهم كانوا يعرفونه ؛ لأن مقصوده أن يقول : وهذا أيضاً كان مظلوماً كما كنت، ثم إنه صار منعماً عليه من قبل الله كما ترون. ﴿ قَدْ مَنَّ الله عَلَيْنَآ ﴾ قال ابنُ عباسٍ رضي الله عنه بكلِّ عزِّ في الدنيا والآخرة. . وقيل : بالجمع بيننا بعد الفرقة.
قوله :﴿ إِنَّهُ مَن يَتَّقِ وَيِصْبِرْ ﴾ قرأ قنبل " يتقي " بإثبات الياء وصلاً ووقفاً، والباقون بحذفها فيهما.
فأمَّا قراءة الجماعة فواضحة ؛ لأنَّه مجزومٌ، وأمَّا قراءة قنبلٍ، فاختلف فيها النَّاس على قولين :
أحدهما : أنَّ إثبات حرف العلَّة في الجزم لغة لبعض العرب ؛ وأنشدوا :[ الوافر ]
٣١٤٥ أَلَمْ يَأتِيكَ والأنْبَاءُ تَنْمِي بِمَا لاقَتْ لبُونُ بَنِي زِيَادِ
وقول الآخر :[ البسيط ]
٣١٤٦ هَجَوْتَ زبَّات ثُمذَ جِئتَ مُعْتَذِراً مِنْ هَجْوِ زبَّان لَمْ تَهْجُوا ولَمْ تَدعِ
وقول الآخر :[ الرجز ]
٣١٤٧ إذَا العَجُوزُ غَضِبَتْ فَطلِّقِ ولا تَرضَّاهَا ولا تَملَّقِ
وقول الآخر :[ الرجز ]
٣١٤٨ إنِّي إذَا مَا ما القَوْمُ كَانُوا أنْجِيَهْ واضْطَربَ القَوْمَ اضطرابَ الأرْشِيَهْ
هُنَاكَ أوْصِينِي ولا تُوصِي بِيَهْ
ومذهب سيبويه : أنَّ الجازم بحذف الحركة المقدرة، وأنَّما تبعها حرف العلَّة في الحذف تفرقة بين المرفوع، والمجزوم.
واعترض عليه : بأنَّ الجازم يبين أنَّه مجزوم، وعدمه يُبيِّنُ أنه غيرُ مجوزم.
وأجيب : بأنه ف بعض الصُّورِ يلتبس فاطرد الحذف، بيانه : أنَّك إذا قلت " زُرْنِي أعْطِتكَ " بثبوت الياءِ، احتمل أن يكون " أعْطِيكَ " جزاء الزيارة، وأن يكون خبراً مستأنفاً، فإذا قلت :" أعْطِكَ " بحذفها تعين أن يكون جزاء له ؛ فقد وقع اللَّبس بثبوت حرف العلِّة، وفقد بحذفه، فيقالُ : حرف العلَّة يحذف عند الجازمِ لا به.
ومذهب ابنِ السَّراج أنَّ الجازم أثَّر في نفس الحرف فحذفه، وفيه البحثُ المتقدم.
والثاني : أنَّه مرفوعٌ غير مجزومٍ و " مَنْ " موصولةٌ، والفعل صلتها ؛ فلذلك لم يحذف لامه.
واعترض على هذا بأنَّهُ قد عطف عليه مجزوم وهو قوله :" ويَصْبِرْ " فإنَّ قُنْبُلاً لم يقرأ إلا بإسكان الرَّاء.
وأجيب عن ذلك : بأنَّ التَّسكين لتوالي الحركات، وإن كان من كلمتين كقراءة أبي عمرو ﴿ يَنصُرْكُمُ ﴾ [ آل عمران : ١٦٠ ]، و ﴿ يَأْمُرَكُمْ ﴾ [ آل عمران : ٨٠ ]، وأجيب أيضاً : بأنه جزم علكى التوهم يعني لما كانت " مَنْ " الموصولة تشبه " مَنْ " الشرطية، وهذه العبارة فيها غلظ على القرآن، فينبغي أن يقال فيها مراعاة للشَّبهة اللَّفظي، ولا يقال للتَّوهُّم.
وأجيب أيضاً : بأنه سكن للوقف ثم أجرى الوصل مُجْرَى الوقف.
وأجيب أيضاً : بأنه إنما جزم حملاً ل " مَنْ " الموصولة على " مَنْ " الشَّرطيَّة ؛ لأنَّها مثلها ف يالمعنى، ولذلك دخلت [ الفاء ] في خبرها.
قال شهابُ الدِّين : وقد يقالُ على هذا : يجوز أن تكون " مَنْ " شرطيَّة، وإنَّما ثبتت الياء، ولم تجزم " من " لشبهها ب " مَنْ " الموصولة ثمَّ لم يعتبر هذا الشبه في قوله :" ويَصْبِرْ "، فلذلك جزمه، إلاَّ أنه يبعد من جهة أنَّ العامل لم يؤثر فيما بعده، ويليه، ويؤثر فيما هو بعيد منه، وقد تقدَّم الكلام على مثل هذه المسألة أوَّل السُّورة في قوله :﴿ يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ ﴾ [ يوسف : ١٢ ].
وقوله :﴿ فَإِنَّ الله لاَ يُضِيعُ أَجْرَ ﴾ الرَّابطُ بين جملة الشَّرط، وبين جوابها : إمَّا العموم في " المُحْسِنيِنَ "، وإمَّا الضمير المحذوف، أي : المحسنين منهم، وإمَّا لقيام :" ألْ " مقامه، والأصل : محسنيهم، فقامت " ألْ " مقام ذلك الضَّمير.

فصل


معنى الآية : من يتَّق معاصي الله، ويصبر على أذى النَّاسِ.
وقيل : من يتَّق بأداء الفرائض، واجتناب المعاصي ويصبر على ما حرم الله عليه.
وقال ابنُ عبَّاسٍ رضي الله عنه : يتّقي في الزِّنا، ويصبر على العُزوبةِ، وقال مجاهدٌ : يتقي المعصية، ويصبر على السجن.
﴿ فَإِنَّ الله لاَ يُضِيعُ أَجْرَ المحسنين ﴾ قال ابن الخطيب :" واعلم أنَّ يوسف عليه السلام وصف نفسه في هذا المقام الشَّريف بكونه متقِياً، و لو أنه أقدم على المعصية كما قالوه في حق زليخا، لكان هذا القول كذباً منه، وذكر الكذب في مثل هذا المقام الذي يؤمن فيه الكافر، ويتوب فيه العاصي لا يليق بالعقلاء ".
قوله :﴿ تالله لَقَدْ آثَرَكَ الله عَلَيْنَا ﴾ أي تفضَّل عليك، والإيثارُ : التفضيل بأنواع جميع العطايا، آثرهُ يُؤثِرهُ إيثَاراً، وأصله من الأثر، وهو تتبع الشيء، فكأنه يَسْتقْصٍي جميع أنواع المَكارمِ، وفي الحديث :" سَتكُون بعدي أثرةٌ " أي : يستأثر بعضكم على بعض، ويقال : اسْتأثَر بكذا، أي : اختص به، واستأثر اللهُ بفلان، كناية عن اصطفائه له.
وقال الشاعر :[ الرجز ]
٣١٤٩ واللهُ اسْماكَ سُماً مُبَاركَا آثَركَ الله بِهِ إيثَاركَا
قال الأصمعيُّ : يقالُ : آثَرَكَ الله إيثاراً، أي : فضَّلك، والمعنى : لقد فضلك الله علينا بالعلمِ، والعملِِ، والحسنِ، والملكِ.

فصل


احتجَّ بعضهم بهذه الآية على أنَّ إخوة يوسف ما كانوا أنبياء ؛ لأنَّ جميع المناصب المغايرة لمنصب النبوة كالعدم بالنِّسبة لمنصب النُّبوة لما قالوا :﴿ تالله لَقَدْ آثَرَكَ الله عَلَيْنَا ﴾، وعلى هذا يذهب سؤال من يقول : آثره عليهم بالملك، وإن شاركوه في النبوة ؛ لأنَّا بيَّنا أنَّ سائر المناصب لا تعتبر في جنب منصب النُّبوًَّة.
ثم قالوا :﴿ وَإِن كُنَّا لَخَاطِئِينَ ﴾ والخَاطِىءُ : هو الذي أتى بالخطيئة عمداً وهذا هو الفرقُ بين الخَاطىءِ، ولهذا يقالُ للمُجْتهدِ الذي لمْ يُصِبْ أنَّهُ مخطىءٌ، ولا يقال : إنه خاطىءٌ.

فصل


أكثر المفسرين على أن الذي اعتذروا منه هو إقدامهم على إلقائه في الجُبِّ وبيعه وتبعيده عن أبيه.
وقال أبو عليّ الجبائيٌّ : لم يعتذروا من ذلك ؛ لأنَّ ذلك كان منهم قبل البلوغ، فلا يكون ذنباً، فلا يعتذر منه، وإنَّما اعتذروا من حيثُ إنهم أخطئوا بعد ذلك بأن لم يظهروا لأبيهم ما فعلوه ليعلم أنَّه حي، وأنَّ الذِّئب لم يأكله.
وأجاب ابنُ الخطيب عن ذلك :" بأنَّه لا يجوز أن يقال : إنهم أقدموا على ذلك الفعل في زمن الصِّبا ؛ لأنه من البعيد في [ مثل ] يعقوب جمعاً غير بالغين من غير أن يبعث معهم رجلاً عاقلاً يمنعهم عمَّا لا ينبغي، ويحملهم على ما ينبغي ".
قوله :﴿ لاَ تَثْرَيبَ عَلَيْكُمُ ﴾ عليكم يجوز أن يكون خبر " لاَ " و " اليَوْمَ " يحتمل أن يتعلق بما تعلَّق به هذا الخبر أي : لا تثريب مستقرٌ عليكم ويجوز أن يكون " اليَوْمَ " خبر " لاَ "، و " عَليْكُمْ " متعلق بما تعلق به هذا الظرف ويجوز أن يكون :" عليكم " صفة لاسم :" لا "، و " اليَوْمَ " خبرها أيضاً ولا يجوز أن يتعلق كل من الظرف، والجار ب :" تَثْرِيب " ؛ لأنه يصيرُ مطولاً شبيهاً بالمضاف ومتى كان كذكل أعرب ونُوِّن، نحو :" لا خَيْراً من زَيْدٍ عندكَ " ويزيدُ عليه الظرف بأنه يلزم الفصل بين المصدر المؤول بالموصول، ومعموله بأجنبي وهو :" عَليْكُمْ " لأنه إما خبر وإما صفة.
وقد جوَّز الزمخشريُّ : أن يكون الظَّرف متعلقاً ب : تَثْرِيبَ " فقال : فإن قلنا : بم يتعلق " اليوم " ؟ قلت : بالتثريب، أو بالمقدر في " عَليْكُم " من معنى الاستقرار أو ب : يَغْفِرُ "، فجعله أنه متعلق ب " تَثْرِيب " وفيه ما تقدَّم.
وقد أجرى بعضهم الاسم العامل مجرى المضاف لشبهه به، فنزع ما فيه من تنوين أو نون ؛ وجعل الفارسيُّ من ذلك قول الشاعر :[ الطويل ]
٣١٥٠ أرَانِي ولا كُفْرانَ للهِ أيَّةً لِنفْسِي لقَدْ طَالبْتُ غَيْرَ مُنِيلِ
قال : فإية منصوب ب :" كُفْرانَ " أي : أكفر الله أية لنفسي، ولا يجوز أن تنصب " أيَّةً " ب :" أوَيْتُ " مضمراً، لئلا يلزم الفصل بين مفعولي :" أرَى " بجملتين أي : ب " لاَ "، وما في خبرها، وب " أوَيْتُ " المقدرة، ومعنى " أوَيْتُ " رققت وجعل منه بانُ مالكٍ ما جاء في الحديث :" لا صُمْتَ يومٌ إلى اللَّيلِ " برفع " يَوْمٌ " على أنه مرفوعٌ بالمصدر المنحل لحرف مصدريّ، وفعل مبني للمعفول وفي بعض ما تقدَّم خلافٌ، وأمَّا تعليقه بالاستقرار المقدَّر فواضح، ولذلك وقف أكثرُ القراء عليه، وابتدأ ب :" يَغفِرُ اللهُ لكُمْ " وأما تعليقه ب :" يَغْفِرُ " فواضحٌ أيضاً ولذلك وقف بعض القراء على :" عَليْكُمْ "، وابتدأ :" اليَوْم يغفرُ اللهُ لكُمْ " وجوَّزوا أن يكون خبر :" لا " محذوفاً، و " عَلَيْكُمْ "، و " اليَوْمَ " كلاهما متعلقان بمحذوف آخر يدلُّ عليه :" تَثْريبَ "، والتقدير : لا تثريبَ يتثرب علكيم اليوم كما قدروا في :﴿ لاَ عَاصِمَ اليوم مِنْ أَمْرِ الله ﴾ [ هود : ٤٣ ] لا عاصم يعصمُ اليوم.
قال أبو حيَّان :" لو قيل به لكان قويًّا "، وقد يفرَّق بينهما : بأنّ هنا يلزم كثرة المجاز، وذلك أنَّك تحذف الخبر، وتحذف هذا الذي تعلق به الظرف وحرف الجر، وتنيب الفعل إليه، لأنَّ التثريب لا يثرب إلا مجازاً، كقولهم :" شِعرٌ شاعرٌ " بخلاف :" لا عَاصِمَ يَعْصِم " فإن نسبة الفعل إلى العاصم حقيقة، فهناك حذف شيءٍ واحد من غير مجاز، وهنا حذف شيئين مع مجاز.
والتَّثْرِيبُ : العَتبُ، والتَّأنيب، وعبَّر بعضهم عنه بالتَّعيير من عيَّرته بكذا إذا عتَبْته وفي الحديث :" إذَا زَنَتْ أمَةٌ أحدكُم، فليَجْلدْهَا، ولا يُثرِّبْ " أي : لا يعيِّر، وأصله من الثَّرب، وهو ما تغشى الكرش من الشَّحم، ومعناه : إزالةٌ الثَّرب، كما أنَّ التَّجليد إزالةٌ الجلدِ، فإذا قلت : ثرَّبتُ فلاناً، فكأنَّنك لشدَّة عتبك له أزلت ثربه، فضرب مثلاً في تزيق الأعراض.
وقال الرَّاغب :" ولا يُعْرَفُ من لفظه إلاَّ قولهم : الثَّرْبُ، وهو شحمةٌ رقيقةٌ وقوله تعالى :﴿ ياأهل يَثْرِبَ ﴾ [ الأحزاب : ١٣ ] يصحُّ أن يكون أصله من ذها الباب، والياء فيه مزيدية ".

