تفسير سورة يوسف

حدائق الروح والريحان
تفسير سورة سورة يوسف من كتاب حدائق الروح والريحان في روابي علوم القرآن المعروف بـحدائق الروح والريحان .
لمؤلفه محمد الأمين الهرري . المتوفي سنة 1441 هـ

والسلطنةَ، فآل أمره إلى الصفاء بعد أنواع الجفاءِ، فمنْ حَافَظَ على تلاوة سورة يوسف، وتدبَّر في معانيها.. وَصَلَ إلى ما وصل يوسف إليه من أنواع السرور، كما قال عطاء رحمه الله تعالى: لا يسمع سورة يوسف محزونٌ إلَّا استراحَ، كما في "تفسير الكواشي": نسأل الله الراحةَ من جميع الحواشي. وقال خالد بن مَعْدان: سورةُ يوسفَ، وسورةُ مريم تَتَفكَّهُ بهما أَهْلُ الجنةِ في الجنة.
التفسير وأوجه القراءة
١ - ﴿الر﴾؛ أي: أنا الله أرَى، وأسمع سؤالَهُم إيَّاك يا محمدُ عن هذه القصة، ويقال: أَنَا الله أرى صنيعَ إخوة يوسف، ومعاملتهم معه، ويقال: أنا الله أرى ما يَرَى الخَلْقُ، وما لا يَرى الخَلْقُ، ويقال: ﴿الر﴾ تعديد للحروف على سبيل التحدي، فلا محل له من الإعراب، أو خبر مبدأ محذوف؛ أي: هذه السورة ﴿الر﴾؛ أي: مسماة بهذا الاسم. والقول بأنَّ هذه الحروف المقطعة في أوائل السور من المتشابهات القرآنية التي لا يعلم معانِيهَا إلا الله تعالى، هو الطريق الأَسْلَمُ. والقول الأعلم لما فيه من تفويض الأمر إلى أهله. ﴿تِلْكَ﴾؛ أي: هذه الآيات التي أنزلت إليك في هذه السورة المسمَّاة ﴿الر﴾ أشار إليها بإشارة البعيد تنزيلًا للبعد الرتبيّ، منزلةَ البعد الحِسِّيِّ، وهو مبتدأ خبره ﴿آيَاتُ الْكِتَابِ﴾؛ أي: آياتٌ من القرآن الكريم ﴿الْمُبِينِ﴾؛ أي: المظهر للحق من الباطل، فهو منْ أَبَانَ المتعدي. وَفِي "الخازن" المبين: أي: البين حلاله وحرامُه، وحدودُه وأحكامُه. وقال الزجَّاجُ: المبين للحق من الباطل، والحلال من الحرام، فهو من أبان بمعنى أظهر. وفي "بحر العلوم": الكتاب المبين هو اللوحُ المحفوظ، وإبانَتهُ أنه قد كتب وبيِّنَ فيه كل ما هو كائن. والمعنى: أيْ آيات هذه السورة هي آيات الكتاب البين الظاهر بنفسه، والمظهر لما شاء الله تعالى من حقائق الدين، وأحكام التشريع، وخَفَايَا المُلْك، والملكوت، وأسرار النشأتين، والمرشد إلى مصالح الدنيا، وسبيل الوُصُولِ إلى سعادة الآخرة.
٢ - ﴿إِنَّا﴾ نحن ﴿أَنْزَلْنَاهُ﴾ بعظمتنا وجلالتنا؛ أي: إنَّا أنزلنا هذا الكتاب المتضمِّنَ قِصَّةَ يُوسُفَ وغَيرهَا على هذا النبي العربي الأمي حالةَ كونه ﴿قُرْآنًا﴾؛
308
أي: مجموعًا، أو مقروءًا ﴿عَرَبِيًّا﴾؛ أي: منسوبًا إلى العرب لكونه نزل بلغتهم. والمعنى: أنَّ القرآن نَزَل بلغة العرب، فليس فيه شيء غير عربيّ. فإن قلت: قد ورد في القرآن شيء غير عربي كسجيل، ومشكاة، وإستبرق، وغير ذلك.
أجيب (١): بأنَّ هذا مما توافقت فيه اللغات، والمراد: أنَّ تراكيبه، وأسالِيبَه عربية، وإن وَرَدَ فيه غير عربي، فهو على أسلوب العرب، والمرادُ أنَّ هذه الألفاظ لما تكلمت بها العربُ، ودارَتْ على ألسنتهم.. صارت عربية، فصيحة، وإن كانت غير عربية في الأصل لكنهم لما تكلموا بها.. نسبت إليهم، فصارت لهم لغة؛ وإنما كان القرآن عربيًّا؛ لأنَّ تِلكَ اللُّغَةَ أفصح اللغات، ولأنها لُغَةُ أهل الجنة في الجنة.
فَعَربِيًّا (٢) نعت لِقرآنًا نعت نسبة لا نعت لزوم، لأنه كان قرآنًا قبل لزومه، فلَمَّا نزل بلغة العرب نسب إليها كما في "الكواشي". و ﴿قُرْآنًا﴾ حال موطئة؛ أي: توطئةً للحالِ التي هي عربيًّا؛ لأنه في نفسه لا يبين الهيئة، وإنما بينها ما بعده من الصفة، فإنَّ الحالَ الموطئة اسم جامد موصوف بصفة هي الحال في الحقيقة، فكأنَّ الاسمَ الجامد، وطأ الطريقَ لما هو حال في الحقيقة بمجيئه قبلها موصوفًا بها كما في "شرح الكافية". وقوله: ﴿لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾ علة لكونه عربيًّا؛ أي: لكي تفهموا معانيه وتحيطوا بما فيه، وتطلعوا على أنه خارج عن طوق البشر، مُنَزَّلٌ من عند خالق القُوَى والقدر. وقال في "بحر العلوم": (لعلَّ) مستعار لمعنى الإرادة لتلاحظ العرب معناه أو معنى الترجي؛ أي أنزلنا قرآنًا عربيًّا إرادة أن تعقله العرب، ويفهموا منه ما يدعوهم إليه، فلا يكون لهم حجة على الله، ولا يقولوا لنبيهم ما خُوطبنا به كما قال: ﴿وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ﴾ انتهى.
والمعنى (٣): أي إنا أنزلنا هذا الكتابَ على النبي العربي، ليبيِّنَ لكم بلغتكم العربية، مَا لَمْ تكونوا تعلمونه من أحكام الدين، وأنباءِ الرسل، والحكمة،
(١) الصاوي.
(٢) روح البيان.
(٣) المراغي.
309
وشؤون الاجتماع، وأصول العُمْرَانِ وأدَب السِّيَاسَةِ لتعقلوا معانِيه، وتَفْهَموا ما ترشد إليه من مطالب الروح، ومداركِ العقل وتزكيةِ النفس، وإصلاح حَالِ الجماعات والأفراد بما فيه سعادتهم في دنياهم وأخراهم.
٣ - ﴿نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ﴾ يا محمَّد؛ أي: نخبرك ونحدثك ﴿أَحْسَنَ الْقَصَصِ﴾؛ أي: أحسن ما يقص به، ويتحدث عنه من الأنباء والأحاديث موضوعًا، وفائدةً لما يتضمنه من العبر والحكم.
والمعنى: نحن نبين لك أخبارَ الأُممِ السالفة أحسنَ البيان. وقيل: المراد خصوص قصة يوسف. ﴿بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ﴾؛ أي: بسبب إيحائنا وإنزالنا إليك هذه السورةَ من القرآن الكريم؛ إذ هي الغاية في بلاغتها، وتأثيرها في النفس، وحسْنِ موضوعها، ﴿وَإِنْ﴾ أي والحال أن الشأن قد ﴿كُنْتَ﴾ يا محمَّد ﴿مِنْ قَبْلِهِ﴾؛ أي: من قبل إيحائنا هذا القرآن إليك ﴿لَمِنَ الْغَافِلِينَ﴾؛ أي: لمن زمرة الغافلين عن هذا القصص؛ أي: من قومك الأميينَ الذينَ لا يَخْطُرُ في بالهم التحديث بأخبار الأنبياء وأقوامهم، وبيان ما كانوا عليه من دين وشرع، كيعقوب وأولاده، وهم في بَداوتهِم، ولا ما كان فيه المصريون الذين جاءَ إليهم يوسف مِنْ حضارة وترف، ولا ما حدث له في بعض بيوتات الطبقة الراقية، ولا حاله في سياسة الملك، وإدارة شؤون الدَّوْلَةِ وحُسْنِ تنظيمها. وقيل (١): كانت هذه السورة أحسن القصص لانفرادها عن سائرها بما فيها منْ ذكر الأنبياء، والصالحين، والملائكة، والشياطين، والجن، والإنس، والأنعام، والطَّيْر، وسير الملوك، والممالك والتجار، والعلماء، والرجال، والنساء وكيدهن، ومكرهن، مع ما فيها من ذِكْر التوحيد، والفقه، والسِّير، والسياسة، وحسن المَلَكَة، والعفو عند المقدرة، وحسن المعاشرة، والحِيل، وتدبير المعاشِ والمعاد، وحسن العاقبة في العفة، والجهاد، والخلاص من المرهوب إلى المرغوب، وذكر الحبيب، والمحبوب، ومَرأى السنينَ وتعبيرِ الرؤيا والعجائبِ التي تصلح للدين والدنيا.
(١) البحر المحيط.
310
وقيل: كانت أحسنَ القصص؛ لأنَّ كُلَّ من ذكر فيها كان مآله إلى السعادة، انظر إلى يوسف، وأبيه، وإخوته، وامرأة العزيز، والمَلِك أسلم بِيُوسُفَ وحسن إسلامه، ومعبر الرؤيا الساقي، والشاهد فيما يقال. وقال بعضهم (١): لأنَّ يوسفَ عليه السلام، كان أحسنَ أبناءِ بني إسرائيل، ونسبه أحسن الأنساب، كما قال - ﷺ -: "إنَّ الكريمَ ابنَ الكريمِ ابنِ الكريمِ ابنِ الكريم يوسفُ بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم السلام". والكرم اسم جامع لكل ما يحمد به، واجتمع في يوسف مع كونه ابنَ ثلاثة أنبياء متراسلينَ شرف النبوة، وحسن الصورة، وعلم الرؤيا، ورياسةَ الدنيا، وحِياطةَ الرَّعايا في القحط، والبلايا، فأي رجل أكَرمَ مِنْ هذا. وقال بعضهم: لأنَّ دُعاءه كان أحْسنَ الأدعية ﴿تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ﴾، وهو أول من تمنى لقاء الله تعالى بالموت.
وقيل (٢): ﴿أحسَنَ﴾ هنا ليست أفعلَ التفضيل بل هي بمعنى حَسَنَ كأنه قيل: حَسَنَ القصص من باب إضافة الصفة إلى الموصوف؛ أي: القصص الحسن ومعنى: ﴿لَمِنَ الْغَافِلِينَ﴾ لم يكن لك شعور بهذه القصة، ولا سبق لك علم فيها، ولا طَرَق سَمْعَكَ طرف منها. وقيل: إن بمعنى قَدْ، والمعنى، قد كنْتَ مِنْ قبلِ وحينا إليك من الغافلين عن هذه القصة. والغفلة عن الشيء هي: أن لا يخطر ذلك ببالِهِ؛ أي: لمن الغافلين عن هذه القصة، لم تُخْطُر ببالك، ولم تَقْرَع سمعك قطُّ، وهو تعليل لِكَوْنِهِ موحًى، والتَّعْبِيرُ عن عدم العِلْم بالغفلةِ لإجلالِ شأنه - ﷺ - كما في "الإرشاد" فليسَتْ هي الغفلة المتعارفَةُ بين الناس، ولله تعالى أَنْ يُخَاطِب حَبيبَه بما شاء ألاَ تَرى إلى قوله: ﴿مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ﴾، وقوله: ﴿وَوَجَدَكَ ضَالًّا﴾ ونحوهما، فإنَّ مثلَ هذا التعبير إنما هو بالنسبة إلى الله تعالى، وقد تعارَفَهُ العربُ من غير أن يخطر ببالهم نقص، ويجب علينا حسن الأداء في مثل هذا المقام، رعاية للأدب في التعبير، وتقرير الكلام مع أنَّ الزمانَ وأَهْلَه قد مضى، وانقضَتِ الأيام والأنامُ، اللهم اجعلني فيمن هديتهم إلى لطائف البيان،
(١) روح البيان.
(٢) البحر المحيط.
311
ووفقتهم لما هو الأدب في كل أمر وشأن إنك أنت المنان.
٤ - واذكر يا محمَّد لقومك قِصَّةَ ﴿إِذْ قَالَ يُوسُفُ﴾ بن يعقوب ﴿لِأَبِيهِ﴾ يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم السلام، ويوسُف اسم عِبْرِيٌّ، ولذلك لا يجري فيه الصرف للعجمة والعلمية. وقيل: هو عَرَبِيٌّ، والأول أصحُّ، بدليل عدم صرفه. وسئل (١) أبو الحسن الأقطع عن يوسف، فقال: الأسَفُ أشدُّ الحزن، والأَسِيفُ: العَبْدُ، واجتمع في يوسف فسُمِّي به. والعبرِيُّ والعَبْرَانِيُّ: لغة إبراهيم عليه السلام، كما أنَّ السِّرْيَانِيَّ هي اللغة التي تَكَلَّمَ بها آدم عليه السلام. قال السيوطي: السِّريانيُّ منسوب إلى سُريانة، وهي أرض الجزيرة التي كان نُوحٌ وقَوْمُه قبل الغرق فيها، وكان لسانُهم سريانيًّا إلا رجلًا واحدًا يقال له: جُرْهم وكان لسانُه عَرَبِيًّا. وقرأ الجمهور (٢): ﴿يُوسُفُ﴾ بضم السين. وقرأ طلحة بن مُصَرِّف بكسرها مع الهمز مَكَانَ الواو، وحكى ابن زيد الهمز وفتح السين. ﴿يَا أَبَتِ﴾؛ أي: يا أبي بكسر التاءِ في قراءة أبي عمرو، وعاصم، وحمزة، والكسائي، ونافع، وابن كثير، وهي عند البصريين، علامة التأنيث، ولَحِقَتْ في لفظ أب في النداء خَاصَّةً بدلًا من الياءِ، وأصْلُه: يا أبي، وكَسْرُها للدلالة على أنها عوض عن حرف يُناسِبُ الكسرَ. وقرأ ابن عامر، وأبو جعفر، والأعرجُ بفتحها؛ لأنَّ الأصْلَ عندهم: يا أَبَتَا، ولا يجمع بين العوض والمعوَّض فيقال: يا أبتي. وأجاز الفراء: يا أبت بضم التاء. ﴿إِنِّي رَأَيْتُ﴾ في منامي في (٣) النهار؛ لأنها منْ رَأى الحُلمية لا مِن رأى البصرية كما يدل عليه قوله: ﴿لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ﴾، ﴿أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا﴾؛ أي: نَجْمًا. وقرأ الحسنُ، وأبو جعفر، وطلحةُ بن سليمان: (أَحَدَ عْشَرَ) بسكون العين لتوالي الحركات وليَظْهَرَ جعل الاسمين اسمًا واحدًا. وقرأ الجمهور بفتحها على الأصل. ﴿و﴾ رأيتُ ﴿الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ﴾ إنما أخَّرَهما عن الكواكب لإظهار مِزيتِهما وشرفهما كما في عطف جبريل، وميكائيل على الملائكة. وقيل: إنَّ الواوَ بمعنى مع، والكواكبُ تُفسَّر بإخوته، والشَمْسُ بأمه والقَمَرُ بأبيه. وجملةُ
(١) الخازن.
(٢) الشوكاني.
(٣) المراح.
312
قوله: ﴿رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ﴾؛ أي: رأيت هؤلاء المذكورين سجَّدًا لي في المنام، جملةٌ مستأنفة لبيان الحالة التي رآهم عليها. كأنَّ سَائِلًا قال: كيف رأيتَ؟ وأجريت مُجْرى العقلاء في الضمير المختص بهم لوصفها بوصفِ العقلاء، وهو كونُها ساجدةً كذا قال الخليلُ، وسيبويه، والعربُ تَجْمَع ما لا يعقل جَمْعَ مَنْ يعقل، إذا نزلوه مَنْزِلَتَهُ. قال في "الكواشي": الرؤيا في المنام، والرؤية في العين، والرأي في القلب. قال وَهْبٌ: رأى يُوسُفُ عليه السلام، وهو ابن سبع سنينَ أنَّ إحدَى عَشَرَةَ عصًا طِوالًا، كانت مركوزة في الأرض كهيئة الدائرة، وإذا عَصًا صغيرة وثَبَتْ عليها حتى ابْتَلَعَتْها، فذكر ذلك لأبيه، فقال: إياك أن تذكر هذا لإخوتك، ثُمّ رَأَى وهو ابن ثنتي عشرة، أو سبع عشرة سنةً ليلة الجمعةِ، الشمسَ والقمرَ، والكواكبَ، تسجد له، فقصها على أبيه فقال: لا تَذْكُرْها لهم فيبغوا لك الغَوَائِلَ.
رُوِيَ عن جابر رضي الله عنه: أنَّ يهودِيًّا جاء إلى رسول الله - ﷺ - فقال: يا محمَّد! أخبرني عن النجوم التي رآهن يوسفُ عليه السلام، فسَكَتَ النبيُّ - ﷺ -، فَنَزَلَ جِبْرِيل عليه السلام، فأخْبَرَهُ بذلك، فقال - ﷺ - لليهوديّ إذَا أخبرتك بذلك هل تُسْلِمُ؟ فقال: نعم. قال: جريانُ (١) والطارقُ، والذَيَّالُ وقابسُ، وعَمُودان، والفَلِيقُ، والمُصبِّحُ، والضَّرُوخُ، والفَرْغُ، ووثَّابُ، وذو الكَتِفَيْنِ رآها يوسفُ عليه السلام، والشمسَ والقمرَ، نزَلْنَ من السماء، وسَجَدْنَ له، فقال اليهوديُّ: إي والله إنها لأسمَاؤها، اهـ "بيضاوي".
(جَريان) بفتح الجيم وكسر الراء المهملة، وتشديد الياء التحتية منقول من اسم (طوق القميص). (وقابس) بقاف، وموحدة وسين مقتبسُ النار (وعمودان) تثنية عمود (والفليق) نجم منفرد (والمصبح) ما يَطْلَعُ قبل الفجر، (والفرغ) بفاء وراء مهملة ساكنة، وغين معجمة، نجمٌ عند الدلو، و (وثاب) بتشديد المثلثة، سريعُ الحركة، و (ذُو الكتفين) تثنية كتف: نجم كبير، وهذه نجومٌ غير مرصودة،
(١) البيضاوي.
313
خصَّتْ بالرؤيا لغيبتهم عنه، اهـ "شهاب".
والمراد بالسجود هنا: سَجْدَة تحية، لا سجدة عبادة. وقال بعضهم: لفظ السجود: يُطْلَقُ على وضع الجبهة على الأرض، سواء كان على وجه التعظيم، والإكرام، أو على وَجْهِ العبادة، ويُطلق أيضًا على التواضع، والخضوع، وإنما أُجرِيَتْ مُجْرَى العقلاء في الضمير لوصفها بوصف العقلاء، وهو السجود، كما مرَّ.
