سورة يوسف
مكية٢
٢ جمهور المفسرين على أنها مكية، ومنه: ما ذكره النحاس في ناسخه ١/٢١١ عن ابن عباس: نزلت بمكة فهي مكية. وذكر القرطبي في الجامع ٩/٧٩، عن ابن عباس، وقتادة: هي مكية إلا أربع آيات منها هي: الأولى، والثانية، والثالثة، والسابعة. وقال أبو حيان في البحر: هي مكية إلا ثلاث آيات مدنية من أولها. ورده السيوطي في الاتقان ١٥١، قال: وهو واه، لا يلفت إليه. وذكر الزجاج ما خالف فيه العامة حيث قال في معانيه ٣/٨٧: إنها مدنية..
ﰡ
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة يوسف عليه السلاممكية
قوله تعالى: ﴿الر تِلْكَ آيَاتُ الكتاب المبين﴾ إلى قوله ﴿سَاجِدِينَ﴾
قد تقدم الكلام في ﴿الر﴾. و ﴿تِلْكَ﴾ عند الطبري بمعنى " هذه ". والمعنى: تلك آيات الكتاب المبين: " حلاله وحرامه، ورشده وهُداه ".
﴿إِنَّآ أَنْزَلْنَاهُ﴾ الهاء تعود على خبر يوسف، وهو اختيار
إنا أنزلنا خبر يوسف، وذلك أن اليهود سألوا النبي، ﷺ: لِمَ انتقل آل يعقوب من الشام إلى مصر، وعن خبر يوسف. فأنزل الله، ( تعالى) هذا بمكة موافقاً لما في التوراة، وفيه زيادة ليس عندهم.
وقيل: إن " الهاء " تعود على الكتاب المبين، وهو القرآن. ومعنى: ﴿إِنَّآ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً﴾ آية: أي: مجموعاً، مبيناً عربياً. ﴿لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾: أي: ﴿تَعْقِلُونَ﴾ آية: أن محمداً إذا أتاكم بأخبار الغيب، وهو ممن لا يقرأ كتاباً.
ثم قال تعالى: ﴿نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ القصص﴾: أي: نحن نخبرك يا محمد عن (ال) أمم الماضية، والقرون السالفة أحسن الخبر، وأصحَّه. وما كنت يا محمد من قبل أن ينزل عليك هذا ﴿القرآن وَإِن﴾ من الغافلين عن هذه القصص، والأخبار. وقيل: معنى نقص: نبين.
وقال ابن عباس: قال أصحاب النبي ﷺ، ( له): لو قصصت علينا فنزلت ﴿نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ القصص﴾.
وروي أن أصحاب النبي ﷺ، ملُّوا ملَّة. فقالوا:
ثم قال تعالى: ﴿إِذْ قَالَ يُوسُفُ لأَبِيهِ يا أبت﴾، العامل في " إذ " الغافلين.
وقرأ طلحة بن مصرف ﴿يُوسُفُ﴾ بالهمزة وكسر السين.
وحكى ابن زيد: يؤسف بالهمزة، وفتح السين. والوقف عند سيبويه وأصحابه على " يا أبه بالهاء، لأن الهاء بدل من الياء التي للإضافة. ومذهب
ومن فتح التاء، فلأنها (أ) شبهت بالهاء التي هي علامة التأنيث، كما قال الشاعر: كليني لهم يا أميمة ناصب. وهذا مذهب سيبويه.
وقال قُطْرُب: وهو أحد قولي الفراء، لأن الأصل: يا أبتا (هـ)، ثم حذفت الألف. ويكون الوقف على قول سيبويه بالهاء، وهو قول أحد الفراء الآخر.
والندبة في هذا لا يجوز، إذ ليس هو من مواضعها. والعلة التي من أجلها
فلما لم يستعمل " أبِهِ " استغنى باللام - استعمل ذلك في النداء في " الأب "، وأَجْرُوه مجرى ما وصف فيه المذكر مما فيه الهاء نحو: " علامة وَنَسَّابة.
وقال الفراء: إنما هي الهاء التي تزاد في الوقت، أكثر بها الكلام فنبهت بهاء التأنيث.
قرأ الحسن، أبو جعفر " أحد عْشْر " بإسكان العين لكثرة الحركات.
وقيل: لما كان تفسير ذلك واقعاً على إخوة يوسف، وأبيه، وخالته، أخبر عنهم، بالهاء والميم. وذلك حقهم في الحكاية، والإخبار عنهم.
قال ابن عباس: كانت الرؤيا فيهم وحياً. والأحد عشر هم: أخوة يوسف، والشمس أمه، والقمر أبوه. هذا قول ابن عباس، وغيره.
ويروى أن رؤيا يوسف كانت ليلة الجمعة، وكانت ليلة القدر، فأشفق يعقوب أن يحسده إخوته على ذلك. فنهاه أن يقصَّها عليهم.
وقال قتادة، وغيره: الشمس خالته، والقمر أبوه. وظهرت رؤيا
وقد روي أن يعقوب، عليه السلام، فسر الرؤيا " تأول الأحد عشر كوكباً: أحد عشر نفساً، لهم فضل يستضاء بهم، وهم إخوة يوسف، وتأوّل الشمس، والقمر: أبويه، فتأوّل أن يوسف يكون نبياً، وأن إخوته يكونون أنبياء، لأن الله تعالى، أعلمهم أنه يتم نعمته عليه، وعلى أبويه.
قوله: ﴿قَالَ يابني لاَ تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ﴾ إلى قوله ﴿حَكِيمٌ﴾.
(هذا اللفظ) يدل على أن يعقوب كان له علم بعبارة الرؤيا، ويدل على أنه كان قد أحسّ من إخوة يوسف ليوسف حسداً، فخافهم عليه. والمعنى. لا
وكان يعقوب صلى الله عليه، (وعلى محمد) قد تبيَّن له من إخوة يوسف ليوسف / الحسد. فلذلك قال (ل) له هذا. ولذل [ك] قال السدي: نزل يعقوب عليه السلام، الشام، فكان همه يوسف، وأخاه، فحسدهما أخوتهما.
ومعنى ﴿فَيَكِيدُواْ لَكَ (كَيْداً)﴾ أي: فيتخذونك كيداً، وقيل: اللام زائدة. والمعنى: فيكيدوك كيداً.
ثم قال تعالى: ﴿وكذلك يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ﴾: أي: وهكذا يجتبيك ربك: أي:
﴿وَيُعَلِّمُكَ مِن تَأْوِيلِ الأحاديث﴾:
أي: كما أراك ربك الكواكب، والشمس، والقمر سجوداً لك، كذلك يصطفيك. وتأويل الأحاديث: عبارة الرؤيا، وقيل: أخبار الأمم.
﴿وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ﴾ (أي): بالاصطفاء ﴿كَمَآ أَتَمَّهَآ على أَبَوَيْكَ مِن قَبْلُ﴾: أخبره أنه يكون نبياً.
قال عكرمة: ويتم نعمته عليك، وعلى آل يعقوب، كما أتمها على أبويك من قبل إبراهيم، وإسحاق. فنعمته على إبراهيم، بأن نجَّاه من النار، وعلى إسحاق أن نجاه من الذبح.
﴿إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ﴾ بخل (قه)، ﴿حَكِيمٌ﴾ في تدبيره.
من قرأ " آية "، فمعناه: عبرة، ومن جمع، فمعناه: عبرة للسائلين (عن أخبارهم)، وقصصهم.
وقيل: إن هذه السورة نزلت تسلية من الله تعالى، لمحمد ﷺ، فيما يلقى من أقاربه من قريش. فأعلمه ما لقي يوسف من إخوته، ثم قال ذلك ابن إسحاق.
ثم قال تعالى: ﴿إِذْ قَالُواْ﴾ العامل في " إذ " معنى الآيات. والعصبة: العشرة فما فوق ذلك إلى خمسة عشر، وقيل: إلى الأربعين.
وقولهم: ﴿إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ﴾: أي لفي خطأ في إيثاره علينا يوسف،
ومعنى: ﴿مُّبِينٍ﴾: يبين عن نفسه أنه أخطأ لمن تأمَّله فمعناه: أنه ضل في محبتهما، وتقديمهما علينا، وهُمَا صَغِيرَانِ، ونحن أنفع منهما وأكبر. ولم يصفوه بالضلال في الدين. قال ذلك السدي.
ثم حكى عنهم تعالى إنهم قالوا: ﴿اقتلوا يُوسُفَ أَوِ اطرحوه أَرْضاً﴾ أي: في أرض. وجاز حذف الحرف (منه)، على أنه مفعول ثان، وليس بظرف، (و) لأنه غير مبهم.
﴿يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ﴾ أي: يتفرغ إليكم أبوكم من شغله بيوسف. ﴿وَتَكُونُواْ مِن بَعْدِهِ قَوْماً صَالِحِينَ﴾: فالهاء في " بعده " تعود على الطرح، وقيل: على يوسف. وقيل:
وقال مقاتل: ﴿قَوْماً صَالِحِينَ﴾ أي: تصلح حالكم، وأمركم عند أبيكم.
قوله: ﴿قَالَ قَآئِلٌ مِّنْهُمْ لاَ تَقْتُلُواْ يُوسُفَ﴾: نهاهم أحد الإخوة عن القتل، وأمرهم بطرحه في غيابات الجب. والقائل هذا روبيل كان أكبر القوم، وهو ابن خالة يوسف، قال ذلك قتادة، وابن إسحاق.
وقال مجاهد: كان (القائل) شمعون، وقيل: هو يهوذا، وكان يهوذا من أشدهم في العقل، وهو الذي قال: ﴿فَلَنْ أَبْرَحَ الأرض حتى يَأْذَنَ لي أبي﴾ [يوسف: ٨٠].
ومعنى: ﴿كَبِيرُهُمْ﴾ [يوسف: ٨٠] أي كبيرهم في العقل، قاله مقاتل، وغيره. قال الضحاك: الذي قال ﴿لاَ تَقْتُلُوهُ﴾ [القصص: ٩] / هو الذي قال: ﴿فَلَنْ أَبْرَحَ الأرض حتى يَأْذَنَ لي أبي أَوْ يَحْكُمَ الله لِي﴾ [يوسف: ٨٠].
وروي أنه أول من كان وقع في قلوب إخوة يوسف من يوسف ﷺ ما وقع أنه رأى قبل رؤيته الكو (ا) كب، كأنه خرج مع إخوته يَحْتَطِبُونَ، فسجدت حزم إخوته لحزمتهن فأخبرهم بذلك. ذلك عليهم.
قال قتادة: الجب بئر بيت المقدس. والجب: البئر التي ليست بمطوية، سميت جُبّاً، لأنها قُطِعَت قطعاً، ولم يحدث فيها غير القطع، ولا طيّ ولا غيره. والجب يذكر ويؤنث.
وقرأ الحسن " تلتقطه " بالتاء، لأن بعض السيارة سيارة، فأتت على المعنى.
قال ابن عباس: " التقطه ناس من الأعراب ".
﴿إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ﴾: أي: " إن " كنتم فاعلين ما أقول لكم ".
قوله: ﴿قَالُواْ يا أبانا مَا لَكَ لاَ تَأْمَنَّا على (يُوسُفَ) وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ﴾ إلى قوله ﴿لَّخَاسِرُونَ﴾.
وقرأ يزيد بن القعقاع، وعمرو بن عبيد: " تأمنَّا " بغير إشْمَامٍ.
وقرأ طلحة بن مصرف " تأَمَنَنَّا " بنونين ظاهرتين.
﴿وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ * أَرْسِلْهُ مَعَنَا﴾ إلى قوله: ﴿لَحَافِظُونَ﴾
" نحُوطُهُ ونكلؤه ". ومن قرأ " نرتع بالنون، وكسر العين، فمعناه: نرتع الغنم والإبل. وهو نفعتل من رعى (يرعو).
وقال مجاهد: نرتع: أي: نحفظ بعضنا بعضاً، أي: نتحارس، ونتكالؤ.
ومعناه عند ابن عباس: يلهو، وينبسط.
ومن قرأ بالياء، وكسر العين، فهو يفتعل من " رعى " أي: يرعى الغنم، ويعقل، ويعرف الأمور.
ومن أسكن العين، وقرأ بالياء، فمعناه: أرسله يتفرَّج، وينشط في الصحراء: من رتع.
ثم قال: تعالى حكاية عن قول يعقوب لهم: ﴿قَالَ إِنِّي ليحزنني﴾ إلى قوله: ﴿لَّخَاسِرُونَ﴾: من همز " الذئب " أخذه من قولهم: تذاءبت الريح: إذا جاءت من كل مكان. فهمز " الذئب " لأنه يجيء من كل مكان. قال ذلك أحمد بن
ومن لم يهمز فعلى تخفيف الهمز. وقيل: إنه جعله ليس بمشتق، مثل: الفيل، والميل، والكيس. وإنما خاف يعقوب، عليه السلام، من الذئب دون سائر السباع، لأنه كان رأى في المنام كأن ذئباً شد على يوسف، فخرجت تلك الرؤيا في دعواهم. ﴿وَأَنْتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ﴾: أي: لا تشعرون ﴿قَالُواْ لَئِنْ أَكَلَهُ الذئب وَنَحْنُ عُصْبَةٌ﴾ /: أي: أحد عشر رجلاً ﴿إِنَّآ إِذَاً لَّخَاسِرُونَ﴾: أي: لعجزة هالكون.
قوله: ﴿فَلَمَّا ذَهَبُواْ بِهِ وأجمعوا أَن يَجْعَلُوهُ﴾: أي: أجمع رأيهم، وعزموا على ذلك. ﴿وَأَوْحَيْنَآ إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ﴾: أي: لتخبرنهم بما صنعوا بك، وهم لا يعلمون بك.
قال الضحاك: لما ألقي يوسف في الجب، نزل إليه جبريل، عليه السلام، فقال له: يا
وقال السدي: خرجوا به، وله عليهم كرامة، فلما برزوا به إلى البرية أظهروا له العداوة، وجعل أخوه يضربه، فيستغيث بالآخر (فيضربه فجعل " لا يرى منهم رحيماً " فضربوه حتى كادوا يقتلونه. فجعل يصيح، ويقول: يا أبتاه! يا يعقوب! لو علمت ما صنع بابنك بنو الإماء. فلما كادوا يقتلونه، قال يهوذا: أليس قد
فقال: يا (أ) خوتاه: ردوا علي قميصي، أتوارى به في الجب. فقالوا له: ادع الشمس والقمر، والأحد عشر كوكياً ليُؤْنسوكَ. فدلوه في البئر حتى إذا بلغ نصفها ألقوه إرَادَةِ أن يموت. فكان في البير ماء، فسقط فيه ثم أوى إلى صخرة فيها. فقام عليها، وجعل يبكي، فنادوه، فظن أنها رحمة منهم، أدركتهم عليه. فأجابهم فأرادوا أن يرضخوه بصخرة فيقتلوه. فقام يهوذا فمنعهم، وقال: قد أعطيتموني موثقاً ألا تقتلوه.
