تفسير سورة يوسف

لطائف الإشارات
تفسير سورة سورة يوسف من كتاب تفسير القشيري المعروف بـلطائف الإشارات .
لمؤلفه القشيري . المتوفي سنة 465 هـ

وقدّم الله- سبحانه- اسم الله فى هذا المحل على اسميه الرحمن والرحيم على وجه البيان والحكم، فبرحمته الدنيوية وصل العبد إلى معرفته الإلهية.
والإشارة من الباء- التي هى حرف التضمين والإلصاق- إلى أنّ «به» عرف من عرف، وبه وقف من وقف فالواصل إليه محمول بإحسانه، والواقف دونه مربوط بخذلانه.
قوله جل ذكره:
[سورة يوسف (١٢) : آية ١]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ (١)
التخاطب بالحروف المتفرقة غير المنظومة سنّة الأحباب فى ستر المحابّ فالقرآن- وإن كان المقصود منه الإيضاح والبيان- ففيه تلويح وتصريح، ومفصّل ومجمل، قال قائلهم:
أبكى إلى الشرق إن كانت منازلكم مما يلى الغرب خوف القيل والقال
ويقال وقفت فهوم الخلق عن الوقوف على أسراره فيما خاطب به حبيبه- صلى الله عليه وسلم، فهم تعبدوا به وآمنوا به على الجملة ولكنه أفرد الحبيب بفهمه، فهو سرّ الحبيب عليه السلام بحيث لا يطلع عليه الرقيب، يقول قائلهم:
بين المحبين سرّ ليس يفشيه قول، ولا قلم للخلق يحكيه
وفى إنزال هذه الحروف المقطعة إشارة: وهى أنّ من كان بالعقل والصحو استنبط من اللفظ اليسير كثيرا من المعاني، ومن كان بالغيبة والمحو يسمع الكثير فلا يفهم منه اليسير ذاك لكمال عقله وهذا لتمام وصله فأنزل الله هذه الحروف التي لا سبيل إلى الوقوف على معانيها، ليكون للأحباب فرجة حينما لا يقفون على معانيها بعدم السبيل إليها فلا تتوجه عليهم مطالبة بالفهم، وكان ذلك لائقا بأحوالهم إذا كانوا مستغرقين فى عين الجمع، ولذا قيل:
استراح من العقل له «١».
وقوله تعالى: «تِلْكَ» يحتمل أن يكون إشارة إلى أن هذا خبر الوعد الذي وعدناك.
(١) هكذا فى (ص) ونرجح أنها (استراح من لا عقل له) والعقل هنا معناه الوعى.
وقيل هذا تعريفنا: إليك بالتخصيص، وإفرادنا لك بالتقريب- قد حقّقناه لك فهذه الحروف بيان للإنجاز ولتحقيق الموعود.
والإشارة من «الْكِتابِ الْمُبِينِ» هاهنا إلى حكمه السابق له بأنّ يرقّيه إلى الرتبة التي لا يبلغها غيره، وقد قال تعالى: «وَما كُنْتَ بِجانِبِ الطُّورِ إِذْ نادَيْنا..» «١» أي حين كلّمنا موسى عليه السلام، وأخبرناه بعلوّ قدرك، ولم تكن حاضرا، وأخبرناه بأننا نبلغّك هذا المقام الذي أنت فيه الآن. وكذلك كلّ من أوحينا إليه ذكرنا له قصتك، وشرحنا له خلقتك، فالآن وقت تحقيق ما أخبرنا به، وفى معناه أنشدوا:
سقيا لمعهدك الذي لو لم يكن ما كان قلبى للصبابة معهدا
قال الله تعالى: «وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ» يعنى بعد التوراة «أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ» «٢» يعنى أمة محمد.
قوله جل ذكره:
[سورة يوسف (١٢) : آية ٢]
إِنَّا أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (٢)
فى إنزال الكتاب عليه، وإرسال الرسول «٣» إليه- تحقيق لأحكام المحبة، وتأكيد لأسباب الوصلة فإنّ من عدم حقيقة الوصول استأنس بالرسول، ومن بقي عن شهود الأحباب تسلّى بوجود الكتاب، قال قائلهم:
وكتبك حولى لا تفارق مضجعى ففيها شفاء للذى أنا كاتم
قوله جل ذكره:
[سورة يوسف (١٢) : آية ٣]
نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِما أَوْحَيْنا إِلَيْكَ هذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغافِلِينَ (٣)
«أَحْسَنَ الْقَصَصِ» : لخلوّه عن الأمر والنهى الذي سماعه يوجب اشتغال القلب بما هو يعرّض لوقوع التقصير.
«أَحْسَنَ الْقَصَصِ» : ففيه ذكر الأحباب.
(١) آية ٤٦ سورة القصص.
(٢) آية ١٠٥ سورة الأنبياء.
(٣) (الرسول) هنا مقصود به القرآن الكريم أو جبريل- كما هو واضح من السياق.
«أَحْسَنَ الْقَصَصِ» : لأن فيه عفو يوسف عن جنايات إخوته.
«أَحْسَنَ الْقَصَصِ» : لما فيه من ذكر ترك يوسف لامرأة العزيز وإعراضه عنها عند ما راودته عن نفسه.
«أَحْسَنَ الْقَصَصِ» : بالإضافة إلى ما سألوه أن يقص عليهم من أحوال الناس.
«أَحْسَنَ الْقَصَصِ» : لأنه غير مخلوق «١».
ويقال لمّا أخبره الله- سبحانه- أن هذه القصة أحسن القصص وجد رسول الله- صلى الله عليه وسلم- لنفسه مزايا وزوائد لتخصيصه فعلم أن الله تعالى لم يرقّ أحدا إلى مثل مارّقاه.
قوله جل ذكره: وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغافِلِينَ أي الذاهبين عن فهم هذه القصة. أي ما كنت إلا من جملة الغافلين عنها قبل أن أوحينا إليك بها، أي إنك لم تصلّ إلى معرفتها بكدّك وجهدك، ولا بطلبك وجدّك...
بل هذه مواهب لا مكاسب فبعطائنا وجدّتها لا بعنائك، وبتفضّلنا لا بتعلّمك، وبتلطّفنا لا بتكلّفك، وبنا لا بك.
قوله جل ذكره:
[سورة يوسف (١٢) : آية ٤]
إِذْ قالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ (٤)
لما ذكر يوسف- عليه السلام- رؤياه لأبيه علم يعقوب- عليه السلام صدّق تعبيرها، ولذلك كان دائم التذكّر ليوسف مدة غيبته، وحين تطاولت كان يذّكره حتى قالوا:
«تَاللَّهِ تَفْتَؤُا تَذْكُرُ يُوسُفَ» فقال: «إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ» فهو كان على ثقة من صدّق رؤياه فإن قيل: فإذا كان الصبىّ لا حكم لفعله فكيف يكون حكم لرؤياه؟ وما الفرق؟
(١) القرآن غير مخلوق.. هذا أصل من الأصول الكلامية الهامة عند الأشاعرة- ومنهم القشيري.
فيقال: إن الفعل بتعمّد يحصل فيكون معرّضا لتقصير فاعله، أمّا الرؤيا فلا تكون بتعمد منه فتنسب إلى نقصان.
ويقال إنّ حقّ السّرّ الكتمان ولو كان على من هو قريب منك فإن يوسف لما أظهر سرّ رؤياه على أبيه اتصل به البلاء.
قوله جل ذكره:
[سورة يوسف (١٢) : آية ٥]
قالَ يا بُنَيَّ لا تَقْصُصْ رُؤْياكَ عَلى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً إِنَّ الشَّيْطانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ (٥)
إذا جاء القضاء لا ينفع الوعظ والحذر فإن النصيحة والحذر لا يزيدان على ما نصح يعقوب ليوسف عليهما السلام، ولكن لمّا سبق التقدير فى أمر يوسف- عليه السلام- حصل ما حصل.
ويقال إن يوسف خالف وصية أبيه فى إظهار رؤياه إذ لو لم يظهرها لما كادوا له، فلا جرم بسبب مخالفته لأبيه- وإن كان صبيا صغيرا- لم يعر من البلايا.
ويقال لما رأى يوسف فى منامه ما كان تأويله سجود الإخوة له رأى ما تعبيره: وسجود أبيه وخالته حيث قال تعالى: «وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ» فدخل الإخوة الحسد «١» أما الأب فلم يدخله إلا بنفسه لفرط شفقة الأبوة.
ويقال صدق تعبيره فى الإخوة فسجدوا له حيث قال: «وَ، خَرُّوا لَهُ سُجَّداً» ولم يسجد الأب ولا خالته حيث قال: «وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ» فإن يوسف صانهما عن ذلك مراعاة لحشمة الأبوة.
قوله جل ذكره:
[سورة يوسف (١٢) : آية ٦]
وَكَذلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلى آلِ يَعْقُوبَ كَما أَتَمَّها عَلى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٦)
أي كما أكرمك بهذه الرؤيا التي أراكها يجتبيك ويحسن إليك بتحقيق هذه الرؤيا، وكما أكرمك بوعد النعمة أكرمك بتحقيقها.
ويقال الاجتباء ما ليس للمخلوق فيه أثر، فما يحصل للعبد من الخيرات- لا بتكلفه ولا بتعمده- فهو قضية الاجتباء.
(١) وردت (الحد) والصواب أن تكون الحسد (انظر توضيح ذلك بعد قليل صفحة ١٧٠) ودخول الأب كان بنفسه ولم يكن بقلبه، وكان سببه شدة الإشفاق على ولده.
ويقال من الاجتباء المذكور أن عصمه عن ارتكاب ما راودته امرأة العزيز عن نفسه.
ويقال من قضية الاجتباء إسباله الستر على فعل إخوته حيث قال: «وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ»، ولم يذكر خلاصه من البئر. ومن قضية الاجتباء توفيقه لسرعة العفو عن إخوته حيث قال: «لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ» قوله جل ذكره: وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ أي لتعرف قدر كلّ أحد، وتقف على مقدار كلّ قائل بما تسمع من حديثه.. لا من قوله بل لحدّة كياستك وفرط فراستك.
قوله جل ذكره: وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلى آلِ يَعْقُوبَ كَما أَتَمَّها عَلى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ من إتمام النعمة توفيق الشكر على النعمة، ومن إتمام النعمة صونها عن السّلب والتغيير، ومن إتمام النعمة التّحرز «١» منها حتى تسهل عليك السماحة بها.
قوله جل ذكره:
[سورة يوسف (١٢) : آية ٧]
لَقَدْ كانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آياتٌ لِلسَّائِلِينَ (٧)
يعنى لكلّ ذى محنة حتى يعلم كيف يصبر، ولكلّ ذى نعمة حتى يعلم كيف يشكر.
ويقال فى قصتهم كيفية العفو عن الزلّة، وكيفية الخجلة لأهل الجفاء عند اللقاء.
ويقال فى قصتهم دلالات لطف الله سبحانه بأوليائه بالعصمة، وآيات على أنّ المحبة (... ) «٢» من المحنة.
ويقال فيها آيات على أنّ من صدق فى رجائه يختصّ- يوما- ببلائه.
(١) (التحرز) من النعمة التوقي منها، وإذا افترضنا أنها قد تكون (التحرر) بالراء فمعناها ألا يكون العبد أسيرا للنعمة حتى يسهل عليه أن يجود بها... وكلاهما صحيح مقبول فى السياق. [.....]
(٢) متشبهة
قوله جل ذكره:
[سورة يوسف (١٢) : آية ٨]
إِذْ قالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلى أَبِينا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبانا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٨)
عرّفوا على ما ستروه من الحسد، ولم يحتالوا فى إخراج ذلك من قلوبهم بالوقيعة فى أبيهم حتى قالوا: «إِنَّ أَبانا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ».
ويقال لمّا اعترضوا بقلوبهم على أبيهم فى تقديم يوسف فى المحبة عاقبهم بأن أمهلهم «١» حتى بسطوا فى أبيهم لسان الوقيعة فوصفوه بلفظ الضلال، وإن كان المراد منه الذهاب فى حديث يوسف عليه السلام. ولمّا حسدوا يوسف على تقديم أبيهم له لم يرض- سبحانه- حتى أقامهم بين يدى يوسف عليه السلام، وخرّوا له سجّدا ليعلموا أنّ الحسود لا يسود.
ويقال أطول الناس حزنا من لاقّى الناس عن مرارة، وأراد تأخير من قدّمه الله أو تقديم من أخّره الله فإخوة يوسف- عليه السلام- أرادوا أن يجعلوه فى أسفل الجبّ فرفعه الله فوق السرير! قوله جل ذكره:
[سورة يوسف (١٢) : آية ٩]
اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضاً يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْماً صالِحِينَ (٩)
أي يخلص لكم إقبال أبيكم عليكم، وقديما قيل: من طلب الكلّ فاته الكلّ فلمّا أرادوا أن يكون إقبال يعقوب- عليه السلام- بالكليّة- عليهم قال تعالى:
«فَتَوَلَّى عَنْهُمْ».