وأبو يوسف هو: يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم. قال بَعْضُ مَنْ مال إلى الاشتقاق في هذه الأسماء: إنما سمِّيَ يعقوبُ لأنَّ يعقوبَ وعيصًا كانا تَوْأمَيْنِ فاقتتلا في بطن أمهما حيث أراد يعقوب أن يَخْرُجَ فَمَنَعَه عَيْصٌ وقال: لئن خَرجت قبلي لأعترض في بطن أمي، فلأقتلنَّها فتأخَّر يعقوب، فخرج عيص فأَخَذَ يعقوب بعقب عيص، فخَرَجَ بَعْدَهُ فلهذا سمي به، وسمي الآخر عَيْصًا لمَّا عَصَى وخَرَجَ قبل يعقوب، وكان عيص رجلًا أشعر، وكان يعقوبُ أجْرَد، وكان عيص أحبَّهما إلى أبيه، وكان يعقوبُ أحبَّهما إلى أمه، وكان عَيْصٌ صاحبَ صيد، وكان يعقوبُ صَاحِبَ غنم، فلما كَبرَ إسحاق، وعَمِي قال لعيص يومًا: يا بنيَّ أطْعِمْني لَحْمَ صيد، واقْتَرِبْ مني أدع لك بدعاءٍ دعا لي به أبي هو دعاء النبوة، وكان لكل نبي دعوة مستجابة، وأخَّر رسولنا - ﷺ - دُعاءَه للشفاعة العظمى يوم القيامة، فخرج عَيْصٌ لطلب صيد، فقَالَتْ أمُّهُ ليعقوب: يا بنيَّ اذهب إلى الغنم فاذبح منها شَاةً ثم اشوها، والْبِسْ جِلْدَهَا، وقدِّمها إلى أبيك، قبل أخيك، وقُلْ له: أنا ابنك عيص لعله يدعو لك ما وَعَدَه لأخيك، فلما جَاءَ يعقوب بالشواء قال: يا أبت كُلْ، قال: مَنْ أنت؟ قال: أنا ابنك عيص؛ فمسَّه فقال: المس مَسُّ عَيْص والريحُ ريح يعقوب. قال بعضهم: والأسلم أن يقال: إنَّ أمه أحْضَرَتْ الشواء بين يدي إسحاق، وقالت: إنَّ ابْنَكَ جاءك بشواء، فادع له، فظَنَّ إسحاق أنه عيص، فأكل منه، ثم دَعَا لِمَنْ جاء به، أن يجعل الله في ذريته الأنبياءَ، والملوكَ فذهب يعقوب، وَلَمّا جاء عيصٌ قال: يا أبت قد جئتك بالصيد الذي أردتَ، فعلم إسحاق الحالَ، وقال: يا بنيَّ قد سبقك أخوك، ولكن بَقِيَتْ لك دعوة فهلم أدعو لك بها، فدعا أن يكون ذرِّيتُه عَدَدَ التراب، فأعطى الله تعالى له نَسْلًا كثيرًا،
314
وجملة الروم منْ ولده، رُوم، وكان إسحاق متوطِّنًا في كَنْعَان، وإسماعيل مقيمًا في مكة، فلما بَلَغَ إسحاق إلى مئة وثمانين من العمر، وحضرته الوفاة وصَّى سِرًّا بأن يخرج يعقوب إلى خاله في جانب الشام حذرًا من أن يقتله أخوه عَيْصٌ حسدًا، لأنه أقْسَمَ بالله في قصة الشواء أن يقتل يَعْقُوب فانطلق إلى خاله ليا بن ناهزَ، وأقام عنده وكان لخاله بنتان إحداهما لَيَّا، وهي كبراهما، والأُخرى راحيل، وهي صغراهما فخَطَبَ يعقوب إلى خاله بأن يزوجه إحداهما فقال له: هل لك مالُ؟ قال: لا، ولكن أَعْمَلُ لك، فقال: نعم، صداقها أن تخدمني سبع سنين، فقال يعقوب: أَخْدُمُكَ سبع سنين على أن تزوجني راحيل، قال: ذلك بيني وبينك، فرعَى له يعقوب سبع سنين، فزوجه الكبرى، وهي لَيَّا، قال له يعقوب: إنك خَدَعْتَني، إنما أردتُ راحيل، فقال له خاله: إنَّا لا ننكح الصغيرةَ قبل الكبيرة، فهلم فاعمل سبع سنين، فأزوجك أختها - وكان الناس يجمعون بين الأختَين إلى أنْ بعَثَ الله موسى عليه السلام - فرَعَى له سبع سنين، أُخْرى فزوجه راحيل، فجمَعَ بينهما، وكان حاله حين جهَّزَهما دفع إلى كل واحدة منهما أَمَةً تخدمُها، اسمُ إحداهما، زلفة، والأخرى بَلْهَة، فوهبتا الأمتَين ليعقوب، فولدت ليا ستة بنين وبنتًا واحدة، رُوبِيلَ، شمعون، يهوذا، لاوي، يَسْجُر، زيالون، دنية. وولدت زلفة ابنَينِ دان، يغثالى، وولدت بُلْهَةُ أيضًا ابنين جاد، آشر. وبقيت راحيل عاقرًا سنينَ ثمَّ حملَتْ، وولدت يوسف. وليعقوب من العمر إحدى وتسعون سنةً، وأراد يعقوب أن يُهاجِر إلى موطن أبيه إسحاق بكل الحواشي. وفي سنة الهجرة حَمَلَتْ راحيل ببنيامين، وماتت في نفاسها، ويوسف ابن سنتين، وكان أحبَّ الأولاد إلى يعقوب، وحين صار ابنَ سبع سنين، رَأَى المنام المذكور سابقًا فيما حكى الله تعالى بقوله: ﴿يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ﴾.
واعلم: أنَّ يوسف رأى إخْوَته في صورة الكواكب، لأنه يُسْتَضاءُ بالأخوة، ويهدى بهم كما يهتدى بالكواكب، ورأى أباه وخَالَتَه ليا في صورة الشمس والقمر، وإنما قُلْنا خالته لأنه ماتت أمه في نفاس بنيامين كما مَرَّ. وسجودُهم له دخولهم تحت سلطنته، وانقيادهم له كما سيأتي في آخر القصة.
315
قال في "الإرشاد": ولا يَبْعُدْ أن يكونَ تأخيرُ الشمس والقمر إشارة إلى تأخُّرِ ملاقاتِه لهما عن ملاقاته لإخوته، ذَكَرَ هذه القصةَ صاحبُ "روح البيان".
فائدة: والرؤيا ثلاثة أقسام:
أَحدُها: حديث النفس كَمَنْ يكون في أمْرٍ أو حِرْفة يرى نَفْسَهُ في ذلك الأمر، وكالعاشق يرى مَعْشُوقَه ونحو ذلك.
وثانيها: تخويف الشيطان بأن يَلْعَبَ بالإنسان فيريه ما يحزِنه، ومَنْ لعبه به الاحتلامُ الموجبُ للغسل، وهذان لا تأويلَ لهما.
وثالثهما: بشرى من الله تعالى بأن يَأتِيَك ملك الرؤيا من نسخة أم الكتاب يعني من اللوح المحفوظ، وهو الصحيحُ، وما سوى ذلك أضغاثُ أحلام.
٥ - ﴿قَالَ﴾ يعقوب ليوسف في السرِّ، وهذا كلام مستأنف مبنيُّ على سؤالِ مَنْ قال: فماذا قال يعقوبُ بعد سماع هذه الرؤيا العجيبة؟ فقيل: قال يعقوب: ﴿يَا بُنَيَّ لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ﴾ تصغيرُ ابن صغره للشفقة والمحبَّة وصِغر السن، فإنه كان ابن ثنتي عشرة سنة كما مَرَّ. وأصله يا بُنَيَّا الذي أصله: "يا بُنَيّي" فأُبدلت ياء الإضافةِ ألِفًا، كما قيل في يا غلامي، يا غلاما بناء على أنَّ الألِفَ، والفتحةَ أخفُّ من الياء والكسرة. وقرأ حفصٌ هنا، وفي لقمان، وفي الصافات: ﴿يَا بَنِي﴾ بفتح الياء. وابن كثير في لقمان: (يا بني لا تشرك). وقيل: (يا بني أقم) بإسكانها. وباقي السبعة بالكسر. وقرأ زيد بن علي: (لا تَقُصُّ) مدغمًا وهي لغة تميم، والجمهور بالفك، وهي لغةُ الحجاز. وقرأ الجمهور: ﴿رُؤْيَاكَ﴾ والرؤيا حيثُ وقعت بالهمز من غير إمالة. وقرأ الكسائي بالإمالة، وبغير الهمز، وهي لغة أهل الحجاز ذكره أبو حيان في "البحر".
قال في "الإرشاد": ولمَّا عرف يعقوبُ من هذه الرؤيا، أنَّ يوسف يبلِّغه تعالى مَبْلَغًا جَلِيلًا من الحكمة، ويَصْطَفِيهِ للنبوّة، وينعم عليه بشرف الدارين، كما فَعَلَ بآبائه الكرام.. خَافَ عليه حسدَ الإخوة وبغيَهم فقال صيانة لهم من ذلك وله
316
من معاناة المشاقِّ، ومقاساة الأحزان، وإن كانَ واثقًا من الله تعالى بأن سيحقق ذلك لا مَحَالَةَ وطَمَعًا في حصوله بلا مشقَّة: ﴿يَا بُنَيَّ لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ﴾؛ أي: لا تُخْبِرَ مَنَامَكَ كُلًّا، أو بعضًا، ولا تطلعها ﴿عَلَى إِخْوَتِكَ﴾، وهم بَنُو علاته العشرة، كما هو المشهور، وأما شقيقه بنيامين فهو حادي الأحد عشر في الرؤيا، وإن لم يكن ممن تخشى مَضرَّتهُ، وكيدُه ليوسف ﴿فَيَكِيدُوا لَكَ﴾؛ أي: فيفعلوا لأجلك، ولإهلاكك ﴿كَيْدًا﴾ خَفِيًّا عن فهمك لا تقدر على مدافعته، وهذا أوفق بمقام التحذير، وإن كانَ يعقوبُ يعلم أنهم ليسوا بقادرينَ على تحويلِ ما دلت الرؤيا على وقوعه. والكيد: الاحتيال للاغتيال، أو طَلَبُ إيصال الشر بالغير وهو غَيْرُ عالم به.
وحاصل المعنى: أي قال يوسف لأبيه يعقوب: إني رأيت في منامي أحَدَ عَشَرَ كَوْكبًا، والشَّمْسَ والقَمَرَ لي سجَّدًا، وقد علم أبوه أن هذه رؤيا إلهام، لا أضغاث أحلام تثِيرُها في النوم الهواجسُ والأفكار، وأنَّ يوسُفَ سَيَكُون له شأن عظيم، وسلطان يسود به أهلَه حتى أباه وأمه، وإخوته، وخَافَ أن يَسْمَعَ إخْوَتُهُ ما سمعه، ويفهموا ما فَهِمَه فيحسدوه، ويكيدوا لإهلاكه، ومن ثمَّ نَهاه أن يقصَّ عليهم رؤياه، كما دل على ذلك قوله: ﴿قَالَ يَا بُنَيَّ لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا﴾؛ أي: لا تخبر إخوتَك بما رأيتَ في منامك، خِيفَة أن يحسدوك فيحتالوا للإيقاع بك بتدبير، يحكمونه بالتفكير، والرؤية، ثم بَيَّن السببَ النفسيَّ لهذا الكيد بقوله: ﴿إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ﴾؛ أي: إنَّ الشيطانَ عدو لآدم وبنيه، قد أظهرَ لهم عداوتَه، فاحذَر، أن يُغريَ إخوتك بك بحسدهم لَكَ، إن أنْتَ قصصت عليهم رؤياك، إذ من دأبه أن ينزغَ بَيْنَ الناس حين تعرض له داعية من هوى النفس، ولا سِيّما الحسد الغريزي في فطرة البشر، وقد أرْشَدَ إلى هذا يوسف بقوله: ﴿مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي﴾.
وهذه الجملة مستأنفة استئنافًا بيانيًّا، كأنَّ يوسفَ قال: كيف يصدر ذلك عن إخوتي الناشئين في بيت النبوة. فقيل: إنَّ الشَّيْطَانَ ظاهر العداوة للإنسان أو مظهرها قد بانت عداوته لك، ولأبناءِ جنسك إذ أخرج أبويكم آدم وحواء من
317
الجنة، ونزع عنهما لباسَ النور، وحلف أنه ليعملن في نوع الإنسان كل حيلة، وليأتينهم من كل جهة وجانب، فلا يزال مجتهَدًا في إغواء إخوتك وإضلالهم، وحملهم على الإضرار بك، فَبِه عُلِمَ أنهم يَعْلَمُونَ تَأْويلَهَا فقال ما قال. قال بعض العارفين: بَرَّأ أبناءه من ذلك الكيد، فألحقه بالشيطان لِعِلْمه أن الأفعال كلَّها من الله تعالى، ولمَّا كان الشيطان مظهرًا لاسم المُضِلِّ أضَافَ الفعل السَّببيَّ إليه، وهذه الإضافة أيضًا كيد ومكر، فإن الله تعالى هو الفاعل في الحقيقة لا المظهر الشيطاني.
٦ - ﴿وَكَذَلِكَ﴾؛ أي: كما اجتباك لهذه الرؤية الدالة على عُلُوِّ شأنك ﴿يَجْتَبِيكَ﴾ ويصطفيك ﴿رَبُّكَ﴾ بالنبوة والرسالة والملك؛ أي (١): مثل اجتبائك واختيارك من بين إخوتك، لمثل هذه الرؤيا العظيمة، الدالةِ على شرفِ وعز وكبرياء شأنك، فالكاف في محل النصب على أنه صفة لمصدر محذوف، كما سيأتي في مبحث الإعراب.
﴿يَجْتَبِيكَ﴾: أي: يَخْتَارُكَ، ويصطفيك لما هو أعظم منها، كالنبوة ويبرزُ مِصْداقُ تلكَ الرُّؤَيا في عالم الشهادة إذ لا بُدَّ لكل صورة مرئية في عالم المثال حقيقة واقعة في عالم الشهادة، وإن كانت الدنيا كلها خَيَالًا. وقوله: ﴿وَيُعَلِّمُكَ﴾ كلام مستأنف غير داخل في حكم التشبيه كأنه قيل: وهو تعالى يعلمك، لأنَّ الظاهر أن يشبَّهَ الاجتباءُ بالاجتباءِ والتعليم غَيْرُ الاجتباء؛ أي: ويُعَلِّمُكَ ﴿مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ﴾؛ أي: تعبير الرؤيا وتفسيرها، والأحاديث (٢) جمع تكسير لحديث على غير قياس، وإنما سميت الرؤيا أحاديث؛ لأنها إما أحاديث الملك إن كانت صادقةً أو أحاديث النفس والشيطان إن لم تكن كذلك، وتسميتها تَأويلًا، لأنه يَؤُول أمرها إليه؛ أي: يرجع إلى ما يذكره المعبِّر من حقيقتها.
وحاصل المعنى: أي وكما أراك (٣) ربك الكواكبَ والشمس والقمرَ سجَّدًا
(١) روح البيان.
(٢) البحر المحيط.
(٣) المراغي.
318
لك، يَجْتبيك ربك لنفسه، ويصطفيك على آلك وغيرهم بفيض إلهي يكملك به بأنواع من المكرمات بلا سعيٍ منك، فتكون من المخلصين من عباده، ويعلمك من علمه اللدني تأويل الرؤيا وتعبيرها؛ أي: تفسيرها بالعبارة والإخبار بما تؤول إليه في الوجود كما حكى الله قول يوسف لأبيه: ﴿هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا﴾.
وتعليم الله تعالى يوسفَ التأويلَ إعطاؤه إلهامًا، وكشفًا لما يُرادُ أو فِراسَةً خاصة فيها، أو علمًا أعمُّ من ذلك كما يدل عليه قوله لصاحبي السجن: ﴿لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي﴾.
﴿وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ﴾ يا يوسف يجوز (١) أن يتعلَّق بقوله: ﴿يتم﴾ وأن يتعلَّق بـ ﴿نِعْمَتَهُ﴾؛ أي: بأن يضمَّ إلى النبوة المستفادة من الاجتباء الملك، ويَجْعَلُه تَتِمَّةً لها، وتوسيط التعليم لرعاية الوجود الخارجِيّ ﴿وَعَلَى﴾ كرر على ليمكن العطفُ على الضمير المجرور ﴿آلِ يَعْقُوبَ﴾ الآل (٢) وإن كان أصله: الأهل إلَّا أنه لا يستعمل إلا في الأشراف بخلاف الأهل، وهم أهله من بيته، وغيرهم، فإن رؤيةَ يوسف إخوته كواكب يُهتدى بأنوارها من نعم الله عليهم لدلالتها على مصير أمرهم إلى النبوة، فيقع كل ما يخرج من القوة إلى الفعل، إتمامًا لتِلْكَ النعمة؛ أي: ويتم (٣) نعمته عليك باجتبائه إياكَ، واصطفائك بالنبوة والرسالة والملك، وعلى أبيك، وإخوتك وذريتهم بإخراجهم من البَدْوِ وتبوئهم مقامًا كريمًا في مصر، ثم تسَلْسَل النبوة في أسباطهم حينًا من الدهر. وقوله: ﴿كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ﴾ صفة لمصدر محذوف تقديره أي: ويتم نعمته عليك إتمامًا كائنًا كإتمام نعمته على أبويك وهي نعمة الرسالة والنبوة، ﴿مِنْ قَبْلُ﴾ أي: من قبل هذا الوقت أو من قبلك. وقوله: ﴿إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ﴾ عطف بيان لأبويك، والتعبير (٤) عنهما بالأب مع كونهما أبا جَدّهِ، وأبا أبيه للإشعار بكمال ارتباطِه بالأنبياء الكرام. قال في "الكواشي": الجدُّ أب في الأصالة، يقال: فلان ابن
(١) روح البيان.
(٢) روح البيان.
(٣) المراغي.
(٤) روح البيان.
319
فلان، وبينهما عِدَّةُ آباء، انتهى. أما إتمامها على إبراهيم فباتخاذه خليلًا، وبإنجائه من النار، ومنْ ذبح الولد. وأما على إسحاق فبإخراج يعقوب، والأسباط من صلبه، وكُلُّ ذلك نعم جليلة، وقعت تتمةً لنعمة النبوة، ولا يجب في تحقيق التشبيه كون ذلك في جانب المشبَّهِ مِثل ما وقع في جانب المشبه به من كل وجه؛ أي: كما أتمَّ النِّعْمَة من قبل هذا العهد على جدك وجد أبيك. وقَدَّم إبراهيم لأنه الأشرفُ منهما. وقد قال يعقوب ذلك لما كان يَعْلَمه من وَعدِ اللَّهِ لإبراهيم باصطفاء آله، وجعل النبوة، والكتاب في ذريته، وما عَلِمه من رُؤْيَا يوسف، وأنَّهُ الحَلَقَةُ الأولى في السلسلة النبوية التي ستكون من بعده من أبنائه. ﴿إِنَّ رَبَّكَ﴾ يا يوسف ﴿عَلِيمٌ﴾ بمَنْ يستحق الاجتباء ﴿حَكِيمٌ﴾ يضعُ الأشياءَ مواضعَها، والجملة مستأنفة (١) مقررة لمضمون ما قبلَها تَعْلِيلًا له؛ أي: فَعَلَ ذلك؛ لأنه عليم حكيم. وهذا كلام من يعقوب مع ولده يُوسُفَ تعبيرًا لرؤياه على طريق الإجمال، أو علم ذلك من طريق الوحي، أو عرفه بطريق الفراسة، وما تقضيه المخايِلُ اليوسفيةُ.
والمعنى: أي إن رَبَّك (٢) يا يوسف عليم بمن يصطفيه، ومَن هو أهل للفضل، والنعمة فيُسَخِّر له الأسبابَ التي تبلغ به الغاية إلى ما يريده له، حكيم في تدبيره، فيفعل ما يشاء جريًا على سنن علمه وحكمته.
وخلاصة ما تقدم: أنَّ يعقوبَ عليه السلام فَهِمَ من هذه الرؤيا فَهْمًا جُمَلِيًّا كُلُّ ما بُشِّر به ابنه يوسف الرائي، وأمَّا كيدُ إخوته به إذا قصَّها عليهم فقد استنبطه منْ طبع وعداوة الشيطان له، ثُمَّ قَفَّى على ذلك ببشارته بما تدل عليه الرؤيا من اجتباء ربه، ومن تأويل الأحاديث، وهو الذي سيكون وسيلة بينه وبين الناس في رفعة قدره، وعلو مقامه وإتمام نعمته عليه بالنبوة والرسالة كما كان ذلك لأبويه من قبل.
(١) الشوكاني.
(٢) المراغي.
320
وعزتي وجلالي
٧ - ﴿لَقَدْ كَانَ فِي﴾ قصة ﴿يُوسُفَ﴾ بن يعقوب عليهما السلام ﴿و﴾ حكاية ﴿إخوته﴾ الأحد عشر ﴿آيَاتٌ﴾؛ أي: علامات عظيمة الشأن دالة على قدرة الله سبحانه وتعالى القاهرة، وحكمته الباهرة ﴿لِلسَّائِلِينَ﴾؛ أي (١): لكل مَنْ سأل عن قصتهم، وعَرَفها، فإنَّ كِبَار أولاده يعقوب بعدما اتفقوا على إذْلال أصغر أولاده يوسف، وفعلوا به ما فَعَلُوا قد اصطفاه الله للنبوة والملك وجعلهم خَاضِعين له منقادينَ لحكمه، وأنَّ وبَالَ حسدهم قد انقلب عليهم، وهذا مِنْ أَجَلِّ الدلائل على قدرة الله القاهرة، وحِكمتِهِ الباهرة.