وقيل: كان الجب الذي ألقوه فيه، لا ماء فيه. فأحدث الله فيه ماء، حتى مال إليه الناس. وكان يهوذا يأتيه بالطعام.
والواو في " وأجمعوا " زائدة للتأكيد، وهو جواب " لما ".
وقيل: المعنى: " أوحى الله وجل إليه لتخبرهم بما " ﴿صَنَعُواْ﴾ [هود: ١٦، الرعد: ٣١]، وهم لا يشعرون بالوحي الذي أوحى " الله تعالى " إليه.
قال مجاهد، وابن زيد: وقيل: المعنى: ﴿وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ﴾، (أن) الذي يخبرهم بصنيعهم هو يوسف.
وقيل: المعنى: ﴿وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ﴾ أنه نبي يوحى إليه.
(قال ابن عباس: لما دخل إخوة يوسف) على يوسف. (عرفهم)، ﴿وَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ﴾ [يوسف: ٥٨]. فقال: جيء بالصواع. فوضعه على يديه، (ثم) نقره، فطن فقال: إنه ليخبرني هذا الجام أنه كان لكم أخ من أبيكم، يقال له: يوسف، يدنيه دونكم، وأنكم انطلقتم به، فألقيتموه في غيابات الجُبّ. قال: ثم نقره،
ثم قال تعالى: ﴿وجآءوا أَبَاهُمْ عِشَآءً يَبْكُونَ﴾.
قال السدي: أتوا إلى أبيهم عشاءاً يبكون، فلما سمع أصواتهم فزع، وقال: ما لكم يا بني؟ هل أصابكم في غنمكم شيء؟ قالوا: " لا، قال: فما فعل يوسف؟ فقالوا: ﴿يا أبانآ إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ﴾: كان السبق عندهم على الأرجل، كالسبق على الخيل، لأنه آلة للحرب. فلما قالوا: ﴿وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِندَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذئب﴾ بكى الشيخ، وصاح بأعلى صوته، فقال: أين القميص؟ فجاؤو (هـ). بالقميص، عليه دك كذب، فأخذ القميص فطرحه على وجهه، ثم بكى حتى تخضب وجهه من دم القميص.
قوله: ﴿وَمَآ أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لَّنَا﴾: أي: بمصدق لنا، ﴿وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ﴾: قال:
وقيل: المعنى: ليس بمصدق لنا لو كنا من أهل الصدق الذين لا يتهمون لِسُوءِ ظنك بنا.
وقيل: المعنى: ولو كنا عندك من أهل الصدق، لا تعمتنا في يوسف لمحبتك إياه.
وقيل: المعنى: قد وقع في قلبك إنّا لنصدقك في يوسف، فأنت لا تصدقنا. وذلك أن يعقوب كان (قد) اتَّهَمَهُمْ عليه، فلما وقع ما وقع، تأكدت التهمة لهم. وإلا فيعقوب، صلوات الله عليه، لا يكذب الصادق، وليس هذا من صفة الأنبياء، صلوات الله عليهم. وإنما كذبهم لتأكيد التهمة، وكثرة الدلائل على كذبهم. فالمعنى: ما أنت بمصدق لنا وقد وقع (بك) ما تحذر، ولو كنا عندك صادقين من قبل، غير متهمين، لوجب أن تتهمنا (الساعة) عند مصيبتك. فكيف وقد كنت
ثم قال تعالى: ﴿وَجَآءُوا على قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ﴾، أي: بدم ذي كذب. قال ابن عباس: ومجاهد: ذبحوا سخلة على قميصه.
وقال السدي: ذبحوا جدياً، ثم لطخوا القميص بدمه، ثم أقبلوا إلى أبيهم، فقال يعقوب عليه السلام، (إن كان هذا الذئب لرحيماً كيف أكل لحمه، ولم يخرق قميصه؟ يا بني، يا يوسف ما فعل بك بَنُو الإماء!؟
قال الحسن: جعل يعقوب يقلب القميص، ويقول: ما عهدت الذئب حليماً، إنه أمل ابني، وأبقى على قميصه.
ثم قال مكذباً لهم: ﴿بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْراً﴾ أي: زينت لكم في يوسف، وحسنته لكم. ﴿فَصَبْرٌ جَمِيلٌ﴾: أي: فأمري صبر جميل، وشأني صبر. (أي): فصبري
وقرأ عيسى بن عمر بالنصب على معنى: " فاصبر صبراً جميلاً " على المصدر. والرفع أبْلَغُ /، وأحسن، وإنما يختار النصب في الأمر خاصة. والصبر الجميل: هو الصبر الذي لا جزع معه.
وروي عن النبي ﷺ، أنه قال: " هو الصبر الذي لا شكوى معه وكان يعقوب عليه السلام، قد سقط حاجباه،: فكان يرفعهما بخرقة. فقيل له: ما هذا؟ فقال: طول الزمان، وكثرة الأحزان، فأوحى الله تعالى، إليه: أتشكوني يا يعقوب؟ فقال: رب خطيئة أخطأتها، فاغفرها لي ".
ثم قال: ﴿والله المستعان على مَا تَصِفُونَ﴾: أي: على احتماله. وقال قتادة: " على ما تكذبون ".
ومن حديث أبن لهيعة، رفعه إلى ابن عمر، أن يعقوب عليه السلام قال لبنيه: يا بني " إيتو (ني) " بالذئب الذي أمل ولدي، إن كنتم صادقين، قال: فخرجوا إلى واد لهم يسعون فيه، فإذا هم بذئب قد انحطَّ عليهم من شفير الوادي، فاعترضو (هـ) سراعاً، وأخذوه قسراً، وأوثقوه كتافاً، وعمدوا إلى حمل أبيهم فقالوا: هذا الذئب الذي أكل يوسف أخانا. فقال لهم أطلق (و) هـ فقال له: يعقوب: قف
قوله: ﴿وَجَاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُواْ وَارِدَهُمْ﴾ - إلى قوله - ﴿أَكْثَرَ الناس لاَ يَعْلَمُونَ﴾.
والمعنى: ومر قوم يسيرون، من مارة الطريق، ﴿فَأَرْسَلُواْ وَارِدَهُمْ﴾: وهو
فقال السدي: لما رآه قد تعلق، نادى رجلاً من أصحابه، يقال له: بشرى: يا بشرى، هذا غلام. وكذلك قال ابن جبير، وقتادة.
وهو معنى قراءة من قرأ " يا بشراي ".
ومن قرأ بغير ياء، احتمل أن يكون دعا رجلاً اسمه بشرى فلم يضفه إلى نفسه فهو في موضع رفع.
وقيل: إنه دعا البشرى، كأنه قال: يا أيتها البشرى.
ومعنى نداء البشرى: أنه على تنبيه المخاطبين، وتوكيد القصة. فكأنه قال: يا قوم أبشروا، ويجوز أن تكون هذه / القراءة، يراد بها الإضافة، ثم حذف (ت) الياء.
ثم قال تعالى: ﴿وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً﴾ أي: وأسر يوسف الوُرَّادً بضاعة من
وقال مجاهد: المعنى " أسره التجار بعضهم من بعض ".
وعن ابن عباس: أن المعنى: وأسره إخوته، وأسر يوسف نفسه (من التجار) خوفاً أن يقتله إخوته. واختار البيع، وذلك أن إخوته ذكروه لوارد
ثم قال تعالى: ﴿وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ﴾ أي: بثمن ذي بخس، أي: حرام. وقوله: (وشَرُوْهُ): يحتمل أن يكون معناه: وباعون، وأن يكون اشتروه، وهو من الأضداد.
قال مجاهد: باعه إخوته حين أخرجه المدلى.
وقال قتادة: وغيره: المعنى: وباعه السيارة من بعض التجار، بثمن بخس. وقيل: المعنى: فاشتراه السيارة من أخوته بثمن بخس، وهو اختيار الطبري، ثم خافوا أن يشركهم فيه أصحابهم، وقالوا هو بضاعة.
معنى: ﴿وَكَانُواْ فِيهِ مِنَ الزاهدين﴾، أي: إخوته.
ويجوز أن يكون الضمير: الوارد، أي: وكان الوارد الذي رفعه من الجب فيه من الزاهدين، والذين اشتروه من الوراد، وليسوا بزاهدين فيه، بل اشتروه خوفاً أن يشركهم فيه غيرهم لرغبتهم فيه.
والبخس عند ابن عباس، والضحاك: الحرام.
وقيل: هو الظلم، وهو قول قتادة.
وقال مجاهد: هو القليل، وهو قول عكرمة. والبخس في اللغة النقصان، فمعناه: [ب] ثمن مبخوس: أي: منقوص.
ومعنى ﴿دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ﴾: أي: غير موزونة، ناقصة.
وقال ابن عباس، وابن مسعود، وغيرهما: كانت عشرين درهماً.
وقال مجاهد: كانت اثنين وعشرين درهماً، أخذ كل واحد من إخوة يوسف درهمين، درهمين، وهم أحد عشر رجلاً.
وقال عكرمة: كانت أربعين. وكان إخوة يوسف فيه من الزاهدين، لا يعلمون نبوءته وكرامته على الله.
ثم قال (تعالى): ﴿وَقَالَ الذي اشتراه مِن مِّصْرَ لاِمْرَأَتِهِ أَكْرِمِي (مَثْوَاهُ)﴾: والذي اشتراه: هو الملك بمصر. قطفير وهو العزيز. وكان على خزائن مصر، وكان
وروي عن ابن مسعود أنه، قال: أفرس الناس ثلاثت [ة]: العزيز، حين قال لامرأته ﴿أَكْرِمِي مَثْوَاهُ﴾، وابنة شعيب حين قالت لأبيها: ﴿إِنَّ خَيْرَ مَنِ استأجرت القوي (الأمين)﴾ [القصص: ٢٦]، وأبو بكر الصديق، رضي الله عنهـ، حين ولى عمر، رضي الله عنهـ.
ثم قال تعالى: ﴿وكذلك مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الأرض﴾: والمعنى وكما خلصناه من القتل من أيدي إخته، كذلك مكنا له في الأرض، فجعلناه على خزائنها.
﴿وَلِنُعَلِّمَهُ مِن تَأْوِيلِ الأحاديث﴾: مكناه، وهذا تصديق ليعقوب في قوله ليوسف: ﴿وكذلك يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِن تَأْوِيلِ الأحاديث﴾ [يوسف: ٦]: وتأويل الأحاديث عبارة الرؤيا.
﴿والله غَالِبٌ على أَمْرِهِ﴾: أي: مستولٍ على أمر يوسف.
وقيل: غالب على أمره: أي (مستول على أمره)، يفعل ما يشاء. " فالهاء " [في] المعنى الأول ليوسف، وفي الثاني لله. وقيل: إنها في القول الثاني ليوسف (أيضاً). [أي]: غالب على أمر يوسف، يفعل فيه ما يشاء.
﴿ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَعْلَمُونَ﴾: وهم الذين باعوه بثمن بخس، وزهدوا فيه،
قوله: ﴿وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ﴾ - إلى قوله - ﴿مِنَ الخاطئين﴾: أي: ولما بلغ منتهى قوته، وشدته.
قال مجاهد: هو ثلاث وثلاثون سنة.
وقال ابن عباس: بضع وثلاثون سنة.
وقال الضحاك: عشرون سنة.
وقال ربيعة، وزيد بن أسلم، ومالك، رضي الله عنهم: الأشد الحُلُمُ. وقال الزجاج: الأشد: من سبع عشرة إلى أربعين. والأشد جمع عند سيبويه، واحدُهُ " شدة " كنعمة وأنْعُم.
وقال أبو عبيدة: لا واحد له من لفظه عند العرب.
وقال يونس الأشد جمع واحدةُ شد، وهو يذكر ويؤنث وفيه لغتان، وهي ضم الهمزة.
قوله: ﴿آتَيْنَاهُ حُكْماً (وَعِلْماً)﴾: قال مجاهد: العقل، والعلم قبل النبؤة.
وقيل: المعنى: جعلناه المستولي على الحكم، فكان يحكم في سلطان الملك.
﴿وكذلك نَجْزِي المحسنين﴾. أي: ومثل ما فعلناه بيوسف، نفعل بمن أطاع، وأحسن في طاعته.
وقيل: المراد به محمد ﷺ. ولفظه عام، والمراد به الخصوص، والمعنى: وكما فعلنا بيوسف في تمكينه، ونجيناه من إخوته. كذلك نفعل بك يا محمد: نمكنك وننجيك من مشركي قريش، ونؤتيك الحكم والعلم.
ومن قرأ ﴿هَيْتَ لَكَ﴾ بالفتح، فتح لالتقاء الساكنين.
ومن همز جعله من (تهيأت) / (لك).
ومن كسر، لالتقاء الساكنين. ومن ضم كذلك شبهها بقبل وبعد.
وقد قيل: إن من همز، فإنما هو من: " هاء يَهيءُ " مثل جاء يجيء. ومعناه: حسنة هيئتك.
ومن قرأ بالياء فعلى التخفيف من هذا المعنى، ويكون " لك " من كلام آخلا، كما نقول: " لك عندي ".
وقيل: إن من همزه، وضم التاء، فهي من تهيأت. والتاء للمتكلم كتاء قمت، (كما) يقول الرجل: هيأت للأمر، أهيء، هيأة. والمعنى وراودت يوسف امرأة العزيز عن نفسه للجماع، وغلقت أبواب البيت عليها، وعليه، وقالت: ﴿هَيْتَ لَكَ﴾: أي: هلم لك، أي: اذْن، وتقرب، وتعال.
وقال ابن عباس: ﴿هِيْتَ﴾: كلام بالسريانية، تدعوه إلى نفسها.
قال يوسف لها: (معاذ الله): أي: أعوذ بالله معاذاً. والمصدر يدل على الفعل.
﴿إِنَّهُ ربي أَحْسَنَ مَثْوَايَ﴾: " أي: إن العزيز مالكي، وصاحبي، أحسن مثواي، وقيل: إن معنى الكلام: إن العزيز سيدي، يعني زوج المرأة.
وقيل: " الهاء " لله. والمعنى: إن الله ربي أحسن مثواي، فلا أعصيه. وقيل: " الهاء: عماد بمعنى الخبر، والأمر، فيكون " ربي " مبتدأ، و " أحسن " خبره. وعلى القول الأول: " ربي " خبر " إنَّ ".
