تفسير سورة يوسف

تفسير ابن كثير ط العلمية
تفسير سورة سورة يوسف من كتاب تفسير القرآن العظيم المعروف بـتفسير ابن كثير ط العلمية .
لمؤلفه ابن كثير . المتوفي سنة 774 هـ

سُورَةِ يُوسُفَ
وَهِيَ مَكِّيَّةٌ رَوَى الثَّعْلَبِيُّ وَغَيْرُهُ من طريق سلام بن سلم، وَيُقَالُ: سَلِيمٍ الْمَدَائِنِيِّ، وَهُوَ مَتْرُوكٌ عَنْ هَارُونَ بْنِ كَثِيرٍ، وَقَدْ نَصَّ عَلَى جَهَالَتِهِ أَبُو حَاتِمٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم «علموا أرقاكم سُورَةَ يُوسُفَ، فَإِنَّهُ أَيُّمَا مُسْلِمٍ تَلَاهَا أَوْ عَلَّمَهَا أَهْلَهُ أَوْ مَا مَلَكَتْ يَمِينُهُ، هَوَّنَ اللَّهُ عَلَيْهِ سَكَرَاتِ الْمَوْتِ وَأَعْطَاهُ مِنَ الْقُوَّةِ أن لا يَحْسِدَ مُسْلِمًا»، وَهَذَا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ لَا يصح لضعف إسناده بالكلية.
وقد ساقه الْحَافِظُ ابْنُ عَسَاكِرَ مُتَابِعًا مِنْ طَرِيقِ الْقَاسِمِ بْنِ الْحَكَمِ، عَنْ هَارُونَ بْنِ كَثِيرٍ بِهِ، ومن طريق شبابة عن محمد بن عبد الواحد النضري، عَنْ عَلِيِّ بْنِ زَيْدِ بْنِ جُدْعَانَ، وَعَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي مَيْمُونَةَ، عَنْ زِرِّ بْنِ حُبَيْشٍ، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَذَكَرَ نَحْوَهَ، وَهُوَ مُنْكَرٌ مِنْ سَائِرِ طُرُقِهِ، وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّلَائِلِ أَنَّ طَائِفَةً مِنَ الْيَهُودِ حِينَ سَمِعُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتْلُو هَذِهِ السُّورَةَ أَسْلَمُوا لِمُوَافَقَتِهَا مَا عِنْدَهُمْ، وَهُوَ مِنْ رِوَايَةِ الْكَلْبِيِّ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنِ ابن عباس.

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

[سورة يوسف (١٢) : الآيات ١ الى ٣]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ (١) إِنَّا أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (٢) نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِما أَوْحَيْنا إِلَيْكَ هذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغافِلِينَ (٣)
أَمَّا الْكَلَامُ عَلَى الْحُرُوفِ الْمُقَطَّعَةِ فَقَدْ تَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ. وَقَوْلُهُ: تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ أَيْ هَذِهِ آيَاتُ الْكِتَابِ، وَهُوَ الْقُرْآنُ الْمُبِينُ، أَيِ الْوَاضِحُ الْجَلِيُّ الَّذِي يُفْصِحُ عَنِ الْأَشْيَاءِ الْمُبْهَمَةِ، وَيُفَسِّرُهَا وَيُبَيِّنُهَا إِنَّا أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ وَذَلِكَ لِأَنَّ لُغَةَ الْعَرَبِ أَفْصَحُ اللُّغَاتِ وَأَبْيَنُهَا وَأَوْسَعُهَا وَأَكْثَرُهَا تَأْدِيَةً لِلْمَعَانِي الَّتِي تَقُومُ بِالنُّفُوسِ، فَلِهَذَا أُنْزِلَ أَشْرَفُ الْكُتُبِ بِأَشْرَفِ اللُّغَاتِ، عَلَى أَشْرَفِ الرُّسُلِ بِسِفَارَةِ أَشْرَفِ الْمَلَائِكَةِ، وَكَانَ ذَلِكَ فِي أَشْرَفِ بِقَاعِ الْأَرْضِ، وَابْتَدَئَ إِنْزَالُهُ فِي أَشْرَفِ شُهُورِ السَّنَةِ، وَهُوَ رَمَضَانُ، فَكَمُلَ مِنْ كُلِّ الْوُجُوهِ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِما أَوْحَيْنا إِلَيْكَ هذَا الْقُرْآنَ بِسَبَبِ إِيحَائِنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ.
313
وقد ورد فِي سَبَبِ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ مَا رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ «١» : حَدَّثَنِي نَصْرُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْأَوْدِيُّ، حَدَّثَنَا حَكَّامٌ الرَّازِّيُّ عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ عَمْرٍو هُوَ ابْنُ قَيْسٍ الْمُلَائِيُّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ:
قَالُوا: يَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَوْ قَصَصْتَ عَلَيْنَا؟ فَنَزَلَتْ نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ، وَرَوَاهُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ عَمْرِو بْنِ قَيْسٍ مُرْسَلًا. وَقَالَ أَيْضًا «٢» : حَدَّثَنَا محمد بْنِ سَعِيدٍ الْقَطَّانُ، حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ مُحَمَّدٍ، أنبأنا خالد الصَّفَّارُ عَنْ عَمْرِو بْنِ قَيْسٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ، عَنْ مُصْعَبِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: أُنْزِلَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ القرآن. قال: فتلاه عَلَيْهِمْ زَمَانًا، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ لَوْ قَصَصْتَ عَلَيْنَا؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ إِلَى قَوْلِهِ:
لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ثم تلاه عَلَيْهِمْ زَمَانًا، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ لَوْ حَدَّثْتَنَا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ الآية، وَذَكَرَ الْحَدِيثَ، وَرَوَاهُ الْحَاكِمُ مِنْ حَدِيثِ إِسْحَاقَ بْنِ رَاهَوَيْهِ عَنْ عَمْرِو بْنِ مُحَمَّدٍ الْقُرَشِيِّ المنقري بِهِ.
وَرَوَى ابْنُ جَرِيرٍ «٣» بِسَنَدِهِ عَنِ الْمَسْعُودِيِّ، عَنْ عَوْنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: مَلَّ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم مَلَّةَ فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ حَدِّثْنَا، فأَنْزَلَ اللَّهُ اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ ثُمَّ مَلُّوا مَلَّةً أُخْرَى، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ حَدِّثْنَا فَوْقَ الْحَدِيثِ، وَدُونَ الْقُرْآنِ يَعْنُوِنُ الْقَصَصَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ إِنَّا أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ الآية، فَأَرَادُوا الْحَدِيثَ، فَدَلَّهُمْ عَلَى أَحْسَنِ الْحَدِيثِ، وَأَرَادُوا الْقَصَصَ فَدَلَّهُمْ عَلَى أَحْسَنِ الْقَصَصِ.
وَمِمَّا يُنَاسِبُ ذِكْرَهُ عِنْدَ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ الْمُشْتَمِلَةِ عَلَى مَدْحِ الْقُرْآنِ، وَأَنَّهُ كَافٍ عَنْ كُلِّ مَا سواه من الكتب ما رواه الإمام أحمد «٤» : حدثنا سريج بن النعمان، أنبأنا هُشَيْمٌ، أَنْبَأَنَا مَجَالِدٌ عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِكِتَابٍ أَصَابَهُ مِنْ بَعْضِ أَهْلِ الْكِتَابِ، فَقَرَأَهُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالَ: فغضب وقال «أمتهوّكون فيها يا ابن الْخَطَّابِ؟
وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَقَدْ جِئْتُكُمْ بِهَا بَيْضَاءَ نَقِيَّةً، لَا تَسْأَلُوهُمْ عَنْ شَيْءٍ فَيُخْبِرُوكُمْ بِحَقٍّ فَتُكَذِّبُونَهُ، أَوْ بِبَاطِلٍ فَتُصَدِّقُونَهُ، وَالَّذِي نَفْسِي بيده، لو أن موسى كان حيّا ما وَسِعَهُ إِلَّا أَنْ يَتَّبِعَنِي»
.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «٥» : حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَنْبَأَنَا سُفْيَانُ عَنْ جَابِرٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ ثَابِتٍ قَالَ: جَاءَ عُمَرُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم فقال: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي مَرَرْتُ بِأَخٍ لِي مِنْ قُرَيْظَةَ، فَكَتَبَ لِي جَوَامِعَ مِنَ التَّوْرَاةِ أَلَا أَعْرِضُهَا عَلَيْكَ؟ قَالَ: فَتَغَيَّرَ وَجْهُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قال
(١) تفسير الطبري ٧/ ١٤٧.
(٢) تفسير الطبري ٧/ ١٤٨.
(٣) تفسير الطبري ٧/ ١٤٧، ١٤٨.
(٤) المسند ٣/ ٣٧٨.
(٥) المسند ٣/ ٣٦٥، ٣٦٦.
314
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ ثَابِتٍ: فَقُلْتُ لَهُ: أَلَا تَرَى مَا بِوَجْهِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فَقَالَ عُمَرُ: رَضِينَا بِاللَّهِ رِبَّا وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا، وَبِمُحَمَّدٍ رَسُولًا. قَالَ: فَسُرِّيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ: «وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، لَوْ أَصْبَحَ فِيكُمْ مُوسَى ثُمَّ اتَّبَعْتُمُوهُ وَتَرَكْتُمُونِي لَضَلَلْتُمْ، إِنَّكُمْ حَظِّي مِنَ الْأُمَمِ، وَأَنَا حَظُّكُمْ مِنَ النَّبِيِّينَ».
وَقَالَ الْحَافِظُ أَبُو يَعْلَى الْمَوْصِلِيُّ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْغَفَّارِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ، حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ خَلِيفَةَ بْنِ قَيْسٍ، عَنْ خَالِدِ بْنِ عُرْفُطَةَ قَالَ: كُنْتُ جَالِسًا عِنْدَ عُمَرَ إِذْ أُتِيَ بِرَجُلٍ مَنْ عَبَدَ الْقَيْسِ مَسْكَنُهُ بِالسُّوسِ، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: أَنْتَ فُلَانُ بْنُ فُلَانٍ الْعَبْدِيُّ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: وَأَنْتَ النَّازِلُ بِالسُّوسِ «١» ؟ قَالَ: نَعَمْ، فَضَرَبَهُ بِقَنَاةٍ مَعَهُ، قَالَ: فَقَالَ الرَّجُلُ: مَا لِي يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ؟ فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: اجْلِسْ فَجَلَسَ، فَقَرَأَ عَلَيْهِ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ إِنَّا أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ- إِلَى قَوْلِهِ- لَمِنَ الْغافِلِينَ فقرأها عليه ثَلَاثًا، وَضَرَبَهُ ثَلَاثًا، فَقَالَ لَهُ الرَّجُلُ:
مَا لِي يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ؟ فَقَالَ: أَنْتَ الَّذِي نَسَخْتَ كِتَابَ دَانْيَالَ. قَالَ: مُرْنِي بِأَمْرِكَ أَتَّبِعْهُ، قَالَ:
انْطَلَقَ فَامْحُهُ بِالْحَمِيمِ «٢» وَالصُّوفِ الْأَبْيَضِ ثُمَّ لَا تَقْرَأْهُ وَلَا تُقْرِئْهُ أَحَدًا مِنَ النَّاسِ فَلَئِنْ بَلَغَنِي عَنْكَ أَنَّكَ قَرَأْتَهُ أَوْ أَقَرَأْتَهُ أَحَدًا مِنَ النَّاسِ لَأَنْهَكَنَّكَ عُقُوبَةً «٣».
ثُمَّ قَالَ، لَهُ اجْلِسْ فَجَلَسَ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَقَالَ: انْطَلَقْتُ أَنَا فَانْتَسَخْتُ كِتَابًا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، ثُمَّ جِئْتُ بِهِ فِي أَدِيمٍ، فَقَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا هَذَا فِي يَدِكَ يَا عُمَرُ؟» قَالَ: قُلْتُ:
يَا رَسُولَ اللَّهِ كِتَابٌ نَسَخْتُهُ لِنَزْدَادَ بِهِ عِلْمًا إِلَى عِلْمِنَا، فَغَضِبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى احْمَرَّتْ وَجْنَتَاهُ، ثُمَّ نُودِيَ بالصلاة جامعة، فقالت الأنصار: أغضب نبيكم الله صلى الله عليه وسلم؟ السلاح السلاح، فجاؤوا حَتَّى أَحْدَقُوا بِمِنْبَرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي قَدْ أُوتِيتُ جَوَامِعَ الْكَلِمِ وَخَوَاتِيمَهُ، وَاخْتُصِرَ لِيَ اخْتِصَارًا، وَلَقَدْ أَتَيْتُكُمْ بِهَا بَيْضَاءَ نَقِيَّةً، فَلَا تَتَهَوَّكُوا وَلَا يَغُرَّنَّكُمُ الْمُتَهَوِّكُونَ».
قَالَ عُمَرُ: فَقُمْتُ فَقُلْتُ: رَضِيتُ بِاللَّهِ رِبًّا وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا، وَبِكَ رَسُولَا، ثُمَّ نَزَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَدْ رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ فِي تَفْسِيرِهِ مُخْتَصَرًا مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ إِسْحَاقَ بِهِ وَهَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ إِسْحَاقَ هُوَ أَبُو شَيْبَةَ الْوَاسِطِيُّ، وَقَدْ ضَعَّفُوهُ وَشَيْخَهُ. قَالَ الْبُخَارِيُّ: لَا يَصِحُّ حَدِيثُهُ.
قُلْتُ: وَقَدْ رُوِيَ لَهُ شَاهِدٌ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ، فَقَالَ الْحَافِظُ أبو بكر أحمد بن إبراهيم
(١) السوس: بلدة بخوزستان، وجد فيها دانيال، فدفن في نهرها تحت الماء، وغمر قبره، وموضعه ظاهر يزار.
(٢) الحميم: الماء الحار.
(٣) أنهكه عقوبة: أي بالغ في عقوبته.
315
الْإِسْمَاعِيلِيُّ: أَخْبَرَنِي الْحَسَنُ بْنُ سُفْيَانَ، حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ سُفْيَانَ، حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْعَلَاءِ الزُّبَيْدِيُّ، حَدَّثَنِي عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَالِمٍ الْأَشْعَرِيُّ عَنِ الزُّبَيْدِيِّ، حَدَّثَنَا سُلَيْمُ بْنُ عَامِرٍ أَنَّ جُبَيْرَ بْنَ نُفَيْرٍ حَدَّثَهُمْ أَنَّ رَجُلَيْنِ كَانَا بِحِمْصَ فِي خِلَافَةِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِمَا فِيمَنْ أَرْسَلَ مِنْ أَهْلِ حِمْصَ، وَكَانَا قَدِ اكتتبا من اليهود ملء صفنة فأخذاها معهما يستفتيان فيها أمير المؤمنين يقولون: إِنْ رَضِيَهَا لَنَا أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ ازْدَدْنَا فِيهَا رَغْبَةً، وَإِنْ نَهَانَا عَنْهَا رَفَضْنَاهَا، فَلَمَّا قَدِمَا عليه قالا: إنا بأرض أهل الكتاب، وَإِنَّا نَسْمَعُ مِنْهُمْ كَلَامًا تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُنَا، أَفَنَأْخَذُ مِنْهُ أَوْ نَتْرُكُ؟ فَقَالَ: لَعَلَّكُمَا كَتَبْتُمَا منه شيئا؟ فقالا: لا، قال سأحدثكما: انطلقت في حياة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى أَتَيْتُ خَيْبَرَ، فَوَجَدْتُ يَهُودِيًّا يَقُولُ قَوْلًا أَعْجَبَنِي، فَقُلْتُ: هَلْ أنت مكتبي مما تَقُولُ؟ قَالَ: نَعَمْ فَأَتَيْتُ بِأَدِيمٍ، فَأَخَذَ يُمْلِي عَلَيَّ حَتَّى كَتَبْتُ فِي الْأَكْرُعِ، فَلَمَّا رَجَعْتُ قُلْتُ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ وَأَخْبَرْتُهُ.
قَالَ «ائْتِنِي به» فانطلقت أرغب عن الشيء رجاء أن أكون جئت رَسُولَ اللَّهِ بِبَعْضِ مَا يُحِبُّ، فَلَمَّا أَتَيْتُ بِهِ قَالَ: «اجْلِسِ اقْرَأْ عَلَيَّ» فَقَرَأْتُ سَاعَةً، ثم نظرت إلى وَجْهُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَإِذَا هُوَ يَتَلَوَّنُ، فَتَحَيَّرْتُ مِنَ الْفَرَقِ، فَمَا استطعت أن أُجِيزُ مِنْهُ حَرْفًا، فَلَمَّا رَأَى الَّذِي بِي رفعه ثُمَّ جَعَلَ يُتْبِعُهُ رَسْمًا رَسْمًا فَيَمْحُوهُ بِرِيقِهِ، وَهُوَ يَقُولُ: «لَا تَتَبِعُوا هَؤُلَاءِ فَإِنَّهُمْ قَدْ هَوَّكُوا وَتَهَوَّكُوا» حَتَّى مَحَا آخِرَهُ حَرْفًا حَرْفًا. قَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: فَلَوْ عَلِمْتُ أَنَّكُمَا كَتَبْتُمَا مِنْهُ شَيْئًا جَعَلْتُكُمَا نَكَالًا لِهَذِهِ الْأُمَّةِ، قَالَا: وَاللَّهِ مَا نَكْتُبُ مِنْهُ شَيْئًا أبدا، فخرجا بصفنتهما، فَحَفَرَا لَهَا، فَلَمْ يَأْلُوَا أَنْ يُعَمِّقَا وَدَفَنَاهَا، فكان آخر العهد منها، وهكذا رَوَى الثَّوْرِيُّ عَنْ جَابِرِ بْنِ يَزِيدَ الْجُعْفِيِّ عَنِ الشَّعْبِيِّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ ثَابِتٍ الْأَنْصَارِيِّ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ بِنَحْوِهِ، وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ فِي الْمَرَاسِيلِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي قلابة عن عمر نحوه، والله أعلم.
[سورة يوسف (١٢) : آية ٤]
إِذْ قالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ (٤)
يَقُولُ تَعَالَى: اذْكُرْ لِقَوْمِكَ يَا مُحَمَّدُ فِي قَصَصِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ قِصَّةِ يُوسُفَ إذ قال لأبيه، وأبوه هو يَعْقُوبُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ، كَمَا قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «١» : حَدَّثَنَا عَبْدُ الصَّمَدِ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ، عَنْ أَبِيهِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم قَالَ: «الْكَرِيمُ ابْنُ الْكَرِيمِ ابْنِ الْكَرِيمِ ابْنِ الْكَرِيمِ يُوسُفُ بْنُ يَعْقُوبَ بْنِ إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ» انْفَرَدَ بِإِخْرَاجِهِ الْبُخَارِيُّ «٢»، فَرَوَاهُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ عَبْدِ الصَّمَدِ بِهِ، وقال البخاري أيضا: حدثنا محمد، أنبأنا عَبْدَةُ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ عَنْ سَعِيدُ بْنُ أَبِي سَعِيدٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَيُّ النَّاسِ أَكْرَمُ؟ قَالَ: «أَكْرَمُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاهُمْ» قَالُوا: لَيْسَ عَنْ هَذَا نَسْأَلُكَ.
(١) المسند ٢/ ٩٦.
(٢) كتاب التفسير، تفسير سورة ١٢، باب ١. [.....]
قَالَ: «فَأَكْرَمُ النَّاسِ يُوسُفُ نَبِيُّ اللَّهِ ابْنُ نَبِيِّ اللَّهِ ابْنِ نَبِيِّ اللَّهِ ابْنِ خَلِيلِ اللَّهِ» قَالُوا: لَيْسَ عَنْ هَذَا نَسْأَلُكَ، قَالَ: «فَعَنْ مَعَادِنِ الْعَرَبِ تَسْأَلُونِي؟» قَالُوا: نَعَمْ. قَالَ «فَخِيَارُكُمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ خِيَارِكُمْ فِي الْإِسْلَامِ إِذَا فَقُهُوا» ثُمَّ قَالَ: تَابَعَهُ أَبُو أُسَامَةَ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ.
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رُؤْيَا الْأَنْبِيَاءِ وَحَيٌّ، وَقَدْ تَكَلَّمَ الْمُفَسِّرُونَ عَلَى تَعْبِيرِ هَذَا الْمَنَامِ أَنَّ الْأَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا عِبَارَةٌ عَنْ إِخْوَتِهِ، وَكَانُوا أَحَدَ عَشَرَ رَجُلًا سِوَاهُ، وَالشَّمْسَ والقمر عبارة عن أمه وأبيه. رُوِيَ هَذَا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالضَّحَّاكِ وَقَتَادَةَ وَسُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، وَقَدْ وَقَعَ تَفْسِيرُهَا بَعْدَ أَرْبَعِينَ سَنَةً، وَقِيلَ: ثَمَانِينَ سَنَةً، وَذَلِكَ حِينَ رَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَهُوَ سَرِيرُهُ وَإِخْوَتُهُ بَيْنَ يَدَيْهِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً وَقالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُءْيايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَها رَبِّي حَقًّا [يُوسُفَ: ١٠٠].
وَقَدْ جَاءَ فِي حَدِيثِ تَسْمِيَةِ هَذِهِ الْأَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا، فَقَالَ الْإِمَامُ أَبُو جَعْفَرِ بْنُ جَرِيرٍ «١» :
حَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ سَعِيدٍ الْكِنْدِيُّ، حَدَّثَنَا الْحَكَمُ بْنُ ظُهَيْرٍ عَنِ السُّدِّيِّ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَابِطٍ، عَنْ جَابِرٍ قَالَ: أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلٌ مَنْ يَهُودَ يُقَالُ لَهُ بُسْتَانَةُ الْيَهُودِيُّ، فَقَالَ لَهُ: يَا مُحَمَّدُ أَخْبِرْنِي عَنِ الْكَوَاكِبِ الَّتِي رَآهَا يُوسُفُ أَنَّهَا سَاجِدَةٌ لَهُ، مَا أَسْمَاؤُهَا؟ قَالَ: فَسَكَتَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَاعَةً فَلَمْ يُجِبْهُ بِشَيْءٍ. وَنَزَلَ عَلَيْهِ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَأَخْبَرَهُ بِأَسْمَائِهَا، قَالَ: فَبَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَيْهِ فَقَالَ: «هَلْ أنت مؤمن إذا أخبرتك بأسمائها؟» فقال: نعم. قال «جريان، وَالطَّارِقُ، وَالذَّيَّالُ، وَذُو الكَنَفَاتِ، وَقَابِسٌ، وَوَثَّابٌ، وَعَمُودَانُ، وَالْفَيْلَقُ، وَالْمُصَبِّحُ، وَالضَّرُوحُ، وَذُو الْفَرْغِ، والضِّيَاءُ، وَالنُّورُ» فَقَالَ الْيَهُودِيُّ: إِي وَاللَّهِ إِنَّهَا لَأَسْمَاؤُهَا.
وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّلَائِلِ مِنْ حَدِيثِ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ عَنِ الْحَكَمِ بْنِ ظُهَيْرٍ. وَقَدْ رَوَى هَذَا الْحَدِيثَ الْحَافِظَانِ أَبُو يَعْلَى الْمُوصِلِيُّ وَأَبُو بَكْرٍ الْبَزَّارُ فِي مَسْنَدَيْهِمَا، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ فِي تَفْسِيرِهِ، أَمَّا أَبُو يَعْلَى فَرَوَاهُ عَنْ أَرْبَعَةٍ مِنْ شُيُوخِهِ عَنِ الْحَكَمِ بْنِ ظُهَيْرٍ بِهِ، وَزَادَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَمَّا رَآهَا يُوسُفُ قَصَّهَا عَلَى أَبِيهِ يَعْقُوبَ فَقَالَ لَهُ أَبُوهُ: هَذَا أَمْرٌ مُتَشَتَّتٌ يَجْمَعُهُ اللَّهُ مِنْ بَعْدُ، - قَالَ- وَالشَّمْسُ أَبُوهُ وَالْقَمَرُ أُمُّهُ» تَفَرَّدَ بِهِ الْحَكَمُ بْنُ ظُهَيْرٍ الْفَزَارِيُّ وَقَدْ ضَعَّفَهُ الْأَئِمَّةُ وَتَرَكَهُ الْأَكْثَرُونَ، وَقَالَ الْجَوْزَجَانِيٌ: سَاقِطٌ وَهُوَ صَاحِبُ حَدِيثِ حُسْنِ، ثم ذكر الحديث المروي عن جابر أن يهوديا سَأَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الكواكب التي رآها يوسف، ما أسماؤها؟ وأنه أجابه، ثم قال: تفرد به الحكم بن ظهير، وقد ضعفه الأربعة.
[سورة يوسف (١٢) : آية ٥]
قالَ يا بُنَيَّ لَا تَقْصُصْ رُؤْياكَ عَلى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً إِنَّ الشَّيْطانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ (٥)
(١) تفسير الطبري ٧/ ١٤٨.
يَقُولُ تَعَالَى مُخْبَرًا عَنْ قَوْلِ يَعْقُوبَ لِابْنِهِ يُوسُفَ حِينَ قَصَّ عَلَيْهِ مَا رَأَى مِنْ هَذِهِ الرُّؤْيَا الَّتِي تَعْبِيرُهَا خُضُوعُ إِخْوَتِهِ لَهُ، وَتَعْظِيمُهُمْ إِيَّاهُ تَعْظِيمًا زَائِدًا بِحَيْثُ يَخِرُّونَ لَهُ ساجدين إجلالا واحتراما وإكراما، فَخَشِيَ يَعْقُوبُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنْ يُحَدِّثَ بِهَذَا المنام، أحدا من إخوته فيحسدونه على ذلك، فيبغون لَهُ الْغَوَائِلَ حَسَدًا مِنْهُمْ لَهُ، وَلِهَذَا قَالَ لَهُ: لَا تَقْصُصْ رُؤْياكَ عَلى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً أَيْ يَحْتَالُوا لَكَ حِيلَةً يُرْدُونَكَ فِيهَا.
وَلِهَذَا ثَبَتَتِ السُّنَّةُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ «إِذَا رَأَى أَحَدُكُمْ مَا يُحِبُّ فَلْيُحَدِّثْ بِهِ، وَإِذَا رَأَى مَا يَكْرَهُ فَلْيَتَحَوَّلْ إِلَى جَنْبِهِ الْآخَرِ، وَلْيَتْفُلْ عَنْ يَسَارِهِ ثَلَاثًا، وَلْيَسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنْ شَرِّهَا، وَلَا يُحَدِّثْ بِهَا أَحَدًا فَإِنَّهَا لَنْ تَضُرَّهُ» «١» وَفِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ الَّذِي رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَبَعْضُ أَهْلِ السُّنَنِ مِنْ رِوَايَةِ مُعَاوِيَةَ بْنِ حَيْدَةَ، الْقُشَيْرِيِّ أَنَّهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم: «الرُّؤْيَا عَلَى رِجْلِ طَائِرٍ مَا لَمْ تُعَبَّرْ، فَإِذَا عُبِّرَتْ وَقَعَتْ» «٢» وَمِنْ هَذَا يُؤْخَذُ الْأَمْرُ بِكِتْمَانِ النِّعْمَةِ حَتَّى تُوجَدَ وَتَظْهَرَ، كَمَا وَرَدَ فِي حَدِيثِ «اسْتَعِينُوا عَلَى قَضَاءِ الْحَوَائِجِ بِكِتْمَانِهَا، فإن كل ذي نعمة محسود».
[سورة يوسف (١٢) : آية ٦]
وَكَذلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلى آلِ يَعْقُوبَ كَما أَتَمَّها عَلى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٦)
يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ قَوْلِ يَعْقُوبَ لِوَلَدِهِ يُوسُفَ: إِنَّهُ كَمَا اخْتَارَكَ رَبُّكَ وَأَرَاكَ هَذِهِ الْكَوَاكِبَ مَعَ الشَّمْسِ والقمر ساجدة لك كَذلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ أَيْ يَخْتَارُكَ وَيَصْطَفِيكَ لِنُبُوَّتِهِ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ قَالَ مُجَاهِدٌ وَغَيْرُ وَاحِدٍ: يَعْنِي تَعْبِيرَ الرُّؤْيَا «٣» وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ أَيْ بِإِرْسَالِكَ وَالْإِيحَاءِ إِلَيْكَ، وَلِهَذَا قَالَ: كَما أَتَمَّها عَلى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْراهِيمَ وَهُوَ الْخَلِيلُ وَإِسْحاقَ وَلَدِهِ وَهُوَ الذَّبِيحُ فِي قَوْلٍ، وَلَيْسَ بِالرَّجِيحِ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ أَيْ هُوَ أعلم حيث يجعل رسالته، كما قال في الآية الأخرى.
[سورة يوسف (١٢) : الآيات ٧ الى ١٠]
لَقَدْ كانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آياتٌ لِلسَّائِلِينَ (٧) إِذْ قالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلى أَبِينا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبانا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٨) اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضاً يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْماً صالِحِينَ (٩) قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ لَا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ (١٠)
يَقُولُ تَعَالَى: لَقَدْ كَانَ فِي قِصَّةِ يُوسُفَ وَخَبَرِهِ مَعَ إِخْوَتِهِ آيَاتٌ، أَيْ عِبْرَةٌ وَمَوَاعِظُ للسائلين
(١) أخرجه أبو داود في السنة باب ١٨، والأدب باب ٨٨، وابن ماجة في الرؤيا باب ٤، والدارمي في الرؤيا باب ٥، وأحمد في المسند ٥/ ٢٩٦، ٣٠٣، ٣٠٩.
(٢) أخرجه أبو داود في الأدب باب ٨٨، وابن ماجة في الرؤيا باب ٦، وأحمد في المسند ٤/ ١٠.
(٣) انظر تفسير الطبري ٧/ ١٥١.
عَنْ ذَلِكَ الْمُسْتَخْبِرِينَ عَنْهُ، فَإِنَّهُ خَبَرٌ عَجِيبٌ يستحق أن يخبر عَنْهُ إِذْ قالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلى أَبِينا مِنَّا أَيْ حَلَفُوا فِيمَا يَظُنُّونَ وَاللَّهِ لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ، يَعْنُونُ بِنْيَامِينَ وَكَانَ شَقِيقَهُ لِأُمِّهِ أَحَبُّ إِلى أَبِينا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ أَيْ جَمَاعَةٌ، فَكَيْفَ أَحَبَّ ذَيْنِكَ الِاثْنَيْنِ أَكْثَرَ مِنَ الْجَمَاعَةِ إِنَّ أَبانا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ يَعْنُونَ فِي تَقْدِيمِهِمَا عَلَيْنَا، وَمَحَبَّتِهِ إِيَّاهُمَا أَكْثَرَ مِنَّا.
وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَمْ يَقُمْ دَلِيلٌ عَلَى نُبُوَّةِ إِخْوَةِ يُوسُفَ، وَظَاهِرُ هَذَا السِّيَاقِ يَدُلُّ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ، وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَزْعُمُ أَنَّهُمْ أُوحِيَ إِلَيْهِمْ بَعْدَ ذَلِكَ، وَفِي هَذَا نَظَرٌ، وَيَحْتَاجُ مُدَّعِي ذَلِكَ إِلَى دَلِيلٍ، وَلَمْ يَذْكُرُوا سِوَى قَوْلِهِ تَعَالَى: قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَهَذَا فِيهِ احْتِمَالٌ لِأَنَّ بُطُونَ بَنِي إِسْرَائِيلَ يُقَالُ لَهُمُ الْأَسْبَاطُ، كَمَا يُقَالُ لِلْعَرَبِ قَبَائِلُ وَلِلْعَجَمِ شُعُوبٌ، يَذْكُرُ تَعَالَى أَنَّهُ أَوْحَى إِلَى الْأَنْبِيَاءِ مِنْ أَسْبَاطِ بَنِي إِسْرَائِيلَ فَذَكَرَهُمْ إِجْمَالًا لِأَنَّهُمْ كَثِيرُونَ، وَلَكِنَّ كُلَّ سِبْطٍ مِنْ نَسْلِ رَجُلٍ مِنْ إِخْوَةِ يُوسُفَ، وَلَمْ يَقُمْ دَلِيلٌ عَلَى أَعْيَانِ هَؤُلَاءِ أَنَّهُمْ أُوحِيَ إِلَيْهِمْ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضاً يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ يَقُولُونَ: هَذَا الَّذِي يُزَاحِمُكُمْ فِي مَحَبَّةِ أَبِيكُمْ لَكُمْ أَعْدِمُوهُ مِنْ وَجْهِ أَبِيكُمْ، لِيَخْلُوَ لَكُمْ وَحْدَكُمْ، إِمَّا بِأَنْ تَقْتُلُوهُ أَوْ تُلْقُوهُ فِي أَرْضٍ مِنَ الْأَرَاضِي تَسْتَرِيحُوا منه، وتخلوا أنتم بأبيكم وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْماً صالِحِينَ فَأَضْمَرُوا التَّوْبَةَ قَبْلَ الذَّنْبِ قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ قَالَ قَتَادَةُ وَمُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: وكان أَكْبَرَهُمْ وَاسْمُهُ رُوبِيلُ.
وَقَالَ السُّدِّيُّ: الَّذِي قَالَ ذلك، يهوذا. وقال مجاهد هو شمعون الصفا.