والمعنى: والله (٢) لقد كان في قصة يوسفَ وإخوته لأبيه عِبَرٌ أيُّما عِبر دالةٌ على قدرة الله، وعظيم حكمته، وتوفيق أقداره، ولطفه بِمَنِ اصطفى من عباده، وتربيته لهم وللسائلين عنها الراغبينَ في معرفة الحقائق، والاعتبار بها فإنهم هم الذين يعقلون الآيات، ويستفيدُون منها.
تأمَّل يا أخي: تَرَ أنَّ إخوةَ يُوسُفَ لو لم يحسدوه لما ألقوه في غَيَابَةِ الجُبِّ، ولوْ لَم يلقوه فيها: لما وَصَلَ إلى عزيز مصر، ولو لم يعتقد العزيزُ بصادق فراسته أمَانتَهُ وصِدْقَه لما أمنه على بيته، ورزقه، وأهله، ولو لم تُراوده امرأة العزيز عن نفسه، ويستعصم منها لما ظهرَتْ نزاهته، ولو لم تَفْشَلْ في كيدها وكيد صُويْحِبَاتِهَا لَمَا ألقي في السجن، ولو لم يُسْجَن ما عرَفه ساقي مَلِك مصر، وعَرَف صدقَه، في تعبير الرؤيا، وإرشادِ مَلكِ مصر إليه، فآمَنَ به، وجعله على خزائن الأرض، ولو لم يَتَبوَّأْ هذا المَنْصِبَ ما أمكنه أن ينقذ أبَوَيْهِ وإخوتَه وأهله أجمعين من الجوع والمخمصة، ويأتي بهم إلى مصر، فيشاركوه فيما ناله من عِزٍّ وبَذخٍ ورَخَاءِ عيشٍ، ونعيم عظيم، وما من مبدأ من هذه المبادىء إلَّا كان ظاهره شرًّا مستطيرًا، ثم انْتَهَى إلى عاقبة كانت خيرًا وفوزًا مبينًا.
فتلك ضروب من آيات الله في القصة لمن يريد أن يَسْأَلَ عن أحداثها
(١) روح البيان.
(٢) المراغي.
الحسية الظاهرة، وعلومها الباطنة، كعلم يعقوب بتأويل رُؤْيَا يُوسُفَ وعِلْمِهِ بكذبهم في دعوى أكل الذئب له، ومن شَمِّهِ لرِيحِ يُوسُفَ منذ فصلت العير من أرض مصر ذاهبةً إلى أرض كَنْعَانَ، ومن رؤيةِ برهان رَبِّهِ، ومن كيد الله له ليأخذ أخاه بشرع الملك، ومن عِلْمِهِ بأنَّ إلْقَاءَ قميصه على أبيه يُعيده بصيرًا بعد عَمى بَقِيَ كثيرًا من السنين.
وقرأ مجاهد، وشِبْلٌ وأهلُ مكة، وابن كثير (١): ﴿آيةٌ﴾ علي الإفراد. وقرأ الجمهور: ﴿آياتٌ﴾. وفي مصحف أُبي: ﴿عبرةٌ للسائلين﴾ مكانَ آية.
٨ - ﴿إِذْ قَالُوا﴾؛ أي: إن في شأن يوسف وإخوته لعبرة حين قالوا؛ أي: حِينَ قال بعض العشرة لبعضهم والله ﴿لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ﴾ الشقيقُ بِنْيَامِينُ بكسر الباء وفتحها فاللام في ﴿لَيُوسُفُ﴾ موطئة (٢) للقسم كما قدرنا، أو لام الابتداء (٣)، وفيها تأكيد، وتحقيقٌ لمضمون الجملة، أرادوا أنَّ زيادة مَحَبَّتِهِ لهما أمر ثابت لا شبهة فيه، وإنما قالوا هو وأخوه، وهم إخوته أيضًا؛ لأنَّ أمَّهُمَا كانت واحدةً اسمها راحيلُ كما مرَّ فهو شَقِيقُه. والشقيق: الأخُ من الأب والأم. وقد يقال: للأخ من الأب، لأنَّه شَقَّ مَعَكَ ظهْرَ أبيك، وللأخ من الأم لأنه شق معك بطن أمك. وفي "القاموس": الشقيق كأمير الأخِ كأنه شقَّ نسَبُه من نسبه، انتهى. وإنما لم يذكر (٤) باسمه تلويحًا بأنَّ مدار المحبة إخوته ليوسف من الطرفين، الأب، والأم، فالمآل إلى زيادة الحُبِّ ليُوسُفَ ولذلك تعرضوا لقتله، وطرحه، ولم يتعرضوا لبنيامين. ﴿أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا﴾؛ أي: أكْثرَ وأزيدُ مَحَبَّةً مِنَّا عند أبينا، وإنما قالوا هذه المقالَةَ: لأنه بلَغَتْهُم خَبر الرؤية، فأجمع رأيهُم على كيده. ﴿و﴾ الحال ﴿نحن عصبة﴾؛ أي: والحال أنَّا جماعةٌ قادرون على الحل والعقد قائمون بدفع المقاصد، والآفات مشتغلون بتحصيل المنافع، والخيرات، وقائمون بمصالح
(١) البحر المحيط.
(٢) الخازن.
(٣) النسفي وغيره.
(٤) روح البيان.
322
الأب، فنحن أحِقَّاءِ بزيادةِ المحبة منهما، لفضلنا بذلك، وبكوننا أَكْبَرَ سِنًّا، وما معنى اختيار صغيرين ضعيفين على العشرة الأقوياءِ. والعصبة والعصابة: العشرة من الرجال فصاعدًا كما سيأتي في مَبْحَثِ مفردات اللغة. وإنما قيل (١): أحبُّ بالإفراد في الاثنين؛ لأن أفعلَ منْ لا يُفرَّق فيه بين الواحد وما فوقه، ولا بَيْنَ المذكر والمؤنث، ولا بُدَّ من الفرق مع لام التعريف، وإذا أُضِيفَ جَازَ الأمران كما يُعرف من محله.
والمعنى (٢): أي إنَّ في شأنهم لعبرةً حين قالوا: ليوسُف وأخوه الشقيقُ بنيامينُ أحَبُّ إلَى أَبِينَا منا فهو يفضلهما علينا بمزيد محبة على صغرهما، وقليل نفعهما، ونحن رجال أشداء أقوياء، نَقُوم بكل ما يحتاج إليه من أسباب الرزق والكفاية.
﴿إِنَّ أَبَانَا﴾ في ترجيحهما علينا في المحبة مع فضلنا عليهما، وكونهما بمعزل من الكفاية، بالصغر، والقِلَّة ﴿لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ﴾؛ أي: لفي خطأٍ بين ظاهر الحال بالنسبة إلى مصالح الدنيا، لا في الدين، وإلا لكفروا بذلك، نظروا إلى صورة يُوسُفَ، ولم يحيطوا علمًا بمعناه، فقالوا ما قالوا، ولم يعرفوا أنَّ يوسف أكبرُ منهم بحسب الحقيقة والمعنى؛ أي: إنَّ أبانا لقد أخطأ في إيثاره يوسفَ، وأخاه من أمه علينا بالمحبة، وهو قد ضَلَّ طريق العدل والمساواة ضلالًا بينًا لا يَخْفَى على أحد، فكيف يفضل غُلامَيْنِ ضعيفين لا يقومان له بخدمة نافعة على العصبة أولى القوة، والكسب، والحماية عن الذمار.
وفي الآية (٣): من العبرة وجوبُ عِناية الوَالِدَين بمداراة الأولاد، وتربيتهم على المحبة، واتقاءِ وقوع التحاسد والتباغض بينهم، واجتناب تفضيل بعضهم على بعض، بما يعده المفضول إهانةً له، ومحاباة لأخيه بِالهَوى. قال بعض (٤)
(١) النسفي.
(٢) المراغي.
(٣) المراغي.
(٤) روح البيان.
323
العارفين: مَال يعقوبُ إلى يوسفَ لظهور كمال استعداده الكليِّ في رؤياه حين رَأى أحد عشرَ كَوْكبًا والشَّمْسَ والقمرَ له ساجدين، فَعَلِمَ أبوه من رؤياه أنه يَرِث أباه وجده، ويجمعُ استعداداتِ إخْوتِهِ، فكان يضمه كل ساعة إلى صدره، ولا يَصْبِرُ عنه فتَبالَغَ حَسَدُهم حتى حَمَلَهم على التعرُّض له.
وقيل: لأنَّ اللَّهَ تعالى أَرادَ ابتِلاَءَهُ بمحبته إليه في قلبه، ثمَّ غيَّبَهُ عنه ليكون البلاء أشدَّ عليه، لغيرة المحبة الإلَهية، إذ سلطان المحبة لا يقبل الشركة في ملكه، والجمالُ والكمال في الحقيقة لله تعالى، فلا يَحْتَجِبُ أحدٌ بما سواه، ولا كيد أشدَّ من كيد الولد. ألا ترى أنَّ نوحًا عليه السلام دَعَا على الكفار فأغْرَقهم الله تعالى، فلَم يَحْتَرق قَلْبُه، فلما بلغَ وَلدُه الغرقَ صاح ولم يصبر وقال: ﴿إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي﴾. قيل: وإنما خَصَّ (١) يعقوبُ يُوسُفَ بمزيد المحبة والشفقة؛ لأنَّ أُمهُ ماتَتْ وهو صغير، أو لأنه رَأَى فيه من آيات الرشد، والنجابة ما لم يره في سائر إخوته، أو لأنه وإن كانَ صغيرًا كان يخدم أباه بأنواع من الخدمة، أعلى مما كان يَصْدُر عن سائر الأولاد.
وكان (٢) بنيامين أصْغَرَ من يُوسُفَ فكان يعقوب يحبهما بسبب صغرهما، وموتِ أمهما، وحُبُّ الصغير، والشفقةُ عليه مركوز في فطرة البشر. وقيل لابنةِ الحسن: أي ابنيك أحبُّ إليك؟ قالت: الصغيرُ حتى يَكْبَرُ، والغائبُ حتى يَقدم، والمريضُ حتى يُفِيقَ. وقد نظم الشعراء في محبة الولد الصغير قديمًا وحديثًا، ومِنْ ذلك ما قاله الوزير أبو مروان عبد الملك بن إدريس الجزيري في قصيدته التي بَعَثَ بها إلى أولاده وهو في السجن:
وَصَغِيْرُكُمْ عَبْدُ الْعَزِيزِ فَإنَّنِي أَطْوِيْ لِفُرْقَتِهِ جَوَى لَمْ يَصْغُرِ
ذَاكَ المُقَدَّمُ في الْفُؤَادِ وَإِنْ غَدَا كُفُؤًا لَكُمْ في الْمُنْتَمَى وَالْعُنْصُرِ
إنَّ الْبَنَانَ الْخَمْسَ أَكْفَاءٌ مَعًا وَالْحِلْيُ دُوْنَ جَمِيْعِهَا لِلْخِنْصَرِ
وَإِذَا الْفَتَى بَعْدَ الشَّبَابِ سَمَا لَهُ حُبُّ الْبَنِيْنِ وَلاَ كَحُبِّ الأَصْغَرِ
(١) الخازن.
(٢) البحر المحيط.
324
فإن قلت (١): والذي فَعَلَه إخوة يوسُفَ بيُوسُفَ هو محض الحسد، والحسدُ من أمهات الكبائر، وكذلك نسبةُ أبيهم إلى الضلال، هو مَحْضُ العقوق، وهو من الكبائر أيضًا، وكُلُّ ذلك قادحٌ في عصمة الأنبياء، فما الجواب عنه؟
قلت: هذه الأفعالُ إنَّمَا صدرت من إخوة يوسف قبل ثبوت النبوة لهم، والمعتبر في عصمة الأنبياء هو وَقْتُ حصول النبوة لا قبلها. وقيل: كانوا وَقْتَ هذه الأفعال مُراهِقينَ غَيْرَ بالغين، ولا تكليفَ عليهم قبل البلوغ، فعلى هذا لم تكن هذه الأفعالُ قادحة في عصمة الأنبياء، ولكنَّ هذا القول ليسَ بصحيح بدليل قولهم: ﴿يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا﴾. قال في "الكواشي" (٢): لا وَقْفَ من السائلين إلى صالحينَ؛ لأن الكلامَ جملة محكية عنهم، انتهى؛ أي: للتعلق المعنويِّ بَيْنَ مقدم الكلام، ومؤخره إلَّا أن يكونَ مضطرًا بأن يَنْقَطِعَ نَفَسُهُ، فحينئذ يجب عليه أن يَرجع إلى ما قبله، ويوصل الكلامَ بعضَه ببعض، فإن لم يفعل أثِمَ كما في بعض شروح الجزري، وقرىء: (مبين)
٩ - ﴿اقْتُلُوا يُوسُفَ﴾ بكسر وضم، والمشهورُ: الكسر وَجْهُ الضم التبعية لعين الكلمة، وهي مضمومة؛ أي: قال إخوة يوسف بعضهم لبعض اقتلوا يوسف حتى لا يَكُونَ لأبيه أمَلٌ في لقائه ﴿أَوِ اطْرَحُوهُ﴾؛ أي: أو انْبُذُوه في أرض منكورة (٣) مجهولة بعيدة عن العمران، لِيَهْلِكَ فيها أو يأكلَه السباع، وهو معنى تنكيرها وإبهامها لا أنَّ معناه أيُّ أرض كانت، ولذلك نُصِبَتْ نَصْبَ الظروف المبهمة، وهي ما لَيْسَ له حدود تحصره، ولا أقطارٌ تُحْوِيه. وفيه إشارة إلَى أنَّ التَّغْرِيبَ يُسَاوِي القَتْلَ كمَا في قوله تعالى: ﴿وَلَوْلَا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلَاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا﴾؛ أي: اطرحوه في أرض بعيدة عن العمران بحيث لا يهتدي إلى العودة إلى أبيه، إنْ هو سَلِمَ من الهلاك. ﴿يَخْلُ﴾ على الجزم في جواب الأمر؛ أي: يَخْلُص ﴿لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ﴾ من شغله بيوسف، فيقبل عليكم بكليته، ولا يَلْتَفِتْ عنكم إلى غيركم، وتتوفر محَبَّتُه فيكم، فَذِكْرُ الوجه لتصوير معنى إقبالِه عليهم؛ لأن الرجل إذا أقبل على الشيء أقبل بوجهه؛ ويجوز أن يُرادَ
(١) الخازن.
(٢) روح البيان.
(٣) روح البيان.
بالوجه الذات؛ أي: يَخْلُ (١) لكم وجه أبيكم من شغله بيُوسُفَ، فيكن كل توجهه إليكم، وكُل إقباله عليكم بعد أن تخلو الديار ممن يَشْغَلُهُ عنكم ويشارككم في عطفه وحبه، ﴿وَتَكُونُوا﴾ بالجزم عطفًا على يخل ﴿مِنْ بَعْدِهِ﴾ أي من بعد الفراغ من أمره؛ أي: وتكونوا من بعد قتله أو تغريبه في أرض بعيدة ﴿قَوْمًا صَالِحِينَ﴾ صَلُحَتْ حالكم عند أبيكم، أو تائبين إلى الله مما جئتم به، مُصْلِحِين لأعمالكم، بما يكفر إثمها مع عدم التصدِّي لمثلها، وبذا يَرْضَى عنكم أبوكم، ويرضى عنكم ربكم.
١٠ - ﴿قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ﴾؛ أي: من إخوة يوسف، وهو يهوذا. وقال قتادة: هو روبيل، وهو ابن خالته، وكَانَ أكْبَرُهُم سِنًّا، وأحسنهم رَأْيًا فيه. ﴿لَا تَقْتُلُوا يُوسُفَ﴾ نهاهم عن قتله، وقال: القتل كبيرة عظيمة، والأصح أنَّ قائلَ هذه المقالة هو: يهوذا؛ لأنه كان أقربهم إليه سِنًّا. ﴿وَأَلْقُوهُ﴾؛ أي: اطرحوا يُوسُفَ ﴿فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ﴾؛ أي: في أسفل الجب، والبئر، وقعرها، وظلمتها، والغيَابَةُ: كل موضع سَتَرَ شَيْئًا، وغَيَّبَهُ عن النظر، والجُبُّ: البئرُ الكبيرة غير مطوية بالحجارة. سُمِّيَ بذلك، لأنه جُبَّ: أي: قطع، ولم يطو، وغيابته: ما يغيب عن رؤية البصر من قعره. وأفاد ذكر الغيابةَ مع ذكر الجب أن المشيرَ أشار بطرحه في موضع من الجبِّ مظلم لا يراه أحد. وقرأ (٢) الجمهور: ﴿غَيابة﴾ على الإفراد، ونافع: ﴿غيابات﴾ على الجمع، وابن هرمز: ﴿غَيَّابَاتٍ﴾ بالتشديد والجمع؛ وقرأ الحسن: (في غَيبَةِ) على صيغة المصدر. واختلفوا (٣) في مكان ذلك الجب. فقال قتادة هو: بئرُ بيت المقدس، وقال وهب: هو في أرض الأُردن على ثلاثة فراسخ من منزل يعقوب، وقيل: بين مدين، ومصر، وإنما عَيَّنوا ذلك الجُبِّ للعلةِ التي ذكروها، وهي قولهم: ﴿يَلْتَقِطْهُ﴾. وقرأ الحسن، ومجاهد، وقتادة، وأبو رجاء: ﴿تلتقطه﴾ بتاء التأنيث أنث على المعنى؛ أي: تأخذه على وجه الصيانة من الضياع والتلف. فإن الالتقاط أخذ شيء مشرف على الضياع. {بَعْضُ
(١) المراغي.
(٢) البحر المحيط.
(٣) الخازن.
326
السَّيَّارَةِ}؛ أي: بعض طائفة تسير في الأرض. والسيارة جماعة المسافرين الذين يسيرون في الأرض من مكان إلى آخر للتجارة أو غيرها، وذلك أنَّ هذا الجبَّ كَانَ مَعروفًا يرد عليه كثير من المسافرين؛ أي: يأخذه بعض المسافرين، فيذهب به إلى ناحية أخرى، فتستريحون منه ﴿إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ﴾ بمشورتي، ولم يقطع القول عليهم، بل إنما عَرَضَ عليهم ذلِكَ تَأْلِيفًا لقلبهم، وحذرًا من نسبتهم له إلى الافتيات؛ أي: الاستبداد، والتفرد به. وفيه (١): إشارة إلى ترك الفعل، فكَأنَّه قال: لا تَفْعَلُوا شيئًا من ذلك، وإن عزمتم على إزالتِهِ من عند أبيه ولا بُدَّ فَافْعَلُوا هذا القدرَ؛ أي: إلقاءَه في البئر، والأولى أن لا تفعلوا شيئًا من القتل والتغريب.
وحاصل المعنى (٢): أي: قال قائل منهم: وهو رُوبيل، أو يهوذا، لا تقتلوا يوسفَ، وألقوه في قعر البئر، حيث يَغِيبُ خبره، فيلتقطه بعض المسافرين، ويأخذوه إلى حيث ساروا في الأقطار البعيدة، وبذا يَتِمُّ لكم ما تريدون، وهو إبعاده عن أبيه، إن كنتم فاعلينَ ما هو المقصدُ لكم بالذات إذ لا شكَّ أن قَتْلَهُ لا يَعْنيكم لذاته، فَعَلام تُسْخِطُون خَالِقَكُم باقتراف جريمة القتل، والغرض يَتِمُّ بدونها.
قال محمَّد بن إسحاق (٣): اشتمل فِعْلُهُم هذا على جرائمَ كثيرةً من قطيعة الرحم، وعقوق الوالدين، وقلة الرأفة بالصغير الذي لا ذنب له، والغدر بالأمانة، وترك العهد، والكذب مع أبيهم، وعفا الله عن ذلك كُلِّه، حتى لا ييأس أحدٌ من رحمة الله تعالى. وقال بعض أهل العلم: عَزَمُوا على قتله، وعَصَمَهُم الله تعالى رحمةً بهم، ولو فعلوا ذلك لَهَلَكُوا جميعًا، وكل ذلك كَانَ قَبْلَ أنْ نَبَّأهم اللَّهُ تعالى كما مر. فانظر إلى هؤلاء الإخوان الذين أَرْحَمُهُم له لا يَرْضى إلا بإلقاء يوسف في أسفل الجب، وهكذا إخوانُ الزمان، وأبناؤُه، فإنَّ ألسنتهم دائرة بكل شر، ساكتةٌ عن كل خير.
فلما أجمعوا على التفريق بين يوسف، وبين والده بضرب من الحِيَل،
(١) المراح.
(٢) المراغي.
(٣) الخازن.