ومعنى: ﴿أَحْسَنَ مَثْوَايَ﴾ - إذا كان للعزيز-: أي: أحسن قراي، ومنزلي، وائتمنني
والأبواب: وقف عند نافع، ولَكَ التمام عند غيره.
ثم قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا﴾. قيل: في الكلام تقديم وتأخير. والتقدير: ولقد همت به وهم بها كذلك لولا أن رأى برهان ربه، لنصرف عنه السوء ".
وقيل: " كذلك ": في موضعها لا تأخير فيها. ذكر أنها جعلت تذكر له محاسن نفسه، وتشوقه، إلى نفسها.
قال السدي: قالت له: يا يوسف! ما أحسن عينيك، قال: هي أول ما يسيل إلى الأرض من جسدي. قال: فلم تزل به حتى أطعمته (فهمت به، وهمّ بها) فدخلا البيت
ويروى أن يوسف، عليه السلام، لما خلا بها قامت لتستر ما بينهما، وبين الصنم، فقال لها يوسف: ما تفعلين؟ فقالت: أستر ما بيننا وبين هذا الصنم، لا يراني خاليةً معك. فقال لها يوسف: وأي شيء يستُرني من ربي.
وقال الحسن: زعموا - والله أعلم - أن سقف البيت انفرج، فرأى يوسف يعقوب عاضاً على إصبعه، فَولَّى هَارباً.
وقيل: رآه جبريل، عليهما السلام، قائلاً له: يا يوسف!. جعل الرحمان اسمك في الأنبياء، وتعمل عمل السفهاء. لئن واقعت الخطيئة، ليمحونك من
(و) قال ابن أبي مليكة عن ابن عباس: نودي أيا يوسف! أتزني! فتكون مثل الطير الذي نتف ريشه، وذهب يطير فلم يستطع.
وقيل: ركضه جبريل ﷺ، بعد النداء ركضةً في ظهره، فلم تبق فيه شهوة إلا خرجت. فوثب واستبقا الباب، وتطاير (ت) مسامير الباب، فلم تقدر أن تعلقه عليه. فتعلقت به، فقدّت قميصه من دبر.
وقال علي بن أبي طالب (Bهـ): همّ يوسف أن يحل التك [ة]، فقامت
فقال: أتستحين من صنم لا يعقل، ولا يسمع، ولا يأكل، ولا يشرب، ولا أستحي من إلاهي القائم على كل نفس بما كسبت، والله لا تنالها مني أبداً. وقيل: رأى في جدار البيت مكتوباً: ﴿وَلاَ تَقْرَبُواْ الزنى﴾ [الإسراء: ٣٢] الآية.
وقال وهب: رأى كفاً فيها مكتوب: ﴿أَفَمَنْ هُوَ قَآئِمٌ على كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ﴾ [الرعد: ٣٢]، ورأى (بعدها كفاً) فيها مكتوب ﴿وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ﴾ [الانفطار: ١٠] إلى قوله - ﴿تَفْعَلُونَ﴾ [الانفطار: ١٢]، ثم رأى كفاً ثالثة فيها مكتوب ﴿وَلاَ تَقْرَبُواْ الزنى﴾ [الإسراء: ٣٢] الآية -، ثم رأى رابعة فيها مكتوب
وقال محمد بن كعب: رأى مكتوباً بين عينيها ﴿وَلاَ تَقْرَبُواْ الزنى﴾ [الإسراء: ٣٢] الآية.
قال ابن عباس: همّ يوسف بها، حتى حمل الهِميات، وجلس منها مجلس الخاتن والروايات فيها كثيرة، لأنه قد حلّ وجلس، واستلقت هي له.
وقال أهل العلم: إنما ابتلى الله أنبياءه بالخطايا، ليكونوا على وَجَلٍ
وقيل: بل ابتلاهم بذلك، ليعرفهم موضع نعمته عليهم /، بصفحه عن ذنوبهم.
وقال أبو عبيدة: المعنى: ﴿وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ﴾: تَمَّ الكلام. ﴿وَهَمَّ بِهَا لولا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ﴾: " لولا أن رأى برهان ربه، هَمَّ بها ": على التقديم والتأخير، ينفي عن يوسف أن يكون هَمَّ بالخطيئة.
وقد خالفه في ذلك جميع أهل التفسير، ولا يجوز هذا أيضاً عند أهل العربية، لأنه لو كان كما قال، لكان باللام. لا يجوز عندهم: " ضربتك لولا زيد ".
والمعنى عندهم: ﴿لولا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ﴾، لأمضى ما همَّ به.
وقد قيل: إنَّ الهَمَّ بها: هو ما يخطر على القلب من حيل الشيطان، وذلك مما لا
وقيل: معنى ﴿وَهَمَّ بِهَا﴾: أي: بضربها، ودفعها، ولم يفعل [ذلك] لئلا يكون [ذلك] لها حجة عليه. أَلقَى الله في نفسه ذلك فلم يفعله.
وقيل: إنه نودي، يا يوسف! تزني، وأنت مكتوب في الأنبياء، تعمل عمل السفهاء.
وقال الحسن: رأى صورة فيها وجه يعقوب، عاضّاً على أنامله، فدفع في صدره، فخرجت شهوته من أنامله. فكل ولد يعقوب ولد به، إثنا عشر ولداً، إلا يوسف فإنه له أحد عشر ولداً، نقَّصَ له بتلك الشهوة ولداً.
وقيل: إنه سمع من قومه قائلاً، يقول ﴿وَلاَ تَقْرَبُواْ الزنى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَآءَ سَبِيلاً﴾ [الإسراء: ٣٢].
وروي أنه كان لامرأة العزيز صنماً تعبده في بيتها، فلما أرادته أرخت على صنمها الستر لئلا يراها.
فقال لها يوسف: أنت تستحيين من صنم، لا يسمع، [ولا يعقل]، ولا يبصر، وأنا لا أستحي من رب العالمين، الذي لا يحجبني عنه شيء فولَّى هارباً.
وقيل: البرهان أنه تفكر فيما أوعد الله، تعالى، على الزنا.
وروي عن ابن عباس أنه رأى تمثال الملك.
ثم قال تعالى: ﴿واستبقا الباب﴾: أي: استبق يوسف، وامرأة العزيز الباب ليهرب منها (فلحقت قميصه) فقدمته من دبر، وصادفاً زوج المرأة، وهو العزيز عند الباب.
قال السدي: وجد زوجها جالساً عند الباب، وابن عمها معه، فلما رأته حضرها كيد، وخافت أن تفتضح، فقالت: ﴿مَا جَزَآءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سواءا﴾، إنه راودني عن نفسي، فدفعته عن نفسي، فشققت قميصه. قال يوسف: بل هي راودتني عن نفسي، فأبيت وهربت منها. فأدركتني فشقت قميصي. فقال ابن عمها: تبيان هذا في
ومعنى: ﴿سواءا﴾ هنا: الزنا، ولم يكن يوسف يُريد أن يذْكُره لزوجها حتى كان (ت) هي التي ابتدأت بالكيد، فغضب، فقال: هي ﴿رَاوَدَتْنِي عَن نَّفْسِي﴾ والشاهد ابن عمها. وقيل: هو صبي كان في المهد، قاله ابن عباس.
وقيل: كان من خاصة الملك، حكيماً من أهلها، وهو " أشبه " لأنه لو كان
ويروى أنها قالت هو حوّل قميصه. وخرقه ليكون له حجة فروي أن يوسف قال عند ذلك: هذه علامة في ظهري، لا تنالها يدي من كل جانب تناولته هي. فعلموا عند ذلك أنها التي قدَّت القميص، فعند ذلك قال العزيز: ﴿إِنَّهُ مِن كَيْدِكُنَّ﴾. وقيل: إن القائل هذا هو الشاهد، ورد الجواب على قولها: ﴿مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سواءا﴾.
ثم قال تعالى: ﴿يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هذا﴾: أي: قال الشاهد: يا يوسف أعرض عما كان منها اليوم لا تذكره لأحد. ﴿واستغفري﴾ أنت زوجك: أي: سليه، ألا يعاقبك على ذنبك. ﴿إِنَّكِ كُنتِ مِنَ الخاطئين﴾ هذا كله قول الشاهد لهما. وقال: ﴿مِنَ الخاطئين﴾، ولم يقل: " من الخاطئات ": لأنه قصد الخبر عن من يعقل " كلهم ":
قوله: ﴿وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي المدينة امرأة العزيز تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَن نَّفْسِهِ﴾ إلى قوله: ﴿الصاغرين﴾:
المعنى: وتحدث نسوة بمصر بخبر امرأة العزيز، ولم ينكتم أمرها، وقلن: امرأة العزيز تراود عبدها. والعرب تسمي الملوك فتى.
﴿قَدْ شَغَفَهَا حُبّاً﴾: أي فقد بلغ حبه إلى شغاف قلبها، حتى غلب عليه. والشفاف: غلاف القلب. وقيل: حجابه وقيل: الشغاف: حبه القلب، وسويداؤه.
وقرأ أبو رجاء، والأعرج، وقتادة: " شعفها " بالعين " غير معجمة: أي: قد
وقال الشعبي: الشفاف: حب، والشغف: جنون.
﴿إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ﴾ أي: في خطأ ظاهر، ﴿إِذْ رَاوَدتُّنَّ﴾ [يوسف: ٥١] غلامها عن نفسه. فلما سمعت امرأة العزيز بقول النسوة، وما مَكَرْن ذلك أنهن فيما روي، فعلن ذلك لتريهن يوسف. فقلن ما قلن مكراً بها، فلذلك سمي قولهن مكراً.
وقيل: إنها كانت أطلعتَهُنَّ على ذلك، واستكتمتهن، فأفشين ذلك، ومكرن بها. فلما سمعت بما فعلن، أرادت ان تُوقِعهن فيما وقعت هي فيه: ﴿أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَئاً﴾: أي: أعدت لهن مجلساً، أو مما يتكئن عليه من النمارق. وهو يفتعل من " وكأت " والأصل فيه: " مؤتكاً "، ففعل به ما فعل " بمتزر " من الوزر. وقد نطق به بالتاء / مع غير تاء الافتعال. قالوا: " تك الرجل متكئاً ".
وقال السدي: ما يتكئن عليه. وقال ابن عباس: مجلساً. وقرأ الحسن: " متكئ " بإسكان التؤ من غير همز، على ون " فع (ى) وهو المجلس والطعام.
وقال الضحاك: المتك: الزُّمَاوَرْد، وقيل هو الأترنج، وروي ذلك عن ابن عباس.
وحكي القتيبي أنه يقال: " اتكأ عند فلان، أي: أكلنا عنده "
﴿وَقَالَتِ اخرج عَلَيْهِنَّ﴾: أي: قالت ليوسف: أخرج، فخرج (عليهن) ﴿فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ﴾: أي: عظم وجل في أعينهن، وكَبُر، وعظم، وبُهْتنَ. وقيل: ﴿أَكْبَرْنَهُ﴾: حضن الحيض البين.
" فالهاء " على القول الأول ليوسف، وعلى القول الثاني للحيض، كناية على
وعن مجاهد أن المعنى: فلما رأينه أعظمنه فحضن.
وقوله: ﴿وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ﴾ بالحز بالسكاكين.
قال السدي: جعلن يحززن في أيديهن، وهن يحسبن أنهن يقطعن الأترج، ما يعقلن مما طرأ عليهن من جماله، وهيأته.
وقال قتادة، ومجاهد: " تقطعن أيديهن حتى ألقينها ".
قال عكرمة: قطعن أيديهن: أي: أكمامهن.
وروي أن يوسف، وأمه أعطيا ثلث الحسن وعن النبي ﷺ، أنهما أعطيا ثلث الحُسن).
وحاشا يكون بمعنى التنزيه، وبمعنى الاستثناء، وهي هنا للتنزيه.
﴿مَا هذا بَشَراً﴾: استَعظَمْنَ أمره، إذ لم يرين من البشر مثله.
﴿إِنْ هاذآ إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ﴾: أي: من الملائكة. قالت لهن: ﴿فذلكن الذي لُمْتُنَّنِي فِيهِ﴾: أي: فهذا الذي حلّ بكن في تقطيع أيديكنَّ الذي لمتنني في حبه. وقال الطبري: ذلك بمعنى هذا.
ثم قالت: ﴿وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ﴾ إقراراً منها أن ما قيل حقٌّ، ﴿فاستعصم﴾:
﴿وَلَئِن لَّمْ يَفْعَلْ مَآ آمُرُهُ (لَيُسْجَنَنَّ)﴾: أي: إن لم يطاوعني على ما أدعوه إليه ﴿لَيُسْجَنَنَّ﴾ ﴿وَلَيَكُوناً مِّن الصاغرين﴾: أي: من المهانين، المذلين بالحبس، والسجن.
وكأن في الكرم تقديماً، وتأخيراً، لأن تهديدها له بالسجن والهوان. أي: إن لم يساعدها إنما كان قبل تخزيق القميص، وقبل معرفة زوجها بما (جرى) لها معهن والله أعلم بذلك.
فهذا الذي يدل عليه معنى النص: إذ بوقوف زوجها على القصة، انقطع ما بينهما، وطالبته بالعقوبة فسُجِن.
قوله: ﴿قَالَ رَبِّ السجن أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يدعونني إِلَيْهِ﴾ إلى قوله: ﴿حتى حِينٍ﴾
ومن كسر جعله اسماً. والمعنى: أن يوسف عليه السلام، اختار السجن على ما دعته إليه من الزنا.
قوله: ﴿وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ﴾ يعني: مراودتُهُن. ﴿أَصْبُ إِلَيْهِنَّ﴾: أي: أَمِلْ إليهن.
قوله: ﴿أَعْرِضْ عَنْ هذا﴾ [يوسف: ٢٩]: وقف. وقوله: ﴿مَا هذا بَشَراً﴾ [يوسف: ٣١]: وقف عند نافع (فاستعصم): وقف. ثم أخبر تعالى أنه استجاب له بعصمه منها، ومن كيدها، وذلك أن في قوله: ﴿وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ﴾، شكوى ما حل به منها، وكذلك رضاه بالسجن هو شكوى. فاستجاب له ذلك، فصرف الله عنه ما اشتكى به إليه.
﴿إِنَّهُ هُوَ السميع العليم﴾ دعاء من دعاه، (العليم): بمصلحة خلقه.
وقوله: ﴿ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِّن بَعْدِ مَا رَأَوُاْ الآيات لَيَسْجُنُنَّهُ حتى حِينٍ﴾ قيل: سنة، وقيل: سبع
وعند المبرد مضمر، وهو المصدر: كأنه بدا لهم بداء.