ويقال كان قصّدهم ألا يكون يوسف أمام عينه فقالوا: إمّا القتل وإمّا النّفى، ولا بأس بما يكون بعد ألا يكون يوسف عليه السلام.
قوله جل ذكره: وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْماً صالِحِينَ عجّلوا بالحرام، وعلّقوا التوبة بالتسويف والعزم، فلم يمح ما أجّلوا من التوبة ما عجّلوا من الحوبة.
(١) وردت (أهملهم) وهى خطأ في النسخ لأن الله لا يهمل ولكن يمهل، والسياق يقتضى (الإمهال).
ويقال لم تطبّ نفوسهم بأن يذهبوا عن باب الله بالكليّة فدبّروا لحسن الرجوع قبل ارتكاب مادعته إليه نفوسهم، وهذه صفة أهل العرفان بالله «١».
قوله جل ذكره:
[سورة يوسف (١٢) : آية ١٠]
قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ لا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ (١٠)
إخوة يوسف- وإن قابلوه بالجفاء- منعتهم شفقة النّسب وحرمة القرابة من الإقدام على قتله فقالوا لا تقتلوه وغيّبوا شخصه.
ويقال إنما حملهم على إلقائه مرادهم أن يخلو لهم وجه أبيهم، فلمّا أرادوا حصول مرادهم فى تغييبه لم يبالغوا فى تعذيبه.
ويقال لمّا كان المعلوم له- سبحانه- فى أمر يوسف تبليغه إياه تلك القربة ألقى الله فى قلب قائلهم حتى قال: «لا تَقْتُلُوا يُوسُفَ».
ثم إنه- وإن أبلاه فى الحال- سهّل عليه ذلك فى جنب ما رقّاه إليه فى المآل «٢»، قال قائلهم:
كم مرة حفّت بك المكاره خار لك الله- وأنت كاره
قوله جل ذكره:
[سورة يوسف (١٢) : آية ١١]
قالُوا يا أَبانا ما لَكَ لا تَأْمَنَّا عَلى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَناصِحُونَ (١١)
كلام الحسود لا يسمع، ووعده لا يقبل- وإنّ كانا فى معرض النّصح فإنّه يطعم الشّهد ويسقى الصّاب.
ويقال العجب من قبول يعقوب- عليه السلام- ما أبدى بنوه له من حفظ يوسف عليه السلام وقد تفرّس فيهم قلبه فقال ليوسف: «فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً» ولكن إذا جاء القضاء فالبصبرة تصير مسدودة.
(١) واضح من هنا ومما جاء فى السياق أن القشيري- بتسامحه الصوفي الأصيل- ينظر إلى إخوة يوسف نظرة خالية من التحامل عليهم.
(٢) كأنما ينصح القشيري أصحاب الإرادة: إن لقيتم اليوم فى الله شدة، فلكم غدا مثوبة. وكأنما يوضح لأهل الجدل: إن مقاييس الشر والخير الإنسانية خاطئة قاصرة.
ويقال من قبل على محبوبه حديث أعدائه لقى ما لقى يعقوب فى يوسف.
عليهما السلام- من بلائه.
قوله جل ذكره:
[سورة يوسف (١٢) : آية ١٢]
أَرْسِلْهُ مَعَنا غَداً يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ (١٢)
يقال أطمعوا يعقوب عليه السلام فى تمكينهم من يوسف بما فيه راحة نفس فى اللعب، فطابت نفس يعقوب لإذهابهم إياه من بين يديه- وإن كان يشقّ عليه فراقه، ولكنّ المحبّ يؤثر راحة محبوبه على محبة نفسه.
ويقال لما ركن إلى قولهم: «وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ» - أي من قبلهم «١» - حتى قالوا:
«وَتَرَكْنا يُوسُفَ عِنْدَ مَتاعِنا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ» فمن أسلم حبيبه إلى أعدائه غصّ بتحسّى بلائه.
قوله جل ذكره:
[سورة يوسف (١٢) : آية ١٣]
قالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غافِلُونَ (١٣)
يحزننى أن تذهبوا به لأنى لا أصبر عن رؤيته، ولا أطيق على فرقته... هذا إذا كان الحال سلامته.. فكيف ومع هذا أخاف أن يأكله الذئب؟! ويقال لما خاف عليه من الذئب امتحن بحديث الذئب، ففى الخبر ما معناه: إنما يسلط على ابن آدم ما يخافه. وكان من حقه أن يقول أخاف الله لا الذئب، وإن كانت محالّ الأنبياء عليهم السلام- محروسة من الاعتراض عليها.
ويقال لمّا جرى على لسان يعقوب- عليه السلام- من حديث الذئب صار كالتلقين لهم، ولو لم يسمعوه ما اهتدوا إلى الذئب «٢».
(١) يرجع القشيري ما أصاب يعقوب من بلاء إلى ركونه إلى حفظ يوسف من قبل الخلق وأنه اطمأن لدعواهم مع أن الحفظ لا يكون إلا بالله.
(٢) تفيد هذه النقطة فى إثبات كرامة الأولياء، وما يجرى على ألسنتهم من تنبؤ بما قد يحدث فى المستأنف على وجه الإجمال.
قوله جل ذكره:
[سورة يوسف (١٢) : آية ١٤]
قالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذاً لَخاسِرُونَ (١٤)
لحق إخوة يوسف عليه السلام ما وصفوا به أنفسهم من الخسران حيث قالوا:
«إِنَّا إِذاً لَخاسِرُونَ» : لأنّ من باع أخا مثل يوسف بمثل ذلك الثمن حقيق بأن يقال قد خسرت صفقته.
ويقال لمّا عدوّا القوة فى أنفسهم حين قالوا: «وَنَحْنُ عُصْبَةٌ» خذلوا حتى فعلوا «١».
ويقال لمّا ركن يعقوب- عليه السلام- إلى قولهم: «وَنَحْنُ عُصْبَةٌ» لقى ما لقى.
قوله جل ذكره:
[سورة يوسف (١٢) : آية ١٥]
فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِّ وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هذا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (١٥)
الجواب فيه مقدّر ومعناه فلما ذهبوا بيوسف وعزموا على أن يلقوه فى البئر فعلوا ما عزموا عليه. أو فلمّا ذهبوا به وألقوه فى غيابة الجبّ أوحينا إليه فتكون الواو صلة.
والإشارة فيه أنه لمّا حلّت به البلوى عجّلنا له التعريف بما ذكرنا من البشرى ليكون محمولا بالتعريف فما هو متحمّل له من البلاء العنيف.
ويقال حين انقطعت على يوسف عليه السلام مراعاة أبيه حصل له الوحى من قبل مولاه، وكذا سنّته تعالى أنه لا يفتح على نفوس أوليائه بابا من البلاء إلا فتح على قلوبهم أبواب الصفاء، وفنون لطائف الولاء.
قوله جل ذكره:
[سورة يوسف (١٢) : الآيات ١٦ الى ١٧]
وَجاؤُ أَباهُمْ عِشاءً يَبْكُونَ (١٦) قالُوا يا أَبانا إِنَّا ذَهَبْنا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنا يُوسُفَ عِنْدَ مَتاعِنا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا وَلَوْ كُنَّا صادِقِينَ (١٧)
تمكين الكذّاب من البكاء سمة خذلان الله تعالى إياه، وفى الخبر: إذا كمل نفاق المرء ملك عينه حتى يبكى ما شاء.
ويقال: لا يبعد أن يقال إنهم وإن جنوا على يوسف عليه السلام فقد ندموا على ما فعلوا، فعلاهم البكاء لندمهم- وإن لم يظهروا لأبيهم- وتقوّلوا على الذّئب.
قوله جل ذكره:
[سورة يوسف (١٢) : آية ١٨]
وَجاؤُ عَلى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ (١٨).
(١) فقد كانت من دعاوى النفس.
لم يؤثّر تزوير قاليهم فى إيجاب تصديق يعقوب- عليه السلام لكذبهم بل أخبره قلبه أنّ الأمر بخلاف ما يقولونه فقال:
بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ.
فعلم على الجملة وإنّ لم يعلم على التفصيل.. وهكذا تقرع قلوب الصديقين عواقب الأمور على وجه الإجمال، إلى أنّ تتّضح لهم تفاصيلها فى المستأنف.
ويقال عوقبوا على ما فعلوه بأن أغفلوا عن تمزيق قميصه حتى علم يعقوب تقوّلهم فيما وصفوا.
قوله جل ذكره:
[سورة يوسف (١٢) : آية ١٩]
وَجاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُوا وارِدَهُمْ فَأَدْلى دَلْوَهُ قالَ يا بُشْرى هذا غُلامٌ وَأَسَرُّوهُ بِضاعَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِما يَعْمَلُونَ (١٩)
ليس كلّ من طلب شيئا يعطى مراده فقط بل ربما يعطى فوق مأموله كالسيارة كانوا يقنعون بوجود الماء فوجدوا يوسف عليه السلام.
ويقال ليس كل من وجد شيئا كان كما وجده السيارة توهموا أنهم وجدوا عبدا مملوكأ وكان يوسف- فى الحقيقة- حرّا «١».
ويقال لمّا أراد الله تعالى خلاص يوسف- عليه السلام- من الجبّ أزعج خواطر السّيارة فى قصد السفر، وأعدمهم الماء حتى احتاجوا إلى الاستقاء ليصل يوسف عليه السلام إلى الخلاص، ولهذا قيل: ألا ربّ تشويش يقع فى العالم والمقصود منه سكون واحد.
كما قيل: ربّ ساع له قاعد.
قوله جل ذكره
[سورة يوسف (١٢) : آية ٢٠]
وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَراهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ (٢٠)
لم يعرفوا خسرانهم فى الحال ولكنهم وقفوا عليه فى المآل.
(١) أي ربما تكون حقيقة النعمة أعظم من ظاهرها.
ويقال قد يباع مثل يوسف عليه السلام بثمن بخس، ولكن إذا وقعت الحاجة إليه فعند ذلك يعلم ما يلحق من الغبن.
ويقال لم يحتشموا من يوسف- عليه السلام- يوم باعوه بثمن بخس، ولكن لمّا قال لهم: أنا يوسف- وقع عليهم الخجل. ولهذا قيل: كفى للمقصر الحياء يوم اللقاء.
ويقال لمّا خرّوا له سجّدا علموا أنّ ذلك جزاء من باع أخاه بثمن بخس.
ويقال لمّا وصل الناس إلى رفق يوسف عاشوا فى نعمته، واحتاجوا إلى أن يقفوا بين يديه فى مقام الذّلّ قائلين «مَسَّنا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ»، وفى معناه أنشدوا:
ستسمع بي وتذكرنى... وتطلبنى فلا تجد
ويقال ليس العجب ممن يبيع مثل يوسف- عليه السلام- بثمن بخس إنما العجب ممن (... ) «١» مثل يوسف- عليه السلام- بثمن بخس، لا سيّما «وَكانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ» (الخرق لا غاية له، وكذا العجب لا نباته له) «٢».
ويقال ليس العجب ممن يبيع يوسف- عليه السلام- بثمن بخس، إنّما العجب ممن يبيع وقته الذي أعزّ من الكبريت الأحمر بعرض حقير من أعراض الدنيا.
ويقال إنّ السيارة لم يعرفوا قيمته فزهدوا فى شرائه بدراهم، والذين وقفوا على جماله وشىء من أحواله غالوا- بمصر- فى ثمنه حتى اشتروه بزنته دراهم ودنانير مرات- كما فى القصة «٣»، وفى معناه أنشدوا:
إنّ كنت عندك يا مولاى مطّرحا... فعند غيرك محمول على الحدق «٤»
قوله جل ذكره:
[سورة يوسف (١٢) : آية ٢١]
وَقالَ الَّذِي اشْتَراهُ مِنْ مِصْرَ لامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْواهُ عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ وَاللَّهُ غالِبٌ عَلى أَمْرِهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٢١)
(١) هنا كلمة فى الكتابة هكذا (بحل) ولا ندرى كيف نصرفها إلى إنجاه يخدم المعنى.
(٢) ما بين القوسين ورد هكذا فى (ص) وفيه التباس ناشىء عن سوء النسخ.
(٣) يقال إن العزيز اشتراء بزنته ورقا وحريرا ومسكا.
(تفسير النسفي ج ٢ ص ٢١٦ ط عيسى الحلبي)
(٤) الحدق جمع حدقة وهى السواد المستدبر وسط للعين.
175
لمّا نودى على يوسف فى مصر بالبيع لم يرض الحقّ- سبحانه- حتى أصابتهم الضرورة ومسّتهم الفاقة حتى باعوا من يوسف- عليه السلام- جميع أملاكهم، ثم باعوا كلّهم منه أنفسهم- كما فى القصة- وفى آخر أمرهم طلبوا الطعام، فصاروا بأجمعهم عبيده، ثم إنه عليه السلام لما ملكهم منّ عليهم فأعتقهم «١» فلئن مرّ عليه بمصر يوم نودى فيه عليه بالبيع فقد أصبح بمصر يوما آخر وقد ملك جميع أملاكهم، وملك رقاب جميعهم فيوم بيوم، قال تعالى: «فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً» يومان شتّان بينهما! ثم إنه أعتقهم جميعا... وكذا الكريم إذا قدر غفر.