327
١١ - ﴿قَالُوا﴾؛ أي: قال إخْوَةُ يُوسُفَ لأبيهم يعقوب ﴿يَا أَبَانَا﴾ خاطبوه بذلك تحريكًا لسلسلة النسب بينه وبينهم، وتذكيرًا لرابطة الأخوة بينهم وبين يوسف، ليتَسَبَّبُوا بذلك إلى استنزاله عن رأيه في حفظه منهم، لما أحسَّ منهم بأمارات الحسد والبَغْيِ، فكأنهم قالوا: ﴿مَا لَكَ لَا تَأْمَنَّا﴾؛ أي: أي عُذْر لك في ترك الأمن؛ أي: في الخوف ﴿عَلَى يُوسُفَ﴾ مع أنك أبونا، ونحن بنوك، وهو أخونا. وجملة قوله: ﴿لَا تَأْمَنَّا﴾ حال من معنى الفعل في ﴿مَا لَكَ﴾ كما تقول: ما لك قائمًا بمعنى: ما تصنع قائمًا. والاستفهام فيه للاستخبار والتقرير.
وهذا الكلام مبني على مقدمات محذوفةٍ، وذلك أنهم قالوا أوَّلًا لِيُوسُفَ اخْرُج معنا إلى الصحراءِ إلى مواشينا، فنستبق ونَصيدُ، وقالوا له: سَلْ أباك أن يُرْسِلَكَ معنا، فسأله فتوقف يعقوبُ فقالوا له: ﴿يَا أَبَانَا مَا لَكَ لَا تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ﴾؛ أي: أي شيء ثَبَتَ لكَ لا تَجْعَلُنا أُمَنَاءَ عليه مع أنه أخونا، وأنك أبونا، ونحن بَنُوكَ ﴿و﴾ الحال ﴿إنا له لناصحون﴾؛ أي: لعاطفون عليه، قائمون بمصلحته، وبحفظه؛ أي: هم أظهروا عند أبيهم، أنهم في غاية المحبة ليوسف، وفي غاية الشفقة عليه، والجملة حال من مفعول ﴿لَا تَأْمَنَّا﴾؛ أي: والحال إنَّا لمريدون له الخير، ومشفقون عليه، ليس فينا ما يخلُّ بالنصيحة والمِقَةِ. وقرأ (١) زيد بن علي، وأبو جعفر، والزهري وعمرو بن عبيد، بإدغام نون (تأمن) في نون الضمير من غير إشمام. وقَرأ الجمهور بالإدغام والإشمام للضم، وعنهم إخفاء الحركة فلا يَكُونُ إدغامًا مَحْضًا. وقرأ ابن هرمز بضم الميم فتكون الضمة منقولَةٌ إلى الميم من النون الأولى بعد سلب الميم حركتَها، وإدغام النون في النون. وقرأ أُبي والحسنُ وطلحةُ بن مصرف، والأعمش: (لا تأمننا) بالإظهار، وضم النون على الأصل، وخط المصحف بنون واحدة. وقرأ ابن وثاب، وأبو رَزِين شذوذًا: (لا تِيْمُنَّا) على لغة تميم، وسَهَّل الهمزةَ بعد الكسرة ابن وثاب.
١٢ - وفي قوله: ﴿أَرْسِلْهُ﴾ دليل على أنه كان يمسكه ويصحبه دائمًا؛ أي: أرسله ﴿مَعَنَا غَدًا﴾ إلى الصحراء ﴿يَرْتَعْ﴾؛ أي: نتسع في أكل الفواكه، ونحوها؛ فإنَّ
(١) البحر المحيط.
328
الرَّتْع هو الاتساع في الملاذِّ ﴿وَيَلْعَبْ﴾ بالاستباق، والانتضال تمرينًا لقتال الأعداءِ وبالإقدام على المباحات، لأجل انشراح الصدر لا للهو، وإنما سموه لعبًا لكونه على صُورته. قال (١) أبو الليث: لم يريدوا به اللعبَ الذي هو منهي عنه، وإنما أرادوا به المطايبة في المزاج في غير مأثم. وفيه دليل على أنه لا بأس بالمطايبة والتفرج. ﴿وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾ من أَنْ يَنَالَهُ مكروه؛ أي: نجتهد في حفظه غَايَةَ الاجتهاد حَتَّى نرده إليك سالمًا.
والمعنى (٢): أي أرسله مَعَنَا غَدَاةَ غدٍ حين نخرج كعادتنا إلى المَرْعَى في الصحراء، يشاركنا في الرياضة والأنس والسرور، وأكل الفواكه، والبقول، وغيرهما مما يَطِيبُ، وقد كان أكثر لعب أهل البادية السباقَ، والصراعَ والرَّمْىَ بالعصا، والسهام إن وجدت، وإنا لحافظوه من كل أذى يُصيبه. وقرأ (٣) الجمهور: ﴿يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ﴾ بالياء والجزم. وابن عامر، وابن كثير، وأبو عمرو بالنون، والجزم وكسر العين الحرميان، نافع وابن كثير. واختلف عن قنبل في إثبات الياء وحَذفِها. وروي عن ابن كثير: ﴿ويلعب﴾ بالياء وهي قراءةُ جعفر بن محمَّد. وقرأ العلاء بن سيابة: ﴿يرتع﴾ بالياء، وكسر العين مجزومًا محذوفَ اللام ﴿وَيَلْعَبْ﴾ بالياء، وضمَّ الباء خَبرَ مبتدأ محذوف؛ أي: وهو يلعبُ. وقرأ مجاهد، وقتادة، وابنُ مُحَيْصِن بنون مضمومة مأخوذ من أرتعنا، ﴿ونَلْعَب﴾ بالنون وكذلك أبو رجاء إلا أنه بالياء فيهما ﴿يرتع ويلعب﴾ والقراءتان على حذف المفعول أي يرتع المواشي شيء أو غيرها، وقرأ النخعي ﴿نرتع﴾ بنون ﴿ويلعب﴾. بياء بإسنادِ اللعب إلى يوسف وحدَه لصباه، وكذلك جاء عن أبي إسحاق ويعقوب. وكل هذه القراءات الفعلان فِيهَا مبنيان للفاعل. وقرأ زيد بن علي: ﴿يُرْتَع ويُلْعَب﴾ بضم الياءين مبنيًّا للمفعول، ويخرِّجها على أنه أضمر المفعول الذي لم يُسَمَّ فاعله، وهو ضمير غَدٍ، وكان أصله يرتع فيه، ويلْعَبُ فيه، ثم حذفَ واتسعَ فعُدِّيَ الفِعْلُ للضمير، فكان التقدير: يرتَعُهُ ويلعَبُهُ، ثمّ بَنَاهُ للمفعول فاستكن الضمير الذي كَانَ
(١) روح البيان.
(٢) المراغي.
(٣) البحر المحيط.
329
منصوبًا لكونه ناب عن الفاعل.
١٣ - ﴿قَالَ﴾؛ أي: قالَ يَعْقُوبُ مُجِيبًا لهم: ﴿إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا﴾؛ أي: لَيُؤْلِمُ قَلْبي ذَهابُكُم به؛ لأني لا أصْبِرُ عنه ساعة ﴿وَأَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ﴾ لكثرة الذئب في تلك الأرض ﴿وَأَنْتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ﴾ لاشتغالكم بالاتساع في الملاذ وبنحو التناضل.
واللام (١) في قوله: ﴿لَيَحْزُنُنِي﴾ لام الابتداء، فإن قيل: لام الابتداء تُخَلِّصُ المضارعَ للحال عند جمهور النحاة، والذهابُ ههنا مستقبل، فيلزم تقدم الفعل على فاعله، مع أنه أَثَرُه.. قلنا: إنَّ التَّقْدِيرَ قصد أن تذهبوا به، والقصد حال، أو تصورُ ذَهابكم، وتوقعه، والتصور موجود في الحال، كما في العِلَّةِ الغائية، والحزن ألم القلب بفوت المحبوب، والخوف انزعاجُ النفس لنزول المكروه، ولذلك أسند الأولَ إلى الذهاب به المفوِّت لاستمرار مصاحبته، ومُوَاصلته ليوسف. والثاني: إلى ما يتوقع نزوله من أكل الذئب.
ورُوِي أنَّه رأى في المنام كأنه على رأس جبل، ويوسف في صحراء فَهَجَمَ عليه أحد عَشَرَ ذِئْبًا، فغاب يُوسُفُ بينهن، ولذا حَذَّرَهم من أكل الذئب، ومَع ذلك فَقد دَفَعَهُ إلى إخوته؛ لأنه إذا جاء القَدَرُ عَمِيَ البَصَرُ.
والحاصل (٢): أن يعقوبَ اعتذرَ لهم بشيئين:
أحدهما: عاجل في الحال، وهو ما يَلْحَقه من الحزن لمفارقته، وكان لا يصبر عَنْهُ.
والثاني: خوفه عليه من الذئب إنْ غفلوا عنه برعيهم ولعبهم، أو بقلَّةِ اهتمامهم بحفظه، وعنايتهم، فيأكله ويَحْزُن عليه الحُزْنَ المؤبَّد. وخصَّ الذِّئبَ لأنه كان السَّبُع الغالب على قطره، أو لصِغَر يُوسُفَ، فخافَ عليه هذا السَّبعَ الحقير، وكان تنبيهًا على خوفه عليه، ما هو أعظم افتراسًا ولحقارة الذئب، خصَّهُ الربيع بن ضبع الفزاري في كونه يَخْشَاهُ لَمَّا بَلَغَ مِنَ السِّنِّ:
(١) روح البيان.
(٢) البحر المحيط.
وَالذِّئْبُ أَخْشَاهُ إِنْ مَرَرْتُ بِهِ وَحْدِيْ وَأَخْشَىُ الرِّيَاحَ وَالْمَطَرَا
وكأنَّ يعقوبَ بقوله: ﴿وَأَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ﴾ لقنهم ما يقولونَ من العذر إذا جاؤُوا، وليس معهم يوسف فلقنوا ذلك، وجعلوه عُدَّةً للجواب. وقرأ زيد بن علي: ﴿تَذْهَبُوا بِهِ﴾ من أذهبَ الرباعي وخرِّج على زيادة باء به كما خرَّج بعضهم ﴿تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ﴾ في قراءة مَنْ ضَمَّ التاء وكَسر الباءِ؛ أي: تنبت الدهنَ وتذهبوه. وقرأ الجمهور: ﴿الذِّئْبُ﴾ بالهمز، وهي لغة الحجاز. وقرأ الكسائي وورش، وحمزة إذا وَقف بغير همز. وقَالَ نصرُ: سمعت أبا عَمرو لا يُهْمِزُ.
١٤ - ﴿قَالُوا﴾؛ أي: قال إخوة يوسف لأبيهم، والله ﴿لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ﴾؛ أي: لئن أكَلَ يوسفَ الذئب، واختَطَفَهُ من بيننا في الصحراء ﴿وَنَحْنُ عُصْبَةٌ﴾؛ أي: والحال إنَّا جماعة شديدةُ البأس، عشرة رجال تُكْفى بنا الخطوب، وتُدْفَع بنا مهمات الأمور ﴿إِنَّا إِذًا﴾؛ أي: إذ عَجَزْنَا عن حفظ أخينا ﴿لَخَاسِرُونَ﴾؛ أي: لهالكون (١) ضَعْفًا، وخورًا، وعجزًا، ولا غناءَ عندنا، ولا نَفْعَ ولا ينبغي أن يعتدَّ بِنَا، ويُرْكَنَ إلينا. وفي "الكواشي": مغبونون بترك حرمة الوالد، والأخ، وإنما اقتصروا على جواب خوفه على يوسف من أكل الذئب، ولم يجيبوا عن الاعتذار الأول الذي هو الحُزْنُ لأنه السبب القوي في المنع دونَ الحُزْنِ لِقِصَرِ مدَّته، بناء على أنهم يأتون به عن قَرِيبٍ.
وعن بعض الصحابة رضي الله عنهم أنه قال: لا ينبغي للرجل أن يلقن الخصم الحجةَ؛ لأنَّ إخوةَ يُوسُفَ كَانُوا لا يعلمونَ أنَّ الذِّئْبَ يأكل الناسَ، إلى أن قالَ ذلك يعقوب، ولقنهم العلة في كيد يوسف. وفي الحديث: "البلاء مُوكَّلٌ بالمنطق، ما قال عبد لشيءٍ والله لا أفعله، إلَّا تَرَك للشيطان كل شيء فَولِعَ حتى يُوشِمَه". يُحْكَى أنَّ ابنَ السِّكِّيت من أئمة اللغة جَلَس مع المتوكل يومًا فجاء المعتزُّ والمؤيد ابنا المتوكل، فقال: أيهما أحبُّ إليك ابناي أم الحَسَنُ والحُسَيْنُ؟ قال: والله إنَّ قنبر خَادِمَ عليٍّ رضي الله عنه خَيرٌ منك، ومن ابنَيْك، فقال: سلوا
(١) روح البيان.
لِسَانه منْ قفاه، ففَعَلوا، فمات في تلك الليلة. ومِنَ العَجَبِ أنه أنشد قَبْلَ ذلك إلى المعتزِّ والمؤيد، وكان يعلِّمُهما فقال:
يُصَابُ الْفَتَى مِنْ عَثْرَةٍ بِلِسَانِهِ ولَيْسَ يُصَابُ الْمَرْءُ مِنْ عَثْرَةِ الرِّجْلِ
فَعَثْرَتُهُ فِيْ الْقَوْلِ تَذْهَبُ عَثْرَتُه وَعَثْرَتهُ في الرِّجْلِ تَبْرَأ عَلَى مَهْل
١٥ - قوله: ﴿فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ﴾ مرتب على محذوف تقديره: ولما رَأَى يعقوب إلحاحَ إخوة يوسف في خروجه معهم إلى الصحراء، ومبالغتهم في العهد، واليمين، ورَأَى أيضًا ميل يوسف إلى التفرج، والتنزه معهم رضِيَ بالقضاء، فأرسله معهم. وهذا (١) المقدر معطوف على قوله سابقًا: ﴿أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَدًا يَرْتَع﴾ إلخ. قال الحسن: كان بين خروج يُوسُفَ من حجر أبيه إلى يوم التلاقي ثَمانُون سنة، لم تجفَّ فيها عَيْنا يعقوب، وما على الأرض أكْرَمُ على الله منه، اهـ خازن؛ أي: فلمَّا ذهبوا به من عند يعقوب ﴿وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ﴾؛ أي: عَزَمُوا، واتفقوا على أن يلقوه ﴿فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ﴾؛ أي: في قَعْرِ البئر، وأسفلِه، وظلمته. وكان (٢) على ثلاثة فراسخَ من منزل يعقوب بكنعان، التي هي من نواحي الأردن، حَفَره شداد حين عَمَر بلاد الأردن، وكَانَ أعلاه ضَيِّقًا، وأسفله وَاسِعًا. وجواب (لمَّا) محذوف تقديره: فعلوا به ما فعلوا من الإذاية. وقيل: جوابه: ﴿قَالُوا يَا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ﴾. وقيل: يكون تقدير الجواب جَعَلُوه فيها. وقيل: الجوابُ: ﴿وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ﴾ و ﴿الواو﴾ مقحمة ومثلُه قَوْلُه: ﴿فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (١٠٣) وَنَادَيْنَاهُ﴾؛ أي: ناديناه ﴿وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ﴾؛ أي: وأوحينا إلى يوسف في الجب إزالةً لوحشته عن قلبه، وتبشيرًا له بما يؤول إليه أمره، وكَانَ ابنَ سبع سنين أو دونها. فاجتمع (٣) مع كونه صغيرًا على إنزال الضرر به، عشرة رجال من إخوته بقلوب غليظة، قد نُزِعَتْ عنها الرحمة، وسلِبَتْ منها الرأفة، فإنَّ الطبعَ البشريَّ - دَعْ عنْكَ الدِّينَ - يتجاوز عن ذنب الصغير، ويغتفره لضعفه عن الدفع، وعَجْزِه عن أيسر شيء يُرادُ
(١) الفتوحات.
(٢) روح البيان.
(٣) الشوكاني.
332
منه، فكَيْفَ بِصغيرٍ لا ذنبَ له، بل كيف بصغير هو أخٌ وله ولهم أب مثل يعقوب. فلقد أبعد مَن قال: إنهم كانوا أنبياءَ في ذلك الوقت فما هكذا عَملُ الأنبياءِ ولا فعل الصالحين.
وفي هذا (١) دليل على أنه يجوز أن يوحِي الله إلى مَنْ كانَ صغِيرًا ويعطيه النبوةَ حينئذ كما وَقَع في عيسى، ويحيى بن زَكَرِيا.
وقد قيل: إنه كان في ذلك الوقت قد بَلَغَ مبالغ الرجال، وهو بعيد جدًّا، فإن من كان قد بَلَغَ مبالِغَ الرجال لا يُخَاف عليه أن يَأْكُلَه الذِّئْبُ.
﴿لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا﴾؛ أي: وعزتي وجلالي لتخبرن يا يوسف إخْوَتَك بصنيعهم هذا الذي فعلوه بك، بعد خُلُوصِكَ مما أرادوه بك من الكيد، وأنزلوه عليك من الضَّرَر. وجملة قوله: ﴿وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ﴾ في محل النصب على الحال من ضمير الغائبين في ﴿لَتُنَبِّئَنَّهُمْ﴾؛ أي: والحال أنهم لا يشعرون بأنك أخوهم يوسف، لاعتقادهم هلاكك بإلقائهم لك في غيابة الجب، ولبعد عهدهم بِك، ولكونك قد صرت عند ذلك في حال غير ما كنت عليه أولًا، وخلاف ما عهدوه منك. وسيأتي ما قاله لهم عند دُخولِهم عليه بَعْدَ أنْ صَارَ إليه ملك مِصْرَ. والمقصود مِن هذا الإيحاء تقويةُ قَلْبِهِ بأنه سَيَحْصُل له الخَلاص عن هذه المحنة، ويَصِيرُونَ تَحْتَ قهره وقدرَتهِ.
والمعنى (٢): أي فلما ذَهَبَ به إخوته من عند أبيه بعد مُرَاجعتهم له، وقد عَزَموا عَزْمًا إجماعِيًّا، لا تردُّدَ فيه على إلقائه في غيابة الجب، نفَّذُوا ذلِكَ، وحينئذ أوحينا إليه، وحيًا إلهاميًّا تطييبًا لقلبه، وتثبيتًا لنفسه، لا تَحْزَنْ مِمَّا أنتَ فيه، فإنَّ لك من ذلك فرجًا ومخرجًا حسنًا، وسينصرك الله عليهم، ويرفع درجَتك، وستخبرهم بما صنعوا وهم لا يشعرونَ بأنك يوسف. وقرأ (٣) الجمهور: ﴿لتنبئنهم﴾ بتاء الخطاب. وابن عمر بياء الغيبة. وكذا في بعض مصاحفِ
(١) الشوكاني.
(٢) المراغي.
(٣) البحر المحيط.
333
البصرة. وقرأ سَلَّام بالنون.

فصل في ذكر قصة ذهابهم بيوسف عليه السلام (١)


قال وهبٌ وغيرَهُ من أهل السيَرِ والأخبار: إنَّ إخْوَةَ يُوسُفَ قالوا له: أما تشتاقُ أن تخرج معنا إلى مواشينا، فنَصِيد، ونستبقَ؟ قال: بلى، قالوا له: أنسأل أبَاكَ أن يرسلكَ معنا؟ قال يوسف: افعلوا، فدخلوا بجماعتهم على يعقوب، فقالوا: يا أبانا إنَّ يُوسُفَ قد أحبَّ أن يخرج معنا إلى مَوَاشِينا، فقال يعقوب: ما تقول يا بنيَّ؟ قال: نعم يا أبت إني أرى من إخْوَتي اللِّين، واللُّطْفَ، فأحب أن تأذن لي، وكان يَعْقُوبُ يكره مُفَارَقتَهُ، ويحب مرضاتَهُ فأَذِنَ له، وأرْسَلَهُ معهم.