والعرب تقول: بدا ليَّ بدءاً " أي تغيّر رأيي عمّا كان عليه، ومنهم من يقول: " قد بدا لي "، ولا يذكر " بدا " لكثرته في الكلام. وهذا من ذلك.
وقيل: المعنى: ثم بدا لهم رأي، ثم حذف الرأي. لأن الكلام يدل على المعنى، أي: ظهر لهم رأي لم يكونوا يعرفونَهُ، (ثم حذف الرأي).
فالمعنى: ثم ظهر للعزيز رأي أن يسجنه، وأخبر عنه بلفظ الجمع لأنه ملك ولأنه لم يذكر اسمه. فالمعنى: ثم ظهر للعزيز رأي أن يسجن يوسف من بعدما
وقيل: إن الله جعل ذلك الحبس ليوسف كفارة لذنبه، إذ همَّ بالخطيئة.
قال ابن عباس: عثر يوسف، عليه السلام، (ثلاث عثرات): حين همَّ بها فسجن حتى حين، وحين قال: ﴿اذكرني عِندَ رَبِّكَ﴾ [يوسف: ٤٢]. ونسي ذكر الله، (سبحانه) فلبث سنين في السجن، وحين قال: ﴿إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ﴾ [يوسف: ٧٠] فسكتوه بقولهم: ﴿قالوا إِن يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَّهُ مِن قَبْلُ﴾ [يوسف: ٧٧].
وعن ابن عباس (أيضاً): أنه قال: عوقب يوسف ﷺ، ثلاث مرات. وذكر ما
وقال السدي: كان أصل حبس يوسف أن امرأة العزيز قالت له: إن هذا العبد العبراني، قد فضحني في الناس، يعتذر إليهم، ويخبرهم أني راودته عن نفسه. ولست أطيق أن أعتذر بعذري. فإما أن تأذن لي في الخروج، وإما أن تحبسه كما حبستني. فظهر له أن يحبسه، ففعل.
والضمير في " لهم " للملك، وأعوانه، وأصحابه.
قوله: ﴿وَدَخَلَ مَعَهُ السجن فَتَيَانِ﴾ إلى قوله ﴿يَشْكُرُونَ﴾. كان الفتيان غلامين من غلمان الملك الأكبر. أحدهما: صاحب شرابه، والآخر: صاحب طعامه / سخط عليهما الملك. وذلك أنه بلغه أن صاحب الطعام يريد أن يَسُمَّهُ
وروي أنه لما فسر لهما ما رأيا رجعاً، فقالا ما رأينا شيئاً، وإنما جربناك. فقال يوسف ﷺ: ﴿ قُضِيَ الأمر الذي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ﴾ [يوسف: ٤١] أي: لا بد من كون ما قلت لكما من عبارة رؤياكما.
وقال ابن مسعود: قال الفتيان: إنما كنا تحالمنا لنجربا إنما كنا نلعب، فقال
وفي قراءة ابن مسعود: " أعصر عنباً " ومعناه: خمر عنب.
قال ابن عباس: لغة عمان يسمون الخمر عنباً و (قيل): المعنى: أعصر
وقوله: ﴿إِنَّا نَرَاكَ مِنَ المحسنين﴾: أي: تحسن إلينا.
قيل: كان يعود مريضهم، ويقوم عليه، ويعزي حزينهم. وكان إذا احتاج [منهم] إنسان جمع له، وإذا ضاق المكان وسع له، ويجتهد لربه.
قال: لما دخل السجن، وجد قوماً قد انقطع رجاؤهم، واشتد بلاؤهم، وطال حزنهم، فجعل يقول: اصبروا تُؤْجَرُوا أجراً [إ] ن لهذا ثواباً. فقالوا: يا فتى بارك الله فيك، ما أحسن وجهك، وأحسن خلقك، (لقد) بُورِكَ لنا في جوارك، ما نحب أنَّا كنا في غير هذا المكان لما تخبرنا من الأجر والكفارة، فمن أنت يا فتى؟ قال: أنا يوسف، نبي الله، ابن يعقوب بن ذبيح الله إسحاق، ابن خليل الله إبراهيم.
وقال جعفر بن محمد: أعطي يوسف نصف حسن الناس.
وروي مثله عن النبي ﷺ، أنه قال: إن كانت المرأة الحامل لتراه فتضع).
وقيل معنى: ﴿مِنَ المحسنين﴾: إن نبَّأتنا بتأويل رؤيانا.
قال يوسف لهما ﴿لاَ يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ﴾: أي: في منامكما ﴿إِلاَّ نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ﴾ يعني: في يقظتكما ﴿قَبْلَ أَن يَأْتِيكُمَا﴾ تأويل ما رأيتما. قال (ذلك السدي وابن اسحاق).
ثم قال: ﴿إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ بالله﴾ أي: برئت منها.
وإنما أجابهما يوسف بهذا، وليس / بداخل في السؤال، لأنه كره أن يجيبهما عن تأويل رؤياهما، لما علم فيها من رؤيا الذي رأى أنه يحمل فوق رأٍه خبزاً.
فقال يوسف لهما: ﴿لاَ يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ﴾ يعني: من عند الملك ﴿إِلاَّ نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ﴾: أي: أخبرتكما: هل هو طعام من يراد قتله، أو طعام من يراد به غير ذلك. فأعلمهما أن عنده علماً من معرفة الطعام. فيكون المعنى: في اليقظة، لا في النوم.
وكان هذا بعدوله عن تفسير رؤياهما لما كره من ذلك، فلم يدعاه يعدل عن حوابهما، وسألاه ثانية، وكره العبارة فتمادى في العدل. وقال:
قوله: ﴿أَن يَأْتِيكُمَا﴾ وقف (وفي) " ربي ": وقف.
قوله: ﴿واتبعت مِلَّةَ آبآئي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ﴾: أي: دينهم، وطريقتهم ﴿مَا كَانَ لَنَآ أَن نُّشْرِكَ بالله (مِن شَيْءٍ)﴾: (دليله الشرك)، (ولفظه) لفظ الخبر، ومعناه النفي أي: لم يشرك بالله، دليله الشرك الذي بعده.
﴿ذلك مِن فَضْلِ الله﴾ (أي تركنا الشرك، هو من فضل الله علينا) وعلى الناس، إذ جعلنا دعاة لهم إلى توحيده.
﴿ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَشْكُرُونَ﴾: أي: من يكفر لا يشكر.
قال ابن عباس: ﴿مِن فَضْلِ الله عَلَيْنَا﴾: إذ جعلنا أنبياء، " وعلى الناس " أن بعثنا إليهم رسلاً ".
قوله: ﴿ياصاحبي السجنءَأَرْبَابٌ مُّتَّفَرِّقُونَ﴾ - إلى قوله - ﴿تَسْتَفْتِيَانِ﴾ روي أن يوسف عليه السلام قال: هذا لأن أحد الفَتييْن كان مشركاً، فدعاه بهذا إلى الإيمان، ونبذ الآلهة، فجعلهما صاحبي السجن لأنهما فيه. والمعنى: يا من في السجن. وهذا
والمعنى: أعبادة أرباب متفرقين خير؟ أم عبادة ﴿الله الواحد القهار﴾.
قال قتادة: لما علم يوسف أن أحدهما مقتول دعاه إلى حظه في الآخرة.
ثم قال (تعالى): ﴿مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ﴾: فجمع، لأنه قصد المخاطب، وكل من عبد غير الله، فجمع على المعنى: أي: ما تبعد أنت، ومن هو على ملتك ﴿إِلاَّ أَسْمَآءً سَمَّيْتُمُوهَآ أَنتُمْ وَآبَآؤُكُمْ﴾: أي: لم يأذن الله لكم بذلك، أنتم أحببتم أسماءها وآباؤكم.
﴿مَّآ أَنزَلَ الله بِهَا مِن سُلْطَانٍ﴾: أي: من حجة، ومن كتاب، ومن دلالة. وقوله /
﴿ذلك الدين القيم﴾: أي: ذلك الذي دعوتكم إليه هو الدين الي لا اعُوِجَاجَ فيه ﴿ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَعْلَمُونَ﴾: وهم المشركون. ثم قال: ﴿ياصاحبي السجن﴾: يخاطب الفَتَيَيْنِ ﴿أَمَّآ أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْراً﴾: أي: سيده الملك، وهو (الذي) رأى أنه يعصر خمراً.
﴿وَأَمَّا الآخر فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطير مِن رَّأْسِهِ﴾ فقال عند ذلك: ما رأينا شيئاً، فقال: ﴿قُضِيَ الأمر الذي (فِيهِ) تَسْتَفْتِيَانِ﴾.
وقيل: إنما أنكر الذي أخبره أنه يصلب. فقال: قضي الأمر سواء رأيت، أو لم تر وكان اسمه مجلث، واسم الثاني نبو.
قال ثابت البنان (ي): دخل جبريل عليه السلام على يوسف في السجن، فعرفه
قال الحسن: مكث يعقوب، عليه السلام، ثمانين سنة، أو نحوها، لا يفارق قلبه الحزن، ولا تجف عيناه من البكاء. وإنه لأَكْرَمُ أهل الأرض على الله يومئذٍ.
قوله: (﴿وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ (نَاجٍ مِّنْهُمَا﴾ - إلى قوله - ﴿بِعَالِمِينَ﴾
المعنى: وقال يوسف للذي علم أنه ناج) من الفتيين: اذكرني عند سيدك،
وقيل: المعنى: اذكر ما رأيته مني من العلم بعبارة الرؤيا، وبحال (ي) في العلم عند الملك.
قوله: ﴿الشيطان ذِكْرَ رَبِّهِ﴾، أي: أنسى الشيطان الساقي أن يذكر يوسف للملك. فالهاءان للساقي، بدلالة قوله: ﴿وادكر بَعْدَ أُمَّةٍ﴾ [يوسف: ٤٥]، أي: تذكَّر الساقي ما قاله له يوسف بعد حين، يدل على أن النسيان كان من الساقي: أنساه الله تعالى، أن يذكر يوسف عليه السلام. وقيل: المعنى أنسى الشيطان يوسف ذكر ربه تعالى فالهاءان ليوسف: أي: أنسى يوسُفَ الشيطان أن يرجع إلى ربه، ويسأله خلاصة،
(قال النبي ﷺ: " لولا كلمةُ يوسف، ما لبث في السجن ما لبث " يعني قوله: ﴿اذكرني عِندَ رَبِّكَ﴾ أي: عند سيدك.
قال ابن دينار لما قال يوسف للساقي: ﴿اذكرني عِندَ رَبِّكَ﴾. قيل: يا يوسف اتخذ [ت] من دوني وكيلاً، لأطيلنَّ حبسك. فبكى يوسف، وقال: يا رب: أنسى قلبي كثرة البلوى، فقلت كلمةً فويل لإخوتي.
ويروى أن يوسف لما قال لصاحب الشراب: ﴿اذكرني عِندَ رَبِّكَ﴾ أتاه جبريل عليه السلام فعاتبه، وخرق له بجناحه سبع أرضين، إلى منتهى الصخرة التي عليها
فقال جبريل: يا يوسف لم يغفل ربك عن هذه النملة ورزقها، فكيف يغفل عنك، وأنت في السجن، حتى تشكو إلى صاحب / الشراب، وتأمُرهُ بذكرك، وبذكر عذرك عند سيده. قال: فأخذ يوسف التراب فملأ به فمه، ورأسه، وقال: إلَهي! أسألك بوجه أبي وجدي - قال مجاهد -: فلم يذكره الساقي حتى رأى الملك الرؤيا.
قال قتادة: لبث في السجن سبع سنين.
قال وهب: أصاب أيوب البلاء سبع سنين، وترك يوسف في السجن سبع سنين، وعذب بختنصر فَحَوَّل في السباع سبع سنين وكذلك قال ابن جريج.
" والبضع ": ما بين الثلاث إلى التسع.
(قال الحسن ذكر لنا أن النبي، ﷺ، قال: لولا كلمة يوسف حيث يقول: ﴿اذكرني عِندَ رَبِّكَ﴾، ما لبث في السجن طول ما لبث. قال ابن عباس: عوقب بقوله للساقي: ﴿اذكرني عِندَ رَبِّكَ﴾ فطال سجنه.
وروي أن يوسف، عليه السلام، لما قال له: ﴿اذكرني عِندَ رَبِّكَ﴾ أوحى الله إلى الأرض أن النفرج (ي) لعبدي يوسف. فانفرجت له. فقيل له: ما ترى؟ فقال: أرى أرضاً، وأرى ذرةً معها طعم لها. قال: فقال: يا يوسف! ألم (أغفل) عن هذه في هذا الموضع، وأغفل عنك لتَلْبَثَنَّ في السجن بضع سنين.
وقوله: ﴿وَقَالَ الملك إني أرى سَبْعَ بَقَرَاتٍ (سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ)﴾:
ومعنى: ﴿أَضْغَاثُ أَحْلاَمٍ﴾: (أي: أخلاط أحلام) كاذبة.
﴿وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الأحلام﴾ الكاذبة ﴿بِعَالِمِينَ﴾: وتقديره: وما نحن بعالمين بتأويل الأحلام والأَغاث. (والباء) في ﴿بِعَالِمِينَ﴾: لتأكيد النفي، (و " الباء " في ﴿بِتَأْوِيلِ﴾ لتعدية، متعلقة بعالمين) ففي الكلام تقديم وتأخير.
قوله: ﴿وَقَالَ الذي نَجَا مِنْهُمَا وادكر بَعْدَ أُمَّةٍ﴾ - إلى قوله - ﴿وَفِيهِ يَعْصِرُونَ﴾: المعنى: وقال الذي نجا [منهما] من القتل، يعني: من الفَتَيَيْن اللذين عبر لهما
﴿وادكر بَعْدَ أُمَّةٍ﴾: أي: تذكر بعد حين وصية يوسف، وأمره.
قال الكلبي: تذكر بعد سنين، فذكر أمره للملك.
وقرأ ابن عباس، وعكرمة، وقتادة، والضحاك: " بعد أمه " بالهاء، وفتح الميم والتخفيف أي: بعد نسيان.
وقرأ مجاهد: " بعد أمْهٍ " بإسكان الميم، وبالهاء: جعله مصدر أمة أمهاً: إذا نسي. وتأويلها كتأويل من فتح الميم. وأصل المصدر فتح الميم، ومن أسكن فللتخفيف.
ثم قال: ﴿فَأَرْسِلُونِ﴾: أي: فأطلقوني أمضي لآتيكم بتأويله من هذا العالم. قوله: ﴿فَأَرْسِلُونِ﴾: وقف.