فصل


قال المفسريون : التَّثْريبُ : التَّوبيخُ، قال عطاءٌ الخراسانيُّ : طلب الحوائج إلى الشَّباب أسهل منها إلى الشيُّوخ ألا ترى إلى قول يوسف عليه الصلاة والسلام " لا تَثْريب عَليْكُمْ "، وقول يعقوب عليه الصلاة والسلام ﴿ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ ربي ﴾ [ يوسف : ٩٨ ].
واعلم أنَّا إذا جعلنا :" اليَوْمَ " متعلِّقاً ب :" لا تَثْريبَ " أي : لا أثرِّبُكمُ اليوم وهو اليوم الذي مظنته التَّثريب، فما ظنُّكم بسائر الأيَّام، ويحتمل أنِّي حكمت في هذا اليوم ألاّ تثريب مطلقاً ؛ لأنَّ قوله :" لا تَثْرِيبَ " نفي للماهيَّة، ونفي الماهيَّة يقتضي نفي أفراد جميع الماهية، فكان ذلك مفيداً للنَّفي المتناول لكلِّ الأوقات والأحوال.
ثمَّ إنَّه أزال عنهم ملامة الدُّنيا طلب من اللهِ أن يزيل عنهم عقاب الآخرةِ، فدعا لهم بقوله :﴿ يَغْفِرُ الله لَكُمْ ﴾.
وإن قلنا :" اليَوْمَ " متعلق بقوله :﴿ يَغْفِرُ الله لَكُمْ ﴾ كأنه لما نفى الذَّنب عنهم مطلقاً بشَّرهم بأنَّ الله يغفر ذنبهم في ذلك اليوم، وذلك أنَّهم لما خجلوان واعترفوا وتابوا، فالله تعالى قَبِلَ توتبهم، وغفر ذنوبهم ؛ فلذلك قال :﴿ اليوم يَغْفِرُ الله لَكُمْ ﴾.
" روي أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ بعِضَادتي الكعبة يوم الفتحِ وقال لقريش : ما تَرونَ ؟
قالوا : خيراً أخٌ كريمٌ، وابنُ أخٍ كريمٍ، وقد قدرتَ، قال : أقُولُ ما قَالَ أخي يوسف :" لاَ تَثْرَيبَ عَلَيْكُمُ " ".
وروي أنَّ أبا سفيان لما جاء ليًسلم، قال لهُ العبَّاس رضي الله عنه :" إذا أتيت رسُول الله صلى الله عليه وسلم فاتْلُ عليه :﴿ قَالَ لاَ تَثْرَيبَ عَلَيْكُمُ ﴾ ففعل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم غفر الله لَكَ ولمن علَّمك ".
وروي : أنَّ أخوة يوسف لما عرفوه أرسلوا إليه : إنَّا نستحي منك لما صدر منَّا من الإساءة إليك، فقال يوسف : إنَّ أهل مصر لو ملكت فيهم، فإنهم ينظرون إليَّ بالعين الأولى، ويقولون : سبحان الذي بلغ عبداً بِيعَ بِعشرينَ درهماً ما بلغ، ولقد شَرُفتُ بإتيانكم، وعظُمتُ في العيون لما جئتم، علم النَّاس أنكم إخوتي، وأنِّي من حفدةِ إبراهيم عليه الصلاة والسلام ثم سألهم عن أبيه، فقال : ما فعل أبي من بعدي قالوا : ذهبت عيناه ؛ فأعطاهم قميصه وقال :﴿ اذهبوا بقميصي هذا فألقوه على وجه أبي يأت بصيراً ﴾
﴿ اذهبوا بقميصي هذا فألقوه على وجه أبي يأت بصيراً ﴾ أي يعيده مبصراً، وقيل : يأتيني بصيراً.
قال الحسنُ رضي الله عنه : لم يعلم أنه يعود بصيراً إلا بالوحي ؛ لأنَّ العقل لا يدلُّ عليه وقال الضحاك : كان ذلك القميص من نسيج الجنَّة.
وعن مجاهدٍ : أمره جبريل صلوات الله عليه أن يرسل قميصه، وكان ذلك القميص قميص إبراهيم عليه الصلام وذلك أنه جُرِّد من يثابه، وألقي في النَّار عرياناً، فآتاه جبريل بمقيص من حرير الجنَّة، فألبسه إياه، فكان ذلك عند إبراهيم فلما مات إبراهيم عليه السلام ورِثهُ إسحاق، فلما مات إسحاق ورثهُ يعقوب، فلمَّا شبَّ يوسف عليه السلام جعل ذلك يعقوب في قصبةٍ من فضة وسد رأسها، وعلقها في عنقه لما كان يخافُ عليه من العين كانت لا تفارقه، فلمَّا ألقى في الجُبِّ عُرياناً جاءهُ جبريلُ عليه السلام وعلى يوسف ذلك التَّعويذُ ؛ فأخرج القميص منه، وألبسه، ففي ذلك الوقت جاءهُ جبريل، وقال : أرسل ذلك القميص فإنَّ فيه ريحَ الجنَّة لا يقع على مبتلى، ولا سقيم إلا عُوفِي، فدفع يوسف ذلك القميص إلى إخوته، وقال :﴿ فَأَلْقُوهُ على وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيراً ﴾ أي : مبصرا وإنَّما أفرد بالذِّكر تعظيماً له، وقال في الباقين :﴿ وائتوني بأهلكم أجمعين ﴾.
قال ابن الخطيب :" ويمكن أن يقال : لعلَّ يوسف علم أنَّ أباهُ ما صدر أعمى إلاَّ من كثرة البكاءِ، وضيق القلبت، وذلك يضعفُ البصر، وإذا ألقي عليه قميصه، فلا بد وأن ينشرح صدره، وأن يحصل في قلبه الفرحُ الشديد، وذلك يقوِّي الرُّوحَ، ويزيلُ الضَّعف عن القوى فحينئذ يقوى بصره، ويزول عنه ذلك، فهذا القدرُ ممَّا يُمِكنُ معرفته بالقلبِ فإنَّ القوانين الطبيَّة تدلُّ على صحَّة هذا المعنى ".
قوله :" بِقَمِيصِي " يجوز أن يتعلَّق بما قبله على أنَّ الباء معدِّية كهي في " ذَهَبتُ بهِ " وأن تكون للحال فتتعلق بمحذوف، أي : اذهبوا معكم بقميصي، و " هَذَا " نعتٌ له، أو بدلٌ، أو بيانٌ، و " بَصِيراً " حالٌ، و " أجْمَعِينَ " توكيد له، وقد أكد بِهَا دُون كل، ويجوز أن تكون حالاً.
قوله: ﴿وَلَمَّا فَصَلَتِ العير﴾ يقال: فَصَل فلانٌ عن فلانٍ فُصُولاً إذا خرج من عنده، و «فَصَلَ» كذا إذا أنفذ، و «فَصَلَ» يكون لازماً، ومتعديًّا، فإن كان لازماً فمصدره فصولاً، وإن كان متعدياً فمصدره فصلاً.
قال المفسرونك لما توجَّه العير من مصر إلى كنعان، قال يعقوب لمن كان عنده من ولد ولده: ﴿إِنِّي لأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ﴾ قال مجاهدٌ: أصاب يعقوب ريحُ القميص من مسيرة ثلاثة أيامٍ.
وعن ابن عبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه من مسيرة ثماني ليال.
وقال الحسنُ: كان بنيهما ثمانون فرسخاً، وقال مجاهد: هبَّ ريح يوسف فصفق القميص؛ ففاحت روائح الجنَّة في الدُّنيا، واتَّصلت بيعقوب عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ فعلم أنَّه ليس في الدنيا من ريح الجنَّة إلاَّ ما كان من ذلك القميص فمن ثمَّ قال: ﴿إِنِّي لأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ﴾ وروي أنَّ ريح الصِّبا استأذنت ربَّها أن تأتي يعقوب بريح يوسف قبل أن يأتيه البشيرُ.
واعلم أنَّ وصول تلك الرائحة إلى يعقوب من هذه المسافة البعيدة أمر مناقض للعادة فكان ذلك معجزة، ولكن لمن منهما؟ والأقرب أنَّها ليعقوب حيثُ أخبروه عنه، ونسبوه إلى ما لا ينبغي؛ فظهر الأمر كما قال؛ فكانت معجزة لهُ.
قال أهل المعاني: إنَّ الله تعالى أوصل ريح يوسف عند انقضاء مدَّة المحنة ومجيء وقت الروح والفرج من المكانِ البعيدِ، ومنع من وصولِ خبره إليه مع قرب إحدى البلدين من الأخرى في مدَّة ثمانين سنة، وذلك يدلُّ على أنَّ كلَّ سهلٍ فهو في زمنِ المحنةِ صعبٌ، وكلَّ صعبٍ في زمنِ الإقبال سهلٌ، ومعنى: ﴿إِنِّي لأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ﴾ : أشم، وعبَّر عنه بالوجود؛ لأنه وجدان له بحاسة الشَّمِّ.
208
قوله: ﴿لَوْلاَ أَن تُفَنِّدُونِ﴾ التَّفنيدُ: الإفسادُ، يقال: فنَّدت فلاناً، أي: أفدستُ رأيه ورددته. قال الشاعر: [البسيط]
٣١٥٠ - ب يَا صَاحبيَّ دَعَا لَوْمِي وتَفْنِيدِي فَليْسَ مَا فَاتَ مِنْ بِمَرْدُودِ
ومنه: أفْنَدَ الدَّهرُ فلاناً؛ قال الشاعر: [الطويل]
٣١٥١ - دَِ الدَّهْرُ يَفْعَلُ ما أرَاد فإنَّهُ إذَا كُلِّفَ الإفْنادَ بالنَّاسِ أفْنَدا
والفَنَدُ: الفسادُ؛ قال النابغة: [البسيط]
٣١٥٢ - إلاَّ سُليْمان إذْ قَالَ الإلهُ لَهُ قُمْ فِي البَريِّيةِ فاحْدُدْهَا عنِ الفَندِ
والفِنْدُ: شمراخ: «يقالُ: شَيْخٌ مفنَّدٌ، ولا يقال: عجُوزٌ مُفنَّدة؛ لأنَّها لم تكن في شبيبتها ذات رأي فتفنَّد في كبرها وهو غريبٌ».
وجواب «لَوْلاَ» الامتناعية محذوفٌ، تقديره: لصَدَّقْتُمونِي ويجوز أن يكون تقديره: لأخبرتكم.
قال ابنُ الأنباريّ: «أفْنَدَ الرَّجلُ: إذا انْحَرفَ، وتغيَّر عَقْلهُ، وفند إذا جهل ونسب ذلك إليه».
وعن الأصمعيِّ قال: إذا كثر كلامٌ الرَّجلِ من خرفٍ فهو الفَنَد والتَّفنيد.