لَا تَقْتُلُوا يُوسُفَ أَيْ لَا تَصِلُوا فِي عَدَاوَتِهِ وَبُغْضِهِ إِلَى قَتْلِهِ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ سَبِيلٌ إِلَى قَتْلِهِ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى كَانَ يُرِيدُ مِنْهُ أَمْرًا لَا بُدَّ مِنْ إِمْضَائِهِ وَإِتْمَامِهِ مِنَ الْإِيحَاءِ إِلَيْهِ بِالنُّبُوَّةِ، وَمِنَ التَّمْكِينِ لَهُ بِبِلَادِ مِصْرَ وَالْحُكْمِ بِهَا، فَصَرَفَهُمُ اللَّهُ عَنْهُ بِمَقَالَةِ رُوبِيلَ فِيهِ وَإِشَارَتِهِ عَلَيْهِمْ بِأَنْ يُلْقُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ وَهُوَ أَسْفَلَهُ. قَالَ قَتَادَةُ: وَهِيَ بِئْرُ بَيْتِ الْمَقْدِسِ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ أي المارة من المسافرين فتستريحوا منه بِهَذَا وَلَا حَاجَةَ إِلَى قَتْلِهِ إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ أَيْ إِنْ كُنْتُمْ عَازِمِينَ عَلَى مَا تَقُولُونَ. قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ يَسَارٍ: لَقَدِ اجْتَمَعُوا عَلَى أَمْرٍ عَظِيمٍ مِنْ قَطِيعَةِ الرَّحِمِ، وَعُقُوقِ الْوَالِدِ، وَقِلَّةِ الرَّأْفَةِ بِالصَّغِيرِ الضَّرَعِ الَّذِي لَا ذَنْبَ لَهُ، وَبِالْكَبِيرِ الْفَانِي ذِي الْحَقِّ وَالْحُرْمَةِ وَالْفَضْلِ، وَخَطَرُهُ عِنْدَ اللَّهِ مَعَ حَقِّ الْوَالِدِ عَلَى وَلَدِهِ، لِيُفَرِّقُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ أبيه وَحَبِيبِهِ عَلَى كِبَرِ سِنِّهِ وَرِقَّةِ عَظْمِهِ، مَعَ مَكَانِهِ مِنَ اللَّهِ فِيمَنْ أَحَبَّهُ طِفْلًا صَغِيرًا، وبين ابنه عَلَى ضَعْفِ قُوَّتِهِ وَصِغَرِ سَنِّهِ وَحَاجَتِهِ إِلَى لُطْفِ وَالِدِهِ وَسُكُونِهِ إِلَيْهِ، يَغْفِرُ اللَّهُ لَهُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ، فَقَدِ احْتَمَلُوا أَمْرًا عَظِيمًا رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ سَلَمَةَ بن الفضل عنه.
[سورة يوسف (١٢) : الآيات ١١ الى ١٢]
قالُوا يَا أَبانا مَا لَكَ لَا تَأْمَنَّا عَلى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَناصِحُونَ (١١) أَرْسِلْهُ مَعَنا غَداً يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ (١٢)
لما تواطأوا عَلَى أَخْذِهِ وَطَرْحِهِ فِي الْبِئْرِ كَمَا أَشَارَ به عَلَيْهِمْ أَخُوهُمُ الْكَبِيرُ رُوبِيلَ، جَاءُوا أَبَاهُمْ يَعْقُوبَ عليه السلام فقالوا: ما بالك لَا تَأْمَنَّا عَلى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَناصِحُونَ وهذه توطئة وَدَعْوَى، وَهُمْ يُرِيدُونَ خِلَافَ ذَلِكَ لِمَا لَهُ فِي قُلُوبِهِمْ مِنَ الْحَسَدِ لِحُبِّ أَبِيهِ لَهُ أَرْسِلْهُ مَعَنا أَيِ ابْعَثْهُ مَعَنَا غَدًا نَرْتَعْ وَنَلْعَبْ وَقَرَأَ بَعْضُهُمْ بِالْيَاءِ يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ:
يَسْعَى وَيَنْشَطُ «١»، وَكَذَا قَالَ قَتَادَةُ وَالضَّحَّاكُ وَالسُّدِّيُّ وَغَيْرُهُمْ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ يَقُولُونَ:
ونحن نحفظه ونحوطه من أجلك.
[سورة يوسف (١٢) : الآيات ١٣ الى ١٤]
قالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غافِلُونَ (١٣) قالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذاً لَخاسِرُونَ (١٤)
يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ نَبِيِّهِ يَعْقُوبَ أَنَّهُ قَالَ لِبَنِيهِ فِي جَوَابِ مَا سَأَلُوا مِنْ إِرْسَالِ يُوسُفَ مَعَهُمْ إِلَى الرَّعْيِ فِي الصَّحْرَاءِ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ أَيْ يَشُقُّ عَلَيَّ مُفَارَقَتُهُ مُدَّةَ ذَهَابِكُمْ بِهِ إِلَى أَنْ يَرْجِعَ، وَذَلِكَ لِفَرْطِ مَحَبَّتِهِ لَهُ لِمَا يَتَوَسَّمُ فِيهِ مِنَ الْخَيْرِ الْعَظِيمِ وَشَمَائِلِ النُّبُوَّةِ وَالْكَمَالِ فِي الْخُلُقِ وَالْخَلْقِ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ. وَقَوْلُهُ: وَأَخافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غافِلُونَ يَقُولُ: وَأَخْشَى أَنْ تَشْتَغِلُوا عَنْهُ برميكم ورعيكم فَيَأْتِيهِ ذِئْبٌ فَيَأْكُلُهُ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ، فَأَخَذُوا مِنْ فَمِهِ هَذِهِ الْكَلِمَةَ، وَجَعَلُوهَا عُذْرَهُمْ فِيمَا فعلوه، وقالوا مجيبين له عَنْهَا فِي السَّاعَةِ الرَّاهِنَةِ لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذاً لَخاسِرُونَ يَقُولُونَ: لَئِنْ عَدَا عَلَيْهِ الذِّئْبُ فَأَكَلَهُ مِنْ بَيْنِنَا وَنَحْنُ جماعة إنا إذا لهالكون عاجزون.
[سورة يوسف (١٢) : آية ١٥]
فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِّ وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (١٥)
يَقُولُ تَعَالَى: فَلَمَّا ذَهَبَ بِهِ إِخْوَتُهُ مِنْ عِنْدِ أَبِيهِ بَعْدَ مُرَاجَعَتِهِمْ لَهُ في ذلك وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِّ هَذَا فِيهِ تَعْظِيمٌ لِمَا فَعَلُوهُ، أَنَّهُمُ اتَّفَقُوا كُلُّهُمْ عَلَى إِلْقَائِهِ فِي أَسْفَلِ ذَلِكَ الْجُبِّ وَقَدْ أَخَذُوهُ مِنْ عِنْدِ أَبِيهِ فِيمَا يُظْهِرُونَهُ لَهُ إِكْرَامًا لَهُ، وَبَسْطًا وَشَرْحًا لِصَدْرِهِ، وَإِدْخَالًا لِلسُّرُورِ عَلَيْهِ، فَيُقَالُ إِنَّ يَعْقُوبَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا بَعَثَهُ مَعَهُمْ ضَمَّهُ إِلَيْهِ وَقَبَّلَهُ ودعا له، وذكر السُّدِّيُّ وَغَيْرُهُ إِنَّهُ لَمْ يَكُنْ بَيْنَ إِكْرَامِهِمْ لَهُ وَبَيْنَ إِظْهَارِ الْأَذَى لَهُ إِلَّا أَنْ غَابُوا عَنْ عَيْنِ أَبِيهِ وَتَوَارَوْا عَنْهُ، ثُمَّ شَرَعُوا يُؤْذُونَهُ بِالْقَوْلِ مِنْ شَتْمٍ وَنَحْوِهُ، وَالْفِعْلِ مِنْ ضَرْبٍ وَنَحْوِهُ، ثُمَّ جَاءُوا بِهِ إِلَى ذَلِكَ الْجُبِّ الَّذِي اتَّفَقُوا عَلَى رَمْيِهِ فِيهِ، فربطوه بحبل ودلوه فيه، فكان إِذَا لَجَأَ إِلَى وَاحِدٍ مِنْهُمْ لَطَمَهُ وَشَتَمَهُ، وَإِذَا تَشَبَّثَ بِحَافَاتِ الْبِئْرِ ضَرَبُوا عَلَى يَدَيْهِ، ثُمَّ قَطَعُوا بِهِ الْحَبْلَ مِنْ نِصْفِ الْمَسَافَةِ، فَسَقَطَ فِي الْمَاءِ فَغَمَرَهُ، فَصَعِدَ إِلَى صَخْرَةٍ تَكُونُ فِي وَسَطِهِ يُقَالُ لَهَا الرَّاغُوفَةُ، فَقَامَ فوقها.
(١) انظر تفسير الطبري ٧/ ١٥٥.
وقوله: وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ، يَقُولُ تَعَالَى ذَاكِرًا لُطْفَهُ وَرَحْمَتَهُ وَعَائِدَتَهُ وَإِنْزَالَهُ الْيُسْرَ فِي حَالِ الْعُسْرِ: إِنَّهُ أَوْحَى إِلَى يُوسُفَ فِي ذَلِكَ الْحَالِ الضَّيِّقِ تَطْيِيبًا لِقَلْبِهِ وَتَثْبِيتًا لَهُ، إِنَّكَ لَا تَحْزَنْ مِمَّا أَنْتَ فِيهِ، فَإِنَّ لَكَ مِنْ ذَلِكَ فَرَجًا وَمُخْرَجًا حَسَنًا، وَسَيَنْصُرُكَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَيُعْلِيكَ وَيَرْفَعُ دَرَجَتَكَ وَسَتُخْبِرُهُمْ بِمَا فَعَلُوا مَعَكَ مِنْ هَذَا الصَّنِيعِ، وَقَوْلُهُ: وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ. قَالَ مُجَاهِدٌ وقتادة: وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ بِإِيحَاءِ اللَّهِ إِلَيْهِ.
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: سَتُنْبِئُهُمْ بِصَنِيعِهِمْ هَذَا فِي حَقِّكَ، وَهُمْ لَا يَعْرِفُونَكَ وَلَا يَسْتَشْعِرُونَ بِكَ، كَمَا قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ»
: حَدَّثَنِي الْحَارِثُ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ، حَدَّثَنَا صَدَقَةُ بْنُ عُبَادَةَ الْأَسَدِيُّ عَنْ أَبِيهِ، سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ يَقُولُ: لَمَّا دَخَلَ إخوة يوسف عليه فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ، قَالَ:
جِيءَ بِالصُّوَاعِ «٢» فَوَضَعَهُ عَلَى يَدِهِ، ثُمَّ نَقَرَهُ فَطَنَّ، فَقَالَ: إِنَّهُ لَيُخْبِرُنِي هَذَا الْجَامُ «٣» أَنَّهُ كَانَ لَكُمْ أَخٌ مِنْ أَبِيكُمْ يُقَالُ لَهُ يُوسُفُ، يُدْنِيهِ دونكم، وأنكم انطلقتم به وألقيتموه فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ، قَالَ:
ثُمَّ نَقَرَهُ فَطَنَّ، قال: فَأَتَيْتُمْ أَبَاكُمْ فَقُلْتُمْ: إِنَّ الذِّئْبَ أَكَلَهُ وَجِئْتُمْ عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ، قَالَ:
فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: إِنَّ هَذَا الْجَامَ لَيُخْبِرُهُ بِخَبَرِكُمْ. قَالَ ابن عباس: فلا نَرَى هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ إِلَّا فِيهِمْ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هذا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ.
[سورة يوسف (١٢) : الآيات ١٦ الى ١٨]
وَجاؤُ أَباهُمْ عِشاءً يَبْكُونَ (١٦) قالُوا يَا أَبانا إِنَّا ذَهَبْنا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنا يُوسُفَ عِنْدَ مَتاعِنا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا وَلَوْ كُنَّا صادِقِينَ (١٧) وَجاؤُ عَلى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعانُ عَلى مَا تَصِفُونَ (١٨)
يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنِ الَّذِي اعْتَمَدَهُ إِخْوَةُ يُوسُفَ بَعْدَ مَا أَلْقَوْهُ في غيابة الجب، ثم رَجَعُوا إِلَى أَبِيهِمْ فِي ظُلْمَةِ اللَّيْلِ يَبْكُونَ وَيُظْهِرُونَ الْأَسَفَ وَالْجَزَعَ عَلَى يُوسُفَ وَيَتَغَمَّمُونَ لِأَبِيهِمْ، وَقَالُوا مُعْتَذِرِينَ عَمَّا وَقَعَ فِيمَا زَعَمُوا إِنَّا ذَهَبْنا نَسْتَبِقُ أَيْ نَتَرَامَى، وَتَرَكْنا يُوسُفَ عِنْدَ مَتاعِنا أَيْ ثِيَابِنَا وَأَمْتِعَتِنَا، فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ، وَهُوَ الَّذِي كَانَ قَدْ جَزِعَ مِنْهُ وَحَذِرَ عَلَيْهِ.
وقوله: وَما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا وَلَوْ كُنَّا صادِقِينَ تَلَطُّفٌ عَظِيمٌ فِي تَقْرِيرِ مَا يُحَاوِلُونَهُ، يَقُولُونَ: وَنَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّكَ لَا تُصَدِّقُنَا وَالْحَالَةُ هَذِهِ لَوْ كُنَّا عِنْدَكَ صَادِقِينَ، فَكَيْفَ وَأَنْتَ تَتَّهِمُنَا فِي ذَلِكَ، لِأَنَّكَ خَشِيتَ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ، فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ، فَأَنْتَ مَعْذُورٌ فِي تَكْذِيبِكَ لَنَا لِغَرَابَةِ مَا وَقَعَ، وَعَجِيبِ مَا اتَّفَقَ لَنَا في أمرنا هذا وَجاؤُ عَلى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ أَيْ مَكْذُوبٍ مُفْتَرَى، وَهَذَا مِنَ الْأَفْعَالِ الَّتِي يُؤَكِّدُونَ بِهَا مَا تَمَالَئُوا عَلَيْهِ مِنَ الْمَكِيدَةِ، وَهُوَ أَنَّهُمْ عَمَدُوا إلى
(١) تفسير الطبري ٧/ ١٥٩.
(٢) الصواع: مكيال، يكال به.
(٣) الجام إناء من فضة.
سَخْلَةٍ «١» فِيمَا ذَكَرَهُ مُجَاهِدٌ وَالسُّدِّيُّ وَغَيْرُ وَاحِدٍ، فَذَبَحُوهَا وَلَطَّخُوا ثَوْبَ يُوسُفَ بِدَمِهَا، مُوهِمِينَ أَنَّ هَذَا قَمِيصُهُ الَّذِي أَكَلَهُ فِيهِ الذِّئْبُ، وَقَدْ أَصَابَهُ مِنْ دَمِهِ، وَلَكِنَّهُمْ نَسُوا أَنَّ يَخْرِقُوهُ، فَلِهَذَا لَمْ يَرُجْ هَذَا الصَّنِيعُ عَلَى نَبِيِّ اللَّهِ يَعْقُوبَ، بَلْ قَالَ لَهُمْ مُعْرِضًا عَنْ كَلَامِهِمْ إِلَى مَا وَقَعَ فِي نَفْسِهِ مِنْ لبسهم عَلَيْهِ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ أَيْ فَسَأَصْبِرُ صَبْرًا جَمِيلًا عَلَى هَذَا الأمر الذي اتَّفَقْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يُفَرِّجَهُ اللَّهُ بِعَوْنِهِ وَلُطْفِهِ وَاللَّهُ الْمُسْتَعانُ عَلى مَا تَصِفُونَ أَيْ عَلَى مَا تَذْكُرُونَ مِنَ الْكَذِبِ وَالْمُحَالِ.
وَقَالَ الثَّوْرِيُّ عَنْ سِمَاكٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَجاؤُ عَلى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قَالَ: لَوْ أَكَلَهُ السَّبْعُ لَخَرَقَ الْقَمِيصَ «٢»، وَكَذَا قَالَ الشَّعْبِيُّ وَالْحَسَنُ وَقَتَادَةُ وَغَيْرُ وَاحِدٍ.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: الصَّبْرُ الْجَمِيلُ الَّذِي لَا جَزَعَ فِيهِ «٣». وَرَوَى هُشَيْمٌ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَحْيَى، عَنْ حِبَّانَ بْنِ أَبِي جَبَلَةَ، قَالَ: سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ قَوْلِهِ: فَصَبْرٌ جَمِيلٌ فَقَالَ: صَبْرٌ لَا شَكْوَى فِيهِ، وَهَذَا مُرْسَلٌ. وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ: قَالَ الثَّوْرِيُّ، عَنْ بَعْضِ أصحابه أنه قال: ثلاث من الصبر: أن لا تُحَدِّثَ بِوَجَعِكَ، وَلَا بِمُصِيبَتِكَ، وَلَا تُزَكِّيَ نَفْسَكَ وذكر البخاري «٤» هاهنا حديث عائشة فِي الْإِفْكِ حَتَّى ذَكَرَ قَوْلَهَا: وَاللَّهِ لَا أَجِدُ لِي وَلَكُمْ مَثَلًا إِلَّا كَمَا قَالَ أَبُو يُوسُفَ:
فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ [يوسف: ٦].
[سورة يوسف (١٢) : الآيات ١٩ الى ٢٠]
وَجاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُوا وارِدَهُمْ فَأَدْلى دَلْوَهُ قالَ يَا بُشْرى هَذَا غُلامٌ وَأَسَرُّوهُ بِضاعَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِما يَعْمَلُونَ (١٩) وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَراهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ (٢٠)
يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَمَّا جَرَى لِيُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ حِينَ ألقاه إخوته وتركوه في ذلك الجب وحيدا فريدا، فَمَكَثَ فِي الْبِئْرِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فِيمَا قَالَهُ أَبُو بَكْرِ بْنُ عَيَّاشٍ، وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ:
لَمَّا أَلْقَاهُ إِخْوَتُهُ جَلَسُوا حَوْلَ الْبِئْرِ يومهم ذلك، ينظرون ماذا يَصْنَعُ وَمَا يُصْنَعُ بِهِ، فَسَاقَ اللَّهُ لَهُ سَيَّارَةً، فَنَزَلُوا قَرِيبًا مِنْ تِلْكَ الْبِئْرِ، وَأَرْسَلُوا وَارِدَهُمْ وَهُوَ الَّذِي يَتَطَلَّبُ لَهُمُ الْمَاءَ، فَلَمَّا جاء ذلك الْبِئْرَ وَأَدْلَى دَلْوَهُ فِيهَا، تَشَبَّثَ يُوسُفُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِيهَا فَأَخْرَجَهُ وَاسْتَبْشَرَ بِهِ، وَقَالَ:
يَا بُشْرى هذا غُلامٌ وقرأ بعض القراء يا بشراي، فزعم السُّدِّيُّ أَنَّهُ اسْمُ رَجُلٍ، نَادَاهُ ذَلِكَ الرَّجُلُ الَّذِي أَدْلَى دَلْوَهُ مُعْلِمًا لَهُ أَنَّهُ أَصَابَ غُلَامًا، وَهَذَا الْقَوْلُ مِنَ السُّدِّيِّ غَرِيبٌ لِأَنَّهُ لم يسبق إلى تفسير هذه القراءة
(١) السخلة: ولد الشاة من المعز والضأن، ذكرا كان أم أنثى.
(٢) انظر تفسير الطبري ٧/ ١٦١.
(٣) انظر تفسير الطبري ٧/ ١٦٢.
(٤) كتاب التفسير، تفسير سورة ١٢، باب ٣.
322
بِهَذَا إِلَّا فِي رِوَايَةٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ، وَإِنَّمَا مَعْنَى الْقِرَاءَةِ عَلَى هَذَا النَّحْوِ يَرْجِعُ إِلَى الْقِرَاءَةِ الْأُخْرَى، وَيَكُونُ قَدْ أَضَافَ الْبُشْرَى إِلَى نَفْسِهِ وَحَذَفَ يَاءَ الْإِضَافَةِ، وَهُوَ يُرِيدُهَا كَمَا تَقُولُ الْعَرَبُ: يَا نَفْسُ اصبري ويا غُلَامُ أَقْبِلْ، بِحَذْفِ حَرْفِ الْإِضَافَةِ، وَيَجُوزُ الْكَسْرُ حِينَئِذٍ وَالرَّفْعُ، وَهَذَا مِنْهُ، وَتُفَسِّرُهَا الْقِرَاءَةُ الْأُخْرَى يَا بُشْرَايَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَوْلُهُ: وَأَسَرُّوهُ بِضاعَةً أَيْ وَأَسَرَّهُ الْوَارِدُونَ مِنْ بَقِيَّةِ السَّيَّارَةِ وَقَالُوا: اشْتَرَيْنَاهُ وَتَبَضَّعْنَاهُ مِنْ أَصْحَابِ الْمَاءِ مَخَافَةَ أَنْ يُشَارِكُوهُمْ فِيهِ إِذَا عَلِمُوا خَبَرَهُ، قَالَهُ مُجَاهِدٌ وَالسُّدِّيُّ وَابْنُ جَرِيرٍ:
هَذَا قَوْلٌ، وَقَالَ الْعَوْفِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلُهُ: وَأَسَرُّوهُ بِضاعَةً يَعْنِي إِخْوَةَ يُوسُفَ أَسَرُّوا شَأْنَهُ، وَكَتَمُوا أَنْ يَكُونَ أَخَاهُمْ، وَكَتَمَ يُوسُفُ شَأْنَهُ مَخَافَةَ أَنْ يَقْتُلَهُ إِخْوَتُهُ، وَاخْتَارَ الْبَيْعَ فَذَكَرَهُ إِخْوَتُهُ لِوَارِدِ الْقَوْمِ، فَنَادَى أَصْحَابَهُ يَا بُشْرى هَذَا غُلامٌ يُبَاعُ فَبَاعَهُ إِخْوَتُهُ.
وَقَوْلُهُ: وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِما يَعْمَلُونَ أي عليم بما يَفْعَلُهُ إِخْوَةُ يُوسُفَ وَمُشْتَرُوهُ، وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى تَغْيِيرِ ذَلِكَ وَدَفْعِهِ، وَلَكِنْ لَهُ حِكْمَةٌ وَقَدَرٌ سَابِقٌ، فَتَرَكَ ذَلِكَ لِيُمْضَى مَا قَدَّرَهُ وَقَضَاهُ أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ [الأعراف: ٥٤] وَفِي هَذَا تَعْرِيضٌ لِرَسُولِهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم وإعلام له بأني عالم بأذى قومك لك، وَأَنَا قَادِرٌ عَلَى الْإِنْكَارِ عَلَيْهِمْ، وَلَكِنِّي سَأُمْلِي لَهُمْ ثُمَّ أَجْعَلُ لَكَ الْعَاقِبَةَ وَالْحُكْمَ عَلَيْهِمْ، كَمَا جَعَلْتُ لِيُوسُفَ الْحُكْمَ وَالْعَاقِبَةَ عَلَى إِخْوَتِهِ.
وَقَوْلُهُ: وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَراهِمَ مَعْدُودَةٍ يَقُولُ تَعَالَى: وَبَاعَهُ إِخْوَتُهُ بِثَمَنٍ قَلِيلٍ. قَالَهُ مُجَاهِدٌ وَعِكْرِمَةُ وَالْبَخْسُ: هُوَ النَّقْصُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: فَلا يَخافُ بَخْساً وَلا رَهَقاً [الْجِنِّ:
١٣] أَيْ اعتاض عنه إخوته بثمن دون قليل، ومع ذلك كانوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ أَيْ لَيْسَ لَهُمْ رَغْبَةٌ فِيهِ، بَلْ لَوْ سُئِلُوهُ بِلَا شَيْءٍ لَأَجَابُوا. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ وَالضَّحَّاكُ: إِنَّ الضَّمِيرَ فِي قَوْلِهِ:
وَشَرَوْهُ عَائِدٌ عَلَى إِخْوَةِ يُوسُفَ. وَقَالَ قَتَادَةُ: بَلْ هُوَ عَائِدٌ عَلَى السَّيَّارَةِ. وَالْأَوَّلُ أَقْوَى، لِأَنَّ قَوْلَهُ: وَكانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ إِنَّمَا أَرَادَ إِخْوَتَهُ لَا أُولَئِكَ السَّيَّارَةَ، لِأَنَّ السَّيَّارَةَ اسْتَبْشَرُوا بِهِ وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً، وَلَوْ كانوا فيه زاهدين لما اشتروه، فترجح من هذا أن الضمير في شَرَوْهُ إِنَّمَا هُوَ لِإِخْوَتِهِ.
وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ بَخْسٍ الحرام. وقيل: الظلم، هذا وَإِنْ كَانَ كَذَلِكَ لَكِنْ لَيْسَ هُوَ الْمُرَادُ هُنَا، لِأَنَّ هَذَا مَعْلُومٌ يَعَرِفُهُ كُلُّ أَحَدٍ أَنَّ ثَمَنَهُ حَرَامٌ عَلَى كُلِّ حَالٍ وَعَلَى كُلِّ أَحَدٍ لِأَنَّهُ نَبِيٌّ ابْنُ نَبِيٍّ ابْنِ نَبِيٍّ ابْنِ خَلِيلِ الرَّحْمَنِ فَهُوَ الْكَرِيمُ ابْنُ الْكَرِيمِ ابْنِ الْكَرِيمِ ابْنِ الْكَرِيمِ، وَإِنَّمَا الْمُرَادُ هُنَا بِالْبَخْسِ النَّاقِصِ أَوِ الزُّيُوفِ أَوْ كِلَاهُمَا، أَيْ إِنَّهُمْ إِخْوَتُهُ وَقَدْ بَاعُوهُ، وَمَعَ هَذَا بِأَنْقَصِ الْأَثْمَانِ، وَلِهَذَا قَالَ دَراهِمَ مَعْدُودَةٍ، فَعَنِ ابن مسعود رضي الله عنه: بَاعُوهُ بِعِشْرِينَ دِرْهَمًا، وَكَذَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَنَوْفٌ البِكَالِيُّ والسُّدِّيُّ وَقَتَادَةُ وَعَطِيَّةُ العَوْفِيُّ، وَزَادَ اقْتَسَمُوهَا دِرْهَمَيْنِ دِرْهَمَيْنِ.
323
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: اثْنَانِ وَعِشْرُونَ دِرْهَمًا. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ وَعِكْرِمَةُ: أَرْبَعُونَ دِرْهَمًا.
وَقَالَ الضَّحَّاكُ فِي قَوْلِهِ وَكانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ وَذَلِكَ أَنَّهُمْ لَمْ يَعْلَمُوا نُبُوَّتَهُ وَمَنْزِلَتَهُ عِنْدَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: لَمَّا بَاعُوهُ جَعَلُوا يَتْبَعُونَهُمْ وَيَقُولُونَ لَهُمْ: اسْتَوْثِقُوا مِنْهُ لَا يَأْبَقْ، حَتَّى وَقَفُوهُ بِمِصْرَ فَقَالَ: مَنْ يَبْتَاعُنِي وَلْيُبْشِرْ؟ فاشتراه الملك وكان مسلما.
[سورة يوسف (١٢) : الآيات ٢١ الى ٢٢]
وَقالَ الَّذِي اشْتَراهُ مِنْ مِصْرَ لامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْواهُ عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ وَاللَّهُ غالِبٌ عَلى أَمْرِهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (٢١) وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (٢٢)
يُخْبِرُ تَعَالَى بِأَلْطَافِهِ بِيُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ قَيَّضَ لَهُ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْ مِصْرَ حَتَّى اعْتَنَى بِهِ وَأَكْرَمَهُ، وَأَوْصَى أَهْلَهُ بِهِ، وَتَوَسَّمَ فِيهِ الخير والصلاح، فَقَالَ لِاِمْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْواهُ عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَكَانَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْ مصر عزيزها وهو الوزير. حدثنا الْعَوْفِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَكَانَ اسْمُهُ قِطفِيرَ.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: اسْمُهُ إِطْفِيرُ بْنُ رُوحَيْبٍ وَهُوَ الْعَزِيزُ، وَكَانَ عَلَى خَزَائِنِ مِصْرَ، وَكَانَ الْمَلِكُ يَوْمَئِذٍ الرَّيَّانَ بْنَ الْوَلِيدِ رَجُلٌ مِنَ الْعَمَالِيقِ، قَالَ: وَاسْمُ امْرَأَتِهِ رَاعِيلُ بِنْتُ رعَائِيلَ «١»، وَقَالَ غَيْرُهُ: اسْمُهَا زُلَيْخَا، وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ أَيْضًا، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ السَّائِبِ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: كَانَ الَّذِي بَاعَهُ بِمِصْرَ مَالِكُ بْنُ دَعْرِ بْنِ بُوَيْبِ بْنِ عُنُقَا بْنِ مَدْيَانَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قَالَ: أَفَرَسُ النَّاسِ ثَلَاثَةٌ: عَزِيزُ مِصْرَ حِينَ قَالَ لِاِمْرَأَتِهِ: أَكْرِمِي مَثْواهُ، وَالْمَرْأَةُ الَّتِي قَالَتْ لأبيها يا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ [القصص: ٢٦] الآية، وَأَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ حِينَ اسْتَخْلَفَ عُمَرَ بْنَ الخطاب رضي الله عنهما «٢».
يقول تعالى: كما أنقذنا يوسف من إخوته كَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَعْنِي بِلَادَ مِصْرَ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ.
قَالَ مُجَاهِدٌ وَالسُّدِّيُّ: هُوَ تَعْبِيرُ الرُّؤْيَا وَاللَّهُ غالِبٌ عَلى أَمْرِهِ أَيْ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا فَلَا يُرَدُّ وَلَا يُمَانَعُ وَلَا يُخَالَفُ، بَلْ هُوَ الْغَالِبُ لِمَا سِوَاهُ. قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ فِي قَوْلِهِ: وَاللَّهُ غالِبٌ عَلى أَمْرِهِ: أَيْ فَعَّالٌ لِمَا يَشَاءُ. وَقَوْلُهُ: وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ يَقُولُ: لَا يَدْرُونَ حِكْمَتَهُ فِي خَلْقِهِ وَتَلَطُّفَهُ وفعله لِمَا يُرِيدُ، وَقَوْلُهُ: وَلَمَّا بَلَغَ أَيْ يُوسُفُ عليه السلام أَشُدَّهُ
(١) انظر تفسير الطبري ٧/ ١٧٢.
(٢) انظر تفسير الطبري ٧/ ١٧٣. [.....]
أَيِ اسْتُكْمِلَ عَقْلُهُ وَتَمَّ خَلْقُهُ آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً يَعْنِي النُّبُوَّةَ إِنَّهُ حَبَاهُ بِهَا بَيْنَ أُولَئِكَ الْأَقْوَامِ وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ أَيْ إِنَّهُ كان محسنا في عمله عاملا بطاعة الله تَعَالَى.
وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي مِقْدَارِ الْمُدَّةِ الَّتِي بَلَغَ فِيهَا أَشُدَّهُ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ وقتادة: ثلاث وثلاثون سنة. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: بِضْعٌ وَثَلَاثُونَ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: عِشْرُونَ، وَقَالَ الْحَسَنُ:
أَرْبَعُونَ سَنَةً. وَقَالَ عِكْرِمَةُ: خَمْسٌ وَعِشْرُونَ سَنَةً. وَقَالَ السُّدِّيُّ: ثَلَاثُونَ سَنَةً. وقال سعيد بن جبير: ثماني عشرة سنة. وقال الإمام مالك وربيعة بن زيد بْنُ أَسْلَمَ وَالشَّعْبِيُّ: الْأَشُدُّ الْحُلُمُ، وَقِيلَ غَيْرُ ذلك، والله أعلم.
[سورة يوسف (١٢) : آية ٢٣]
وَراوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِها عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوابَ وَقالَتْ هَيْتَ لَكَ قالَ مَعاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (٢٣)
يُخْبِرُ تَعَالَى عَنِ امْرَأَةِ الْعَزِيزِ الَّتِي كَانَ يُوسُفُ فِي بَيْتِهَا بِمِصْرَ، وَقَدْ أوصاها زوجها به وبإكرامه، فراودته عَنْ نَفْسِهِ، أَيْ حَاوَلَتْهُ عَلَى نَفْسِهِ وَدَعَتْهُ إِلَيْهَا، وَذَلِكَ أَنَّهَا أَحَبَّتْهُ حُبًّا شَدِيدًا لِجَمَالِهِ وَحُسْنِهِ وَبَهَائِهِ، فَحَمَلَهَا ذَلِكَ عَلَى أَنْ تَجَمَّلَتْ لَهُ وَغَلَّقَتْ عَلَيْهِ الْأَبْوَابَ وَدَعَتْهُ إِلَى نَفْسِهَا، وَقالَتْ هَيْتَ لَكَ فَامْتَنَعَ مِنْ ذَلِكَ أَشَدَّ الِامْتِنَاعِ، وقالَ مَعاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوايَ وكانوا يطلقون الرب على السيد الكبير، أَيْ إِنَّ بَعْلَكِ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ أَيْ مَنْزِلِي، وَأَحْسَنَ إِلَيَّ فَلَا أُقَابِلُهُ بِالْفَاحِشَةِ فِي أَهْلِهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ، قَالَ ذَلِكَ مُجَاهِدٌ وَالسُّدِّيُّ وَمُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ وَغَيْرُهُمْ.
وَقَدِ اختلف القراء في قوله: هَيْتَ لَكَ فَقَرَأَهُ كَثِيرُونَ بِفَتْحِ الْهَاءِ وَإِسْكَانِ الْيَاءِ وَفَتْحِ التَّاءِ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ وَغَيْرُ وَاحِدٍ: مَعْنَاهُ أَنَّهَا تَدْعُوهُ إِلَى نَفْسِهَا. وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ وَالْعَوْفِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: هَيْتَ لَكَ، تَقُولُ هَلُمَّ لَكَ، وَكَذَا قَالَ زِرُّ بْنُ حُبَيْشٍ وَعِكْرِمَةُ وَالْحَسَنُ وَقَتَادَةُ. قَالَ عَمْرُو بْنُ عُبَيْدٍ عَنِ الْحَسَنِ: وَهِيَ كَلِمَةٌ بِالسُّرْيَانِيَّةِ، أَيْ عَلَيْكَ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: هَيْتَ لَكَ، أَيْ هَلُمَّ لَكَ، وَهِيَ بِالْقِبْطِيَّةِ. وقال مُجَاهِدٌ: هِيَ لُغَةٌ عَرَبِيَّةٌ تَدْعُوهُ بِهَا. وَقَالَ البخاري «١» : وقال عكرمة: هيت لك، أي هَلُمَّ لَكَ بالحَوْرَانِيَّةِ. وَهَكَذَا ذَكَرَهُ مُعَلَّقًا.
وَقَدْ أسنده الإمام جعفر بن جرير «٢» : حدثني أحمد بن سهل الْوَاسِطِيُّ، حَدَّثَنَا قُرَّةُ بْنُ عِيسَى، حَدَّثَنَا النَّضْرُ بْنُ عَرَبِيٍّ الْجَزَرِيُّ عَنْ عِكْرِمَةَ مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: هَيْتَ لَكَ قَالَ: هَلُمَّ لَكَ، قَالَ: هِيَ بالْحَوْرَانِيَّةِ، وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ الْقَاسِمُ بْنُ سَلَّامٍ: وَكَانَ الْكِسَائِيُّ يَحْكِي هَذِهِ الْقِرَاءَةَ، يَعْنِي هَيْتَ لَكَ، وَيَقُولُ: هِيَ لُغَةٌ لأهل حوران وقعت إلى أهل الحجاز، ومعناها تعال. وقال أبو عبيدة: سَأْلَتُ شَيْخًا عَالِمًا مِنْ أَهْلِ حَوْرَانَ، فَذَكَرَ أنها لغتهم يعرفها، واستشهد
(١) كتاب التفسير، تفسير سورة ١٢، باب ٤.