وقوله ﴿يُوسُفُ أَيُّهَا الصديق﴾: أي: يا يوسف ﴿أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ﴾: أي: في سبع بقرات رُئينَ في المنام. ويأكلهن سبع عجاف - الآية -. قال قتادة: السمان: السنين الخصبة /، والعجاف. سنون جدْبَة.
ومعنى ﴿لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ﴾: أي: يعلمون تأويل رؤيا الملك.
وقيل: المعنى: لعلهم يعلمون مقدارك، فيخرجونك من السجن.
وقيل: هو رأي رآه، ﷺ، لهم ليبقى طعامهم، فأمرهم أن يَدْعُوه في سنبله (إلاَّ ما يأكلون).
ثم قال له: ﴿ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذلك سَبْعٌ شِدَادٌ﴾: أي: قحيطة، ﴿يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ﴾. أي: يوكل فيهن ما أعددتم في السنين الخصبة من الطعام ووصفت السنون بالأكل، والمراد أنه يؤكل فيها، كما قال ﴿والنهار مُبْصِراً﴾ [يونس: ٦٧، النمل: ٨٦، غافر: ٦١]: أي: يبصر فيه.
﴿وَفِيهِ يَعْصِرُونَ﴾: أي: يعصرون العنب، والسمسم، والزيتون: وهو قول ابن عباس، والضحاك، وقتادة، وابن جريج، وغيرهم.
وقيل: المعنى: وفيه تحلبون مواشيكم.
وقال أبو عبيدة: معناه: وفيه تنجون من البلاء من العصر (وهو الملجأ).
قوله: ﴿وَقَالَ الملك ائتوني بِهِ فَلَمَّا جَآءَهُ الرسول﴾ - إلى قوله - ﴿لاَ يَهْدِي كَيْدَ الخائنين﴾.
فلما جاء يوسف الرسول يدعوه إلى الملك، قال [له] يوسف: ارجع إلى سيدك، ﴿فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النسوة اللاتي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ﴾.
وأبى يوسف أن يخرج حتى يعلم صحة أمره ولم يذكر امرأة العزيز فيهن: حُسْنَ عشرة منه، صلى الله عليه (وسلم)، خلطتها بالنسوة، وأخبر عن الجميع.
(قال النبي ﷺ: " رحم الله يوسف، لو كنت أنا المحبوس، ثم أرسل إلي لخرجت سريعاً. إن كان لحليماً، ذا أناة ".
قوله: ﴿مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدتُّنَّ يُوسُفَ عَن نَّفْسِهِ﴾ إنما خاطبهن لأنهن قلن ليوسف إذ رأيته: وما عليك أن تفعل، فراودنه عن نفسه.
وقيل: إنه / خاطبهن من أجل امرأة العزيز فيهن، فجعل الخطاب للجميع، والمراد واحدةٌ منهن. ودليل هذا جوابها وحدها، إذ حكاه الله، تعالى، عنها فقال: ﴿قَالَتِ امرأت العزيز الآن حَصْحَصَ الحق﴾.
وقيل: إنما جمعهن في الخطاب، لأنهن قلن: ﴿امرأة العزيز تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَن نَّفْسِهِ﴾ [يوسف: ٣٠] وأشعن ذلك فقيل لهن: هل علمتنَّ ذنبه؟
﴿قُلْنَ حَاشَ للَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِن سواء﴾ فعند ذلك، أقرت امرأة العزيز أنها هي جاروته عن نفسه. رجع الرسول، فقال ذلك للملك فأحضر الملك النسوة. والكلام دل على الحذف.
ومعنى ﴿حَصْحَصَ الحق﴾: تبين وظهر وانكشف، فقالت: ﴿أَنَاْ رَاوَدْتُّهُ عَن نَّفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصادقين﴾ في قوله: ﴿هِيَ رَاوَدَتْنِي عَن نَّفْسِي﴾ وذلك أنها اضطرت إلى أن تبلغ مراد الملك في صرف الإبهام عنه بالرؤيا التي شغلت قلبه، فبرأت يوسف ليصح صدقه عند الملك، ويعلم أن ما أفتى في الرؤيا حق، فتعطفه عليه.
وحصحص مأخوذ من الحصة، أي: بانت حصة الحق من حصة الباطل. وأصله " حصص "، ثم أبدل من الصاد الثانية حاءً، كما قال:
وقوله: ﴿ذلك لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بالغيب﴾ هذا من قول يوسف عليه السلام أي: قال: فعلت ذلك من ردي الرسول إليه، وتركي إجابته، والخروج إليه حتى يسأل النسوة، فيعلم الملك أني لم أذكره بسوء في الغيب.
(وقيل: المعنى: ليعلم العزيز أني لم أذكره بسوء في الغيب).
وقيل: المعنى: ليعلم أني لم أخنه في امرأته، وهو غائب (ويصح) ذلك عنده. وقد قيل: إنه من كرم المرأة كله لتقديم كلامها. لذلك قال ابن جريج: (هذا) متصل بما قبله، وفي الكلام تقديم وتأخير.
والمعنى: ﴿إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِ (هِنَّ) عَلِيمٌ﴾. ﴿ذلك لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بالغيب﴾. فعلى هذا يكون يوسف قاله وهو في السجن.
وقال السدي: امرأة العزيز هي التي قالت له: ولا حين هممت، فحللت السراويل فقال: ﴿وَمَآ أُبَرِّىءُ نفسي﴾ [يوسف: ٥٣].
وقيل: إنه من قول يوسف، وذلك أنه تذكر ما مضى. فقال ذلك معتذراً لمليكه.
وذكر ابن لهيعة: أن امرأة العزيز لما اشتدت عليها الحاجة، (والمسبغة) أرادت الدخول على يوسف لتشكو إليه حاجتها، وإعوازها، / فقال لها أهلها وقومها: لا تفعلي، لأنا نخاف عليك، لأنه قد كان منك الذي كان، فقالت: كلا إني لا أخاف ممن يخاف الله، ويتقيه. فدخلت عليه، وقامت بين يديه، ثم قالت: الحمد لله الذي جعل العبيد ملوكاً بطاعته، وأشارت إليه، ثم قالت: والحمد لله الذي جعل الملوك عبيداً
ويروى أن امرأة العزيز دخلت على يوسف، ( ﷺ)، وقد ملك مصر، فقالت له: بالذي رفع العبيد بطاعتهم، ووضع الملوك بمعصيتهم، فتصدق عليها يوسف، وتزوجها.
والمعنى: إلا أن يرحم ربي ما شاء من خلقه، فينجيه من اتباع هواه، وما تامر [هـ] به نفسه. إن ربي ذو مغفرة عن ذنوب من تاب، (رحيم) (به) بعد توبته.
قوله: ﴿وَقَالَ الملك ائتوني بِهِ﴾، أمر ملك مصر الأعظم، وهو الوليد بن الريان بالإتيان بيوسف ﷺ، لما تبين عذره. وقال: ﴿أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي﴾: أي أجعله من خلصائي وخاصتي. ﴿فَلَمَّا كَلَّمَهُ﴾: أي: ﴿فَلَمَّا﴾ كلم الملك يوسف ﷺ علم براءته، وحسن عقله. قال له: يا يوسف ﴿إِنَّكَ اليوم لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ﴾: أي: متمكن مما أردت، أمينٌ على ما ائتنمت عليه من شيء.
قوله: ﴿قَالَ اجعلني على خَزَآئِنِ الأرض﴾ - إلى قوله - ﴿وَكَانُواْ يَتَّقُونَ﴾ والمعنى: قال يوسف ﷺ، للملك: " اجعلني على خزائن أرضك ".
قال ابن زيد: فأسلم إليه فرعون سلطانه كله، فكان على خزائن الأطعمة، وغيرها من أمواله وعمله.
وروى مالك بن أنس، رضي الله عنهـ، عن ابن المنكدر عن جابر بن
ما لك لا تشبع، وبيدك خزائن الأرض؟. قال: إني إذا شبعت نسيت الجائعين.
قوله: ﴿إِنِّي حَفِيظٌ﴾: أي: لما وليت، ﴿عَلِيمٌ﴾ به. وقيل: (إن) المعنى: إني حافظ للحساب، عالم بالألسن.
وقيل: المعنى: إني حافظ / لللأموال عالم بالموضع الذي يجب أن يجعل فيه مما يرضي الله، تعالى، ولذلك سأل يوسف، ( ﷺ)، الملك في هذا ليتمكن له وضع الأشياء في حقوقها. فأراد بسؤاله الصلاح ﷺ.
﴿نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَن نَشَآءُ﴾: من خلقنا كما أصبنا بها يوسف.
﴿وَلاَ نُضِيعُ أَجْرَ المحسنين﴾: أي: لا نبطل أجر من أحسن (عملاً) فأطاع ربه، ( تعالى).
قال ابن إسحاق: ولاه الملك عمل العزيز زوج المرأة، فهلك العزيز في تلك الليالي، وزوج الملك زوجة العزيز ليوسف.
وقال ابن إسحاق: فلما دخلت عليه قال:: أليس هذا خيراً مما كنت
قال ابن إسحاق: فذكر أنه وجدها بكراً فأصابها، فولدت رجلين. فولي يوسف مصر، وملكها، وبيعها وشرابها، وجميع أمرها.
ثم قال تعالى: ﴿وَلأَجْرُ الآخرة خَيْرٌ لِّلَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ﴾. والمعنى: ولثواب الآخرة خير لمن صدق، وآمن، وخاف عقاب الله تعالى، واتقاه سبحانه مما أعطى يوسف في الدنيا من التمكين في أرض مصر.
قوله: ﴿وَجَآءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُواْ عَلَيْهِ﴾ - إلى قوله - ﴿وَلاَ تَقْرَبُونِ﴾ المعنى: فيما ذكر ابن إسحاق أن يوسف عليه السلام لما أعلمهم بما يأتي من القحط، وأن
وذكر السدي: أنه لما أصاب الناس الجوع، أتى أخوة يوسف ليتماروا، وهم عشرة: وأمسك يعقوب عند نفسه أخا يوسف بنيامين، فلا دخلوا على يوسف عرفهم، ولم يعرفوه. قال لهم: أخبروني بأمركم، فأني أنكر شأنكم؟ قالوا: نحن قوم من أرض الشام. قال وما جاء بكم؟ قالوا: جئنا نمتار طعاناً. قال: فأخبروني خبركم. قالوا: إنا أخوة، بنو رجل صديق. وكنا اثني عشر. وكان أبونا يحب
﴿أَلاَ تَرَوْنَ أني أُوفِي الكيل﴾: " ولا أبخسه أحداً ".
﴿وَأَنَاْ خَيْرُ المنزلين﴾: أي: وأنا خير من أنزل ضيفاً على نفسه في هذا البلد. ﴿فَإِن لَّمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلاَ كَيْلَ لَكُمْ عِندِي﴾: أي: لا طعام أكيله لكم ﴿وَلاَ تَقْرَبُونِ﴾: أي: " لا تقربوا بلادي ".
فجواب ذلك على قول بعض أهل النظر أن يوسف كان لا يعطي لكل نفس إلا حِمْلاً في تلك المجاعة. (فلما) أخذوا لكل شخص منهم حِمْلاً. قالوا: لنا أخ من أبينا غاب فأعطنا له حملاً، فأعطاهم وقال لهم: إيتوني بهذا الأخ إن أردتم أن أعطيكم عنه حِمْلاً إذا رجعتم للمير (ة) لنعلم صدقكم. فإن لم تأتوني به علمت كذبكم، ولم أعطكم شيئاً. وهذا كله داخل في قوله: ﴿كذلك كِدْنَا لِيُوسُفَ﴾ [يوسف: ٧٦] ﷺ.
قوله: ﴿قَالُواْ سَنُرَاوِدُ عَنْهُ أَبَاهُ وَ (إِنَّا لَفَاعِلُونَ)﴾ - إلى قوله - ﴿كَيْلٌ يَسِيرٌ﴾
المعنى: قالوا سنرجع إلى أبيه، فنسأله في أن يوجه به (معنا)، وإنا لفاعلون ذلك.
قال بعض أهل المعاني: إن يوسف خشي ألا يكون عند أبيه دراهم، إذا كانت سنة جَدْبٍ. فرد عليهم الدراهم طمعاً أن يأخذها.
وقيل: إنما رَدَّ عليهم الثمن رفقاً بهم (من) حيث لا يعلمون، تكرماً منه، وتفضلاً.
وقيل: إنما جعل الثمن في الأوعية لتكون سبب رجوعهم إليه لعلمه، فكرمهم، وإنهم لا يرضون بحبس الثمن، وإنهم يتحرَّجُون من ذلك فيرجعون إليه
ثم قال تعالى: ﴿فَلَمَّا رَجَعُوا إلى أَبِيهِمْ قَالُواْ يا أبانا مُنِعَ مِنَّا الكيل فَأَرْسِلْ مَعَنَآ أَخَانَا نَكْتَلْ﴾: من قرأ بالياء: فمعناه: يكتل لنفسه حملاً، ومن قرأ بالنون: أراد إنهم أخبروا عن أنفسهم، وعنه بالكيل. والمعنى: إنهم قالوا: (له): يا أبانا منع (منا) أن نكتال فوق ما اكتلنا بعيراً لكل نفس. فأرسل معنا أخانا يكتل لنفسه كَيْلَ بعير زائدة على ما اكْتَلْنَا لأنفسنا.
قال السدي: لما رجعوا إلى أبيهم قالوا: يا أبانا! إن ملك مصر أكرمنا كرامةً، لو كان رجلاً من ولد يعقوب ما أكرمنا كرامتَهُ، وإنه ارتهن منا شمعون.
وقال: ائتوني بأخيكم هذا الذي عطف عليه أبوكم بعد موت أخيكم / فإن لم تأتوني به، فلا تقربوا بلادي أبداً، فقال لهم يعقوب: ﴿هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ﴾ - الآية - ثم قال: ﴿فالله خَيْرٌ حَافِظاً وَهُوَ أَرْحَمُ الراحمين﴾: أي: إن يفجعني في هذا الولد على كبر
ثم قال تعالى: ﴿وَلَمَّا فَتَحُواْ مَتَاعَهُمْ وَجَدُواْ بِضَاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ﴾: أي [لما] فتحوا أوعيتهم التي فيها الطعام، وجدوا الثمن الذي دفعوه ليوسف في الطعام، في أوعيتهم.
﴿قَالُواْ يا أبانا مَا نَبْغِي﴾: وراء هذا، إن بضاعتنا ردَّت إلينا، وقد أوفى لنا الكيل.