فلمّا خَرَجُوا من عند يَعْقُوب، جعلوا يَحْمِلُونَه على رقابهم، ويَعْقُوبُ ينظر إليهم، فلما بعدوا عنه، وصَارُوا إلى الصحراء أَلْقَوْهُ على الأرض، وأظهروا له ما في أنْفُسِهم من العداوة، وأَغْلَظوا له القَوْل، وجعلوا يضربونه. فجَعَل كلَّما جاء إلى واحد منهم، واستغاث به ضَرَبه. فلمَّا فَطِنَ لما عزموا عليه من قتله جعل يُنادِي يا أبتَاه يا يعقوبُ، لو رأيتَ يُوسُفَ، وما نزل من إخوته، لأحْزَنَكَ ذلك، وأبكاك يا أبتاه ما أسْرَعَ ما نسُوا عَهْدَك، وضيَّعوا وصيَّتَك، وجعل يبكي بُكاءً شديدًا. فأَخَذَهُ روبيل وجَلَد به الأرضَ، ثم جَثَمَ على صدره، وأراد قَتْلَه فقال له يوسف: مهلًا يا أخي لا تَقْتُلني. فقال له: يا ابنَ راحيل أنت صاحبُ الأحلام، قل لرؤياك تخلِّصُك من أيدينا، ولَوَى عنقه، فاستغاث يوسف بيهوذا، وقال له: اتق الله فِيَّ وحل بيني وبينَ مَنْ يريد قتلي. فأدركته رحمة الأخوة ورَقَّ له، فقال يهوذا: يا إخوتي ما على هذا عاهدتموني ألا أدلكم على ما هو أَهونُ لكم وأرفقُ به؟ فقالوا: وما هو؟ قال: تلقونه في هذا الجبِّ إمَّا أنْ يَمُوتَ أو يلتقِطه بَعْضُ السيارة، فانطلقوا به إلى بئر هناك على غير الطريق، واسع الأسفل ضيق الرأس، فجعلوا يدلونه في البئر فتعَلَّقَ بشفيرها، فرَبطُوا يديه، ونَزعوا قَمِيصَهُ. فقال: يا إخوتاه ردوا عليَّ قميصي لأستتر به في الجبِّ، فقالوا: اُدْعُ الشمسَ والقمرَ
(١) الخازن.
334
والكواكبَ تخلصكَ، وتؤنِسُك. فقال: إني لم أرَ شيئًا، فألقوه فيها، ثُمَّ قال: يا إخوتاه أتدعوني فيها فريدًا وحيدًا. وقيل: جعلوه في دلو ثمَّ أرسلوه فيها. فلمَّا بَلَغَ نصفَها ألقوه إرادةَ أن يموت، وكان في البئر ماءٌ فسَقَطَ فيه، ثم آوى إلى صخرة كانت في البئر، فقام عليها. وقيل: نزل عليه مَلَكٌ فحَلَّ يديه، وأَخْرَج له صخرةً من البئر فأجلسه عليها. وقيل: إنهم لما ألقوه في الجبِّ جَعَل يبكي فَنَادَوْهُ، فظن أنَّها رحمة أدركتهم، فأجابهم، فأرادوا أن يرضخوه بصخرة ليقتلوه فمَنَعهم يهوذا من ذلك، وقيل: إنَّ يعقوبَ لما بعثه مع إخوته أَخْرَجَ له قميص إبراهيم، الذي كساه الله إياه من الجنة، حين أُلقِيَ في النار، فجعله يعقوب في قصبة فضةٍ، وجعَلَها في عنق يوسف، فألبسه الملك إياه حينَ ألقِي في الجُبِّ فأضاءَ له الجُبَّ. وقال الحَسنُ: لمَّا ألقِيَ يُوسَفُ في الجب عذبَ ماؤُه، فكان يكفيه عن الطعام والشراب، ودَخَلَ عليه جبريل فأَنِسَ بِهِ. فلمَّا أمسى نهض جبريلُ ليذهب، فقال له: إذا خَرَجْتَ استَوْحَشْتُ. فقال له: إذا رهبتَ شيئًا فقل: يا صريخ المستصرخِين، ويا غَوثَ المستغيثين، ويا مفرِّج كرب المكروبين، قد ترى مكاني، وتعلم حالي، ولا يخفى عليك شيءٌ من أمري. فلما قالها يوسف حفَّته الملائكة، واستأنس في الجُبِّ.
وقال محمَّد بن مسلم الطائِفيّ: لما ألقي يوسف في الجُب قال: يا شاهدًا غَيْرَ غائب، ويا قريبًا غير بعيد، ويا غالِبًا غير مغلوب، اجعل لي فرجًا مما أنا فيه، فما بات فيه. وقيل: مكث في الجبِّ ثلاثَةَ أيَّامٍ، وكان إخْوَتُه يَرْعَوْنَ حَوْلَهُ، وكان يهوذا يأتيه بالطعام. وقيل (١): عَلَّم جبريلُ يوسفَ هذا الدعاء، أي في البئر: "اللهم يا كاشفَ كل كربة، ويا مجيبَ كل دعوة، ويا جابرَ كل كسير، ويا ميسرَ كل عسير، ويا صاحِبَ كل غريب، ويا مؤنس كل وحيد، يا من لا إلَه إلا أنت سبحانَكَ، أسألك أن تجعل لي فرجًا ومخرجًا، وأن تَقْذِفَ حُبَّكَ في قلبي حتى لا يكون لي هم ولا ذكر غيرك، وأن تَحْفَظني وترحمني يا أرحم الراحمين".
(١) روح البيان.
335
وقال بعضهم: سَبَبُ ابتلاء يعقوبَ بفراق يوسف ما روي في الخبر أنه ذَبَح جَدْيًا بَيْنَ يدي أُمِّهِ فلم يَرْضَ اللَّهُ تعالى ذلك منه، وأَرَى دمًا بدم، وفرقةً بفرقة، لعظمةِ احترام شأن النبوة، ومن ذلك المقام: حسناتُ الأبرار سيئاتُ المقربين.
وقال بعضهم (١): لما وُلِدَ يوسُفُ اشترى يعقوب له ظئرًا، وكان لها ابن رضيع، فباع ابْنَها تكثيرًا لِلَّبَنِ على يوسف، فبكَتْ وتضرَّعَت، وقالت: يا رب إنَّ يعقوبَ فَرَّق بيني وبين ولدي، ففرق بينه وبين ولده يوسف، فاستجاب الله دعاءها فلم يَصِلْ يعقوب إلى يُوسُفَ إلا بعد أن لَقِيَتْ تلك الجارية ابنَها. هذا بالنسبة إلى حال يعقوب وابتلائه، وأمَّا بالنسبة إلى يوسف، فقد حكي أنه أخَذ يومًا مرآةً فنظر إلى صورته، فأَعْجَبَه حسنه، وبهاؤه، فقال: لو كنتُ عَبْدًا فباعوني لما وجد لي ثمن، فابتليَ بالعبودية، وبِيعَ بثمن بَخْسٍ، وكان ذلك سببَ فِرَاقِهِ من أبيه. وفيه إشارة إلى أنَّ الجَمَال والكمالَ كلَّه لله تعالى.
١٦ - ﴿و﴾ لَمَّا طرحوا يوسف في الجب ﴿جاءوا أباهم عشاء﴾؛ أي: رَجَعُوا إلى أبيهم، وَقْتَ العشاء في ظُلمة الليل، لِيَكُونُوا في الظلمة أجرأ على الاعتذار بالكذب. فَلَمَّا بَلَغُوا مَنْزِلَ يَعْقُوب جَعَلُوا ﴿يَبْكُونَ﴾؛ أي: يَتَبَاكَوْن ويصرخون لأنهم لم يبكوا حقيقةً بل فعلوا فِعْلَ من يبكي ترويجًا لكذبهم، وتَنْفِيقًا لمكرهم، وغَدْرِهِم، فسمع أصواتَهم، ففَزعَ من ذلك، وقال: ما لكم يا بنيَّ هل أصابكم في غَنمِكم شيء؟ قالوا: الأمرُ أعظمُ، قال: فما هو؟ وأينَ يوسف؟
١٧ - ﴿قَالُوا يَا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا﴾ حالةَ كونِنَا ﴿نَسْتَبِقُ﴾؛ أي يسابقُ بَعْضُنَا بعضًا في الرمي، أو العَدْوِ. وقيل: ننتضل (٢) ويؤيده قراءةُ ابن مسعودَ: ﴿ننتضل﴾. قال الزجاج: وهو نوعٌ من المسابقة. وقال الأزهري: النضالُ في السهام، والرِّهانُ في الخيل، والمسابقةُ تجمعهما. قال القشيري: ﴿نستبق﴾؛ أي: في الرمي أو على الفرس، أو على الأقدام. والغرض من المسابقة التدرب بذلك للحرب. ﴿وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِنْدَ مَتَاعِنَا﴾؛ أي: عند ثيابنا، وأزوادنا لِيَحْرُسَها ﴿فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ﴾ عَقِبَ ذلك من غير
(١) روح البيان.
(٢) الشوكاني.
336
مضي زمان يعتاد فيه التفقدُ والتعهدُ؛ لأنَّ الفاءَ للتعقيب، وقد اعتذروا إليه بما خَافَه سابقًا عليه، ورُبَّ كلمة تقول لصاحبها دَعْنِي ﴿وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا﴾؛ أي: بِمُصَدِّقٍ لنا في هذا العذر الذي أبدينا، والمقالة التي قُلْنَاها ﴿وَلَوْ كُنَّا﴾ عندك أو في الواقع ﴿صَادِقِينَ﴾؛ أي موصوفين بالصدق، والثقة لِمَا قَدْ عَلِقَ بقلبك من التهمة لنا في ذلك مع شدة محبتك له. قال الزجاج: والمعنى: ولو كنَّا عندك من أهل الصدق، والثقة ما صدَّقتنا في هذه القضية لشدة محبتك ليوسف، وكذا ذكره ابن جرير.
فائدة: والفرق (١) بين الصدق والتصديق: والكذب والتكذيب: أنَّ الصدق: هو الإخبارُ عن الشيء على ما هو به. والكذب: الإخبارُ عنه على خلاف ما هو به. والتصديق باللسان: الإخبارُ بكون القائل صادقًا، وبالقلب: الإذعان والقبولُ لذلك. والتكذيب بخلاف ذلك.
والمعنى (٢): أي جَاؤُوه وقت العشاء حين خَالَطَ سوادُ الليل بياضَ النهار، حالَ كونهم يبكون لِيُقْنِعُوه بما يريدون، قائلين له: إنا ذهَبْنا من موضع اجتماعنا نَتَسَابَقُ، ونَتَرامَى بالنِّبَال، وتركنا يُوسُفَ عند ثِيَابنَا، وأزوادنا لِيَحْفَظَها، إذ لا يستطيع مجاراتِنَا في استباقنا الذي يرهقُ القوِيَّ، فَأكَلَه الذّئبُ إذ بَعُدْنَا عنه، ولم نسمع استغاثته، ولا صُراخَهُ ونحن نعلم أنك لا تُصدِّقُنَا، ولو كُنَّا عندك صادقين، فكيفَ وأنت تتهمنا في ذلك، ولك العذر في هذا لغرابة ما وقَعَ، وعجيب ما اتَّفَقَ لنا في ذلك الأمر. وقوله: ﴿عِشَاءً﴾ نصب على الظرف، أو من (٣) العشوة، والعَشْوَةُ: الظلام، فجُمِعَ على فعال مثل رَاع ورُعاء، ويَكون انتصابه على الحال كقراءة الحسن: ﴿عُشى﴾ على وزن دجى جمع عاش حَذف منه الهاء، كما حذفت في مالك وأصلُه مالكة. وعن الحسن: (عشيًّا) بالتصغير لعشي أي آخر النهار.
(١) روح البيان.
(٢) المراغي.
(٣) البحر المحيط.
337
١٨ - ﴿وَجَاءُوا﴾؛ أي: جاء إخوة يوسف ﴿عَلَى قَمِيصِهِ﴾؛ أي: فَوقَ قميص يوسف، فهو منصوب على الظرفية، من قوله: ﴿بِدَمٍ﴾؛ أي: جَاؤوا بدم فوقَ قميصه، أو على الحالية منه، والخلافُ في تقدُّم الحال على المجرور فيما إذا لم يكن الحال ظرفًا ﴿كَذِبٍ﴾ مصدر وصف به الدم مبالغةً كأنَّ مجيئَهم من الكذب نفسه، كما يقال للكذَّاب: هو الكذب بعينه، أو مصدرٌ بمعنى مفعول، أي مكذوب فيه؛ لأنه لم يَكُنْ دَمُ يوسف. وقرأ (١) الجمهور: ﴿كذِبٍ﴾ وَصْفًا للدم على سبيل المبالغة، كما قلنا آنِفا أو على حذف مضاف؛ أي: ذي كذب لمَّا كان دالًّا على الكذب وصف به، وإن كان الكَذِبُ صَادِرًا من غيره. وقرأ زَيْدُ بن علي: ﴿كَذِبًا﴾ بالنصب على الحال، فاحتمل أن يَكُونَ مصدرًا في موضع الحال، وأن يَكُونَ مَفْعُولًا لأَجْلِهِ. وقرأت عَائِشَةُ والحسن: ﴿كَدِبٍ﴾ بالدال المهملة، وفسِّر بالكدر. وقيل: الطَّرِيِّ. وقيل: اليابس.
روي (٢) أنهم ذَبَحُوا سخلةً ولَطَخُوه بدمها، وزَالَ عنهم أن يمزِّقُوه فلَمَّا سمع يعقوبُ بخبر يوسف، صاح بأعلى صوته، فقال: أين القميص؟ فأخذه وألقاه على وجهه، وبكى حتى خَضِبَ وَجْهَه بدم القميص، قال: تالله ما رأيت كاليوم ذئبًا أحلم من هذا أَكَل ابني، ولم يمزِّقْ عليه قَمِيصَهُ. وقوله: ﴿قَالَ﴾ مستأنف استئنافًا بيانيًّا كأنه قيل: ما قال يعقوب؟ هل صدَّقهم فيما قالوا: أو لا؟ فقيل: ﴿قَالَ﴾ يعقوب جوابًا لهم لم يكن ذلك الذي أخْبَرْتُمُوه لي صدقًا ﴿بَلْ سَوَّلَتْ﴾ وزينتْ وسَهَّلَتْ ﴿لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ﴾ قاله ابن عباس رضي الله عنهما. والتسويل (٣): تقدير شيء في الأنفس مع الطمع في إتمامه. قال الأزهري: كأن التسويلَ تفعيل من سؤال الأشياء، وهي الأمنية التي يطلبها فيزيَّن لطالبها الباطلُ وغَيْرُه. ﴿أَمْرًا﴾ من الأمور مُنْكرًا لا يُوصَفُ ولا يُعْرَفُ فصنعتموه بيوسف، استدلَّ يَعْقُوبَ على أنهم فَعلُوا بيوسف ما أرادوا، وأنهم كاذبون، بشيئين: بما عرف منْ حسدهم الشديد، وبسلامة القميص، حيث لم يَكُن فيه خرق ولا أثر نَاب؛ فقوله: ﴿بَلْ سَوَّلَتْ﴾ ردٌّ
(١) البحر المحيط.
(٢) روح البيان.
(٣) روح البيان.
338
لقولهم: ﴿أكله الذئبُ﴾، وبل للإعراض عمَّا قبله، وإثبات ما بعده على سبيل التدارك، نحو: جاء زيد بل عَمْرُو كما في "بحر العلوم"؛ أي: قال (١) يعقوب ليس الأمر كما تقولون: بل زيَّنَتْ لكم أنفسكم أمرًا غَيْرَ ما تَصِفُون. قيل: لَمَّا جاءوا على قميصه بدمِ جَدْيٍ ذهلوا عن خَرْقِ القميص. فلَمَّا رأى يعقوبُ القميصَ صحيحًا قال: كذبتم لو أَكَله الذئبُ لَخَرق قَمِيصَه. وقالَ بعضُهم: بل قَتَلَهُ اللُّصُّ. فقال: كيفَ قَتَلُوه وتَرَكُوا قَمِيصَه؟ وهم إلى قميصه أحْوَجُ منه إلى قَتْلِه. وقيل: إنهم (٢) أتوه بذئب، وقالوا: هذا أكَلَه، فقال يعقوب: أيها الذِّئْبُ أنْتَ أكلت ولدي، وثمرة فؤادي، فأنطقه الله عَزَّ وَجَلَّ وقال: والله ما أكلْتُ ولدَكَ ولا رأيته قطُّ، ولا يَحِلُّ لنا أن نأكل لُحومَ الأنبياء. فقال يعقوب: فكيف وَقَعْتَ في أرض كنعان، قال: جئت لصلةِ الرحم قرابة لي فأخذوني، وأتوا بي إليك فأطْلَقَه يعقوب.
﴿فَصَبْرٌ جَمِيلٌ﴾؛ أي: فصبري صبر جميل، أو فأمري صبر جميل، أو فصبر جميل أولى من الجزع، والصبر الجميل: هو الذي لا شكوى فيه إلى أحد إلا إلى الخالق سبحانه وتعالى، وإلا فقد فقال يعقوب: ﴿إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ﴾.
واعلم (٣): أنَّ الصَّبْرَ إذا لم يكن فيه شكوى إلى الخلق، يَكُونُ جميلًا، وإذا كَان فيه مع ذلك شكوى إلى الخالق يكون أجمل لِمَا فيه من رعاية حق العبودية ظاهرًا، حيث أمسك عن الشكوى إلى الخلق، وباطنًا حيث قصَّرَ الشكوى على الخالق، والتفويض جميل، والشكوى إليه أجملُ. وأما (٤) الهجرُ الجميلُ فهو الذي لا إيذاء معه. وأما الصَّفْحُ الجميل فهو الذي لا عِتَابَ بعده، وقد تحقق بجميعها كل من يوسف ويعقوب.
﴿وَاللَّهُ﴾ سبحانه وتعالى هو ﴿الْمُسْتَعَانُ﴾؛ أي: المطلوب منه العونُ، وهو
(١) المراح.
(٢) المراح.
(٣) روح البيان.
(٤) الصاوي.
339
إنشاء الاستعانة المستمرة ﴿عَلَى مَا تَصِفُونَ﴾؛ أي: على تحمل المكاره التي تذكرونا في أمر يوسف، أو على إظهار حال ما تصفون من شأن يوسف، وبيان كونه كذبًا، وإظهار سلامته كأنه عَلِمَ منه الكذب، وكأن (١) الله تعالى قد قَضَى على يعقوبَ أن يُوصِلَ إليه تلك الغموم الشديدةَ، والهمومَ العظيمة، لِيَكْثُرَ رُجُوعُه إلى الله تعالى، وينقطِعَ تعلق فكره عن الدنيا فيصلَ إلى درجةٍ عاليةٍ في العبودية، لا يمكن الوصول إليها إلَّا بتحمل المِحَنِ الشديدة، والله أعلم. وقرأ (٢) أبي والأشهب، وعيسى بن عمر: ﴿فصبرًا جميلًا﴾ بنصبهما، وكذا هي في مصحف أُبي، ومصحف أنس بن مالك. وروي كذلك عن الكسائي، ونَصبه على المصدر الخبريِّ، أي فاصبر صبرًا جميلًا. قيل: وهي قراءة ضعيفة عند سيبويه، ولا يصلح النصبُ في مثل هذا إلا مع الأمر، وكذلك يَحْسُن النَّصْبُ في قوله:
شَكَا إِلَيَّ جَمَلِيْ طُوْلَ السُّرَى صَبْرًا جَمِيْلًا فَكِلاَنَا مُبْتَلَى
ويروى صبر جميل في البيت، وإنما تصح قراءة النصب على أن يقدَّر أن يعقوبَ رَجع إلى مخاطبةِ نَفْسِهِ، فكأنه قال: فاصبري يا نفسي صبرًا جميلًا.
ومعنى الآية: أي إنهم جَاؤوا بقميصه مُلَطَّخًا ظاهره بدم غير دم يوسف، وهم يدعون أنه دمه ليشهد بصدقهم، فكانَ دليلًا على كذبهم، ومن ثم قال: ﴿عَلَى قَمِيصِهِ﴾ ليستبين للقارىء والسامع أنه موضوع وضعًا متكلفًا إذ لو كان من افتراس الذئب لتمزق القميصُ، وتغلغل الدم في كل قطعة منه، ومن أجل هذا كلِّه لم يصدِّقْهم، وقال: هيهاتَ ليس الأمرُ كما تدَّعون بل سَهَّلَتْ لكم أنفسكم الأَمَّارةُ بالسوءِ أمرًا نكرًا، وزينته في قلوبكم فطَوَّعته لكم حتى اقترفتموه، وسأصبر صبرًا جميلًا على هذا الأمر الذي اتفقتم عليه، حتى يفرجه الله بعونه ولطفه، وإنّي أستعين به على أن يَكْفِيَنِي شَرَّ ما تصفون من الكذب.
١٩ - ﴿وَجَاءَتْ سَيَّارَةٌ﴾؛ أي: رفقة مسافرون تسير من جهة الشام، يريدون مِصْرَ فأخطؤوا الطريقَ، فانطلقوا يَهِيمُون في الأرض حتى وقعوا في الأراضي التي فيها
(١) المراح.