(٢) تفسير الطبري ٧/ ١٧٧.
الْإِمَامُ ابْنُ جَرِيرٍ عَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ بِقَوْلِ الشَّاعِرِ لِعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: [مجزوء الكامل]
أبلغ أمير المؤمنين... أخا العراق إذا أتيتا «١»
إِنَّ الْعِرَاقَ وَأَهْلَهُ... عُنُقٌ إِلَيْكَ فَهَيْتَ هَيْتَا
يَقُولُ: فَتَعَالَ وَاقْتَرِبْ، وَقَرَأَ ذَلِكَ آخَرُونَ هِئِتُ لك بكسر الهاء وبالهمز وَضَمِّ التَّاءِ، بِمَعْنَى تَهَيَّأْتُ لَكَ مِنْ قَوْلِ القائل هئت بالأمر أهيء هَيْئَةً، وَمِمَّنْ رُوِيَ عَنْهُ هَذِهِ الْقِرَاءَةُ: ابْنُ عَبَّاسٍ وَأَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيُّ وَأَبُو وَائِلٍ وَعِكْرِمَةُ وَقَتَادَةُ، وَكُلُّهُمْ يُفَسِّرُهَا بِمَعْنَى تَهَيَّأْتُ لَكَ. قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَكَانَ أَبُو عَمْرٍو وَالْكِسَائِيُّ يُنْكِرَانِ هَذِهِ الْقِرَاءَةَ، وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ إِسْحَاقَ: هَيْتِ بِفَتْحِ الْهَاءِ وَكَسْرِ التَّاءِ، وَهِيَ غَرِيبَةٌ، وَقَرَأَ آخَرُونَ مِنْهُمْ عَامَّةُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ هَيْتُ بِفَتْحِ الْهَاءِ وَضَمِّ التَّاءِ، وَأَنْشَدَ قَوْلَ الشاعر: [الوافر]
لَيْسَ قَوْمِي بِالْأَبْعَدِينَ إِذَا مَا... قَالَ دَاعٍ مَنَ الْعَشِيرِةِ هَيْتُ «٢»
قَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ: أَنْبَأَنَا الثَّوْرِيُّ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ، قَالَ: قال ابن مسعود وقد سمع القراء: سمعتهم متقاربين، فاقرؤوا كما علمتم، وإياكم والتنطع والاختلاف، وإنما هو كقول أحدكم: هلم وتعال. ثُمَّ قَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ: هَيْتَ لَكَ، فَقَالَ: يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ إِنَّ نَاسًا يَقْرَءُونَهَا هيت. قال عبد الله: أن أقرأها كَمَا عُلِّمْتُ أَحَبُّ إِلَيَّ «٣».
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ «٤» : حَدَّثَنِي ابْنُ وَكِيعٍ، حَدَّثَنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ، قَالَ:
قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: هَيْتَ لَكَ، فَقَالَ لَهُ مَسْرُوقٌ: إِنَّ نَاسًا يَقْرَءُونَهَا: هَيْتُ لَكَ، فَقَالَ: دَعُونِي فَإِنِّي أَقْرَأُ كَمَا أُقْرِئْتُ، أَحَبُّ إِلَيَّ، وَقَالَ أَيْضًا: حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا آدَمُ بْنُ أَبِي إِيَاسٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ شَقِيقٍ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، قال: هيت لك بنصب الهاء والتاء، ولا نهمز. وَقَالَ آخَرُونَ:
هِيتُ لَكَ بِكَسْرِ الْهَاءِ، وَإِسْكَانِ الياء، وضم التاء. قال أبو عبيد مَعْمَرُ بْنُ الْمُثَنَّى: هَيْتَ لَا تُثَنَّى، وَلَا تُجْمَعُ، وَلَا تُؤَنَّثُ، بَلْ يُخَاطَبُ الْجَمِيعُ بِلَفْظٍ واحد، فيقال: هيت لك، وهيت لكم، وهيت لكما، وهيت لكن، وهيت لهن.
[سورة يوسف (١٢) : آية ٢٤]
وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِها لَوْلا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ كَذلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُخْلَصِينَ (٢٤)
(١) البيتان بلا نسبة في جمهرة اللغة ص ٢٥١، ٤٤٠، والخصائص ١/ ٢٧٩، وشرح المفصل ٤/ ٣٢، ولسان العرب (هت)، (عنق)، والمحتسب ١/ ٣٣٧، وتفسير الطبري ٧/ ١٧٦.
(٢) البيت لطرفة بن العبد في تفسير الطبري ٧/ ١٧٩، وليس في ديوانه.
(٣) انظر تفسير الطبري ٧/ ١٧٩.
(٤) تفسير الطبري ٧/ ١٧٩.
326
اخْتَلَفَتْ أَقْوَالُ النَّاسِ وَعِبَارَاتُهُمْ فِي هَذَا الْمَقَامِ، وَقَدْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٍ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَطَائِفَةٍ مِنَ السَّلَفِ فِي ذَلِكَ ما رواه ابن جرير «١» وغيره، والله أعلم. وقيل:
المراد بهمه بها خَطَرَاتِ حَدِيثِ النَّفْسِ، حَكَاهُ الْبَغَوِيُّ عَنْ بَعْضِ أَهْلِ التَّحْقِيقِ، ثُمَّ أَوْرَدَ الْبَغَوِيُّ هَاهُنَا حَدِيثَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ هَمَّامٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يقول اللَّهُ تَعَالَى: إِذَا هَمَّ عَبْدِي بِحَسَنَةٍ فَاكْتُبُوهَا لَهُ حَسَنَةً، فَإِنَّ عَمِلَهَا فَاكْتُبُوهَا لَهُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا، وَإِنْ هَمَّ بِسَيِّئَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا فَاكْتُبُوهَا حَسَنَةً، فَإِنَّمَا تَرَكَهَا مِنْ جَرَّائِي، فَإِنْ عَمَلِهَا فَاكْتُبُوهَا بِمِثْلِهَا» «٢»، وَهَذَا الْحَدِيثُ مُخَرَّجٌ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَلَهُ أَلْفَاظٌ كَثِيرَةٌ هَذَا مِنْهَا.
وَقِيلَ: هَمَّ بضربها. وقيل: تمناها زوجة. وقيل: هَمَّ بِها لَوْلا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ أَيْ فَلَمْ يَهِمَّ بِهَا، وَفِي هَذَا الْقَوْلِ نَظَرٌ من حيث العربية، حكاه ابْنُ جَرِيرٍ وَغَيْرُهُ. وَأَمَّا الْبُرْهَانُ الَّذِي رَآهُ ففيه أقوال أيضا، فعن ابن عباس وسعيد وَمُجَاهِدٍ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَمُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ وَالْحَسَنِ وَقَتَادَةَ وَأَبِي صَالِحٍ وَالضَّحَّاكِ وَمُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ وَغَيْرِهِمْ: رَأَى صُورَةَ أَبِيهِ يَعْقُوبَ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَاضًّا عَلَى أُصْبُعِهِ بِفَمِهِ. وَقِيلَ عَنْهُ فِي رِوَايَةٍ: فَضَرَبَ فِي صَدْرِ يُوسُفَ. وَقَالَ الْعَوْفِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: رَأَى خَيَالَ الْمَلِكِ يَعْنِي سَيِّدَهُ، وَكَذَا قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ فِيمَا حَكَاهُ عَنْ بَعْضِهِمْ: إِنَّمَا هُوَ خَيَالُ قطفير سَيِّدِهِ حِينَ دَنَا مِنَ الْبَابِ.
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ «٣» : حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، حَدَّثَنَا وَكِيعٌ عَنْ أَبِي مَوْدُودٍ، سَمِعْتُ مِنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ. قَالَ رَفَعَ يُوسُفُ رَأْسَهُ إِلَى سَقْفِ الْبَيْتِ، فَإِذَا كِتَابٌ فِي حَائِطِ الْبَيْتِ وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَساءَ سَبِيلًا [الْإِسْرَاءِ: ٣٢]، وَكَذَا رَوَاهُ أَبُو مَعْشَرٍ الْمَدَنِيُّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ. وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَهْبٍ: أَخْبَرَنِي نَافِعُ بْنُ يَزِيدَ، عَنْ أَبِي صَخْرٍ، قَالَ: سمعت القرظي يقول: في البرهان الذي رآه يوسف ثلاث آيات من كتاب الله وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ [الانفطار: ١٠] الآية، وقوله: وَما تَكُونُ فِي شَأْنٍ [يونس: ٦١] الآية، وَقَوْلُهُ: أَفَمَنْ هُوَ قائِمٌ عَلى كُلِّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ [الرَّعْدِ: ٣٣] قَالَ نَافِعٌ: سَمِعْتُ أَبَا هِلَالٍ يَقُولُ مِثْلَ قَوْلِ الْقُرَظِيِّ، وَزَادَ آيَةً رابعة وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى [الْإِسْرَاءِ: ٣٣]. وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ رَأَى آيَةً مِنْ كِتَابِ اللَّهِ فِي الْجِدَارِ تَنْهَاهُ عَنْ ذَلِكَ.
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ «٤» : وَالصَّوَابُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ رَأَى آية من آيات الله تزجره عَمَّا كَانَ هَمَّ بِهِ، وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ صُورَةَ يَعْقُوبَ، وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ صُورَةَ الْمَلِكِ، وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ مَا رَآهُ مَكْتُوبًا مِنَ الزَّجْرِ عَنْ ذَلِكَ، وَلَا حُجَّةَ قَاطِعَةٌ عَلَى تَعْيِينِ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، فَالصَّوَابُ أَنْ يُطْلَقَ كما قال الله
(١) تفسير الطبري ٧/ ١٨١.
(٢) أخرجه البخاري في الرقاق باب ٣١، ومسلم في الإيمان ٢٠٦، ٢٠٧.
(٣) تفسير الطبري ٧/ ١٨٨.
(٤) تفسير الطبري ٧/ ١٨٩.
327
تعالى. وَقَوْلُهُ: كَذلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشاءَ أَيْ كَمَا أَرَيْنَاهُ بُرْهَانًا صَرَفَهُ عَمَّا كَانَ فِيهِ، كَذَلِكَ نَقِيهِ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ فِي جَمِيعِ أُمُورِهِ: إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُخْلَصِينَ أَيْ مِنَ الْمُجْتَبِينَ الْمُطَهَّرِينَ الْمُخْتَارِينَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيَارِ، صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عليه.
[سورة يوسف (١٢) : الآيات ٢٥ الى ٢٩]
وَاسْتَبَقَا الْبابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ وَأَلْفَيا سَيِّدَها لَدَى الْبابِ قالَتْ مَا جَزاءُ مَنْ أَرادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً إِلاَّ أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٢٥) قالَ هِيَ راوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ أَهْلِها إِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكاذِبِينَ (٢٦) وَإِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٢٧) فَلَمَّا رَأى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ (٢٨) يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخاطِئِينَ (٢٩)
يُخْبِرُ تَعَالَى عَنْ حَالِهِمَا حِينَ خَرَجَا يَسْتَبِقَانِ إِلَى الْبَابِ: يُوسُفُ هَارِبٌ، وَالْمَرْأَةُ تَطْلُبُهُ لِيَرْجِعَ إِلَى الْبَيْتِ، فَلَحِقَتْهُ فِي أَثْنَاءِ ذَلِكَ فَأَمْسَكَتْ بِقَمِيصِهِ مِنْ وَرَائِهِ، فَقَدَّتْهُ قَدًّا فَظِيعًا، يُقَالُ:
إِنَّهُ سَقَطَ عَنْهُ وَاسْتَمَرَّ يُوسُفُ هَارِبًا ذَاهِبًا، وَهِيَ فِي إِثْرِهِ، فَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا وَهُوَ زَوْجُهَا عِنْدَ الْبَابِ، فَعِنْدَ ذَلِكَ خَرَجَتْ مِمَّا هِيَ فِيهِ بِمَكْرِهَا وَكَيْدِهَا، وَقَالَتْ لِزَوْجِهَا مُتَنَصِّلَةً وَقَاذِفَةً يُوسُفَ بَدَائَهَا مَا جَزاءُ مَنْ أَرادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً أَيْ فَاحِشَةً إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَيْ يُحْبَسَ، أَوْ عَذابٌ أَلِيمٌ أَيْ يُضْرَبَ ضَرْبًا شَدِيدًا مُوجِعًا. فَعِنْدَ ذَلِكَ انْتَصَرَ يُوسُفُ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِالْحَقِّ، وَتَبْرَّأَ مِمَّا رَمَتْهُ بِهِ مِنَ الْخِيَانَةِ، وقالَ بَارًّا صَادِقًا هِيَ راوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي وَذَكَرَ أَنَّهَا اتَّبَعَتْهُ تَجْذِبُهُ إِلَيْهَا حَتَّى قَدَّتْ قَمِيصَهُ.
وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ أَهْلِها إِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ أَيْ مِنْ قُدَّامِهِ فَصَدَقَتْ أي في قولها إنه راودها عن نَفْسِهَا، لِأَنَّهُ يَكُونُ لَمَّا دَعَاهَا وَأَبَتْ عَلَيْهِ دَفَعَتْهُ فِي صَدْرِهِ، فَقَدَّتْ قَمِيصَهُ فَيَصِحُّ مَا قَالَتْ وَإِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ وَذَلِكَ يَكُونُ كَمَا وَقَعَ لَمَّا هَرَبَ مِنْهَا وَتَطَلَّبَتْهُ، أَمْسَكَتْ بِقَمِيصِهِ مِنْ وَرَائِهِ لِتَرُدَّهُ إِلَيْهَا فَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ وَرَائِهِ، وَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي هَذَا الشَّاهِدِ: هَلْ هُوَ صَغِيرٌ أَوْ كَبِيرٌ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ لِعُلَمَاءِ السَّلَفِ، فَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرْنَا إِسْرَائِيلُ عَنْ سِمَاكٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ أَهْلِها قَالَ ذُو لِحْيَةٍ، وَقَالَ الثَّوْرِيُّ، عَنْ جَابِرٍ، عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: كَانَ مِنْ خَاصَّةِ الْمَلِكِ، وَكَذَا قَالَ مُجَاهِدٌ وَعِكْرِمَةُ وَالْحَسَنُ وَقَتَادَةُ والسُّدِّيُّ ومحمد بن إسحاق وغيرهم: إِنَّهُ كَانَ رَجُلًا. وَقَالَ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ وَالسُّدِّيُّ: كَانَ ابْنَ عَمِّهَا. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَانَ مِنْ خَاصَّةِ الْمَلِكِ. وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ إِسْحَاقَ أَنَّ زُلَيْخَا كَانَتْ بِنْتَ أُخْتِ الْمَلِكِ الرَّيَّانِ بْنِ الْوَلِيدِ.
وَقَالَ الْعَوْفِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ أَهْلِها قَالَ: كَانَ صَبِيًّا فِي الْمَهْدِ، وَكَذَا رُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَهِلَالِ بْنِ يِسَافٍ وَالْحَسَنِ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَالضَّحَّاكِ بْنِ مُزَاحِمٍ أَنَّهُ
كَانَ صَبِيًّا فِي الدَّارِ، وَاخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ «١». وَقَدْ وَرَدَ فِيهِ حَدِيثٌ مَرْفُوعٌ فَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ «٢» :
حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا عَفَّانُ، حَدَّثَنَا حَمَّادٌ هُوَ ابْنُ سَلَمَةَ، أَخْبَرَنِي عَطَاءُ بن السائب عن سعيد بن جبير، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «تَكَلَّمَ أَرْبَعَةٌ وَهُمْ صِغَارٌ» فَذَكَرَ فِيهِمْ شَاهِدَ يُوسُفَ، وَرَوَاهُ غَيْرُهُ عَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ سَعِيدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ «تَكَلَّمَ أَرْبَعَةٌ وَهُمْ صِغَارٌ: ابْنُ مَاشِطَةِ بِنْتِ فِرْعَوْنَ، وَشَاهِدُ يُوسُفَ، وَصَاحِبُ جُرَيْجٍ، وَعِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ». وَقَالَ لَيْثُ بْنُ أَبِي سُلَيْمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ: كَانَ مِنْ أمر الله تعالى، وَلَمْ يَكُنْ إِنْسِيًّا وَهَذَا قَوْلٌ غَرِيبٌ.
وَقَوْلُهُ: فَلَمَّا رَأى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ أَيْ لما تَحَقَّقَ زَوْجُهَا صِدْقَ يُوسُفَ وَكَذِبَهَا فِيمَا قَذَفَتْهُ وَرَمَتْهُ بِهِ قالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ أَيْ إِنَّ هَذَا الْبُهْتَ وَاللَّطْخَ الَّذِي لَطَّخْتِ عِرْضَ هَذَا الشَّابِّ بِهِ مِنْ جُمْلَةِ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ، ثُمَّ قَالَ آمِرًا لِيُوسُفَ عَلَيْهِ السلام بكتمان ما وقع يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا أَيِ اضْرِبْ عَنْ هذا صفحا، أي فَلَا تَذْكُرْهُ لِأَحَدٍ.
وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ يَقُولُ لِاِمْرَأَتِهِ وَقَدْ كَانَ لَيِّنَ الْعَرِيكَةِ سَهْلًا أَوْ أَنَّهُ عَذَرَهَا لِأَنَّهَا رَأَتْ مَا لَا صَبْرَ لَهَا عنه فقال لها: استغفري لِذَنْبِكِ أَيِ الَّذِي وَقَعَ مِنْكِ مِنْ إِرَادَةِ السُّوءِ بِهَذَا الشَّابِّ ثُمَّ قَذْفِهِ بِمَا هُوَ بريء منه إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخاطِئِينَ.
[سورة يوسف (١٢) : الآيات ٣٠ الى ٣٤]
وَقالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُراوِدُ فَتاها عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَها حُبًّا إِنَّا لَنَراها فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٣٠) فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ واحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّيناً وَقالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَراً إِنْ هَذَا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ (٣١) قالَتْ فَذلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُوناً مِنَ الصَّاغِرِينَ (٣٢) قالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجاهِلِينَ (٣٣) فَاسْتَجابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٣٤)
يُخْبِرُ تَعَالَى أَنَّ خَبَرَ يُوسُفَ وَاِمْرَأَةِ الْعَزِيزِ، شَاعَ فِي الْمَدِينَةِ وَهِيَ مِصْرُ حَتَّى تَحَدَّثَ به الناس وَقالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ مثل نساء الكبراء والأمراء، يُنْكِرْنَ عَلَى امْرَأَةِ الْعَزِيزِ وَهُوَ الْوَزِيرُ وَيَعِبْنَ ذلك عليها امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُراوِدُ فَتاها عَنْ نَفْسِهِ أَيْ تُحَاوِلُ غُلَامَهَا عَنْ نَفْسِهِ وَتَدْعُوهُ إِلَى نَفْسِهَا قَدْ شَغَفَها حُبًّا أَيْ قَدْ وَصَلَ حُبُّهُ إِلَى شَغَافِ قَلْبِهَا وَهُوَ غِلَافُهُ. قَالَ الضَّحَّاكُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: الشَّغَفُ الْحُبُّ الْقَاتِلُ، وَالشَّغَفُ دُونَ ذَلِكَ، وَالشَّغَافُ حِجَابُ الْقَلْبِ إِنَّا لَنَراها فِي ضَلالٍ مُبِينٍ أَيْ فِي صَنِيعِهَا هَذَا مِنْ حُبِّهَا فَتَاهَا وَمُرَاوَدَتِهَا إِيَّاهُ عَنْ نَفْسِهِ، فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ قال بعضهم: بقولهن ذهب الحب بها، وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: بَلْ بَلَغَهُنَّ حُسْنُ
(١) تفسير الطبري ٧/ ١٩١.
(٢) تفسير الطبري ٧/ ١٩٢.
329
يُوسُفَ، فَأَحْبَبْنَ أَنْ يَرَيْنَهُ، فَقُلْنَ ذَلِكَ لِيَتَوَصَّلْنَ إِلَى رُؤْيَتِهِ وَمُشَاهَدَتِهِ، فَعِنْدَ ذَلِكَ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ أَيْ دَعَتْهُنَّ إِلَى مَنْزِلِهَا لِتُضَيِّفَهُنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَمُجَاهِدٌ وَالْحَسَنُ وَالسُّدِّيُّ وَغَيْرُهُمْ: هُوَ الْمَجْلِسُ الْمُعَدُّ فِيهِ مَفَارِشُ، وَمَخَادُّ، وَطَعَامٌ فِيهِ مَا يُقْطَعُ بِالسَّكَاكِينِ مَنْ أُتْرُجٍّ وَنَحْوِهِ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: وَآتَتْ كُلَّ واحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّيناً وَكَانَ هَذَا مَكِيدَةً مِنْهَا وَمُقَابَلَةً لَهُنَّ فِي احْتِيَالِهِنَّ عَلَى رُؤْيَتِهِ وَقالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ وَذَلِكَ أَنَّهَا كَانَتْ قَدْ خَبَّأَتْهُ فِي مَكَانٍ آخَرَ فَلَمَّا خَرَجَ ورَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ أي أعظمنه أَيْ أَعَظَمْنَ شَأْنَهُ، وَأَجْلَلْنَ قَدْرَهُ، وَجَعَلْنَ يُقَطِّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ دَهَشًا بِرُؤْيَتِهِ، وَهُنَّ يَظْنُنَّ أَنَّهُنَّ يُقَطِّعْنَ الْأُتْرُجَّ بِالسَّكَاكِينِ، وَالْمُرَادُ أَنَّهُنَّ حَزَّزْنَ أَيْدِيَهُنَّ بِهَا، قَالَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ، وَعَنْ مُجَاهِدٍ وَقَتَادَةَ: قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ حَتَّى أَلْقَيْنَهَا، فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَدْ ذُكِرَ غير واحد أَنَّهَا قَالَتْ لَهُنَّ بَعْدَ مَا أَكَلْنَ وَطَابَتْ أَنْفُسُهُنَّ، ثُمَّ وَضَعَتْ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ أُتْرُجًّا وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّينًا: هَلْ لَكُنَّ فِي النَّظَرِ إِلَى يُوسُفَ؟ قُلْنَ: نَعَمْ، فَبَعَثَتْ إِلَيْهِ تَأْمُرُهُ أَنِ اخْرُجْ إِلَيْهِنَّ، فَلَمَّا رَأَيْنَهُ جَعَلْنَ يقطعن أيديهن، ثم أمرته أن يرجع ليرينه مقبلا ومدبرا، فرجع وَهُنَّ يُحَزُّزْنَ فِي أَيْدِيهِنَّ، فَلَمَّا أَحْسَسْنَ بِالْأَلَمِ جَعَلْنَ يُوَلْوِلْنَ، فَقَالَتْ: أَنْتُنَّ مِنْ نَظْرَةٍ وَاحِدَةٍ فعلتن هذا، فكيف ألام أنا؟.
وَقُلْنَ حاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَراً إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ ثُمَّ قُلْنَ لَهَا: وما نرى عليك من لوم بعد هذا الَّذِي رَأَيْنَا، لِأَنَّهُنَّ لَمْ يَرَيْنَ فِي الْبَشَرِ شبيهه ولا قريبا منه، فإنه عليه السلام كَانَ قَدْ أُعْطِي شَطْرَ الْحُسْنِ كَمَا ثَبَتَ ذَلِكَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ فِي حَدِيثِ الْإِسْرَاءِ أن رسول الله ﷺ مَرَّ بِيُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي السَّمَاءِ الثَّالِثَةِ، قَالَ «فَإِذَا هُوَ قَدْ أُعْطِيَ شَطْرَ الْحُسْنِ» «١».
وَقَالَ حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أُعْطِيَ يُوسُفُ وَأُمُّهُ شَطْرَ الْحُسْنِ» «٢». وَقَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنِ أَبِي الْأَحْوَصِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: أُعْطِيَ يُوسُفُ وَأُمُّهُ ثُلُثَ الْحُسْنِ «٣». وَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ أَيْضًا، عَنْ أَبِي الْأَحْوَصِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: كَانَ وَجْهُ يُوسُفَ مَثَلَ الْبَرْقِ، وَكَانَتِ الْمَرْأَةُ إِذَا أَتَتْهُ لِحَاجَةٍ غَطَّى وَجْهَهُ مَخَافَةَ أَنْ تَفْتَتِنَ بِهِ. وَرَوَاهُ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ مُرْسَلًا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «أُعْطِيَ يُوسُفُ وَأُمُّهُ ثُلُثَ حُسْنِ أَهْلِ الدُّنْيَا، وَأُعْطِيَ النَّاسُ الثُّلُثَيْنِ»، أَوْ قَالَ «أُعْطِيَ يُوسُفُ وَأُمُّهُ الثُّلُثَيْنِ وَالنَّاسُ الثُّلُثَ». وَقَالَ سُفْيَانُ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ عَنْ رَبِيعَةَ الجُرَشِيِّ قَالَ: قُسِمَ الْحُسْنُ نِصْفَيْنِ فَأُعْطِيَ يُوسُفُ وَأُمُّهُ سَارَّةُ نِصْفَ الْحُسْنِ، وَالنِّصْفُ الْآخَرُ بين سائر الخلق.
(١) أخرجه مسلم في الإيمان حديث ٢٥٩.
(٢) تفسير الطبري ٧/ ٢٠٥. [.....]
(٣) تفسير الطبري ٧/ ٢٠٥.
330
وَقَالَ الْإِمَامُ أَبُو الْقَاسِمِ السُّهَيْلِيُّ: مَعْنَاهُ أَنَّ يوسف عليه السلام كَانَ عَلَى النِّصْفِ مِنْ حُسْنِ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَإِنَّ اللَّهَ خَلَقَ آدَمَ بِيَدِهِ عَلَى أَكْمَلِ صُورَةٍ وَأَحْسَنِهَا، وَلَمْ يَكُنْ فِي ذُرِّيَّتِهِ مَنْ يُوَازِيهِ فِي جَمَالِهِ، وَكَانَ يُوسُفُ قَدْ أُعْطِيَ شَطْرَ حُسْنِهِ، فَلِهَذَا قَالَ هَؤُلَاءِ النِّسْوَةُ عِنْدَ رُؤْيَتِهِ حاشَ لِلَّهِ. قَالَ مُجَاهِدٌ وَغَيْرُ وَاحِدٍ: مَعَاذَ اللَّهِ مَا هَذَا بَشَراً، وَقَرَأَ بعضهم ما هذا بشري أي بمشتري بشراء إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ قالَتْ فَذلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ تَقُولُ هَذَا مُعْتَذِرَةً إِلَيْهِنَّ بأن هذا حقيق أن يُحَبَّ لِجَمَالِهِ وَكَمَالِهِ.
وَلَقَدْ راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ أَيْ فَامْتَنَعَ. قَالَ بَعْضُهُمْ: لَمَّا رَأَيْنَ جَمَالَهُ الظَّاهِرَ أَخْبَرَتْهُنَّ بِصِفَاتِهِ الْحَسَنَةِ الَّتِي تَخْفَى عَنْهُنَّ، وَهِيَ الْعِفَّةُ مَعَ هَذَا الْجَمَالِ، ثُمَّ قالت تتوعده وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُوناً مِنَ الصَّاغِرِينَ فَعِنْدَ ذَلِكَ اسْتَعَاذَ يُوسُفُ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنْ شَرِّهِنَّ وَكَيْدِهِنَّ، وقالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ أَيْ مِنَ الْفَاحِشَةِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ أَيْ إِنْ وَكَّلْتَنِي إِلَى نَفْسِي فَلَيْسَ لِي منها قُدْرَةٌ وَلَا أَمَلِكُ لَهَا ضُرًّا وَلَا نَفْعًا إِلَّا بِحَوْلِكَ وَقُوَّتِكَ، أَنْتَ الْمُسْتَعَانُ وَعَلَيْكَ التُّكْلَانُ، فَلَا تَكِلْنِي إِلَى نَفْسِي.
أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجاهِلِينَ فَاسْتَجابَ لَهُ رَبُّهُ الآية، وَذَلِكَ أَنَّ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَصَمَهُ اللَّهُ عِصْمَةً عَظِيمَةً، وَحَمَاهُ فَامْتَنَعَ مِنْهَا أَشَدَّ الِامْتِنَاعِ، وَاخْتَارَ السِّجْنَ عَلَى ذَلِكَ، وَهَذَا فِي غَايَةِ مَقَامَاتِ الْكَمَالِ أَنَّهُ مَعَ شَبَابِهِ وَجَمَالِهِ وَكَمَالِهِ تَدْعُوهُ سَيِّدَتُهُ، وَهِيَ امْرَأَةُ عَزِيزِ مِصْرَ، وَهِيَ مَعَ هَذَا فِي غَايَةِ الْجَمَالِ وَالْمَالِ وَالرِّيَاسَةِ، وَيَمْتَنِعُ مِنْ ذَلِكَ وَيَخْتَارُ السِّجْنَ عَلَى ذَلِكَ خَوْفًا مِنَ اللَّهِ وَرَجَاءَ ثَوَابِهِ.
وَلِهَذَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللَّهُ فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لَا ظِلَّ إِلَّا ظِلُّهُ: إِمَامٌ عَادِلٌ، وَشَابٌّ نَشَأَ فِي عِبَادَةِ اللَّهِ، وَرَجُلٌ قَلْبُهُ مُعَلَّقٌ بِالْمَسْجِدِ إِذَا خَرَجَ مِنْهُ حَتَّى يَعُودَ إِلَيْهِ، وَرَجُلَانِ تَحَابَّا فِي اللَّهِ اجْتَمَعَا عَلَيْهِ وَتَفَرَّقَا عَلَيْهِ، وَرَجُلٌ تَصَدَّقُ بِصَدَقَةٍ فَأَخْفَاهَا حَتَّى لَا تَعْلَمَ شِمَالُهُ ما أنفقت يمينه، وَرَجُلٌ دَعَتْهُ امْرَأَةٌ ذَاتُ مَنْصِبٍ وَجِمَالٍ فَقَالَ: إِنِّي أخاف الله، ورجل ذكر الله خاليا ففاضت عيناه» «١».
[سورة يوسف (١٢) : آية ٣٥]
ثُمَّ بَدا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الْآياتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ (٣٥)
يَقُولُ تَعَالَى: ثُمَّ ظَهَرَ لَهُمْ مِنَ الْمَصْلَحَةِ فِيمَا رَأَوْهُ أَنَّهُمْ يَسْجُنُونَهُ إِلَى حِينٍ، أَيْ إِلَى مُدَّةٍ، وَذَلِكَ بَعْدَ مَا عَرَفُوا بَرَاءَتَهُ وَظَهَرَتِ الْآيَاتُ، وَهِيَ الأدلة على صدقه في عفته ونزاهته، وكأنهم- وَاللَّهُ أَعْلَمُ- إِنَّمَا سَجَنُوهُ لَمَّا شَاعَ الْحَدِيثُ إيهاما أنه رَاوَدَهَا عَنْ نَفْسِهَا وَأَنَّهُمْ سَجَنُوهُ عَلَى ذَلِكَ. وَلِهَذَا لَمَّا طَلَبَهُ الْمَلِكُ الْكَبِيرُ فِي آخِرِ الْمُدَّةِ امْتَنَعَ مِنَ الْخُرُوجِ حَتَّى تَتَبَيَّنَ بَرَاءَتُهُ مما نسب
(١) أخرجه البخاري في الآذان باب ٣٦، ومسلم في الزكاة حديث ٩١.
إِلَيْهِ مِنَ الْخِيَانَةِ. فَلَمَّا تَقَرَّرَ ذَلِكَ، خَرَجَ وَهُوَ نَقِيُّ الْعِرْضِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَامُهُ. وَذَكَرَ السُّدِّيُّ أَنَّهُمْ إِنَّمَا سَجَنُوهُ لِئَلَّا يَشِيعَ مَا كَانَ مِنْهَا فِي حَقِّهِ، وَيَبْرَأَ عِرْضُهُ فيفضحها.
[سورة يوسف (١٢) : آية ٣٦]
وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيانِ قالَ أَحَدُهُما إِنِّي أَرانِي أَعْصِرُ خَمْراً وَقالَ الْآخَرُ إِنِّي أَرانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزاً تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (٣٦)
قَالَ قَتَادَةُ: كَانَ أَحَدُهُمَا سَاقِيَ الْمَلِكِ، وَالْآخَرُ خَبَّازَهُ. قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: كَانَ اسْمُ الَّذِي عَلَى الشَّرَابِ نَبَوَا وَالْآخَرِ مجلثَ «١». قَالَ السُّدِّيُّ: كان سَبَبُ حَبْسِ الْمَلِكِ إِيَّاهُمَا أَنَّهُ تَوَهَّمَ أَنَّهُمَا تَمَالَآ عَلَى سَمِّهِ فِي طَعَامِهِ وَشَرَابِهِ، وَكَانَ يُوسُفُ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَدِ اشْتُهِرَ فِي السِّجْنِ بِالْجُودِ وَالْأَمَانَةِ، وَصِدْقِ الْحَدِيثِ، وَحُسْنِ السَّمْتِ، وَكَثْرَةِ الْعِبَادَةِ، صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَامُهُ.
وَمَعْرِفَةِ التَّعْبِيرِ وَالْإِحْسَانِ إِلَى أَهْلِ السِّجْنِ، وَعِيَادَةِ مَرْضَاهُمْ، وَالْقِيَامِ بِحُقُوقِهِمْ. وَلَمَّا دَخَلَ هَذَانِ الْفَتَيَانِ إِلَى السِّجْنِ تَآلَفَا بِهِ وَأَحَبَّاهُ حُبًّا شَدِيدًا وَقَالَا لَهُ: وَاللَّهِ لَقَدْ أَحْبَبْنَاكَ حُبًّا زَائِدًا. قَالَ:
بَارَكَ اللَّهُ فِيكُمَا، إِنَّهُ مَا أَحَبَّنِي أَحَدٌ إِلَّا دَخَلَ عَلَيَّ مِنْ مَحَبَّتِهِ ضَرَرٌ، أَحَبَّتْنِي عَمَّتِي فَدَخَلَ عَلَيَّ الضَّرَرُ بِسَبَبِهَا، وَأَحَبَّنِي أَبِي فَأُوذِيتُ بِسَبَبِهِ، وَأَحَبَّتْنِي امْرَأَةُ الْعَزِيزِ فَكَذَلِكَ، فَقَالَا: وَاللَّهِ مَا نَسْتَطِيعُ إِلَّا ذَلِكَ، ثُمَّ إِنَّهُمَا رَأَيَا مَنَامًا فَرَأَى السَّاقِي أَنَّهُ يَعْصِرُ خَمْرًا يَعْنِي عِنَبًا، وَكَذَلِكَ هِيَ فِي قِرَاءَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ: إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ عِنَبًا.
وَرَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ سِنَانٍ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ هَارُونَ، عَنْ شَرِيكٍ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ زَيْدِ بْنِ وَهْبٍ، عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قَرَأَهَا: أَعْصِرُ عِنَبًا: وَقَالَ الضَّحَّاكُ فِي قَوْلِهِ إِنِّي أَرانِي أَعْصِرُ خَمْراً يَعْنِي عِنَبًا، قَالَ: وَأَهْلُ عَمَّانَ يُسَمُّونَ الْعِنَبَ خَمْرًا.
وقال عكرمة: قال له: إني رَأَيْتُ فِيمَا يَرَى النَّائِمُ أَنِّي غَرَسْتُ حَبَلَةً من عنب، فنبتت فخرج فيها عناقيد، فعصرتهن ثم سقيتهن الملك، فقال: تَمْكُثُ فِي السِّجْنِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ثُمَّ تَخْرُجُ فَتَسْقِيَهُ خَمْرًا، وَقَالَ الْآخَرُ وَهُوَ الْخَبَّازُ إِنِّي أَرانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزاً تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنا بِتَأْوِيلِهِ الآية، والمشهور عند الأكثرين ما ذكرناه أنهما رَأَيَا مَنَامًا وَطَلَبَا تَعْبِيرَهُ.
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ «٢» : حدثنا وَكِيعٍ وَابْنُ حُمَيْدٍ قَالَا: حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنْ عُمَارَةَ بْنِ الْقَعْقَاعِ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ عَبْدِ الله بن مسعود قَالَ: مَا رَأَى صَاحِبَا يُوسُفَ شَيْئًا، إِنَّمَا كان تحالما ليجربا عليه.
(١) انظر تفسير الطبري ٧/ ٢١٢.
(٢) تفسير الطبري ٧/ ٢١٢، ولفظه: حدثنا ابن وكيع وابن حميد.

[سورة يوسف (١٢) : الآيات ٣٧ الى ٣٨]

قالَ لَا يَأْتِيكُما طَعامٌ تُرْزَقانِهِ إِلاَّ نَبَّأْتُكُما بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُما ذلِكُما مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ (٣٧) وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبائِي إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كانَ لَنا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ذلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنا وَعَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ (٣٨)
يُخْبِرُهُمَا يُوسُفُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أنهما مهما رأيا في المنام من حلم فإنه عارف بتفسيره يخبرهما بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ وُقُوعِهِ، وَلِهَذَا قَالَ: لَا يَأْتِيكُما طَعامٌ تُرْزَقانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُما بِتَأْوِيلِهِ قَالَ مُجَاهِدٌ:
يَقُولُ لَا يَأْتِيكُما طَعامٌ تُرْزَقانِهِ في يومكما إِلَّا نَبَّأْتُكُما بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُما، وَكَذَا قَالَ السُّدِّيُّ. وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ رَحِمَهُ اللَّهُ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلَاءِ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَزِيدَ شَيْخٌ له، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ ثَوْبَانَ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ:
مَا أَدْرِي لَعَلَّ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ يَعْتَافُ وَهُوَ كَذَلِكَ، لِأَنِّي أَجِدُ فِي كِتَابِ اللَّهِ حِينَ قَالَ لِلرَّجُلَيْنِ: لَا يَأْتِيكُما طَعامٌ تُرْزَقانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُما بِتَأْوِيلِهِ قَالَ: إِذَا جَاءَ الطَّعَامُ حُلْوًا أَوْ مُرًّا اعْتَافَ عِنْدَ ذَلِكَ.
ثُمَّ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِنَّمَا عُلِّمَ فَعَلَّمَ، وَهَذَا أَثَرٌ غَرِيبٌ، ثُمَّ قَالَ: وَهَذَا إِنَّمَا هُوَ مِنْ تَعْلِيمِ اللَّهِ إِيَّايَ، لِأَنِّي اجْتَنَبْتُ مِلَّةَ الْكَافِرِينَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، فَلَا يَرْجُونَ ثَوَابًا وَلَا عِقَابًا فِي الْمَعَادِ وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبائِي إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ الآية، يَقُولُ: هَجَرْتُ طَرِيقَ الْكُفْرِ وَالشِّرْكِ، وَسَلَكْتُ طَرِيقَ هَؤُلَاءِ الْمُرْسَلِينَ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ، وَهَكَذَا يَكُونُ حَالُ مِنْ سَلَكَ طَرِيقَ الْهُدَى، واتبع طريق المرسلين، وأعرض عن طريق الضالين، فإن الله يهدي قلبه، ويعلمه ما لم يكن يعلم، وَيَجْعَلُهُ إِمَامًا يُقْتَدَى بِهِ فِي الْخَيْرِ، وَدَاعِيًا إِلَى سَبِيلِ الرَّشَادِ.
مَا كانَ لَنا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ذلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنا وَعَلَى النَّاسِ هَذَا التَّوْحِيدُ وَهُوَ الإقرار بأنه لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنا أَيْ أَوْحَاهُ إِلَيْنَا وَأَمَرَنَا بِهِ.
وَعَلَى النَّاسِ إِذْ جَعَلَنَا دُعَاةً لَهُمْ إِلَى ذَلِكَ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ أَيْ لَا يَعْرِفُونَ نِعْمَةَ اللَّهِ عليهم بإرسال الرسل إليهم، بل بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دارَ الْبَوارِ [إِبْرَاهِيمَ: ٢٨]. وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ سِنَانٍ، حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، حَدَّثَنَا حَجَّاجٌ عَنْ عَطَاءٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ كَانَ يَجْعَلُ الجد أبا ويقول: والله فمن شاء لا عنته عِنْدَ الْحِجْرِ، مَا ذَكَرَ اللَّهُ جَدًّا وَلَا جَدَّةً، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى يَعْنِي إِخْبَارًا عَنْ يُوسُفَ: وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبائِي إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ.
[سورة يوسف (١٢) : الآيات ٣٩ الى ٤٠]
يَا صاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ (٣٩) مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلاَّ أَسْماءً سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (٤٠)
ثُمَّ إِنَّ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَقْبَلَ عَلَى الْفَتَيَيْنِ بِالْمُخَاطَبَةِ وَالدُّعَاءِ لَهُمَا إِلَى عِبَادَةِ اللَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَخَلْعِ مَا سِوَاهُ مِنَ الْأَوْثَانِ الَّتِي يَعْبُدُهَا قَوْمُهُمَا، فَقَالَ: أَأَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ أَيْ الذي ذل كل شيء لعز جَلَالِهِ وَعَظَمَةِ سُلْطَانِهِ، ثُمَّ بَيَّنَ لَهُمَا أَنَّ التي
يَعْبُدُونَهَا وَيُسَمُّونَهَا آلِهَةً إِنَّمَا هُوَ جَهْلٌ مِنْهُمْ، وَتَسْمِيَةٌ مِنْ تِلْقَاءِ أَنْفُسِهِمْ، تَلَقَّاهَا خَلَفُهُمْ عَنْ سَلَفِهِمْ، وَلَيْسَ لِذَلِكَ مُسْتَنَدٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وَلِهَذَا قَالَ: مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ أَيْ حُجَّةٍ وَلَا بُرْهَانٍ، ثُمَّ أَخْبَرَهُمْ أَنَّ الْحُكْمَ وَالتَّصَرُّفَ وَالْمَشِيئَةَ وَالْمُلْكَ كُلَّهُ لِلَّهِ، وقد أمر عباده قاطبة أن لا يعبدوا إلا إياه، ثم قال تعالى: ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ أَيْ هَذَا الَّذِي أَدْعُوكُمْ إِلَيْهِ مِنْ تَوْحِيدِ اللَّهِ وَإِخْلَاصِ الْعَمَلِ لَهُ، هُوَ الدِّينُ الْمُسْتَقِيمُ الَّذِي أَمَرَ اللَّهُ بِهِ، وأنزل به الحجة والبرهان الذي يحبه وبرضاه وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ أَيْ فَلِهَذَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ، وَما أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ [يُوسُفَ: ١٠٣].
وقد قال ابن جرير «١» : إِنَّمَا عَدَلَ بِهِمْ يُوسُفُ عَنْ تَعْبِيرِ الرُّؤْيَا إِلَى هَذَا، لِأَنَّهُ عَرَفَ أَنَّهَا ضَارَّةٌ لِأَحَدِهِمَا، فَأَحَبَّ أَنْ يَشْغَلَهُمَا بِغَيْرِ ذَلِكَ لِئَلَّا يُعَاوِدُوهُ فِيهَا. فَعَاوَدُوهُ فَأَعَادَ عَلَيْهِمُ الْمَوْعِظَةَ، وَفِي هَذَا الَّذِي قَالَهُ نَظَرٌ، لِأَنَّهُ قَدْ وَعَدَهُمَا أَوَّلًا بِتَعْبِيرِهَا، وَلَكِنْ جَعَلَ سُؤَالَهُمَا لَهُ عَلَى وَجْهِ التَّعْظِيمِ وَالِاحْتِرَامِ وُصْلَةً وَسَبَبًا إِلَى دُعَائِهِمَا إِلَى التَّوْحِيدِ وَالْإِسْلَامِ، لِمَا رَأَى فِي سَجِيَّتِهِمَا مِنْ قبول الخير والإقبال عليه والإنصاف إِلَيْهِ، وَلِهَذَا لَمَّا فَرَغَ مِنْ دَعْوَتِهِمَا شَرَعَ فِي تَعْبِيرِ رُؤْيَاهُمَا مِنْ غَيْرِ تَكْرَارِ سُؤَالٍ فقال:
[سورة يوسف (١٢) : آية ٤١]
يا صاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُما فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْراً وَأَمَّا الْآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيانِ (٤١)
يقول لهما يا صاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُما فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْراً وَهُوَ الَّذِي رَأَى أَنَّهُ يَعْصِرُ خَمْرًا، وَلَكِنَّهُ لَمْ يُعَيِّنْهُ لِئَلَّا يَحْزَنَ ذَاكَ، وَلِهَذَا أَبْهَمَهُ فِي قَوْلِهِ وَأَمَّا الْآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ وَهُوَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ الَّذِي رَأَى أَنَّهُ يَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِهِ خُبْزًا، ثُمَّ أَعْلَمَهُمَا أَنَّ هَذَا قَدْ فُرِغَ مِنْهُ، وَهُوَ وَاقِعٌ لَا مَحَالَةَ، لِأَنَّ الرُّؤْيَا عَلَى رِجْلِ طَائِرٍ مَا لَمْ تُعَبَّرْ فَإِذَا عُبِّرَتْ وَقَعَتْ، وَقَالَ الثَّوْرِيُّ: عَنْ عُمَارَةَ بْنِ الْقَعْقَاعِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: لَمَّا قَالَا مَا قَالَا وَأَخْبَرَهُمَا، قَالَا: مَا رَأَيْنَا شَيْئًا، فَقَالَ: قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيانِ «٢».
وَرَوَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ فُضَيْلٍ عَنْ عُمَارَةَ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عَلْقَمَةَ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ بِهِ، وَكَذَا فَسَّرَهَ مُجَاهِدٌ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ وَغَيْرُهُمْ، وَحَاصِلُهُ أَنَّ مَنْ تَحَلَّمَ بِبَاطِلٍ، وَفَسَّرَهُ فإنه يلزم بتأويله، والله تعالى أعلم، وقد ورد في الحديث الشريف الَّذِي رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ حَيْدَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «الرُّؤْيَا عَلَى رِجْلِ طَائِرٍ مَا لَمْ تُعَبَّرْ، فَإِذَا عُبِّرَتْ وَقَعَتْ» وَفِي مُسْنَدِ أَبِي يَعْلَى مِنْ طَرِيقِ يَزِيدَ الرَّقَاشِيِّ، عَنْ أَنَسٍ مَرْفُوعًا «الرؤيا لأول عابر».
(١) تفسير الطبري ٧/ ٢١٤، ٢١٥.
(٢) تفسير الطبري ٧/ ٢١٩.

[سورة يوسف (١٢) : آية ٤٢]

وَقالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ ناجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ فَأَنْساهُ الشَّيْطانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ (٤٢)
ولما ظن يوسف عليه السلام أن الساقي ناج، قَالَ لَهُ يُوسُفُ خُفْيَةً عَنِ الْآخَرِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ- لِئَلَّا يُشْعِرَهُ أَنَّهُ الْمَصْلُوبُ- قَالَ لَهُ اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ يَقُولُ: اذْكُرْ قِصَّتِي عِنْدَ رَبِّكَ، وَهُوَ الْمَلِكُ، فَنَسِيَ ذَلِكَ الْمُوصَى أَنْ يذكر مولاه الملك بِذَلِكَ، وَكَانَ مِنْ جُمْلَةِ مَكَايِدِ الشَّيْطَانِ لِئَلَّا يَطْلَعَ نَبِيُّ اللَّهِ مِنَ السِّجْنِ، هَذَا هُوَ الصَّوَابُ أَنَّ الضَّمِيرَ فِي قَوْلِهِ فَأَنْساهُ الشَّيْطانُ ذِكْرَ رَبِّهِ عائد على الناجي، كما قاله مُجَاهِدٌ وَمُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ وَغَيْرُ وَاحِدٍ. وَيُقَالُ: إِنَّ الضَّمِيرَ عَائِدٌ عَلَى يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٍ أَيْضًا وَعِكْرِمَةَ وَغَيْرِهِمْ.
وَأَسْنَدَ ابْنُ جَرِيرٍ «١» هَاهُنَا حَدِيثًا فَقَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ، حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ مُحَمَّدٍ عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ يَزِيدَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عباس مرفوعا، قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَوْ لَمْ يَقُلْ- يَعْنِي يُوسُفَ- الْكَلِمَةَ الَّتِي قَالَ، مَا لَبِثَ فِي السِّجْنِ طُولَ مَا لَبِثَ حَيْثُ يَبْتَغِي الْفَرَجَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ»، وَهَذَا الْحَدِيثُ ضَعِيفٌ جِدًّا، لِأَنَّ سُفْيَانَ بْنَ وَكِيعٍ ضَعِيفٌ، وَإِبْرَاهِيمُ بْنُ يَزِيدَ هُوَ الخُوزِيُّ أَضْعَفُ مِنْهُ أَيْضًا. وَقَدْ رُوِيَ عَنِ الْحَسَنِ وَقَتَادَةَ مُرْسَلًا عَنْ كُلٍّ مِنْهُمَا، وَهَذِهِ الْمُرْسَلَاتُ هَاهُنَا لَا تُقْبَلُ لَوْ قُبِلَ الْمُرْسَلُ مِنْ حَيْثُ هُوَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْطِنِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَأَمَّا الْبِضْعُ فَقَالَ مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ: هُوَ مَا بَيْنَ الثَّلَاثِ إِلَى التِّسْعِ. وَقَالَ وَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ: مَكَثَ أَيُّوبُ فِي الْبَلَاءِ سبعا، ويوسف في السجن سبعا، وعذب بُخْتُنَصَّرَ سَبْعًا، وَقَالَ الضَّحَّاكُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ قَالَ: ثِنْتَا عَشْرَةَ سَنَةً. وَقَالَ الضَّحَّاكُ:
أربع عشرة سنة.
[سورة يوسف (١٢) : الآيات ٤٣ الى ٤٩]
وَقالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرى سَبْعَ بَقَراتٍ سِمانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يابِساتٍ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُءْيايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّءْيا تَعْبُرُونَ (٤٣) قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ وَما نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلامِ بِعالِمِينَ (٤٤) وَقالَ الَّذِي نَجا مِنْهُما وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ (٤٥) يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنا فِي سَبْعِ بَقَراتٍ سِمانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يابِساتٍ لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ (٤٦) قالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَباً فَما حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّا تَأْكُلُونَ (٤٧)
ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ سَبْعٌ شِدادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّا تُحْصِنُونَ (٤٨) ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عامٌ فِيهِ يُغاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ (٤٩)
هَذِهِ الرُّؤْيَا مِنْ مَلِكِ مِصْرَ مِمَّا قَدَّرَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهَا كَانَتْ سَبَبًا لِخُرُوجِ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنَ السِّجْنِ، مُعَزَّزًا مُكَرَّمًا، وَذَلِكَ أَنَّ الْمَلِكَ رَأَى هَذِهِ الرُّؤْيَا، فَهَالَتْهُ وَتَعَجَّبَ مَنْ أَمْرِهَا وما يكون
(١) تفسير الطبري ٧/ ٢٢١.
335
تفسيرها، فجمع الكهنة والحزاة «١» وكبار دولته وأمراءه فقص عَلَيْهِمْ مَا رَأَى وَسَأَلَهُمْ عَنْ تَأْوِيلِهَا، فَلَمْ يعرفوا ذلك، واعتذروا إليه بأنها أَضْغاثُ أَحْلامٍ أي أخلاط أحلام اقتضته رُؤْيَاكَ هَذِهِ وَما نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلامِ بِعالِمِينَ أي لو كَانَتْ رُؤْيَا صَحِيحَةً مِنْ أَخْلَاطٍ لَمَا كَانَ لَنَا مَعْرِفَةً بِتَأْوِيلِهَا، وَهُوَ تَعْبِيرُهَا، فَعِنْدَ ذَلِكَ تذكر الَّذِي نَجَا مِنْ ذَيْنِكَ الْفَتَيَيْنِ اللَّذَيْنِ كَانَا فِي السِّجْنِ مَعَ يُوسُفَ، وَكَانَ الشَّيْطَانُ قَدْ أَنْسَاهُ مَا وَصَّاهُ بِهِ يُوسُفُ مِنْ ذِكْرِ أَمْرِهِ لِلْمَلِكِ، فَعِنْدَ ذَلِكَ تَذَكَّرَ بَعْدَ أُمَّةٍ، أَيْ مُدَّةٍ، وَقَرَأَ بَعْضُهُمْ بَعْدَ أَمِةٍ أَيْ بعد نسيان، فقال لهم، أي لِلْمَلِكِ وَالَّذِينَ جَمَعَهُمْ لِذَلِكَ.
أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ أَيْ بِتَأْوِيلِ هَذَا الْمَنَامِ، فَأَرْسِلُونِ أَيْ فَابْعَثُونِ إِلَى يُوسُفَ الصِّدِّيقِ إِلَى السِّجْنِ، وَمَعْنَى الْكَلَامِ فبعثوه فجاءه، فَقَالَ: يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنا وَذَكَرَ الْمَنَامَ الَّذِي رَآهُ الْمَلِكُ، فَعِنْدَ ذَلِكَ ذَكَرَ لَهُ يُوسُفُ عَلَيْهِ السَّلَامُ تَعْبِيرَهَا مِنْ غَيْرِ تَعْنِيفٍ للفتى فِي نِسْيَانِهِ مَا وَصَّاهُ بِهِ، وَمِنْ غَيْرِ اشْتِرَاطٍ لِلْخُرُوجِ قَبْلَ ذَلِكَ، بَلْ قَالَ: تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَباً أَيْ يَأْتِيكُمُ الْخِصْبُ وَالْمَطَرُ سَبْعَ سِنِينَ مُتَوَالِيَاتٍ فَفَسَّرَ الْبَقَرَ بِالسِّنِينَ لِأَنَّهَا تُثِيرُ الْأَرْضَ الَّتِي تُسْتَغَلُّ مِنْهَا الثَّمَرَاتُ وَالزُّرُوعُ، وَهُنَّ السُّنْبُلَاتُ الْخُضْرُ.
ثُمَّ أَرْشَدَهُمْ إِلَى مَا يعتدونه فِي تِلْكَ السِّنِينَ، فَقَالَ فَما حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تَأْكُلُونَ أَيْ مَهْمَا اسْتَغْلَلْتُمْ فِي هَذِهِ السَّبْعِ السِّنِينَ الْخِصْبَ، فادخروه فِي سُنْبُلِهِ لِيَكُونَ أَبْقَى لَهُ وَأَبْعَدَ عَنْ إِسْرَاعِ الْفَسَادِ إِلَيْهِ إِلَّا الْمِقْدَارَ الَّذِي تَأْكُلُونَهُ، وَلْيَكُنْ قَلِيلًا قَلِيلًا، لَا تُسْرِفُوا فِيهِ لِتَنْتَفِعُوا فِي السَّبْعِ الشِّدَادِ، وَهُنَّ السَّبْعُ السِّنِينَ المُحْلُ التي تعقب هذه السبع المتواليات، وهن البقرات العجاف اللاتي تأكل السِّمَانَ، لِأَنَّ سِنِيَّ الْجَدْبِ يُؤْكَلُ فِيهَا مَا جَمَعُوهُ فِي سِنِيِّ الْخِصْبِ، وَهُنَّ السُّنْبُلَاتُ الْيَابِسَاتُ، وَأَخْبَرَهُمْ أَنَّهُنَّ لَا يُنْبِتْنَ شَيْئًا، وَمَا بَذَرُوهُ فَلَا يَرْجِعُونَ مِنْهُ إِلَى شَيْءٍ، وَلِهَذَا قَالَ: يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تُحْصِنُونَ.
ثم بشرهم بعد الجدب الْعَامِ الْمُتَوَالِي بِأَنَّهُ يَعْقُبُهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ عامٌ فِيهِ يُغاثُ النَّاسُ، أَيْ يَأْتِيهِمُ الْغَيْثُ وَهُوَ الْمَطَرُ وَتُغَلُّ الْبِلَادُ، وَيَعْصِرُ النَّاسُ مَا كَانُوا يَعْصِرُونَ عَلَى عَادَتِهِمْ مِنْ زَيْتٍ وَنَحْوِهُ، وَسُكَّرٍ وَنَحْوِهُ، حَتَّى قَالَ بَعْضُهُمْ: يَدْخُلُ فِيهِ حَلْبُ اللَّبَنِ أَيْضًا. قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عباس وَفِيهِ يَعْصِرُونَ يحلبون «٢».
(١) حزا حزوا وتحزّى تحزوّا: زجر وتكهّن، والحزاة، جمع حاز هو المتكهن، يحرز الأشياء ويقدرها بظنه.
(٢) انظر تفسير الطبري ٧/ ٢٣١.
336

[سورة يوسف (١٢) : الآيات ٥٠ الى ٥٣]

وَقالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جاءَهُ الرَّسُولُ قالَ ارْجِعْ إِلى رَبِّكَ فَسْئَلْهُ مَا بالُ النِّسْوَةِ اللاَّتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ (٥٠) قالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ راوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ قُلْنَ حاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ قالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (٥١) ذلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخائِنِينَ (٥٢) وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (٥٣)
يَقُولُ تَعَالَى إِخْبَارًا عَنِ الْمَلِكِ لَمَّا رَجَعُوا إِلَيْهِ بِتَعْبِيرِ رُؤْيَاهُ الَّتِي كان رآها بما أعجبه وأيقنه، فَعَرَفَ فَضْلَ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَعِلْمَهُ وَحُسْنَ اطِّلَاعِهِ عَلَى رُؤْيَاهُ، وَحُسْنَ أَخْلَاقِهِ عَلَى مَنْ بِبَلَدِهِ مِنْ رَعَايَاهُ، فَقَالَ: ائْتُونِي بِهِ أَيْ أَخْرِجُوهُ مِنَ السِّجْنِ وَأَحْضَرُوهُ، فَلَمَّا جَاءَهُ الرَّسُولُ بِذَلِكَ امْتَنَعَ مِنَ الْخُرُوجِ حَتَّى يَتَحَقَّقَ الْمَلِكُ وَرَعَيَّتُهُ بَرَاءَةَ سَاحَتِهِ وَنَزَاهَةَ عِرْضِهِ مِمَّا نُسِبَ إِلَيْهِ مِنْ جِهَةِ امْرَأَةِ الْعَزِيزِ، وَأَنَّ هَذَا السِّجْنَ لَمْ يَكُنْ عَلَى أَمْرٍ يَقْتَضِيهِ، بَلْ كان ظلما وعدوانا، فقال:
ارْجِعْ إِلى رَبِّكَ الآية.
وَقَدْ وَرَدَتِ السَّنَةُ بِمَدْحِهِ عَلَى ذَلِكَ وَالتَّنْبِيهِ عَلَى فَضْلِهِ وَشَرَفِهِ وَعُلُوِّ قَدْرِهِ وَصَبْرِهِ، صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ، فَفِي الْمُسْنَدِ وَالصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَعِيدٍ وَأَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «نَحْنُ أَحَقُّ بِالشَّكِّ مِنْ إِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى الآية، ويرحم الله لوطا كَانَ يَأْوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ، وَلَوْ لَبِثْتُ فِي السِّجْنِ مَا لَبِثَ يُوسُفُ لَأَجَبْتُ الدَّاعِيَ» ».
وفي لفظ لأحمد «٢» : حَدَّثَنَا عَفَّانُ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم في قوله: فَسْئَلْهُ مَا بالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَوْ كُنْتُ أَنَا، لَأَسْرَعْتُ الْإِجَابَةَ وَمَا ابْتَغَيْتُ الْعُذْرَ».
وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ: أَخْبَرَنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَقَدْ عَجِبْتُ مِنْ يُوسُفَ وَصَبْرِهِ وَكَرَمِهِ وَاللَّهُ يَغْفِرُ لَهُ حِينَ سُئِلَ عَنِ الْبَقَرَاتِ الْعِجَافِ وَالسِّمَانِ، وَلَوْ كُنْتُ مَكَانَهُ مَا أَجَبْتُهُمْ حَتَّى أَشْتَرِطَ أَنْ يُخْرِجُونِي، وَلَقَدْ عَجِبْتُ مِنْ يُوسُفَ وَصَبْرِهِ وَكَرَمِهِ، وَاللَّهُ يَغْفِرُ لَهُ حِينَ أَتَاهُ الرَّسُولُ، وَلَوْ كُنْتُ مَكَانَهُ لَبَادَرْتُهُمُ الْبَابَ، وَلَكِنَّهُ أَرَادَ أَنْ يَكُونَ لَهُ الْعُذْرُ»، هَذَا حَدِيثٌ مُرْسَلٌ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: قالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ راوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ إِخْبَارٌ عَنِ الْمَلِكِ حِينَ جَمَعَ النِّسْوَةَ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ عِنْدَ امْرَأَةِ الْعَزِيزِ، فَقَالَ مُخَاطِبًا لَهُنَّ كُلَّهُنَّ وَهُوَ يُرِيدُ امْرَأَةَ وَزِيرِهِ، وَهُوَ العزيز، قال الملك للنسوة اللاتي قطعن أيديهن مَا خَطْبُكُنَّ أَيْ شَأْنُكُنَّ وَخَبَرُكُنَّ إِذْ راوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ يَعْنِي يَوْمَ الضِّيَافَةِ، قُلْنَ حاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ أي قالت لنسوة جَوَابًا لِلْمَلِكِ: حَاشَ لِلَّهِ أَنْ يَكُونَ يُوسُفَ مُتَّهَمَا، وَاللَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ، فعند ذلك
(١) أخرجه البخاري في تفسير سورة ١٢، باب ٥، ومسلم في الإيمان حديث ٢٣٨.
(٢) المسند ٢/ ٣٤٧، ٣٨٩.
قالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ وَغَيْرُ وَاحِدٍ: تَقُولُ الْآنَ تَبَيَّنَ الْحَقُّ وَظَهَرَ وَبَرَزَ.
أَنَا راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ أَيْ فِي قَوْلِهِ: هِيَ راوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي ذلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ تَقُولُ: إِنَّمَا اعْتَرَفْتُ بِهَذَا على نفسي ليعلم زوجي أني لم أخنه بالغيب فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، وَلَا وَقَعَ الْمَحْذُورُ الْأَكْبَرُ، وَإِنَّمَا رَاوَدْتُ هَذَا الشَّابَّ مُرَاوَدَةً فَامْتَنَعَ، فَلِهَذَا اعْتَرَفْتُ لِيَعْلَمَ أَنِّي بَرِيئَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخائِنِينَ وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي تَقُولُ الْمَرْأَةُ:
وَلَسْتُ أُبَرِّئُ نَفْسِي، فَإِنَّ النَّفْسَ تَتَحَدَّثُ وتتمنى، ولهذا راودته لأن النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي أَيْ إِلَّا مَنْ عَصَمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ الْأَشْهَرُ وَالْأَلْيَقُ وَالْأَنْسَبُ بِسِيَاقِ الْقِصَّةِ وَمَعَانِي الْكَلَامِ.
وَقَدْ حَكَاهُ الْمَاوَرْدِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ، وَانْتَدَبَ لِنَصْرِهِ الْإِمَامُ أبو العباس بن تَيْمِيَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ، فَأَفْرَدَهُ بِتَصْنِيفٍ عَلَى حِدَةٍ، وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ ذَلِكَ مِنْ كَلَامِ يُوسُفَ عليه السلام يقول: ذلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ فِي زَوْجَتِهِ بِالْغَيْبِ الْآيَتَيْنِ، أَيْ إِنَّمَا رَدَدْتُ الرَّسُولَ لِيَعْلَمَ الْمَلِكُ بَرَاءَتِي، وَلِيَعْلَمَ الْعَزِيزُ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ فِي زَوْجَتِهِ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخائِنِينَ الْآيَةَ، وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ الَّذِي لَمَّ يَحْكِ ابْنُ جَرِيرٍ وَلَا ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ سِوَاهُ.
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ «١» : حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، حَدَّثَنَا وَكِيعٌ عَنْ إِسْرَائِيلُ، عَنْ سِمَاكٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَمَّا جَمَعَ الْمَلِكُ النِّسْوَةَ فَسَأَلَهُنَّ: هَلْ رَاوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ؟ قُلْنَ حاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ قالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ الآية، قَالَ يُوسُفُ ذلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ فقال جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: وَلَا يَوْمَ هَمَمْتَ بِمَا هممت به؟
فقال وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي الآية، وَهَكَذَا قَالَ مُجَاهِدٌ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَعِكْرِمَةُ وَابْنُ أَبِي الهُذَيْلِ وَالضَّحَّاكُ وَالْحَسَنُ وَقَتَادَةُ وَالسُّدِّيُّ، وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَقْوَى وَأُظْهِرُ، لِأَنَّ سِيَاقَ الْكَلَامِ كُلِّهِ مِنْ كَلَامِ امْرَأَةِ الْعَزِيزِ بِحَضْرَةِ الْمَلِكِ، وَلَمْ يَكُنْ يُوسُفُ عَلَيْهِ السَّلَامُ عِنْدَهُمْ، بَلْ بعد ذلك أحضره الملك.
[سورة يوسف (١٢) : الآيات ٥٤ الى ٥٥]
وَقالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنا مَكِينٌ أَمِينٌ (٥٤) قالَ اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ (٥٥)
يَقُولُ تَعَالَى إِخْبَارًا عَنِ الْمَلِكِ حِينَ تَحَقَقَ بَرَاءَةَ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَنَزَاهَةَ عِرْضِهِ مِمَّا نُسِبَ إِلَيْهِ، قَالَ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي أَيْ أَجْعَلُهُ مِنْ خَاصَّتِي وَأَهْلِ مَشُورَتِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ أَيْ خَاطَبَهُ الْمَلِكُ، وَعَرَفَهُ، وَرَأَى فَضْلَهُ وَبَرَاعَتَهُ، وَعَلِمَ مَا هُوَ عَلَيْهِ مِنْ خَلْقٍ وَخُلُقٍ وَكَمَالٍ، قَالَ لَهُ الْمَلِكُ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنا مَكِينٌ أَمِينٌ أَيْ إِنَّكَ عِنْدَنَا قد بقيت ذا مكانة وأمانة، فقال
(١) تفسير الطبري ٧/ ٢٣٧.
يُوسُفُ عَلَيْهِ السَّلَامُ اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ مَدَحَ نَفْسَهُ، وَيَجُوزُ لِلرَّجُلِ ذَلِكَ إِذَا جُهِلَ أَمْرُهُ لِلْحَاجَةِ، وَذَكَرَ أَنَّهُ حَفِيظٌ أَيْ خَازِنٌ أَمِينٌ، عَلِيمٌ ذُو عِلْمٍ وبصيرة بما يتولاه. وقال شَيْبَةُ بْنُ نَعَامَةَ: حَفِيظٌ لِمَا اسْتَوْدَعَتْنِي، عَلِيمٌ بِسِنِيِّ الْجَدْبِ، رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَسَأَلَ العمل لعلمه بقدرته عليه ولما فيه من المصالح للناس، وإنما سأله أن يجعله عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ، وَهِيَ الْأَهْرَامُ الَّتِي يُجْمَعُ فِيهَا الْغَلَّاتُ، لِمَا يَسْتَقْبِلُونَهُ مِنَ السِّنِينَ الَّتِي أخبرهم بشأنها، فيتصرف لَهُمْ عَلَى الْوَجْهِ الْأَحْوَطِ وَالْأَصْلَحِ وَالْأَرْشَدِ، فَأُجِيبَ إِلَى ذَلِكَ رَغْبَةً فِيهِ وَتَكْرِمَةً لَهُ وَلِهَذَا قال تعالى:
[سورة يوسف (١٢) : الآيات ٥٦ الى ٥٧]
وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْها حَيْثُ يَشاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنا مَنْ نَشاءُ وَلا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (٥٦) وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ (٥٧)
يَقُولُ تَعَالَى: وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ أَيْ أَرْضِ مِصْرَ، يَتَبَوَّأُ مِنْها حَيْثُ يَشاءُ قَالَ السُّدِّيُّ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ: يَتَصَرَّفُ فِيهَا كَيْفَ يَشَاءُ. وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ «١» : يَتَّخِذُ مِنْهَا مَنْزِلًا حَيْثُ يَشَاءُ بَعْدَ الضِّيقِ وَالْحَبْسِ وَالْإِسَارِ، نُصِيبُ بِرَحْمَتِنا مَنْ نَشاءُ وَلا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ أَيْ وَمَا أَضَعْنَا صَبْرَ يُوسُفَ عَلَى أَذَى إِخْوَتِهِ وَصَبْرَهُ عَلَى الْحَبْسِ بِسَبَبِ امْرَأَةِ الْعَزِيزِ، فلهذا أعقبه الله عز وجل السلام وَالنَّصْرَ وَالتَّأْيِيدَ، وَلا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ يُخْبِرُ تعالى أن ما ادخره الله تعالى لِنَبِيِّهِ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ أَعْظَمُ وَأَكْثَرُ وَأَجَلُّ مِمَّا خَوَّلَهُ مِنَ التَّصَرُّفِ والنفوذ في الدنيا، كقوله فِي حَقِّ سُلَيْمَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ هَذَا عَطاؤُنا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسابٍ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ [ص: ٣٩- ٤٠] وَالْغَرَضُ أَنَّ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَلَّاهُ مَلِكُ مِصْرَ الرَّيَّانُ بْنُ الْوَلِيدِ الْوَزَارَةَ فِي بِلَادِ مِصْرَ مَكَانَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْ مِصْرَ زَوْجِ الَّتِي رَاوَدَتْهُ، وَأَسْلَمَ الْمَلِكُ عَلَى يَدَيْ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، قَالَهُ مُجَاهِدٌ.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: لَمَّا قَالَ يُوسُفُ لِلْمَلِكِ: اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ [يوسف: ٥٥] قَالَ الْمَلِكُ: قَدْ فَعَلْتُ، فَوَلَّاهُ فِيمَا ذَكَرُوا عَمَلَ إِطْفِيرَ، وَعَزَلَ إِطْفِيرَ عَمَّا كَانَ عَلَيْهِ، يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْها حَيْثُ يَشاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنا مَنْ نَشاءُ وَلا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ قال: فَذُكِرَ لِي- وَاللَّهُ أَعْلَمُ- أَنَّ إِطْفِيرَ هَلَكَ فِي تِلْكَ اللَّيَالِي، وَأَنَّ الْمَلِكَ الرَّيَّانَ بْنَ الْوَلِيدِ زَوَّجَ يُوسُفَ امْرَأَةَ إِطْفِيرَ رَاعِيلَ، وَأَنَّهَا حين دخلت عليه قال لها: أَلَيْسَ هَذَا خَيْرًا مِمَّا كُنْتِ تُرِيدِينَ؟ قَالَ: فَيَزْعُمُونَ أَنَّهَا قَالَتْ: أَيُّهَا الصِّدِّيقُ لَا تَلُمْنِي، فَإِنِّي كُنْتُ امْرَأَةً كَمَا تَرَى حَسْنَاءَ جَمِيلَةً نَاعِمَةً فِي مُلْكٍ وَدُنْيَا، وَكَانَ صَاحِبِي لَا يَأْتِي النِّسَاءَ، وَكُنْتَ كَمَا جَعَلَكَ اللَّهُ فِي حُسْنِكَ وَهَيْئَتِكَ عَلَى مَا رَأَيْتَ، فَيَزْعُمُونَ أَنَّهُ وجدها عذراء،
(١) تفسير الطبري ٧/ ٢٤٢.