﴿وَنَمِيرُ أَهْلَنَا﴾ في رجوعنا: أي: نأتيهم بالطعام.
﴿وَنَزْدَادُ كَيْلَ بَعِيرٍ﴾: بسير أخينا معنا، لأن لكل نفس حمل بعير.
وقيل: المعنى: كيلنا الذي نأخذ، يسير، فزيادتنا حملاً أحسن من تركه.
وقيل: المعنى: الذي جئتنا به يسير، فرجوعنا بأجمعنا نأتي لكل نفس بحمل أحسن. قال مجاهد: حمل بعير: حمل حمار.
وقال غير [هـ] جمل، وهو المعروف في اللغة.
قوله: ﴿قَالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حتى تُؤْتُونِ مَوْثِقاً مِّنَ الله﴾ إلى قوله ﴿لاَ يَعْلَمُونَ﴾، الموثق: الميثاق، من عهدٍ، أو يَمِينٍ.
ومعنى الآية: قال بعقوب لبنيه: لن أدفع إليكم أخاكم حتى تعطوني عهداً، أو يميناً أنكم لتردونه إلي معكم، إلا أن يحيط بكم أمر لا تقدرون على ردِّه معكم.
وقال ابن أبي نجيح في قوله: ﴿إِلاَّ أَن يُحَاطَ بِكُمْ﴾ معناه: إلا أن تهلكوا جميعاً.
ثم قال يعقوب يوصيهم لما أرادوا الخروج: ﴿يابني لاَ تَدْخُلُواْ﴾ - مصر - ﴿مِن بَابٍ وَاحِدٍ﴾: أي من طريق واحد ﴿وادخلوا مِنْ أَبْوَابٍ مُّتَفَرِّقَةٍ﴾.
قال ابن عباس، والضحاك، وابن جبير، وقتادة: خاف عليهم يعقوب العين لجمالهم، وحسنهم.
وقيل: إنه إنما خاف أن يلحقهم شيء، فيظن أنه من العين.
وقيل: إنه كره أن يدخلوا جميعاً من موضع واحد، فيُستراب منهم (ويخاف منهم): وهو اختيار النحاس. ثم قال لهم: ﴿وَمَآ أُغْنِي عَنكُمْ مِّنَ الله مِن شَيْءٍ﴾: أي: ما أقدر على دفع
﴿وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِّمَا عَلَّمْنَاهُ﴾: أي: وإن يعقوب، / لذو حفظ لما استودعناه
قال ابن جبير: المعنى ﴿وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِّمَا عَلَّمْنَاهُ﴾.
وقيل: المعنى: وإنه لعامل بما علم ولكن كثيراً من الناس لا يعلمون: ما يعلمه يعقوب.
قوله: ﴿وَلَمَّا دَخَلُواْ على يُوسُفَ آوى إِلَيْهِ أَخَاهُ﴾ - إلى قوله - ﴿وَمَا كُنَّا سَارِقِينَ﴾
المعنى: لما دخل إخوة يوسف عليه، قالوا: هذا أخونا الذي أمرتنا أن نأتيك به، فشكر لهم ذلك. ثم قال لصاحب ضيافته: أنزلهم رجلين في كل مسكنٍ، وأكرمهم، فبقي أخوهم: وهو شقيق يوسف. فقال لهم يوسف: إن هذا يبقى وحده، لا ثاني معه، فأنا أضمه إلى نفسي. فأنزله عنده، وضمه ليه. وقال له: أنا أخوك - يوسف -
وإنما أخبره أنه يوسف بعد انصرافه وتركه عند يوسف.
ثم قال تعالى: ﴿فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ جَعَلَ السقاية فِي رَحْلِ أَخِيهِ﴾ والمعنى: أن يوسف لما حمَّل إبل إخوته الميَرَة، جعل السقاية في رحل أخيه: وهو المكيال الذي كانوا يكتالون به، وهي المشربة التي يشرب بها [الملك] وكانت من فضة،
وقيل: كانت شبه الكأس، فجعلها في رحل أخيه، والأخ لا يشعر. فلما ارتحلوا ناجى مناد: يا ﴿أَيَّتُهَا العير إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ﴾ قيل: إنما قال لهم: ﴿إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ﴾، وهم لم يسرقوا: يريد إنهم سرقوه، وباعوه، لأنهم سبب بيعه. وقيل: بل تركهم حتى مشوا، وخرجوا، ثم لحقوا، فقيل لهم: ﴿أَيَّتُهَا العير إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ﴾. قالوا: وما ذاك. قالوا: ﴿صُوَاعَ الملك﴾ وإنما دعاهم بالسرقة كلهم لأن المنادي لم يعلم ما صنع يوسف.
وقيل: إنما فعله عن أمر يوسف فأعقبه الله تعالى بقولهم له: ﴿فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَّهُ مِن قَبْلُ﴾ [يوسف: ٧٧].
وقيل: المعنى: حالكم حال السراق. وقرأ أبو هريرة " صَاعَ الملك ".
وقال أبو رجاء " صوع الملك ".
(قوله): ﴿وَلِمَن جَآءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ﴾: أي: (وقِرُ بَعير) من الطعام.
(قوله): ﴿قَالُواْ تالله لَقَدْ عَلِمْتُمْ مَّا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي الأرض﴾ أي: لنعصي الله، ونسرق، وإنما ادعوا ذلك. وقالوا: " قد علمتم " لأنهم ردوا البضاعة التي وجدوا في رحالهم، إذ رجعوا وراء أخيهم. فالمعنى: " لو كنا سارقين ما رددنا البضاعة (التي وجدنا)
وقيل: إنما قالوا ذلك لأنهم قد علموا اشتهار فضلهم بمصر، فنفوا عن أنفسهم ما قد رموا به.
قوله: ﴿(قَالُواْ) فَمَا جَزَآؤُهُ إِن كُنتُمْ كَاذِبِينَ﴾ - إلى قوله - ﴿وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ﴾. المعنى: قال أصحاب يوسف / عليه السلام لإخوته: فما جزاء من وجد الصاع في رحله إن كنتم كاذبين في قولكم: ﴿مَّا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي الأرض وَمَا كُنَّا سَارِقِينَ﴾ [يوسف: ٧٣] ﴿قَالُواْ جَزَآؤُهُ مَن وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ﴾.
المعنى: قال إخوة يوسف لأصحابه: جزاؤه عندنا كجزائه عندكم، أي: أن يستعبد من سرق.
وقال الطبري: المعنى: قال إخوة يوسف: جزاء السارق من وجد في متاعه السَّرقُ، فهو جزاؤه: أي: فتسليم السارق جزاء السرق. وإنما سأل إخوة [يوسف] عن الجزاء، لأن أصحاب يوسف ردوا الحكم إليهم. وذلك أنه كان في شريعة يعقوب أن يستعبد السارق، وكان في حكم الملك: إذا سرق السارق غرم مثله. فرد الحكم إليهم.
وقرأ الحسن: " من وعَاءِ أخيه " بضم الواو.
﴿كذلك كِدْنَا لِيُوسُفَ﴾: أي: في أن حكموا على أنفسهم بالاسترقاق
قوله: ﴿مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الملك﴾: أي: في حكمه، بل أخذه بحكم يعقوب. ﴿إِلاَّ أَن يَشَآءَ الله﴾: ذلك بكيده.
وقيل: المعنى: ﴿إِلاَّ أَن يَشَآءَ الله﴾: أن يطلق له مثل هذا الكيد.
وقوله: ﴿نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَآءُ﴾ قال زيد بن أسلم: يعني: بالعلم.
وقيل: معنى الكيد: أنهم كانوا لا ينظرون في وعاء إلا استغفروا الله تأثماً، مما قُذفوا به. فلما وصلوا إلى وعاء أخيهم، قالوا ما نرى (أن) هذا أخذ شيئاً. قال إخوة يوسف: بلى فاستبروا ففتح الصواع فيه: فذلك الكيد. قال ذلك
وقوله: ﴿ثُمَّ استخرجها مِن وِعَآءِ أَخِيهِ﴾ يعني الصواع. وإنما أنثت، لأنه بمعنى السقاية، فهما لشيء واحد.
وقيل: إنه على معنى السرقة، وقيل: إن الصواع يذكر ويؤنث.
وقوله: ﴿وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ (عَلِيمٌ)﴾: أي: فوق كل عالم من هو أعلم منه، حتى ينتهي ذلك إلى الله تعالى.
قوله: ﴿قالوا إِن يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَّهُ مِن قَبْلُ﴾ - إلى قوله - ﴿خَيْرُ الحاكمين﴾ يعنون بقولهم ﴿أَخٌ لَّهُ﴾: يوسف.
قال مجاهد: كان يوسف ﷺ سرق صنماً لجده، أبي أمه، وألقاه في
وقال ابن جريج: كانت أم يوسف مسلمة، فأمرته أن يسرق صنماً لخاله، كان يعبده.
وروي عن مجاهد أن عمة يوسف بنت إسحاق، وكانت أكبر من يعقوب صارت إليها منطقة إسحاق لسنها: لأنهم / كانوا يتوارثونها حباً شديداً فلما ترعرع،
والضمير في قوله: ﴿فَأَسَرَّهَا﴾، إضمار، قبل الذكر (قد) فسره الله تعالى لنا أن الذي أسره قوله: ﴿أَنْتُمْ شَرٌّ مَّكَاناً﴾ - إلى قوله - ﴿تَصِفُونَ﴾ (أي) أضمر هذا في نفسه.
وقيل: أسر في نفسه المجازاة لهم على قولهم، ولم يرد أن يبين عذره في ذلك. وقيل: أسرَّ في نفسه قولهم: ﴿فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَّهُ مِن قَبْلُ﴾ ولم يرد أن يدفعه ويراجعهم عليه. بل كتم قولهم وله صبر.
قوله: ﴿الله أَعْلَمْ بِمَا تَصِفُونَ﴾: أي: (من) قولكم: هل هو حق أو كذب.
وقيل: المعنى: إنا نرى ذلك منك إحساناً إلينا إن فعلته. قال يوسف ﴿مَعَاذَ الله﴾: أي: عياذاً بالله أن نأخذ غير من سرق.
﴿إِنَّآ إِذاً لَّظَالِمُونَ﴾ إن فعلنا ذلك.
قال السدي: ثم قال لهم يوسف: إذا أتيتم أباكم فأقرؤه السلام، وقولوا له: إن ملك مصر يدعو لك ألا تموت حتى ترى ابنك يوسف.
فلما أيس يوسف من أخيه أن يُدْفَع إليهم.
﴿خَلَصُواْ نَجِيّاً﴾: أي:
وقيل: كبيرهم يهوذا يعني به: كبيرهم في العقل، والفهم لا في السن، ولم يختلف في أن كبيرهم في السن روبيل. فهو أولى الاية (قال لهم):
﴿أَلَمْ تعلموا أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَّوْثِقاً مِّنَ الله﴾ في أخيكم هذا، ومن قبل تفريطكم في يوسف، وفعلكم فيه.
والمعنى: [و] من قبل هذا: تفريطكم في يوسف.
ويجوز أن يكون في موضع رفع على معنى: ومن قبل هذا تفريطكم ﴿فِي يُوسُفَ﴾، فتكون ﴿وَمِن قَبْلُ﴾ في موضع الخبر.
قوله: ﴿فَلَنْ أَبْرَحَ الأرض﴾: أي: لن أبرح من أرض مصر.
﴿حتى يَأْذَنَ لي أبي﴾ بالقدوم عليه، ﴿أَوْ يَحْكُمَ الله لِي﴾ أي: بالمن مع أخي، فأمضي معه.
وقيل: المعنى: ﴿يَحْكُمَ الله لِي﴾ بالسيف، فأحارب، وآخذ أخي. قاله أبو صالح.
وقيل: المعنى: أو يقضي الله لي بالخروج من أرض مصر، وترك أخي.
قوله: ﴿ارجعوا إلى أَبِيكُمْ فَقُولُواْ (يا أبانا)﴾ - إلى قوله - ﴿إِنَّهُ هُوَ العليم الحكيم﴾ هذا قول روبيل لإخوته، أمرهم بالرجوع إلى يعقوب، يعلموه
وقيل: أمر لهم بذلك يوسف: وقيل: هو كبيرهم الذي تأخر بمصر، ولم يرجع معهم.
وروي عن الكسائي أنه قرأ " سُرق " على ن لم يُسَمْ فاعله، على معنى اتهم بالسرق. وقيل: معناه: علم منه السرق.
قوله: ﴿وَمَا شَهِدْنَآ إِلاَّ بِمَا عَلِمْنَا﴾: أي: ما قلنا إلا بظاهر العلم، ولسنا نَعْلَمُ الغيب والباطن، إنما وجدت السرقة في رحله، ونحن ننظر.
وقيل المعنى: وما شهدنا عند يوسف أن السارق يؤخذ في سرقته، ﴿إِلاَّ بِمَا عَلِمْنَا﴾ (في الحكم عندك) قاله ابن زيد.
﴿وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ﴾: أي: ما كنا نظن أن ابنك يسرق، فيؤول أمره إلى هذا، وإنما قلنا لك نحفظ أخانا مما إلى حفظه السبيل.
﴿وَسْئَلِ القرية التي كُنَّا فِيهَا﴾ إن اتهمنا: وهي مصر، يريدون أهلها. ﴿والعير التي أَقْبَلْنَا فِيهَا﴾: وهي القافلة عن خبر ابنك.
قال لهم يعقوب: ﴿بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ﴾: على ما نالني.
وقيل: المعنى: " فصبر جميل: أولى من جزع لا ينفع. والصبر الجميل هو الذي لا شكو (ى) معه إلا إلى الله تعالى.
قوله: ﴿وتولى عَنْهُمْ وَقَالَ يا أسفى عَلَى يُوسُفَ﴾ - إلى قوله - ﴿مَا لاَ تَعْلَمُونَ﴾. والمعنى: وأعرض يعقوب عن بنيه، وقال: يا حزناً على يوسف.
والأسف شدة الحزن. ثم حكى الله تعالى ذكر [هـ] لنا أن / عَيْنَيْ يعقوب ابيضتا من الحزن، (ف) هو كظيم: أي: مكظوم، أي مَمْلُوءٌ من الحزن، ممسك عليه، لا يبثه.
قال ابن زيد: الكظيم الذي أسكته الحزن.
وقال مجاهد: كظم الحزن: إذا أمسكه عليه، لا يبثه.
وقال السدي: كظيم من الغيظ. والكاظم في اللغة: الذي حزن لا يشكو حزنه وقال الحسن: وجد يعقوب على يوسف وُجْدَ سبعين ثَكْلَى وما ساء ظنه بالله ساعة قط، من ليل، ولا نهار.