قوله جل ذكره: وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ، وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ أراد من حسده ألّا تكون له فضيلة على إخوته وذويه، وأراد الله أن يكون له ملك الأرض، وكان ما أراد الله لا ما أراد أعداؤه.
قوله جل ذكره: وَاللَّهُ غالِبٌ عَلى أَمْرِهِ أرادوا أن يكون يوسف عليه السلام فى الجبّ، وأراد الله- سبحانه- أن يكون يوسف على سرير الملك فكان ما أراد الله، والله غالب على أمره.
(١) فى القصة «وباع من أهل مصر فى سنى القحط الطعام بالدراهم والدنانير فى السنة الأولى حتى لم يبق معهم شىء منها ثم بالحلى والجواهر فى الثانية تم بالدواب فى الثالثة تم بالعبيد والإماء فى الرابعة ثم بالدور والعقار فى الخامسة ثم باولادهم فى السادسة ثم برقابهم فى السابعة حتى استرقهم جميعا ثم أعتق أهل مصر ورد عليهم أملاكهم» النسفي ج ٢ ص ٢٢٨.
176
وأرادوا أن يكون يوسف عبدا لمن ابتاعوه من السيارة، وأراد الله أن يكون عزيز مصر- وكان ما أراد الله.
ويقال العبرة لا ترى من الحقّ فى الحال، وإنما الاعتبار بما يظهر فى سرّ تقديره فى المآل.
قوله جل ذكره:
[سورة يوسف (١٢) : آية ٢٢]
وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (٢٢)
من جملة الحكم الذي آتاه الله نفوذ حكمه على نفسه حتى غلب شهوته، وامتنع عما راودته تلك المرأة عن نفسه ومن لا حكم له على نفسه فلا حكم له على غيره.
ويقال إنما قال: «وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ» أي حين استوى شبابه واكتملت قوّته، وكان وقت استيلاء الشهوة، وتوفر دواعى مطالبات البشرية- آتاه الله الحكم الذي حبسه على الحقّ وصرفه عن الباطل، وعلم أنّ ما يعقب اتباع اللذات من هواجم النّدم أشدّ مقاساة من كلفة الصبر فى حال الامتناع عن دواعى الشهوة... فآثر مشقّة الامتناع على لذّة الاتباع.
وذلك الذي أشار إليه الحقّ- سبحانه- من جميل الجزاء الذي أعطاه هو إمداده بالتوفيق حتى استقام فى التقوى والورع على سواء الطريق، قال تعالى «وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا» «١» : أي الذين جاهدوا بسلوك طريق المعاملة لنهدينهم سبل الصبر على الاستقامة حتى تتبين لهم حقائق المواصلة.
قوله جلّ ذكره:
[سورة يوسف (١٢) : آية ٢٣]
وَراوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِها عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوابَ وَقالَتْ هَيْتَ لَكَ قالَ مَعاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوايَ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (٢٣)
لما غلّقت عليه أبواب المسكن فتح الله عليه باب العصمة «٢»، فلم يضرّه ما أغلق بعد إكرامه بما فتح.
(١) آية ٦٩ سورة العنكبوت. [.....]
(٢) نلفت النظر إلى جمال عبارة القشيري الناتج عن المقابلة بين (الإغلاق) و (الفتح).
وفى التفسير أنه حفظ حرمة الرجل الذي اشتراه، وهو العزيز.
وفى الحقيقة أشار بقوله: «إِنَّهُ رَبِّي» إلى ربّه الحقّ تعالى: هو مولاى الحق تعالى، وهو الذي خلّصنى من الجب، وهو الذي جعل فى قلب العزيز لى محلّا كبيرا فأكرم مثواى فلا ينبغى أن أقدم على عصيانه- سبحانه- وقد غمرنى بجميل إحسانه.
ويقال إن يوسف عليه السلام قال لها: إن العزيز أمرنى أن أنفعه. «عَسى أَنْ يَنْفَعَنا» فلا أخونه فى حرمته بظهر الغيب.
ويقال لمّا حفظ حرمة المخلوق بظهر الغيب أكرمه الحقّ سبحانه بالإمداد بالعصمة فى الحال ومكّنه من مواصلتها فى المآل على وجه الحلال.
قوله جل ذكره:
[سورة يوسف (١٢) : آية ٢٤]
وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِها لَوْلا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ كَذلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُخْلَصِينَ (٢٤)
ما ليس بفعل الإنسان مما يعتريه- بغير اختياره ولا بكسبه- كان مرفوعا لأنه لا يدخل تحت التكليف، فلم يكن «الهم» «١» منه ولا منها زلّة، وإنما الزلّة من المرأة كانت من حيث عزمت على ما همّت، فأمّا نفس الهمّ فليس مما يكسبه العبد.
ويقال اشتركا فى الهمّ وأفرد- يوسف عليه السلام- بإشهاده البرهان.
وفى تعيين ذلك البرهان- ما الذي كان؟ - تكلّف غير محمود إذ لا سبيل إليه إلا بالخبر المقطوع به.
وفى الجملة كان البرهان تعريفا من الحقّ إياه بآية من آيات صنعه، قال تعالى: «سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ» «٢».
(١) واضح أن القشيري بهدف إلى نفى كل تهمة عن يوسف ولهذا يلجأ إلى تأويل لفظة «الهم» الذي اشترك فيه وامراة العزيز كما يعبر ظاهر اللفظ.
(٢) آية ٥٣ سورة فصلت.
وقوله: «كَذلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشاءَ» صرف عنه السّوء حتى لم يوجد منه العزم على ذلك الفعل- وإن كان منه همّ- إلا أن ذلك لم يكن جرما كما ذكرنا.
والصّرف عن الطريق بعد حصول الهمّ- كشف، والسوء المصروف عنه هو العزم على الزنا والفحشاء أو نفس الزنا، وقد صرفهما الله تعالى عنه.
قوله «إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُخْلَصِينَ» : لم تكن نجاته فى خلاصه، ولكن فى صرف السوء عنه واستخلاصه.
قوله جل ذكره:
[سورة يوسف (١٢) : آية ٢٥]
وَاسْتَبَقَا الْبابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ وَأَلْفَيا سَيِّدَها لَدَى الْبابِ قالَتْ ما جَزاءُ مَنْ أَرادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً إِلاَّ أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٢٥)
استبقا، هذا ليهرب، وهذه للفعلة التي كانت تطلب.
ولم يضر يوسف- عليه السلام- أن قدّت قميصه وهو لباس دنياه بعد ما صحّ عليه قميص تقواه.
ويقال «١» لم تقصد قدّ القميص وإنما تعلّقت به لتحبسه على نفسها، وكان قصدها بقاء يوسف- عليه السلام- معها، ولكن صار فعلها وبالا على نفسها، فكان بلاؤها من حيث طلبت راحتها وشفاءها.
ويقال تولّد انخراق القميص من قبضها عليه وكان فى ذلك افتضاح أمرها لأن قبضها على قميصه كان مزجورا عنه.. ليعلم أنّ الفاسد شجّه فاسد.
ويقال لشدة استيلاء الهوى عليها لم تعلم فى الحال أنها تقدّ قميصه من ورائه أو من قدّامه..
كذلك صاحب البلاء فى الهوى مسلوب التمييز.
ويقال لمّا لم تصل ولم تتمكن من مرادها من يوسف خرقت قميصه ليكون لها فى إلقائها الذّنب على يوسف- عليه السلام- حجّة، فقلب الله الأمر حتى صار ذلك عليها حجة، وليوسف دلالة صدق، قال تعالى: «وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ» «٢»
(١) فيما يلى من إشارات تلاحظ أن القشيري قد جعل من امرأة العزيز رمزا لطالب الدنيا وأسير الهوى ومن يوسف رمزا مقابلا لذلك.
(٢) آية ٤٣ سورة فاطر.
قوله تعالى: «وَأَلْفَيا سَيِّدَها لَدَى الْبابِ» : لمّا فتحا الباب وجدا سيدها لدى الباب، والإشارة فيه إلى أن ربك بالمرصاد إذا خرج العبد عن الذي هو عليه من التكليف فى الحال وقع فى ضيق السؤال.
ويقال قال: «أَلْفَيا سَيِّدَها» ولم يقل سيدهما لأن يوسف فى الحقيقة كان حرا ولم يكن العزيز له سيدا.
قوله جل ذكره: قالَتْ ما جَزاءُ مَنْ أَرادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذابٌ أَلِيمٌ شغلته بإغرائها إياه بيوسف عن نفسها بأن سبقت إلى هذا الكلام.
ويقال لقنته حديث السجن أو العذاب الأليم لئلا يقصد قتله ففى عين ما سعت به نظرت له وأبقت عليه.
ويقال قالت ما جزاء من فعل هذا إلا السجن فإن لم ترض بذلك، وستزيد فالعذاب الأليم يعنى الضّرب المبرّح.. كأنما ذكرت حديث العقوبة بالتدريج.
ويقال أوقعت السجن الذي يبقى مؤجّلا فى مقابلة الضرب الأليم المعجل ليعلم أن السجن الطويل- وإن لم يكن فيه فى الظاهر ألم- فهو فى مقابلة الضرب الشديد الموجع لأنه- وإن اشتدّ فلا يقابله.
ويقال قالت: «ما جَزاءُ مَنْ أَرادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً؟» فذكر الأهل هاهنا غاية تهييج الحميّة وتذكير بالأنفة.
قوله جل ذكره:
[سورة يوسف (١٢) : الآيات ٢٦ الى ٢٨]
قالَ هِيَ راوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ أَهْلِها إِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكاذِبِينَ (٢٦) وَإِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٢٧) فَلَمَّا رَأى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ (٢٨)
أفصح يوسف عليه السلام بجرمها إذ ليس للفاسق حرمة يجب حفظها، فلم يبال أن هتك سترها فقال. «هِيَ راوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي» فلمّا كان يوسف صادقا فى قوله، ولم يكن له شاهد أنطق الله الصبيّ الصغير الذي لم يبلغ أوان النطق «١». ولهذا قيل إذا كان العبد صادقا فى نفسه لم يبال الله أن ينطق الحجر لأجله.
قوله: فَلَمَّا رَأى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ لما اتضح الأمر واستبان الحال وظهرت براءة ساحة يوسف عليه السلام قال العزيز: «إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ» : دلّت الآية على أنّ الزنا كان محرّما فى شرعهم.
قوله جل ذكره:
[سورة يوسف (١٢) : آية ٢٩]
يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هذا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخاطِئِينَ (٢٩)
لم يرد أن يهتك ستر امرأته فقال ليوسف: أعرض عن هذا الحديث، ثم قال لها:
«وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ» : دلّ على أنه لم يكن فى شرعهم على الزنا حدّ- وإن كان محرّما حيث عدّه ذنبا.
ويقال ليس كلّ أحد أهلا للبلاء لأن البلاء من صفة أرباب الولاء، فأمّا الأجانب فيتجاوز عنهم ويخلى سبيلهم- لا لكرامة محلّهم- ولكن لحقارة قدرهم، فهذا يوسف عليه السلام كان بريء السّاحة، وظهرت للكلّ سلامة جانبه وابتلى بالسجن. وامرأة العزيز فى سوء فعلها حيث قال: «إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ»، وقال لها: «وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ»..
ثم لم تنزل بها شظية من البلاء.
قوله جل ذكره:
[سورة يوسف (١٢) : آية ٣٠]
وَقالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُراوِدُ فَتاها عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَها حُبًّا إِنَّا لَنَراها فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٣٠)
(١) قيل هو صبى فى المهد وهو ابن خال لها. وسمى قوله شهادة لأنه أدى مؤدى الشهادة فى أن ثبت به قول يوسف وبطل قولها (النسفي ج ٢ ص ٢١٨).
إنّ الهوى لا ينكتم، ولا تكون المحبة إلا وأبيح لها لسان عذول، فلما تحققت محبتها ليوسف بسطت النّسوة فيها لسان الملامة.
ولما كانت أحسن منهن قيمة- فقد كنّ من جملة خدمها- كانت أسرع إلى الملامة.
قوله جل ذكره:
[سورة يوسف (١٢) : الآيات ٣١ الى ٣٢]
فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ واحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّيناً وَقالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حاشَ لِلَّهِ ما هذا بَشَراً إِنْ هذا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ (٣١) قالَتْ فَذلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ ما آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُوناً مِنَ الصَّاغِرِينَ (٣٢)
أرادت أن يغلب عليهن استحقاق الملامة، وتنفى عن نفسها أن تكون لها «١» أهلا، ففعلت بهن ما عملت، فلمّا رأينه تغيّرن وتحيّرن ونطقن بخلاف التمييز، فقلن: «ما هذا بَشَراً» : وقد كان بشرا، وقلن «إِنْ هذا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ» : ولم يكن ملكا.
قوله: «فَذلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ» : أثّرت رؤيتهن له فيهن فقطّعن أيديهن بدل الثمار، ولم يشعرن، وضعفن بذلك عندها فقالت: ألم أقل لكن؟ أنتن لم تتمالكن حتى قطّعتنّ أيديكنّ! فكيف أصبر وهو فى منزلى؟! وفى معناه أنشدوا:
(١) أي أهلا للملامة.