فصل


قال المفسرون: «لَوْلاَ أن تُفنِّدُون» تسفهون، وعن ابن عبَّاس رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: تَجْهلُون، وقال الضحاك: تَهْرَمُون، تقولون: شَيْخٌ كبيرٌ قد خرفَ، وذهب عقلهُ.
209
«قَالُوا» : يعني أولاد أولاده ﴿إِنَّكَ لَفِي ضَلاَلِكَ القديم﴾ أي في ذهاب عن طريق الصَّواب.
وقال ابن عبَّاس، وابن زيدٍ، لفي خطئك الماضي من حُبِّ يوسف لا تنساه.
وقال مقتالٌ الضَّلالُ هنا الشَّقاءُ، يعني: شقاء الدُّنيا، أي: إنَّك في شقائك القديم بما تُكَابدُ من الأحزان على يوسف.
وقال قتادة: لفي حُبِّك القديم لا تنساه، ولا تذهل عنه، قال قتادة: لقد قالوا كلمة [غليظة] لم يجز قولها لنبي الله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ.
وقال الحسن: إنَّما خاطبوه بذلك، لاعتقادهم أنَّ يوسف قد مَاتَ. ﴿فَلَمَّآ أَن جَآءَ البشير﴾ وهو المبِّر، في موضع: «أنْ» قولان:
أحدهما: لا محلَّ لها من الإعراب، فقد تذكَّر تارة كما هنا، وقد تحذف كقوله: ﴿فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الروع﴾ [هود: ٧٤].
والثاني: قال البصريُّون: هي في موضع رفعٍ بفعلٍ تقديره: فلمَّا ظهر أن جاء البشر أي: ظهر على البشير؛ فأضمر الرَّافع.
وقال جمهورُ المفسِّيرين البشيرُ هو يهوذا قال: أنا ذهبتُ بالقميص مُلطَّخاً بالدَّم، وقلت: إنَّ يوسف أكلهُ الذِّئبُ، فأذهب اليوم بقميصه، وأخبره أنه حي فأفرحهُ كما أحزنته، وقيل: البشيرُ مالكُ بنُ دُعْرٍ.
قوله: «ألقاهُ» الظَّاهرُ أنَّ الفاعل هو ضمير البشير، وقيل: هو ضمير يعقوب وفي «بَصِيراً» وجهان:
أحدهما: حال، أي: يرجع في هذا الحال.
والثاني: أنَّه خبرها؛ لأنَّها بمعنى صار عند بعضهم، و «بَصِيراً» من بصُر بالشيء ك «ظَرِيف» من «ظَرُفَ».
وقيل: هو مثالُ مبالغةٍ، ك «عَلِيم» وفيه دلالة على أنَّه لم يذهب بصره بالكلِّية ومعنى الارتداد: انقلابُ الشَّيء إلى حالٍ كان عليها.
وقوله: ﴿فارتد بَصِيراً﴾ أي صيَّرهُ اللهُ بصيراً، كما يقال: طالت النَّخلة والله أطالها.
قال بعضهم: إنه كان قد عمي بالكلية، فجعله اللهُ بصيراً في هذا الوقت.
210
وقال آخرون: بل كان ضعف بصره من كثرة البكاءِ والحزن، فلمَّا ألقوا القميص على وجهه، وبشَّره بحياةِ يوسف عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ عظم فرحه وانشرح صدرهُ وزالت أحزانه فعند ذلك قَوي بصره، وعادت قُوَّته بعد الضَّعف، وقال: ﴿أَلَمْ أَقُلْ لَّكُمْ إني أَعْلَمُ مِنَ الله مَا لاَ تَعْلَمُونَ﴾ من حياة يوسف من جهة رُؤيَاه، وهو أنَّ الله يجمع بيننا، وهو إشارةٌ إلى قوله: ﴿قَالَ إِنَّمَآ أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى الله وَأَعْلَمُ مِنَ الله مَا لاَ تَعْلَمُونَ﴾ [يوسف: ٨٦].
روي أنَّه قال للبشير: كيف حاله؟ قال: إنَّه ملكُ مصر، قال: ما أصنعُ بالملك، على أي دين تركته؟ قال: على دين الإسلام، قال: الآن تمَّت النِّعمة. ثمَّ إن أولاد يعقوب أخذوا يعتذرون، و ﴿قَالُواْ ياأبانا استغفر لَنَا ذُنُوبَنَآ إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ ربي﴾ فوعدهم بأنه يستغفر لهم.
قال ابن عبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما: أخَّر الاستغفار لهم إلى وقتِ السَّحر، وهو الوقت الذي يقول الله فيه: ﴿هل من داع فأستجيب له﴾.
وروي عن ابن عبَّاس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما رواية أخرى: أنَّه أخَّر الاستغفار إلى ليلة الجمعة؛ لأنَّها أوفق الأوقات لرجاءِ الإجابة.
وقيل: أخَّر الاستغفار ليعلم هل تابوا حقيقة أم لا؟ وهل أخلصوا في التَّوبة أم لا؟.
وقيل: استغفر لهم في الحالِ، ومعنى: ﴿سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ﴾ أي أداوم على الاستغفار في المستقبل.
وروي: أنه كان يستغفر لهم في كلِّ ليلةِ جمعةٍ في نيّق وعشرين سنة.
روي أنَّ يوسف بعث مع البشير إلى يعقوب مائتي راحلة، وجهازاً كثراً، لياتوا بيعقوب وأهله وولده، فخرجوا وهم اثنان وسبعون ما بين رجل وامرأة، فلمَّا دنا من مصر كلَّم يوسف الملك الذي فوقه، فخرج يوسف، والملك في أربعة آلاف من الجُندِ، وركب أهل مصر معهما فتلقوا يقعوب، وهو يتوكأ على يهوذا ماشياً؛ فنظر إلى الجبل، وإلى الناس فقالوا: يا يهوذا: هذا فرعون مصر؟ قال: لا هذا ابنُك يوسفُ، فلمَّا تدانيا ذهب يوسف يبدأ بالسَّلام، فقال جبريل عليه السلام: لا حتّى يبدأ يعقوب بالسلام، فقال يعقوب: السَّلام عليك.
211
قال الثوريُّ: لما التقَى يعقوب ويوسف صلوات الله وسلامه عليهما عانق لك واحد منهما صاحبه وبكيا، فقال يوسف: يا أبتِ! بكيت عليَّ حتى ذهب بصرك، ألم علم أنَّ القيامة تجمعنا؟ قال: بلى يا بُنَيّ، ولكن خشيت أن تسلب دينك، فيحال بيني وبينك.
قيل: دخل يعقوب وولده مصر، وهم اثنان وسبعون ما بين رجل، وامرأة، وخرجوا منها مع موسى، والمقاتلون ستمائة ألف وخمسمائة وبضع وسبعون رجلاً يوى الصبيان والشيوخ.
212
" قَالُوا " : يعني أولاد أولاده ﴿ إِنَّكَ لَفِي ضَلاَلِكَ القديم ﴾ أي في ذهاب عن طريق الصَّواب.
وقال ابن عبَّاس، وابن زيدٍ، لفي خطئك الماضي من حُبِّ يوسف لا تنساه.
وقال مقتالٌ الضَّلالُ هنا الشَّقاءُ، يعني : شقاء الدُّنيا، أي : إنَّك في شقائك القديم بما تُكَابدُ من الأحزان على يوسف.
وقال قتادة : لفي حُبِّك القديم لا تنساه، ولا تذهل عنه، قال قتادة : لقد قالوا كلمة [ غليظة ] لم يجز قولها لنبي الله عليه الصلاة والسلام.
وقال الحسن : إنَّما خاطبوه بذلك، لاعتقادهم أنَّ يوسف قد مَاتَ.
﴿ فَلَمَّآ أَن جَآءَ البشير ﴾ وهو المبِّر، في موضع :" أنْ " قولان :
أحدهما : لا محلَّ لها من الإعراب، فقد تذكَّر تارة كما هنا، وقد تحذف كقوله :﴿ فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الروع ﴾ [ هود : ٧٤ ].
والثاني : قال البصريُّون : هي في موضع رفعٍ بفعلٍ تقديره : فلمَّا ظهر أن جاء البشر أي : ظهر على البشير ؛ فأضمر الرَّافع.
وقال جمهورُ المفسِّيرين البشيرُ هو يهوذا قال : أنا ذهبتُ بالقميص مُلطَّخاً بالدَّم، وقلت : إنَّ يوسف أكلهُ الذِّئبُ، فأذهب اليوم بقميصه، وأخبره أنه حي فأفرحهُ كما أحزنته، وقيل : البشيرُ مالكُ بنُ دُعْرٍ.
قوله :" ألقاهُ " الظَّاهرُ أنَّ الفاعل هو ضمير البشير، وقيل : هو ضمير يعقوب وفي " بَصِيراً " وجهان :
أحدهما : حال، أي : يرجع في هذا الحال.
والثاني : أنَّه خبرها ؛ لأنَّها بمعنى صار عند بعضهم، و " بَصِيراً " من بصُر بالشيء ك " ظَرِيف " من " ظَرُفَ ".
وقيل : هو مثالُ مبالغةٍ، ك " عَلِيم " وفيه دلالة على أنَّه لم يذهب بصره بالكلِّية ومعنى الارتداد : انقلابُ الشَّيء إلى حالٍ كان عليها.
وقوله :﴿ فارتد بَصِيراً ﴾ أي صيَّرهُ اللهُ بصيراً، كما يقال : طالت النَّخلة والله أطالها.
قال بعضهم : إنه كان قد عمي بالكلية، فجعله اللهُ بصيراً في هذا الوقت.
وقال آخرونك بل كان ضعف بصره من كثرة البكاءِ والحزن، فلمَّا ألقوا القميص على وجهه، وبشَّره بحياةِ يوسف عليه الصلاة والسلام عظم فرحه وانشرح صدرهُ وزالت أحزانه فعند ذلك قَوي بصره، وعادت قُوَّته بعد الضَّعف، وقال :﴿ أَلَمْ أَقُلْ لَّكُمْ إني أَعْلَمُ مِنَ الله مَا لاَ تَعْلَمُونَ ﴾ من حياة يوسف من جهة رُؤيَاه، وهو أنَّ الله يجمع بيننا، وهو إشارةٌ إلى قوله :﴿ قَالَ إِنَّمَآ أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى الله وَأَعْلَمُ مِنَ الله مَا لاَ تَعْلَمُونَ ﴾ [ يوسف : ٨٦ ].
روي أنَّه قال للبشير : كيف حاله ؟ قال : إنَّه ملكُ مصر، قال : ما أصنعُ بالملك، على أي دين تركته ؟ قال : على دين الإسلام، قال : الآن تمَّت النِّعمة. ثمَّ إن أولاد يعقوب أخذوا يعتذرون،
و ﴿ قَالُواْ ياأبانا استغفر لَنَا ذُنُوبَنَآ إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ ربي ﴾ فوعدهم بأنه يستغفر لهم.
قال ابن عبَّاسٍ رضي الله عنهما : أخَّر الاستغفار لهم إلى وقتِ السَّحر، وهو الوقت الذي يقول الله فيه :﴿ هل من داع فأستجيب له ﴾.
وروي عن ابن عبَّاس رضي الله عنهما رواية أخرى : أنَّه أخَّر الاستغفار إلى ليلة الجمعة ؛ لأنَّها أوفق الأوقات لرجاءِ الإجابة.
وقيل : أخَّر الاستغفار ليعلم هل تابوا حقيقة أم لا ؟ وهل أخلصوا في التَّوبة أم لا ؟.
وقيل : استغفر لهم في الحالِ،
ومعنى :﴿ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ ﴾ أي أداوم على الاستغفار في المستقبل.
وروي : أنه كان يستغفر لهم في كلِّ ليلةِ جمعةٍ في نيّق وعشرين سنة.
روي أنَّ يوسف بعث مع البشير إلى يعقوب مائتي راحلة، وجهازاً كثراً، لياتوا بيعقوب وأهله وولده، فخرجوا وهم اثنان وسبعون ما بين رجل وامرأة، فلمَّا دنا من مصر كلَّم يوسف الملك الذي فوقه، فخرج يوسف، والملك في أربعة آلاف من الجُندِ، وركب أهل مصر معهما فتلقوا يقعوب، وهو يتوكأ على يهوذا ماشياً ؛ فنظر إلى الجبل، وإلى الناس فقالوا : يا يهوذا : هذا فرعون مصر ؟ قال : لا هذا ابنُك يوسفُ، فلمَّا تدانيا ذهب يوسف يبدأ بالسَّلام، فقال جبريل عليه السلام : لا حتّى يبدأ يعقوب بالسلام، فقال يعقوب : السَّلام عليك.
قال الثوريُّ : لما التقَى يعقوب ويوسف صلوات الله وسلامه عليهما عانق لك واحد منهما صاحبه وبكيا، فقال يوسف : يا أبتِ ! بكيت عليَّ حتى ذهب بصرك، ألم علم أنَّ القيامة تجمعنا ؟ قال : بلى يا بُنَيّ، ولكن خشيت أن تسلب دينك، فيحال بيني وبينك.
قيل : دخل يعقوب وولده مصر، وهم اثنان وسبعون ما بين رجل، وامرأة، وخرجوا منها مع موسى، والمقاتلون ستمائة ألف وخمسمائة وبضع وسبعون رجلاً يوى الصبيان والشيوخ.
قوله: ﴿فَلَمَّا دَخَلُواْ على يُوسُفَ آوى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ﴾ الآية قال أكثر المفسرين المراد: أبوه خالته «ليَّا» وكانت أمه قد ماتت في نفاسها بنيامين وقال الحسنُ: أبوه وأمه، وكانت حية.
وروي: أنَّ الله تعالى أحيَا أمّه حتَّى جاءت مع يعقوب إلى مصر حتَّى سجدت له تحقيقاً لرؤيا يوسف.
وقيل: إن الخالة أم كما أنَّ العم أبٌ، قال تعالى: ﴿إلهك وإله آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ﴾ [البقرة: ١٣٣]، ومعنى ﴿آوى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ﴾ ضمهما إليه، واعتنقهما.
فإن قيل: ما معنى دخولهما عليه قبل دخولهم مصر؟.
فالجواب: أنَّهُ حين استقبلهم أنزلهم في خيمة، أو بيت هناك، فدخلوا عليه وضم إليه أبويه وقال: ﴿ادخلوا مِصْرَ إِن شَآءَ الله آمِنِينَ﴾، أي: أقيموا بها آمنين، سمَّى الإقامة دخولاً؛ لاقتران أحدهما بالآخر.
قال السديُّ في هذا الاستثناء قولان:
الأول: أنه عائدٌ إلى الأمن إلى الدخول، والمعنى: ادخلوا مصر آمنين إن شاء الله، كقوله تعالى: ﴿لَتَدْخُلُنَّ المسجد الحرام إِن شَآءَ الله آمِنِينَ﴾ [الفتح: ٢٧].
212
وقيل: إنَّه عائدٌ إلى الدُّخول كما تقدَّم.
وقيل: «إنْ» هنا بمعنى: «إذْ» يريدُ: إ ن شاء الله، كقوله: ﴿وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُّؤْمِنِينَ﴾ [آل عمران: ١٣٩] أي: إذ كنتم مؤمنين.
ومعنى قوله: «آمِنينَ» أي على أنفسكم، وأموالكم، وأهليكم لا تخافون أحداً، وكان فيما سلف يخافون ملك مصر، وقيل: آمنين من القحطِ والشّدة وقيل آمنين من أن يضرهم يوسف بالجرم السالف.
﴿وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ﴾ من باب التَّغليب، يريد: أباه وأمه أو خالته ﴿عَلَى العرش﴾ قال أهل اللغة: العرشُ: السَّريرُ الرَّفيعُ، قال تعالى: ﴿وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ﴾ [النمل: ٢٣].
والرفع: هو النقل إلى العلو، و «سُجَّداً» حال.
قال أبو البقاء: «حال مقدرةٌ؛ لأنَّ السجود يكن بعد الخُرُورِ».
فإن قيل: إن يعقوب عليه السلام، كان أبا يوسف فحقُّه عظيم، قال تعالى: ﴿وقضى رَبُّكَ أَلاَّ تعبدوا إِلاَّ إِيَّاهُ وبالوالدين إِحْسَاناً﴾ [الإسراء: ٢٣] فقرون حق الوالدين بحق نفسه، وأيضاً: فإنَّه كان شيخاً كبيراً [والشاب] يجبُ عليه تعظيم الشيخ وأيضاً: كان من أكابر الأنبياء، ويوسف، وإن كان نبياً إلا أن يعقوب كان أعلى حالاً منه.
وأيضاً: فإن جدّ يعقوب، واجتهاده في تكثير الطّاعات أكثر من جد يوسف، واجتماع هذه الجهات الكثيرةِ يوجب المبالغة في خدمة يعقوب، فكيف استجاز يوسف أن يسجد له يعقوب؟.
فالجواب من وجوه:
الأول: روى عطاءٌ عن ابن عبَّاسٍ: أنَّ المراد بهذه الآية أنهم خرُّوا سجداً لأجل وجدانه، فكيون سجود شكر لله تعالى لأجل وجدانه يوسف، ويدلُّ عليه قوله تعالى: ﴿وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى العرش وَخَرُّواْ لَهُ سُجَّدَاً﴾.
وذلك يشعر بأهم صعدوا على السرير، ثمَّ سجدوا لله، ولو أنهم سجدوا ليوسف لسجدوا له قل الصُّعود على السَّرير؛ لأنَّ ذلك أدخل في التَّواضع.
فإن قيل: هذا التَّأويلُ لا يطابق قوله: ﴿ياأبت هذا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِن قَبْلُ﴾ [يوسف: ١٠٠].
والمراد منه قوله: ﴿إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً والشمس والقمر رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ﴾ [يوسف: ٤] قيل: معناه لأجلي، لطلب مصلحتي، وللسعي في إعلاء منصبي، وإذا احتمل هذا سقط السؤال.
213
الثاني: أن يقال: إنهم جعلوا يوسف كالقبلة وسجدوا لله شكراً لنعمته.
وهذا تأويلٌ حسنٌ، فإنه يقال: صليت للكعبة كما يقال: صليتُ إلى الكعبة؛ قال حسَّانُ رَحِمَهُ اللَّهُ: [البسيط]
٣١٥٣ - ألَيْسَ أوَّل من صَلَّى لِقبْلتِكُمْ وأعْرَفَ النَّاس بالآثَارِ والسُّنَنِ
فدلَّ على أنَّه يجوز أن يقال: فلانٌ صلَّى للقلبةِ، فكذلك يجوز أن يقال: سجد لِلْقِبْلةِ.
وقوله: ﴿وَخَرُّواْ لَهُ سُجَّدَاً﴾ أي جعلوه كالقبلة ثمَّ سجدوا لله شكراً لنعمة وجدانه.
الثالث: التَّواضع يسمى سجوداًح كقوله: [الطويل]
٣١٥٤ -............................ تَرَى الأكْمَ فِيهَا سُجَّداً للحَوَافِرِ
فالمراد هنا التَّواضعُ، وهذا يشكلُ بقوله تعالى: ﴿وَخَرُّواْ لَهُ سُجَّدَاً﴾ والخرور مشعر بالإتيان بالسُّجود على أكمل الوجوه.
وأجيب: بأنَّ الخرور يعني به المرور فقط، قال تعالى: ﴿لَمْ يَخِرُّواْ عَلَيْهَا صُمّاً وَعُمْيَاناً﴾ [الفرقان: ٧٣] يعنى: لم يمروا.
الرابع: أن يقال الضمير في قوله: ﴿وَخَرُّواْ لَهُ سُجَّدَاً﴾ عائد إلى إخوته وإلى سائر من كان يدخل عليه لأجل التَّهنئةِ، والتقدير: ورفع أبويه على العرش مبالغة في تعظيمها، وأمَّا الإخوةُ وسائر الدَّاخلين، فخروا له ساجدين.
فإن قيل: هذا لا يلائم قوله: ﴿ياأبت هذا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِن قَبْلُ﴾.
فالجواب: أن يعتبر الرُّيؤيا لا يجب أن يكون مطابقاً للرُّؤيا بحسب الصُّورةِ، والصِّفة من كُلِّ الوجوه، فسجودُ الكواكب والشَّمس والقمر معبر بتعظيم الأكابر من النَّاس ولا شك أنَّ ذهاب يعقوب من كنعان مع أولاده إلى مصر نهاية التعظيم له، فكفى هذا القدر من صَّحة الرُّؤيا، فأمَّا كون التَّعبير مساوياً في الصُّورةِ والصِّفة، فلم يوجبه أحد من العقلاءِ.
الخامس: لعلَّ الفعل الدَّال على التَّحية في ذلك الوقت، كان هو السُّجودُ وكان مقصودهم من السجود تعظيمه، ثمَّ نسخ ذلك في شرعنا.
وهذا بعيد؛ لأنَّ المبالغة في التَّعظيم كانت أليق بيوسف منها بيعقوب، فلو كان
214
الأمر كما قلتم، لكان من الجواب أن يسجد يوسف ليعقوب عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ.
السادس: لعلَّ إخوته حملتهم الأنفة، والاستعلاءُ على ألاّ يسجدو له على سبيل التَّواضع، وعلم يعقوب أنهم إن لم يفعلوا ذلك لصار ذلك سبباً لثوران النَّفس، وظهور الأحقاد القديمة بعد كُمونِها، فيعقوب عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ مع جلالته وعظم قدره بسبب الأوبة والشَّيخوخة، والتَّقدُّم في الدِّين، والعلم، والنبوة فعل ذلك السُّجود حتَّى تصير مشاهدتهم لذلك سبباً لزوال تلك الأنفة، والنفرة عن قلوبهم.
السابع: لعلَّ الله تعالى أمر يعقوب بتلك السَّجدة لحكمة خفية لا يعلمها إلا هو [كما أمر الملائكة بالسجود لآدم صلوات الله وسلامه عليه لحكمة لا يعلمها إلا هو]، ويوسف ما كان راضياً بذلك في قلبه إلا أنَّه لما علم أنَّ الله أمره بذلك سكت.
ثم إنَّ يوسف عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ لما رأى هذه الحالة: ﴿وَقَالَ ياأبت هذا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِن قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقّاً﴾، وهي قوله: ﴿إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً﴾ [يوسف: ٤] وهاذ يقوّي الجواب السَّابع.
والمعنى: أنَّه لا يليق بمثلك على حالتك، في العلم، والدين، والنبوة أن تسجد لولدك إلا أنَّ هذا أمر أمرت به، وأن رؤيا الأنبياء حقٌّ، كما أنَّ رؤيا إبراهيم عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ ذبح ولده كان سبباً لوجوب ذلك الذبح عليه في اليقظةِ، لذلك صارت هذه الرُّؤيا التي رآها يوسف سبباً لوجوب السُّجودِ على يعقوب.
قوله: ﴿مِن قَبْلُ﴾ يجوز أن يتعلق ب «رُؤيَايَ» أي تأويل رؤياي في ذلك الوقت ويجوز أن يكون العامل فيه: «تأوِيلُ» ؛ لأن التَّأويل كان من حين وقوعها هكذا والآن ظهر له، ويجوز أن يكون حالاً من: «رُؤيَايَ» قاله أبو البقاء.
وقد تقدَّم أنَّ المقطوع عن الإضافة لا يقع حالاً.
قوله: ﴿قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقّاً﴾ حال من: «رُؤيَايَ»، ويجوز أن تكون مستأنفة وفي «حَقًّا» وجوه:
أحدها: أنه حال.
والثاني: أنه مفعول ثانٍ.
والثالث: أنه مصدر مؤكد لفعل من حيث المعنى، أي: حقَّقها ربي حقاً بجعله.
قوله: «أحْسنَ بِي» «أحْسنَ» أصله أن يتعدَّى بإلى، قال تعالى: ﴿وَأَحْسِن كَمَآ أَحْسَنَ الله إِلَيْكَ﴾ [القصص: ٧٧] فقيل: ضمن معنى: «لَطفَ» متعدّياً بالباءِ، كقوله تعالى: ﴿وبالوالدين إِحْسَاناً﴾ وقول كثير عزَّة: [الطويل]
215
٣١٥٥ - أسِيئِي بِنَا، أو أحْسِنِي لا مَلُومةً لَديْنَا ولا مَقْليَّةً إنْ تَقلَّتِ
وقيل: بل يتعدى بها أيضاً، وقيل: هي بمعنى «إلى» وقيل: المفعول محذوف. تقديره: أحسن صنعه بِى، ف: «بي» متعلقة بذلك المحذوف، وهو تقدير أبي البقاءِ.
وفيه نظرٌ؛ من حيث حذف المصدر، وإبقاء معموله، وهو ممنوع عند البصريين.
و «إذْ» منصوب ب «أحْسَنَ»، أو المصدر المحذوف، قاله أبو البقاء وفيه النظر المتقدِّمُ.
والبَدْوُ: ضد الحضارة، وهو من الظُّهورِ، بَدَا يَبْدُوا: إذ سكن البادية.
يروى عن عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: «إذَا بَدوْنَا جَفوْنَا» أي: تخلقنا بأخلاق البدويين.
قال الواحديُّ: البدو بسيطٌ من الأرض يظهرُ فيه الشخص من بعيدٍ، أصله من بَدَا يَبْدُوا بَدْواً، ثم سمي المكان باسم المصدر، ويقال:: بَدْوٌ وحَضَرن وكان يعقوب وولده بأرض كعنان أهل مواشٍ وبريَّةٍ.
وقال ابن عبَّاس رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: [كان يعقوب قد تحوَّل إلى بدا وسكنها] ومنها قدم على يوسف، وبها مسجد تحت جبلها.
قال ابن الأنباري «بدا» اسم موضع معروف، ياقل: بين شعيب عليه السلام وبدا، وهما موضعان ذكرهما جميعاً كثيرٌ: [الطويل]
٣١٥٦ - وأنْتِ الَّتِي حَبَّبْتِ شَعْباً إلى بَدَا إليَّ وأوْطَانِي بِلادٌ سِواهُمَا
والبدو على هذا القول معناه: قصد هذا الموضع الذي يقال له بدا، يقال: بَدَا القَوْمُ بدواً إذا أتوا بَدَا، كما يقال: غَارَ القوم غَوْراً، إذا أتوا الغُوْر، وكان معنى الآية: وجاء بكم من قصد بدا، وعلى هذا القول كان يعقوب، وولده حضريِّين، لأن البدو لم يرد به البادية لكن عني به قصد بدا.

فصل


اعلم أن قوله ﴿ياأبت هذا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِن قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقّاً﴾ وهو قوله: ﴿إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً﴾ [يوسف: ٤]، ﴿وَقَدْ أَحْسَنَ بي﴾ أنعم عليَّ ﴿إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السجن﴾ ولم يقل من الجُبّ مع كونه أشدّ من السجن استعمالاً للكرم كيلا تخجل إخوته بعدما قال: {لاَ تَثْرَيبَ عَلَيْكُمُ
216
اليوم} [يوسف: ٩٢] ولو ذكر الجبّ كان تثريباً لهم؛ ولأن نعمة الله عليه في أخراجه من السجن أعظم؛ لأنَّه بعد الخروج من الجُبّ صار إلى العبودية والرق وبعد الخروج من السجن صار الملك ولأنه لما خرج من الجُب وقع في المضار بسبب تهمة المراة، ولما خرج من السِّجن، وصل إلى أبيه وإخوته وزالت عنه التُّهمة.
وقال الواحديُّ: «النِّعمة في إخراجه من السجن أعظم؛ لأنَّ دخوله في السجن كان بسبب ذنب هَمَّ به، وهيا ينبغي أن يحمل على ميل الطبع، ورغبة النَّفس، وهذا وإن كان في محل العفو في حقّ غيره إلا أنه كان سبباً للمؤاخذة في حقه؛ لأنَّ حسناتِ الأبرار سيئاتُ المقربين».
فصل دلَّت هذه الآية على أنَّ فعل العبد خلق الله تعالى؛ لأنَّه أضاف إخراجه من السجن إلى [الله تعالى] ومجيئهم من البدو إليه، وهذا صريحٌ في أن فعل العبد فعل الله تعالى فإن حملوه على أن المراد أن ذلك إنَّما حصل بإقدار الله، وتدبيره، فذلك عدولٌ عن الظَّاهر.
ثم قال: ﴿مِن بَعْدِ أَن نَّزغَ الشيطان﴾ أفسد وأغوى، وأصله من نَزَغَ الرَّاكض الدَّابة حملها على الجَرْي إذا نخسها.
احتجَّ الجبائيُّ، الكعبيُّ، والقاضي أبو إسحاق بهذه الآية: على بُطلانِ الجبر قالوا لأنه تعالى، أخبر عن يوسف ت عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ أنه أضاف الإحسان إلى الله تعالى وأضاف النَّزْغَ إلى الشِّيطان، ولو كان ذلك أيضاً من الرحن، لوجب أن لا ينسب إلا إليه كما في النعمة.
الجواب: أنَّ إضافة هذا القول إلى الشيطان مجاز؛ لأنَّ عندكم الشِّيطان لا يتمكنَّن من الكلام الخفيّ، كما أخبر الله عنه، فقال: ﴿وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فاستجبتم لِي﴾
[إبراهيم: ٢٢] فظاهر القرآن يقتضي إضافة هذا الفعل إلى الشيطان مع أنه ليس كذلك، وأيضاً: فإن كان إقدام المرءِ على المعصية بسبب الشِّيطان، فإقدام الشيطان على المعصية إن كان بسبب شيطان آخر؛ لزم التسلسل وهو محالٌ، وإن لم يكن بسبب شيطان آخر، فليقل مثله في حق الإنسان، فثبت أن إقدام المرء على الجهل والفسق بسب الشيطان وليس بسبب نفسه لأن أحداً لا يميل طبعه إلى اختيار الجهل الفسق الذي يوجب وقوعه في الذَّم في الدُّنيا، وعذاب الآخرة ولما كان وقوعه في الكفر، والفسق لا بد له من موقع، وقد بطل القسمان لم يبق إلا أن يقال: ذلك من الله تعالى ويؤيد ذلك قوله: ﴿أَخْرَجَنِي مِنَ السجن وَجَآءَ بِكُمْ مِّنَ البدو﴾ وهذا صريحٌ في أنَّ الكل من الله تعالى.
217
ثم قال: ﴿إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِّمَا يَشَآءُ﴾ «لطيف» أصله أن يتعدَّى بالباء، وإنَّما يتعدى بللاَّم لتضمنه معنى مدبر، أي: أنت بلطفك لما تشاءُ.
والمعنى: أنه ذو لطف لما يشاء، وقيل: بمن يشاء، وحقيقته أللُّطفِ: الذي يوصل الإحسان إلى غيره بالرفق.
والمعنى: أن اجتماع يوسف، وإخوته مع الأُلْفِ، والمحبَّة، وطيب العيشِ، وفراغ البال كان في غاية البُعدِ عن العقول، إلا أنه تعالى لطيفٌ، فإذا أراد حصول شيءٍ سهل أسبابه، فحصل، وإن كان في غايةِ البعدِ عن الحصولِ.
﴿إِنَّهُ هُوَ العليم الحكيم﴾ يعني أنَّ كونه لطيفاً في أفعاله إنَّما كان لأنه عليم بجميع الاعتبارات الممكنة التي لا نهاية لها، فيكون عالماً بالوجه الذي يسهل تحصيل ذلك الصعب.