(وروى الحسن عن النبي) ﷺ: " وإنما اشتد حزن يعقوب (على يوسف) لأنه علم بحياته، وخاف على دينه ".
وقيل: إنما حَزِنَ (نَدَ) ماً على تسليمه لإخوته، وهو صبي، والحزن
وقال النبي ﷺ: " إذ مات ولده إبراهيم: تدمع العين، ويحزن القلب، ويحزن القلب، ولا نقول ما يسخط الرب ".
وقال له أولاده: ﴿تَالله تَفْتَؤُاْ تَذْكُرُ يُوسُفَ﴾ أي: لا تزال تذكره. ولا تفتر من حبه.
﴿حتى تَكُونَ حَرَضاً﴾: أي، ذا جهد، وهو المريض البال (ي).
وقال قتادة: حرضاً هَرِماً.
وقال ابن زيد: الحرض الذي قد رد إلى أرذل العمر، حتى لا يعقل.
(و) قال أبو عبيدة: الحرض: الذ [ي] أذابه الحزن.
﴿أَوْ تَكُونَ مِنَ الهالكين﴾: أي: من الموتى.
قال يعقوب لهم جواباً لقولهم: ﴿إِنَّمَآ أَشْكُو بَثِّي﴾ أي: همي وحزني:
وحقيقة البث في اللغة: هو ما يرد على الإنسان من الأشياء المهلكة، التي لا يمكنه إخفاؤها، وسميت المعصية بثاً مجازاً، وهو من بثثته، أي فرقته.
وروي أن يعقوب كبر حتى سقط حاجباه على وجنتيه، فكان يرفعهما بخرقة. فقال (له) رجلٌ: ما بلغ بك ما أرى؟ فقال: طول الزمان، وكثرة الأحزان. فأوحى الله تعالى إليه: يا يعقوب تشكوني قال: خطيئة، فاغفرها،
فما كان إذا سئل إلا قوله ﴿إِنَّمَآ أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى الله﴾ - الآية
وقوله: ﴿وَأَعْلَمُ مِنَ الله مَا لاَ تَعْلَمُونَ﴾: قال قتادة: " ذكر لنا أن يعقوب لم ينزل به بلاء قط إلا أتى حسن ظنه بالله ( تعالى) من ورائه ".
قوله: ﴿يابني اذهبوا فَتَحَسَّسُواْ مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ﴾ إلى قوله: ﴿وَهُوَ أَرْحَمُ الراحمين﴾، المعنى، أن يعقوب، عليه السلام طمع في يوسف، فأمرهم بالرجوع إلى (ال) موضع الذي أتوا منه يلتمسون يوسف، وأخاه: يعني: بنيامين شقيق يوسف.
﴿وَلاَ تَيْأَسُواْ مِن رَّوْحِ الله﴾: أي: " لا تقنطوا من أن يُرَوّحَ الله عنا ما نحن فيه من الحزن.
قال السدي، وقتادة: روح الله فرج الله.
قيل: إنه أمرهم أن يرجعوا إلى الذي احتال عليهم في أخيهم، وأخذ منهم، فيسألوا عنه، وعن مذهبه.
وروى ابن لهيعة " يرفعه إلى " (عن) ابن عمر، أن يعقوب كتب معهم كتاباً إلى يوسف: بسم الله الرحمن الرحيم / من يعقوب إسرائيل الله بن إسحاق ذبيح الله بن إبراهيم خليل الله، إلى عزيز مصر (إلى) فرعون: سلام عليك. فإني أحمد الله إليك، الذي لا إله إلا هو. أما بعد: فإنا أهل بيت مولع بنا أسباب البلاء: أما جدي إبراهيم
قال فلما قرأ يوسف، عليه السلام كتاب أبيه يعقوب، بكى بكاءً شديداً، وصاح بأعلى صوته: ﴿اذهبوا بِقَمِيصِي هذا فَأَلْقُوهُ على وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيراً وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ﴾ [يوسف: ٩٣]: فكان البشير إليهم يهوذ [ا] ابن يعقوب. وقيل: إن يوسف لما قرأ كتاب أبيه يعقوب
قوله: ﴿فَلَمَّا دَخَلُواْ عَلَيْهِ﴾. وفي الكلام حذف. والمعنى: فخرجوا إلى مصر، فلما دخلوا على يوسف، قالوا: ﴿يا أيها العزيز﴾ أي: الممتنع: ﴿وَأَهْلَنَا الضر﴾: من الشدة، والجدب. فخضعوا له، وتواضعوا.
قال ابن إسحاق: خرجوا ببضاعة لا تبلغ ما يريدون من الميرة، إلا أن يتجاوز لهم فيها، فقالوا: ﴿وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُّزْجَاةٍ﴾: أي: بدراهم لا تجوز في ثمن الطعام إلا بالمسامحة.
قال ابن عباس: مزجاة: دراهم زيوف.
وقال ابن أبي مليكة: مزجاة، خلق الغرائر: والمتاع الحقير.
﴿فَأَوْفِ لَنَا الكيل﴾: فكان يوسف هو الذي يكيل، إشارة إلى أن الكيل والوزن على البائع.
وقيل: أتوا بالسمن، والصوف.
وقال أبو صالح: أتوا بالحبة الخضراء، والصنوبر.
وقال الضحاك: مزجاة: كاسدة، وأصله من التزجية، وهي الدفع، والسوق، فكأنها بضاعة تدفع، ولا يقبلها كل أحد. يقال: فلان يزجي العيش: أي:
ثم قال: ﴿وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَآ﴾: أي تفضل علينا، ما بن الجياد والرديئة.
وقيل: المعنى: لا تنقصنا من السعر من أجل رداءة دراهمنا.
وقد اختلف الناس في الصدقة على الأنبياء. فقيل: إنها كانت حلالاً، ثم حرمت على النبي محمد ﷺ.
وقيل: ك (انت) حراماً على جميع الأنبياء.
(وقيل): إنما سأل هؤلاء المسامحة، لا الصدقة بعينها.
وقيل: إنهم أرادوا بقولهم: ﴿وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَآ﴾: أي: تصدق علينا برد أخينا إلينا، قاله ابن جريج.
قال السدي، عن أبيه لما دخل إخوة يوسف / على يوسف. وكان أكبرهم إذا
قال ابن إسحاق: بلغني أنه لما كلموه بهذا الكرم، فقالوا: ﴿وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَآ﴾ غلبته نفسه، فارفضَّ دمعه باكياً، ثم باح لهم بالذي كان يكتم، فقال (لهم): ﴿هَلْ عَلِمْتُمْ مَّا فَعَلْتُم بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنتُمْ جَاهِلُونَ﴾: أي جاهلون بعاقبة ما تفعلون.
وقيل: المعنى: إذ أنتم صغار، جهال قالوا له: ﴿أَءِنَّكَ لأَنتَ يُوسُفُ﴾ فقال: نعم ﴿أَنَاْ يُوسُفُ وهذا أَخِي قَدْ مَنَّ الله عَلَيْنَآ﴾ بأن جمعنا بعدما فرقتم بيننا. {إِنَّهُ مَن يَتَّقِ
قال ابن إسحاق: لما قال لهم: ﴿هَلْ عَلِمْتُمْ مَّا فَعَلْتُم بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ﴾.
كشف لهم عن الخطأ فعرفوه.
﴿قَالُواْ تالله لَقَدْ آثَرَكَ الله عَلَيْنَا﴾: أي: فضلك بالعلم والحلم.
وما كنا في فعلنا إلا خاطئين. يقال: خطئ يخطأ: إذا أتى الخطيئة عالماً [بها]، وأخطأ يخطئ إذا قصد شيئاً، فأصاب غيره، غير متعمد للخطأ. قال لهم يوسف: ﴿لاَ تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ اليوم﴾: أي: لا تغيير عليكم ولا إفساد لما بيني وبينكم من الحرمة، وحق الأخوة. ولكن لكم عندي العفو والصفح.
﴿لاَ تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ﴾، تمام عند الأخفش، ثم تبتدأ: ﴿اليوم يَغْفِرُ الله لَكُمْ﴾ على
قوله: ﴿اذهبوا بِقَمِيصِي هذا فَأَلْقُوهُ على وَجْهِ أَبِي﴾ إلى قوله ﴿مَا لاَ تَعْلَمُونَ﴾
المعنى: أن يوسف لما أعلم إخوته بنفسه سألهم عن حال أبيهم، فقالوا: ذهب بصره من الحزن، فعند ذلك أعطتهم قميصه، وأمرهم أن يلقوه على وجه أبيهم.
﴿يَأْتِ بَصِيراً﴾: أي: يَعُدْ بصيراً.
﴿وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ﴾: أي: جيئوني بهم.
قيل: إن القميص كان من الجنة كساه الله تعالى إبراهيم حين ألقي في النار.
وقوله: ﴿وَلَمَّا فَصَلَتِ العير﴾ أي خرجت من مصر، يعني: عير بني
ذكر أن الريح استأذنت ربها في أي تأتي يعقوب بريح يوسف، قبل أن يأتيه البشير، فأذن لها، فأتته [به] من مسيرة ثمان ليال، فقال: ﴿إِنِّي لأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ﴾.
وقوله: ﴿لَوْلاَ أَن تُفَنِّدُونِ﴾، (أي): تسفهون، فتقولون: ذهب عقلك.
وقيل: معناه: لولا أن تكذبون، قاله السدي، والضحاك.
﴿قَالُواْ تالله إِنَّكَ لَفِي ضَلاَلِكَ القديم﴾، أي: في خطئك.
قال له ذلك من بقي من ولده.
قال السدي: لما قال يوسف ﴿اذهبوا بِقَمِيصِي هذا﴾. قال يهوذا بن يعقوب: أنا ذهبت إلى يعقوب بالقميص، مُلَطَخاً بِالدَّم، وقلت له: إن يوسف أكله الذئب. فالآن أذهب أنا بالقميص، فأخبره أنه حي، فأفرحه كما أَحْزَنْتُهُ.
قوله: ﴿أَلْقَاهُ على وَجْهِهِ﴾: أي: (ألقى) القميص على وجه يعقوب، فعاد بصره، بعدما كان عمي. فقال لمن حضره من ولده:
وروي أن يعقوب قال للبشير: " هون الله عليك غصص الموت "، كأنه استقال له أن يكافأه بشيء من عرض الدنيا.
وروي أيضاً عن سفيان، أنه قال: لما جاء البشير إلى يعقوب، قال له يعقوب: على أيِّ دين تركته؟ قال: (على دين) الإسلام، قال يعقوب: ألآن تمت النعمة وروي أنه لما التقى يوسف ويعقوب بأرض مصر، قال له يوسف: يا
قوله: ﴿قَالُواْ يا أبانا استغفر لَنَا ذُنُوبَنَآ﴾ إلى قوله: ﴿العليم الحكيم﴾ المعنى: قال له ولده: يا أبانا! أستغفر لنا ذنوبنا، أي: اسأل الله يستر علينا (ذنوبنا).
﴿إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ﴾: أي: في فعلنا. قال لهم يعقوب: ﴿سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ ربي إِنَّهُ هُوَ الغفور الرحيم﴾، قيل: إنما أخر الاستغفار (لهم) إلى السحر.
وقيل: أخره إلى صلاة الليل، (و) قيل: أخر ذلك إلى ليلة الجمعة.
ومعنى ﴿إِنَّهُ هُوَ الغفور الرحيم﴾: هو الستار ذنوب من تاب إليه، الرحيم بهم أن يعذبهم عليها بعد توبتهم منها إليه.
روي عن أنس بن مالك، رضي الله عنهـ، أنه قال: إن الله ( تعالى) لأ لما جمع ليعقوب شمله، وأقر عينه، تذكر إخوة يوسف ما صنعوا بأخيهم، وبأبيهم (و) قالوا: إن كنا قد غفر لنا ما صنعنا، فكيف (لنا) بعفو ربنا؟ فاجتمعوا، وأتوا الشيخ. ويوسف إلى جنب أبيه، وقالوا: يا أبانا! أتيناك في أمر لم نَأْتِكَ في مثله قط. فرحمهم الشيخ، والأنبياء أرحم البرية، فقال: ما بكم يا بني؟ قالوا له: قد علمت ما كان
وقوله: ﴿ادخلوا مِصْرَ إِن شَآءَ الله آمِنِينَ﴾ إنما قال لهم يوسف ذلك بعد أن دخلوا عليه، وآوى يوسف إلى أبويه. فمعنى ذلك أن يوسف تلقى أباه، تكرمة له، قبل دخوله مصر، فآوى يوسف إلى أبويه: أي: ضمهما وقال لأبيه ومن معه: ﴿ادخلوا مِصْرَ إِن شَآءَ الله آمِنِينَ﴾.
" كما ورد (أنهم) قاموا عشرين سنة، لا يقبل ذلك منهم، حتى لقي جبريل يعقوب، عليهما السلام. فعلّمه هذا الدعاء " يا رجاء المؤمنين! لا تخيب رجائي، يا غوث المؤمنين أغثني، يا حبيب التائبين عَلَيَّ، فاستجيب لهم. قال لهم يوسف ذلك بعد أن
بدأه يعقوب بالسلام، وقال: السلام عليك يا ذاهباً بالأحزان عني.
فأما قوله: ﴿وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى العرش﴾ فإن السدي، قال: هما أبوه وخالته، وذلك أن أم يوسف ماتت، فتزوج يعقوب [بعدها] أختها، وهي خالة يوسف.
وقال ابن إسحاق: هما أبوه وأمه، ولم تكن أمه ماتت. وهذا القول اختيار الطبري.
ومعنى: ﴿آمِنِينَ﴾: أي آمنين مما كنتم فيه في باديتكم من الجدب والقحط. والعرش: السرير في قول السدي، ومجاهد، والضحاك وقتادة، وابن عباس. وقال ابن زيد: هو مجلسه.
وقيل: كان ذلك انحناء، ولم يكن سقوطاً على الأرض. جعل الله منه السلام، والمصافحة عوضاً، كرامة من الله تعالى لهذه الأمة، وهي تحية أهل الجَنَّة.
وقال ابن سحاق: الهاء في " له " لله، والمعنى: خرُّوا لله سجداً. وقوله: ﴿هذا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِن قَبْلُ﴾: أي: قال يوسف لأبيه: يا أبت! هذا السجود الذي سجدتموه لي الساعة، (هو) تأويل ما رأيته، وأنا صبي: إذ رأيت أحد عشر
وقال ابن إٍحاق: كان بين افتراق يوسف، إلى أن اجتمعا، ثماني
قوله: ﴿وَقَدْ أَحْسَنَ بي﴾: معناه: أحسن الله بي، إذ أخرجني من السجن، وفي مجيئه بكم من البدو. وكان مسكن يعقوب وولده في قول قتادة بأرض كنعان: أهل مواش وبرية والبدو مصدر: بدا فلان، إذا صار بالبادية.