(أنت عند الخصام عدوى................................) «١»
ويقال «٢» إن امرأة العزيز كانت أتم فى حديث يوسف- عليه السلام- من النسوة فأثرت رؤيته فيهن ولم تؤثّر فيها، والتّغيّر صفة أهل الابتداء فى الأمر، فاذا دام المعنى زال التغيّر قال أبو بكر الصدّيق- رضى الله عنه- لمن رآه يبكى وهو قريب العهد فى الإسلام:
هكذا كنّا حتى قست القلوب. أي وقرت «٣» وصلبت. وكذا الحريق أول ما يطرح فيها الماء يسمع له صوت فإذا تعوّد شرب الماء سكن فلا يسمع له صوت.
قوله جل ذكره:
[سورة يوسف (١٢) : آية ٣٣]
قالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجاهِلِينَ (٣٣)
الاختبار مقرون بالاختيار ولو تمنّي العافية بدل ما كان يدعى إليه لعلّه كان يعافى، ولكنه لما قال: «السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ» طولب بصدق ما قال.
ويقال إن يوسف عليه السلام نطق من عين التوحيد حيث قال: «وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ» فقد علم أن نجاته فى أن يصرف- سبحانه- البلاء عنه لا بتكلّفه ولا بتجنبه.
ويقال لمّا آثر يوسف- عليه السلام- لحوق المشقة فى الله على لذّة نفسه آثره عصره حتى قيل له: «تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنا» «٤» قوله جل ذكره:
[سورة يوسف (١٢) : آية ٣٤]
فَاسْتَجابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٣٤)
(١) بقية البيت مضطربة فى الكتابة، ومطموسة فى بعض المواضع.
(٢) القشيري هنا مستفيد من رأى استاذه أبى على الدقاق.
(انظر رأى الدقاق فى رسالة القشيري فى معنى التلوين والتمكين ص ٤٤)
(٣) وقرت- أصابها الثقل.
(٤) آية ٩١ من سورة يوسف.
لمّا رجع إلى الله بصدق الاستغاثة تداركه الله سبحانه بوشيك الإغاثة... كذلك ما اغيّر. لأحد- فى الله تعالى- قدم إلّا روّحه بكرمه وتولّاه بنعمه- إنه هو «السَّمِيعُ» لأقوال السائلين، «الْعَلِيمُ» بأحوالهم.
قوله جل ذكره:
[سورة يوسف (١٢) : آية ٣٥]
ثُمَّ بَدا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما رَأَوُا الْآياتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ (٣٥)
لمّا سجن يوسف- عليه السلام- مع ظهور براءة ساحته اتقاء على امرأته أن يهتك سترها حوّل الله ملكه إليه، ثم فى آخر الأمر حكم الله بأن صارت امرأته بعد مقاساتها الضّر... وهذا جزاء من صبر.
ويقال لمّا ظلم يوسف عليه السلام بما نسب إليه أنطق الله تلك المرأة حتى قالت فى آخر أمرها بما كان فيه هتك سترها، فقالت: «الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ».
قوله جل ذكره:
[سورة يوسف (١٢) : آية ٣٦]
وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيانِ قالَ أَحَدُهُما إِنِّي أَرانِي أَعْصِرُ خَمْراً وَقالَ الْآخَرُ إِنِّي أَرانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزاً تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (٣٦)
لصحبة السجن أثر يظهر ولو بعد حين فإنّ يوسف عليه السلام لمّا قال لصاحبه اذكرني عند ربك فأنساه الشيطان ذكر ربّه فبقى يوسف فى السجن زمانا، ثم إن خلاصه كان على لسانه حيث قال: فأرسلوا إلى يوسف وقيل له: «يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنا...
الآية»
فالصحبة تعطى بركاتها وإن كانت تبطئ.
قوله: «إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ» : الشهادة بالإحسان للمحسن ذريعة، بها يتوسّل إلى استجلاب إحسانه.
قوله جل ذكره:
[سورة يوسف (١٢) : آية ٣٧]
قالَ لا يَأْتِيكُما طَعامٌ تُرْزَقانِهِ إِلاَّ نَبَّأْتُكُما بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُما ذلِكُما مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ (٣٧)
التّثبّت فى الجواب دون التسرع من أمارات أهل المكارم، كيوسف عليه السلام وعدهما أن يجيبهما ولم يسرع الإجابة فى الوقت.
ويقال لمّا أخّر الإجابة علّق قلوبهما بالوعد وإذا لم يكن نقد فليكن وعد.
ويقال لمّا فاتحوه بسؤالهم قدّم على الجواب ما اقترحه عليهما من كلمة التوحيد فقال:
«ذلِكُما مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ... » ثم قال:
[سورة يوسف (١٢) : آية ٣٨]
وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبائِي إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ ما كانَ لَنا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ذلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنا وَعَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ (٣٨)
ولما فرغ من تفسير التوحيد، والدعاء إلى الحق سبحانه أجابهما فقال:
[سورة يوسف (١٢) : الآيات ٣٩ الى ٤٠]
يا صاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ (٣٩) ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلاَّ أَسْماءً سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٤٠)
هكذا كاد يوسف عليه السلام ألا يسكت حين أخذ فى شرح التوحيد وذكر المعبود، وفى الخبر: من أحبّ شيئا أكثر من ذكره.
قوله جل ذكره:
[سورة يوسف (١٢) : آية ٤١]
يا صاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُما فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْراً وَأَمَّا الْآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيانِ (٤١)
اشتركا فى السؤال واشتركا فى الحكم وفى دخول السجن، ولكن تباينا في المآل واحد صلب، وواحد قرّب ووهب.. وكذا قضايا التوحيد واختيار الحق فمن مرفوع:
فوق السّماك مطلعه، ومن مدفون: تحت التراب مضجعه.
قوله جل ذكره:
[سورة يوسف (١٢) : آية ٤٢]
وَقالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ ناجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ فَأَنْساهُ الشَّيْطانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ (٤٢)
يتبيّن أنّ تعبير الرؤيا- وإن كان حقا- فهو بطريق غلبة الظّنّ دون القطع.
ثم إنه عاتب يوسف عليه السلام لأنه نسى فى حديثه من يستعين به حين قال: «اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ».
ويقال إنه طلب من بشر عوضا على ما علّمه، وفى بعض الكتب المنزلة: يا ابن آدم، علّم مجانا كما علّمت مجانا.
ولما استعان بالمخلوق طال مكثه فى السجن، كذلك يجازى الحقّ- سبحانه- من يعلّق قلبه بمخلوق.
قوله جل ذكره:
[سورة يوسف (١٢) : آية ٤٣]
وَقالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرى سَبْعَ بَقَراتٍ سِمانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يابِساتٍ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُءْيايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّءْيا تَعْبُرُونَ (٤٣)
كان ابتداء بلاء يوسف- عليه السلام- بسبب رؤيا رآها فنشرها وأظهرها، وكان سبب نجاته أيضا رؤيا رآها الملك فأظهرها، ليعلم أنّ الله يفعل ما يريد فكما جعل بلاءه فى إظهار رؤيا جعل نجاته فى إظهار رؤيا «١» ليعلم الكافة أن الأمر بيد الله يفعل ما يشاء.
قوله جل ذكره:
[سورة يوسف (١٢) : آية ٤٤]
قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ وَما نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلامِ بِعالِمِينَ (٤٤)
حال الرؤيا لا يختلف بالخطأ فى التعبير، فإنّ القوم حكموا بأن رؤياه أضغاث أحلام فلم يضره ذلك، ولم يؤثّر فى صحة تأويلها.
قوله: «وَما نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلامِ بِعالِمِينَ» : من طلب الشيء من غير موضعه لم ينل مطلوبه، ولم يسعد بمقصوده.
قوله جل ذكره:
[سورة يوسف (١٢) : آية ٤٥]
وَقالَ الَّذِي نَجا مِنْهُما وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ (٤٥)
لمّا كان المعلوم لله والمحكوم أن يوسف عليه السلام يكون فى ذلك الوقت هو من يعبّر الرؤيا- قبض القلوب حتى خفى عليها تعبير تلك الرؤيا، ولم يحصل للملك ثلج الصّدر إلا بتعبير يوسف «٢»، ليعلم أنّ الله- سبحانه- إذا أراد أمرا سهل أسبابه.
ويقال: إن الله تعالى أفرد يوسف عليه السلام من بين أشكاله بشيئين: بحسن الخلقة وبزيادة العلم فكان جماله سبب بلائه، وصار علمه سبب نجاته، لتعلم مزيّة العلم على غيره، لهذا قيل: العلم يعطى وإن كان يبطى.
(١) بهدف القشيري إلى شىء بعيد هو أن المقاييس الإنسانية نسبية ولا تؤدى حتما إلى الصواب، وبالتالى لا ينبغى تطبيقها على ما يجرى فى الكون من تصاريف إلهية.
(٢) يصلح هذا التصور- على نحو ما- لتفسير كرامات الأولياء.
ويقال إذا كان العلم بالرؤيا يوجب الدنيا فالعلم بالمولى أولى أن يوجب العقبى، قال تعالى:
«وإذا رأيت ثمّ رأيت نعيما وملكا كبيرا» «١» قوله جل ذكره:
[سورة يوسف (١٢) : الآيات ٤٧ الى ٤٩]
قالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَباً فَما حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّا تَأْكُلُونَ (٤٧) ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ سَبْعٌ شِدادٌ يَأْكُلْنَ ما قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّا تُحْصِنُونَ (٤٨) ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عامٌ فِيهِ يُغاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ (٤٩)
لم يقدّم الدعاء إلى الله تعالى على تعبير هذه الرؤيا كما فعل فى المرة الأولى، لأن هذا السائل هو الذي دعاه فى المرة الأولى. فإمّا أنه قد قبل فى المرة الثانية، وإمّا أنه لم يقبل فيئس منه فأهمله.
وصاحب الرؤيا الثانية كان الملك وكان غائبا، والوعظ والدعاء لا يكونا إلا فى المشاهدة دون المغايبة.
ويقال يحتمل أن يكون قد تفرّس فى الفتيان قبول التوحيد فإنّ الشباب ألين قلبا، أمّا فى هذا الموضع فقد كان الملك أصلب قلبا وأفظّ جانبا فلذلك لم يدعه إلى التوحيد لما تفرّس فيه من الغلظة.
قوله جل ذكره:
[سورة يوسف (١٢) : آية ٥٠]
وَقالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جاءَهُ الرَّسُولُ قالَ ارْجِعْ إِلى رَبِّكَ فَسْئَلْهُ ما بالُ النِّسْوَةِ اللاَّتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ (٥٠)
أراد عليه السلام ألا يلاحظه الملك بعين الخيانة فيسقطه عيبه من قلبه فلا يؤثّر فيه قوله، فلذلك توقّف حتى يظهر أمره للملك وتنكشف براءة ساحته.
قوله جل ذكره:
[سورة يوسف (١٢) : آية ٥١]
قالَ ما خَطْبُكُنَّ إِذْ راوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ قُلْنَ حاشَ لِلَّهِ ما عَلِمْنا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ قالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (٥١)
(١) آية ٢٠ سورة الإنسان. [.....]
الحقائق لا تنكتم أصلا ولا بدّ من أن تبين... ولو بعد حين.
نسب يوسف إلى ما كان منه بريئا، وأنّب على ذلك مدة، وكان أمره فى ذلك خفيّا.
ثم إن الله تعالى دفع عنه التهمة ورفع عنه المظنّة، وأنطق عذّاله، وأظهر حاله، عما فرق به سرباله «١» فقلن: «حاشَ لِلَّهِ ما عَلِمْنا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ».
قوله جل ذكره: قالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ لمّا كانت امرأة العزيز غير تامّة فى محبة يوسف تركت ذنبها عليه وقالت لزوجها:
«ما جَزاءُ مَنْ أَرادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذابٌ أَلِيمٌ» ولم يكن ليوسف عليه السلام ذنب. ثمّ لمّا تناهت فى محبتة أقرّت بالذنب على نفسها فقالت: «الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ... »
فالتناهى فى الحبّ يوجب هتك الستر، وقلة المبالاة بظهور الأمر والسّرّ «٢»، وقيل:
ليقل من شاء ما... شاء فإنى لا أبالى
قوله جل ذكره:
[سورة يوسف (١٢) : آية ٥٢]
ذلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخائِنِينَ (٥٢)
إنما أراد الله أن يظهر براءة ساحة يوسف، لأنه علم أنهم يستحقون العقوبة على ما يبسطون فيه من لسان الملامة وذكر القبيح، ولم يرد يوسف أن يصيبهم بسببه- من قبل الله- عذاب
(١) السربال- القميص.