فصل


اختلفوا في مقدار الوقت ما بين الرُّؤيا واجتماعهم. فقيل: ثمانون سنة، وقيل: سبعون، وقال الأكثرون: أربعون، ولذلك يقولون: إنَّ تأويل الرُّؤيا إنَّما صحَّت بعد أربعين سنة. وقيل: ثماني عشرة سنة وبقي في العبودية، والملك، والسجن ثمانين سنة، ثمَّ وصل إليه أقاربه، وعاش بعد ذلك ثلاثاً وعشرين سنة. وقال: أقام يعقوبُ بمصر عند يوسف أربعاً وعشرين سنة، ثم مات بمصر، فلما حضرته الوفاة أوصى ابنه يوسف أن يحمل جسده حتى يدفن عد أبيه إسحاق، ففعل يوسف ومضى به حتَّى دفنه بالشَّام، ثم رجع إلى مصر.
قال سعيد بن جبيرٍ: نُقل يعقوب في تابوت من ساج إلى بيت المقدس فوافق ذلك يوم مات عيصُو، فدفنا في قبرٍ واحدٍ، وكانا ولدا في بطنٍ واحدٍ، وكان عمرهما مائة وسبعة وأربعين سنة، وعاش يوسف بعد ذلك عشرين سنة، وقيل: ستين سنة ومات وهو ابن مائة عشرين سنة، وفي التوراة مائة وعشرين، وولد له إفرائيم، وميشا وولد لإفرائيم نو، ولاوي، ويوشع فتى موسى عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ ورحمة امرأة أيوب عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ وأنه تمنى الموت. وقيل: ما تمنَّاه نبيُّ قبله، ولا بعده فتوفَّاه الله طيباً طاهراً، فتخاصم أهل مصر في دفنه كل أحد يحبُّ أن يدفنه في محلتهم، فرأوا أن الأصلح أن يعمل له صندوقاً من مرمر، ويجعلوه فيه، ويدفنوه في النِّيل ليمر الماء عليه، ويصل إلى مصر، وبقي هناك إلى أن بعث موسى عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ، فأخرج عظمه من مصر، ودفنه عند أبيه.
قوله تعالى: ﴿رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الملك﴾ الآية قرأ عبد الله: (آتيتن وعملتن) بغير
218
ياء فيهما. وحكى ابنُ عطية أن أبا ذر قرأك «أتَيْتَنِي» بغير ألف بعد الهمزة، و «مِن» في «مِنَ المُلْكِ»، وفي: «مِنْ تَأويلِ» للتبعيض والمفعول محذوف أي: عظيماً من الملك، فهي صفة لذلك المحذوف. وقيل: زائدة. وقيل: لبيان الجنس، وهذان بعيدان. و «فَاطِرَ» يجوز أن يكون نعتاً ل «ربِّ» ويجوز أن يكون بدلاً أو بياناً، أو منصوباً بإضمار أعني أو نداء ثانياً.

فصل


لما جمع الله شمل يوسف عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ عَلِمَ أنَّ نعيم الدُّنيا لا يدوم فسأل الله حسن العاقبة، فقال: ﴿رب قد ءاتيتني من الملك﴾ يعني ملك مصر، والملك اتساع المقدور لمن له السياسة، والتدبير. ﴿وَعَلَّمْتَنِي مِن تَأْوِيلِ الأحاديث﴾ يعني تعبير الرؤيا.
قوله: ﴿فَاطِرَ السماوات والأرض﴾ يعني: يا فاطر السموات والأرض، أي: خالقهما قال ابن عبَّاس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما: ما كنت أدري ما معنى الفاطر حتى احتكم إليَّ اعرابيان في بئر، فقال أحدهما: أنا فَطرتَهَا وأنا ابْتدأت حَفْرهَا.
وقل أهلُ اللغة: أصلُ الفَطْر: الشَّقُّ، يقال: فطرت نابُ البعير، إذا بدا، وفطرتُ الشَيء، فانفطر، إذا شَقَقْتهُ، فانشقَّ، وتفطَّرتِ الأرض بالنَّبات والشَّجر بالورق، إذا تصدَّعتْ.
هذا أصله في اللغة، ثمَّ صارت عبارة عن الإيجاد؛ لأنَّ ذلك الشيء في حال عدمه كأنَّه في ظلمة وخفاءٍ، فلمَّا دخل في الوجود، صار كأنَّه انشقَّ، وخرج ذلك الشيء منه.
﴿تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بالصالحين﴾ أي: اقبضني إليك مسلماً، وألحقين بالصالحين يريد بآبائي النبيين.
قال قتادة: لم يسأل نبيٌّ من الأنبياء الموت إلا يوسف، وبه قال جماعة من المفسرين.
وقال ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْه في رواية عطاء: يريد: إذا توَفَّيْتني، فتوفَّني على الإسلام.

فصل


دل قوله ﴿تَوَفَّنِي مُسْلِماً﴾ على أنَّ الإيمان من الله؛ لأنَّه لو كان من العبد، لكان تقديره: كأنَّه يقول: افعل يا مَنْ لا يَفْعَل.
قالت المعتزلة: إذا كان الفعل من الله، فكيف يجوزُ أن يقال للعبد: افعل مع
219
أنَّك لست فاعلاً؟ فيقال لهم: إذا كان تحصيل الإيمان، وابقاؤه من العبد لا من الله، فكيف يطلب ذلك من الله تعالى.
قال الجبائي والكعبي: معناه: أطلب اللُّطف في الإقامة على الإسلام إلى أن أموت عليه، وهذا الجواب ضعيفٌ، لأن السؤال وقع عن الإسلام، فحمله على اللطف عدول عن الظاهر، وأيضاً: فكُلّ ما كان في مقدور الله من الإلطاف، فقد فعله، كان طلبه من الله محالاً.
فإن قيل: الأنبياء عليهم الصلاة والسلام يعلمون أنَّهم يموتون لا محالة على الإسلام، فكان هذا الدُّعاء طلباً لتحصيل الحاصل، وأنَّه لا يجوز.
فالجواب: أن كمال حال المسلم: أن يستسلم لحكم الله على وجه يستقرُّ قلبه على ذلك الإسلام، ويرضى بقضاء الله، وتطمئن النفس، وينشرح الصدر في هذا الباب، وهذه حالةٌ زائدة عن الإسلام الذي هو ضدُّ الكفر، والمطلوب هاهنا هو الإسلام بهذا المعنى.
فإن قيل: إن يوسف عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ كان من أكابر الأنبياء، والصَّلاح أول درجات المؤمنين؛ فالواصل إلى الغية كيف يليق به أن يطلب البداية؟.
قال ابن عبَّاس رَضِيَ اللَّهُ عَنْه وغيره: يعني ب «آبَائهِ» : إبراهيم، وإسماعيل، وإسحاق، ويعقوب صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.
والمعنى: ألحقني بهم في ثوابهم، ودرجاتهم، ومراتبهم.
«روي عن النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، عن جبريل عليه السلام عن ربِّ العزَّة قال:» مَنْ شغلهُ ذِكرِي عَن مَسْألتِي أعْطَيتهُ أفضلَ ما أعْطِي السَّائلين «.
فلهذا من أراد الدعاء، لا بُدَّ وأن يقدِّم عليه الثَّناء على الله تعالى فههنا يوسف عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ لمَّا أراد الدعاء قدَّم عليه الثناء، فقال ﴿رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الملك وَعَلَّمْتَنِي مِن تَأْوِيلِ الأحاديث فَاطِرَ السماوات والأرض أَنتَ وَلِيِّي فِي الدنيا والآخرة﴾ ثم دعا عقبه، فقال: ﴿تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بالصالحين﴾ وكذلك فعل إبراهيم عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ فقال: ﴿الذي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ﴾ [الشعراء: ٧٨] إلى قوله: ﴿يَوْمَ الدين﴾ [الشعرا: ٨٢] فهذا ثناءٌ ثمَّ قال: ﴿رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً﴾ [الشعراء: ٨٣] إلى آخر كلامه.
220
﴿ وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ ﴾ من باب التَّغليب، يريد : أباه وأمه أو خالته ﴿ عَلَى العرش ﴾ قال أهل اللغة : العرشُ : السَّريرُ الرَّفيعُ، قال تعالى :﴿ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ ﴾ [ النمل : ٢٣ ].
والرفع : هو النقل إلى العلو، و " سُجَّداً " حال.
قال أبو البقاء :" حال مقدرةٌ ؛ لأنَّ السجود يكن بعد الخُرُورِ ".
فإن قيل : إن يعقوب عليه السلام، كان أبا يوسف فحقُّه عظيم، قال تعالى :﴿ وقضى رَبُّكَ أَلاَّ تعبدوا إِلاَّ إِيَّاهُ وبالوالدين إِحْسَاناً ﴾ [ الإسراء : ٢٣ ] فقرون حق الوالدين بحق نفسه، وأيضاً : فإنَّه كان شيخاً كبيراً [ والشاب ] يجبُ عليه تعظيم الشيخ وأيضاً : كان من أكابر الأنبياء، ويوسف، وإن كان نبياً إلا أن يعقوب كان أعلى حالاً منه.
وأيضاً : فإن جدّ يعقوب، واجتهاده في تكثير الطّاعات أكثر من جد يوسف، واجتماع هذه الجهات الكثيرةِ يوجب المبالغة في خدمة يعقوب، فكيف استجاز يوسف أن يسجد له يعقوب ؟.
فالجواب من و جوه :
الأول : روى عطاءٌ عن ابن عبَّاسٍ : أنَّ المراد بهذه الآية أنهم خرُّوا سجداً لأجل وجدانه، فكيون سجود شكر لله تعالى لأجل وجدانه يوسف، ويدلُّ عليه قوله تعالى :﴿ وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى العرش وَخَرُّواْ لَهُ سُجَّدَاً ﴾.
وذلك يشعر بأهم صعدوا على السرير، ثمَّ سجدوا لله، ولو أنهم سجدوا ليوسف لسجدوا له قل الصُّعود على السَّرير ؛ لأنَّ ذلك أدخل في التَّواضع.
فإن قيل : هذا التَّأويلُ لا يطابق قوله :﴿ ياأبت هذا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِن قَبْلُ ﴾ [ يوسف : ١٠٠ ].
والمراد منه قوله :﴿ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً والشمس والقمر رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ ﴾ [ يوسف : ٤ ] قيل : معناه لأجلي، لطلب مصلحتي، وللسعي في إعلاء منصبي، وإذا احتمل هذا سقط السؤال.
الثاني : أن يقال : إنهم جعلوا يوسف كالقبلة وسجدوا لله شكراً لنعمته.
وهذا تأويلٌ حسنٌ، فإنه يقال : صليت للكعبة كما يقال : صليتُ إلى الكعبة ؛ قال حسَّانُ رحمه الله :[ البسيط ]
٣١٥٣ ألَيْسَ أوَّل من صَلَّى لِقبْلتِكُمْ *** وأعْرَفَ النَّاس بالآثَارِ والسُّنَنِ
فدلَّ على أنَّه يجوز أن يقال : فلانٌ صلَّى للقلبةِ، فكذلك يجوز أن يقال : سجد لِلْقِبْلةِ.
وقوله :﴿ وَخَرُّواْ لَهُ سُجَّدَاً ﴾ أي جعلوه كالقبلة ثمَّ سجدوا لله شكراً لنعمة وجدانه.
الثالث : التَّواضع يسمى سجوداًح كقوله :[ الطويل ]
٣١٥٤. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . *** تَرَى الأكْمَ فِيهَا سُجَّداً للحَوَافِرِ
فالمراد هنا التَّواضعُ، وهذا يشكلُ بقوله تعالى :﴿ وَخَرُّواْ لَهُ سُجَّدَاً ﴾ والخرور مشعر بالإتيان بالسُّجود على أكمل الوجوه.
وأجيب : بأنَّ الخرور يعني به المرور فقط، قال تعالى :﴿ لَمْ يَخِرُّواْ عَلَيْهَا صُمّاً وَعُمْيَاناً ﴾ [ الفرقان : ٧٣ ] يعنى : لم يمروا.
الرابع : أن يقال الضمير في قوله :﴿ وَخَرُّواْ لَهُ سُجَّدَاً ﴾ عائد إلى إخوته وإلى سائر من كان يدخل عليه لأجل التَّهنئةِ، والتقدير : ورفع أبويه على العرش مبالغة في تعظيمها، وأمَّا الإخوةُ وسائر الدَّاخلين، فخروا له ساجدين.
فإن قيل : هذا لا يلائم قوله :﴿ ياأبت هذا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِن قَبْلُ ﴾.
فالجواب : أن يعتبر الرُّيؤيا لا يجب أن يكون مطابقاً للرُّؤيا بحسب الصُّورةِ، والصِّفة من كُلِّ الوجوه، فسجودُ الكواكب والشَّمس والقمر معبر بتعظيم الأكابر من النَّاس ولا شك أنَّ ذهاب يعقوب من كنعان مع أولاده إلى مصر نهاية التعظيم له، فكفى هذا القدر من صَّحة الرُّؤيا، فأمَّا كون التَّعبير مساوياً في الصُّورةِ والصِّفة، فلم يوجبه أحد من العقلاءِ.
الخامس : لعلَّ الفعل الدَّال على التَّحية في ذلك الوقت، كان هو السُّجودُ وكان مقصودهم من السجود تعظيمه، ثمَّ نسخ ذلك في شرعنا.
وهذا بعيد ؛ لأنَّ المبالغة في التَّعظيم كانت أليق بيوسف منها بيعقوب، فلو كان الأمر كما قلتم، لكان من الجواب أن يسجد يوسف ليعقوب عليه الصلاة والسلام.
السادس : لعلَّ إخوته حملتهم الأنفة، والاستعلاءُ على ألاّ يسجدو له على سبيل التَّواضع، وعلم يعقوب أنهم إن لم يفعلوا ذلك لصار ذلك سبباً لثوران النَّفس، وظهور الأحقاد القديمة بعد كُمونِها، فيعقوب عليه الصلاة والسلام مع جلالته وعظم قدره بسبب الأوبة والشَّيخوخة، والتَّقدُّم في الدِّين، والعلم، والنبوة فعل ذلك السُّجود حتَّى تصير مشاهدتهم لذلك سبباً لزوال تلك الأنفة، والنفرة عن قلوبهم.
السابع : لعلَّ الله تعالى أمر يعقوب بتلك السَّجدة لحكمة خفية لا يعلمها إلا هو [ كما أمر الملائكة بالسجود لآدم صلوات الله وسلامه عليه لحكمة لا يعلمها إلا هو ]، ويوسف ما كان راضياً بذلك في قلبه إلا أنَّه لما علم أنَّ الله أمره بذلك سكت.
ثم إنَّ يوسف عليه الصلاة والسلام لما رأى هذه الحالة :﴿ وَقَالَ ياأبت هذا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِن قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقّاً ﴾، وهي قوله :﴿ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً ﴾ [ يوسف : ٤ ] وهاذ يقوّي الجواب السَّابع.
والمعنى : أنَّه لا يليق بمثلك على حالتك، في العلم، والدين، والنبوة أن تسجد لولدك إلا أنَّ هذا أمر أمرت به، وأن رؤيا الأنبياء حقٌّ، كما أنَّ رؤيا إبراهيم عليه الصلاة والسلام ذبح ولده كان سبباً لوجوب ذلك الذبح عليه في اليقظةِ، لذلك صارت هذه الرُّؤيا التي رآها يوسف سبباً لوجوب السُّجودِ على يعقوب.
قوله :﴿ مِن قَبْلُ ﴾ يجوز أن يتعلق ب " رُؤيَايَ " أي تأويل رؤياي في ذلك الوقت ويجوز أن يكون العامل فيه :" تأوِيلُ " ؛ لأن التَّأويل كان من حين وقوعها هكذا والآن ظهر له، ويجوز أن يكون حالاً من :" رُؤيَايَ " قاله أبو البقاء.
وقد تقدَّم أنَّ المقطوع عن الإضافة لا يقع حالاً.
قوله :﴿ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقّاً ﴾ حال من :" رُؤيَايَ "، ويجوز أن تكون مستأنفة وفي " حَقًّا " وجوه :
أحدها : أنه حال.
والثاني : أنه مفعول ثانٍ.
والثالث : أنه مصدر مؤكد لفعل من حيث المعنى، أي : حقَّقها ربي حقاً بجعله.
قوله :" أحْسنَ بِي " " أحْسنَ " أصله أن يتعدَّى بإلى، قال تعالى :﴿ وَأَحْسِن كَمَآ أَحْسَنَ الله إِلَيْكَ ﴾ [ القصص : ٧٧ ] فقيل : ضمن معنى :" لَطفَ " متعدّياً بالباءِ، كقوله تعالى :﴿ وبالوالدين إِحْسَاناً ﴾ وقول كثير عزَّة :[ الطويل ]
٣١٥٥ أسِيئِي بِنَا، أو أحْسِنِي لا مَلُومةً *** لَديْنَا ولا مَقْليَّةً إنْ تَقلَّتِ
وقيل : بل يتعدى بها أيضاً، وقيل : هي بمعنى " إلى " وقيل : المفعول محذوف. تقديره : أحسن صنعه بِى، ف :" بي " متعلقة بذلك المحذوف، وهو تقدير أبي البقاءِ.
وفيه نظرٌ ؛ من حيث حذف المصدر، وإبقاء معموله، وهو ممنوع عند البصريين.
و " إذْ " منصوب ب " أحْسَنَ "، أو المصدر المحذوف، قاله أبو البقاء وفيه النظر المتقدِّمُ.
والبَدْوُ : ضد الحضارة، وهو من الظُّهورِ، بَدَا يَبْدُوا : إذ سكن البادية.
يروى عن عمر رضي الله عنه :" إذَا بَدوْنَا جَفوْنَا " أي : تخلقنا بأخلاق البدويين.
قال الواحديُّ : البدو بسيطٌ من الأرض يظهرُ فيه الشخص من بعيدٍ، أصله من بَدَا يَبْدُوا بَدْواً، ثم سمي المكان باسم المصدر، ويقال :: بَدْوٌ وحَضَرن وكان يعقوب وولده بأرض كعنان أهل مواشٍ وبريَّةٍ.
وقال ابن عبَّاس رضي الله عنه :[ كان يعقوب قد تحوَّل إلى بدا وسكنها ] ومنها قدم على يوسف، وبها مسجد تحت جبلها.
قال ابن الأنباري " بدا " اسم موضع معروف، ياقل : بين شعيب عليه السلام وبدا، وهما موضعان ذكرهما جميعاً كثيرٌ :[ الطويل ]
٣١٥٦ وأنْتِ الَّتِي حَبَّبْتِ شَعْباً إلى بَدَا *** إليَّ وأوْطَانِي بِلادٌ سِواهُمَا
والبدو على هذا القول معناه : قصد هذا الموضع الذي يقال له بدا، يقال : بَدَا القَوْمُ بدواً إذا أتوا بَدَا، كما يقال : غَارَ القوم غَوْراً، إذا أتوا الغُوْر، وكان معنى الآية : وجاء بكم من قصد بدا، وعلى هذا القول كان يعقوب، وولده حضريِّين، لأن البدو لم يرد به البادية لكن عني به قصد بدا.