فَأَصَابَهَا، فَوَلَدَتْ لَهُ رَجُلَيْنِ: أَفْرَائِيمَ بْنَ يُوسُفَ، وَمِيشَا بْنَ يُوسُفَ، وَوُلِدَ لِأَفْرَائِيمَ نُونٌ وَالِدُ يُوشَعَ بْنِ نُونٍ، وَرَحْمَةَ امْرَأَةِ أَيُّوبَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَقَالَ الْفُضَيْلُ بْنُ عِيَاضٍ: وَقَفَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ عَلَى ظَهْرِ الطَّرِيقِ حَتَّى مَرَّ يُوسُفُ، فَقَالَتْ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي جَعَلَ الْعَبِيدَ مُلُوكًا بطاعته، والملوك عبيدا بمعصيته.
[سورة يوسف (١٢) : الآيات ٥٨ الى ٦٢]
وَجاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (٥٨) وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ قالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ أَلا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ (٥٩) فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلا تَقْرَبُونِ (٦٠) قالُوا سَنُراوِدُ عَنْهُ أَباهُ وَإِنَّا لَفاعِلُونَ (٦١) وَقالَ لِفِتْيانِهِ اجْعَلُوا بِضاعَتَهُمْ فِي رِحالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَها إِذَا انْقَلَبُوا إِلى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (٦٢)
ذَكَرَ السُّدِّيُّ وَمُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ وَغَيْرُهُمَا مِنَ الْمُفَسِّرِينَ أَنَّ السَّبَبَ الَّذِي أَقْدَمَ إِخْوَةَ يُوسُفَ بِلَادَ مِصْرَ، أَنَّ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا بَاشَرَ الْوَزَارَةَ بِمِصْرَ وَمَضَتِ السَّبْعُ السِّنِينَ الْمُخْصِبَةُ، ثم تلتها السبع السنين المجدبة، وَعَمَّ الْقَحْطُ بِلَادَ مِصْرَ بِكَمَالِهَا، وَوَصَلَ إِلَى بِلَادِ كَنْعَانَ وَهِيَ الَّتِي فِيهَا يَعْقُوبُ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَأَوْلَادُهُ، وَحِينَئِذٍ احْتَاطَ يُوسُفُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِلنَّاسِ فِي غَلَّاتِهِمْ، وَجَمَعَهَا أَحْسَنَ جَمْعٍ، فَحَصَلَ من ذلك مبلغ عظيم وهدايا مُتَعَدِّدَةٌ هَائِلَةٌ، وَوَرَدَ عَلَيْهِ النَّاسُ مِنْ سَائِرِ الْأَقَالِيمِ وَالْمُعَامَلَاتِ، يَمْتَارُونَ لِأَنْفُسِهِمْ وَعِيَالِهِمْ، فَكَانَ لَا يُعْطَى الرَّجُلُ أَكْثَرَ مِنْ حَمْلِ بِعِيرٍ فِي السَّنَةِ، وَكَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، لَا يُشْبِعُ نَفْسَهُ، وَلَا يَأْكُلُ هُوَ وَالْمَلِكُ وَجُنُودُهُمَا إِلَّا أَكْلَةً واحدة في وسط النهار، حتى يتكفا النَّاسُ بِمَا فِي أَيْدِيهِمْ مُدَّةَ السَّبْعِ سِنِينَ، وَكَانَ رَحْمَةً مِنَ اللَّهِ عَلَى أَهْلِ مِصْرَ.
وَمَا ذَكَرَهُ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ مِنْ أَنَّهُ بَاعَهُمْ فِي السَّنَةِ الْأَوْلَى بِالْأَمْوَالِ، وَفِي الثَّانِيَةِ بِالْمَتَاعِ، وَفِي الثَّالِثَةِ بِكَذَا، وَفِي الرَّابِعَةِ بِكَذَا، حَتَّى باعهم بأنفسهم وأولادهم بعد ما تَمَلَّكَ عَلَيْهِمْ جَمِيعَ مَا يَمْلِكُونَ، ثُمَّ أَعْتَقَهُمْ وَرَدَّ عَلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ كُلَّهَا، اللَّهُ أَعْلَمُ بِصِحَّةِ ذَلِكَ، وَهُوَ مِنَ الْإِسْرَائِيلِيَّاتِ الَّتِي لَا تُصَدَّقُ وَلَا تَكْذَّبُ، وَالْغَرَضُ أَنَّهُ كَانَ فِي جُمْلَةِ مِنْ وَرَدَ لِلْمِيرَةِ إِخْوَةُ يُوسُفَ عَنْ أَمْرِ أَبِيهِمْ لَهُمْ فِي ذَلِكَ، فَإِنَّهُ بَلَغَهُمْ أَنَّ عَزِيزَ مِصْرَ يُعْطِي النَّاسَ الطَّعَامَ بِثَمَنِهِ، فَأَخَذُوا مَعَهُمْ بِضَاعَةً يَعْتَاضُونَ بِهَا طَعَامًا، وَرَكِبُوا عَشَرَةُ نفر، واحتبس يعقوب عليه السلام عنده ابنه بنيامين شقيق يوسف عليه السَّلَامُ، وَكَانَ أَحَبَّ وَلَدِهِ إِلَيْهِ بَعْدَ يُوسُفَ.
فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ وَهُوَ جَالِسٌ فِي أبهته ورئاسته وَسِيَادَتِهِ، عَرَفَهُمْ حِينَ نَظَرَ إِلَيْهِمْ، وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ أَيْ لَا يَعْرِفُونَهُ، لِأَنَّهُمْ فَارَقُوهُ وَهُوَ صغير حدث، وباعوه لِلسَّيَّارَةِ وَلَمْ يَدْرُوا أَيْنَ يَذْهَبُونَ بِهِ، وَلَا كَانُوا يَسْتَشْعِرُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ أَنْ يَصِيرَ إِلَى مَا صَارَ إِلَيْهِ، فَلِهَذَا لَمْ يَعْرِفُوهُ، وَأَمَّا هُوَ فَعَرَفُهُمْ.
فَذَكَرَ السُّدِّيُّ وَغَيْرُهُ أَنَّهُ شَرَعَ يُخَاطِبُهُمْ، فَقَالَ لَهُمْ كَالْمُنْكِرِ عَلَيْهِمْ: مَا أَقْدَمُكُمْ بلادي؟
فقالوا: أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّا قَدِمْنَا لِلْمِيرَةِ، قَالَ: فَلَعَلَّكُمْ عُيُونٌ؟ قَالُوا: مَعَاذَ اللَّهِ. قَالَ: فَمَنْ أَيْنَ أَنْتُمْ؟ قَالُوا مِنْ بِلَادِ كَنْعَانَ، وَأَبُونَا يَعْقُوبُ نَبِيُّ اللَّهِ. قَالَ: وَلَهُ أَوْلَادٌ غَيْرُكُمْ؟ قَالُوا: نَعَمْ كُنَّا اثْنَى عَشَرَ، فَذَهَبَ أَصْغَرُنَا، هَلَكَ فِي الْبَرِّيَّةِ وَكَانَ أَحَبَّنَا إِلَى أَبِيهِ، وَبَقِيَ شَقِيقُهُ فَاحْتَبَسَهُ أَبُوهُ لِيَتَسَلَّى بِهِ عَنْهُ، فَأَمْرٌ بإنزالهم وإكرامهم.
وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ أي أوفى لهم كَيْلَهُمْ، وَحَمَّلَ لَهُمْ أَحْمَالَهُمْ، قَالَ: ائْتُونِي بِأَخِيكُمْ هَذَا الَّذِي ذَكَرْتُمْ لِأَعْلَمَ صِدْقَكُمْ فِيمَا ذَكَرْتُمْ أَلا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ رغبهم فِي الرُّجُوعِ إِلَيْهِ، ثُمَّ رَهَّبَهُمْ فَقَالَ: فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي الآية، أَيْ إِنْ لَمْ تَقْدَمُوا بِهِ مَعَكُمْ فِي الْمَرَّةِ الثَّانِيَةِ فَلَيْسَ لَكُمْ عِنْدِي مِيرَةٌ، وَلا تَقْرَبُونِ قالُوا سَنُراوِدُ عَنْهُ أَباهُ وَإِنَّا لَفاعِلُونَ أَيْ سَنَحْرِصُ عَلَى مَجِيئِهِ إِلَيْكَ بِكُلِّ مُمْكِنٍ، وَلَا نُبْقِي مَجْهُودًا لِتَعْلَمَ صِدْقَنَا فِيمَا قُلْنَاهُ، وَذَكَرَ السُّدِّيُّ أَنَّهُ أَخَذَ مِنْهُمْ رَهَائِنَ حَتَّى يَقْدُمُوا بِهِ مَعَهُمْ، وَفِي هَذَا نَظَرٌ لِأَنَّهُ أَحْسَنَ إِلَيْهِمْ وَرَغَّبَهُمْ كَثِيرًا، وَهَذَا لِحِرْصِهِ عَلَى رُجُوعِهِمْ.
وَقالَ لِفِتْيانِهِ أَيْ غِلْمَانِهِ اجْعَلُوا بِضاعَتَهُمْ أي الَّتِي قَدِمُوا بِهَا لِيَمْتَارُوا عِوَضًا عَنْهَا فِي رِحالِهِمْ أَيْ فِي أَمْتِعَتِهِمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ، لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ بِهَا، قِيلَ: خَشِيَ يُوسُفُ عليه السلام أن لا يَكُونَ عِنْدَهُمْ بِضَاعَةٌ أُخْرَى يَرْجِعُونَ لِلْمِيرَةِ بِهَا. وَقِيلَ: تَذَمَّمَ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ أَبِيهِ وَإِخْوَتِهِ عِوَضًا عَنِ الطَّعَامِ، وَقِيلَ أَرَادَ أَنْ يَرُدَّهُمْ إِذَا وَجَدُوهَا فِي مَتَاعِهِمْ تَحَرُّجًا وَتَوَرُّعًا، لِأَنَّهُ يعلم ذلك منهم والله أعلم.
[سورة يوسف (١٢) : الآيات ٦٣ الى ٦٤]
فَلَمَّا رَجَعُوا إِلى أَبِيهِمْ قالُوا يَا أَبانا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ فَأَرْسِلْ مَعَنا أَخانا نَكْتَلْ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ (٦٣) قالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلاَّ كَما أَمِنْتُكُمْ عَلى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ فَاللَّهُ خَيْرٌ حافِظاً وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (٦٤)
يقول الله تَعَالَى عَنْهُمْ: إِنَّهُمْ رَجَعُوا إِلَى أَبِيهِمْ قالُوا يَا أَبانا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ يَعْنُونَ بَعْدَ هَذِهِ الْمَرَّةِ، إِنْ لَمْ تُرْسِلْ مَعَنَا أَخَانَا بنيامين لا نكتل، فأرسله معنا نكتل، وإنا له لحافظون، قرأ بعضهم بِالْيَاءِ أَيْ يَكْتَلُ هُوَ، وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ أَيْ لَا تَخَفْ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ سَيَرْجِعُ إِلَيْكَ، وَهَذَا كَمَا قَالُوا لَهُ فِي يُوسُفَ أَرْسِلْهُ مَعَنا غَداً يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ وَلِهَذَا قَالَ لَهُمْ: هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلَّا كَما أَمِنْتُكُمْ عَلى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ أَيْ هَلْ أَنْتُمْ صَانِعُونَ بِهِ إِلَّا كَمَا صَنَعْتُمْ بِأَخِيهِ مِنْ قَبْلُ، تُغَيِّبُونَهُ عَنِّي، وَتَحُولُونَ بَيْنِي وبينه؟ فَاللَّهُ خَيْرٌ حافِظاً وقرأ بعضهم حفظا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ أَيْ هُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ بِي، وَسَيَرْحَمُ كِبَرِي وَضَعْفِي وَوَجْدِي بِوَلَدِي، وَأَرْجُو مِنَ اللَّهِ أَنْ يَرُدَّهُ عَلَيَّ وَيَجْمَعَ شَمْلِي به، إنه أرحم الراحمين.

[سورة يوسف (١٢) : الآيات ٦٥ الى ٦٦]

وَلَمَّا فَتَحُوا مَتاعَهُمْ وَجَدُوا بِضاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ قالُوا يَا أَبانا مَا نَبْغِي هذِهِ بِضاعَتُنا رُدَّتْ إِلَيْنا وَنَمِيرُ أَهْلَنا وَنَحْفَظُ أَخانا وَنَزْدادُ كَيْلَ بَعِيرٍ ذلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ (٦٥) قالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقاً مِنَ اللَّهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلاَّ أَنْ يُحاطَ بِكُمْ فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قالَ اللَّهُ عَلى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ (٦٦)
يَقُولُ تَعَالَى: وَلَمَّا فَتَحَ إِخْوَةُ يُوسُفَ مَتَاعَهُمْ، وَجَدُوا بِضَاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ، وَهِيَ الَّتِي كَانَ أَمَرَ يُوسُفُ فِتْيَانَهُ بِوَضْعِهَا فِي رِحَالِهِمْ، فَلَمَّا وَجَدُوهَا فِي مَتَاعِهِمْ قالُوا يَا أَبانا مَا نَبْغِي أَيْ مَاذَا نُرِيدُ هذِهِ بِضاعَتُنا رُدَّتْ إِلَيْنا، كَمَا قَالَ قَتَادَةُ: مَا نَبْغِي وَرَاءَ هَذَا، إِنَّ بِضَاعَتَنَا رُدَّتْ إِلَيْنَا، وَقَدْ أُوفِيَ لَنَا الْكَيْلُ «١»، وَنَمِيرُ أَهْلَنا أَيْ إِذَا أَرْسَلْتَ أَخَانَا مَعَنَا نَأْتِي بِالْمِيرَةِ إِلَى أَهْلِنَا، وَنَحْفَظُ أَخانا وَنَزْدادُ كَيْلَ بَعِيرٍ وَذَلِكَ أَنَّ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ يُعْطِي كُلَّ رَجُلٍ حِمْلَ بَعِيرٍ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: حِمْلَ حِمَارٍ، وَقَدْ يُسَمَّى فِي بَعْضِ اللُّغَاتِ بَعِيرًا، كَذَا قَالَ «٢».
ذلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ هَذَا مِنْ تَمَامِ الْكَلَامِ وَتَحْسِينِهِ، أَيْ إِنَّ هَذَا يَسِيرٌ فِي مُقَابَلَةِ أَخْذِ أَخِيهِمْ مَا يَعْدِلُ هَذَا قالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقاً مِنَ اللَّهِ أَيْ تَحْلِفُونَ بِالْعُهُودِ وَالْمَوَاثِيقِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلَّا أَنْ يُحاطَ بِكُمْ إِلَّا أَنْ تُغْلَبُوا كُلُّكُمْ وَلَا تَقْدِرُونَ عَلَى تَخْلِيصِهِ فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ أَكَّدَهُ عَلَيْهِمْ، فَقَالَ: اللَّهُ عَلى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ، قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَإِنَّمَا فَعَلَ ذَلِكَ لِأَنَّهُ لَمْ يَجِدْ بُدًّا مَنْ بَعْثِهِمْ لِأَجْلِ الْمِيرَةِ الَّتِي لَا غِنَى لَهُمْ عَنْهَا، فَبَعَثَهُ معهم.
[سورة يوسف (١٢) : الآيات ٦٧ الى ٦٨]
وَقالَ يا بَنِيَّ لَا تَدْخُلُوا مِنْ بابٍ واحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَما أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (٦٧) وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ مَا كانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ حاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضاها وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِما عَلَّمْناهُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (٦٨)
يَقُولُ تَعَالَى إِخْبَارًا عَنْ يَعْقُوبَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، إِنَّهُ أَمَرَ بَنِيهِ لَمَّا جَهَّزَهُمْ مَعَ أَخِيهِمْ بِنْيَامِينَ إلى مصر أن لا يُدْخِلُوا كُلُّهُمْ مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ، وَلِيَدْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ، فَإِنَّهُ كَمَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ وَمُجَاهِدٌ وَالضَّحَّاكُ وَقَتَادَةُ والسُّدِّيُّ وغير واحد إِنَّهُ خَشِيَ عَلَيْهِمُ الْعَيْنَ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ كَانُوا ذَوِي جَمَالٍ وَهَيْئَةٍ حَسَنَةٍ، وَمَنْظَرٍ وَبَهَاءٍ، فَخَشِيَ عَلَيْهِمْ أَنْ يُصِيبَهُمُ النَّاسُ بِعُيُونِهِمْ، فَإِنَّ الْعَيْنَ حَقٌّ تَسْتَنْزِلُ الْفَارِسَ عَنْ فَرَسِهِ «٣».
وَرَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ إِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ فِي قَوْلِهِ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوابٍ مُتَفَرِّقَةٍ قَالَ: عَلِمَ أَنَّهُ سيلقى إخوته في بعض تلك الْأَبْوَابِ. وَقَوْلِهِ وَما أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ أي إن هَذَا الِاحْتِرَازُ لَا يَرُدُّ قَدَرَ اللَّهِ وَقَضَاءَهُ، فَإِنَّ اللَّهَ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا لَا يُخَالَفُ وَلَا يُمَانَعُ، إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ مَا كانَ يُغْنِي عَنْهُمْ
(١) انظر تفسير الطبري ٧/ ٢٤٧. [.....]
(٢) انظر تفسير الطبري ٧/ ٢٤٧.
(٣) أخرج الحديث: «العين حق تستنزل الحالق» أحمد في المسند ١/ ٢٧٤، ٢٩٤.
مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا حاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضاها قَالُوا: هِيَ دَفْعُ إِصَابَةِ الْعَيْنِ لَهُمْ وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِما عَلَّمْناهُ قَالَ قَتَادَةُ وَالثَّوْرِيُّ: لَذُو عَمَلٍ بِعِلْمِهِ. وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ «١» : لَذُو عِلْمٍ لِتَعْلِيمِنَا إِيَّاهُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ.
[سورة يوسف (١٢) : آية ٦٩]
وَلَمَّا دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَخاهُ قالَ إِنِّي أَنَا أَخُوكَ فَلا تَبْتَئِسْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (٦٩)
يُخْبِرُ تَعَالَى عَنْ إِخْوَةِ يُوسُفَ لَمَّا قَدِمُوا عَلَى يُوسُفَ وَمَعَهُمْ أَخُوهُ شَقِيقُهُ بنيامين، وأدخلهم دَارَ كَرَامَتِهِ وَمَنْزِلَ ضِيَافَتِهِ، وَأَفَاضَ عَلَيْهِمُ الصِّلَةَ وَالْإِلْطَافَ وَالْإِحْسَانَ، وَاخْتَلَى بِأَخِيهِ فَأَطْلَعَهُ عَلَى شَأْنِهِ وَمَا جَرَى لَهُ، وَعَرَّفَهُ أَنَّهُ أَخُوهُ، وَقَالَ لَهُ: لَا تَبْتَئِسْ، أَيْ لَا تَأْسَفْ عَلَى مَا صَنَعُوا بِي، وَأَمَرَهُ بِكِتْمَانِ ذَلِكَ عَنْهُمْ، وأن لا يُطْلِعَهُمْ عَلَى مَا أَطْلَعَهُ عَلَيْهِ مِنْ أَنَّهُ أَخُوهُ، وَتَوَاطَأَ مَعَهُ أَنَّهُ سَيَحْتَالُ عَلَى أَنْ يبقيه عنده معززا مكرّما معظما.
[سورة يوسف (١٢) : الآيات ٧٠ الى ٧٢]
فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ جَعَلَ السِّقايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسارِقُونَ (٧٠) قالُوا وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ مَاذَا تَفْقِدُونَ (٧١) قالُوا نَفْقِدُ صُواعَ الْمَلِكِ وَلِمَنْ جاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ (٧٢)
لَمَّا جَهَّزَهُمْ وَحَمَّلَ لَهُمْ أَبْعِرَتَهُمْ طَعَامًا، أَمَرَ بَعْضَ فِتْيَانِهِ أَنْ يَضَعَ السِّقَايَةَ، وَهِيَ إِنَاءٌ مِنْ فِضَّةٍ فِي قول الأكثرين، وقيل: من ذهب، قال ابْنُ زَيْدٍ، كَانَ يَشْرَبُ فِيهِ، وَيَكِيلُ لِلنَّاسِ بِهِ مِنْ عِزَّةِ الطَّعَامِ إِذْ ذَاكَ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ وَالضَّحَّاكُ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدٍ.
وَقَالَ شُعْبَةَ عَنْ أَبِي بِشْرٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جبير، عن ابن عباس: صُوَاعَ الْمَلِكِ، قَالَ: كَانَ مِنْ فِضَّةٍ يَشْرَبُونَ فِيهِ، وَكَانَ مِثْلَ الْمَكُّوكِ «٢»، وَكَانَ لِلْعَبَّاسِ مِثْلُهُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَوَضَعَهَا فِي مَتَاعِ بِنْيَامِينَ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُ أَحَدٌ، ثُمَّ نَادَى مُنَادٍ بَيْنَهُمْ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسارِقُونَ فَالْتَفَتُوا إِلَى الْمُنَادِي وَقَالُوا مَاذَا تَفْقِدُونَ قالُوا نَفْقِدُ صُواعَ الْمَلِكِ أَيْ صَاعَهُ الَّذِي يَكِيلُ بِهِ وَلِمَنْ جاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَهَذَا مِنْ بَابِ الجُعَالِةِ «٣»، وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ وَهَذَا مِنْ بَابِ الضمان والكفالة.
[سورة يوسف (١٢) : الآيات ٧٣ الى ٧٦]
قالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ مَا جِئْنا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ وَما كُنَّا سارِقِينَ (٧٣) قالُوا فَما جَزاؤُهُ إِنْ كُنْتُمْ كاذِبِينَ (٧٤) قالُوا جَزاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزاؤُهُ كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (٧٥) فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعاءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَها مِنْ وِعاءِ أَخِيهِ كَذلِكَ كِدْنا لِيُوسُفَ مَا كانَ لِيَأْخُذَ أَخاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ (٧٦)
(١) تفسير الطبري ٧/ ٢٥٠.
(٢) المكوك: الصاع.
(٣) الجعالة: الأجر على الشيء.
لَمَّا اتَّهَمَهُمْ أُولَئِكَ الْفِتْيَانُ بِالسَّرِقَةِ، قَالَ لَهُمْ إِخْوَةُ يُوسُفَ تَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ مَا جِئْنا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ وَما كُنَّا سارِقِينَ أَيْ لَقَدْ تَحَقَّقْتُمْ وَعَلِمْتُمْ مُنْذُ عَرَفْتُمُونَا، لِأَنَّهُمْ شَاهَدُوا منهم سيرة حسنة أنا مَا جِئْنا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ وَما كُنَّا سارِقِينَ أَيْ لَيْسَتْ سَجَايَانَا تَقْتَضِي هَذِهِ الصِّفَةَ، فَقَالَ لَهُمُ الْفِتْيَانُ فَما جَزاؤُهُ أَيِ السَّارِقُ إِنْ كَانَ فِيكُمْ إِنْ كُنْتُمْ كاذِبِينَ أَيْ: أَيُّ شَيْءٍ يَكُونُ عُقُوبَتَهُ إِنْ وَجَدْنَا فِيكُمْ مِنْ أَخَذَهُ؟ قالُوا جَزاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزاؤُهُ كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ وَهَكَذَا كانت شريعة إبراهيم عليه السلام، أَنَّ السَّارِقَ يُدْفَعُ إِلَى الْمَسْرُوقِ مِنْهُ، وَهَذَا هُوَ الَّذِي أَرَادَ يُوسُفُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَلِهَذَا بَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَاءِ أَخِيهِ، أَيْ فَتَّشَهَا قَبْلَهُ تَوْرِيَةً، ثُمَّ اسْتَخْرَجَها مِنْ وِعاءِ أَخِيهِ فَأَخَذَهُ مِنْهُمْ بِحُكْمِ اعْتِرَافِهِمْ وَالْتِزَامِهِمْ، وَإِلْزَامًا لَهُمْ بِمَا يَعْتَقِدُونَهُ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: كَذلِكَ كِدْنا لِيُوسُفَ وَهَذَا مِنَ الْكَيْدِ الْمَحْبُوبِ الْمُرَادِ الَّذِي يُحِبُّهُ اللَّهُ وَيَرْضَاهُ، لِمَا فِيهِ مِنَ الْحِكْمَةِ وَالْمَصْلَحَةِ الْمَطْلُوبَةِ.
وَقَوْلُهُ: مَا كانَ لِيَأْخُذَ أَخاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ أَيْ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَخْذَهُ فِي حُكْمِ مَلِكِ مِصْرَ قَالَهُ الضَّحَّاكُ وَغَيْرُهُ، وَإِنَّمَا قَيَّضَ اللَّهُ لَهُ أَنِ الْتَزَمَ لَهُ إِخْوَتُهُ بِمَا الْتَزَمُوهُ، وَهُوَ كَانَ يَعْلَمُ ذلك من شريعتهم، ولهذا مدحه الله تَعَالَى فَقَالَ: نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ كَمَا قَالَ تَعَالَى: يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ [المجادلة: ١١] الآية.
وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: لَيْسَ عَالِمٌ إِلَّا فَوْقَهُ عَالِمٌ حَتَّى يَنْتَهِيَ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَكَذَا رَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، عَنْ عَبْدِ الْأَعْلَى الثَّعْلَبِيِّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، قَالَ: كما عند ابن عباس فحدث بِحَدِيثٍ عَجِيبٍ، فَتَعَجَّبُ رَجُلٌ فَقَالَ:
الْحَمْدُ لِلَّهِ فَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ، فَقَالَ ابْنُ عباس: بئس ما قلت: الله العليم فَوْقَ كُلِّ عَالِمٍ، وَكَذَا رَوَى سِمَاكٌ عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ قَالَ: يَكُونُ هَذَا أَعْلَمَ مِنْ هَذَا، وَهَذَا أَعْلَمَ مِنْ هَذَا، وَاللَّهُ فَوْقَ كُلِّ عَالِمٍ، وَهَكَذَا قَالَ عِكْرِمَةُ، وَقَالَ قَتَادَةُ:
وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ، حَتَّى يَنْتَهِيَ الْعِلْمُ إِلَى اللَّهِ، مِنْهُ بُدِئَ، وَتَعَلَّمَتِ الْعُلَمَاءُ، وَإِلَيْهِ يَعُودُ، وَفِي قِرَاءَةِ عَبْدِ اللَّهِ، وَفَوْقَ كل عالم عليم.
[سورة يوسف (١٢) : آية ٧٧]
قالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ فَأَسَرَّها يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِها لَهُمْ قالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكاناً وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما تَصِفُونَ (٧٧)
وَقَالَ إِخْوَةُ يُوسُفَ لَمَّا رَأَوُا الصُّوَاعَ قَدْ أُخْرِجَ مِنْ مَتَاعِ بِنْيَامِينَ إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ يَتَنَصَّلُونَ إِلَى الْعَزِيزِ مِنَ التَّشَبُّهِ بِهِ، وَيَذْكُرُونَ أَنَّ هَذَا فَعَلَ كَمَا فَعَلَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ، يَعْنُونَ بِهِ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ. قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، عَنْ قَتَادَةَ: كان يوسف عليه السلام قَدْ سَرَقَ صَنَمًا لِجَدِّهِ أَبِي أُمِّهِ فَكَسَرَهُ، وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، عَنْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَالَ:
كَانَ أَوَّلُ مَا دَخَلَ عَلَى يُوسُفَ مِنَ الْبَلَاءِ فِيمَا بَلَغَنِي أَنَّ عَمَّتَهُ ابْنَةَ إِسْحَاقَ، وَكَانَتْ أكبر ولد
إسحاق، وكانت عندها مِنْطَقَةُ «١» إِسْحَاقَ، وَكَانُوا يَتَوَارَثُونَهَا بِالْكِبَرِ، فَكَانَ مَنِ اخْتَبَاهَا مِمَّنْ وَلِيَهَا كَانَ لَهُ سَلَمًا لَا يُنَازَعُ فِيهِ، يَصْنَعُ فِيهِ مَا يَشَاءُ، وَكَانَ يَعْقُوبُ حِينَ وُلِدَ لَهُ يُوسُفُ قَدْ حَضَنَتْهُ عمته، وكان لها به وله، فلم تحب أحدا حُبَّهَا إِيَّاهُ حَتَّى إِذَا تَرَعْرَعَ وَبَلَغَ سَنَوَاتٍ، تاقت إليه نفس يعقوب عليه السلام، فَأَتَاهَا فَقَالَ: يَا أُخَيَّةُ سَلِّمِى إِلَيَّ يُوسُفَ، فو الله مَا أَقْدِرُ عَلَى أَنْ يَغِيبَ عَنِّي سَاعَةً. قالت: فو الله مَا أَنَا بِتَارِكَتِهِ، ثُمَّ قَالَتْ: فَدَعْهُ عِنْدِي أَيَّامًا أَنْظُرُ إِلَيْهِ، وَأَسْكُنُ عَنْهُ لَعَلَّ ذَلِكَ يُسَلِّينِي عَنْهُ، أَوْ كَمَا قَالَتْ فَلَمَّا خَرَجَ مِنْ عِنْدِهَا يَعْقُوبُ عَمَدَتْ إِلَى مِنْطَقَةِ إِسْحَاقَ فَحَزَمَتْهَا عَلَى يُوسُفَ مِنْ تَحْتِ ثِيَابِهِ، ثُمَّ قَالَتْ: فَقَدْتُ مِنْطَقَةَ إِسْحَاقَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَانْظُرُوا مَنْ أَخَذَهَا وَمَنْ أَصَابَهَا؟ فَالْتَمَسَتْ، ثُمَّ قَالَتْ: اكْشِفُوا أَهْلَ الْبَيْتِ فَكَشَفُوهُمْ، فَوَجَدُوهَا مَعَ يُوسُفَ، فَقَالَتْ: وَاللَّهِ إِنَّهُ لِي لَسَلَمٌ، أَصْنَعُ فِيهِ ما شئت، فأتاه يعقوب، فأخبرته الخبر، فقال لها: أنت وذلك، إِنْ كَانَ فَعَلَ ذَلِكَ فَهُوَ سَلَمٌ لَكِ، مَا أَسْتَطِيعُ غَيْرَ ذَلِكَ، فَأَمْسَكَتْهُ فَمَا قَدَرَ عَلَيْهِ يَعْقُوبُ حَتَّى مَاتَتْ «٢»، قَالَ: فَهُوَ الَّذِي يَقُولُ إِخْوَةُ يُوسُفَ حِينَ صُنِعَ بِأَخِيهِ مَا صَنَعَ حِينَ أَخَذَهُ إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ.
وَقَوْلُهُ: فَأَسَرَّها يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ يَعْنِي الْكَلِمَةَ الَّتِي بَعْدَهَا، وَهِيَ قَوْلُهُ: أَنْتُمْ شَرٌّ مَكاناً وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما تَصِفُونَ أَيْ تَذْكُرُونَ، قَالَ هَذَا فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهِ لَهُمْ، وَهَذَا مِنْ بَابِ الْإِضْمَارِ قبل الذكر، وهو كثير، كقول الشاعر: [البسيط]
جَزَى بَنُوهُ أَبَا الْغَيْلَانِ عَنِ كِبَرٍ وَحُسْنِ فِعْلٍ كَمَا يُجْزَى سِنِمَّارُ «٣»
وَلَهُ شَوَاهِدُ كَثِيرَةٌ فِي الْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ وَاللُّغَةِ فِي مَنْثُورِهَا وَأَخْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا. قَالَ الْعَوْفِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فَأَسَرَّها يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ، قَالَ: أَسَرَ فِي نَفْسِهِ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكاناً وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما تَصِفُونَ.
[سورة يوسف (١٢) : الآيات ٧٨ الى ٧٩]
قالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَباً شَيْخاً كَبِيراً فَخُذْ أَحَدَنا مَكانَهُ إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (٧٨) قالَ مَعاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلاَّ مَنْ وَجَدْنا مَتاعَنا عِنْدَهُ إِنَّا إِذاً لَظالِمُونَ (٧٩)
لَمَّا تَعَيَّنَ أَخْذُ بِنْيَامِينَ وَتَقَرَّرَ تَرْكُهُ عِنْدَ يُوسُفَ بِمُقْتَضَى اعْتِرَافِهِمْ، شَرَعُوا يَتَرَقَّقُونَ لَهُ وَيُعَطِّفُونَهُ عَلَيْهِمْ فَ قالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَباً شَيْخاً كَبِيراً يَعْنُونَ وَهُوَ يحبه حبا شديدا
(١) المنطقة: شقة تلبسها المرأة وتشد وسطها.