(٢) من هذه الإشارة نستطيع بطريق غير مباشر أن نعرف موقف القشيري من قضية هامة وهى:
هل يفصح المحب الواله عن حبه المكنون أم يكتم؟ وهل تغتفر له شطحاته فى هذا الموقف أم لا؟
شفقة منه عليهم، وهذه صفة الأولياء: أن يكونوا خصم أنفسهم، ولهذا قيل: الصوفي دمه هدر وملكه مباح «١» - ولذلك قال:
[سورة يوسف (١٢) : آية ٥٣]
وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ ما رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (٥٣)
لمّا تمدّح بقوله: «ذلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ» كأنه نودى فى سرّه: ولا حين هممت؟
فقال: «وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي!» «٢» ويقال: قوله «لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ» بيان الشكر على ما عصمه الله، وقوله:
«وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي» بيان العذر لما قصّر فى أمر الله، فاستوجب شكره زيادة الإحسان، واستحقّ بعذره العفو.
والعفو باد من قوله:
[سورة يوسف (١٢) : آية ٥٤]
وَقالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنا مَكِينٌ أَمِينٌ (٥٤)
لما اتضحت للملك طهارة فعله ونزاهة حاله استحضره لاستصفائه لنفسه، فلمّا كلمه وسمع بيانه رفع محلّه ومكانه، وضمنه برّه وإحسانه، فقال: «إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنا مَكِينٌ أَمِينٌ» قوله جل ذكره:
[سورة يوسف (١٢) : آية ٥٥]
قالَ اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ (٥٥)
إنما سأل ذلك ليضع الحقّ موضعه، وليصل نصيب الفقراء إليهم، فطلب حقّ الله تعالى فى ذلك، ولم يطلب نصيبا لنفسه.
ويقال لم يقل إنى حسن جميل بل قال: إنى حفيظ عليم أي كاتب حاسب، ليعلم أنّ الفضل فى المعاني لا فى الصورة.
(١) هذا تعريف الصوفي عند سهل بن عبد الله التستري (الرسالة ص ١٣٩).
(٢) هذا نموذج لمقاومة دعوى النفس ومحاربة اغترارها على الدوام، وعدم الاطمئنان إلى مصالحتها.
قوله جل ذكره:
[سورة يوسف (١٢) : آية ٥٦]
وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْها حَيْثُ يَشاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنا مَنْ نَشاءُ وَلا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (٥٦)
لمّا لم تكن له دواعى الشهوات من نفسه مكّنه الله من ملكه- قال تعالى: «وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيها» «١» - فقال: «وَلا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ».
ثم أخبر عن حقيقة التوحيد، وبيّن أنه إنما يوفّى عباده من ألطافه بفضله لا بفعلهم، وبرحمته لا بخدمتهم فقال: «نُصِيبُ بِرَحْمَتِنا مَنْ نَشاءُ» ثم يرقى همهم عما أولاهم من النّعم فقال:
[سورة يوسف (١٢) : آية ٥٧]
وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ (٥٧)
ليعلم أنّه لا بدّ من التقوى ومخالفة الهوى.
قوله جل ذكره:
[سورة يوسف (١٢) : آية ٥٨]
وَجاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (٥٨)
عرف يوسف- عليه السلام- إخوته وأنكروه، لأنهم اعتقدوا أنّه فى رقّ العبودية لمّا باعوه، بينما يوسف- فى ذلك الوقت- كان قاعدا بمكان الملك. فمن طلب الملك فى صفة العبيد متى يعرفه؟
وكذلك من يعتقد فى صفات المعبود ما هو من صفات الخلق... متى يكون عارفا؟
هيهات هيهات لما يحسبون! ويقال لمّا أخفوه صار خفاؤه حجابا بينهم وبين معرفتهم إياه، كذلك العاصي... بخطاياه وزلاته تقع غبرة على وجه معرفته.
قوله جل ذكره:
[سورة يوسف (١٢) : آية ٥٩]
وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ قالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ أَلا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ (٥٩)
(١) آية ٦٣ سورة الشورى.
المحبّ غيور فلمّا كان يعقوب عليه السلام قد تسلّى عن يوسف برؤية ابنه بنيامين غار يوسف أن ينظر إليه يعقوب «١».
ويقال تلطّف يوسف فى استحضار بنيامين بالترغيب والترهيب، وأما الترغيب ففى ماله الذي أوصله إليهم وهو يقول: «أَلا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ» وفى إقباله عليهم وفى إكرامه لهم وهو يقول: «وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ».
وأمّا الترهيب فبمنع المال وهو يقول:
[سورة يوسف (١٢) : آية ٦٠]
فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلا تَقْرَبُونِ (٦٠)
أي فإن لم تؤامنونى عليه فلا كيل لكم عندى، وأمنع الإكرام والإقبال عنكم.
قوله جل ذكره:
[سورة يوسف (١٢) : آية ٦١]
قالُوا سَنُراوِدُ عَنْهُ أَباهُ وَإِنَّا لَفاعِلُونَ (٦١)
لما علم يوسف من حالهم أنهم باعوه بثمن بخس علم أنهم يأتونه بأخيهم طمعا فى إيفاء الكيل، فلن يصعب عليهم الإتيان به.
قوله جل ذكره:
[سورة يوسف (١٢) : آية ٦٢]
وَقالَ لِفِتْيانِهِ اجْعَلُوا بِضاعَتَهُمْ فِي رِحالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَها إِذَا انْقَلَبُوا إِلى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (٦٢)
جعل بضاعتهم فى رحالهم- فى باب الكرم- أتمّ من أن لو وهبها لهم جهرا لأنه يكون حينئذ فيه تقليد منه بالمواجهة، وفى تمليكها لهم بإشارة تجرّد من تكلّف تقليد منه بالمحاضرة «٢».
ويقال علم أنهم لا يستحلّون مال الغير فدسّ بضاعتهم فى رحالهم، لكن إذا رأوها قالوا: هذا وقع فى رحالنا منهم بغلط، فالواجب علينا ردّها عليهم. وكانوا يرجعون بسبب ذلك شاءوا أم أبوا.
(١) وكذلك فإن للحق غيرة على عبده المؤمن أن يساكن سواه.
قوله جل ذكره:
[سورة يوسف (١٢) : آية ٦٣]
فَلَمَّا رَجَعُوا إِلى أَبِيهِمْ قالُوا يا أَبانا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ فَأَرْسِلْ مَعَنا أَخانا نَكْتَلْ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ (٦٣)
لم يمنع يوسف منهم الكيل، وكيف منع وقد قال: «أَلا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ» ؟
ولكنهم تجوزوا فى ذلك تفخيما للأمر حتى تسمح نفس يعقوب عليه السلام بإرسال بنيامين معهم.
ويقال أرادوا بقولهم: «مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ» فى المستقبل إذا لم نحمله إليه.
ويقال إنهم تلطّفوا فى القول ليعقوب- عليه السلام- حيث قالوا: «أَخانا» إظهارا لشفقتهم عليه، ثم أكّدوا ذلك بقولهم: «وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ».
قوله جل ذكره:
[سورة يوسف (١٢) : آية ٦٤]
قالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلاَّ كَما أَمِنْتُكُمْ عَلى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ فَاللَّهُ خَيْرٌ حافِظاً وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (٦٤)
من عرف الخيانة لا يلاحظ الأمانة، ولذا لم تسكن نفس يعقوب بضمانهم لما سبق إليه من شأنهم.
قوله جل ذكره: فَاللَّهُ خَيْرٌ حافِظاً وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ «فَاللَّهُ خَيْرٌ حافِظاً» : يحفظ بنيامين فلا يصيبه شىء من قبلهم.
ولم يقل يعقوب فالله خير من يردّه إلىّ، ولو قال ذلك لعلّه كان يرده إليه سريعا.
قوله جل ذكره:
[سورة يوسف (١٢) : آية ٦٥]
وَلَمَّا فَتَحُوا مَتاعَهُمْ وَجَدُوا بِضاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ قالُوا يا أَبانا ما نَبْغِي هذِهِ بِضاعَتُنا رُدَّتْ إِلَيْنا وَنَمِيرُ أَهْلَنا وَنَحْفَظُ أَخانا وَنَزْدادُ كَيْلَ بَعِيرٍ ذلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ (٦٥)
بيّن يوسف- عليه السلام- أنه حين عاملهم لم يحتج إلى عوض يأخذه منهم،
فلمّا باعهم وجمع لهم الكيل ما أخذ منهم ثمنا، والإشارة من هذا إلى قوله تعالى: «إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ».
وكلّ منّ خطا للدّين خطوة كافأه الله تعالى وجازاه، فجمع له بين روح الطاعة ولذّة العيش من حيث الخدمة.
قوله جلّ ذكره:
[سورة يوسف (١٢) : آية ٦٦]
قالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقاً مِنَ اللَّهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلاَّ أَنْ يُحاطَ بِكُمْ فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قالَ اللَّهُ عَلى ما نَقُولُ وَكِيلٌ (٦٦)
إنّ الحذر لا يغنى من القدر. وقد عمل يعقوب- عليه السلام- معهم فى باب بنيامين ما أمكنه من الاحتياط، وأخذ الميثاق ولكن لم يغن عنه اجتهاده، وحصل ما حكم به الله.
قوله جل ذكره:
[سورة يوسف (١٢) : آية ٦٧]
وَقالَ يا بَنِيَّ لا تَدْخُلُوا مِنْ بابٍ واحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَما أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (٦٧)
يحتمل أن يكون أراد تفريقهم فى الدخول لعلّ واحدا منهم يقع بصره على يوسف، فإن.
لم يره أحدهم قد يراه الآخر «١».
ويقال ظنّ يعقوب أنهم فى أمر يوسف كانوا فى شدة العناية بشأنه، ولم يعلم أنهم كارهون لمكانه.
قوله جل ذكره:
[سورة يوسف (١٢) : آية ٦٨]
وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ ما كانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ حاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضاها وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِما عَلَّمْناهُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٦٨)
(١) نحسب أنه ربما كان الأمر بتفريقهم مرده إلى أنه فى الجماعة تختفى المسئولية الفردية إذ تذوب فى الكيان الجماعى، بينما يكبر الشعور بالمسئولية إذا كانوا آحادا، وقد قالوا ليعقوب من قبل (لئن أكله الذئب ونحن عصبة.)
.
إن لم يحصل مقصود يعقوب عليه السلام فى المآل حصل مراده فى الحال، وفى ذلك القدر لأرباب القلوب استقلال.
ويقال على الأصاغر حفظ إشارات الأكابر، والقول فيما يأمرون به هل فيه فائدة أم لا- ترك للأدب.
ويقال إذا كان مثل يعقوب عليه السلام يشير على أولاده، ويتمنّي به حصول مراده..
ثم لا يحصل مراده علم أنه لا ينبغى أن يعتقد فى الشيوخ أنّ جميع ما يريدون يتّفق كونه على ما أرادوا لأنّ الذي لا يكون إلا ما يريده واجبا وما أراده فهو كائن... هو الله الواحد القهار قوله جل ذكره:
[سورة يوسف (١٢) : آية ٦٩]
وَلَمَّا دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ آوى إِلَيْهِ أَخاهُ قالَ إِنِّي أَنَا أَخُوكَ فَلا تَبْتَئِسْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (٦٩)
حديث المحبة وأحكامها أقسام: اشتاق يعقوب إلى لقاء يوسف عليهما السلام فبقى سنين كثيرة، واشتاق يوسف إلى بنيامين فرزق رؤيته فى أوجز مدة.
وهكذا الأمر فمنهم موقوف به، ومنهم صاحب بلاء.
ويقال لئن سخنت «١» عين يعقوب عليه السلام بمفارقة بنيامين فلقد قرّت عين يوسف بلقائه. كذا الأمر: لا تغرب الشمس على قوم إلا وتطلع على آخرين.
قوله جل ذكره:
[سورة يوسف (١٢) : آية ٧٠]
فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ جَعَلَ السِّقايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسارِقُونَ (٧٠)
(١) سخنت العين أي لم تقرّ
احتمل بنيامين ما قيل فيه من السرقة بعد ما التقى مع يوسف.
ويقال: ما نسب إليه من سوء الفعال هان عليه فى جنب ما وجد من الوصال.
ويقال لئن نسب يوسف أخاه للسرقة فقد تعرّف إليه بقوله: إنى أنا أخوك- سرّا، فكان متحملا لأعباء الملامة فى ظاهره، محمولا بوجدان الكرامة فى سره، وفى معناه أنشدوا:
(٢) وكذلك نعمة الحق تأتى فى خفاء وقلّ من يفطن إليها.
أجد الملامة فى هواك لذيذة حبّا لذكرك فليلمنى اللّوم
قوله جل ذكره:
[سورة يوسف (١٢) : آية ٧٣]
قالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ ما جِئْنا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ وَما كُنَّا سارِقِينَ (٧٣)
يعنى حسن سيرتنا فى سير المعاملة يدلكم على حسن سريرتنا فى الحالة.
ويقال لو كنّا نسرق متاعكم لما رددناه عليكم ولما وجدتموه فى رحالنا بعد أن غبنا عنكم.