فصل


اعلم أن قوله ﴿ ياأبت هذا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِن قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقّاً ﴾ وهو قوله :﴿ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً ﴾ [ يوسف : ٤ ]، ﴿ وَقَدْ أَحْسَنَ بي ﴾ أنعم عليَّ ﴿ إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السجن ﴾ ولم يقل من الجُبّ مع كونه أشدّ من السجن استعمالاً للكرم كيلا تخجل إخوته بعدما قال :﴿ لاَ تَثْرَيبَ عَلَيْكُمُ اليوم ﴾ [ يوسف : ٩٢ ] ولو ذكر الجبّ كان تثريباً لهم ؛ ولأن نعمة الله عليه في أخراجه من السجن أعظم ؛ لأنَّه بعد الخروج من الجُبّ صار إلى العبودية والرق وبعد الخروج من السجن صار الملك ولأنه لما خرج من الجُب وقع في المضار بسبب تهمة المراة، ولما خرج من السِّجن، وصل إلى أبيه وإخوته وزالت عنه التُّهمة.
وقال الواحديُّ :" النِّعمة في إخراجه من السجن أعظم ؛ لأنَّ دخوله في السجن كان بسبب ذنب هَمَّ به، وهيا ينبغي أن يحمل على ميل الطبع، ورغبة النَّفس، وهذا وإن كان في محل العفو في حقّ غيره إلا أنه كان سبباً للمؤاخذة في حقه ؛ لأنَّ حسناتِ الأبرار سيئاتُ المقربين ".
فصل دلَّت هذه الآية على أنَّ فعل العبد خلق الله تعالى ؛ لأنَّه أضاف إخراجه من السجن إلى [ الله تعالى ] ومجيئهم من البدو إليه، وهذا صريحٌ في أن فعل العبد فعل الله تعالى فإن حملوه على أن المراد أن ذلك إنَّما حصل بإقدار الله، وتدبيره، فذلك عدولٌ عن الظَّاهر.
ثم قال :﴿ مِن بَعْدِ أَن نَّزغَ الشيطان ﴾ أفسد وأغوى، وأصله من نَزَغَ الرَّاكض الدَّابة حملها على الجَرْي إذا نخسها.
احتجَّ الجبائيُّ، الكعبيُّ، والقاضي أبو إسحاق بهذه الآية : على بُطلانِ الجبر قالوا لأنه تعالى، أخبر عن يوسف ت عليه الصلاة والسلام أنه أضاف الإحسان إلى الله تعالى وأضاف النَّزْغَ إلى الشِّيطان، ولو كان ذلك أيضاً من الرحن، لوجب أن لا ينسب إلا إليه كما في النعمة.
الجواب : أنَّ إضافة هذا القول إلى الشيطان مجاز ؛ لأنَّ عندكم الشِّيطان لا يتمكنَّن من الكلام الخفيّ، كما أخبر الله عنه، فقال :﴿ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فاستجبتم لِي ﴾
[ إبراهيم : ٢٢ ] فظاهر القرآن يقتضي إضافة هذا الفعل إلى الشيطان مع أنه ليس كذلك، وأيضاً : فإن كان إقدام المرءِ على المعصية بسبب الشِّيطان، فإقدام الشيطان على المعصية إن كان بسبب شيطان آخر ؛ لزم التسلسل وهو محالٌ، وإن لم يكن بسبب شيطان آخر، فليقل مثله في حق الإنسان، فثبت أن إقدام المرء على الجهل والفسق بسب الشيطان وليس بسبب نفسه لأن أحداً لا يميل طبعه إلى اختيار الجهل الفسق الذي يوجب وقوعه في الذَّم في الدُّنيا، وعذاب الآخرة ولما كان وقوعه في الكفر، والفسق لا بد له من موقع، وقد بطل القسمان لم يبق إلا أن يقال : ذلك من الله تعالى ويؤيد ذلك قوله :﴿ أَخْرَجَنِي مِنَ السجن وَجَآءَ بِكُمْ مِّنَ البدو ﴾ وهذا صريحٌ في أنَّ الكل من الله تعالى.
ثم قال :{ إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِّمَ
قوله تعالى :﴿ رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الملك ﴾ الآية قرأ عبد الله :( آتيتن وعملتن ) بغير ياء فيهما. وحركة ابنُ عطية أن أبا ذر قرأك " أتَيْتَنِي " بغير ألف بعد الهمزة، و " مِن " في " مِنَ المُلْكِ "، وفي :" مِنْ تَأويلِ " للتبعيض والمفعول محذوف أي : عظيماً من الملك، فهي صفة لذلك المحذوف. وقيل : زائدة. وقيل : لبيان الجنس، وهذان بعيدان. و " فَاطِرَ " يجوز أن يكون نعتاً ل " ربِّ " ويجوز أن يكون بدلاً أو بياناً، أو منصوباً بإضمار أعني أو نداء ثانياً.

فصل


لما جمع الله شمل يوسف عليه الصلاة والسلام عَلِمَ أنَّ نعيم الدُّنيا لا يدوم فسأل الله حسن العاقبة، فقال :﴿ رب قد ءاتيتني من الملك ﴾ يعني ملك مصر، والملك اتساع المقدور لمن له السياسة، والتدبير. ﴿ وَعَلَّمْتَنِي مِن تَأْوِيلِ الأحاديث ﴾ يعني تعبير الرؤيا.
قوله :﴿ فَاطِرَ السماوات والأرض ﴾ يعني : يا فاطر السموات والأرض، أي : خالقهما قال ابن عبَّاس رضي الله عنهما : ما كنت أدري ما معنى الفاطر حتى احتكم إليَّ اعرابيان في بئر، فقال أحدهما : أنا فَطرتَهَا وأنا ابْتدأت حَفْرهَا.
وقل أهلُ اللغة : أصلُ الفَطْر : الشَّقُّ، يقال : فطرت نابُ البعير، إذا بدا، وفطرتُ الشَيء، فانفطر، إذا شَقَقْتهُ، فانشقَّ، وتفطَّرتِ الأرض بالنَّبات والشَّجر بالورق، إذا تصدَّعتْ.
هذا أصله في اللغة، ثمَّ صارت عبارة عن الإيجاد ؛ لأنَّ ذلك الشيء في حال عدمه كأنَّه في ظلمة وخفاءٍ، فلمَّا دخل في الوجود، صار كأنَّه انشقَّ، وخرج ذلك الشيء منه.
﴿ تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بالصالحين ﴾ أي : اقبضني إليك مسلماً، وألحقين بالصالحين يريد بآبائي النبيين.
قال قتادة : لم يسأل نبيٌّ من الأنبياء الموت إلا يوسف، وبه قال جماعة من المفسرين.
وقال ابن عباس رضي الله عنه في رواية عطاء : يريد : إذا توَفَّيْتني، فتوفَّني على الإسلام.

فصل


دل قوله ﴿ تَوَفَّنِي مُسْلِماً ﴾ على أنَّ الإيمان من الله ؛ لأنَّه لو كان من العبد، لكان تقديره : كأنَّه يقول : افعل يا مَنْ لا يَفْعَل.
قالت المعتزلة : إذا كان الفعل من الله، فكيف يجوزُ أن يقال للعبد : افعل مع أنَّك لست فاعلاً ؟ فيقال لهم : إذا كان تحصيل الإيمان، وابقاؤه من العبد لا من الله، فكيف يطلب ذلك من الله تعالى.
قال الجبائي والكعبي : معناه : أطلب اللُّطف في الإقامة على الإسلام إلى أن أموت عليه، وهذا الجواب ضعيفٌ، لأن السؤال وقع عن الإسلام، فحمله على اللطف عدول عن الظاهر، وأيضاً : فكُلّ ما كان في مقدور الله من الإلطاف، فقد فعله، كان طلبه من الله محالاً.
فإن قيل : الأنبياء عليهم الصلاة والسلام يعلمون أنَّهم يموتون لا محالة على الإسلام، فكان هذا الدُّعاء طلباً لتحصيل الحاصل، وأنَّه لا يجوز.
فالجواب : أن كمال حال المسلم : أن يستسلم لحكم الله على وجه يستقرُّ قلبه على ذلك الإسلام، ويرضى بقضاء الله، وتطمئن النفس، وينشرح الصدر في هذا الباب، وهذه حالةٌ زائدة عن الإسلام الذي هو ضدُّ الكفر، والمطلوب هاهنا هو الإسلام بهذا المعنى.
فإن قيل : إن يوسف عليه الصلاة والسلام كان من أكابر الأنبياء، والصَّلاح أول درجات المؤمنين ؛ فالواصل إلى الغية كيف يليق به أن يطلب البداية ؟.
قال ابن عبَّاس رضي الله عنه وغيره : يعني ب " آبَائهِ " : إبراهيم، وإسماعيل، وإسحاق، ويعقوب صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.
والمعنى : ألحقني بهم في ثوابهم، ودرجاتهم، ومراتبهم.
" روي عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم، عن جبريل عليه السلام عن ربِّ العزَّة قال :" مَنْ شغلهُ ذِكرِي عَن مَسْألتِي أعْطَيتهُ أفضلَ ما أعْطِي السَّائلين ".
فلهذا من أراد الدعاء، لا بُدَّ وأن يقدِّم عليه الثَّناء على الله تعالى فههنا يوسف عليه الصلاة والسلام لمَّا أراد الدعاء قدَّم عليه الثناء، فقال ﴿ رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الملك وَعَلَّمْتَنِي مِن تَأْوِيلِ الأحاديث فَاطِرَ السماوات والأرض أَنتَ وَلِيِّي فِي الدنيا والآخرة ﴾ ثم دعا عقبه، فقال :﴿ تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بالصالحين ﴾ وكذلك فعل إبراهيم عليه الصلاة والسلام فقال :﴿ الذي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ ﴾ [ الشعراء : ٧٨ ] إلى قوله :﴿ يَوْمَ الدين ﴾ [ الشعرا : ٨٢ ] فهذا ثناءٌ ثمَّ قال :﴿ رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً ﴾ [ الشعراء : ٨٣ ] إلى آخر كلامه.
قوله تعالى: ﴿ذَلِكَ مِنْ أَنْبَآءِ الغيب﴾ الآية «ذَلِكَ» : مبتدأ و ﴿مِنْ أَنْبَآءِ الغيب﴾ : خبره، و «نُوحِيهِ» : حالٌ، ويجوز أن يكون خبراً ثانياً، أو حالاً من الضمير في الخبر، وجوز الزمخشري: أن يكون موصولاً بمعنى: الذي، وتقدَّم نظيهر، والمعنى: ذلك الذي ذكرت من أنباء الغيب نوحيه إليك، وما كنت يا محمَّد عند أولاد يعقوب، ﴿إِذْ أجمعوا أَمْرَهُمْ﴾ أي عزموا على إلقاء يوسف في الجبِّ، وما كنت هناك، ذكره على وجه التَّهكُّم، وتقدَّم الكلام على هذا اللفظ عند قوله: ﴿فأجمعوا أَمْرَكُمْ﴾ [يونس: ٧١] وقوله: ﴿وَهُمْ يَمْكُرُونَ﴾ أي: بيوسف والمقصود من هذا إخبار عن الغيبن فكيون معجزاً؛ لأنَّ محمداً صلوات الله وسلامه عليه لم يطالع الكتب، ولم يتلمذْ لأحد، ما كانت بلدته بلدة العلماء؛ فإتيانه بهذه القصَّة الطويلة، على وجه لم يقع فيها تحريف، ولا غلطٌ من غير مطالعةٍ، ولاتعلم، كيف لا يكون معجزاً؟.
روي أن اليهود وقريشاً سألوا رسو الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عن قصَّة يوسف؛ فلما أخبرهم على موافقة التَّوراة لم يسلموا، فحزن النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، فقيل: إنهم لا يؤمنون، ولو حرصت على إيمانهم.
قوله ﴿وَهُمْ يَمْكُرُونَ﴾ : حال، ﴿وَلَوْ حَرَصْتَ﴾ معترض بين «مََا» وخبرها، وجواب مقدَّماً عليها، فلا يجوز أن يقال: «قُمْتُ لو قمُتَ».
وقال الفراء في «المصادر» : حَرَصَ يَحْرِصً حِرْصاً، وفي لغة أخرى: حَرِصَ يَحْرَصُ حَرْصاً، ومعنى الحَرْص: طلب الشيء بأقصى ما يكون من الاجتهاد، ﴿إِلاَّ وَهُمْ مُّشْرِكُونَ﴾ : حالٌ.
قوله ﴿وَمَا تَسْأَلُهُمْ﴾ على تبليغ الرِّسالة، والدُّعاء إلى الله عزَّ وجلَّ «مِنْ أجْرٍ» جعلوا خبر «إن» هو «مَا» أي: القرآن، «إلاَّ ذِكْرٌ» : عظة وتذكير «للْعَالمِينَ».
ثم قال: «وَكَأيِّنْ» : وكم، «من آيةٍ» : عبرة ودلالة، ﴿فِي السماوات والأرض يَمُرُّونَ عَلَيْهَا﴾ : لا يتفكرون فيها ولا يتعبرون.
واعلم: أن دلائل التَّوحيد، والعلم، والقدرة، والحكمة والرحمة لا بد وأن تكون من أمور محسوسة، وهي: إما الأجرام الفلكيَّة، وإما الأجرام العنصرية.
أما الأجرام الفلكيَّة فهي قسمان: إما الأفلاك، وإما الكواكب.
221
فأما الأفلاك فقد يستدل بمقاديرها المعينة على وجود الصَّانع، وقد يستدل بكون بعضها فوق بعضه أو تحته، وقد يستدلُّ بحركتها، إمَّا بسرعة حركتها، وإمَّا باختلاف جهة تلك الحركات.
وأمَّا الأجرام الكوكبيَّة، فتارة تدلُّ على وجود الصَّانع بمقاديرها، وأجرامها، وحركاتها في سرعتها وبطئها، وتارة بألوانها وأضوائها، وتارة بتأثيراتها في حصول الأضواء والظلال.
وأما دلائل الأجرام العنصرية: فإمَّا أن تكون مأخوذة من بسائطها، وهو البر والبحر، وإما مأخوذ من [المواليد]، وهي أقسام:
أحدها: العلويِّة كالرعد، والبرق، والسَّحاب، والمطر، والثلج، والهواء، وقوس قُزَح.
وثانيها: المعادن على اختلاف طابعئها وصفاتها، وكيفياتها.
وثالثها: النَّبات وخاصيَّة الخشب والورق بخصوصه.
ورابعها: اختلاف حال الحيوانت في أشكالها، وطبائعها، وأصواتها، وخلقها.
وخامسها: تشريح أبدان الناس، وتشريح القوى الإنسانية، وبيان المنافع الحاصلة منها، ومن هذا الباب أيضاً قصص الأولين والملوك الذين استولوا على الأرض، وقهروا العباد، وخربوا البلاد. ماتوا ولم يبق لهم في الدنيا خبر، ثم بقي الوزرُ والعقاب عليهم، قال ابن الخطيب: فلهذا ضبط أنواع هذه الدَّلائل.