(٢) البحر المحيط.
340
الجب، وهي أرض دوثن بَيْنَ مدين ومصر، فنزَلُوا عليه ﴿فَأَرْسَلُوا وَارِدَهُمْ﴾؛ أي: بعثوا سَاقِيَهم ليطلب لهم الماء، وهو مَنْ يُهيِّىء الأرشية، والدِّلاءَ، فيتقدم الرفقة إلى الماء، يقال له: مالك بن ذعر الخزاعي ابن أخي شعيب عليه السلام، وهو رجلٌ من العرب العاربة من أهل مدين، ﴿فَأَدْلَى دَلْوَهُ﴾؛ أي: فأرْخَى، وأنزل دلوه في جب يوسف ليأخذ الماء فتعلق يوسف به، فلم يقدر الساقي على نزعه وإخراجه من البئر فنَظَرَ فيه فرأى غُلامًا قد تعلق بالدلو، فنادى أصْحَابَهُ فـ ﴿قَالَ يَا بُشْرَى﴾؛ أي: يا أصحابي. وقال الأعشى: إنه دعا امرأةً اسمها بشرى. وقال السديُّ: إنه نادى صاحبَهُ، واسمه بشرى كما قرأه. وعاصم والكسائي بغير ياء المتكلم بعد الألف المقصورة. وقال أبو علي الفارسي: والوجه أن يجعل البشرى اسمًا للبشارة، فنادى ذلك بشارةً لنفسه، كأنه يقول: يا أيتها البشرى هذا الوقت، وقتك، ولو كنت مِمَّنْ يخاطب لخوطبت الآنَ، ولأُمِرْتِ بالحضور، ويدلُّ على هذا قراءة الباقين، ﴿يا بشرايَ﴾ بفتح ياء المتكلم بعد الألف على الإضافة. قالوا: ما ذلك يا مالك؟ قال: ﴿هَذَا غُلَامٌ﴾ أحسن ما يكون من الغلمان، فكَانَ يوسُفُ حَسَنَ الوجه، جَعْدَ الشَّعْرِ، ضخم العَيْنَين، مُسْتَوي الخلق، أبيض اللون، غَليظ الساعدين، والعضدين، والساقين، خَميص البطن، صغير السرة، وكان إذا تبسَّم ظهر النور من ضواحكه، وإذا تكلم ظهر من ثناياه شعاع النور، ولا يستطيع أحد وَصْفَه. وكان حسنه كضوء النهار عند الليل، وكان يُشْبِهُ آدم عليه السلام يَوْم خَلَقه الله تعالى قبل أن يصيب الخطيئةَ، اهـ خازن.
فاجتمعوا عليه فأخرجوه من الجب بعد مكثه فيها ثَلاثَةَ أيام ﴿وَأَسَرُّوهُ﴾؛ أي: أسَرُوا يُوسُفَ وأخفوه حَالةَ كونه ﴿بِضَاعَةً﴾؛ أي: مَتَاعًا للتجارة؛ أي: كَتَم الواردُ وأصحابه شأنَ يوسف من بقية القوم الذين معهم، وقالوا: إنه بضاعة استبضعناه، وحملناه لبعض أهل المال إلى مصر، وإنما قالوا ذلك خِيفَة أن يطلبوا منهم الشركة فيه، وذلك لأن الواردَ وأصحابَه قالوا: إن قلنا للسيارة التقطناه من الجُبِّ شاركونا فيه قَهْرًا. وإن قلنا: اشتريناه سألونا الشركة فالأصوبُ أن نقول: إن أهل الماء جعلوه بِضَاعَةً عندنا على أن نبيعه لهم بمصر. وقيل: إن إخْوَةَ يُوسُفَ أَسَرّوا شأن يوسُفَ، يعني أنهم أخفوا أمر يوسف، وكونه أخًا لهم بل
341
قالوا: هو عبدٌ لنا أبَقَ. وصدقهم يوسف على ذلك؛ لأنهم توعدوه بالقتل سرًّا من مالك بن ذعر، وأصحابِه. والقول الأول أصحُّ لأن مالك بن ذعر هو الذي أسره بضاعةً وأصحابه. والبضاعةُ: ما بُضِعَ من المال للتجارة، أي: قُطِعَ.
﴿وَاللَّهُ﴾ سبحانه وتعالى ﴿عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ﴾؛ أي: بما يعمل إخْوَة يُوسُفَ بأبيهم وأخيهم من سوء الصنع، ولَمْ يَخْفَ عليه أسرارهم يعني من إرادة إهلاك يوسف، فجعل ذلك سببًا لنجاته، وتحقيقًا لرؤياه حتى يصيرَ ملك مصر بعد أَنْ كان عبدًا.
قال أصحاب الأخبار (١): إنَّ يهوذا كان يأتي يوسُفَ بالطعام، فأتاه فلم يَجِدْه في الجبِّ فأخبر إخْوته بذلك، فطلبوه، فإذا هم بمالك بن ذعْرٍ وأصحابه نزولًا قريبًا من البئر، فأتوهم، فإذا يوسف عندهم. فقالوا لهم: هذا عبدنا أبق منا، ويقال: إنهم هددوا يوسفَ حتى يكتم حالَه، ولا يعرفها أحد، وقال لهم مثل قولهم.
٢٠ - ثم إنهم باعوه منهم كما قال: ﴿وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ﴾.
وفي هذه الجملة (٢) وعيد شديدٌ لمن كان فعله سببًا لما وقع فيه يوسف من المحن، وما صار فيه من الابتذال بجري البيع والشراء فيه، وهو الكريم بن الكريم بن الكريم بن الكريم يوسُفَ بن يعقوبَ بن إسحاقَ بن إبراهيمَ عليهم السلام.
والمعنى (٣): أي وجاءت ذلك المكان قافلة تسير من مَدْيَنَ إلى مِصْرَ فأرسلوا وَارِدَهُمْ الذي يجلب لهم الماء للاستسقاء، فأرسل دَلْوه ودلاه في ذلك الجب فتعلق به يوسف. ولما خَرَجَ ورآه قال مُبشِّرًا جماعته السيارة: ﴿يَا بُشْرَى هَذَا غُلَامٌ﴾ أي: آن وقت البشرى فاحضري، كما يقال: يَا أسفًا، ويا حسرتا، إذا وقع ما هو سبب لذلك، فاستبشرتْ به السيارة، وأخفوه من الناس لئلا يَدَّعِيهِ أحدٌ من أهل ذلك المكان لأن يَكُونَ بضاعة لهم من جملة تجارتهم، والله عليم بما
(١) الخازن.
(٢) الشوكاني.
(٣) المراغي.
342
يعمله هؤلاء السيارة، وما يعمله إخوةُ يوسُفَ فلكل منهم مقصد خاص في يوسف، فالسيارة يدَّعون بالباطل، أنه عبد لهم فيتجرون فيه، وإخوةُ يوسف يريدون إخفاءه عن أبيه، ويدَّعُونَ أنَّ الذِّئبَ قد أكله، وذلك كيد بالباطل لِيُمْضِي فيه وفيهم حُكْمَهُ السابقَ في علمه، وليرى إخوةُ يوسُفَ ويُوسُفُ وأبوه قُدْرَتَه تعالى على تنفيذ ما أراد.
وفي هذا تذكير من الله تعالى لنبيه محمد - ﷺ - وتسلية له على ما كان يلقى من قومه، وأقْرِبَائِه وأنسبائه المشركين من الأذى، فكأنه يقول له: اصبر على ما نالك في الله تعالى، فإني قادر على تغيير ذلك كما قدرت على تغيير ما لقِيَ يوسف من إخوته، وسيصير أمْرَكَ إلى العلو عليهم، كما صار أمر يوسف مع إخوته إذ صار سيدهم. ﴿وَشَرَوْهُ﴾؛ أي: باعوه في مصر؛ أي: باع يوسف مالك بن ذعر وأصحابه في مصر بعد أن وَصلُوا إليها وهو من الأضداد. والضمير للوارد وأصحابه، أو الضمير لإخوة يوسف؛ أي: باع إخوة يُوسُفَ يُوسُفَ للوارد وأصحابه، ويحتمل أن يكونَ الشِّراء على معناه؛ أي: واشترى الوارد وأصحابه يُوسُفَ من إخوته إذ جعلوه عُرْضَةً للابتذال بالبيع والشراء؛ لأنهم لم يَعْرِفُوا حَالَهُ إما لأنَّ الله تعالى أغفلهم عن السؤال، ليقضي أَمْرًا كان مفعولًا، أو لأنهم سألوا عن حاله، ولم يفهموا لُغَته لكونها عِبْريةً، أي باعوه في مصر. ﴿بِثَمَنٍ بَخْسٍ﴾؛ أي (١): مبخوس ناقص في نفسه لكونه زَيْفًا، وفي قدره لكونه قَلِيلًا فبخس هنا بمعنى مبخوس؛ لأنَّ الثَمَن لا يوسف بالمعنى المصدري، الذي هو النقص، ووصف بكونه مبخوسًا، إما لردائته وغشه، أو لنقصان وزنه، من بخسه حقه؛ أي: نقصه. وقال بعضهم: بثمن بخس؛ أي: حرام منقوص، لأن ثمن الحر حرام، انتهى. حمل البخس على المعنى لكون الحرام ممحوقَ البركات، والقولُ الأول هو الأصح. وقوله: ﴿دَرَاهِمَ﴾ بدل من ثمن أي لا دنانير ﴿مَعْدُودَةٍ﴾؛ أي: قليلة غير موزونة، فهو بيان لقلته، ونقصانه مقدارًا بعد بيان نقصانه في نفسه، بقوله: ﴿بَخْسٍ﴾؛ أي: زيف، لأنهم كانوا يَزِنُونَ الأوقية، وهي أربعون درهمًا
(١) روح البيان.
343
ويعدون ما دونها. فعن ابن عباس: أنها كانت عشرين درهمًا. وعن السدي: اثنين وعشرين درهمًا. وقال عكرمة: كانت أربعين درهمًا.
﴿وَكَانُوا﴾؛ أي: البائعون ﴿فِيهِ﴾؛ أي: في يُوسفَ ﴿مِنَ الزَّاهِدِينَ﴾؛ أي: مِمَّنْ يرغب ويعرض عما في يده، فيبيعه بما طفَّ ونَقُصَ من الثمن؛ لأنهم التقطوه، والملتقط للشيء متهاون به، لا يبالي بما باعه، ولأنه يخاف أن يَظْهَرَ له مستحق فينزعه من يده، فيبيعه من أول مساوم بأوكس ثَمن وأرخصه. وأصل (١) الزهد: قِلَّةُ الرغبةِ، يقال: زَهِدَ فلان في كذا، إذا لم يكن له فيه رغبةٌ. والضمير في قوله: ﴿وَكَانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ﴾ إن قلنا: إنه يرجع إلى إخوة يوسف كان وجه زهدهم فيه أنهم حسدوه، وأرادوا إبعاده عنهم، ولم يكن قصدهم تحصيل الثمن، وإن قلنا: إن قوله: ﴿وَشَرَوْهُ﴾ ﴿وَكَانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ﴾ يرجع إلى معنى واحد، وهو: أن الذين شَرَوْه كانوا فيه من الزاهدين، كان وجه زهدهم فيه: إظهار قلة الرغبة فيه، ليشتروه بثمن بخس قليل. ويحتمل أن يقالَ: إنَّ إخْوَتَهُ لما قالوا: إنه عبدنا، وقد أبق، أظْهَرَ المشترِي قِلَّةَ الرغبة فيه لهذا السبب.
قال أصحاب الأخبار (٢): ثمَّ إن مالك بن ذعر وأصحابَه لما اشتروا يُوسُفَ انطلقوا به إلى مصر، وتبعهم إخوته يقولون: استوثقوا منه، لا يأبق منكم، فذهبوا به حتى قدموا مصر. قال ابن عباس رضي الله عنهما: لما دخلوا مصرَ لقِيَ قِطْفِيرٌ - صاحب أمر الملك -، وكان على خزائن مِصرَ مالِكَ بن ذعر فاشترى يوسُفَ منه بعشرين دينارًا، وزوج نعل، وثوبين أبيضين.
وقال وهب بن منبه: قَدِمَتِ السيارة بيوسف مِصْرَ، ودخلوا به السوقَ يُعرضونه للبيع، فترافع الناس في ثمنه حتى بلغ ثمنه وزنه ذهبًا، ووزنه فضة، ووزنه مِسْكًا وحَرِيرًا. وكان وزنه أربع مئة رطل. وكان عمره يومئذ ثلاث عَشَرةَ سنةً، أو سبع عشرة سنة. فابتاعه قطفير - وكان يسمَّى العزيز - بهذا الثمن، كما قال تعالى: ﴿وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْ مِصْرَ لِامْرَأَتِهِ﴾.
(١) الخازن.
(٢) الخازن.
344
والمعنى (١): أي وباعه السيارة في مصر بثمن قليل ناقص عن ثمن مثله أو الدراهم القليلة التي تعد عدًّا، ولا توزن وزنًا، وكانوا لا يزنون إلا ما بلغ الأوقية أربعين درهمًا، فَما فَوقَها، ويعدون ما دونها، ومن ثم يعبرون عن القليل بالمعدود. وفي سِفرِ التكوين أو التوراة: إنَّ إخْوَتَه قرروا بيعه للإسماعيليِّينِ؛ أي: للعرب، وقد أخرجه من الجب جماعة من أهل مدين، وباعوه لهم. وكانَ الذين باعوه أو الراغبين عنه الذين يبغونَ الخلاصَ منه، لئلا يَظْهَرَ مَنْ يطالبهم به؛ لأنه حُرٌّ، والثَّمَنُ، يكن مَقْصُودًا حِينَ بيعه، ومِنْ ثمَّ قَنِعوا بالبخس منه.
الإعراب
﴿الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (١) إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (٢) نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ (٣)﴾.
﴿الر﴾ تقدم البحث في إعرابه ومعناه. ﴿تِلْكَ﴾ مبتدأ. ﴿آيَاتُ الْكِتَابِ﴾ خبر ومضاف إليه. ﴿الْمُبِينِ﴾ صفة لـ ﴿الْكِتَابِ﴾ والجملة مستأنفة. ﴿إِنَّا﴾ واسمه. ﴿أنْزَلْنَاهُ﴾ فعل وفاعل ومفعول. ﴿قُرْآنًا﴾ حال موطئة من ضمير المفعول في ﴿أَنْزَلْنَاهُ﴾، ولكن بعد تأويله بمشتق، في حَالَةَ كونه مقروءًا؛ أي: مجموعًا. ﴿عَرَبِيًّا﴾ صفة ﴿قُرْآنًا﴾ والجملة الفعلية في محل الرفع خبر (إن) والجملة مستأنفة. ﴿لَعَلَّكُمْ﴾ ناصب واسمه. وجملة ﴿أتعْقِلُونَ﴾ خبره، وجملة ﴿لعلَّ﴾ مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها. ﴿نَحْنُ﴾ مبتدأ. ﴿نَقُصُّ﴾ وفعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على الله. ﴿عَلَيْكَ﴾ متعلق به. ﴿أَحْسَنَ اَلقَصَصِ﴾ ومفعول مطلق، ومضاف إليه، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية مستأنفة. ﴿بِمَا﴾ (الباء) حرف جر وسبب. (ما) مصدرية. ﴿أَوْحَيْنَا﴾ فعل وفاعل. ﴿إِلَيْكَ﴾ متعلق به. ﴿هَذَا﴾ في محل النصب مفعول ﴿أوْحَيْنَا﴾. ﴿الْقُرْآنَ﴾ بدل من اسم الإشارة، أو عطف بيان منه، والجملة الفعلية صلة (ما) المصدرية (ما)
(١) المراغي.
345
مع صلتها في تأويل مصدر مجرور بالباء تقديره: بإيحائنا إليك هذا القرآن، الجار والمجرور متعلق بـ ﴿نَقُصُّ﴾. ﴿وَإِنْ كُنْتَ﴾ ﴿الواو﴾ حالية. (من) مخففة، واسمها ضمير الشأن محذوفًا؛ أي: وإنه. (كنتَ) فعل ناقص واسمه. ﴿مِنْ قَبْلِهِ﴾ متعلق بـ (كنت). ﴿لَمِنَ﴾ (اللام) حرف ابتداء. ﴿مِنَ الْغَافِلِينَ﴾ جار ومجرور خبر (كان) وجملة (كان) في محل الرفع خبر (إن) المخففة، وجملة (إن) المخففة في محل النصب حال أو (كاف) ﴿عَلَيْكَ﴾.
﴿إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ﴾.
﴿إذْ﴾ ظرف لما مضى من الزمان في محل النصب على الظرفية مبني على السكون، والظرف متعلق بـ ﴿نَقُصُّ﴾ أو باذكر محذوفًا. ﴿قَالَ يُوسُفُ﴾ فعل وفاعل. ﴿لِأَبِيهِ﴾ متعلق به، والجملة الفعلية في محل الجر مضاف إليه لـ (إذ). ﴿يَا أَبَتِ﴾ إلى آخر الآية مقول محكي لـ ﴿قَالَ﴾، وإن شئت قلت: ﴿يَا أَبَتِ﴾ (يا) حرف نداء. ﴿أبت﴾ منادى مضاف منصوب، وعلامة نصبه فتحة مقدرة على ما قبل ياء المتكلم، المعوضة عنها قال التأنيث للتفخيم، مَنَعَ أو ظهورها اشتغال المحل بالفتحة المجلوبة لمناسبة التاء؛ لأن التاء لا يكون ما قبلها إلَّا مفتوحًا ﴿أب﴾ مضاف وياء المتكلم المعوضة عنها تاء التأنيث في محل الجر مضاف إليه، مبنية على السكون لشبهها بالحرف شبهًا وضعيًّا وتاء التأنيث حرف لا محل لها أو الإعراب مبنية على الفتح، وإنما حركت لِكَونها على حرف واحد، وكانت الحركة فتحةً تحريكًا لها بحركة أصلها الذي هو الياء في بعض لغاتها، وجملة النداء في محل النصب مقول قال، اهـ "هدية أولي الإنصاف في إعراب المنادى المضاف".
﴿إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ﴾.
﴿إِنِّي﴾ ناصب واسمه. ﴿رَأَيْتُ﴾ فعل وفاعل، والجملة في محل الرفع خبر (إن)، وجملة (إن) في محل النصب مقول قال على كونها جوابَ النداء. ﴿أَحَدَ عَشَرَ﴾ عدد مركب في محل النصب على المفعولية الأولى، مبني على فتح الجزأين بنيَ الجزء الأول لشبهه بالحرف، شبهًا افتقاريًّا لافتقاره إلى الجزء الثاني، في دلالته على المعنى المراد، وبني الجزء الثاني لشبهه بالحرف، شبهًا
346
معنويًّا لتضمنه معنى حرف العطف، وإنما حركا ليعلم أو لهما أصْلًا في الإعراب، وكانت الحركة فتحةً للخفة مع ثقل التركيب، ﴿كَوْكَبًا﴾ تمييز لـ ﴿أَحَدَ عَشَرَ﴾ منصوب به. ﴿وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ﴾ معطوفان على ﴿أَحَدَ عَشَرَ﴾. ﴿رَأَيْتُهُمْ﴾ فعل وفاعل ومفعول، والجملة مؤكدة للجملة الأولى توكيدًا لفظيًّا. ﴿لِي﴾ جار ومجرور متعلق بـ ﴿سَاجِدِينَ﴾. ﴿سَاجِدِينَ﴾ مفعول ثان لـ ﴿رَأَيْتُ﴾.
وفي "الفتوحات"، قوله: ﴿رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ﴾ يحتمل وجهين:
أحدهما: أنَّها جملة كررت للتوكيد، لما طال الفصل بالمفاعيل، كررت كما كررت أنكم في قوله: ﴿أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُرَابًا وَعِظَامًا أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ (٣٥)﴾ كذا قاله الشيخ.
والثاني: أنه ليس بتأكيد، وإليه نحا الزمخشري فإن قال: فإن قلت: ما معنى تكرار ﴿رَأَيْتُهُمْ﴾.
قلت: ليس بتكرار، إنما هو كلام مستأنف على تقدير سؤال، وقَعَ جوابًا له، كأنَّ يعقوب عليه السلام قال له عند قوله: ﴿إنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ﴾ كيف رأيتَها سائلًا عن حال رؤيتها فقال: رأيتهم لي ساجدين؟.
قلت: وهذا أظهر لأنه متى دار الكلام بين الحَمْل على التأكيد، أو التأسيس، فَحَمْلُه على الثاني أولى، اهـ "سمين".