وروى أهل التواريخ أن يعقوب عليه السلام دخل مصر يوم دخلها هو، وأولاده، وأهلوهم، وبنوهم ف أقل من مائة، وخرجوا منها يوم خرجوا، إذ أخرجهم فرعون، وهم أكثر من ستمائة ألف، فقال فرعون:
وقال ابن مسعود: " دخل بنو إسرائيل مصر، وهم ثلاثة وستون إنساناً، وخرجوا منها وهم ستمائة ألف ".
وحكى الطبري، وغيره أن يعقوب إنما سمي إسرائيل، لأن أخاه العَيْصُ تواعد (هـ) بالقتل، فخرج فراراً منه، فسرى الليل، وكمن النهار. فسمي إسرائيل، لسريه بالليل.
وقيل: إن إسرائيل اسم عبراني تفسيره: عبد الله.
وروى عاصم العمري أن يعقوب (على نبينا) عليه السلام، قال: يا رب! أذهبت بصري، وأذهبت ولدي، فما ترحمني؟ قال: بلى، وعزتي! إني لأرحمك، ولأردَّنَّ عليك بصرك، ولو كنت أمت ولدك، لأردنه عليك. إنما ابتليتك بهذه البلية أنك ذبحت
قوله ﴿رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الملك وَعَلَّمْتَنِي مِن تَأْوِيلِ الأحاديث﴾ - إلى قوله - ﴿بالصالحين﴾ قوله: ﴿مِنَ الملك﴾، و ﴿مِن تَأْوِيلِ (الأحاديث)﴾.
﴿مِن﴾: فيهما للتبعيض، على معنى: آتيتني بعض الملك، وعلمتني بعض التأويل. وقيل: " من " لا تؤنث الجنس، فيكون المعنى: قد آتيتني الملك، (وعلمتني تأويل الأحاديث) مثل: ﴿فاجتنبوا الرجس مِنَ الأوثان﴾ [الحج: ٣٠]: لم يؤمروا باجتناب بعض الأوثان دون بعض، ولكن المعنى: اجتنبوا الرجس الذي هو الوثن.
﴿رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الملك﴾: أي: ملك مصر.
﴿وَعَلَّمْتَنِي مِن تَأْوِيلِ الأحاديث﴾ يعني: عبارة الرؤيا، تقديراً لنعم الله تعالى عليه، وشكراً له.
﴿أَنتَ وَلِيِّي فِي الدنيا والآخرة﴾: أي: أنت تثيبني في دنياي بنصرك على من عاداني، / وأرادني بسوء. وتثيبني في الآخرة بفضلك. ثم إنه ﷺ لما أمره في دنياي قد تناهى في التمام، علم أنه لا يكون بعد التميم إلا النقص والزوال، لأنها دار زوال. قال: فسأل الله أن يقبضه على الإسلام، ويلحقه بآبائه الصالحين، فقال: ﴿تَوَفَّنِى مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بالصالحين﴾.
وذكر السدي أن يعقوب مات قبل يوسف، وأوصى إلى يوسف بأن يدفنه عند قبر أبيه إسحاق. وكان قبر إسحاق بالشام. فلما مات عمل ما أمر، وحمل إلى الشام. فلما بلغوا (إلى) ذلك المكان، أقبل عيص أخو يعقوب، فمنعهم أن يدفنوه. ثم قال هشام (بن دان) بن يعقوب لبعض من كان بالحضرة: ما لكم لا تدفنون جدي؟ وكان هشام أصماً. فقيل له: إن عيصاً أخاه يمنعه من ذلك. فقال: أرونيه، فأروه إياه، فضربه ضربة (تساقطت) عيناه على لحد يعقوب، فدفنا في قبر واحد.
معنى الآية: أن الله ( تعالى) يقول لنبيه عليه السلام (إن) الذي اقتصصنا عليك من خبر يوسف، ويعقوب من أخبار الغيب الذي لم تشاهدها، ولا عاينتها يا محمد.
ثم قال: ﴿وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ﴾: أي عند إخوة يوسف ﴿إِذْ أجمعوا أَمْرَهُمْ﴾ على إلقاء يوسف في الجب. وهو مكرهم بيوسف.
ثم قال (تعالى) ﴿وَمَآ أَكْثَرُ الناس﴾ يعني: مشركي قريش بمؤمنين، ولو حرصت على إيمانهم، ولكن الله ( تعالى) يهدي من يشاء.
(ثم قال تعالى): ﴿وَمَا تَسْأَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ﴾: أي: لست تسأل قريشاً يا محمدا أجراً) على دعائك إياهم إلى الإيمان. فيقولون لك: إنما تريد بدعائك
﴿إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ﴾: أي: ما الذي أرسلك به ربك إلا عظة للعالمين.
ثم قال (تعالى): ﴿وَكَأَيِّن مِّن آيَةٍ فِي السماوات والأرض يَمُرُّونَ عَلَيْهَا﴾: المعنى وكم يا محمد من علامة، ودلالة، وعبرة، وحجة في السماوات والأرض: كالشمس، والقمر، والنجوم، والجبال (والبحار) والنبات، وغير ذلك من آيتهما يُعاينونها، فيمرون عليها، وهم معرضون، لا يعتبرون بها، ولا يتفكرون بها. وفيما دلّت عليه من توحيد خالقها عز وجهه.
(و) الوقف على هذه القراءة، على [السماوات] تمام.
[و] النصب على إضمار فعل بمنزلة: " زيد أنزلت عليه "، كأنه قال:
ويغشون (الأرض) يمرون عليها، أو " ويلامسون الأرض " يمرون عليها، وشبه ذلك من الإضمار. وهو مثل ﴿والظالمين أَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً﴾ [الإنسان: ٣١].
وذكر الأخفش رفع " الأرض " على الابتداء، ويكون على / " السماوات " حسناً أيضاً على هذا.
وقد تقدم القول في ﴿وَكَأَيِّن﴾ [آل عمران: ١٤٦] من آل عمران.
وذكر الأخفش أن قوله: ﴿سبيلي أَدْعُو إلى الله﴾ [يوسف: ١٠٨]: تمام، وتابعه على ذلك أبو حاتم، وهو مروي عن نافع. ويبتدأ: ﴿على بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتبعني﴾ [يوسف: ١٠٨] فيكون " أنا " ابتداء، والمجرور: الخبر.
وقال عبيدة: ﴿أَنَاْ﴾ [يوسف: ١٠٨] تأكيد للضمير في ﴿أَدْعُو﴾ [يوسف: ١٠٨]، فتكون ﴿على بَصِيرَةٍ﴾ [يوسف: ١٠٨] متصلاً بأدعو، ويكون التمام على هذا: ﴿المشركين﴾ [يوسف: ١٠٨].
قوله: ﴿وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بالله﴾ إلى قوله: ﴿وَمَآ أَنَاْ مِنَ المشركين﴾ المعنى: وما يقرأ أكثرهم، ولا الذين وصف إعراضهم عن الآيات بالله ( تعالى)، أنه خالفهم، ورازقهم ﴿إِلاَّ وَهُمْ مُّشْرِكُونَ﴾ به: في عبادتهم الأوثان من دون الله
قال ابن عباس: إذا سألتهم من خلقكم؟، وخلق الحبال والبحار؟ قالوا: الله وهم يشركون به.
قال ابن زيد: ليس لأحد يعبد مع الله (سبحانه) غيره إلا وهو مؤمن بالله، ولكنه يشرك به.
ثم قال جل ذكره: ﴿أفأمنوا أَن تَأْتِيَهُمْ غَاشِيَةٌ مِّنْ عَذَابِ (الله)﴾ (والمعنى: أفأمن هؤلاء الذين يشركون بالله أن تأتيهم غاشية من عذاب الله). ومعنى " الغاشية " المجللة: يجللهم عذابها، ومنه ﴿هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الغاشية﴾ [الغاشية: ١].
﴿أَوْ تَأْتِيَهُمُ (الساعة) بَغْتَةً﴾: أي: فجأة، وهم مقيمون على كفرهم،
ثم قال تعالى: ﴿قُلْ هذه سبيلي﴾ الآية والمعنى: قل لهم يا محمد: هذه الدعوة التي أدعوكم إليها، والطريقة التي أنا عليها من الدعاء إلى توحيد الله تعالى، أدعوكم إلى الله [سبحانه] على بصيرة أي: على منهاج ظاهر، ويقين ﴿أَنَاْ وَمَنِ اتبعني﴾.
ثم قال: ﴿وَسُبْحَانَ الله﴾: أي: وقل يا محمد سبحان الله: أي: تنزيهاً لله من شرككم، ﴿وَمَآ أَنَاْ مِنَ المشركين﴾.
قوله: ﴿وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نوحي إِلَيْهِمْ﴾ إلى قوله ﴿المجرمين﴾: والمعنى: ألم نرسل قبلك يا محمد إلا رجالاً يوحى إليهم بالأمر، والنهي، والدعاء إلى توحيد الله ( تعالى)، وهم ﴿مِّنْ أَهْلِ القرى﴾، أي: من أهل الأمصار دون أهل البوادي. أي: لم نرسل نبياً، ولا ملائكة.
ثم قال (لهم): ﴿أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِي الأرض﴾، أي: أفلم يسر المشركون في
ثم قال: ﴿وَلَدَارُ الآخرة خَيْرٌ﴾: أي: الجنة خير لهم لو آمنوا من دار الدنيا.
ثم قال تعالى: ﴿حتى إِذَا استيأس الرسل﴾ الآية، ومعنى الآية: أنها مردودة على ما قبلها، وهو قوله (تعالى): ﴿وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نوحي إِلَيْهِمْ مِّنْ أَهْلِ القرى﴾ فالمعنى: حتى إذا استيأس الرسل الذين تقدم ذكرهم، من إيمان قومهم، وأيقن الرسل أن قومهم قد كذبوهم. جاء الرسل نصرنا. فيكون الفعلان " للرسل / " والضمير ان في " أنهم "، وجاءهم للرسل أيضاً، هذا على قراءة من شدَّد " كُذِّبوا. قال هذا التفسير: الحسن، وقتادة وتحتمل هذه القراءة معنىً آخر، وهو أن يكون المعنى: حتى إذا استيأس الرسل من إيمان من كذبهم (من) قومهم، وظنوا أن من آمن من قومهم قد كذبوهم، لما لحقهم من البلاء والامتحان، جاء الرسل نصرنا.
(وهذا المعنى مروي من عائشة رضي الله عنها: (روى عروة عنها أنها) قالت: مَحَنَ المؤمنين بالبلاء، والضر حتى ظن الرسل أن المؤمنين قد كذبوهم لما لحقهم فيكون الظن بمعنى: الشك لا بمعنى اليقين.
فأما المعنى على قراءة من خفف " كذبوا " فعلى تقدير: حتى إذا استيأس الرسل من إيمان قومهم، وظن قومهم أن الرسل قد كُذِبُوا: أي: أخلفوا لما وعدوا به من النصر. جاء الرسل نصرُنا. فيكون الظن بمعنى: اليقين، وبمعنى: الشك، وتحتمل هذه القراءة أيضاً معنى آخر، وهو أن يكون التقدير: ﴿حتى إِذَا استيأس الرسل﴾ من إيمان قومهم، وظن قومهم أن الرسل قد كذبتهم. ثم رَدَّ إلى ما لم يسم فاعله.
وقيل: الظن بمعنى: الشك، وهو للمرسل إليهم. والمعنى: وظن المرسل إليهم أن الرسل كذبوا فيما دعوهم إليه من الإيمان بالله، ( تعالى)، وفيما وعدهم به من النصر عليهم، والانتقام منهم.
وقيل: معناه: حتى إذا استيأٍ الرسل من عذاب الله (سبحانه) قومها المكذبين لها، وظنت الرسل أن قومها قد كذبوا، وافتروا على الله، (سبحانه)، بكفرهم، جاء الرسل نصرُنا.
وعن ابن عباس أيضاً في معنى ظن الرسل أنهم أخلفوا، وهو المعنى المتقدم. قال ابن عباس: كانوا بشراً، يريد أن الأنبياء يعتريهم ما يعتري البشر.
وروى ابن الزهري: (عن عروة بن الزبير) أنه سأل عائشة رضي الله عنها، عن هذه الآية،
ومعنى: ﴿فَنُجِّيَ مَن نَّشَآءُ﴾، (أي): ننجي الرسل، ومن نشاء من عبادنا المؤمنين. وقوله: ﴿لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ﴾ إلى آخر السورة المعنى: لقد كان في خبر يوسف وإخوته عبر لأهل الحجى، والعقول، يعتبرون بها، ويتعظون: كل هذا مخاطبة (ل) قريش، وتنبيه لهم على لطائف الله (سبحانه) في خلقه،
﴿مَا كَانَ حَدِيثاً يفترى﴾: أي: ليس لما قصصنا عليك (يا محمد) من خبرهم حديثاً يختلق.
﴿ولكن تَصْدِيقَ الذي بَيْنَ يَدَيْهِ﴾: أي: هذا الذي قصصنا عليك يا محمد من خيرهم مصدق لما في التوراة، والإنجيل، والزبور، وشاهد له أنه حق كله.
ثم قال: ﴿وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ﴾: أي: تفصيل كل ما بالعباد إليه الحاجة، من بيان أمر الله ( تعالى) ونهيه وحلاله وحرامه.
﴿وَهُدًى﴾ لمن آمن به ﴿وَرَحْمَةً﴾. والتقدير في نصبه ﴿تَصْدِيقَ﴾ و ﴿تَفْصِيلَ﴾ إنه على أضمار ﴿كَانَ﴾ أي: ولكن كان ﴿تَصْدِيقَ الذي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً﴾: كله
ويجوز الرفع في جميع ذلك في الكلام على معنى: ولكن هو تصديق الذي بين يديه، وتفصيل (كل شيء)، ورحمة.
فإذا نصبت أضمرت كان، وفيها اسمها مُضْمَرٌ. وإذا رفعت أضمرت هو لا غير.
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة الرعد: (مكية، وقيل: مدنية)قال ابن جبير، ومجاهد: هي مكية.
وقال قتادة: هي مدنية إلا آية واحدة، قوله: (وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا)
[٣٢] وعنه: إلا قوله: (وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ) [٣٢]، فإنه نزل بمكة.