فصل


الجمهور على جر الأرض عطفاً على السموات، والضمير في «عَلَيْهَا» للآية، فيكون «يمُرُّون» صفة للآية، وحالاً لتخصُّصها بالوصف بالجر.
وقيل: يعود الضمير في «عَليْهَا» للأرض فيكون «يمُرُّون عليها» حالاً منها.
وقال أبو البقاء: وقيل: منها ومن السَّموات، أي: يكون الحال من الشيئين جميعاً، وهذا لا يجوز؛ إذا كان يجب أن يقال: عليهما، وأيضاً: فإنهم لا يمرُّون في السَّماوات إلا أن يراد: يمرّون على آياتها، فيعود المعنى على عود الضمير للآية، وقد يجاب عن الأول بأنه من باب الحذف؛ كقوله تعالى: ﴿والله وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ﴾ [التوبة: ٦٢].
وقرأ السديُّ: «والأرْضَ» بالنَّصب، ووجهه أنه من باب الاشتغال، ويفسَّر الفعل بما يوافقه معنى، أي: يطوفون الأرض، أو يسلكون الأرض.
222
، ﴿ وَلَوْ حَرَصْتَ ﴾ معترض بين " مََا " وخبرها، وجواب مقدَّماً عليها، فلا يجوز أن يقال :" قُمْتُ لو قمُتَ ".
وقال الفراء في " المصادر " : حَرَصَ يَحْرِصً حِرْصاً، وفي لغة أخرى : حَرِصَ يَحْرَصُ حَرْصاً، ومعنى الحَرْص : طلب الشيء بأقصى ما يكون من الاجتهاد، ﴿ إِلاَّ وَهُمْ مُّشْرِكُونَ ﴾ : حالٌ.
قوله ﴿ وَمَا تَسْأَلُهُمْ ﴾ على تبليغ الرِّسالة، والدُّعاء إلى الله عزَّ وجلَّ " مِنْ أجْرٍ " جعلوا خبر " إن " هو " مَا " أي : القرآن، " إلاَّ ذِكْرٌ " : عظة وتذكير " للْعَالمِينَ ".
ثم قال :" وَكَأيِّنْ " : وكم، " من آيةٍ " : عبرة ودلالة، ﴿ فِي السماوات والأرض يَمُرُّونَ عَلَيْهَا ﴾ : لا يتفكرون فيها ولا يتعبرون.
واعلم : أن دلائل التَّوحيد، والعلم، والقدرة، والحكمة والرحمة لا بد وأن تكون من أمور محسوسة، وهي : إما الأجرام الفلكيَّة، وإما الأجرام العنصرية.
أما الأجرام الفلكيَّة فهي قسمان : إما الأفلاك، وإما الكواكب.
فأما الأفلاك فقد يستدل بمقاديرها المعينة على وجود الصَّانع، وقد يستدل بكون بعضها فوق بعضه أو تحته، وقد يستدلُّ بحركتها، إمَّا بسرعة حركتها، وإمَّا باختلاف جهة تلك الحركات.
وأمَّا الأجرام الكوكبيَّة، فتارة تدلُّ على وجود الصَّانع بمقاديرها، وأجرامها، وحركاتها في سرعتها وبطئها، وتارة بألوانها وأضوائها، وتارة بتأثيراتها في حصول الأضواء والظلال.
وأما دلائل الأجرام العنصرية : فإمَّا أن تكون مأخوذة من بسائطها، وهو البر والبحر، وإما مأخوذ من [ المواليد ]، وهي أقسام :
أحدها : العلويِّة كالرعد، والبرق، والسَّحاب، والمطر، والثلج، والهواء، وقوس قُزَح.
وثانيها : المعادن على اختلاف طابعئها وصفاتها، وكيفياتها.
وثالثها : النَّبات وخاصيَّة الخشب والورق بخصوصه.
ورابعها : اختلاف حال الحيوانات في أشكالها، وطبائعها، وأصواتها، وخلقها.
وخامسها : تشريح أبدان الناس، وتشريح القوى الإنسانية، وبيان المنافع الحاصلة منها، ومن هذا الباب أيضاً قصص الأولين والملوك الذين استولوا على الأرض، وقهروا العباد، وخربوا البلاد. ماتوا ولم يبق لهم في الدنيا خبر، ثم بقي الوزرُ والعقاب عليهم، قال ابن الخطيب : فلهذا ضبط أنواع هذه الدَّلائل.

فصل


الجمهور على جر الأرض عطفاً على السموات، والضمير في " عَلَيْهَا " للآية، فيكون " يمُرُّون " صفة للآية، وحالاً لتخصُّصها بالوصف بالجر.
وقيل : يعود الضمير في " عَليْهَا " للأرض فيكون " يمُرُّون عليها " حالاً منها.
وقال أبو البقاء : وقيل : منها ومن السَّموات، أي : يكون الحال من الشيئين جميعاً، وهذا لا يجوز ؛ إذا كان يجب أن يقال : عليهما، وأيضاً : فإنهم لا يمرُّون في السَّماوات إلا أن يراد : يمرّون على آياتها، فيعود المعنى على عود الضمير للآية، وقد يجاب عن الأول بأنه من باب الحذف ؛ كقوله تعالى :﴿ والله وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ ﴾ [ التوبة : ٦٢ ].
وقرأ السديُّ :" والأرْضَ " بالنَّصب، ووجهه أنه من باب الاشتغال، ويفسَّر الفعل بما يوافقه معنى، أي : يطوفون الأرض، أو يسلكون الأرض.
" يمُرُّون علَيْهَا " كقولك : زَيْداً مررتُ بِهِ، وقرأ عكرمة، وعهمرو بن فايد :" والأرْضُ " على الابتداء، وخبره الجملة بعده، والضمير في هاتين القراءتين يعود على الأرض فقط.
قوله ﴿ وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بالله إِلاَّ وَهُمْ مُّشْرِكُونَ ﴾ والمعنى : أنَّهم كانوا مقرِّين بوجود الإله، قال تعالى :﴿ وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السماوات والأرض لَيَقُولُنَّ الله ﴾ [ الزمر : ٣٨ ] إلا أنَّهم كانوا [ يُثْبِتُون ] له شريكاً في العبودية.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال : نزلت في تلبية المشريكن من العرب، كانوا يقولون :" لَبِّيكَ اللَّهُمَّ لبَّيْكَ، لبَّيْكَ لا شريكَ لَكَ إلاَّ شرِيكاً هو لَكَ تمْلِكهُ ومَا مَلَك ".
وعن عطاء رضي الله عنه هذا في الدعاء، قال تعالى :﴿ وظنوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُاْ الله مُخْلِصِينَ لَهُ الدين ﴾ [ يونس : ٢٢ ] ﴿ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى البر إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ ﴾ [ العنكبوت : ٦٥ ].
وعن ابن عبَّاس : إن أهل مكة قالوا : الله ربَّنا لا شريك له، والملائكة بناتُه، فلم يوحِّدوا بل أشركوا، وقالت اليهود : ربُّنا الله وحده، وعزيزٌ ابن الله، وقالت النصارى : الله وحده، والمسيح ابن الله.
واحتجت الكرامية بهذه الآية على أن الإيمان : عبارة عن الإقرار باللسان فقط ؛ لأنه تعالى حكم بكونهم مؤمنين مع أنَّهم مشركون، وذلك يدلُّ على أن الإيمان عبارةٌ عن مجرَّد الإقرار، وجوابه معلُوم.
قوله تعالى :﴿ أفأمنوا أَن تَأْتِيَهُمْ غَاشِيَةٌ مِّنْ عَذَابِ الله ﴾ : عقوبة تغشاهم، وتنبسط عليهم، وتغمرهم.
﴿ أَوْ تَأْتِيَهُمُ الساعة بَغْتَةً ﴾.
قرأ أبو حفص، ومبشر بن عبدالله :﴿ أَوْ تَأْتِيَهُمُ الساعة بَغْتَةً ﴾ بالياء من تحت ؛ لأنه مؤنَّث مجازي ؛ وللفصل أيضاً، و " بَغْتَةً " : نصب على الحال، يقال : بغَتهُمُ الأمْرُ بغتاً وبَغْتَةً، إذا فاجأهم من حيث لم يتوقَّعوا.
وقوله :﴿ وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ ﴾ الناصب لقوله :" بغْتَةً ".
«يمُرُّون علَيْهَا» كقولك: زَيْداً مررتُ بِهِ، وقرأ عكرمة، وعهمرو بن فايد: «والأرْضُ» على الابتداء، وخبره الجملة بعده، والضمير في هاتين القراءتين يعود على الأرض فقط.
قوله ﴿وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بالله إِلاَّ وَهُمْ مُّشْرِكُونَ﴾ والمعنى: أنَّهم كانوا مقرِّين بوجود الإله، قال تعالى: ﴿وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السماوات والأرض لَيَقُولُنَّ الله﴾ [الزمر: ٣٨] إلا أنَّهم كانوا [يُثْبِتُون] له شريكاً في العبودية.
وعن ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما قال: نزلت في تلبية المشريكن من العرب، كانوا يقولون: «لَبِّيكَ اللَّهُمَّ لبَّيْكَ، لبَّيْكَ لا شريكَ لَكَ إلاَّ شرِيكاً هو لَكَ تمْلِكهُ ومَا مَلَك».
وعن عطاء رَضِيَ اللَّهُ عَنْه هذا في الدعاء، قال تعالى: ﴿وظنوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُاْ الله مُخْلِصِينَ لَهُ الدين﴾ [يونس: ٢٢] ﴿فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى البر إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ﴾ [العنكبوت: ٦٥].
وعن ابن عبَّاس: إن أهل مكة قالوا: الله ربَّنا لا شريك له، والملائكة بناتُه، فلم يوحِّدوا بل أشركوا، وقالت اليهود: ربُّنا الله وحده، وعزيزٌ ابن الله، وقالت النصارى: الله وحده، والمسيح ابن الله.
واحتجت الكرامية بهذه الآية على أن الإيمان: عبارة عن الإقرار باللسان فقط؛ لأنه تعالى حكم بكونهم مؤمنين مع أنَّهم مشركون، وذلك يدلُّ على أن الإيمان عبارةٌ عن مجرَّد الإقرار، وجوابه معلُوم.
قوله تعالى: ﴿أفأمنوا أَن تَأْتِيَهُمْ غَاشِيَةٌ مِّنْ عَذَابِ الله﴾ : عقوبة تغشاهم، وتنبسط عليهم، وتغمرهم.
﴿أَوْ تَأْتِيَهُمُ الساعة بَغْتَةً﴾.
قرأ أبو حفص، ومبشر بن عبد الله: ﴿أَوْ تَأْتِيَهُمُ الساعة بَغْتَةً﴾ بالياء من تحت؛ لأنه مؤنَّث مجازي؛ وللفصل أيضاً، و «بَغْتَةً» : نصب على الحال، يقال: بغَتهُمُ الأمْرُ بغتاً وبَغْتَةً، إذا فاجأهم من حيث لم يتوقَّعوا.
وقوله: ﴿وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ﴾ الناصب لقوله: «بغْتَةً».
قوله
: ﴿قُلْ
هذه
سبيلي﴾
الآية.
223
قل يا محمد هذه الدعوة التي أدعو إليها، والطريقة التي أنا عليها ومثله: ﴿ادع إلى سَبِيلِ رَبِّكَ﴾ [النحل: ١٣٥] والسَّبيل في أصل اللغة: الطريق، ثم شبهوا بها التعبُّدات؛ لأن الإنسان يمر عليها إلى الجنَّة.
قوله: ﴿أَدْعُو إلى الله﴾ يجوز أن يكون مستأنفاً، وهو الظاهر، وأن يكون حالاً من الياءِ، و ﴿على بَصِيرَةٍ﴾ حال من فاعل «أدْعُوا» أي: أدعوا كائناً على بصيرةٍ.
وقيل: تمَّ الكلام عند قوله: ﴿أَدْعُو إلى الله﴾ ثم استأنف ﴿على بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتبعني﴾.
قوله ﴿وَمَنِ اتبعني﴾ عطفٌ عليه، أي: على فاعل «أدْعوا» ولذلك أكد بالضمير المنفصل، ويجوز أني كون متبدأ، والخبر محذوف، أي: ومن اتَّبعني يدعو أيضاً، ويجوز أن يكون «عَلَى بَصِيرةٍ» : خبراً مقدماً، و «أنَا» : مبتدأ مؤخر، و «مَنِ اتَّبعَنِي» عطف عليه أيضاً، ومفعول «أدْعُوا» يجوز أن لا يراد، أي: أنا من أهل الدُّعاء إلى الله، ويجوز أن يقدَّر: أن أدعواالناس. وقرأ عبد الله: «هذَا سَبِيلِي» بالتَّذكيرن وقد تقدَّم [الأنعام: ٥٥] أنه يذكَّر ويؤنَّث.

فصل


والمعنى: أدْعُوا إلى شالله على بصيرةٍ على يقين، والبصيرةُ: هي المعرفة التي يميز بها بين الحقِّ والباطل، وهي الحجَّة والبرهان، «أنَا ومَنِ اتَّبعَنِي» : آمَنَ بي، وسار في طريقي، وسيرهُ: اتِّباع الدَّعوة إلى الله عزَّ وجلَّ.
قال الكلبيُّ، وابنُ زيد: حقٌّ على من اتَّبعه أن يدعو إلى ما دعى إليه ويذكِّر بالقرآن.
قال ابن عبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: يعني: أصحاب رسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كانوا على أحسن طريقةٍ، وأقدص هداية معدن العلم، وكنز الإيمان وجند الرَّحمن.
قال عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «العُلمَاءُ أمَناءُ الرُّسلِ على عِبَادهِ، حيثُ يَحْفَظُونَ ما يدْعُونَ إليْهِ».
ثم قال ﴿وَسُبْحَانَ الله﴾ أي: وقل: سبحان الله تنزيهاً عمَّا يشركون.
224
﴿وَمَآ أَنَاْ مِنَ المشركين﴾ الذين اتَّخذوا من الله ضدًّا وندًّا. وهذه الآية تدلُّ على أنَّ علم الأصول حرفة الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم، وأن الله تعالى ما بعثهم إلى الخلقِ إلا لأجلها.
225
قوله تعالى: ﴿وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً﴾ الآية: وهذا يدلُّ على أنَّه ما بعث رسولاً إلى الخلق من النِّسوان، ولا من أهل البادية، وقال عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «مَنْ بَدَا جَفَا».
قول: «نُوحِي» العامة معلى «يُوحَى» بالياء من تحت مبنيًّا للمفعول.
وقرأ حفص: «نُوحِي» بالنون، وكسر الحاء مبنيًّا للفاعل، اعتبارا بقوله: ﴿وَمَآ أَرْسَلْنَا﴾ [النحل: ٤٣] وكذكل قرا ما في النحل، وأوَّل الأنبياء، ووافقه الاخوان على قوله: ﴿نوحي إِلَيْهِمْ﴾ في الأنبياء على ما سيأتي إن شاء الله تعالى والجملة صفة ل «رِجَالاً» و ﴿مِّنْ أَهْلِ القرى﴾ صفة ثانيةٌ، وكان تقديم هذه الصِّفة على ما قبلها أكثر استعمالاً، لأنَّها أقرب إلى المفرد، وقد تقدَّم تحريره في المائدة.