قوله جل ذكره:
[سورة يوسف (١٢) : الآيات ٧٤ الى ٧٦]
قالُوا فَما جَزاؤُهُ إِنْ كُنْتُمْ كاذِبِينَ (٧٤) قالُوا جَزاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزاؤُهُ كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (٧٥) فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعاءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَها مِنْ وِعاءِ أَخِيهِ كَذلِكَ كِدْنا لِيُوسُفَ ما كانَ لِيَأْخُذَ أَخاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ (٧٦)
تجاسر إخوة يوسف بجريان جزاء السّرقة عليهم ثقة بأنفسهم أنهم لم يباشروا الزّلّة، وكان بنيامين شريكهم فى براءة السّاحة، فلما استخرج الصّاع من وعائه بسط الإخوة فيه لسان الملامة، وبقي بنيامين «١» فلم يكن له جواب كأنّه أقرّ بالسرقة، ولم يكن ذلك صدقا إذ أنه لم يسرق، ولو قال: لم أفعل لأفشى سرّ يوسف عليه السلام الذي احتال معهم ذلك لأجله حتى يبقيه معه، فسكت لسان بنيامين، وتحقّق بالحال قلبه.
ويقال لم يستصعب الملامة- وإن كان بريئا- مما قرن به، ولا يضرّ سوء المقالة بالمكاشفين بعد حسن الحالة مع الأحباب.
ويقال شىء بما أظهرت عليه المقالة، ولكن حصل له بذلك صفاء الحالة.
قوله جل ذكره:
[سورة يوسف (١٢) : آية ٧٧]
قالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ فَأَسَرَّها يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِها لَهُمْ قالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكاناً وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما تَصِفُونَ (٧٧)
(١) يصلح بنيامين- كما يصوره القشيري- نموذجا لواحد من أهل الملامة، لو دققنا النظر فى إشارات القشيري بصدده.
كان بنيامين بريئا مما رمى به من السرقة، فأنطقهم الله تعالى حتى رموا يوسف عليه السلام بالسرقة، واحد بواحد ليعلم العالمون أنّ الجزاء واجب.
ويقال كان القرح بالقدح أوجع ما سمعه يوسف منهم «١» حيث قالوا:
«إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ» فقد كان ذلك أشدّ تأثيرا فى قلبه من الجفاء الأول.
ويقال إذا حنق عليك الملك فلا تأمن غبّه- وإن طالت المدة- فإن يوسف عليه السلام حنق عليهم فلقوا فى المستأنف منه ما ساءهم من حبس أخيه، وما صاحبهم من الخجل من أبيهم.
قوله جل ذكره:
[سورة يوسف (١٢) : آية ٧٨]
قالُوا يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَباً شَيْخاً كَبِيراً فَخُذْ أَحَدَنا مَكانَهُ إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (٧٨)
لم تنفعهم كثرة التّنصّل، وما راموا به من ذكر أبيهم ابتغاء التوسّل، ولم ينفعهم ما قيل منهم حين عرضوا عليه أن يأخذ أحدهم فى البدل.. كذلك فكلّ مطالب بفعل نفسه:
لا تزر وازرة وزر أخرى فلا الأب يؤخذ بدل الولد، ولا القريب يرضى به عوضا عن أحد لذلك قال يوسف عليه السلام:
[سورة يوسف (١٢) : آية ٧٩]
قالَ مَعاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلاَّ مَنْ وَجَدْنا مَتاعَنا عِنْدَهُ إِنَّا إِذاً لَظالِمُونَ (٧٩)
توهموا أن الحديث معهم من حيث معاملة الأموال، فعرضوا أنفسهم كى يؤخذ واحد منهم بدل أخيهم، ولم يعلموا أن يوسف عليه السلام كادهم فى ذلك، وأنّ مقصوده من
(١) القرح- الجرح، والقدح- العيب فى عرض غيرك.
ذلك ما استكنّ فى قلبه من حبّ لأخيه، وكلّا.. أن يكون عن المحبوب بدل أو لقوم مقام أحد.. وفى معناه أنشدوا:
إذا أوصلتنا الخلد كيما تذيقنا... أبينا وقلنا: أنت أولى إلى القلب
وقيل:
أحبّ ليلى وبغّضت إلىّ... نساء ما لهنّ ذنوب
قوله جل ذكره:
[سورة يوسف (١٢) : آية ٨٠]
فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا قالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَباكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقاً مِنَ اللَّهِ وَمِنْ قَبْلُ ما فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ (٨٠)
لما علموا أن يوسف عليه السلام ليس يبرح عن أخيه خلا بعضهم ببعض فعملت فيهم الخجلة، وعلموا أن يعقوب فى هذه الكرّة يتجدد له مثلما أسلفوه من تلك الفعلة، فلم يرجع، أكبرهم إلى أبيهم، وتناهى إلى يعقوب خبرهم، فاتهمهم وما صدّقهم، واستخونهم وما استوثقهم.
قوله جل ذكره:
[سورة يوسف (١٢) : آية ٨١]
ارْجِعُوا إِلى أَبِيكُمْ فَقُولُوا يا أَبانا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَما شَهِدْنا إِلاَّ بِما عَلِمْنا وَما كُنَّا لِلْغَيْبِ حافِظِينَ (٨١)
كان لهم فى هذه الكرّة حجة على ما قالوا، ولكن لم يسكن قلب يعقوب عليه السلام إليها، فإنّ تعيّن الجرم فى المرة الأولى أوجب التّهمة فى الكرّة الأخرى.
قوله جل ذكره:
[سورة يوسف (١٢) : آية ٨٢]
وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيها وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنا فِيها وَإِنَّا لَصادِقُونَ (٨٢)
ما ازدادوا إقامة حجّة إلا ازداد يعقوب- عليه السلام- فى قولهم شبهة.
ويقال: فى مساءلة الأطلال أخذ لقلوب الأحباب، وسلوة لأسرارهم.. وهذا الباب مما للشرح فيه مجال.
قوله جل ذكره
[سورة يوسف (١٢) : آية ٨٣]
قالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (٨٣)
لجأ إلى قرب خلاصه من الضرّ بالصبر.
ويقال لما وعد من نفسه الصبر فلم يمس حتى قال: «يا أَسَفى عَلى يُوسُفَ» ليعلم أنّ عزم الأحباب على الصبر منقوض غير محفوظ «١».
قوله جل ذكره:
[سورة يوسف (١٢) : آية ٨٤]
وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقالَ يا أَسَفى عَلى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْناهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ (٨٤)
تولّى عن الجميع- وإن كانوا أولاده- ليعلم أنّ المحبة لا تبقى ولا تذر.
ويقال أراد إخوة يوسف أن يكون إقبال يعقوب عليهم بالكليّة فأعرض، وتولّى عنهم، وفاتهم ما كان لهم، ولهذا قيل: من طلب الكلّ فاته الكلّ.
ويقال لم يجد يعقوب مساعدا لنفسه على تأسفه على يوسف فتولّى عن الجميع، وانفرد بإظهار أسفه، وفى معناه أنشدوا:
فريد عن الخلّان فى كل بلدة إذا عظم المطلوب قلّ المساعد
ويقال كان بكاء داود عليه السلام أكثر من بكاء يعقوب عليه السلام، فلم يذهب بصر داود وذهب بصر يعقوب لأن يعقوب عليه السلام بكى لأجل يوسف ولم يكن فى قدرة
(١) يوضح القشيري هذا المعنى فى رسالته حيث يقول: [واعلم أن الصبر على ضربين: صبر العابدين وصبر المحبين، فصبر العابدين أحسنه أن يكون محفوظا وصبر المحبين أحسنه أن يكون مرفوضا، وفى هذا المعنى سمعت الأستاذ أبا على الدقاق يقول: أصبح يعقوب وقد وعد من نفسه- فصبر جميل- ثم لم يمس حتى قال. يا أسفا على يوسف] الرسالة ص ٩٥.
يوسف أن يحفظ بصره من البكاء لأجله، وأمّا داود فقد كان يبكى لله، وفى قدرة الله- سبحانه- ما يحفظ بصر الباكي لأجله.
سمعت الأستاذ أبا على الدقاق- رحمه الله- يقول ذلك، وقال رحمه الله: إن يعقوب بكى لأجل مخلوق فذهب بصره، وداود بكى لأجل الله فبقى بصره.
وسمعته- رحمه الله- يقول: لم يقل الله: «عمى يعقوب» ولكن قال: «وَابْيَضَّتْ عَيْناهُ»، لأنه لم يكن فى الحقيقة عمى، وإنما كان حجابا عن رؤية غير يوسف «١».
ويقال كان ذهاب بصر يعقوب حتى لا يحتاج إلى أن يرى غير يوسف، لأنه لا شىء أشدّ على الأحباب من رؤية غير المحبوب فى حال فراقه، وفى معناه أنشدوا:
لما تيقّنت أنى لست أبصركم أغمضت عينى فلم أنظر إلى أحد
وسمعت الأستاذ أبا على الدقاق رحمه الله يقول: كان يعقوب عليه السلام يتسلّى برؤية بنيامين فى حال غيبة يوسف، فلما بقي عن رؤيته قال: «يا أَسَفى عَلى يُوسُفَ» أي أنه لما منع من النظر كان يتسلى بالأثر، فلمّا بقي عن النظر قال: يا أسفا على يوسف.
قوله جل ذكره:
[سورة يوسف (١٢) : آية ٨٥]
قالُوا تَاللَّهِ تَفْتَؤُا تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضاً أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهالِكِينَ (٨٥)
هددوه بأن يصير حرضا- أي مريضا مشرفا على الهلاك- وقد كان، وخوفّوه مما لم يبال أن يصيبه حيث قالوا «أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهالِكِينَ».
ويقال أطيب الأشياء فى الهلاك ما كان فى حكم الهوى- فكيف يخوّف بالهلاك من كان أحبّ الأشياء إليه الهلاك؟
قوله جل ذكره:
[سورة يوسف (١٢) : آية ٨٦]
قالَ إِنَّما أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (٨٦)
شكا إلى الله ولم يشك من الله، ومن شكا إلى الله وصل، ومن شكا من الله انفصل.
(١) هذا نموذج من التذوق للنص القرآنى لا يفطن إليه إلا أرباب الذوق الصوفي.
ويقال لمّا شكا إلى الله وجد الخلف من الله.
ويقال كان يعقوب- عليه السلام- متحمّلا بنفسه وقلبه، ومستريحا محمولا بسرّه وروحه لأنه علم من الله- سبحانه- صدق حاله فقال: َ أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ»
، وفى معناه أنشدوا:
إذا ما تمنّى الناس روحا وراحة تمنّيت أن أشكوا إليك فتسمعا
قوله جل ذكره:
[سورة يوسف (١٢) : آية ٨٧]
يا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكافِرُونَ (٨٧)
كان يعقوب عليه السلام يبعث بنيه فى طلب يوسف، وكان الإخوة يخرجون بطلب المسيرة وفى اعتقادهم هلاك يوسف.. وكلّ إنسان وهمّه.
ويقال قوله «فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ» أمر بطلب يوسف بجميع حواسّهم بالبصر لعلّهم تقع عليه أعينهم، وبالسّمع لعلّهم يسمعون ذكره، وبالشمّ لعلّهم يجدون ريحه وقد توهّم يعقوب أنهم مثله فى إرادة الوقوف على شأنه. ثم أحالهم على فضل الله حيث قال: «لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكافِرُونَ».
ويقال لم يكن ليعقوب أحد من الأولاد بمكان يوسف، فظهر من قلّة الصبر عليه ما ظهر، وآثر غيبة الباقين من الأولاد فى طلب يوسف على حضورهم عنده.. فشتّان بين حاله معهم وبين حاله مع يوسف! واحد لم يره فابيضّت عيناه من الحزن بفرقته، وآخرون أمرهم- باختياره- بغيبتهم عنه «١».
قوله جل ذكره:
[سورة يوسف (١٢) : آية ٨٨]
فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قالُوا يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنا بِبِضاعَةٍ مُزْجاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنا إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ (٨٨)
(١) هنا لفتة ذكية إلى أنثا قد نحب ونهلك في حب من لا تراه أعيننا.. فإذا صح هذا بالنسبة لمخلوق مثلنا فكيف بالنسبة لبارئنا وخالقنا!!؟
ثم إن التقريب والإبعاد يرتبطان بالاجتباء الإلهى وحده. [.....]
لما دخلوا على يوسف خاطبوه بذكر الضّرّ، ومقاساة الجوع والفقر، ولم يذكروا حديث يوسف عليه السلام، وما لأجله وجّههم أبوهم.
ويقال استلطفوه بقولهم: «مَسَّنا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ» ثم ذكروا بعد ذلك حديث قلة بضاعتهم.
ويقال لمّا طالعوا فقرهم نطفوا بقدرهم فقالوا: وجئنا ببضاعة مزجاة- أي رديئة- ولما شاهدوا قدر يوسف سألوا على قدره فقالوا: أوف لنا الكيل.
ويقال قالوا كلنا كيلا يليق بفضلك لا بفقرنا، وبكرمك لا بعدمنا، ثم تركوا هذا اللسان وقالوا: «وَتَصَدَّقْ عَلَيْنا» : نزلوا أوضع منزل كأنهم قالوا: إن لم نستوجب معاملة البيع والشراء فقد استحققنا بذل العطاء، على وجه المكافأة والجزاء.