﴿قَالَ يَا بُنَيَّ لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ (٥)﴾.
﴿قَالَ﴾ فعل وفاعله ضمير يعود على يعقوب، والجملة مستأنفة. ﴿يَا بُنَيَّ﴾ إلى قوله: ﴿لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ﴾ مقول محكي لـ ﴿قالَ﴾، وإن شئت قلت: ﴿يَا بُنَيَّ﴾ بالفتح منادى مضاف منصوب، وعلامة نصبه فتحةٌ مقدرة على ما قبل ياء المتكلم المنقلبة ألفًا للتخفيف، بعد قلب الكسرة فتحةً لمناسبة الألف المحذوفة، تلك الألف للتخفيف، ﴿بني﴾ مضاف، وياء المتكلم المنقلبة ألفًا للتخفيف في محل الجر مضاف إليه. وبالكسر منادى مضاف منصوب، وعلامة نصبه فتحة مقدرة على ما قبل ياء المتكلم، وجملة النداء في محل النصب مقول
347
﴿قَالَ﴾. ﴿لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ﴾ فعل ومفعول مجزوم بـ ﴿لا﴾ الناهية، وفاعله ضمير يعود على يوسف، والجملة في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾ على كونها جوابَ النداء. ﴿عَلَى إِخْوَتِك﴾ جار ومجرور متعلقان بـ ﴿لا تقصص﴾ ﴿فَيَكِيدُوا﴾ (الفاء) عاطفة سببية. ﴿يكيدوا﴾ فعل وفاعل منصوب بأن مضمرةً وجوبًا بعد الفاء السببية الواقعة في جواب النهي. ﴿لَكَ﴾ متعلق به، أو حال أو ﴿كَيْدًا﴾. ﴿كَيْدًا﴾ منصوب على المصدرية، أو مفعول به، والجملة الفعلية صلة أو المضمرة، أن مع صلتها في تأويل مصدر معطوف على مصدر متصيد أو الجملة التي قبلَها أو غير سابك لإصلاح المعنى، تقديره: لا يكن قصك رؤياك إياهم فكيدهم إياك. ﴿إِنَّ الشَّيْطَانَ﴾ ناصب واسمه. ﴿لِلْإِنْسَانِ﴾ متعلق بـ ﴿عَدُوٌّ﴾ ﴿عَدُوٌّ﴾ خبر ﴿إنَّ﴾. ﴿مُبِينٌ﴾ صفة عدو، وجملة إن في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾ على كونها مسوقة لتعليل ما قبلها.
﴿وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٦)﴾.
﴿وَكَذَلِكَ﴾ ﴿الواو﴾ عاطفة. كذلك جار ومجرور صفة لمصدر محذوف. ﴿يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ﴾ فعل ومفعول وفاعل والتقدير: ويجتبيك ربك للنبوة والرسالة اجتباءً مثل اجتبائه إياك بهذه الرؤية، والجملة معطوفة على جملة النداء السابق على كونا مقول ﴿قَالَ﴾. ﴿وَيُعَلِّمُكَ﴾ فعل ومفعول أول، وفاعله ضمير يعود على الله. ﴿مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ﴾ جار ومجرور ومضاف إليه في محل المفعول الثاني، والجملة الفعلية مستأنفة على كونها مقول ﴿قَالَ﴾. ﴿وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ﴾ فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة معطوفة على جملة ﴿يعلمك﴾ على كونِها مقول ﴿قَالَ﴾. ﴿عَلَيْكَ﴾ متعلق بـ ﴿يتم﴾ أو بـ ﴿نِعْمَتَهُ﴾. ﴿وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ﴾ جار ومجرور معطوف على عليك، وكرَّر (على) ليمكن العطف على الضمير المجرور كما هو مذهب البصريين. ﴿كَمَا﴾ (الكاف) حرف جر. (ما) مصدرية. ﴿أَتَمَّهَا﴾ فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على الله. ﴿عَلَى أَبَوَيْكَ﴾ جار ومجرور متعلق به. ﴿مِن قَبْلُ﴾ جار ومجرور متعلق به أيضًا. ﴿إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ﴾ يجوز أن يكونا بدلًا من أبويك، أو عطفَ بيان، أو على إضمار أعني، والجملة الفعلية صلة ﴿ما﴾ المصدوية (ما) مع صلتها في تأويل مصدر مجرور (بالكاف) تقديره:
348
كإتمامها على أبويك من قبل الجار والمجرور صفة لمصدر محذوف تقديره: ويتم نعمته عليك إتمامًا مثلَ إتمامه إيَّاها على أبويك من قبلُ. ﴿إِنَّ رَبَّكَ﴾ ناصب واسمه. ﴿عَلِيمٌ﴾ خبره. ﴿حَكِيمٌ﴾ خبر ثان له، وجملة إن مستأنفةٌ مسوقةٌ لتعليل ما قبلها على كونها مقول ﴿قَالَ﴾.
﴿لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِلسَّائِلِينَ (٧)﴾.
﴿لَقَدْ﴾ (اللام) موطئة لقسم محذوف. ﴿قد﴾ حرف تحقيق. ﴿كاَنَ﴾ فعل ماض ناقص. ﴿فِي يُوسُفَ﴾ جار ومجرور خبر مقدم لـ (كان) على اسمها. ﴿وَإِخْوَتِهِ﴾ معطوف على ﴿يُوسُفُ﴾. ﴿آيَاتٌ﴾ اسم (كان) مؤخر. ﴿لِلسَّائِلِينَ﴾ جار ومجرور متعلق بالاستقرار الذي تعلق به الخبر، وجملة ﴿كَانَ﴾ جواب للقسم المحذوف، وجملة القسم مستأنفة.
﴿إِذْ قَالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (٨)﴾.
﴿إِذ﴾ ظرف لما مضى من الزمان متعلق بمحذوف تقديره اذكر ﴿إِذْ قَالُوا﴾. ﴿قَالُوا﴾ فعل وفاعل، والجملة في محل الجر بإضافة ﴿إِذ﴾ إليها. ﴿لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ﴾ إلى قوله: ﴿قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ﴾ مقول محكي لـ ﴿قَالُواْ﴾، وإن شئت قلت: ﴿يُوسُفُ﴾ (اللام) موطئة للقسم، أو حرف ابتداءٍ على الخلاف المار فيه. ﴿يوسف﴾ مبتدأ. ﴿وَأَخُوه﴾ معطوف عليه. ﴿أَحَبَّ﴾ خبر المبتدأ. ﴿إلَى أَبِينَا مِنَّا﴾ يتعلقان به، ولم تحصل المطابقة بين المبتدأ، والخبر؛ لأن الخبر هذا اسم تفضيل مجرد، وهو يلزم الذكير والتوحيد. قال ابن مالك:
وَإِنْ لِمَنكُوْرٍ يُضَفْ أَوْ جُرِّدَا أُلْزِمَ تَذْكِيْرًا وَأَنْ يُوَحَّدَا
و ﴿أحَبُّ﴾ مصوغ من حب المبني للمفعول، وهو سماعي، ولو جاء على القياس ليوصل إليه بأشدَّ ونحوه. قال ابن مالك:
وَأَشْدِدَ أوْ أَشَدَّ أَوْ شِبْهَهُمَا يَخْلُفُ مَا بَعْضَ الشُّرُوْطِ عَدِمَا
والجملة الاسمية جواب القسم، وجملة القسم في محل النصب مقول ﴿قَالُواْ﴾. ﴿وَنَحْنُ﴾ ﴿الواو﴾ واو الحال. ﴿نحن عصبة﴾ مبتدأ وخبر، والجملة
349
في محل النصب حال من ضمير المتكلمين في ﴿مِنَّا﴾. ﴿إِنَّ أَبَانَا﴾ ناصب واسمه ومضاف إليه. ﴿لَفِي﴾ (اللام) حرف ابتداء. ﴿فِي ضَلَالٍ﴾ خبر ﴿إنَّ﴾. ﴿مُبِينٍ﴾ صفة ﴿ضَلَالٍ﴾، وجملة إنَّ مستأنفة في محل النصب مقول ﴿قَالُوا﴾.
﴿اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ (٩)﴾.
﴿اقْتُلُوا يُوسُفَ﴾ فعل وفاعل ومفعول، والجملة في محل النصب مقول ﴿قَالُوا﴾. ﴿أَوِ﴾ حرف عطف، وتمييز. ﴿اطْرَحُوهُ﴾ فعل وفاعل ومفعول معطوف على ﴿اقْتُلُوا﴾. ﴿أَرْضا﴾ منصوب على الظرفية أو بنزع الخافض. ﴿يَخْلُ﴾ فعل مضارع مجزوم بالطلب السابق، وعلامة جزمه حذفُ حرف العلة. ﴿لَكُم﴾ متعلق به. ﴿وَجْهُ أَبِيكُمْ﴾ فاعل، ومضاف إليه. ﴿وَتَكُونُوا﴾ فعل ناقص واسمه معطوف على ﴿يَخْلُ﴾. ﴿مِنْ بَعْدِهِ﴾ متعلق به. ﴿قَوْمًا﴾ خبر ﴿تكونوا﴾. ﴿صَالِحِينَ﴾ صفة ﴿قَوْمًا﴾.
﴿قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ لَا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ (١٠)﴾.
﴿قَالَ قَائِلٌ﴾ فعل وفاعل. ﴿مِنْهُمْ﴾ صفة قائل، والجملة مستأنفة. ﴿لَا تَقْتُلُوا يُوسُفَ﴾ إلى قوله ﴿قَالُوا﴾ مقول محكي، وإن شئت قلت: ﴿لَا تَقْتُلُوا يُوسُفَ﴾ فعل وفاعل، ومفعول به مجزوم بـ (لا) الناهية، والجملة في محل النصب مقول (قَالُوا). ﴿وأَلْقُوهُ﴾ فعل وفاعل، ومفعول معطوف على جملة ﴿لَا تَقْتُلُوا﴾. ﴿فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ﴾ جار ومجرور، ومضاف إليه متعلق به. ﴿يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ﴾ فعل ومفعول، وفاعل مجزوم بالطلب السابق. ﴿إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ﴾ فعل ناقص واسمه وخبره في محل الجزم بـ (إن) الشرطية على كونه فعل شرط لها، وجواب الشرط محذوف تقديره: إن كنتم فاعلين فافعلوا هذا القدر؛ في: إلقاءه في البئر، وجملة (إن) الشرطية في محل النصب مقول ﴿قالَ﴾.
﴿قَالُوا يَا أَبَانَا مَا لَكَ لَا تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ (١١)﴾.
350
﴿قَالُوا﴾ فعل وفاعل، والجملة مستأنفة. ﴿يَا أَبَانَا مَا لَكَ﴾ إلى قوله: ﴿قَالَ﴾ مقول محكي، وإن شئت قلت: ﴿يَا أَبَانَا﴾ منادى مضاف منصوب بالألف، وجملة النداء في محل النصب، مقول ﴿قَالوُا﴾. ﴿مَا﴾ اسم استفهام في محل الرفع مبتدأ. ﴿لَكَ﴾ جار ومجرور خبره، والجملة الاسمية في محل النصب مقول ﴿قَالُوا﴾ على كونها جوابَ النداء. ﴿لَا﴾ نافية. ﴿تَأْمَنَّا﴾ فعل مضارع مرفوع بضمة ظاهرة على النون المدغمة في نون (نا). (نا) ضمير المتكلمين في محل النصب مفعول به، وفاعله ضمير مستتر يعود على ﴿يعقوب﴾. ﴿عَلَى يُوسُفَ﴾ متعلق به، والجملة الفعلية في محل النصب حال من كاف المخاطب، والعامل فيه الاستقرار الذي تعلق به الخبر. ﴿وَإنَّا﴾ ناصب واسمه. ﴿لَهُ﴾ متعلق بـ ﴿ناصحون﴾. ﴿لناصحون﴾ (اللام) حرف ابتداء. (ناصحون) خبر (إن) وجملة (إن) في محل النصب على الحال من مفعول ﴿تَأْمَنَّا﴾.
﴿أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَدًا يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾.
﴿أرْسِلْهُ﴾ فعل ومفعول وفاعله ضمير يعود على يعقوب، والجملة في محل النصب مقول ﴿قَالُوا﴾. ﴿مَعَنَا﴾ حال من مفعول ﴿أَرْسِلْهُ﴾. ﴿غَدًا﴾ منصوب على الظرفية متعلق بـ ﴿أرسل﴾. ﴿يَرْتَعْ﴾ مجزوم بالطلب السابق، وفاعله ضمير يعود على يوسف. ﴿وَيَلْعَبْ﴾ معطوف عليه. ﴿وَإِنَّا﴾ ناصب واسمه. ﴿لَهُ﴾ متعلق بما بعده. ﴿لَحَافِظُونَ﴾ خبر (إن) و (اللام) حرف ابتداء، وجملة إنّ في محل النصب حال من (هاء) ﴿أرْسِلْهُ﴾.
﴿قَالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ (١٣)﴾.
﴿قَالَ﴾ فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على يعقوب، والجملة مستأنفة. ﴿إِنِّي لَيَحْزُنُنِي﴾ إلى قوله ﴿قَالوُا﴾ مقول محكي، وإن شئت قلت: ﴿إِنِّي﴾ ناصب واسمه. ﴿لَيَحْزُنُنِي﴾ فعل مضارع ومفعول، و (نون) وقاية و (اللام) حرف ابتداء. ﴿أَنْ تَذْهَبُوا﴾ فعل وفاعل منصوب بـ (أن) المصدرية. ﴿بِهِ﴾ متعلق به، وجملة ﴿تذهبوا﴾ في تأويل مصدر مرفوع على الفاعلية، ليحزن تقديره: ليحزنني ذهابكم
351
به، وجملة ﴿يحزن﴾ في محل الرفع خبر إنَّ، وجملة إنَّ في محل النصب مقولُ ﴿قَالَ﴾. ﴿وَأَخَافُ﴾ فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على يعقوب، والجملة الفعلية في محل النصب حال من ياء المتكلم في ﴿يحزنني﴾. ﴿أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ﴾ فعل ومفعول وفاعل منصوب بأن المصدرية، والجملة الفعلية في تأويل مصدر منصوب على المفعولية، لـ ﴿أخاف﴾؛ أي: والحال أني أخاف أكل الذئب إياه. ﴿وَأَنْتُمْ﴾ مبتدأ. ﴿عَنهُ﴾ متعلق بـ ﴿غَافِلُونَ﴾. ﴿غَافِلُونَ﴾ خبر المبتدأ، والجملة الاسمية في محل النصب حال من (هاء) ﴿يأكله﴾ ولكنها حال سببية.
﴿قَالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذًا لَخَاسِرُونَ (١٤)﴾.
﴿قَالُوا﴾ فعل وفاعل، والجملة مستأنفة. ﴿لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ﴾ إلى آخر الآية مقول محكي، وإن شئت قلت: ﴿لَئِنْ﴾ (اللام) موطئة للقسم. (إن) حرف شرط. ﴿أَكَلَهُ الذِّئْبُ﴾ فعل ومفعول، وفاعل في محل الجزم بـ (إن) الشرطية على كونِه فعل شرط لها. ﴿وَنَحْنُ عُصْبَةٌ﴾ مبتدأ وخبر، والجملة في محل النصب حال من (هاء) ﴿أَكَلَهُ﴾. ﴿إِنَّا﴾ ناصب واسمه. ﴿إذًا﴾ حرف جواب وجزاء، ولكن لا عمل لها لدخولها على الجملة الاسمية. ﴿لَخَاسِرُونَ﴾ خبر (إنَّ) و (اللام) حرف ابتداء، وجملة إن جوابَ القسم لا محل لها من الإعراب، وجواب إن الشرطية محذوف دل عليه جواب القسم، تقديره: إن أكله الذئب، فإنا إذًا لخاسرون، وجملة الشرط معترضةٌ بين القسم، وجوابه، وجملةُ القسم في محل النصب مقول ﴿قَالُوا﴾.
﴿فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (١٥)﴾.
﴿فَلَمَّا﴾ (الفاء) عاطفة على محذوف تقديره: فأرسلَه معهم، فلما ذهبوا به، وذلك المقدر معطوف على قوله سابقًا. ﴿أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَدًا﴾ كما في "الجمل". ﴿لَمَّا﴾ حرف شرط غير جازم. ﴿ذَهَبُوا﴾ فعل وفاعل. ﴿بهِ﴾ متعلق به، والجملة فعل شرط لـ (لما). ﴿وَأَجْمَعُوا﴾ فعل وفاعل معطوف على ﴿ذَهَبُوا﴾. ﴿أَنْ يَجْعَلُوهُ﴾ ناصب يفعل، وفاعل، ومفعول أول. ﴿فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ﴾ جار ومجرور في محل
352
المفعول الثاني، والجملة الفعلية في تأويل مصدر منصوب على المفعولية، لـ ﴿وَأَجْمَعُوا﴾ تقديره: وأجمعوا جعلهم إياه في غيابة الجب، وجواب (لما) محذوف تقديره: فعلوا به، ما فعلوا من الأذى، وجملة (لما) معطوفة على تلك الجملة المحذوفة. ﴿وَأَوْحَيْنَا﴾ فعل وفاعل معطوف على جواب (لما) المحذوف. ﴿إِليهِ﴾ متعلق به. ﴿لَتُنَبِّئَنَّهُمْ﴾ (اللام) موطئة للقسم. ﴿تنبئنهم﴾ فعل ومفعول. ﴿بِأَمْرِهِمْ﴾ جار ومجرور، ومضاف إليه، متعلق به، وفاعله ضمير يعود على يوسف. ﴿هَذَا﴾ بدل من ﴿أمرهم﴾ أو صفة له، والجملة الفعلية جوابُ القسم لا محل لها من الإعراب، وجملةُ القسم في محل النصب مفعول ﴿أَوْحَيْنَا﴾. ﴿وَهُمْ﴾ مبتدأ، وجملة ﴿لَا يَشْعُرُونَ﴾ خبره، والجملة الاسمية في محل النصب حال من ضمير ﴿لَتُنَبِّئَنَّهُمْ﴾.
﴿وَجَاءُوا أَبَاهُمْ عِشَاءً يَبْكُونَ (١٦) قَالُوا يَا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِنْدَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ (١٧)﴾.
﴿وَجَاءُوا أَبَاهُمْ﴾ فعل وفاعل ومفعول، والجملة مستأنفة. ﴿عِشَاءً﴾ منصوب على الظرفية متعلق به. ﴿يَبْكُونَ﴾ فعل وفاعل، والجملة في محل النصب حال من فاعل ﴿جاءوا﴾. ﴿قَالُوا﴾ فعل وفاعل، والجملة مستأنفة. ﴿يَا أَبَانَا﴾ إلى آخر الآية مقول محكي، وإن شئت قلت: ﴿يَا أَبَانَا﴾ منادى مضاف، وجملة النداء في محل النصب مقول ﴿قال﴾ ﴿إِنَّا﴾ ناصب واسمه ﴿ذَهَبْنَا﴾ فعل وفاعل، والجملة في محل رفع خبر إنَّ، وجملة إنَّ في محل النصب مقول قال على كونها جوابَ النداءِ. ﴿نَسْتَبِقُ﴾ فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على إخوة يوسف، والجملة الفعلية في محل النصب حال من فاعل ﴿ذَهَبْنَا﴾. ﴿وَتَرَكْنَا يُوسُفَ﴾ فعل وفاعل ومفعول، والجملة في محل الرفع معطوفة على جملة ﴿ذَهَبنَا﴾. ﴿عِندَ متاعنا﴾ ظرف، ومضاف إليه، متعلق بـ ﴿تركنا﴾. ﴿فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ﴾ فعل ومفعول وفاعل معطوف على ﴿تركنا﴾. ﴿وَمَا﴾ ﴿الواو﴾ عاطفة. (ما) حجازية أو تميمية. ﴿أنتَ﴾ في محل الرفع اسمها أو مبتدأ. ﴿بِمُؤْمِنٍ﴾ خبر (ما) الحجازية، أو خبر المبتدأ و (الباء) زائدة. ﴿لَّنَا﴾ متعلق بـ ﴿مؤمن﴾، والجملة الاسمية في محل النصب معطوفة على جملة ﴿فَأَكَلَهُ﴾ على كونها مقول القول. {وَلَوْ كُنَّا
353
صَادِقِينَ} ﴿الواو﴾ عاطفة على محذوف تقديره: من كنا غير صادقينَ فما أنت بمؤمن لنا. (لو) حرف شرط. ﴿كُنَّا صَادِقِينَ﴾ فعل ناقص واسمه وخبره، والجملة فعل شرط لـ (لو) لا محل لها من الإعراب، وجواب (لو) محذوف تقديره: ولو كنا صادقين، لاتهمتنا في هذه القصة، وجملة لو الشرطية معطوفة على الجملة المحذوفة، والجملة المحذوفة في محل النصب حال من ضمير (لنا) تقديره: وما أنت بمؤمن لنا حَالَةَ كَوْنِنا صَادِقينَ وغَيْرَ صادقين.