فصل


قوله: ﴿مِّنْ أَهْلِ القرى﴾ أي من أهل الأمصار دون أهل البوادي؛ لأن أهل الأمصار أعقل وأفضل وأعلم وأحلم.
قال الحسن: لم يبعث الله نبيًّا من أهل البادية ولا من الجن ولا من الملائكة وقيل إنما لم يبعث من أهل البادية لغلظهم وجفاهم كا تقدَّم.
﴿أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِي الأرض﴾ يعني: [هؤلاء] المشركين المكذبين، {كَيْفَ
225
كَانَ عَاقِبَةُ} : آخر أمر، ﴿الذين مِن قَبْلِهِمْ﴾ يعنى: الأمم المكذِّبين فيعتبروا، ﴿وَلَدَارُ الآخرة خَيْرٌ لِّلَّذِينَ اتقوا﴾ يقول سبحانه وتعالى: هذا فعلنا بأهل ولا يتنا وطاعتنا أن نُنجِّهم عند نزول العذاب، وما في الدرار الآخرة لهم خير، فترك ذلك اكتفاء به لدلالة الكلام عليه، والمعنى: ولدار الحالِ الآخرة.
وقيل: هو إضافة الشيء إلى نفسه؛ كقوله: ﴿إِنَّ هذا لَهُوَ حَقُّ اليقين﴾ [الواقعة: ٩٥]، وكقولهم: يومُ الخَميِسِ، وربيعُ الآخر، ﴿أَفَلاَ تَعْقِلُونَ﴾ فتؤمنون، قرأ نافع، وابن عامرٍ، ورواية عن عاصم: «تَعْقِلُون» بتاء الخطاب، والباقون بياء الغيبة.
قوله تعالى: ﴿حتى إِذَا استيأس الرسل﴾ الآية.
ليس في الكلام شيء يكون، «حتَى» غاية له؛ فلذلك اختلفوا في تقدير شيءٍ يصحُّ حلعه مغيًّا ب «حتَّى».
فقدره الزمخشري: ما أرسلنا من قبلكَ رجالاً، فتراخى نصرهم حتَّى.
وقدره القرطبيُّ: ما أرسلنا من قبلك يا محمد إلا رجالاً، ثم لم نعاقب أممهم بالعقاب حتَّى إذا.
وقدره ابن الجوزي: وما أرسلنا من قبلك إلا رجالاً، فدعوا قومهم فكذَّبوهم، فطال دعاؤهم، وتكذيب قومهم حتَّى إذا، وأحسنها المقدم.
وذكر ابن عطيَّة شيئاً من معنى قوله: ﴿أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِي الأرض فَيَنظُرُواْ﴾ فقال: ويتضمن قوله «أفَلمْ يَسِيرُوا» إلى من قبلهم، أنَّ الرُّسل الذين بعثهم الله تعالى من أهل القرى دعوهم، فلم يؤمنوا حتى نزلت به المُثُلاث، فصبروا في حيِّز من يعتبر بعاقبته؛ فلهذا المضمَّن حسن أن تدخل «حتَّى» في قوله: «حتَّى إذَا».
قال أبو حيان: ولم يتلخًّص لنا من كلامه شيء يكون ما بعد «حتَّى» غاية لهُ؛ لأنَّه علَّق الغاية بما ادَّعى أنَّه فهم ذلك من قوله: «أفَلمْ يَسِيرُوا»، قال شهاب الدِّين: قوله: «دَعوهُمْ فَلم يُؤمِنُوا» هو المُغَيَّا.
قوله ﴿وظنوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ﴾ قرأ الكوفيُّون: «كُذِبُوا» بالتخفيف، والباقون بالتثقيل.
فأما قراءة التَّثقيل، فاضطربت فيه الأقوال: فرُوِي إنكارها عن عائشة رَضِيَ اللَّهُ
226
عَنْها قالت: «مَعاذَ اللهِ؛ لمْ تَكُنِ الرسُل لتظُنَّ ذلِكَ بِربِّهَا» وينبغي ألاَّ يصحَّ لك عنها؛ لتواتر هذه القراءة، وقد وجَّهت بأربعة [أوجه] :
أحدها: أن الضمير في «وظَنُّوا» عائدٌ على المرسل إليهم؛ لتقدُّمهم في قوله: ﴿كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الذين مِن قَبْلِهِمْ﴾ ولأنَّ الرسل تستدعي مرسلاً إليهم، والضمير في «أنَّهُمْ» و «كُُذِبُوا» عائد على الرسل والمعنى: وظن المرسل إليهم أن الرسل قد كذبوا، أي: كذَّبهم من أرسلوا غليه بالوحي، وينصرهم عليهم.
الثاني: أن الضمائر الثلاثة عائدة على الرسل.
قال الزمخشري في تقديره هذا الوجه: «حتَّى إذا اسْتَيئَسُوا من النَّصر، وظنوا أنهم قد كذبوا، أي كذَّبتهم أنفسهم حين حدَّثتهم أنهم ينصرون، أو رجاؤهم؛ لقولهم: رَجاءٌ صادقٌ، ورجاءٌ كاذبٌ، والمعنى: أن مدَّة التَّكذيب والعداوة من الكفَّار، وانتظار، وتوهَّموا أن لا نصر لهم في الدنيا؛ فجاءهم نصرنا» انتهى.
فقد جعل الفاعل المقدر: إما «أنْفُسُهم»، وإما «رَجَاؤهم»، وجعل الظَّنَّ بمعنى: التَّوهُّم، فأخرجه عن معناه الأصليِّ، وهو يرجِّحُ أحد الطرشفين، وعن مجازه، وهو استعماله في المتيقين.
الثالث: أن الضمائر كلَّها عائدة على الرسل، والظنُّ على بابه من التَّرجيح، وإلى هذا نحا ابنُ عبَّاسٍ، وابن مسعود، وابن جبير، وقالوا: والرُّسُل بشر؛ فضعفوا، وساء ظنُّهُم.
وهذا لا ينبغي أن يصحَّ عن هؤلاء: فإنها عبارة غليظة على الأنبياء، وحاشا الأنبياء من ذلك، ولذلك ردَّت عائشة، وجماعة كثيرة هذا التأويل، وأعظموا أن ينسبوا الأنبياء إلى شيء من ذلك.
قال الزمخشريُّ: «إن صحَّ هذه عن ابن عبَّاس، فقد أراد بالظَّنِّ؛ ما يخطر بالبالِ، ويهجُس في القلب من شبه الوسوسة، وحديث النَّفس على ما عليه البشريِّة، وأما الظَّنُ الذي هو ترجيح أحد الجائزين عل الآخر؛ فغير جائزٍ على رجلٍ من المسلمين، فما بالُ رُسل الله الذين هم أعرف بربِّهم».
قال شهاب الدِّين: «ولا يجوز أيضاً أن يقال: خطر ببالهم شبه الوسوسة، فإن الوسوسة من الشيطان، وهم معصومون منه».
وقال الفارسي أيضاً: «إن ذهب ذاهبٌ إلى أن المعنى: ظن الرُّسل الذين وعد الله
227
أممهم على لسانهم قد كذبوا؛ فقد أتى عظيماً لا يجوز أن ينسب مثله إلى الأنبياء، ولا إلى صالح عباد الله، وكذلك من زعمك أنَّ ابن عبَّاس ذهب إلى أن الرسل قد ضعفوا، [فظنوا] أنهم قد أخلفوا؛ لأن الله لا يخلف الميعاد، ولا مبدِّل لكلماته».
وقد روي عن ابن عباس أيضاً، أنه قال: معناه: وظنوا حين ضعفوا وغلبوا؛ أنهم قد أخفلوا ما وعدهم الله به من النصر، وقال: وكانوا بشراًح وتلا قوله تعالى: ﴿وَزُلْزِلُواْ حتى يَقُولَ الرسول﴾ [البقرة: ٢١٤].
الرابع: أن الضمائر كلَّها ترجع إلى المرسل إليهم أي: وظنَّ المرسل إليهم أنَّ الرسل قد كذبوهم فيما ادَّعوه من النبوة، وفيما يوعدون به من لم يؤمن بهم من العقاب قبل، وهذا هو المشهور من تأويل ابن عباس، وابن مسعود، وابن جبير، ومجاهد، قالوا: «ولايجوز عود الضمائر على الرسل؛ لأنَّهم معصومون».
ويحكى: أنَّ ابن جبير حين سئل عنها، فقال: نعم، حتَّى إذا استيأس الرسل من قومهم أن يصدِّقوهم، وظنَّ المرسل إليهم أن الرُّسل قد كذبوهم؛ فقال الضحاك بن مزاحم وكان حاضراً: «لَوْ رحَلْتُ فِي هَذه إلى اليَمنِ كَانَ قَلِيلاً».
وأمَّا قراءة التشديد فواضحة، وهو أن تعود الضمائر كلها على الرسل، أي: وظنَّ الرُّسل أنهم قد كذبهم أممهم فيما جاءوا به؛ لطول البلاءِ عليهم.
وفي صحيح البخاري عن عائشة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها أنَّها قالت: «إنَّهُم أتْبَاعُ الأنْبيَاءِ الَّذِينَ آمَنُوا بِربهم وصدَّقُوا، طَالَ عَليهِمُ البَلاءُ واسْتأخَرَ عَنْهُم النَّصْر، حتَّى إذَا اسْتَيْأسَ الرُّسلُ ممَّن كذَّبَهُمْ مِنْ قَوْمِهِمْ، وظنَّتِ الرُّسلُ أنَّهُمْ قَد كذَّبُوهُم، جَاءَهُمْ نَصْرُ اللهِ عِندَ ذلِكَ».
وبهذا يتَّحد معنى القراءتين، والظَّن هنا يجوز أن يكون على بابه، وأن يكن بمعنى: اليقين، وأن يكن بمعنى: التوهُّم كما تقدَّم.
وقرأ ابن عبَّاس، ومجاهد، والضحاك رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم: «كَذبُوا» بالتخفيف مبنيًّا للفاعل، والضمير على هذه القراءة في «وظنُّوا» عائدٌ على الأمم، في أنَّهُم قد كذبوا، عائد على الرسل، أي: ظنَّ المرسلُ إليهم أنَّ الرسل قد كذبوهم فيما وعدوهم به من النَّصر، أو من العقاب.
ويجوز أن يعود الضمير في «ظَنُّوا» على الرسل، وفي «أنَّهُمْ قَدْ كذِبُوا» على المرسل إليهم، أي: وظنَّ الرسل إنَّ الأمم كذبتهم فميا وعدهم به من أنَّهم لا يؤمنون به، والظنُّ هنا بمعنى: اليقين واضح.
228
ونقل أبو البقاء: «أنه قرىء مشدّداً مبنياً للفاعل، وأوله: بأن الرسل ظنّوا أن الأمم قد كذبوهم».
وقال الزمخشري بعد ما حكى قراءة المبني للفاعل: «ولو قرىء بها مشددة لكان معناه: وظن الرسل أن قومهم قد كذَّبُوهم فيما وعدوهم» فلم يحفظها قراة، وهي غريبة، وكان قد جوَّز في القراءة المتقدمة: أن الضَّمائر كلَّها تعود على الرُّسل، وأن يعود الأول على المرسل إليهم وما بعده على الرسل أنهم قد كذبوا فيما حدَّثوا به قومهم من النُّصرة: إمَّا على تأويل ابن عبَّاس، وإمَّا على أنَّ قومهم إذا لم يروا لموعدهم أثراً، قالوا لهم: قد كذبتمونا، فيكونون كاذبين عند قومهم، أي: وظنَّ المرسل إليهم أنَّ الرسل قد كذبوا «.
وقوله «جَاءَهُمْ»
: جواب الشِّرط، وتقدَّم الكلام في «حتَّى» هذه ما هِي؟. أي: لمَّا بلغ الحال إلى الحدِّ المذكور؛ جاءهم نصرنا.
فإن قيل: لم يجر ذكر المرسل إليهم فيما سبق، فكيف يحسن عود الضَّمير إليهم؟.
فالجواب: ذكر الرسل يدلُّ على ذكر المرسل إليهم، أو يقول: إن ذكرهم جرى في قولهم: ﴿أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِي الأرض فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الذين مِن قَبْلِهِمْ﴾ ويكون الضمير عائداً عل الذين من قبلهم، من مكذِّبي الرسل.
قوله: ﴿فَنُجِّيَ مَن نَّشَآءُ﴾ قرأ عاصمٌ، وابن عامر بنون واحدة، وجيم مشددة، وياء مفتوحة؛ على أنَّه فعلٌ ماضي مبنيٌّ للمفعول، و «مَنْ» : قائمة مقام الفاعل، والباقون بنونين ثانيتهما ساكنة والجيم خفيفة، والياء الساكنة على أنه مضارع أنْجَى، و «مَنْ» مفعوله، الفاعل ضمير المتكلم المعظم نفسه على الاستقبال، على معنى: فنفعل بهم ذلك، وهه حكاية حالٍ، ألا ترى أنَّ القصَّة فيما مضى، وإنَّما حكى الحالح كقوله تعالى ﴿هذا مِن شِيعَتِهِ وهذا مِنْ عَدُوِّهِ﴾ [القصص: ١٥] إشارة إلى الحاضر، والقصَّة ماضية.
وقرأ الحسن، والجحدريُّ، ومجاهد في آخرين كقراءة عاصم، إلا أنَّهم سكَّنوا الياء، والأجود في تخريجها ما تقدَّم، وسكِّنت الياء تخفيفاً، كقراءة: ﴿تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ﴾ [المائدة: ٨٩] وقد سكِّن الماضي الصَّحيح، فكيف بالمعتلِّ؟
كقوله: [مجزوء الرمل]
٣١٥٧ -...................
229
قَدْ خُلِطْ بِجُلْجُلانْ
وتقدم من أمثاله.
وقيل: الأصل «نُنْجِي» بنونين؛ فأدغم النون في الجيم، وليس بشيء؛ إذا النون لا تدغم في الجيم على أنَّه قد قيل بذلك في قوله: ﴿نُنجِي المؤمنين﴾ [الأنبياء: ٨٨] كما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى.
وقرأ جماعة كقراءة الباقين إلا أنَّهم فتحوا الياء، قال ابن عطيَّة: «رواها ابن عبيرة، عن حفص، عن عاصم، وهي غلط من ابن هبيرة».
قال شهابُ الدِّين: «توهَّم ابن عطيِّة أنه مضارع باقٍ على رفعة، فأنكر فتح لامه وغلَّط راويها، وليس بغلط؛ وذلك أنه إذا وقع بعد الشرط والجزاء معاً مضارع مقرون بالفاء، جاز فيه أوجه:
أحدهما: نصبه بإضمار»
أن «بعد الفاء، وقد تقدَّم عند قوله: ﴿وَإِن تُبْدُواْ مَا في أَنْفُسِكُمْ﴾ [البقرة: ٢٨٤] إلى أن قال:» فَيَغْفِر «قرىء بنصبه، وقد تقدم توجيهه، ولا فرق بين أن تكون أداة الشرط جازمة كآية البقرة، أو غير جازمة كهذه الآية.
وقرأ الحسن أيضاً»
فنُنَجِّي «بنونين، والجيم مشددة، والياء ساكنة مضارع» نَجَّى «مشددة للتكثير، وقرأ هو أيضاً ونصر بن عاصم، وأبو حيوة:» َفَنَجَا «فِعْلا ماضياً مخففاً، و» مَنْ «فاعله.
ونقل الدَّاني: أنه قرأ لابن محيصن كذلك، إلا أنه شدِّد الجيم، والفاعل ضمير النَّصر، و «مَنْ: مفعوله، ورجح بعضهم قراءة عاصم؛ بأن المصاحف اتفقت على كتبها»
فَنُجِّيَ «بنون واحدة، نقله الداني، ونقل مكي: أن أكثر المصاحب عليها، فأشعر هذا بوقوع الخلاف في الرَّسم، ورجَّح أيضاً: بأنَّ فيها مناسبة لما قبلها من الأفعال الماضية، وهي جارية على طريقة كلام الملوك والعظماء، منحيث بناء الفعل [للمعفول].
وقرأ أبو حيوة:»
يَشَاءُ «بالياء، وتقدَّم أنه قرأ» فَنَجَا «، أي: فنجا من يشاء الله نجاته، وهم المؤمنون المطيعون.
230
قوله: ﴿وَلاَ يُرَدُّ بَأْسُنَا﴾ : عذابنا، وقرأ الحسن» بَأسهُ «والضمير لله، وفيها مخالفة للشواذُ،» عَنِ القومِ المُجْرمينَ «أي: المشركين.
قوله
231
قوله تعالى :﴿ حتى إِذَا استيأس الرسل ﴾ الآية.
ليس في الكلام شيء يكون، " حتَى " غاية له ؛ فلذلك اختلفوا في تقدير شيءٍ يصحُّ حلعه مغيًّا ب " حتَّى ".
فقدره الزمخشري : ما أرسلنا من قبلكَ رجالاً، فتراخى نصرهم حتَّى.
وقدره القرطبيُّ : ما أرسلنا من قبلك يا محمد إلا رجالاً، ثم لم نعاقب أممهم بالعقاب حتَّى إذا.
وقدره ابن الجوزي : وما أرسلنا من قبلك إلا رجالاً، فدعوا قومهم فكذَّبوهم، فطال دعاؤهم، وتكذيب قومهم حتَّى إذا، وأحسنها المقدم.
وذكر ابن عطيَّة شيئاً من معنى قوله :﴿ أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِي الأرض فَيَنظُرُواْ ﴾ فقال : ويتضمن قوله " أفَلمْ يَسِيرُوا " إلى من قبلهم، أنَّ الرُّسل الذين بعثهم الله تعالى من أهل القرى دعوهم، فلم يؤمنوا حتى نزلت به المُثُلاث، فصبروا في حيِّز من يعتبر بعاقبته ؛ فلهذا المضمَّن حسن أن تدخل " حتَّى " في قوله :" حتَّى إذَا ".
قال أبو حيان : ولم يتلخًّص لنا من كلامه شيء يكون ما بعد " حتَّى " غاية لهُ ؛ لأنَّه علَّق الغاية بما ادَّعى أنَّه فهم ذلك من قوله :" أفَلمْ يَسِيرُوا "، قال شهاب الدِّين : قوله :" دَعوهُمْ فَلم يُؤمِنُوا " هو المُغَيَّا.
قوله ﴿ وظنوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ ﴾ قرأ الكوفيُّون :" كُذِبُوا " بالتخفيف، والباقون بالتثقيل.
فأما قراءة التَّثقيل، فاضطربت فيه الأقوال : فرُوِي إنكارها عن عائشة رضي الله عنها قالت :" مَعاذَ اللهِ ؛ لمْ تَكُنِ الرسُل لتظُنَّ ذلِكَ بِربِّهَا " وينبغي ألاَّ يصحَّ لك عنها ؛ لتواتر هذه القراءة، وقد وجَّهت بأربعة [ أوجه ] :
أحدها : أن الضمير في " وظَنُّوا " عائدٌ على المرسل إليهم ؛ لتقدُّمهم في قوله :﴿ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الذين مِن قَبْلِهِمْ ﴾ ولأنَّ الرسل تستدعي مرسلاً إليهم، والضمير في " أنَّهُمْ " و " كُُذِبُوا " عائد على الرسل والمعنى : وظن المرسل إليهم أن الرسل قد كذبوا، أي : كذَّبهم من أرسلوا غليه بالوحي، وينصرهم عليهم.
الثاني : أن الضمائر الثلاثة عائدة على الرسل.
قال الزمخشري في تقديره هذا الوجه :" حتَّى إذا اسْتَيئَسُوا من النَّصر، وظنوا أنهم قد كذبوا، أي كذَّبتهم أنفسهم حين حدَّثتهم أنهم ينصرون، أو رجاؤهم ؛ لقولهم : رَجاءٌ صادقٌ، ورجاءٌ كاذبٌ، والمعنى : أن مدَّة التَّكذيب والعداوة من الكفَّار، وانتظار، وتوهَّموا أن لا نصر لهم في الدنيا ؛ فجاءهم نصرنا " انتهى.
فقد جعل الفاعل المقدر : إما " أنْفُسُهم "، وإما " رَجَاؤهم "، وجعل الظَّنَّ بمعنى : التَّوهُّم، فأخرجه عن معناه الأصليِّ، وهو يرجِّحُ أحد الطرشفين، وعن مجازه، وهو استعماله في المتيقين.
الثالث : أن الضمائر كلَّها عائدة على الرسل، والظنُّ على بابه من التَّرجيح، وإلى هذا نحا ابنُ عبَّاسٍ، وابن مسعود، وابن جبير، وقالوا : والرُّسُل بشر ؛ فضعفوا، وساء ظنُّهُم.
وهذا لا ينبغي أن يصحَّ عن هؤلاء : فإنها عبارة غليظة على الأنبياء، وحاشا الأنبياء من ذلك، ولذلك ردَّت عائشة، وجماعة كثيرة هذا التأويل، وأعظموا أن ينسبوا الأنبياء إلى شيء من ذلك.
قال الزمخشريُّ :" إن صحَّ هذه عن ابن عبَّاس، فقد أراد بالظَّنِّ ؛ ما يخطر بالبالِ، ويهجُس في القلب من شبه الوسوسة، وحديث النَّفس على ما عليه البشريِّة، وأما الظَّنُ الذي هو ترجيح أحد الجائزين عل الآخر ؛ فغير جائزٍ على رجلٍ من المسلمين، فما بالُ رُسل الله الذين هم أعرف بربِّهم ".
قال شهاب الدِّين :" ولا يجوز أيضاً أن يقال : خطر ببالهم شبه الوسوسة، فإن الوسوسة من الشيطان، وهم معصومون منه ".
وقال الفارسي أيضاً :" إن ذهب ذاهبٌ إلى أن المعنى : ظن الرُّسل الذين وعد الله أممهم على لسانهم قد كذبوا ؛ فقد أتى عظيماً لا يجوز أن ينسب مثله إلى الأنبياء، ولا إلى صالح عباد الله، وكذلك من زعمك أنَّ ابن عبَّاس ذهب إلى أن الرسل قد ضعفوا، [ فظنوا ] أنهم قد أخلفوا ؛ لأن الله لا يخلف الميعاد، ولا مبدِّل لكلماته ".
وقد روي عن ابن عباس أيضاً، أنه قال : معناه : وظنوا حين ضعفوا وغلبوا ؛ أنهم قد أخفلوا ما وعدهم الله به من النصر، وقال : وكانوا بشراًح وتلا قوله تعالى :﴿ وَزُلْزِلُواْ حتى يَقُولَ الرسول ﴾ [ البقرة : ٢١٤ ].
الرابع : أن الضمائر كلَّها ترجع إلى المرسل إليهم أي : وظنَّ المرسل إليهم أنَّ الرسل قد كذبوهم فيما ادَّعوه من النبوة، وفيما يوعدون به من لم يؤمن بهم من العقاب قبل، وهذا هو المشهور من تأويل ابن عباس، وابن مسعود، وابن جبير، ومجاهد، قالوا :" و لايجوز عود الضمائر على الرسل ؛ لأنَّهم معصومون ".
ويحكى : أنَّ ابن جبير حين سئل عنها، فقال : نعم، حتَّى إذا استيأس الرسل من قومهم أن يصدِّقوهم، وظنَّ المرسل إليهم أن الرُّسل قد كذبوهم ؛ فقال الضحاك بن مزاحم وكان حاضراً :" لَوْ رحَلْتُ فِي هَذه إلى اليَمنِ كَانَ قَلِيلاً ".
وأمَّا قراءة التشديد فواضحة، وهو أن تعود الضمائر كلها على الرسل، أي : وظنَّ الرُّسل أنهم قد كذبهم أممهم فيما جاءوا به ؛ لطول البلاءِ عليهم.
وفي صحيح البخاري عن عائشة رضي الله عنها أنَّها قالت :" إنَّهُم أتْبَاعُ الأنْبيَاءِ الَّذِينَ آمَنُوا بِربهم وصدَّقُوا، طَالَ عَليهِمُ البَلاءُ واسْتأخَرَ عَنْهُم النَّصْر، حتَّى إذَا اسْتَيْأسَ الرُّسلُ ممَّن كذَّبَهُمْ مِنْ قَوْمِهِمْ، وظنَّتِ الرُّسلُ أنَّهُمْ قَد كذَّبُوهُم، جَاءَهُمْ نَصْرُ اللهِ عِندَ ذلِكَ ".
وبهذا يتَّحد معنى القراءتين، والظَّن هنا يجوز أن يكون على بابه، وأن يكن بمعنى : اليقين، وأن يكن بمعنى : التوهُّم كما تقدَّم.
وقرأ ابن عبَّاس، ومجاهد، والضحاك رضي الله عنهم :" كَذبُوا " بالتخفيف مبنيًّا للفاعل، والضمير على هذه القراءة في " وظنُّوا " عائدٌ على الأمم، في أنَّهُم قد كذبوا، عائد على الرسل، أي : ظنَّ المرسلُ إليهم أنَّ الرسل قد كذبوهم فيما وعدوهم به من النَّصر، أو من العقاب.
ويجوز أن يعود الضمير في " ظَنُّوا " على الرسل، وفي " أنَّهُمْ قَدْ كذِبُوا " على المرسل إليهم، أي : وظنَّ الرسل إنَّ الأمم كذبتهم فميا وعدهم به من أنَّهم لا يؤمنون به، والظنُّ هنا بمعنى : اليقين واضح.
ونقل أبو البقاء :" أنه قرىء مشدّداً مبنياً للفاعل، وأوله : بأن الرسل ظنّوا أن الأمم قد كذبوهم ".
وقال الزمخشري بعد ما حكى قراءة المبني للفاعل :" ولو قرىء بها مشددة لكان معناه : وظن الرسل أن قومهم قد كذَّبُوهم فيما وعدوهم " فلم يحفظها قراة، وهي غريبة، وكان قد جوَّز في القراءة المتقدمة : أن الضَّمائر كلَّها تعود على الرُّسل، وأن يعود الأول على المرسل إليهم وما بعده على الرسل أنهم قد كذبوا فيما حدَّثوا به قومهم من النُّصرة : إمَّا على تأويل ابن عبَّاس، وإمَّا على أنَّ قومهم إذا لم يروا لموعدهم أثراً، قالوا لهم : قد كذبتمونا، فيكونون كاذبين عند قومهم، أي : وظنَّ المرسل إليهم أنَّ الرسل قد كذبوا ".
وقوله " جَاءَهُمْ " : جواب الشِّرط، وتقدَّم الكلام في " حتَّى " هذه ما هِي ؟. أي : لمَّا بلغ الحال إلى الحدِّ المذكور ؛ جاءهم نصرنا.
فإن قيل : لم يجر ذكر المرسل إليهم فيما سبق، فكيف يحسن عود الضَّمير إليهم ؟.
فالجواب : ذكر الرسل يدلُّ على ذكر المرسل إليهم، أو يقول : إن ذكرهم جرى في قولهم :﴿ أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِي الأرض فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الذين مِن قَبْلِهِمْ ﴾ ويكون الضمير عائداً عل الذين من قبلهم، من مكذِّبي الرسل.
قوله :﴿ فَنُجِّيَ مَن نَّشَآءُ ﴾ قرأ عاصمٌ، وابن عامر بنون واحدة، وجيم مشددة، وياء مفتوحة ؛ على أنَّه فعلٌ ماضي مبنيٌّ للمفعول، و " مَنْ " : قائمة مقام الفاعل، والباقون بنونين ثانيتهما ساكنة والجيم خفيفة، والياء الساكنة على أنه مضارع أنْجَى، و " مَنْ " مفعوله، الفاعل ضمير المتكلم المعظم نفسه على الاستقبال، على معنى : فنفعل بهم ذلك، وهه حكاية حالٍ، ألا ترى أنَّ القصَّة فيما مضى، وإنَّما حكى الحالح كقوله تعالى ﴿ هذا مِن شِيعَتِهِ وهذا مِنْ عَدُوِّهِ ﴾ [ القصص : ١٥ ] إشارة إلى الحاضر، والقصَّة ماضية.
وقرأ الحسن، والجحدريُّ، ومجاهد في آخرين كقراءة عاصم، إلا أنَّهم سكَّنوا الياء، والأجود في تخريجها ما تقدَّم، وسكِّنت الياء تخفيفاً، كقراءة :﴿ تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ ﴾ [ المائدة : ٨٩ ] وقد سكِّن الماضي الصَّحيح، فكيف بالمعتلِّ ؟
كقوله :[ مجزوء الرمل ]
٣١٥٧. . . . . . . . . . . . . . . . *** قَدْ خُلِطْ بِجُلْجُلانْ
وتقدم من أمثاله.
وقيل : الأصل " نُنْجِي " بنونين ؛ فأدغم النون في الجيم، وليس بشيء ؛ إذا النون لا تدغم في الجيم على أنَّه قد قيل بذلك في قوله :﴿ نُنجِي المؤمنين ﴾ [ الأنبياء : ٨٨ ] كما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى.
وقرأ جماعة كقراءة الباقين إلا أنَّهم فتحوا الياء، قال ابن عطيَّة :" رواها ابن عبيرة، عن حفص، عن عاصم، وهي غلط من ابن هبيرة ".
قال شهابُ الدِّين :" توهَّم ابن عطيِّة أنه مضارع باقٍ على رفعة، فأنكر فتح لامه وغلَّط راويها، وليس بغلط ؛ وذلك أنه إذا وقع بعد الشرط والجزاء معاً مضارع مقرون بالفاء، جاز فيه أوجه :
أحدهما : نصبه بإضمار " أن " بعد الفاء، وقد تقدَّم عند قوله :﴿ وَإِن تُبْدُواْ مَا في أَنْفُسِكُمْ ﴾ [ البقرة : ٢٨٤ ] إلى أن قال :" فَيَغْفِر " قرىء بنصبه، وقد تقدم توجيهه، ولا فرق بين أن تكون أداة الشرط جازمة كآية البقرة، أو غير جازمة كهذه الآية.
وقرأ الحسن أيضاً " فنُنَجِّي " بنونين، والجيم مشددة، والياء ساكنة مضارع " نَجَّى " مشددة للتكثير، وقرأ هو أيضاً ونصر بن عاصم، وأبو حيوة :" َفَنَجَا " فِعْلا ماضياً مخففاً، و " مَنْ " فاعله.
ونقل الدَّاني : أنه قرأ لابن محيصن كذلك، إلا أنه شدِّد الجيم، والفاعل ضمير النَّصر، و " مَنْ : مفعوله، ورجح بعضهم قراءة عاصم ؛ بأن المصاحف اتفقت على كتبها " فَنُجِّيَ " بنون واحدة، نقله الداني، ونقل مكي : أن أكثر المصاحب عليها، فأشعر هذا بوقوع الخلاف في الرَّسم، ورجَّح أيضاً : بأنَّ فيها مناسبة لما قبلها من الأفعال الماضية، وهي جارية على طريقة كلام الملوك والعظماء، منحيث بناء الفعل [ للمعفول ].
وقرأ أبو حيوة :" يَشَاءُ " بالياء، وتقدَّم أنه قرأ " فَنَجَا "، أي : فنجا من يشاء الله نجاته، وهم المؤمنون المطيعون.
قوله :﴿ وَلاَ يُرَدُّ بَأْسُنَا ﴾ : عذابنا، وقرأ الحسن " بَأسهُ " والضمير لله، وفيها مخالفة للشواذُ، " عَنِ القومِ المُجْرمينَ " أي : المشركين.
: ﴿لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ﴾ أي: في خبر يوسف وإخوته، «عِبْرَةٌ» : موعظة «لأولِي الألبابِ».
ما كان حديثا يفترى ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل كل شيء وهدى ورحمة لقوم يؤمنون}.
قوله: ﴿لقد كان في قصصهم﴾ أي: في خبر يوسف وإخوته، " عبرة ": موعظة " لأولي الألباب ".
قرأ أبو عمرو في رواية عبد الوارث، والكسائي في رواية الأنطاكي: " قصصهم " بكسر القاف وهو جمع قصة، وبهذه القراءة رجح الزمخشري عود الضمر في " قصصهم " في القراءة أبو عمرو في رواية عبد الوارث، والكسائيُّ في رواية الأنطاكي: «قِصَصِهِمْ» بكسر القاف هو جمع قصَّة، وبهذه القراءة رجَّح الزمخشري عود الضمر في «قَصصِهمْ» في القراءة المشهورة على الرسل وحدهم.
وحكى غيره: أنه يجوز أن يعود على الرسل، وعلى يوسف وإخوته جميعاً كما تقدم.
قال أبو حيان: «ولا ينصره يعني هذه القراءة؛ إذ قصص يوسف، وأبيه، إخوته تشتمل على قصص كثيرة، وأنباء مخلفة».