(٢) انظر تفسير الطبري ٧/ ٢٦٥.
(٣) البيت لسليط بن سعد في الأغاني ٢/ ١١٩، وخزانة ١/ ٢٩٣، ٢٩٤، والدرر ١/ ٢١٩، ومعجم ما استعجم ص ٥١٦، والمقاصد النحوية ٢/ ٤٩٥، وبلا نسبة في تخليص الشواهد ص ٤٨٩، وتذكرة النحاة ص ٣٦٤، وخزانة الأدب ١/ ٢٨٠، وشرح الأشموني ١/ ١٧٠، وشرح ابن عقيل ص ٢٥٢، وهمع الهوامع ١/ ٦٦.
وَيَتَسَلَّى بِهِ عَنْ وَلَدِهِ الَّذِي فَقَدَهُ فَخُذْ أَحَدَنا مَكانَهُ أَيْ بَدَلَهُ يَكُونُ عِنْدَكَ عِوَضًا عنه، إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ أي الْعَادِلِينَ الْمُنْصِفَيْنِ الْقَابِلَيْنِ لِلْخَيْرِ، قالَ مَعاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنا مَتاعَنا عِنْدَهُ أَيْ كَمَا قُلْتُمْ وَاعْتَرَفْتُمْ إِنَّا إِذاً لَظالِمُونَ أي إن أخذنا بريئا بسقيم.
[سورة يوسف (١٢) : الآيات ٨٠ الى ٨٢]
فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا قالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَباكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقاً مِنَ اللَّهِ وَمِنْ قَبْلُ مَا فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ (٨٠) ارْجِعُوا إِلى أَبِيكُمْ فَقُولُوا يَا أَبانا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَما شَهِدْنا إِلاَّ بِما عَلِمْنا وَما كُنَّا لِلْغَيْبِ حافِظِينَ (٨١) وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيها وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنا فِيها وَإِنَّا لَصادِقُونَ (٨٢)
يُخْبِرُ تَعَالَى عَنْ إِخْوَةِ يُوسُفَ أَنَّهُمْ لَمَّا يَئِسُوا مِنْ تَخْلِيصِ أَخِيهِمْ بِنْيَامِينَ الَّذِي قَدِ الْتَزَمُوا لِأَبِيهِمْ بِرَدِّهِ إِلَيْهِ، وَعَاهَدُوهُ عَلَى ذَلِكَ، فَامْتَنَعَ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ خَلَصُوا أَيِ انْفَرَدُوا عَنِ النَّاسِ نَجِيًّا يَتَنَاجَوْنَ فِيمَا بَيْنَهُمْ قالَ كَبِيرُهُمْ وَهُوَ رُوبِيلُ، وَقِيلَ: يَهُوذَا، وَهُوَ الَّذِي أَشَارَ عَلَيْهِمْ بِإِلْقَائِهِ فِي الْبِئْرِ عند ما هَمُّوا بِقَتْلِهِ، قَالَ لَهُمْ: أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَباكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقاً مِنَ اللَّهِ لَتَرُدُّنَّهُ إِلَيْهِ فَقَدْ رَأَيْتُمْ كَيْفَ تَعَذَّرَ عَلَيْكُمْ ذَلِكَ مَعَ مَا تَقَدَّمَ لَكُمْ مِنْ إِضَاعَةِ يُوسُفَ عَنْهُ فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ أَيْ لَنْ أُفَارِقَ هَذِهِ الْبَلْدَةَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي فِي الرُّجُوعِ إِلَيْهِ رَاضِيًا عَنِّي أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي قِيلَ: بِالسَّيْفِ، وَقِيلَ: بِأَنْ يُمَكِّنَنِي مِنْ أَخْذِ أَخِي وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ.
ثُمَّ أَمَرَهُمْ أَنْ يُخْبِرُوا أَبَاهُمْ بِصُورَةِ مَا وَقَعَ، حَتَّى يَكُونَ عُذْرًا لَهُمْ عِنْدَهُ، وَيَتَنَصَّلُوا إِلَيْهِ وَيَبْرَءُوا مِمَّا وَقَعَ بِقَوْلِهِمْ وَقَوْلُهُ: وَما كُنَّا لِلْغَيْبِ حافِظِينَ قال قتادة وعكرمة: ما علمنا أَنَّ ابْنَكَ سَرَقَ. وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ: مَا عَلِمْنَا فِي الْغَيْبِ أنه سرق لَهُ شَيْئًا، إِنَّمَا سَأَلَنَا مَا جَزَاءُ السَّارِقِ؟ وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيها: قِيلَ الْمُرَادُ مِصْرُ، قَالَهُ قَتَادَةُ، وَقِيلَ غَيْرُهَا، وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنا فِيها أَيِ الَّتِي رَافَقْنَاهَا، عَنْ صِدْقِنَا وَأَمَانَتِنَا وَحِفْظِنَا وَحِرَاسَتِنَا، وَإِنَّا لَصادِقُونَ فِيمَا أَخْبَرْنَاكَ بِهِ من أنه سرق وأخذوه بسرقته.
[سورة يوسف (١٢) : الآيات ٨٣ الى ٨٦]
قالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (٨٣) وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقالَ يَا أَسَفى عَلى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْناهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ (٨٤) قالُوا تَاللَّهِ تَفْتَؤُا تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضاً أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهالِكِينَ (٨٥) قالَ إِنَّما أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (٨٦)
قَالَ لَهُمْ كَمَا قَالَ لَهُمْ حِينَ جَاءُوا عَلَى قَمِيصِ يُوسُفَ بِدَمٍ كَذِبٍ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: لَمَّا جَاءُوا يعقوب وأخبروه بما جرى، اتهمهم فظن أَنَّهَا كَفَعْلَتِهِمْ بِيُوسُفَ، قَالَ: بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ «١» وقال بعض
(١) انظر تفسير الطبري ٧/ ٢٧٤.
346
النَّاسِ: لَمَّا كَانَ صَنِيعُهُمْ هَذَا مُرَتَّبًا عَلَى فِعْلِهِمُ الْأَوَّلِ، سُحِبَ حُكْمُ الْأَوَّلِ عَلَيْهِ، وَصَحَّ قَوْلُهُ:
بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ ثُمَّ تَرَجَّى مِنَ اللَّهِ أَنْ يَرُدَّ عَلَيْهِ أَوْلَادَهُ الثَّلَاثَةَ:
يُوسُفَ وَأَخَاهُ بِنْيَامِينَ وَرُوبِيلَ الَّذِي أَقَامَ بِدِيَارِ مِصْرَ يَنْتَظِرُ أَمْرَ اللَّهِ فِيهِ، إِمَّا أَنْ يَرْضَى عَنْهُ أَبُوهُ، فَيَأْمُرُهُ بِالرُّجُوعِ إِلَيْهِ، وَإِمَّا أَنْ يَأْخُذَ أَخَاهُ خُفْيَةً، وَلِهَذَا قَالَ: عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ أَيِ الْعَلِيمُ بِحَالِي، الْحَكِيمُ فِي أَفْعَالِهِ وَقَضَائِهِ وَقَدَرِهِ.
وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقالَ يَا أَسَفى عَلى يُوسُفَ أَيْ أَعْرَضَ عَنْ بَنِيهِ، وَقَالَ مُتَذَكِّرًا حُزْنَ يُوسُفَ الْقَدِيمَ الْأَوَّلَ يَا أَسَفى عَلى يُوسُفَ جَدَّدَ لَهُ حُزْنُ الِابْنَيْنِ الْحُزْنَ الدَّفِينَ، قَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ:
أنبأنا الثَّوْرِيُّ عَنْ سُفْيَانَ العُصْفُريُّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ أَنَّهُ قَالَ: لَمْ يُعْطَ أَحَدٌ غَيْرَ هَذِهِ الْأُمَّةِ الِاسْتِرْجَاعَ «١»، أَلَّا تَسْمَعُونَ إِلَى قَوْلِ يَعْقُوبَ عَلَيْهِ السَّلَامُ يَا أَسَفى عَلى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْناهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ «٢» أَيْ سَاكِتٌ لَا يَشْكُو أَمْرَهُ إِلَى مَخْلُوقٍ، قَالَهُ قتادة وغيره. وقال الضحاك: فهو كظيم كئيب حزين.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ زَيْدٍ عَنِ الْحَسَنِ، عَنِ الْأَحْنَفِ بْنِ قَيْسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إن دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ: يَا رَبِّ إِنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ يَسْأَلُونَكَ بِإِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ، فَاجْعَلْنِي لَهُمْ رَابِعًا، فَأَوْحَى اللَّهُ تَعَالَى إِلَيْهِ: أَنْ يَا دَاوُدُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ أُلْقِيَ فِي النَّارِ بِسَبَبِي فَصَبَرَ، وَتِلْكَ بَلِيَّةٌ لَمْ تَنَلْكَ، وَإِنَّ إسحاق بذل مهجة دمه بِسَبَبِي فَصَبَرَ، وَتِلْكَ بَلِيَّةٌ لَمْ تَنَلْكَ، وَإِنَّ يعقوب أخذت منه حبيبه فابيضت عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَصَبَرَ، وَتِلْكَ بَلِيَّةٌ لَمْ تَنَلْكَ». وَهَذَا مُرْسَلٌ وَفِيهِ نَكَارَةٌ، فَإِنَّ الصَّحِيحَ أَنَّ إِسْمَاعِيلَ هُوَ الذَّبِيحُ، وَلَكِنَّ عَلِيَّ بْنَ زَيْدِ بْنِ جُدْعَانَ لَهُ، مَنَاكِيرُ وَغَرَائِبُ كَثِيرَةٌ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَأَقْرَبُ مَا فِي هَذَا أَنْ الأحنف بن قيس رحمه الله حكاه عن بعض بَنِي إِسْرَائِيلَ كَكَعْبٍ وَوَهْبٍ وَنَحْوِهِمَا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ، فإن بني إسرائيل يَنْقُلُونَ أَنَّ يَعْقُوبَ كَتَبَ إِلَى يُوسُفَ لَمَّا احْتَبَسَ أَخَاهُ بِسَبَبِ السَّرِقَةِ يَتَلَطَّفُ لَهُ فِي رد ابنه، وَيَذْكُرُ لَهُ أَنَّهُمْ أَهْلُ بَيْتٍ مُصَابُونَ بِالْبَلَاءِ، فَإِبْرَاهِيمُ ابْتُلِيَ بِالنَّارِ، وَإِسْحَاقُ بِالذَّبْحِ، وَيَعْقُوبُ بِفِرَاقِ يُوسُفَ، فِي حَدِيثٍ طَوِيلٍ لَا يَصِحُّ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ، فَعِنْدَ ذَلِكَ رَقَّ لَهُ بَنُوهُ.
وَقَالُوا لَهُ عَلَى سَبِيلِ الرِّفْقِ بِهِ وَالشَّفَقَةِ عَلَيْهِ: تَاللَّهِ تَفْتَؤُا تَذْكُرُ يُوسُفَ أَيْ لَا تُفَارِقُ تَذَكُّرَ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضاً أي ضَعِيفَ الْقُوَّةِ أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهالِكِينَ يَقُولُونَ إن اسْتَمَرَّ بِكَ هَذَا الْحَالُ خَشِينَا عَلَيْكَ الْهَلَاكَ والتلف الَ إِنَّما أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ
أَيْ أَجَابَهُمْ عَمَّا قالوا بقوله: نَّما أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي
أَيْ هَمِّي وَمَا أَنَا فِيهِ لَى اللَّهِ
وحده، أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ
(١) الاسترجاع: أي القول: «إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ»، إذا نزلت مصيبة.
(٢) انظر تفسير الطبري ٧/ ٢٧٦.
347
أَيْ أَرْجُو مِنْهُ كُلَّ خَيْرٍ، وَعَنِ ابْنِ عباس أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ
يَعْنِي رُؤْيَا يُوسُفَ أَنَّهَا صِدْقٌ، وَأَنَّ اللَّهَ لَا بُدَّ أن يظهرها، وقال العوفي عنه في الآية: أَعْلَمُ أَنَّ رُؤْيَا يُوسُفَ صَادِقَةٌ وَأَنِّي سَوْفَ أَسْجُدُ لَهُ «١».
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ عَرَفَةَ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ أَبِي غَنِيَّةَ عَنْ حَفْصِ بْنِ عُمَرَ بْنِ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كَانَ لِيَعْقُوبَ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَخٌ مُؤَاخٍ لَهُ، فَقَالَ لَهُ ذَاتَ يَوْمٍ: مَا الَّذِي أَذْهَبَ بَصَرَكَ، وقوس ظهرك؟ قال: أما الذي أذهب بصري فالبكاء عَلَى يُوسُفَ، وَأَمَّا الَّذِي قَوَّسَ ظَهْرِي فَالْحُزْنُ عَلَى بِنْيَامِينَ، فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَقَالَ: يَا يَعْقُوبُ إِنَّ اللَّهَ يُقْرِئُكَ السَّلَامَ وَيَقُولُ لك: أما تستحي أَنْ تَشْكُوَنِي إِلَى غَيْرِي؟ فَقَالَ يَعْقُوبُ: إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ، فَقَالَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَشْكُو» وَهَذَا حديث غريب فيه نكارة.
[سورة يوسف (١٢) : الآيات ٨٧ الى ٨٨]
يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكافِرُونَ (٨٧) فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنا بِبِضاعَةٍ مُزْجاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنا إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ (٨٨)
يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ يَعْقُوبَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: إِنَّهُ نَدَبَ بَنِيهِ عَلَى الذَّهَابِ فِي الْأَرْضِ يَسْتَعْلِمُونَ أَخْبَارَ يُوسُفَ وَأَخِيهِ بِنْيَامِينَ، وَالتَّحَسُّسُ يَكُونُ في الخير، والتجسس يكون في الشر، ونهضهم وبشرهم وأمرهم أن لا يَيْأَسُوا مِنْ رُوحِ اللَّهِ أَيْ لَا يَقْطَعُوا رَجَاءَهُمْ وَأَمَلَهُمْ مِنَ اللَّهِ فِيمَا يَرُومُونَهُ وَيَقْصِدُونَهُ، فإنه لا يقطع الرجاء ولا ييأس من روح اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ.
وَقَوْلُهُ فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ تقدير الكلام: فذهبوا فدخلوا مِصْرَ، وَدَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ قالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ يَعْنُونَ مِنَ الْجَدْبِ وَالْقَحْطِ وَقِلَّةِ الطَّعَامِ، وَجِئْنا بِبِضاعَةٍ مُزْجاةٍ أَيْ ومعنا ثمن الطعام الذي نمتاره، وَهُوَ ثَمَنٌ قَلِيلٌ، قَالَهُ مُجَاهِدٌ وَالْحَسَنُ وَغَيْرُ وَاحِدٍ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الرَّدِيءُ لَا يُنْفَقُ مِثْلَ خَلَقِ «٢» الْغِرَارَةِ وَالْحَبْلِ وَالشَّيْءِ، وَفِي رِوَايَةٍ عَنْهُ:
الدَّرَاهِمُ الرَّدِيئَةُ الَّتِي لَا تَجُوزُ إِلَّا بِنُقْصَانٍ، وَكَذَا قَالَ قَتَادَةُ وَالسُّدِّيُّ. وَقَالَ سَعِيدُ بن جبير: هِيَ الدَّرَاهِمُ الْفُسُولُ «٣». وَقَالَ أَبُو صَالِحٍ: هُوَ الصَّنَوْبَرُ وَحَبَّةُ الْخَضْرَاءِ، وَقَالَ الضَّحَّاكُ: كَاسِدَةٌ لَا تُنْفَقُ. وَقَالَ أَبُو صَالِحٍ: جَاءُوا بِحَبِّ الْبُطْمِ الأخضر والصنوبر، وأصل الإخاء الإزجاء
(١) انظر تفسير الطبري ٧/ ٢٨١.
(٢) الخلق: البالي.
(٣) الفسول: جمع فسل: هو الرديء من كل شيء. [.....]
لضعف الشيء، كما قال حاتم طيئ: [الطويل]
لِيَبْكِ عَلَى مِلْحَانَ ضَيْفٌ مُدَفَّعٌ وَأرمَلَةٌ تُزْجِي مَعَ الَّليْلِ أَرْمَلَا «١»
وَقَالَ أَعْشَى بَنِي ثَعْلَبَةَ: [الكامل]
الْوَاهِبُ الْمِائَةِ الْهِجَانِ وَعَبْدِهَا عُوذًا تُزَجِّي خَلْفَهَا أطْفَالَهَا «٢»
وَقَوْلُهُ إِخْبَارًا عَنْهُمْ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ أَيْ أَعْطِنَا بِهَذَا الثَّمَنِ الْقَلِيلِ مَا كُنْتَ تُعْطِينَا قَبْلَ ذَلِكَ، وَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ: فَأَوْقِرْ رِكَابَنَا وَتَصَدَّقَ عَلَيْنَا. وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا بِرَدِّ أَخِينَا إِلَيْنَا. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَالسُّدِّيُّ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنا يَقُولُونَ: تَصَدَّقْ عَلَيْنَا بِقَبْضِ هَذِهِ الْبِضَاعَةِ الْمُزْجَاةِ، وَتَجَوَّزُ فِيهَا. وَسُئِلَ سُفْيَانُ بْنُ عُيُيْنَةَ: هَلْ حُرِّمَتِ الصَّدَقَةُ عَلَى أَحَدٍ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ قَبْلَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فَقَالَ أَلَمْ تَسْمَعْ قَوْلَهُ: فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنا إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ «٣» عَنِ الْحَارِثِ، عَنِ الْقَاسِمِ عَنْهُ. وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ «٤» : حَدَّثَنَا الْحَارِثُ، حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، حَدَّثَنَا مَرْوَانُ بْنُ مُعَاوِيَةَ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ الْأَسْوَدِ، سَمِعْتُ مُجَاهِدًا وَسُئِلَ: هَلْ يُكْرَهُ أَنْ يَقُولَ الرَّجُلُ فِي دُعَائِهِ: اللَّهُمَّ تصدق علي؟ قال: نعم، إنما الصدقة لمن يبتغي الثواب.
[سورة يوسف (١٢) : الآيات ٨٩ الى ٩٢]
قالَ هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جاهِلُونَ (٨٩) قالُوا أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قالَ أَنَا يُوسُفُ وَهذا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (٩٠) قالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنا وَإِنْ كُنَّا لَخاطِئِينَ (٩١) قالَ لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (٩٢)
يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، أَنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ لَهُ إِخْوَتُهُ مَا أَصَابَهُمْ مِنَ الْجَهْدِ وَالضِّيقِ وَقِلَّةِ الطَّعَامِ وَعُمُومِ الْجَدْبِ، وَتَذَكَّرَ أَبَاهُ وَمَا هُوَ فِيهِ مِنَ الْحُزْنِ لِفَقْدِ وَلَدَيْهِ مَعَ مَا هُوَ فِيهِ مِنَ الْمُلْكِ وَالتَّصَرُّفِ وَالسَّعَةِ، فَعِنْدَ ذَلِكَ أَخَذَتْهُ رِقَّةٌ وَرَأْفَةٌ وَرَحْمَةٌ وَشَفَقَةٌ عَلَى أَبِيهِ وَإِخْوَتِهِ، وَبَدَرَهُ الْبُكَاءُ فتعرف إليهم، فيقال: إِنَّهُ رَفَعَ التَّاجَ عَنْ جَبْهَتِهِ، وَكَانَ فِيهَا شامة، وقال
(١) البيت بلا نسبة في لسان العرب (رمل)، وتاج العروس (رمل)، وهو منسوب أيضا لحاتم الطائي في تفسير الطبري ٧/ ٢٨٥.
(٢) البيت للأعشى في ديوانه ص ٧٩، وأمالي المرتضى ٢/ ٣٠٣، وخزانة الأدب ٤/ ٢٥٦، ٢٦٠، ٥/ ١٣١، ٦/ ٤٩٨، والدرر ٥/ ١٣، والكتاب ١/ ١٨٣، والمقتضب ٤/ ١٦٣، وبلا نسبة في الأشباه والنظائر ٢/ ٤٣٩، وجمهرة اللغة ص ٩٢٠، والدرر ٦/ ١٥٣، وشرح ابن عقيل ص ٤٢٧، وشرح عمدة الحافظ ص ٦٦٧، والمقرب ١/ ١٢٦، وهمع الهوامع ٢/ ٤٨، ١٣٩، والبيت للأعشى بني ثعلبة في تفسير الطبري ٧/ ٢٨٥.
(٣) تفسير الطبري ٧/ ٢٨٩.
(٤) تفسير الطبري ٧/ ٢٩٠.
هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جاهِلُونَ يَعْنِي كَيْفَ فَرَّقُوا بَيْنَهُ وبين أخيه إِذْ أَنْتُمْ جاهِلُونَ أَيْ إِنَّمَا حَمَلَكُمْ عَلَى هَذَا الْجَهْلُ بِمِقْدَارِ هَذَا الَّذِي ارْتَكَبْتُمُوهُ، كَمَا قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: كُلُّ مَنْ عَصَى اللَّهَ فَهُوَ جَاهِلٌ، وَقَرَأَ ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهالَةٍ [النحل:
١١٩] الآية.
وَالظَّاهِرُ- وَاللَّهُ أَعْلَمُ- أَنَّ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ إنما تعرف إليهم بنفسه بإذن الله تعالى لَهُ فِي ذَلِكَ، كَمَا أَنَّهُ إِنَّمَا أَخْفَى مِنْهُمْ نَفْسَهُ فِي الْمَرَّتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ بِأَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى لَهُ فِي ذَلِكَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ وَلَكِنْ لَمَّا ضَاقَ الْحَالُ وَاشْتَدَّ الْأَمْرُ، فَرَّجَ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ ذَلِكَ الضِّيقِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً [الشرح: ٥- ٦] فعند ذلك قالوا أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ وقرأ أبي بن كعب إنك لأنت يوسف، وقرأ ابن محيصن أنت يُوسُفُ، وَالْقِرَاءَةُ الْمَشْهُورَةُ هِيَ الْأُولَى، لِأَنَّ الِاسْتِفْهَامَ يَدُلُّ عَلَى الِاسْتِعْظَامِ أَيْ إِنَّهُمْ تَعَجَّبُوا مِنْ ذَلِكَ أَنَّهُمْ يَتَرَدَّدُونَ إِلَيْهِ مِنْ سَنَتَيْنِ وَأَكْثَرَ وَهُمْ لَا يَعْرِفُونَهُ وَهُوَ مَعَ هَذَا يَعْرِفُهُمْ وَيَكْتُمُ نَفْسَهُ، فَلِهَذَا قَالُوا عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِفْهَامِ: أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قالَ أَنَا يُوسُفُ وَهذا أَخِي.
وقوله: قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا أَيْ بِجَمْعِهِ بَيْنَنَا بَعْدَ التَّفْرِقَةِ وَبَعْدَ الْمُدَّةِ إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ قالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنا الآية، يَقُولُونَ مُعْتَرِفِينَ لَهُ بِالْفَضْلِ وَالْأَثْرَةِ عَلَيْهِمْ فِي الْخَلْقِ وَالْخُلُقِ وَالسَّعَةِ وَالْمُلْكِ وَالتَّصَرُّفِ وَالنُّبُوَّةِ أَيْضًا، عَلَى قَوْلِ مَنْ لَمْ يَجْعَلْهُمْ أَنْبِيَاءَ، وَأَقَرُّوا له بأنهم أساؤوا إِلَيْهِ وَأَخْطَئُوا فِي حَقِّهِ قالَ لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يقول: أي لَا تَأْنِيبَ عَلَيْكُمْ وَلَا عَتْبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ، ولا أعيد عليكم ذَنْبَكُمْ فِي حَقِّي بَعْدَ الْيَوْمِ، ثُمَّ زَادَهُمُ الدُّعَاءَ لَهُمْ بِالْمَغْفِرَةِ فَقَالَ: يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ قَالَ السُّدِّيُّ:
اعْتَذَرُوا إِلَى يُوسُفَ فَقَالَ: لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَقُولُ: لَا أَذْكُرُ لَكُمْ ذَنْبَكُمْ: وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ والثوري لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ أَيْ لَا تَأْنِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ عِنْدِي فِيمَا صَنَعْتُمْ، يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ أَيْ يَسْتُرُ اللَّهُ عليكم فيما فعلتم وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ.
[سورة يوسف (١٢) : الآيات ٩٣ الى ٩٥]
اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَذَا فَأَلْقُوهُ عَلى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيراً وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ (٩٣) وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلا أَنْ تُفَنِّدُونِ (٩٤) قالُوا تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ (٩٥)
يَقُولُ: اذْهَبُوا بِهَذَا الْقَمِيصِ فَأَلْقُوهُ عَلى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيراً وَكَانَ قَدْ عَمِيَ مِنْ كَثْرَةِ الْبُكَاءِ، وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ أَيْ بِجَمِيعِ بَنِي يَعْقُوبَ، وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ أَيْ خَرَجَتْ مِنْ مِصْرَ قالَ أَبُوهُمْ يَعْنِي يَعْقُوبَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِمَنْ بَقِيَ عِنْدَهُ مِنْ بَنِيهِ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلا أَنْ تُفَنِّدُونِ تَنْسِبُونِي إِلَى الْفَنَدِ وَالْكِبَرِ قَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ: أَنْبَأَنَا إِسْرَائِيلُ عَنْ أَبِي سِنَانٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي الهُذَيْلِ، قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ يَقُولُ: وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ، قَالَ: لما خرجت
الْعِيرُ هَاجَتْ رِيحٌ، فَجَاءَتْ يَعْقُوبَ بِرِيحِ قَمِيصِ يُوسُفَ، فَقَالَ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلا أَنْ تُفَنِّدُونِ قَالَ: فَوَجَدَ رِيحَهُ مِنْ مَسِيرَةِ ثَمَانِيَةِ أَيَّامٍ «١»، وَكَذَا رَوَاهُ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ وَشُعْبَةُ وَغَيْرُهُمَا عَنْ أَبِي سِنَانٍ بِهِ وَقَالَ الْحَسَنُ وَابْنُ جُرَيْجٍ: كَانَ بَيْنَهُمَا ثَمَانُونَ فَرْسَخًا، وَكَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ مُنْذُ افْتَرَقَا ثَمَانُونَ سَنَةً.
وَقَوْلُهُ لَوْلا أَنْ تُفَنِّدُونِ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ وَعَطَاءٌ وَقَتَادَةُ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ تُسَفِّهُونِ وَقَالَ مُجَاهِدٌ أَيْضًا وَالْحَسَنُ: تُهَرِّمُونِ. وَقَوْلُهُمْ إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ:
لَفِي خَطَئِكَ الْقَدِيمِ. وَقَالَ قَتَادَةُ: أَيْ مِنْ حُبِّ يُوسُفَ لَا تَنْسَاهُ وَلَا تَسَلَاهُ، قَالُوا لِوَالِدِهِمْ كَلِمَةً غَلِيظَةً لَمْ يَكُنْ يَنْبَغِي لَهُمْ أَنْ يَقُولُوهَا لِوَالِدِهِمْ وَلَا لِنَبِيِّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَذَا قَالَ السدي وغيره.
[سورة يوسف (١٢) : الآيات ٩٦ الى ٩٨]
فَلَمَّا أَنْ جاءَ الْبَشِيرُ أَلْقاهُ عَلى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيراً قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (٩٦) قالُوا يَا أَبانَا اسْتَغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا إِنَّا كُنَّا خاطِئِينَ (٩٧) قالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (٩٨)
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالضَّحَّاكُ: الْبَشِيرُ الْبَرِيدُ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَالسُّدِّيُّ: كَانَ يَهُوذَا بْنُ يَعْقُوبَ، قَالَ السُّدِّيُّ: إِنَّمَا جَاءَ بِهِ لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي جَاءَ بِالْقَمِيصِ وَهُوَ مُلَطَّخٌ بدم كذب، فأحب أَنْ يَغْسِلَ ذَلِكَ بِهَذَا، فَجَاءَ بِالْقَمِيصِ فَأَلْقَاهُ عَلَى وَجْهِ أَبِيهِ فَرَجَعَ بَصِيرًا، وَقَالَ لِبَنِيهِ عِنْدَ ذَلِكَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ أَيْ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ سَيَرُدُّهُ إِلَيَّ، وَقَلْتُ لَكُمْ: إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلا أَنْ تُفَنِّدُونِ فَعِنْدَ ذَلِكَ قَالُوا لِأَبِيهِمْ مُتَرَفِّقِينَ لَهُ: يَا أَبانَا اسْتَغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا إِنَّا كُنَّا خاطِئِينَ قالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ أَيْ مَنْ تَابَ إِلَيْهِ تَابَ عَلَيْهِ، قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَإِبْرَاهِيمُ التَّيْمِيُّ وَعَمْرُو بْنُ قَيْسٍ وَابْنُ جُرَيْجٍ وَغَيْرُهُمْ: أَرْجَأَهُمْ إِلَى وَقْتِ السَّحَرِ.
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ «٢» : حَدَّثَنِي أَبُو السَّائِبِ، حَدَّثَنَا ابْنُ إِدْرِيسَ، سَمِعْتُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ إِسْحَاقَ يَذْكُرُ عَنْ مُحَارِبِ بْنِ دِثَارٍ قَالَ: كَانَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَأْتِي الْمَسْجِدَ فَيَسْمَعُ إِنْسَانًا يَقُولُ: اللَّهُمَّ دَعَوْتَنِي فَأَجَبْتُ، وَأَمَرْتَنِي فَأَطَعْتُ، وَهَذَا السَّحَرُ فَاغْفِرْ لِي. قَالَ فَاسْتَمَعَ الصَّوْتَ، فَإِذَا هُوَ مِنْ دَارِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، فَسَأَلَ عَبْدَ اللَّهِ عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ: إِنَّ يَعْقُوبَ أَخَّرَ بَنِيهِ إِلَى السِّحْرِ بِقَوْلِهِ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي.
وَقَدْ وَرَدَ في الحديث أن ذلك كان ليلة الجمعة، كَمَا قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ «٣» أَيْضًا: حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، حدثنا سليمان بن عبد الرحمن أَيُّوبَ الدِّمَشْقِيُّ، حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ، أَنْبَأَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ عَنْ عَطَاءٍ، وَعِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي يقول: حتى تأتي
(١) انظر تفسير الطبري ٧/ ٢٩٤.
(٢) تفسير الطبري ٧/ ٣٠٠.
(٣) تفسير الطبري ٧/ ٣٠٠.
لَيْلَةُ الْجُمُعَةِ، وَهُوَ قَوْلُ أَخِي يَعْقُوبَ لِبَنِيهِ «وَهَذَا غَرِيبٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وَفِي رَفْعِهِ نظر، والله أعلم».
[سورة يوسف (١٢) : الآيات ٩٩ الى ١٠٠]
فَلَمَّا دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ (٩٩) وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً وَقالَ يا أَبَتِ هذا تَأْوِيلُ رُءْيايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَها رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِما يَشاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (١٠٠)
يُخْبِرُ تَعَالَى عَنْ وُرُودِ يَعْقُوبَ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلَى يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَقُدُومِهِ بِلَادَ مِصْرَ، لَمَّا كان يوسف قد تقدم لإخوته أَنْ يَأْتُوهُ بِأَهْلِهِمْ أَجْمَعِينَ، فَتُحُمِّلُوا عَنْ آخِرِهِمْ، وَتَرَحَّلُوا مِنْ بِلَادِ كَنْعَانَ قَاصِدِينَ بِلَادَ مِصْرَ، فَلَمَّا أُخْبِرَ يُوسُفُ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِاقْتِرَابِهِمْ، خَرَجَ لِتَلَقِّيهِمْ وَأَمَرَ الْمَلِكُ أُمَرَاءَهُ وَأَكَابِرَ النَّاسِ بِالْخُرُوجِ مَعَ يُوسُفَ لِتَلَقِّي نَبِيَّ اللَّهِ يَعْقُوبَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَيُقَالُ: إِنَّ الْمَلِكَ خَرَجَ أَيْضًا لِتَلَقِّيهِ، وَهُوَ الْأَشْبَهُ، وَقَدْ أُشْكِلَ قَوْلُهُ: آوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقالَ ادْخُلُوا مِصْرَ عَلَى كَثِيرٍ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: هَذَا مِنَ الْمُقَدَّمِ وَالْمُؤَخَّرِ، وَمَعْنَى الْكَلَامِ وَقالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ وَآوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَرَفَعَهُمَا عَلَى العرش، ورد ابْنُ جَرِيرٍ هَذَا، وَأَجَادَ فِي ذَلِكَ، ثُمَّ اخْتَارَ مَا حَكَاهُ عَنِ السُّدِّيِّ أَنَّ يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ لَمَّا تَلَقَّاهُمَا، ثُمَّ لَمَّا وَصَلُوا بَابَ الْبَلَدِ قَالَ: ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ.
وَفِي هَذَا نَظَرٌ أَيْضًا، لِأَنَّ الْإِيوَاءَ إِنَّمَا يَكُونُ فِي الْمَنْزِلِ، كَقَوْلِهِ آوى إِلَيْهِ أَخاهُ [يوسف:
٦٩] وَفِي الْحَدِيثِ «مَنْ آوَى مُحْدِثًا» «١» وَمَا الْمَانِعُ أن يكون قال لهم بعد ما دَخَلُوا عَلَيْهِ وَآوَاهُمْ إِلَيْهِ:
ادْخُلُوا مِصْرَ، وَضَمَّنَهُ اسْكُنُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ، أَيْ مِمَّا كُنْتُمْ فِيهِ مِنَ الْجَهْدِ وَالْقَحْطِ، وَيُقَالُ- وَاللَّهُ أَعْلَمُ- إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى رَفَعَ عَنْ أَهْلِ مِصْرَ بَقِيَّةَ السِّنِينَ الْمُجْدِبَةِ بِبَرَكَةِ قُدُومِ يَعْقُوبَ عَلَيْهِمْ، كَمَا رَفَعَ بَقِيَّةَ السِّنِينَ الَّتِي دَعَا بِهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أَهْلِ مَكَّةَ حِينَ قَالَ: «اللَّهُمَّ أَعِنِّي عَلَيْهِمْ بِسَبْعٍ كَسَبْعِ يُوسُفَ» ثُمَّ لَمَّا تَضَرَّعُوا إِلَيْهِ وَاسْتَشْفَعُوا لَدَيْهِ، وَأَرْسَلُوا أَبَا سُفْيَانَ فِي ذَلِكَ، فَدَعَا لَهُمْ فَرُفِعَ عَنْهُمْ بَقِيَّةُ ذَلِكَ بِبَرَكَةِ دُعَائِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ «٢».