فإن قيل كيف قالوا وتصدّق علينا وكانوا أنبياء- والأنبياء لا تحل لهم الصدقة؟
فيقال لم يكونوا بعد أنبياء، أو لعلّه فى شرعهم كانت الصدقة غير محرّمة على الأنبياء.
ويقال إنما أرادوا أنّ من ورائنا من تحلّ له الصدقة.
قوله جل ذكره:
[سورة يوسف (١٢) : آية ٨٩]
قالَ هَلْ عَلِمْتُمْ ما فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جاهِلُونَ (٨٩)
افتضحوا بحضرة يوسف عليه السلام وقالوا: «فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ» فعرفهم فعلمهم ووقفهم عند أحدهم فقال: هل علمتم ما فعلتم بيوسف وأخيه؟ يعنى إنّ من عامل يوسف وأخا، بمثل معاملتكم فلا ينبغى له أن يتجاسر فى الخطاب كتجاسركم.
ويقال إن يوسف عليه السلام قال لهم: أنهيتم كلامكم، وأكثرتم خطابكم، فما كان فى حديثكم إلا ذكر ضرورتكم.. أفلا يخطر ببالكم حديث أخيكم يوسف؟! وذلك فى باب العتاب أعظم من كلّ عقوبة
ولمّا أخجلهم حديث العتاب لم يرض يوسف حتى بسط عندهم فقال: «إِذْ أَنْتُمْ جاهِلُونَ» «١».
قوله جل ذكره:
[سورة يوسف (١٢) : آية ٩٠]
قالُوا أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قالَ أَنَا يُوسُفُ وَهذا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (٩٠)
فى الابتداء حين جهلوه كانوا يقولون له فى الخطاب: «يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ» فلمّا عرفوه قالوا:
«إِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ» لأنّه لمّا ارتفعت الأجنبية سقط التكلّف فى المخاطبة، وفى معناه أنشدوا:
إذا صفت المودّة بين قوم ودام ودادهم قبح الثناء
ويقال إنّ التفاصل والتفارق بين يوسف وإخوته سبقا التواصل بينه وبين يعقوب عليهما السلام فالإخوة خبره وعرفوه قبل أن عرفه أبوه ليعلم أن الحديث بلا شك.
ويقال لم يتقدموا على أبيهم فى استحقاق الخبر عن يوسف ومعرفته، بل إنهم- وإن عرفوه- فلم يلاحظوه بعين المحبة والخلة، وإنما كان غرضهم حديث الميرة والطعام فقط، فقال: «أَنَا يُوسُفُ وَهذا أَخِي» : يعنى إنى لأخ لمثل هذا لا لمثلكم ولذا قال:
«أَنَا يُوسُفُ وَهذا أَخِي»، ولم يقل وأنتم إخوتى، كأنّه أشار إلى طرف من العتاب، يعنى ليس ما عاملتمونى به فعل الإخوة.
ويقال هوّن عليهم حال بداهة «٢» الخجلة حيث قال «أَنَا يُوسُفُ» بقوله: «وَهذا أَخِي»، وكأنه شغلهم بقوله: «وَهذا أَخِي» كما قيل فى قوله تعالى: «وَما تِلْكَ بِيَمِينِكَ يا مُوسى» إنه سبحانه شغل موسى عليه السلام باستماع: «وَما تِلْكَ بِيَمِينِكَ يا مُوسى» بمطالعة العصا فى عين ما كوشف به من قوله: «إِنِّي أَنَا اللَّهُ».
(١) واضح أن القشيري يطبق فكرة القبض والبسط فى هذه الإشارة.
(٢) بداهة الخجلة مفاجأتها
ثم اعترف بوجدان الجزاء على الصبر فى مقاساة الجهد والعناء فقال: «إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ».
وسمعت الأستاذ أبا على الدقاق- رحمه الله- يقول لما قال يوسف: «إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ» أحال فى استحقاق الأجر على ما عمل من الصبر... فأنطقهم الله حتى أجابوه بلسان التوحيد فقالوا: «تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنا» يعنى ليس بصبرك يا يوسف ولا بتقواك، وإنما هو بإيثار الله إياك علينا فبه تقدمت علينا بحمدك وتقواك. فقال يوسف- على جهة الانقياد للحقّ: «لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ» فأسقط عنهم اللوم، لأنه لمّا لم يرتقواه من نفسه حيث نبّهوه عليه نطق عن التوحيد، وأخبر عن شهود التقدير «١».
قوله جل ذكره:
[سورة يوسف (١٢) : آية ٩١]
قالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنا وَإِنْ كُنَّا لَخاطِئِينَ (٩١)
اعترفوا بالفضل ليوسف- عليه السلام- حيث قالوا: لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنا، وأكّدوا إقرارهم بالقسم بقولهم «تَاللَّهِ» وذلك بعد ما جحدوا فضله بقولهم: «لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلى أَبِينا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبانا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ»، وهكذا من جحد فلأنه ما شهد، ومن شهد فما جحد.
ويقال لمّا اعترفوا بفضله وأقرّوا بما اتصفوا به من جرمهم بقولهم: «وَإِنْ كُنَّا لَخاطِئِينَ وجدوا التجاوز عنهم حين قال يوسف:
[سورة يوسف (١٢) : آية ٩٢]
قالَ لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (٩٢)
أسرع يوسف فى التجاوز عنهم، ووعد يعقوب لهم بالاستغفار بقوله: «سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي»
لأنه كان أشدّ حبا لهم فعاتبهم، وأما يوسف فلم يرهم أهلا للعتاب فتجاوز عنهم على الوهلة، وفى معناه أنشدوا:
ترك العتاب إذا استحق أخ منك العتاب ذريعة الهجر
(١) خلاصة رأى الدقاق أنه ليس بعمل الإنسان يصل ولكن بفضل الله واختياره، وحتى عمل الإنسان فهو أيضا يتم بفضل الله واختياره.. وذلك أصل من أصول المذهب القشيري كما وضح فى مواضع متفرقة.
ويقال أصابهم- فى الحال- من الخجلة ما قام مقام كلّ عقوبة، ولهذا قيل:
كفى للمقصّر الحياء يوم اللقاء.
قوله جل ذكره:
[سورة يوسف (١٢) : آية ٩٣]
اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هذا فَأَلْقُوهُ عَلى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيراً وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ (٩٣)
البلاء إذا هجم هجم مرّة، وإذا زال زال بالتدريج حلّ البلاء بيعقوب مرة واحدة حيث قالوا: «فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ» ولما زال البلاء.. فأولّا وجد ريح يوسف عليه السلام، ثم قميص يوسف، ثم يوم الوصول بين يدى يوسف، ثم رؤية يوسف.
ويقال لمّا كان سبب البلاء، والعمى قميص يوسف أراد الله أن يكون به سبب الخلاص من البلاء «١».
ويقال علم أن يعقوب عليه السلام- لما يلحقه من فرط السرور- لا يطيقه عند أخذ القميص فقال: «فَأَلْقُوهُ عَلى وَجْهِ أَبِي».
ويقال القميص لا يصلح إلا للباس إلا قميص الأحباب فإنه لا يصلح إلا لوجدان ريح الأحباب.
ويقال كان العمى فى العين فأمر بإلقاء القميص على الوجه ليجد الشفاء من العمى.
ويقال لمّا كان البكاء بالعين التي فى الوجه كان الشفاء فى الإلقاء على العين التي فى الوجه، وفى معناه أنشدوا:
وما بات مطويا على أريحبة عقيب النوى إلا فتىّ ظلّ مغرما
وقوله «وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ» : لما علم حزن جميع الأهل عليه أراد أن يشترك فى الفرح جميع من أصابهم الحزن.
(١) ويضاف إلى ذلك أن عدم تمزق قميص يوسف كان دلالة على براءة الذئب، وأن تمزقه من دبر كان دلالة على براءة يوسف من تهمة زليخا، وبهذا وذاك يمكن أن يكون قميص يوسف رمزا لموحيات كثيرة فى القصة.
ويقال علم يوسف أن يعقوب لن يطيق على القيام بكفاية أمور يوسف فاستحضره، إبقاء على حاله لا إخلالا لقدره وما وجب عليه من إجلاله.
قوله جل ذكره:
[سورة يوسف (١٢) : الآيات ٩٤ الى ٩٥]
وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلا أَنْ تُفَنِّدُونِ (٩٤) قالُوا تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ (٩٥)
ما دام البلاء مقبلا كان أمر يوسف وحديثه- على يعقوب- مشكلا، فلما زالت المحنة بعثرت بكل وجه حاله.
ويقال لم يكن يوسف بعيدا عن يعقوب حين ألقوه فى الجبّ ولكن اشتبه عليه خبره وحاله، فلما زال البلاء وجد ريحه وبينهما مسافة ثمانين فرسخا- من مصر إلى كنعان.
ويقال إنما انفرد يعقوب عليه السلام بوجدان ريح يوسف لانفرداه بالأسف عند فقدان يوسف. وإنما يجد ريح يوسف من وجد على فراق يوسف «١» فلا يعرف ريح الأحباب إلا الأحباب، وأمّا على الأجانب فهذا حديث مشكل.. إذ أنّى يكون للإنسان ريح!؟.
ويقال لفظ الريح هاهنا توسع «٢»، فيقال هبّت رياح فلان، ويقال إنى لأجد ريح الفتنة..
وغير ذلك.
قوله جل ذكره: لَوْلا أَنْ تُفَنِّدُونِ تفرّس فيهم أنهم يبسطون لسان الملامة فلم ينجع فيهم قوله، فزادوا في الملامة فقالوا: - قالُوا تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ قرنوا كلامهم بالشتم، ولم يحتشموا أباهم، ولم يراعوا حقّه فى المخاطبة، فوضفوه بالضلال فى المحبة.
ويقال إن يعقوب عليه السلام قد تعرّف من الريح نسيم يوسف عليه السلام، وخبر يوسف كثر حتى جاء الإذن للرياح، وهذه سنّه الأحباب: مساءلة الديار ومخاطبة الأطلال، وفى معناه أنشدوا:
(١) لاحظ الجمال فى أسلوب القشيري فى (يجد) ريح يوسف و (وجد) على فراقه.
(٢) كلمة (توسع) يستخدمها القشيري بمعنى (مجاز) - ذلك الاصطلاح البلاغى المعروف.
وإنّى لأستهدى الرياح نسيمكم إذا هى أقبلت نحوكم بهبوب
واسألها حمل السلام إليكم فإن هى يوما بلغت فأجيبوا
قوله جل ذكره:
[سورة يوسف (١٢) : آية ٩٦]
فَلَمَّا أَنْ جاءَ الْبَشِيرُ أَلْقاهُ عَلى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيراً قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (٩٦)
لو ألقى قميص يوسف على وجه من فى الأرض من العميان لم يرتد بصرهم، وإنما رجع بصر يعقوب بقميص يوسف على الخصوص فإنّ بصر يعقوب ذهب لفراق يوسف، ولمّا جاءوا بقميصه أنطق لسانه، وأوضح برهانه، فقال لهم: «أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ» عن حياة يوسف، وفى معناه أنشدوا:
وجهك المأمول حجّتنا يوم يأتى النّاس بالحجج
قوله جل ذكره:
[سورة يوسف (١٢) : آية ٩٧]
قالُوا يا أَبانَا اسْتَغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا إِنَّا كُنَّا خاطِئِينَ (٩٧)
كلّ إنسان وهمّه وقع يعقوب ويوسف عليها السلام فى السرور والاستبشار، وأخذ إخوة يوسف فى الاعتذار وطلب الاستغفار.
ويقال إخوة يوسف- وإن سلفت منهم الجفوة كلّموا أباهم بلسان الانبساط لتقديم شفقة الأبوة على ما سبق منهم من الخطيئة.
ويقال يوم بيوم اليوم الذي كان يعقوب محزونا بغيبة يوسف فلا جرم اليوم كان يعقوب مسرورا بقميص يوسف، وكان الإخوة فى الخجلة مما عملوا بيوسف.
قوله جل ذكره:
[سورة يوسف (١٢) : آية ٩٨]
قالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (٩٨)
وعدهم الاستغفار لأنه لم يفرغ من استبشاره إلى الاستغفار.
ويقال لم يجبهم على الوهلة ليدلّهم على ما قدّموا من سوء الفعلة لأن يوسف كان غائبا
وقتئذ، فوعدهم الاستغفار فى المستأنف- إذا رضى عنهم يوسف حيث كان الحقّ أكثره له، ولو كان كله ليعقوب لوهبهم على الفور.
قوله جل ذكره:
[سورة يوسف (١٢) : آية ٩٩]
فَلَمَّا دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ آوى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ (٩٩)
اشتركوا فى الدخول ولكن تباينوا فى الإيواء، فانفرد الأبوان به لبعدهما عن الجفاء، كذلك غدا إذا وصلوا إلى الغفران يشتركون فى وجود الجنان، ولكنهم يتباينون فى بساط القربة فيختص به أهل الصفاء دون من اتصف اليوم بالاستواء.