فصل


الاعتبار: عبارة عن العبور من الطريق المعلومة إلى الطريق المجهولة، والمراد منه: التأمُّل والتَّفكر، ووجه الاعتبار بقصصهم أمور:
أحدها: أنَّ الذي قدر على إعزاز يوسف عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ، بعد إلقائه في الجبِّ وإعلائه بعد سجنه، وتمليكه مصر بعد أن كانوا يظنون أنه عبد لهم وجمعه مع أبيه وإخوته على ما أحبَّ بعد المدة الطويلة؛ لقادرٌ على إعزاز محمد صلى عليه وسلم، وإعلاء كلمته.
وثاينها: أن الأخبار عنه إخبارٌ عن الغيب، وفكان معجزة دالَّة على صدق محمد صلوات الله وسلامه عليه.
وثالثها: أنه قال في أوَّل السورة: ﴿نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ القصص﴾ [يوسف: ٣] ثم قال هنا: ﴿لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُوْلِي الألباب﴾ وذلك تنبيه على أن حسن هذه القصَّة، إنَّما هو لأجل حصول العبرة منها، ومعرفة الحكمة والقدرة.
فإن قيل: لم قال: ﴿عِبْرَةٌ لأُوْلِي الألباب﴾ مع أن قوم محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كانوا ذوي عقول وأحلام، وقد كان الكثير منهم لم يعتبرْ؟.
فالجواب: أنَّ جميعهم كانوا متمكِّنين من الاعتبار، والمراد من وصف هذه القصَّة بكونها عبرة كونها بحيث يتعبرها العاقل.
231
قوله ﴿مَا كَانَ حَدِيثاً يفترى﴾ في «كَانَ» ضمير عائدٌ على القرآن، أي: ما كان القرآن المتضمن لهذه القصَّة الغريبة حديثاُ مختلقاً.
وقيل: بل هو عائدٌ على القصص، أي: ما كان القصص المذكور في قوله: ﴿لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ﴾.
وقال الزمخشري: «فإن قلت: فإلام يرجع الضمير في: ﴿مَا كَانَ حَدِيثاً يفترى﴾ فيم قرأ بالكسر؟ قلت: إلى القرآن أي: ما كان القرآن حديثاً.
قال شهاب الدين:»
لأنه لو عاد على «قِصَصِيهم» بكسر القاف؛ لوجب أن يكون «كَانَتْ» بالتاء «لإسناد الفعل حينئذ إلى ضمير مؤمث، وإن كان مجازيًّا.
قوله: ﴿ولكن تَصْدِيقَ﴾ العامة عل نصب»
تصيدقَ «والثلاثة بعده، على أنَّها منسوقة على خبر» كان «أي: ولكن كان تصديق.
وقرأ حمدان بن أعين، وعيسى الكوفي، وعيسى القفي: برفع»
تَصْديقَ «وما بعده، على أنَّها أخبار لمبتدأ مضمر، أي: ولكن هو تصديق، أي: الحديث ذو تصديق، وقد سمع من العرب مثل هذا بالنصب والرفع؛ قال ذو الرمَّة: [الطويل]
٣١٥٨ - ومَاك
كَانَ مالِي من ثُراثٍ وَرِثتهُ ولا دِيةً كَانتْ ولا كَسْبَ مَأثَم
ولكِنْ عَطاءُ اللهِ من كُلِّ رحْلَةٍ إلى كُلِّ مَحْجُوبِ السُّرادقِ خِضْرمِ
وقال لوطُ بن عبيد الله: [الطويل]
٣١٥٩ - وإنِّي بَحمْدِ الله لا مَالَ مُسلمٍ أخَذْتُ ولا مُعطِي اليَمينِ مُخالفِ
ولكنْ عَطاء اللهِ منْ كُلِّ فَاجرٌ قَصِيِّ المحَلِّ مُعْورٍ للمَقَارِفِ
يروى: «عَطاءَ الله»
في البيتين منصوباً على: «ولكن كان عطاء الله» ومرفوعاً على: «ولكن هُو عطاءُ الله».
قال الفراء والزجاج: «ونصي» تَصْديقَ «على تقدير: ولكن كان تصديق الذي بين
232
يديه، كقوله تعالى: ﴿مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَآ أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ ولكن رَّسُولَ الله﴾ [الأحزاب: ٤٠] ثم قالا: ويجوز رفعه في قياس النحو على معنى: ولكن هو تصديق الذي بين يديه؛ فكأنَّهما لم يطَّلعا على أنهما قراءة.

فصل


معنى الآية: أن محمداً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لا يصحُّ منه أن يفترى هذه القصَّة، بحيث تكون مطابقة لها من غير تفاوت.
وقيل: إن القرآن ليس بكذب في نفسه؛ لأنَّه لا يصحُّ أن يفترى، ثم أكَّد كونه غير مفترى بقوله: ﴿ولكن تَصْدِيقَ الذي بَيْنَ يَدَيْهِ﴾ وهو إشارة إلى أنَّ هذه القصَّة وردت موافقة لما في التوراة، وسائر الكتب الإلهيَّة، ثم وصفه بأن فيه: ﴿وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ﴾.
قيل: كل شيء في واقعة يوسف مع أبيه، وإخوته.
وقيل: يعود على كلِّ القرآن؛ كقوله تعالى: ﴿مَّا فَرَّطْنَا فِي الكتاب مِن شَيْءٍ﴾ [الأنعام: ٣٨].
والأولى: أن يجعل هذا الوصف وصفاً لكلِّ القرآن، ويكون المراد ما تضمَّنه من الحلال، والحرام، وسائر ما يتَّصل بالدِّين.
قال الواحدي:» وعلى هذين التفسرين جميعاً؛ فهو من العام الذي أريد به الخاصُّ؛ كقوله تعالى: ﴿وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ﴾ [الأعراف: ١٥٦] يريد: وسعت كل شيء أن يدخل فيها، ﴿وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْءٍ﴾ [النمل: ٢٣].
ثمَّ وصفه بكونه هدّى في الدنيا، وسبباً لحصول الرحمة في القيامة، ﴿لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾ خصَّهم الله بالذِّكرح لأنَّهم الذين انتفعوا به، كقوله تعالى ﴿هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ﴾ [البقرة: ٢].
وروى أبيُّ بن كعب رَضِيَ اللَّهُ عَنْه، قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وشرَّف كرَّم وبجَّل وعظَّم: «عَلِّموا أرقَّاءكُمْ سُورَةَ يُوسُفَ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ، فإنَّهُ أيُّما مسلم تلاها، وعلَّمَها أهْلهُ ومَا مَلكَتْ يَمِينهُ، هَوَّنَ اللهُ عَليْهِ سَكرَاتِ المَوْتِ، وأعْطَاهُ القُوَّة أن لا يَحْسُدَ مُسْلِمَا».
233
سورة الرعد
مكية إلا قوله تعالى: ﴿ولا يزال الذين كفروا﴾ [الآية: ٣١] وقوله تعالى: ﴿ويقول الذين كفروا لست مرسلا﴾ [الآية: ٤٣] إلى آخرها. وقال الكلبي، ومقاتل: هي مدنية، وقال ابن عباس والأصم: هي مدنية إلا قوله تعالى: ﴿ولو أن قرآنا سيرت به الجبال﴾ [الآية: ٣١].
234
Icon