وَقَوْلُهُ: آوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ قَالَ السُّدِّيُّ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ: إِنَّمَا كَانَ أَبَاهُ وَخَالَتَهُ، وَكَانَتْ أُمُّهُ قَدْ مَاتَتْ قَدِيمًا. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ وَابْنُ جَرِيرٍ: كَانَ أَبُوهُ وَأُمُّهُ يَعِيشَانِ، قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ «٣» : وَلَمْ يَقُمْ دَلِيلٌ عَلَى مَوْتِ أُمِّهِ، وَظَاهِرُ الْقُرْآنِ يَدُلُّ عَلَى حَيَاتِهَا، وَهَذَا الَّذِي نَصَرَهُ هُوَ الْمَنْصُورُ الَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ السِّيَاقُ. وَقَوْلُهُ: وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ قال ابن عباس
(١) أخرجه البخاري في الفرائض باب ٢١، ومسلم في العتق حديث ٢٠.
(٢) أخرجه البخاري في الدعوات باب ٥٨.
(٣) تفسير الطبري ٧/ ٣٠٢.
352
وَمُجَاهِدٌ وَغَيْرُ وَاحِدٍ: يَعْنِي السَّرِيرَ، أَيْ أَجْلَسَهُمَا مَعَهُ عَلَى سَرِيرِهِ، وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً أَيْ سَجَدَ لَهُ أَبَوَاهُ وَإِخْوَتُهُ الْبَاقُونَ. وَكَانُوا أَحَدَ عَشَرَ رَجُلًا، وَقالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُءْيايَ مِنْ قَبْلُ أَيِ الَّتِي كَانَ قَصَّهَا عَلَى أبيه من قبل، إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً [يوسف: ٤] الآية، وَقَدْ كَانَ هَذَا سَائِغًا فِي شَرَائِعِهِمْ إِذَا سَلَّمُوا عَلَى الْكَبِيرِ يَسْجُدُونَ لَهُ، وَلَمْ يَزَلْ هَذَا جَائِزًا مِنْ لَدُنْ آدَمَ إِلَى شَرِيعَةِ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَحُرِّمَ هَذَا فِي هَذِهِ الْمِلَّةِ، وَجُعِلَ السُّجُودُ مُخْتَصًّا بِجَنَابِ الرَّبِّ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، هَذَا مَضْمُونُ قَوْلِ قَتَادَةَ وَغَيْرِهِ.
وَفِي الْحَدِيثِ أَنَّ مُعَاذًا قَدِمَ الشَّامَ فَوَجَدَهُمْ يَسْجُدُونَ لِأَسَاقِفَتِهِمْ، فَلَمَّا رَجَعَ سَجَدَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ «مَا هَذَا يَا مُعَاذُ؟» فَقَالَ إِنِّي رَأَيْتُهُمْ يَسْجُدُونَ لِأَسَاقِفَتِهِمْ، وَأَنْتَ أَحَقُّ أَنْ يُسْجَدَ لَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَقَالَ: «لَوْ كُنْتُ آمِرًا أَحَدًا أَنْ يَسْجُدَ لِأَحَدٍ، لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها لعظم حَقِّهِ عَلَيْهَا» «١». وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ: أَنَّ سَلْمَانَ لَقِيَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَعْضِ طُرُقِ الْمَدِينَةِ، وَكَانَ سَلْمَانُ حَدِيثَ عَهْدٍ بِالْإِسْلَامِ، فَسَجَدَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: «لَا تَسْجُدْ لِي يَا سَلْمَانُ، وَاسْجُدْ لِلْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ»، وَالْغَرَضُ أَنَّ هَذَا كَانَ جَائِزًا فِي شَرِيعَتِهِمْ، وَلِهَذَا خَرُّوا لَهُ سُجَّدًا، فَعِنْدَهَا قَالَ يُوسُفُ: يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُءْيايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَها رَبِّي حَقًّا أَيْ هَذَا مَا آلَ إِلَيْهِ الْأَمْرُ، فَإِنَّ التَّأْوِيلَ يُطْلَقُ عَلَى مَا يَصِيرُ إِلَيْهِ الْأَمْرُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ [الأعراف: ٥٣] أي يوم القيامة يأتينهم ما وعدوا به مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ.
وَقَوْلُهُ: قَدْ جَعَلَها رَبِّي حَقًّا أَيْ صَحِيحَةً صِدْقًا يَذْكُرُ نِعَمَ اللَّهِ عَلَيْهِ، وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ أَيِ الْبَادِيَةِ. قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ وَغَيْرُهُ: كَانُوا أَهْلَ بَادِيَةٍ وَمَاشِيَةٍ، وَقَالَ: كَانُوا يَسْكُنُونَ بِالْعَرَبَاتِ مِنْ أَرْضِ فِلَسْطِينَ مِنْ غَوْرِ الشَّامِ، قَالَ: وَبَعْضٌ يَقُولُ: كَانُوا بِالْأَوْلَاجِ مِنْ نَاحِيَةِ شِعْبٍ أَسْفَلَ مِنْ حُسْمَى، وَكَانُوا أَصْحَابَ بَادِيَةٍ وَشَاءٍ وَإِبِلٍ «٢».
مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِما يَشاءُ أَيْ إِذَا أراد أمرا قيض له أسبابا وقدره ويسره إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ بِمَصَالِحِ عِبَادِهِ، الْحَكِيمُ فِي أقواله وأفعاله وَقَضَائِهِ وَقَدَرِهِ وَمَا يَخْتَارُهُ وَيُرِيدُهُ. قَالَ أَبُو عُثْمَانَ النَّهْدِيُّ، عَنْ سُلَيْمَانَ: كَانَ بَيْنَ رُؤْيَا يُوسُفَ وَتَأْوِيلِهَا أَرْبَعُونَ سَنَةً، قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ شَدَّادٍ: وَإِلَيْهَا يَنْتَهِي أَقْصَى الرُّؤْيَا، رَوَاهُ ابن جرير «٣»، وقال أيضا:
حدثنا عمر بْنُ عَلِيٍّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ الثَّقَفِيُّ، حَدَّثَنَا هِشَامٌ عَنِ الْحَسَنِ قَالَ: كَانَ مُنْذُ فَارَقَ يُوسُفُ يَعْقُوبَ إِلَى أَنِ الْتَقَيَا ثَمَانُونَ سَنَةً، لم يفارق الْحُزْنُ قَلْبَهُ، وَدُمُوعُهُ تَجْرِي عَلَى خَدَّيْهِ، وَمَا عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ عَبَدٌ أَحَبَّ إِلَى اللَّهِ من يعقوب.
(١) أخرجه ابن ماجة في النكاح باب ٤، وأحمد في المسند ٤/ ٣٨١.
(٢) انظر تفسير الطبري ٧/ ٣٠٧.
(٣) تفسير الطبري ٧/ ٣٠٨.
353
وَقَالَ هُشَيْمٌ، عَنْ يُونُسَ، عَنِ الْحَسَنِ: ثَلَاثٌ وَثَمَانُونَ سَنَةً، وَقَالَ مُبَارَكُ بْنُ فَضَالَةَ، عَنِ الْحَسَنِ: أُلْقِيَ يُوسُفُ فِي الْجُبِّ وَهُوَ ابْنُ سَبْعَ عَشْرَةَ سَنَةً، فَغَابَ عَنْ أَبِيهِ ثَمَانِينَ سَنَةً، وَعَاشَ بَعْدَ ذَلِكَ ثَلَاثًا وَعِشْرِينَ سَنَةً، فَمَاتَ وَلَهُ عِشْرُونَ وَمِائَةُ سَنَةٍ، وَقَالَ قَتَادَةُ: كَانَ بَيْنَهُمَا خَمْسٌ وَثَلَاثُونَ سَنَةً. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: ذُكِرَ- وَاللَّهُ أَعْلَمُ- أَنَّ غَيْبَةَ يُوسُفَ عَنْ يَعْقُوبَ كَانَتْ ثَمَانِي عَشْرَةَ سَنَةً، قَالَ: وَأَهْلُ الْكِتَابِ يَزْعُمُونَ أَنَّهَا كَانَتْ أَرْبَعِينَ سَنَةً أَوْ نَحْوَهَا، وَأَنَّ يَعْقُوبَ عَلَيْهِ السَّلَامُ بَقِيَ مَعَ يُوسُفَ بَعْدَ أَنَّ قَدِمَ عَلَيْهِ مِصْرَ سَبْعَ عَشْرَةَ سَنَةً، ثُمَّ قَبَضَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ. وَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ السَّبِيعِيُّ، عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ: دَخَلَ بَنُو إِسْرَائِيلَ مِصْرَ وَهُمْ ثَلَاثَةٌ وَسِتُّونَ إِنْسَانًا، وَخَرَجُوا مِنْهَا وَهُمْ سِتُّمِائَةِ أَلْفٍ وَسَبْعُونَ أَلْفًا، وَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ، عَنْ مَسْرُوقٍ: دَخَلُوا وهم ثلاثمائة وتسعون بين رجل وامرأة، فالله أَعْلَمُ. وَقَالَ مُوسَى بْنِ عُبَيْدَةَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَدَّادٍ: اجْتَمَعَ آلُ يَعْقُوبَ إِلَى يُوسُفَ بِمِصْرَ وَهُمْ سِتَّةٌ وَثَمَانُونَ إِنْسَانًا: صَغِيرُهُمْ وَكَبِيرُهُمْ، وَذَكَرُهُمْ وَأُنْثَاهُمْ، وَخَرَجُوا مِنْهَا وَهُمْ سِتُّمِائَةِ أَلْفٍ وَنَيِّفٍ.
[سورة يوسف (١٢) : آية ١٠١]
رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (١٠١)
هَذَا دُعَاءٌ مَنْ يُوسُفَ الصِّدِّيقِ، دَعَا بِهِ ربه عز وجل لما تمت نعمة الله عَلَيْهِ بِاجْتِمَاعِهِ بِأَبَوَيْهِ وَإِخْوَتِهِ، وَمَا مَنَّ اللَّهُ بِهِ عَلَيْهِ مِنَ النُّبُوَّةِ وَالْمُلْكِ سَأَلَ رَبَّهُ عَزَّ وَجَلَّ كَمَا أَتَمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا أَنْ يَسْتَمِرَّ بِهَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرَةِ، وَأَنْ يَتَوَفَّاهُ مُسْلِمًا حِينَ يَتَوَفَّاهُ، قَالَهُ الضَّحَّاكُ: وَأَنْ يُلْحِقَهُ بِالصَّالِحِينَ وَهُمْ إِخْوَانُهُ مِنَ النَّبِيِّينَ والمرسلين، صلوات الله وسلامه عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ.
وَهَذَا الدُّعَاءُ يُحْتَمَلُ أَنَّ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، قَالَهُ عِنْدَ احْتِضَارِهِ، كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَعَلَ يَرْفَعُ أُصْبُعَهُ عِنْدَ الْمَوْتِ وَيَقُولُ: «اللَّهُمَّ في الرفيق الأعلى» »
ثلاثا، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ سَأَلَ الْوَفَاةَ عَلَى الْإِسْلَامِ وَاللَّحَاقَ بالصالحين إذا جاء أجله، وانقضى عمره، لا أنه سأله ذَلِكَ مُنْجَزًا كَمَا يَقُولُ الدَّاعِي لِغَيْرِهِ: أَمَاتَكَ اللَّهُ عَلَى الْإِسْلَامِ، وَيَقُولُ الدَّاعِي: اللَّهُمَّ أَحْيِنَا مُسْلِمِينَ، وَتُوَفَّنَا مُسْلِمِينَ، وَأَلْحَقَنَا بِالصَّالِحِينَ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ سَأَلَ ذَلِكَ مُنْجَزًا، وَكَانَ ذَلِكَ سَائِغًا فِي مِلَّتِهِمْ، كَمَا قَالَ قَتَادَةُ قَوْلُهُ: تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ لَمَّا جَمَعَ اللَّهُ شَمْلَهُ وَأَقَرَّ عَيْنَهُ، وَهُوَ يَوْمَئِذٍ مَغْمُورٌ فِي الدُّنْيَا وَمُلْكِهَا ونضارتها، اشتاق إِلَى الصَّالِحِينَ قَبْلَهُ.
وَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَقُولُ: مَا تَمَنَّى نَبِيٌّ قَطُّ الْمَوْتَ قَبْلَ يُوسُفَ عليه السلام، وكذا ذكر ابن
(١) أخرجه البخاري في فضائل الصحابة، باب ٥، ومسلم في السلام حديث ٤٦. [.....]
354
جَرِيرٍ «١» وَالسُّدِّيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ أَوَّلُ نَبِيٍّ دَعَا بِذَلِكَ، وَهَذَا يَحْتَمِلُ أَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ سَأَلَ الْوَفَاةَ عَلَى الْإِسْلَامِ، كَمَا أَنَّ نُوحًا أَوَّلُ مَنْ قَالَ: رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً [نُوحٍ: ٢٨] وَيُحْتَمَلُ أنه أول من سأل إنجاز ذلك، وهو ظاهر سياق قول قَتَادَةَ، وَلَكِنَّ هَذَا لَا يَجُوزُ فِي شَرِيعَتِنَا.
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ «٢» رَحِمَهُ اللَّهُ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنِ صُهَيْبٍ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم: «لَا يَتَمَنَّيْنَ أَحَدُكُمُ الْمَوْتَ لِضُرٍّ نَزَلَ بِهِ فإن كان ولا بُدَّ مُتَمَنِّيًا الْمَوْتَ، فَلْيَقُلْ: اللَّهُمَّ أَحْيِنِي مَا كَانَتِ الْحَيَاةُ خَيْرًا لِي، وَتَوَفَّنِي إِذَا كَانَتِ الوفاة خيرا لي» وأخرجاه في الصحيحين، وَعِنْدَهُمَا «لَا يَتَمَنَّيْنَ أَحَدُكُمُ الْمَوْتَ لِضُرٍّ نَزَلَ بِهِ إِمَّا مُحْسِنًا فَيَزْدَادُ، وَإِمَّا مُسِيئًا فَلَعَلَّهُ يَسْتَعْتِبُ، وَلَكِنْ لِيَقُلْ: اللَّهُمَّ أَحْيِنِي مَا كَانَتِ الْحَيَاةُ خَيْرًا لِي، وَتَوَفَّنِي إِذَا كَانَتِ الْوَفَاةُ خَيْرًا لِي» «٣».
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «٤» : حَدَّثَنَا أَبُو الْمُغِيرَةِ، حَدَّثَنَا مُعَانُ بْنُ رِفَاعَةَ، حَدَّثَنِي عَلِيِّ بْنِ يَزِيدَ عَنِ الْقَاسِمِ عَنْ أَبِي أمامة قَالَ: جَلَسْنَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَّرَنَا وَرَقَّقَنَا، فَبَكَى سَعْدُ بْنُ أبي وقاص فأكثر البكاء، وقال: يَا لَيْتَنِي مُتُّ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَا سَعْدُ أَعِنْدِي تَتَمَنَّى الْمَوْتَ؟» فَرَدَّدَ ذَلِكَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ قَالَ: «يَا سَعْدُ إِنْ كُنْتَ خُلِقْتَ لِلْجَنَّةِ، فَمَا طَالَ من عمرك وحسن مِنْ عَمَلِكَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكَ».
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «٥» : حَدَّثَنَا حَسَنٌ، حَدَّثَنَا ابْنُ لَهِيعَةَ، حَدَّثَنَا أَبُو يُونُسَ، وَهُوَ سُلَيْمُ بْنُ جُبَيْرٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «لَا يَتَمَنَّيْنَ أَحَدُكُمُ الْمَوْتَ لِضُرٍّ نَزَلَ بِهِ ولا يدع بِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ قَدْ وَثِقَ بِعَمَلِهِ، فَإِنَّهُ إِذَا مَاتَ أحدكم انقطع عنه عمره، وَإِنَّهُ لَا يَزِيدُ الْمُؤْمِنَ عُمُرُهُ إِلَّا خَيْرًا» تَفَرَّدَ بِهِ أَحْمَدُ، وَهَذَا فِيمَا إِذَا كَانَ الضر خاصا به، وأما إِذَا كَانَ فِتْنَةً فِي الدِّينِ فَيَجُوزُ سُؤَالُ الْمَوْتِ، كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى إِخْبَارًا عَنِ السَّحَرَةِ لَمَّا أَرَادَهُمْ فِرْعَوْنُ عَنْ دِينِهِمْ وَتَهَدَّدَهُمْ بِالْقَتْلِ قَالُوا رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً وَتَوَفَّنا مُسْلِمِينَ [الْأَعْرَافِ: ١٢٦] وَقَالَتْ مَرْيَمُ لَمَّا أَجَاءَهَا الْمَخَاضُ، وهو الطلق، إلى جذع النخلة: يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْياً مَنْسِيًّا [مريم: ٢٣] لما علمت مِنْ أَنَّ النَّاسَ يَقْذِفُونَهَا بِالْفَاحِشَةِ، لِأَنَّهَا لَمْ تكن ذات زوج، وقد حملت ووضعت، وقد قَالُوا: يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيًّا يَا أُخْتَ هارُونَ مَا كانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَما كانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا [مَرْيَمَ: ٢٧- ٢٨] فَجَعَلَ اللَّهُ لَهَا مِنْ ذَلِكَ الْحَالِ فَرَجًا وَمَخْرَجًا، وأنطق
(١) تفسير الطبري ٧/ ٣٠٩.
(٢) المسند ٣/ ١٠١.
(٣) أخرجه البخاري في المرضى باب ١٩، ومسلم في الذكر حديث ١٠.
(٤). ٥/ ٢٦٦، ٢٦٧.
(٥) المسند ٢/ ٣٥٠.
355
الصَّبِيَّ فِي الْمَهْدِ بِأَنَّهُ عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ، فكان آيَةً عَظِيمَةً، وَمُعْجِزَةً بَاهِرَةً صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ.
وَفِي حَدِيثِ مُعَاذٍ الَّذِي رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ فِي قِصَّةِ الْمَنَامِ وَالدُّعَاءِ الَّذِي فِيهِ «وَإِذَا أَرَدْتَ بِقَوْمٍ فِتْنَةً فَتَوَفَّنِي إِلَيْكَ غَيْرَ مَفْتُونٍ» «١».
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «٢» : حَدَّثَنَا أَبُو سلمة، أنبأنا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مُحَمَّدٍ عَنْ عَمْرٍو عَنْ عَاصِمِ بْنِ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ، عَنْ مَحْمُودِ بن لبيد مرفوعا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «اثنتان يكرههما ابن آدم: يكره الموت والموت خير للمؤمن من الفتن، وَيَكْرَهُ قِلَّةَ الْمَالِ وَقِلَّةُ الْمَالِ أَقَلُّ لِلْحِسَابِ» فَعِنْدَ حُلُولِ الْفِتَنِ فِي الدِّينِ يَجُوزُ سُؤَالُ الْمَوْتِ، وَلِهَذَا قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ في آخر خلافته لَمَّا رَأَى أَنَّ الْأُمُورَ لَا تَجْتَمِعُ لَهُ ولا يزداد الأمر إلا شدة، فقال: اللَّهُمَّ خُذْنِي إِلَيْكَ، فَقَدْ سَئِمْتُهُمْ وَسَئِمُونِي. وَقَالَ الْبُخَارِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: لَمَّا وَقَعَتْ لَهُ تِلْكَ الفتنة وجرى له مع أمير خراسان ما جرى، قال: اللَّهُمَّ تَوَفَّنِي إِلَيْكَ.
وَفِي الْحَدِيثِ «إِنَّ الرَّجُلَ لَيَمُرُّ بِالْقَبْرِ- أَيْ فِي زَمَانِ الدَّجَّالِ- فَيَقُولُ: يَا لَيْتَنِي مَكَانَكَ» «٣» لِمَا يَرَى مِنَ الْفِتَنِ. وَالزَّلَازِلِ وَالْبَلَابِلِ وَالْأُمُورِ الْهَائِلَةِ الَّتِي هِيَ فِتْنَةٌ لِكُلِّ مَفْتُونٍ. قَالَ أَبُو جَعْفَرِ بْنُ جَرِيرٍ: وَذُكِرَ أَنَّ بَنِي يَعْقُوبَ الَّذِينَ فَعَلُوا بِيُوسُفَ مَا فَعَلُوا، اسْتَغْفَرَ لَهُمْ أَبُوهُمْ، فَتَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ، وَعَفَا عَنْهُمْ، وَغَفَرَ لَهُمْ ذُنُوبَهُمْ.
(ذِكْرُ من قال ذلك)
حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ، حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ عَنِ صَالِحٍ الْمُرِّيِّ، عَنْ يَزِيدُ الرَّقَاشِيُّ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: إِنَّ الله تعالى لما جمع ليعقوب شمله بعينيه خَلَا وَلَدُهُ نَجِيًّا، فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: أَلَسْتُمْ قَدْ عَلِمْتُمْ مَا صَنَعْتُمْ؟ وَمَا لَقِيَ مِنْكُمُ الشَّيْخُ، وَمَا لَقِيَ مِنْكُمْ يُوسُفُ؟ قَالُوا:
بَلَى. قَالَ فَيَغُرُّكُمْ عَفْوُهُمَا عَنْكُمْ، فَكَيْفَ لَكَمَ بِرَبِّكُمْ؟ فَاسْتَقَامَ أَمْرُهُمْ عَلَى أَنْ أَتَوُا الشَّيْخَ، فَجَلَسُوا بين يديه ويوسف إلى جانب أبيه قاعد، قالوا: يا أبانا إنا أتيناك لأمر لم نأتك لأمر مَثَلِهِ قَطُّ، وَنَزَلَ بِنَا أَمْرٌ لَمْ يَنْزِلْ بنا مثله قط حَتَّى حَرَّكُوهُ، وَالْأَنْبِيَاءُ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ أَرْحَمُ الْبَرِيَّةِ، فَقَالَ:
مَا لَكُمْ يَا بَنِيَّ؟ قَالُوا: أَلَسْتَ قَدْ عَلِمْتَ مَا كَانَ مِنَّا إِلَيْكَ وَمَا كَانَ مِنَّا إِلَى أَخِينَا يُوسُفَ؟
قَالَ: بَلَى قالوا: أولستما قد غفرتما لنا؟ قَالَا: بَلَى. قَالُوا: فَإِنَّ عَفْوَكُمَا لَا يُغْنِي عَنَّا شَيْئًا، إِنْ كَانَ اللَّهُ لَمْ يَعْفُ عَنَّا. قَالَ: فَمَا تُرِيدُونَ يَا بَنِيَّ؟ قَالُوا: نُرِيدُ أَنْ تَدْعُوَ اللَّهَ لَنَا، فَإِذَا جَاءَكَ
(١) أخرجه الترمذي في تفسير سورة ٣٨، باب ٢، ٤، ومالك في القرآن حديث ٩٠، وأحمد في المسند ١/ ٣٦٨، ٤/ ٦٦، ٥/ ٢٤٣، ٣٧٨.
(٢) المسند ٥/ ٤٢٧.
(٣) أخرجه ابن ماجة في الفتن باب ٢٤.
356
الوحي من الله بأنه قد عفا عنا، قَرَّتْ أَعْيُنُنَا، وَاطْمَأَنَّتْ قُلُوبُنَا، وَإِلَّا فَلَا قُرَّةَ عين في الدنيا لنا أبدا. قَالَ: فَقَامَ الشَّيْخُ فَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ وَقَامَ يُوسُفُ خَلْفَ أَبِيهِ، وَقَامُوا خَلْفَهُمَا أَذِلَّةً خَاشِعِينَ، قَالَ: فَدَعَا وَأَمَّنَ يُوسُفُ، فَلَمْ يُجَبْ فِيهِمْ عِشْرِينَ سَنَةً، قَالَ صَالِحٌ الْمُرِّيُّ يُخِيفُهُمْ، قَالَ: حَتَّى إذا كان على رَأْسُ الْعِشْرِينَ نَزَلَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، عَلَى يعقوب عليه السلام، فقال: إن الله تعالى قد بَعَثَنِي إِلَيْكَ أُبَشِّرُكَ بِأَنَّهُ قَدْ أَجَابَ دَعْوَتَكَ في ولدك وأن الله تعالى قَدْ عَفَا عَمَّا صَنَعُوا، وَأَنَّهُ قَدِ اعْتَقَدَ مَوَاثِيقَهُمْ مِنْ بَعْدِكَ عَلَى النُّبُوَّةِ «١».
هَذَا الْأَثَرُ مَوْقُوفٌ عَنْ أَنَسٍ. وَيَزِيدُ الرَّقَاشِيُّ وَصَالِحٌ الْمُرِّيُّ ضَعِيفَانِ جَدًّا. وَذَكَرَ السُّدِّيُّ أَنَّ يَعْقُوبَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا حَضَرَهُ الْمَوْتُ أَوْصَى إِلَى يُوسُفَ بِأَنْ يُدْفَنَ عِنْدَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ، فَلَمَّا مَاتَ صَبَّرَهُ وَأَرْسَلَهُ إِلَى الشَّامِ، فَدُفِنَ عِنْدُهُمَا عَلَيْهِمُ السلام.
[سورة يوسف (١٢) : الآيات ١٠٢ الى ١٠٤]
ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ (١٠٢) وَما أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ (١٠٣) وَما تَسْئَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (١٠٤)
يَقُولُ تَعَالَى لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا قَصَّ عَلَيْهِ نَبَأَ إِخْوَةِ يُوسُفَ، وَكَيْفَ رَفَعَهُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ، وَجَعَلَ لَهُ الْعَاقِبَةَ وَالنَّصْرَ وَالْمُلْكَ وَالْحُكْمَ، مَعَ مَا أَرَادُوا بِهِ مِنَ السُّوءِ وَالْهَلَاكِ وَالْإِعْدَامِ، هَذَا وَأَمْثَالُهُ يَا مُحَمَّدُ مِنْ أَخْبَارِ الْغُيُوبِ السَّابِقَةِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَنُعْلِمُكَ به يا محمد لِمَا فِيهِ مِنَ الْعِبْرَةِ لَكَ، وَالِاتِّعَاظِ لِمَنْ خَالَفَكَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ حَاضِرًا عِنْدَهُمْ وَلَا مُشَاهِدًا لَهُمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ أَيْ عَلَى إِلْقَائِهِ فِي الْجُبِّ وَهُمْ يَمْكُرُونَ بِهِ، وَلَكِنَّا أعلمناك به وحيا إليك وإنزالا عليك، كقوله: وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ [آل عمران: ٤٤] الآية، وَقَالَ تَعَالَى: وَما كُنْتَ بِجانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنا إِلى مُوسَى الْأَمْرَ [القصص: ٤٤] الآية، إلى قوله: وَما كُنْتَ بِجانِبِ الطُّورِ إِذْ نادَيْنا [القصص: ٤٦] الآية، وَقَالَ: وَما كُنْتَ ثاوِياً فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا [القصص: ٤٥] الآية، وَقَالَ مَا كانَ لِي مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلى إِذْ يَخْتَصِمُونَ إِنْ يُوحى إِلَيَّ إِلَّا أَنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ [ص: ٦٩- ٧٠] يقول تَعَالَى: أَنَّهُ رَسُولُهُ وَأَنَّهُ قَدْ أَطْلَعَهُ عَلَى أَنْبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ، مِمَّا فِيهِ عِبْرَةٌ لِلنَّاسِ وَنَجَاةٌ لَهُمْ فِي دِينِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ، وَمَعَ هَذَا مَا آمَنَ أَكْثَرُ النَّاسِ، وَلِهَذَا قَالَ: وَما أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ [الأنعام: ١١٦] وَقَالَ: وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كقوله: إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ [الشعراء:
٨] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.
وَقَوْلُهُ: وَما تَسْئَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ أي ما تَسْأَلُهُمْ يَا مُحَمَّدُ عَلَى هَذَا النُّصْحِ وَالدُّعَاءِ إِلَى الْخَيْرِ وَالرُّشْدِ مَنْ أَجْرٍ، أَيْ مِنْ جُعَالَةٍ وَلَا أُجْرَةٍ عَلَى ذَلِكَ، بَلْ تَفْعَلُهُ ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَنُصْحًا لِخَلْقِهِ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ يَتَذَكَّرُونَ بِهِ وَيَهْتَدُونَ وَيَنْجُونَ بِهِ فِي الدُّنْيَا والآخرة.
(١) انظر تفسير الطبري ٧/ ٣٠٩، ٣١٠.

[سورة يوسف (١٢) : الآيات ١٠٥ الى ١٠٧]

وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْها وَهُمْ عَنْها مُعْرِضُونَ (١٠٥) وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلاَّ وَهُمْ مُشْرِكُونَ (١٠٦) أَفَأَمِنُوا أَنْ تَأْتِيَهُمْ غاشِيَةٌ مِنْ عَذابِ اللَّهِ أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (١٠٧)
يُخْبِرُ تَعَالَى عَنْ غَفْلَةِ أَكْثَرِ النَّاسِ عَنِ التَّفَكُّرِ فِي آيَاتِ اللَّهِ وَدَلَائِلِ تَوْحِيدِهِ بِمَا خَلَقَهُ اللَّهُ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ مِنْ كَوَاكِبَ زَاهِرَاتٍ ثَوَابِتَ، وَسَيَّارَاتٍ وَأَفْلَاكٍ دَائِرَاتٍ، وَالْجَمِيعُ مُسَخَّرَاتٌ، وَكَمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ قِطَعٍ مُتَجَاوِرَاتٍ، وَحَدَائِقَ وَجَنَّاتٍ، وَجِبَالٍ رَاسِيَاتٍ، وَبِحَارٍ زَاخِرَاتٍ، وَأَمْوَاجٍ مُتَلَاطِمَاتٍ، وَقِفَارٍ شَاسِعَاتٍ، وَكَمْ مِنْ أَحْيَاءٍ وَأَمْوَاتٍ، وَحَيَوَانٍ وَنَبَاتٍ، وَثَمَرَاتٍ مُتَشَابِهَةٍ وَمُخْتَلِفَاتٍ فِي الطُّعُومِ وَالرَّوَائِحِ وَالْأَلْوَانِ وَالصِّفَاتِ، فَسُبْحَانَ الْوَاحِدِ الْأَحَدِ، خَالِقِ أَنْوَاعِ الْمَخْلُوقَاتِ، الْمُتَفَرِّدِ بِالدَّوَامِ والبقاء والصمدية للأسماء والصفات، وغير ذلك.
وَقَوْلِهِ: وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ قال ابن عباس: من إيمانهم أنهم إِذَا قِيلَ لَهُمْ: مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ، وَمَنْ خَلَقَ الْأَرْضَ، وَمَنْ خَلَقَ الْجِبَالِ؟ قَالُوا: اللَّهُ، وَهُمْ مُشْرِكُونَ بِهِ «١». وَكَذَا قَالَ مُجَاهِدٌ وَعَطَاءٌ وَعِكْرِمَةُ وَالشَّعْبِيُّ وَقَتَادَةُ وَالضَّحَّاكُ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ.
وفي الصَّحِيحَيْنِ: أَنَّ الْمُشْرِكِينَ كَانُوا يَقُولُونَ فِي تَلْبِيَتِهِمْ: لَبَّيْكَ لَا شَرِيكَ لك إلا شريك هو لك، تملكه وما ملك. وفي صحيح مسلم أَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قَالُوا: لَبَّيْكَ لَا شَرِيكَ لك، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «قَدْ قَدْ» أَيْ حَسْبُ حَسْبُ، لَا تَزِيدُوا عَلَى هَذَا «٢».
وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ وهذا هو الشرك الأعظم يَعْبُدُ مَعَ اللَّهِ غَيْرَهُ، كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَيُّ الذَّنْبِ أَعْظَمُ؟ قَالَ: «أَنْ تَجْعَلَ لِلَّهِ نِدًّا وَهُوَ خَلَقَكَ» «٣».
وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ فِي قَوْلِهِ: وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ قَالَ: ذَلِكَ الْمُنَافِقُ يَعْمَلُ إِذَا عَمِلَ رياء الناس، وهو مشرك بعمله ذلك يَعْنِي قَوْلَهُ تَعَالَى: إِنَّ الْمُنافِقِينَ يُخادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خادِعُهُمْ وَإِذا قامُوا إِلَى الصَّلاةِ قامُوا كُسالى يُراؤُنَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا
وَثَمَّ شِرْكٌ آخَرُ خَفِيٌّ لَا يَشْعُرُ بِهِ غَالِبًا فَاعِلُهُ، كَمَا رَوَى حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ عَاصِمِ بْنِ أَبِي النَّجُودِ عَنْ عُرْوَةَ قَالَ: دَخَلَ حُذَيْفَةُ عَلَى مَرِيضٍ فَرَأَى فِي عَضُدِهِ سَيْرًا فَقَطَعَهُ- أَوِ انْتَزَعَهُ- ثُمَّ قَالَ وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ وَفِي الْحَدِيثِ «مَنْ حَلَفَ بِغَيْرِ اللَّهِ فَقَدْ
(١) انظر تفسير الطبري ٧/ ٣١٢.
(٢) أخرجه مسلم في الحج حديث ٢٢.
(٣) أخرجه البخاري في تفسير سورة ٢، باب ٣، ومسلم في الإيمان حديث ١٤١، ١٤٢.
358
أَشْرَكَ» «١» رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهَ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ عُمَرَ.