قوله جل ذكره:
[سورة يوسف (١٢) : آية ١٠٠]
وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً وَقالَ يا أَبَتِ هذا تَأْوِيلُ رُءْيايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَها رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِما يَشاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (١٠٠)
أوقف كلّا بمحلّه فرفع أبويه على السرير، وترك الإخوة نازلين بأماكنهم.
قوله: «وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً» : كان ذلك سجود تحية، فكذلك كانت عادتهم. ودخل الأبوان فى السجود- فى حقّ الظاهر- لأنّ قوله «خَرُّوا» إخبار عن الجميع، ولأنه كان عن رؤياه قد قال: إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ» وقال هاهنا: «هذا تَأْوِيلُ رُءْيايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَها رَبِّي حَقًّا».
قوله جل ذكره: وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِما يَشاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ
شهد إحسانه فشكره.. كذلك من شهد النعمة شكر، ومن شهد المنعم حمده «١» وذكر حديث السجن- دون البئر- لطول مدة السجن وقلة مدة البئر.
وقيل لأن فيه تذكيرا بجرم الإخوة وكانوا يخجلون. وقيل لأن «السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ». وقيل لأنه كان فى البئر مرفوقا به والمبتدئ يرفق به وفى السجن فقد ذلك الرّفق لقوة حاله فالضعيف مرفوق به والقوىّ مشدّد عليه فى الحال، وفى معناه أنشدوا:
وأسررتنى حتى إذا ما سببتني بقول يحل العصم سهل الأباطح
تجافيت عنّي حين لا لى حيلة وغادرت ما غادرت بين الجوانح
وفى قوله: «وَجاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ» إشارة إلى أنه كما سرّ برؤية أبويه سرّ بإخوته- وإن كانوا أهل الجفاء، لأنّ الأخوّة سبقت الجفوة «٢».
قوله: «مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي» أظهر لهم أمرهم بما يشبه العذر، فقال كان الذي جرى منهم من نزغات الشيطان، ثم لم يرض بهذا حتى قال: «بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي».
يعنى إن وجد الشيطان سبيلا إليهم، فقد وجد أيضا إلىّ حيث قال: «بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي».
ثم نطق عن عين التوحيد فقال: «إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِما يَشاءُ» فبلطفه عصمهم حتى لم يقتلونى.
قوله جل ذكره:
[سورة يوسف (١٢) : آية ١٠١]
رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (١٠١)
من حرف تبعيض لأن الملك- بالكمال- لله وحده.
ويقال الملك الذي أشار إليه قسمان: ملكه فى الظاهر من حيث الولاية، وملك على نفسه حتى لم يعمل ما همّ به من الزّلّة.
(١) أي إن (الحمد) أعلى درجة من (الشكر).. وهكذا تثرى البعوث الصوفية اللغة.
(٢) ربما يرمى القشيري من بعيد إلى أن يشير إلى أن الحق- سبحانه- يتفضل بكرمه على عباده- حتى ولو كانت منهم جفوة- لأنهم عباده أولا.. وإلى هذا يشير فى موضع آخر من كتابه:
«عبدى.. إن لم تكن لى. فأنا لك»
209
ويقال ليس كلّ ملك المخلوقين الاستيلاء على الخلق، إنما الملك- على الحقيقة- صفاء الخلق.
قوله: «وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ» : التأويل للخواص، وتفسير التنزيل للعوام «١».
قوله جل ذكره: فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ «فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ» - هذا ثناء، وقوله: «تَوَفَّنِي» - هذا دعاء.
فقدّم الثناء على الدعاء، كذلك صفة أهل الولاء.
ثم قال: «أنت وليي فى الدنيا والآخرة، هذا إقرار بقطع الأسرار عن الأغيار.
ويقال معناه: الذي يتولّى فى الدنيا والآخرة بعرفانه أنت فليس لى غيرك فى الدارين.
قوله: «تَوَفَّنِي مُسْلِماً»
: قيل علم أنه ليس بعد الكمال إلا الزوال فسأل الوفاة.
وقيل من أمارات الاشتياق تمنّي الموت على بساط العوافي «٢» مثل يوسف عليه السلام ألقى فى الجبّ فلم يقل توفنى مسلما، وأقيم فيمن يزيد «٣» فلم يقل توفنى مسلما، وحبس فى السجن سنين فلم يقل توفنى مسلما، ثم لما تمّ له الملك، واستقام الأمر، ولقى الإخوة سجّدا، وألفى أبويه معه على العرش قال:
«تَوَفَّنِي مُسْلِماً»، فعلم أنه كان يشتاق للقائه (سبحانه).
وسمعت الأستاذ أبا على الدقاق- رحمه الله يقول. قال يوسف ليعقوب: علمت أنّا نلتقى فيما بعد الموت.. فلم بكيت كلّ هذا البكاء؟
(١) تصلح هذه العبارة لتوضيح الفرق- فى نظر القشيري- بين كلمتى التأويل والتفسير.
(٢) هذه العبارة والاستشهاد عليها من قصة يوسف أوردهما القشيري منسوبين لشيخه الدقاق فى الرسالة ص ١٦٣.
(٣) (أقيم فيمن يزيد) لم ترد فى النص السابق بالرسالة. ومعناها: نودى عليه ليباع كالعبيد بعد إخراجه من البئر.
210
فقال يعقوب، يا بنىّ إنّ هناك طرقا، خفت أن اسلك طريقا وأنت تسلك طريقا، فقال يوسف عند ذلك: «تَوَفَّنِي مُسْلِماً».
ويقال إن يوسف- عليه السلام- لما قال: توفنى مسلما، فلا يبعد من حال يعقوب أن لو قال: يا بنى دعني أشتفى بلقائك من الذي منيت به فى طول فراقك، فلا تسعنى- بهذه السرعة- قولك: توفّني مسلما.
قوله جلّ ذكره:
[سورة يوسف (١٢) : آية ١٠٢]
ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ (١٠٢)
تبيّن للكافة أن مثل هذا البيان لهذه القصة على لسان رجل أمي لا يكون إلا بتعريف سماوىّ ويقال كون الرسول- صلى الله عليه وسلم- أمّيّا فى أول أحواله علامة شرفه وعلوّ قدره فى آخر أحواله، لأنّ صدقه فى أن هذا من قبل الله إنما عرف بكونه أميا، ثم أتى بمثل هذه القصة من غير مدارسة كتاب.
قوله جل ذكره:
[سورة يوسف (١٢) : آية ١٠٣]
وَما أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ (١٠٣)
أخبر عن سابق علمه بهم، وصادق حكمه حكمته فيهم.
ويقال معناه: أقمتك شاهدا لإرادة إيمانهم، وشدّة الحرص على تحقّقهم بالدّين، وإيقانهم. ثم إنّى أعلم أنهم لا يؤمن أكثرهم، وأخبرتك بذلك، وفرض عليك تصديقى بذلك، وفرضت عليك إرادتى كون ما علمت أنه لا يكون من إيمانهم.
قوله جل ذكره:
[سورة يوسف (١٢) : آية ١٠٤]
وَما تَسْئَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (١٠٤)
هذه سنّة الله- سبحانه- مع أنبيائه حيث أمرهم بألا يأخذوا على تبليغ الرسالة
عوضا ولا أجرا، وكذلك أمره للعلماء- الذين هم ورثة الأنبياء عليهم السلام- بألّا يأخذوا من الخلق عوضا على دعائهم إلى الله، فمن أخذ منهم حظا من الناس لم يبارك للمستمع فيما يسمع منه فلا له أيضا بركة فيما يأخذ منهم فتنقطع به.
قوله جل ذكره:
[سورة يوسف (١٢) : آية ١٠٥]
وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْها وَهُمْ عَنْها مُعْرِضُونَ (١٠٥)
الآيات ظاهرة، والبراهين باهرة، وكلّ جزء من المخلوقات شاهد على أنّه واحد، ولكن كما أنّ من أغمض عينه لم يستمتع بضوء نهاره فكذلك من قصّر فى نظره واعتباره لم يحظ بعرفانه واستبصاره.
قوله جل ذكره:
[سورة يوسف (١٢) : آية ١٠٦]
وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلاَّ وَهُمْ مُشْرِكُونَ (١٠٦)
الشّرك الجلىّ أن يتّخذ من دونه- سبحانه- معبودا- والشّرك الخفىّ أن يتخذ بقلبه عند حوائجه من دونه- سبحانه- مقصودا.
ويقال شرك العارفين أن يتخذوا من دونه مشهودا، أو يطالعوا سواه موجودا «١».
ويقال من الشّرك الخفىّ الإحالة على الأشكال فى تجنيس الأحوال، والإخلاد إلى الاختيار والاحتيال «٢» عند تزاحم الأشغال.
قوله جل ذكره:
[سورة يوسف (١٢) : آية ١٠٧]
أَفَأَمِنُوا أَنْ تَأْتِيَهُمْ غاشِيَةٌ مِنْ عَذابِ اللَّهِ أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (١٠٧)
أفأمن الذي اغترّ بطول الإمهال ألا يبتلى بالاستئصال، أفأمن من اغترّ بطول السلامة ألا يقوم البلاء عليه يوم القيامة.
(١) أي (موجودا) على الحقيقة.
(٢) (الاحتيال) معناها اللجوء إلى الحيلة أي التدبير الإنسانى بل ينبغى إسقاط التدبير واللجوء إلى التقدير الإلهى.
ويقال الغاشية حجاب من القسوة يحصل فى القلب، لا يزول بالتضرع ولا ينقشع بالتخشع ويقال الغاشية من العذاب أن تزول من القلب سرعة الانقلاب إلى الله تعالى، حتى إذا تمادى صاحب الغفلة استقبله فى الطريق ما يوجب قنوطه من زواله، وفى معناه أنشدوا:
قلت للنّفس إن أردت رجوعا فارجعى قبل أن يسدّ الطريق
قوله جل ذكره:
[سورة يوسف (١٢) : آية ١٠٨]
قُلْ هذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحانَ اللَّهِ وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٠٨)
«البصيرة» : اليقين الذي لا مرية فيه، والبيان الذي لا شك فيه. البصيرة يكون صاحبها ملاطفا بالتوفيق جهرا، ومكاشفا بالتحقيق سرّا.
ويقال البصيرة أن تطلع شموس العرفان فتندرج فيها أنوار نجوم العقل.
قوله «أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي» أي ذلك سبيلى، وسبيل من اقتدى بهداي فهو أيضا على بصيرة قوله جل ذكره:
[سورة يوسف (١٢) : آية ١٠٩]
وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلاَّ رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرى أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلا تَعْقِلُونَ (١٠٩)
تعجبوا أن يبعث الله إلى الخلق بشرا رسولا، فبيّن أنه أجرى سنّته- فيمن تقدّم من الأمم- ألا يكون الرسول إليهم إلا بشرا، فإما أن جحدوا جواز بعثة الرسول أصلا، أو أنهم استنكروا أن يبعث بشرا رسولا.
ثم أمرهم بالاستدلال والتفكر والاعتبار والنّظر فقال: «أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ.. ؟»
قوله جل ذكره:
[سورة يوسف (١٢) : آية ١١٠]
حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جاءَهُمْ نَصْرُنا فَنُجِّيَ مَنْ نَشاءُ وَلا يُرَدُّ بَأْسُنا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (١١٠)
حتى إذا استيأس الرسل من إيمان قومهم، وتيقّنوا أنهم كذبوهم- والظن هاهنا بمعنى اليقين- فعند ذلك جاءهم نصرنا للرسل بالنجاة ولأقوامهم بالهلاك، ولا مردّ «١» لبأسنا ويقال حكم الله بأنه لا يفتح للمريدين «٢» شيئا من الأحوال إلا بعد يأسهم منها، قال تعالى: «وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ ما قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ» «٣» فكما أنّه ينزّل المطر بعد اليأس فكذلك يفتح الأحوال بعد اليأس منها والرضا بالإفلاس عنها.
قوله جل ذكره:
[سورة يوسف (١٢) : آية ١١١]
لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبابِ ما كانَ حَدِيثاً يُفْتَرى وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (١١١)
عبرة منها للملوك فى بسط العدل كما بسط يوسف عليه السلام، وتأمينهم أحوال الرعية كما فعل يوسف حين أحسن إليهم، وأعتقهم حين ملكهم.
وعبرة فى قصصهم لأرباب التقوى فإن يوسف لمّا ترك هواه رقّاه الله إلى ما رقّاه.
وعبرة لأهل الهوى فيما فى اتباع الهوى من شدة البلاء، كامرأة العزيز لمّا تبعت هواها لقيت الضرّ والفقر.
وعبرة للمماليك فى حضرة السادة، كيوسف لما حفظ حرمة زليخا ملك ملك العزيز، وصارت زليخا امرأته حلالا.
(١) سقطت الدال من (لا مرد) فأثبتناها. [.....]
(٢) وردت (المرتدين) وهى خطأ فى النسخ فالكلام عن أحوال (المريدين)، كذلك فإن الله لا يفتح على (المرتدين) شيئا فهم مغضوب عليهم.
(٣) آية ٢٨ سورة الشورى.
Icon