وَفِي الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ وَغَيْرُهُ عَنِ ابْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ الرُّقَى وَالتَّمَائِمَ وَالتِّوَلَةَ شِرْكٌ» «٢»، وَفِي لَفْظٍ لَهُمَا «الطِّيَرَةُ شِرْكٌ وَمَا مِنَّا إِلَّا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَذْهِبُهُ بِالتَّوَكُّلِ» «٣» وَرَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ بِأَبْسَطِ مِنْ هَذَا فَقَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ، عَنْ يَحْيَى الْجَزَّارِ عَنِ ابْنِ أَخِي زَيْنَبَ، عَنْ زَيْنَبَ امْرَأَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَتْ: كَانَ عَبْدُ اللَّهِ إِذَا جَاءَ مِنْ حاجة فانتهى إلى الباب تنحنح وبزق كراهة أَنْ يَهْجُمَ مِنَّا عَلَى أَمْرٍ يَكْرَهُهُ، قَالَتْ: وَإِنَّهُ جَاءَ ذَاتَ يَوْمٍ فَتَنَحْنَحَ وَعِنْدِي عَجُوزٌ تَرْقِينِي مِنَ الْحُمْرَةِ فَأَدْخَلْتُهَا تَحْتَ السَّرِيرِ، قَالَتْ: فَدَخَلَ فَجَلَسَ إِلَى جَانِبِي، فَرَأَى فِي عُنُقِي خيطا فقال: مَا هَذَا الْخَيْطُ؟
قَالَتْ: قُلْتُ: خَيْطٌ رُقِيَ لي فيه، فَأَخَذَهُ فَقَطَعَهُ ثُمَّ قَالَ: إِنَّ آلَ عَبْدِ اللَّهِ لَأَغْنِيَاءُ عَنِ الشِّرْكِ، سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «إِنَّ الرُّقَى وَالتَّمَائِمَ وَالتِّوَلَةَ شِرْكٌ» قَالَتْ: قُلْتُ لَهُ: لِمَ تَقُولُ هَذَا وَقَدْ كَانَتْ عَيْنِي تَقْذِفُ، فَكُنْتُ أَخْتَلِفُ إِلَى فُلَانٍ الْيَهُودِيِّ يَرْقِيهَا، فَكَانَ إِذَا رقاها سكنت، فقال إِنَّمَا ذَاكَ مِنَ الشَّيْطَانِ كَانَ يَنْخُسُهَا بِيَدِهِ، فإذا رقاها كَفَّ عَنْهَا، إِنَّمَا كَانَ يَكْفِيكِ أَنْ تَقُولِي كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَذْهِبِ الْبَأْسَ، رَبَّ النَّاسِ، اشْفِ وَأَنْتَ الشَّافِي، لَا شِفَاءَ إِلَّا شِفَاؤُكَ شِفَاءً لَا يُغَادِرُ سَقَمًا» «٤».
وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «٥» عَنْ وَكِيعٍ، عَنِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى، عَنْ عيسى بن عبد الرحمن قال: دخلت عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُكَيْمٍ وَهُوَ مَرِيضٌ نعوده، فقيل له، لو تَعَلَّقْتَ شَيْئًا، فَقَالَ: أَتَعَلَّقُ شَيْئًا وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «من تَعَلَّقَ شَيْئًا وُكِلَ إِلَيْهِ» وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ.
وَفِي مُسْنَدِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ «٦» مِنْ حَدِيثِ عَقَبَةَ بْنِ عَامِرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ عَلَّقَ تَمِيمَةً فَقَدْ أَشْرَكَ»، وَفِي رِوَايَةٍ «مَنْ تَعَلَّقَ تَمِيمَةً فَلَا أَتَمَّ اللَّهُ لَهُ، وَمَنْ تَعَلَّقَ وَدَعَةً فَلَا وَدَعَ اللَّهُ لَهُ» «٧»، وَعَنِ الْعَلَاءِ عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ:
«قَالَ اللَّهُ: أَنَا أَغْنَى الشركاء عن الشرك، من عَمِلَ عَمَلًا أَشْرَكَ فِيهِ مَعِي غَيْرِي تَرَكْتُهُ وشركه» رواه
(١) أخرجه الترمذي في النذور باب ٩.
(٢) أخرجه أبو داود في الطب باب ١٧، وابن ماجة في الطب باب ٣٩، وأحمد في المسند ١/ ٣٨١. [.....]
(٣) أخرجه أبو داود في الطب باب ٢٤، والترمذي في السير باب ٤٦، وابن ماجة في الطب باب ٤٣، وأحمد في المسند ١/ ٣٨٩، ٤٣٨، ٤٤٠.
(٤) المسند ١/ ٣٨١.
(٥) المسند ٤/ ٣١٠.
(٦) المسند ٤/ ١٥٦.
(٧) المسند ٤/ ١٥٤.
359
مُسْلِمٌ «١».
وَعَنْ أَبِي سَعِيدِ بْنِ أَبِي فَضَالَةَ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم يقول: «إذا جمع الله الأولين والآخرين لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ يُنَادِي مُنَادٍ: مَنْ كَانَ أَشْرَكَ فِي عَمَلٍ عَمِلَهُ لِلَّهِ، فَلْيَطْلُبْ ثَوَابَهُ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ، فَإِنَّ اللَّهَ أغنى الشركاء عن الشرك» رواه الإمام أحمد «٢».
وقال أَحْمَدُ «٣» : حَدَّثَنَا يُونُسُ حَدَّثَنَا لَيْثٌ عَنْ يَزِيدَ يعني ابن الهادي، عَنْ عَمْرٍو، عَنْ مَحْمُودِ بْنِ لَبِيدٍ أَنَّ رسول الله ﷺ قال: «إِنَّ أَخْوَفَ مَا أَخَافُ عَلَيْكُمُ الشِّرْكُ الْأَصْغَرُ» قَالُوا:
وَمَا الشِّرْكُ الْأَصْغَرُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قال: «الرياء، يقول الله تعالى يوم القيامة إذا جازى الناس بأعمالهم: اذهبوا الى الذين كنتم تراؤون فِي الدُّنْيَا فَانْظُرُوا هَلْ تَجِدُونَ عِنْدَهُمْ جَزَاءً؟» وَقَدْ رَوَاهُ إِسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ أَبِي عَمْرٍو مَوْلَى الْمُطَّلِبِ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ عَنْ مَحْمُودِ بْنِ لَبِيَدٍ بِهِ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «٤» : حَدَّثَنَا حَسَنٌ، أَنْبَأَنَا ابْنُ لَهِيعَةَ، أَنْبَأَنَا ابْنُ هُبَيْرَةَ عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْحُبُلِيِّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ رَدَّتْهُ الطِّيَرَةُ عَنْ حاجته فَقَدْ أَشْرَكَ» قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا كَفَّارَةُ ذَلِكَ؟ قَالَ: «أَنْ يَقُولَ أَحَدُهُمْ: اللَّهُمَّ لَا خَيْرَ إِلَّا خَيْرُكَ، وَلَا طَيْرَ إِلَّا طَيْرُكَ، وَلَا إِلَهَ غَيْرُكَ».
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «٥» : حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ نُمَيْرٍ، حَدَّثَنَا عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ الْعَرْزَمِيِّ عَنْ أَبِي عَلِيٍّ- رَجُلٍ مِنْ بَنِي كَاهِلٍ- قَالَ: خَطَبَنَا أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ فَقَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقَوْا هَذَا الشِّرْكَ، فَإِنَّهُ أَخْفَى مِنْ دَبِيبِ النَّمْلِ. فَقَامَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ حَزْنٍ وَقَيْسُ بْنُ الْمُضَارِبِ فَقَالَا: وَاللَّهِ لَتُخْرِجَنَّ مِمَّا قُلْتَ، أَوْ لَنَأْتِيَنَّ عُمَرَ مَأْذُونًا لَنَا أَوْ غَيْرَ مَأْذُونٍ. قَالَ: بَلْ أُخْرِجُ مِمَّا قَلْتُ، خَطَبَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَاتَ يَوْمٍ فَقَالَ: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقَوْا هَذَا الشِّرْكَ، فَإِنَّهُ أَخْفَى مِنْ دَبِيبِ النَّمْلِ» فَقَالَ لَهُ مَنْ شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَقُولَ: فَكَيْفَ نَتَّقِيهِ وَهُوَ أَخْفَى مِنْ دَبِيبِ النَّمْلِ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ:
«قُولُوا: اللَّهُمَّ إِنَّا نُعُوذُ بِكَ مِنْ أَنْ نُشْرِكَ بِكَ شَيْئًا نَعْلَمُهُ، وَنَسْتَغْفِرُكَ لِمَا لَا نَعْلَمُهُ».
وَقَدْ رُوِيَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ، وَفِيهِ أَنَّ السَّائِلَ فِي ذَلِكَ هُوَ الصِّدِّيقُ، كَمَا رَوَاهُ الْحَافِظُ أَبُو يَعْلَى الْمُوصِلِيُّ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ مُسْلِمٍ، عَنْ لَيْثِ بْنِ أَبِي سُلَيْمٍ، عَنْ أَبِي مُحَمَّدٍ، عَنْ مَعْقِلِ بْنِ يَسَارٍ، قَالَ: شَهِدْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «الشِّرْكُ أَخْفَى فِيكُمْ مِنْ دَبِيبِ النَّمْلِ»، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَهَلِ الشِّرْكُ إِلَّا مَنْ دَعَا مَعَ الله إلها
(١) كتاب الزهد حديث ٤٦.
(٢) المسند ٤/ ٢١٥.
(٣) المسند ٥/ ٤٢٨، ٤٢٩.
(٤) المسند ٢/ ٢٢٠.
(٥) المسند ٤/ ٤٠٣.
360
آخَرَ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الشِّرْكُ فِيكُمْ أَخْفَى مِنْ دَبِيبِ النَّمْلِ» ثُمَّ قَالَ: «أَلَا أَدُلُّكَ عَلَى مَا يُذْهِبُ عنك صغير ذلك وكبيره؟ قُلِ: اللَّهُمَّ إِنِّي أُعَوِّذُ بِكَ أَنَّ أُشْرِكَ بِكَ وَأَنَا أَعْلَمُ، وَأَسْتَغْفِرُكَ مِمَّا لَا أَعْلَمُ».
وَقَدْ رَوَاهُ الْحَافِظُ أَبُو الْقَاسِمِ الْبَغَوِيُّ عَنْ شَيْبَانَ بْنِ فَرُّوخَ، عَنْ يَحْيَى بْنِ كَثِيرٍ، عَنِ الثَّوْرِيِّ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ، عَنْ قَيْسِ بْنِ أبي حازم، عن أبي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الشِّرْكُ أَخْفَى فِي أُمَّتِي مِنْ دَبِيبِ النَّمْلِ عَلَى الصَّفَا» قَالَ: فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ:
يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَكَيْفَ النَّجَاةُ وَالْمَخْرَجُ مِنْ ذَلِكَ؟ فَقَالَ: «أَلَا أُخْبِرُكَ بِشَيْءٍ إِذَا قَلْتَهُ بَرِئْتَ مِنْ قَلِيلِهِ وَكَثِيرِهِ وَصَغِيرِهِ وَكَبِيرِهِ؟» قَالَ: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ: «قُلِ: اللَّهُمَّ إِنِّي أُعَوِّذُ بِكَ أَنَّ أُشْرِكَ بِكَ وَأَنَا أَعْلَمُ، وَأَسْتَغْفِرُكَ لِمَا لَا أَعْلَمُ». قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: يَحْيَى بْنُ كَثِيرٍ هَذَا، يُقَالُ لَهُ أَبُو النَّضْرِ، مَتْرُوكُ الْحَدِيثِ.
وَقَدْ رَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ يَعْلَى بْنِ عَطَاءٍ، سَمِعْتُ عَمْرَو بْنَ عَاصِمٍ، سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ:
يَا رَسُولَ اللَّهِ، عَلِّمْنِي شَيْئًا أَقُولُهُ إِذَا أَصْبَحْتُ وَإِذَا أَمْسَيْتُ، وَإِذَا أَخَذْتُ مَضْجَعِي، قَالَ: «قُلِ:
اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ، عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ، رَبَّ كُلِّ شَيْءٍ وَمَلِيكَهُ، أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ، أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ نفسي ومن شر الشيطان وشركه»
«١»، رواه أبو داود والنسائي وصححه، وزاد الإمام أَحْمَدُ «٢» فِي رِوَايَةٍ لَهُ: مِنْ حَدِيثِ لَيْثٍ بْنُ أَبِي سُلَيْمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ، قَالَ: أَمَرَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ أَقُولَ- فَذَكَرَ هَذَا الدُّعَاءَ وَزَادَ فِي آخِرِهِ- «وَأَنْ أَقْتَرِفَ عَلَى نَفْسِي سُوءًا أَوْ أَجُرَّهُ إِلَى مُسْلِمٍ».
وَقَوْلُهُ: أَفَأَمِنُوا أَنْ تَأْتِيَهُمْ غاشِيَةٌ مِنْ عَذابِ اللَّهِ [يوسف: ٧] الآية، أَيْ أَفَأَمِنَ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكُونَ بِاللَّهِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ أَمْرٌ يَغْشَاهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ [النحل: ٤٥- ٤٦- ٤٧]. وقوله: أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا بَياتاً وَهُمْ نائِمُونَ أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخاسِرُونَ [الأعراف: ٩٧- ٩٨- ٩٩].
[سورة يوسف (١٢) : آية ١٠٨]
قُلْ هذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحانَ اللَّهِ وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٠٨)
يَقُولُ تَعَالَى لِرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الثَّقَلَيْنِ: الْإِنْسِ وَالْجِنِّ، آمِرًا لَهُ أَنْ يخبر الناس أن هذه سبيله
(١) أخرجه أبو داود في الأدب باب ٩٨، وأحمد في المسند ١/ ٩.
(٢) المسند ١/ ١٤.
أي طريقته وَمَسْلَكُهُ وَسُنَّتُهُ، وَهِيَ الدَّعْوَةُ إِلَى شَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، يَدْعُو إِلَى اللَّهِ بِهَا عَلَى بَصِيرَةٍ مِنْ ذَلِكَ وَيَقِينٍ وَبُرْهَانٍ هُوَ وَكُلُّ مَنِ اتَّبَعَهُ يَدْعُو إِلَى مَا دَعَا إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى بَصِيرَةٍ ويقين وبرهان عقلي وشرعي. وَقَوْلُهُ: وَسُبْحانَ اللَّهِ أَيْ وَأُنَزِّهُ اللَّهَ وَأُجِلُّهُ وَأُعَظِّمُهُ وَأُقَدِّسُهُ عَنْ أَنْ يَكُونَ لَهُ شَرِيكٌ أَوْ نَظِيرٌ أَوْ عَدِيلٌ أَوْ نَدِيدٌ أَوْ وَلَدٌ أَوْ وَالِدٌ أَوْ صَاحِبَةٌ أَوْ وَزِيرٌ أو مشير، تبارك وتقدس وتنزه وتعالى عَنْ ذَلِكَ كُلِّهِ عُلُوًّا كَبِيرًا، تُسَبِّحُ لَهُ السَّماواتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً [الإسراء: ٤٤].
[سورة يوسف (١٢) : آية ١٠٩]
وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلاَّ رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرى أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلا تَعْقِلُونَ (١٠٩)
يُخْبِرُ تَعَالَى أَنَّهُ إِنَّمَا أَرْسَلَ رُسُلَهُ مِنَ الرِّجَالِ لَا مِنَ النِّسَاءِ، وَهَذَا قَوْلُ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ، كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ سِيَاقُ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يُوحِ إِلَى امْرَأَةٍ مِنْ بَنَاتِ بَنِي آدَمَ وَحْيَ تَشْرِيعٍ.
وَزَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّ سَارَّةَ امْرَأَةَ الْخَلِيلِ وأم موسى ومريم بنت عمران أَمَّ عِيسَى نَبِيَّاتٌ، وَاحْتَجُّوا بِأَنَّ الْمَلَائِكَةَ بَشَّرَتْ سَارَّةَ بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ، وَبِقَوْلِهِ: وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى أَنْ أَرْضِعِيهِ [القصص: ٧] الآية، وَبِأَنَّ الْمَلَكَ جَاءَ إِلَى مَرْيَمَ فَبَشَّرَهَا بِعِيسَى عليه السلام، وبقوله تَعَالَى: إِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفاكِ عَلى نِساءِ الْعالَمِينَ يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ [آلِ عِمْرَانَ: ٤٢- ٤٣].
وَهَذَا الْقَدْرُ حَاصِلٌ لَهُنَّ، وَلَكِنْ لَا يَلْزَمُ مِنْ هَذَا أَنْ يَكُنَّ نَبِيَّاتٍ بِذَلِكَ، فَإِنْ أَرَادَ الْقَائِلُ بِنُبُوَّتِهِنَّ هَذَا الْقَدْرَ مِنَ التَّشْرِيفِ، فَهَذَا لَا شَكَّ فِيهِ، وَيَبْقَى الْكَلَامُ مَعَهُ فِي أَنَّ هَذَا هَلْ يَكْفِي فِي الِانْتِظَامِ فِي سَلْكِ النُّبُوَّةِ بِمُجَرَّدِهِ أَمْ لا؟ الذي عليه أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ، وَهُوَ الَّذِي نَقَلَهُ الشَّيْخُ أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ إِسْمَاعِيلَ الْأَشْعَرِيُّ عَنْهُمْ أَنَّهُ لَيْسَ فِي النِّسَاءِ نَبِيَّةٌ، وَإِنَّمَا فِيهِنَّ صِدِّيقَاتٌ، كَمَا قَالَ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ أَشْرَفِهِنَّ مريم بنت عمران حيث قال تَعَالَى: مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعامَ [الْمَائِدَةِ: ٧٥] فَوَصَفَهَا فِي أَشْرَفِ مَقَامَاتِهَا بِالصِّدِّيقَيةِ، فَلَوْ كَانَتْ نَبِيَّةً لَذَكَرَ ذَلِكَ فِي مَقَامِ التَّشْرِيفِ وَالْإِعْظَامِ، فَهِيَ صِدِّيقَةٌ بِنَصِّ الْقُرْآنِ.
وَقَالَ الضَّحَّاكُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجالًا الآية، أَيْ لَيْسُوا مِنْ أَهْلِ السَّمَاءِ كَمَا قُلْتُمْ، وَهَذَا الْقَوْلُ مِنِ ابْنِ عَبَّاسٍ يَعْتَضِدُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْواقِ [الْفُرْقَانِ: ٢٠] الآية، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَما جَعَلْناهُمْ جَسَداً لَا يَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَما كانُوا خالِدِينَ ثُمَّ صَدَقْناهُمُ الْوَعْدَ فَأَنْجَيْناهُمْ وَمَنْ نَشاءُ وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ [الْأَنْبِيَاءِ: ٨- ٩]. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ
[الأحقاف: ٩] الآية. وَقَوْلُهُ: مِنْ أَهْلِ الْقُرى الْمُرَادُ بِالْقُرَى الْمُدُنُ لَا أَنَّهُمْ مِنْ أَهْلِ الْبَوَادِي الَّذِينَ هُمْ من أَجْفَى النَّاسِ طِبَاعًا وَأَخْلَاقًا، وَهَذَا هُوَ الْمَعْهُودُ الْمَعْرُوفُ أَنَّ أَهْلَ الْمُدُنِ أَرَقُّ طِبَاعًا وَأَلْطَفُ مِنْ أَهْلِ سَوَادِهِمْ، وَأَهْلُ الرِّيفِ وَالسَّوَادِ أَقْرَبُ حَالًا مِنَ الَّذِينَ يَسْكُنُونَ فِي الْبَوَادِي، وَلِهَذَا قال تعالى: الْأَعْرابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفاقاً الآية.
وَقَالَ قَتَادَةُ فِي قَوْلِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى لأنهم أعلم وأحلم من أهل العمور. وَفِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ أَنَّ رَجُلًا مِنَ الْأَعْرَابِ أَهْدَى لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَاقَةً فَلَمْ يَزَلْ يُعْطِيهِ وَيَزِيدُهُ حَتَّى رَضِيَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لقد هممت أن لا أَتَّهِبَ هِبَةً إِلَّا مِنْ قُرَشِيٍّ أَوْ أَنْصَارِيٍّ أَوْ ثَقَفِيٍّ أَوْ دَوْسِيٍّ» «١».
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «٢» : حَدَّثَنَا حَجَّاجٌ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ الْأَعْمَشِ عَنْ يَحْيَى بْنِ وَثَّابٍ، عَنْ شَيْخٍ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ الْأَعْمَشُ: هُوَ ابْنُ عُمَرَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «الْمُؤْمِنُ الَّذِي يُخَالِطُ النَّاسَ وَيَصْبِرُ عَلَى أَذَاهُمْ خَيْرٌ مِنَ الَّذِي لَا يُخَالِطُهُمْ وَلَا يَصْبِرُ عَلَى أَذَاهُمْ.
وَقَوْلُهُ: أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ يَعْنِي هَؤُلَاءِ الْمُكَذِّبِينَ لَكَ يَا مُحَمَّدُ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أَيْ مِنَ الْأُمَمِ الْمُكَذِّبَةِ لِلرُّسُلِ، كَيْفَ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا، كَقَوْلِهِ: أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِها [الحج:
٤٦] الآية، فَإِذَا اسْتَمَعُوا خَبَرَ ذَلِكَ رَأَوْا أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ الْكَافِرِينَ وَنَجَّى الْمُؤْمِنِينَ، وَهَذِهِ كَانَتْ سُنَّتَهُ تَعَالَى فِي خَلْقِهِ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: وَلَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَيْ وَكَمَا نجينا الْمُؤْمِنِينَ فِي الدُّنْيَا كَذَلِكَ كَتَبْنَا لَهُمُ النَّجَاةَ في الدار الآخرة وهي خير لهم من الدنيا بكثير، كقوله: إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ يَوْمَ لَا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ [غَافِرٍ: ٤٠- ٤١] وَأَضَافَ الدَّارَ إِلَى الْآخِرَةِ، فَقَالَ:
وَلَدارُ الْآخِرَةِ كما يقال: صلاة الأولى ومسجد الجامع، وعام أول، وبارحة الأولى، ويوم الخميس. وقال الشاعر: [الوافر]
أَتَمْدَحُ فَقْعَسًا وَتَذُمُّ عَبْسًا أَلَا لِلَّهِ أَمَّكَ مِنْ هَجِينٍ «٣»
وَلُوْ أَقْوَتْ عَلَيْكَ دِيَارُ عَبْسٍ عرفت الذل عرفان اليقين
[سورة يوسف (١٢) : آية ١١٠]
حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جاءَهُمْ نَصْرُنا فَنُجِّيَ مَنْ نَشاءُ وَلا يُرَدُّ بَأْسُنا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (١١٠)
يذكر تَعَالَى أَنَّ نَصْرَهُ يَنْزِلُ عَلَى رُسُلِهِ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ عِنْدَ ضَيِّقِ الْحَالِ وانتظار الفرج من الله في أحوج الأوقات إليه، كقوله تعالى: وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ
(١) أخرجه أحمد في المسند ١/ ٢٩٥، ٢/ ٢٤٧.
(٢) المسند ٢/ ٤٣، ٥/ ٣٦٥. [.....]
(٣) البيتان بلا نسبة في تفسير الطبري ٧/ ٣١٦.
363
وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتى نَصْرُ اللَّهِ [البقرة: ٢١٤] الآية، وَفِي قَوْلِهِ: كُذِبُوا قِرَاءَتَانِ إِحْدَاهُمَا بِالتَّشْدِيدِ قَدْ كُذِّبُوا، وَكَذَلِكَ كَانَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا تَقْرَؤُهَا.
قَالَ الْبُخَارِيُّ «١» : حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ صَالِحِ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزبير عن عائشة أنها قَالَتْ لَهُ وَهُوَ يَسْأَلُهَا عَنْ قَوْلِ اللَّهِ تعالى:
حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ قال: قلت: أكذبوا أم كذبوا؟ قالت عائشة كذبوا. قلت فَقَدِ اسْتَيْقَنُوا أَنَّ قَوْمَهُمْ قَدْ كَذَّبُوهُمْ فَمَا هُوَ بِالظَّنِّ؟: قَالَتْ: أَجَلْ لَعَمْرِي لَقَدِ اسْتَيْقَنُوا بِذَلِكَ، فَقُلْتُ لَهَا: وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا قَالَتْ مَعَاذَ اللَّهِ لَمْ تَكُنِ الرُّسُلُ تَظُنُّ ذَلِكَ بِرَبِّهَا قُلْتُ: فَمَا هَذِهِ الْآيَةُ؟ قَالَتْ: هُمْ أَتْبَاعُ الرُّسُلِ الَّذِينَ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَصَدَّقُوهُمْ، فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْبَلَاءُ، وَاسْتَأْخَرَ عَنْهُمُ النَّصْرُ حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ مِمَّنْ كَذَّبَهُمْ مِنْ قَوْمِهِمْ، وَظَنَّتِ الرُّسُلُ أن أتباعهم قد كذبوهم، جاء نَصْرُ اللَّهِ عِنْدَ ذَلِكَ، حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ، أنبأنا شعبة عن الزهري قال: أخبرنا عروة فقلت لها: لَعَلَّهَا قَدْ كُذِبُوا مُخَفَّفَةً؟ قَالَتْ: مَعَاذَ اللَّهِ. انْتَهَى مَا ذَكَرَهُ.
وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: أَخْبَرَنِي ابْنُ أَبَى مُلَيْكَةَ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ قَرَأَهَا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا خَفِيفَةً. قَالَ عَبْدُ الله هو ابن أبي مُلَيْكَةَ ثُمَّ قَالَ لِي ابْنُ عَبَّاسٍ: كَانُوا بشرا، ثم تلا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ [الْبَقَرَةِ: ٢١٤] قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ:
وَقَالَ لِي ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ، وَأَخْبَرَنِي عُرْوَةُ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا خَالَفَتْ ذَلِكَ وَأَبَتْهُ، وَقَالَتْ: مَا وَعَدَ اللَّهُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا قَدْ عَلِمَ أَنَّهُ سَيَكُونُ حَتَّى مَاتَ، وَلَكِنَّهُ لَمْ يَزَلِ الْبَلَاءُ بِالرُّسُلِ حَتَّى ظَنُّوا أَنَّ مَنْ مَعَهُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ كَذَّبُوهُمْ. قَالَ ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ فِي حَدِيثِ عُرْوَةَ، كَانَتْ عَائِشَةُ تَقْرَؤُهَا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا مثقلة من التكذيب «٢».
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: أَنْبَأَنَا يُونُسُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى قِرَاءَةً، أَنْبَأَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي سُلَيْمَانَ بْنِ بِلَالٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ قَالَ: جَاءَ إِنْسَانٌ إِلَى الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ فَقَالَ: إِنَّ مُحَمَّدَ بْنَ كعب القرظي قرأ هذه الآية حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا فَقَالَ الْقَاسِمُ: أَخْبِرْهُ عَنِّي أَنِّي سَمِعْتُ عائشة زَوْجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَقُولُ: حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا تقول: كذبهم أَتْبَاعُهُمْ إِسْنَادٌ صَحِيحٌ أَيْضًا.
وَالْقِرَاءَةُ الثَّانِيَةُ بِالتَّخْفِيفِ، وَاخْتَلَفُوا فِي تَفْسِيرِهَا، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ مَا تَقَدَّمَ. وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ فِيمَا رَوَاهُ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي الضُّحَى، عَنْ مَسْرُوقٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّهُ قَرَأَ حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا مُخَفَّفَةً، قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: هُوَ الَّذِي تَكْرَهُ».
(١) كتاب التفسير، تفسير سورة ١٢، باب ٦.
(٢) انظر تفسير الطبري ٧/ ٣٢١.
(٣) انظر تفسير الطبري ٧/ ٣١٩.
364
وهذا عن ابن عباس وابن مسعود رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، مُخَالِفٌ لِمَا رَوَاهُ آخَرُونَ عَنْهُمَا. أَمَّا ابْنُ عَبَّاسٍ، فَرَوَى الْأَعْمَشُ عَنْ مُسْلِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا قَالَ: لَمَّا أَيِسَتِ الرُّسُلُ أَنْ يَسْتَجِيبَ لَهُمْ قَوْمُهُمْ وَظَنَّ قَوْمُهُمْ أَنَّ الرُّسُلَ قَدْ كَذَّبُوهُمْ، جَاءَهُمُ النَّصْرُ عَلَى ذَلِكَ فَنُجِّيَ مَنْ نَشاءُ وَكَذَا رُوِيَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَعِمْرَانَ بْنِ الْحَارِثِ السُّلَمِيِّ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مُعَاوِيَةَ وعلي بْنُ أَبِي طَلْحَةَ وَالْعَوْفِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ بِمِثْلِهِ.
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ «١» : حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا عَارِمٌ أَبُو النُّعْمَانِ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، حَدَّثَنَا شُعَيْبٌ، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ أَبِي حُرَّةَ الْجَزْرِيُّ قَالَ: سَأَلَ فَتَى مِنْ قُرَيْشٍ سَعِيدَ بْنَ جُبَيْرٍ فَقَالَ لَهُ:
يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ كَيْفَ هَذَا الْحَرْفُ، فَإِنِّي إِذَا أتيت عليه تمنيت أن لَا أَقْرَأُ هَذِهِ السُّورَةَ حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا؟ قَالَ: نَعَمْ حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ مِنْ قَوْمِهِمْ أَنْ يصدقوهم، وظن المرسل إليهم أن الرسل قد كُذِّبُوا، فَقَالَ الضَّحَّاكُ بْنُ مُزَاحِمٍ: مَا رَأَيْتُ كَالْيَوْمِ قَطُّ رَجُلًا يُدْعَى إِلَى عِلْمٍ فَيَتَلَكَّأُ، ولو رحلت إلى اليمن في هذه كَانَ قَلِيلًا.
ثُمَّ رَوَى ابْنُ جَرِيرٍ «٢» أَيْضًا مِنْ وَجْهٍ آخَرَ أَنَّ مُسْلِمَ بْنَ يَسَارٍ سَأَلَ سَعِيدَ بْنَ جُبَيْرٍ عَنْ ذَلِكَ، فَأَجَابَهُ بِهَذَا الْجَوَابِ، فَقَامَ إِلَى سَعِيدٍ فَاعْتَنَقَهُ وَقَالَ: فَرَّجَ اللَّهُ عَنْكَ كَمَا فَرَّجَتْ عَنِّي، وَهَكَذَا رُوِيَ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ أَنَّهُ فَسَّرَهَا كَذَلِكَ، وَكَذَا فَسَّرَهَا مُجَاهِدُ بْنُ جَبْرٍ وَغَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ السَّلَفِ حَتَّى إِنَّ مُجَاهِدًا قَرَأَهَا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا بِفَتْحِ الذَّالِ. رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ إِلَّا أَنَّ بَعْضَ مَنْ فَسَّرَهَا كَذَلِكَ يُعِيدُ الضَّمِيرَ فِي قَوْلِهِ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا إِلَى أَتْبَاعِ الرُّسُلِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُعِيدُهُ إِلَى الْكَافِرِينَ مِنْهُمْ، أَيْ وَظَنَّ الْكُفَّارُ أَنَّ الرُّسُلَ قَدْ كَذَبُوا مُخَفَّفَةً فِيمَا وَعَدُوا بِهِ مِنَ النَّصْرِ. وَأَمَّا ابْنُ مَسْعُودٍ.
فَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ «٣» : حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ فُضَيْلٍ عَنْ جَحْشِ بْنِ زِيَادٍ الضَّبِّيِّ عَنْ تَمِيمِ بْنِ حَذْلَمٍ قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ يَقُولُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ مِنْ إِيمَانِ قَوْمِهِمْ أَنْ يُؤْمِنُوا بِهِمْ وَظَنَّ قَوْمُهُمْ حِينَ أَبْطَأَ الْأَمْرُ أَنَّهُمْ قَدْ كَذَبُوا بِالتَّخْفِيفِ- فَهَاتَانِ الرِّوَايَتَانِ عَنْ كُلٍّ مِنَ ابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَقَدْ أَنْكَرَتْ ذَلِكَ عَائِشَةُ عَلَى مَنْ فَسَّرَهَا بِذَلِكَ، وَانْتَصَرَ لَهَا ابْنُ جَرِيرٍ، وَوَجَّهَ الْمَشْهُورَ عَنِ الْجُمْهُورِ وَزَيَّفَ الْقَوْلَ الْآخَرَ بِالْكُلِّيَّةِ، وَرَدَّهُ وَأَبَاهُ ولم يقبله ولا ارتضاه، والله أعلم.
[سورة يوسف (١٢) : آية ١١١]
لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبابِ مَا كانَ حَدِيثاً يُفْتَرى وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (١١١)
(١) تفسير الطبري ٧/ ٣١٨، ٣١٩.
(٢) تفسير الطبري ٧/ ٣١٩.
(٣) تفسير الطبري ٧/ ٣١٩، ٣٢٠.
365
يَقُولُ تَعَالَى: لَقَدْ كَانَ فِي خَبَرِ الْمُرْسَلِينَ مع قومهم، وكيف نجينا الْمُؤْمِنِينَ وَأَهْلَكْنَا الْكَافِرِينَ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبابِ وَهِيَ الْعُقُولُ، مَا كانَ حَدِيثاً يُفْتَرى أَيْ وَمَا كَانَ لِهَذَا الْقُرْآنِ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ، أَيْ يُكَذَّبَ وَيُخْتَلَقَ وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ أَيْ: مِنَ الْكُتُبِ الْمُنَزَّلَةِ مِنَ السَّمَاءِ وَهُوَ يُصَدِّقُ مَا فِيهَا مِنَ الصَّحِيحِ، وَيَنْفِي مَا وَقَعَ فِيهَا مِنْ تَحْرِيفٍ وَتَبْدِيلٍ وَتَغْيِيرٍ، وَيَحْكُمُ عَلَيْهَا بِالنَّسَخِ أَوِ التَّقْرِيرِ.
وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ مِنْ تَحْلِيلٍ وَتَحْرِيمٍ وَمَحْبُوبٍ وَمَكْرُوهٍ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَمْرِ بِالطَّاعَاتِ وَالْوَاجِبَاتِ وَالْمُسْتَحَبَّاتِ، وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُحَرَّمَاتِ وَمَا شَاكَلَهَا مِنَ الْمَكْرُوهَاتِ، والإخبار عن الأمور الْجَلِيَّةِ، وَعَنِ الْغُيُوبِ الْمُسْتَقْبَلَةِ الْمُجْمَلَةِ وَالتَّفْصِيلِيَّةِ، وَالْإِخْبَارِ عن الرب تبارك وتعالى وبالأسماء والصفات، وتنزهه عَنْ مُمَاثَلَةِ الْمَخْلُوقَاتِ، فَلِهَذَا كَانَ هُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ تَهْتَدِي بِهِ قُلُوبُهُمْ مِنَ الْغَيِّ إلى الرشاد، ومن الضلال إِلَى السَّدَادِ، وَيَبْتَغُونَ بِهِ الرَّحْمَةَ مِنْ رَبِّ الْعِبَادِ، فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْمَعَادِ، فَنَسْأَلُ اللَّهَ الْعَظِيمَ أَنْ يَجْعَلَنَا مِنْهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، يَوْمَ يَفُوزُ بِالرِّبْحِ الْمُبْيَضَّةُ وُجُوهُهُمُ النَّاضِرَةُ، وَيَرْجِعُ الْمُسْوَدَّةُ وُجُوهُهُمْ بِالصَّفْقَةِ الْخَاسِرَةِ. آخَرُ تفسير سورة يوسف عليه السلام ولله الحمد والمنة وبه المستعان.
366
Icon