﴿وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ (١٨)﴾.
﴿وَجَاءُوا﴾ فعل وفاعل. ﴿عَلَى قَمِيصِهِ﴾ ظرف بمعنى فوق في محل النصب على الظرفية، والظرف متعلق بمحذوف حال من ﴿دم﴾. ﴿بِدَمٍ﴾ متعلق بـ ﴿جاؤوا﴾. ﴿كَذِبٍ﴾ صفة ﴿دم﴾ ولكنه في تأويل مشتق تقديره: مكذوب، والتقدير: ﴿وجاؤوا﴾ بدم حَالَه كونه فوق قميصه، وجملة ﴿جاؤوا﴾ مستأنفة. ﴿قَالَ﴾ فعل ماض وفاعله ضمير يعود على يعقوب، والجملة مستأنفة. ﴿بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ﴾ مقول محكي لـ ﴿قَالَ﴾، وإن شئت قلت: ﴿بَل﴾ حرف ابتداء وإضراب إبطالي. ﴿سَوَّلَتَ﴾ فعل ماض، وتاء تأنيث. ﴿لَكُمْ﴾ متعلق به. ﴿أَنْفُسُكُمْ﴾ فاعل. ﴿أَمْرًا﴾ مفعول به، والجملة في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾. ﴿فَصَبْرٌ﴾ (الفاء) حرف عطف وتفريع. ﴿صبر﴾ خبر مبتدأ محذوف، تقديره: فصبري صبر جميل. ﴿جَمِيلٌ﴾ صفة ﴿صبر﴾، والجملة في محل النصب معطوفة على جملة ﴿سَوَّلَتْ﴾ ﴿وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ﴾ مبتدأ وخبر، والجملة معطوفة على جملة قوله ﴿فَصَبْرٌ جَمِيلٌ﴾. ﴿عَلَى مَا﴾ جار ومجرور متعلق بـ ﴿الْمُسْتَعَانُ﴾. ﴿تَصِفُونَ﴾ فعل وفاعل، والجملة صلة لـ (ما) أو صفة لها، والعائد، أو الرابط محذوف تقديره على ما تصفونه.
﴿وَجَاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُوا وَارِدَهُمْ فَأَدْلَى دَلْوَهُ قَالَ يَا بُشْرَى هَذَا غُلَامٌ وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (١٩)﴾.
﴿وَجَاءَتْ سَيَّارَةٌ﴾ فعل وفاعل، والجملة مستأنفة. ﴿فَأَرْسَلُوا وَارِدَهُمْ﴾ فعل وفاعل، ومفعول، و (الفاء) عاطفة، والجملة معطوفة على جملة ﴿جاءت﴾.
354
﴿فأَدْلَى دَلْوَهُ﴾ فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على الوارد، والجملة معطوفة على جملة ﴿أرسلوا﴾. ﴿قَالَ﴾ فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على الوارد، والجملة مستأنفة استئنافًا بيانيًّا. ﴿يَا بُشْرَى هَذَا غُلَامٌ﴾ مقول محكي لـ ﴿قَالَ﴾ وإن شئت قلت: يا بشرى بالقصر منادى نكرة مقصودة. وفي قراءة: ﴿يا بشراي﴾ بالياء منادى مضاف، وجملة النداء في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾. ﴿هَذَا غُلَامٌ﴾ مبتدأ وخبر، والجملة في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾ على كونها جوابَ النداء. ﴿وَأَسَرُّوهُ﴾ فعل وفاعل، ومفعول، والجملة معطوفة على جملة ﴿قَالَ﴾. ﴿بِضَاعَةً﴾ معمولٌ لمحذوف، هو حال من (واو) (أسروه) تقديره: (وأسروه) حالَةَ كونهم جَاعِلِيه بضاعةً، أي شيئًا مُتَموَّلًا. ﴿وَاللَّهُ عَلِيمٌ﴾ مبتدأ، وخبر، والجملة مستأنفة. ﴿بِمَا﴾ جار ومجرور متعلق بـ ﴿عَلِيمٌ﴾. ﴿يَعْمَلُونَ﴾ فعل وفاعل، والجملة صلة لـ ﴿ما﴾ أو صفة لها، والعائد، أو الرابط محذوف تقديره بما يعملونه.
﴿وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ (٢٠)﴾.
﴿وَشَرَوْهُ﴾ فعل وفاعل ومفعول، والجملة مستأنفة أو معطوفة على (أسروه). ﴿بِثَمَنٍ﴾ متعلق به. ﴿بَخْسٍ﴾ صفة لـ (ثمن) على تأويله بمشتق تقديره: مبخوس، أي: منقوص. ﴿دَرَاهِمَ﴾ بدل من (ثمن). ﴿مَعْدُودَةٍ﴾ صفة لـ ﴿دَرَاهِمَ﴾. ﴿مِنَ الزَّاهِدِينَ﴾ فعل ناقص واسمه. ﴿فِيهِ﴾ جار ومجرور متعلق بـ ﴿الزَّاهِدِينَ﴾. ﴿مِنَ الزَّاهِدِينَ﴾ جار ومجرور خبر (كان)، وجملة (كان) معطوفة على جملة ﴿أشَرَوْهُ﴾.
التصريف ومفردات اللغة
﴿تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ﴾، ﴿الْمُبِينِ﴾ اسم فاعل من أبان المتعدي، وسيأتي في قوله: ﴿عَدُوٌّ مُبِينٌ﴾ أنه من اللازم، فهو من أبَانَ بمعنى أظهَرَ أي: المُظْهِرُ للحق من الباطل، والحلال من الحرام. ﴿قُرْآنًا عَرَبِيًّا﴾ والعربي منسوب للعرب، لأنه نزل بلغتهم، وواحدُ العرب عربي كما أن واحد الروم رومي، اهـ "سمين".
355
واختلف العلماء هل يمكن أن يقالَ في القرآن شيء غير عربي. قال أبو عبيدة: ومن قال فيه شيء غير عربي، فقد أعظم على الله القول، واحتجَّ بهذه الآية: ﴿إنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا﴾. وروي عن ابن عباس، ومجاهد، وعكرمة: أنَّ فيه عن غير العربي مثل: ﴿سِجِّيلٍ﴾ و ﴿المشكاة﴾ و ﴿اليم﴾ و ﴿استبرق﴾ ونحو ذلك، وهذا هو الصحيح المختار؛ لأن هؤلاء أعلمُ عن أبي عبيدة بلسان العرب، وكلا القولين صواب إن شاء الله تعالى. ووجه الجمع بينهما أنَّ هذه الألفاظ لما تكلمت بها العرب، ودارَتْ على ألسنتهم صارت عربيةً فصيحةً، وإن كانت غير عربيةٍ في الأصل، لكنهم لما تكلموا بها نسبت إليهم، وصارت لهم لغةً فظَهَر بهذا البيان صحة القولين، وأمكن الجمع بينهما، اهـ "خازن".
﴿نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ﴾ قص من باب: ردَّ والمصدر قَصَصًا بالفك، وقصًّا بالإدغام. وفي "المصباح": قَصَصْتُ الخَبَرَ قَصًّا من باب قتل، حدثته على وجهه، والاسم القصص بفتحتين، وقصصت الأثر: تتبعته، اهـ. وفي "البيضاوي": القصص هنا بمعنى المفعول كالنقض والسلب بمعنى المنقوض والمسلوب، اهـ.
﴿أَحْسَنَ الْقَصَصِ﴾ وأحسن يجوز أن يكون أفعلَ تفضيل على بابه، وأن يكونَ لمجرد الوصف بالحسن، ويكونَ من باب إضافة الصفة لموصوفها؛ أي: القصص الحسن. وفي "الخازن": أصل القصص في اللغة من قصَّ الخبر، إذا تتبعه، وإنما سميت الحكاية قِصَّةً لأن الذي يَقُصُّ الحديثَ يذكر تلك القصة شيئًا فشيئًا. والمعنى: نحن نبين لك أخبار الأمم السالفة أحسنَ البيان. وقيل: المرادُ خُصوص قصة يوسف، وإنما كانت أحسنَ القصص لما فيها من الحكم، والنكت، وسير الملوك، والمماليك، والعلماء، ومَكْرِ النساء، والصبر على الأذى، والتجاوز عنه أحسنَ التجاوز وغير ذلك من الفوائد الشريفة.
﴿يَا أَبَتِ﴾ بكسر تاء التأنيث اللفظي التي هي عوض عن ياء المتكلم المحذوفة. وأصله: يا أبي فحذفت الياءُ، وأتي بالتاء عوضًا عنها، ونقلت كسرة ما قبل الياء، وهو الباء للتاء، ثم فتحت الباءُ على القاعدة في فتح ما قبل تاء التأنيث، وبفتح التاء، والأصل عليه: يا أبيَ، بكسر الباء؛ وفتح الياء؛ ففتحت
356
الباءُ ثم قلبت الياء ألفًا لتحركها وانفتاح ما قبلَها، ثم حذفت الألف، وعوَّض عنها تاءُ التأنيث، وفُتحت للدلالة على أنَّ أصلَها الألف المنقلبة عن الياء. قال الزمخشري: فإن قلت: كيف جاز لُحوقُ تاء التأنيث بالمذكر؟
قلت: كما جاز نحو قولك: حَمامَةٌ ذكر وشاة ذكرٌ ورجل رَبْعَةٌ وغلام يفعة. قلت: يعني أنها جيء بها لمجرد تأنيث اللفظ كما في الألفاظ المستشهد بها، ثم قال الزمخشري. فإن قلت: فلم ساغ تعويض تاء التأنيث من ياء الإضافة؟
قلت: لأن التأنيثَ والإضافةَ يتناسبان في أن كلَّ واحد منهما زيادةٌ مضمومةٌ إلى الاسم في آخره.
قلت: وهذا قياس بعيد لا يعمل به عند الحذاق، فإنه يسمى الشبهَ الطَّرْدِيَّ في يعني أنه شَبهٌ في الصورة، اهـ "سمين". ﴿لِي سَاجِدِينَ﴾ والسجودُ هنا: منْ سَجْدَ البعير إذا خَفضَ رَأْسَهُ لراكبه حين ركوبه، وكان من عادة الناس في تحية التعظيم بفِلَسْطين، ومصر، وغيرهما، الانحناء مُبَالغَةً في الخضوع والتعظيم، وقدِ استعمله القرآن في انقياد كل المخلوقات لإرادة الله، وتسخيره، ولا يكون السجود عِبَادةً إلا بالقصد، والنية للتقرب إلى من يعتقد أنَّ له عليه سُلْطانًا غَيْبِيًّا فوق سلطان الأسباب المعهودة. ﴿رُؤْيَاكَ﴾ الرؤيا مصدر رَئِيَ في المنام رؤيا على وزن فعلى، كالسقيَا والبشرى، وألفه للتأنيث، ولذلك لم يصرف. ﴿فَيَكِيدُوا لَكَ﴾ يقال: كاد له الأمر إذا دبَّر الكَيْدَ لأجله لمضرته، أو لمنفعته كما قال ﴿كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ﴾. وفي "الفتوحات" قوله: ﴿فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا﴾ كاد يَتَعدَّى بنفسه كما في قوله: ﴿فَكِيدُونِي جَمِيعًا﴾ وعدي هنا باللام لتضمُّنِه معنَى فعل يتعدى باللام، ولذا قال الشارح: يحتالوا في هلاك. قال الزمخشري: فإن قلت: هلا قال: فيكيدوك كما قال: فكيدوني جميعًا؟
قلت: ضُمِّنَ معنى فعل يتعدى باللام؛ ليفيدَ معنى فعل الكيد مع إفادة معنى الفعل المضمن، فيكون أفيد، وأبلغ، في التخويف، وذلك نحو: فيحتالوا لك، ألا ترى إلى تأكيده بالمصدر، و ﴿كَيْدًا﴾ مفعول به أي يصنعوا لك كيدًا أي أمرًا يكيدونك به، اهـ "سمين".
﴿عَدُوٌّ مُبِينٌ﴾؛ أي: بَين العداوةَ وظاهرها فهو من أبان اللازم. {وَكَذَلِكَ
357
يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ}، والاجتباء من جبيت الشيء إذ حصلته لنفسك، اهـ بيضاوي. وفي "الخازن" واجتباءُ العبدَ تخصيصه إياه بفيض إلهي تحصل منه أنواع المكرمات بلا سعي من العبد، وذلك مختص بالأنبياء، وببعض من يقاربهم من الصديقين والشهداء والصالحين، اهـ. ومنه: جبيت الماء في الحوض، أي: جمعته، ومعنى اجتباء الاصطفاء، وهذا يتضمن الثناء على يوسف، وتعديد نِعَمِ الله عليه. ﴿تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ﴾ والتأويل: الإخبار بما يؤول إليه الشيء في الوجود. والأحاديث جمع تكسير لحديثٍ فقيل لواحد: ملفوظ به، هو حديث، ولكنه شَذَّ جَمْعُه على أحاديثَ، وله نظائر في الشدود، كأباطيلَ، وأفاظيعَ، وأعاريضَ في باطل، وفظيعٍ وعريضٍ. وزَعَمَ أبو زيد أن له واحدًا مقدرًا، وهو أحدوثة، ونحوه، وليس باسم جمع؛ لأن هذه الصيغة مختصة بالتكسير، وإذا كانوا قد التزموا ذَلِكَ فيما لم يصرح له بمفرد من لفظه نحو: عباديد، وشَمَاطِيطَ، وأبابيلَ، ففي أحاديث أولى، اهـ سمين. ومعنى تأويل الأحاديث تعبيرُ الرؤيا، فالمراد بالرؤيا ما يرى في النوم، وسمي أحاديث؛ لأنها أحاديث الملك إن كانت صادقةً وأحاديث الشيطان، والنفس إن كانت كاذبةً، اهـ بيضاوي. ﴿أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا﴾ أحب أفعل تفضيل، وهو مبني من حبَّ المبنيّ للمفعول، وهو شاذ، وإذا بنيت أفعل التفضيل من مادة الحب، والبغض تَعدَّى إلى الفاعل المعنوي بإلى، وإلى المفعول المعنوي باللام، أو بقي فإذا قلتَ: زيد أحبُّ إليَّ من بَكْرٍ كانَ معناه أنك تحب زيدًا أكثرَ من بكر، فالمتكلم هو الفاعلُ، وكذلك إذا قلت هو أبغض إليّ منه، كانَ معناه أنت المبغض، وإذا قلتَ: زيدٌ أحب لي من عمرو، أو أحب في منه كان معناه: إنَّ زيدًا يحبني أكثر من عمرو، وعلى هذا جاءت الآية الكريمة فإنَّ الأبَ هو فاعل المحبة، اهـ سمين. وقوله: وهو شاذ يُشْكِلُ عيه وقوعَه في القرآن إلا أن يجابَ بأنه شاذ قياسًا، فصيح استعمالًا لوروده في أفصح الفصيح، تأمل. ﴿وَنَحْنُ عُصْبَةٌ﴾ والعصبة: ما زاد على عشرة. وعن ابن عباس ما بين عشرة وأربعين. وقيل: الثلاثة نَفَرٍ فإذا زادوا إلى تسعة فهم رهط، فإذا بلغوا العشرة فَصَاعِدًا فعُصْبَةٌ. وقيل: ما بين الواحد إلى العشرة. وقيل: من عشرة إلى خمسة عشرَ. وقيل: ستة. وقيل: تسعة، والمادة تدل على الإحاطة من العصابة
358
لإحاطتها بالرأس، اهـ سمين. ولا واحد لها من لفظها بل هي كالنفر، والرهط، وقد كانت الإخوة عشرةً.
﴿غَيَابَتِ الْجُبِّ﴾ قال الهروي: والغيابة: سدٌّ أو طاقٌ في البئر، قريبُ الماء يغيب ما فيه عن العيون. وقال الكلبي: الغيابة تكون في قعر الجب؛ لأن أسفله واسع، ورأسه ضيق، فلا يكاد الناظر يرى ما في جوانبه. وقال الزمخشري: هي غوره، وما غاب منه عن عين الناظر، وأظلم من أسفله. والجب: البئر التي لم تُطْوَ، ويقال لها: قبل الطيي رَكِيَّةٌ فإذا طويت قيل لها: بئر سمِّيت جُبًّا إما لكونها محفورة في جيوب الأرض؛ أي: ما غلظ منها، وإما لأنها قطعت في الأرض قطعًا، ومنه الجب في الذكر. ﴿يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ﴾ والالتقاط: أخذ شيء مشرف على الضياع من الطريق، أو من حيث لا يحتسب، ومنه اللقطة. واللقيط: يعني: يأخذه بعض المسافرينَ فيَذْهَبُ به إلى ناحية أخرى، فيستريحوا منه، اهـ "خازن". والسيارة: الجمع الذين يسيرون في الطريق، جمع سيار؛ أي: المبالغ في السير، اهـ خطيب. وفي "المختار": السيارة القافلة، اهـ. ﴿مَا لَكَ لَا تَأْمَنَّا﴾ وفي "السمين": وقرأ العامة: تأمنا بالإخفاء؛ أي: إخفاءِ النون عند النون المتحركة. والإخفاء: هو عبارة عن تضعيف الصوت بالحركة، والفصل بين النونين؛ لأنَّ النونَ تسكن رأسًا، فيكون ذلك إخفاءً لا إدغامًا.. وقرأ بعضهم ذلك بإشمام، وهو عبارة عن ضم الشفتين إشارة إلى حركة الفعلِ مع الإدغام الصريح، كما يشير إليه الواقف. وفيه: عُسْرٌ كَبِيرٌ، قالوا: وتكون الإشارة إلى الضمة بعد الإدغام وقبل كَمَالِه. وقرأ أبو جعفر بالإدغام الصريح من غير إشمام، وقرأ الحسن ذلك بالإظهار مبالغةً في بيان إعراب الفعل، وللمحافظة على حركة الإعراب. واتفق الجمهور على الإخفاء أو الإشمام كما تقدم تحقيقه، اهـ. ﴿وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ﴾ جمع ناصح، والناصح: المشفق المحب للخير. وعبارة "الخازن" هنا: المراد بالنصح هنا القيام بالمصلحة، وقيل: البر والعطف، والمعنى: وإنا لعاطفون عليه قائمون بمصلحته، وبحفظه. ﴿غَدًا﴾ وهو ظرف مستقبل يطلق على اليوم الذي يلي يومك، وعلى الزمن المستقبل من غير تقييد باليوم الذي يلي يومك. وأصله غَدْوٌ فحُذفت لامه، وقد جاءَ تامًّا ذكره أبو حيان. ﴿نرتع﴾ الجمهور على أنَّ العين آخِر الفعل يقال:
359
رَتَعَ فلان في ماله، إذا أنْفَقَهُ في شهواته. والأصل في الرتع أكل البهائم في الخصب، زمن الربيع، ويستعار للإنسان إذا أريد به الأكل الكثير. والرَّتع: الاتساع في الملاذ، والتمتع في أكل الفواكه، ونحوها فمنهم من يسكن آخره على الجواب، ومنهم من يَضُمَّه على أن تكون حالًا مقدرة. ويقرأ: ﴿نَرْتَعِ﴾ بكسر العين، وهو نفتعل من رَعَى، أي نَرْعَى ماشيَتَنا، أو نأكلُ نحن ذكره أبو البقاء. ﴿ونلعب﴾ والمراد باللعب لعب المسابقة، والانتضال بالسهام، ونحوهما مما يتدرب له لمقاتلة الأعداء، وتعليم فنون الحرب. قال الراغب: يقال: لَعب فلان، إذا كان فعلُهُ غيرَ قاصد به مقصدًا صحيحًا. ﴿لَيَحْزُنُنِي﴾ والحزن: ألم القلب بفراق المحبوب، أو وقوع مكروه. ﴿وَأَخَافُ﴾ والخوف: ألم النفس من توقع مكروه قبل وقوعه. ﴿الذِّئْبُ﴾ والذئب: سبع معروف، ويجمع على أذؤب، وذئاب، وذؤبان، وأرض مَذابة كثيرة الذئاب، وتذائيت الرياح جاءت من هنا ومن هنا فعل الذئاب.
﴿عِشَاءً﴾ فيه وجهان:
أحدهما: أنه ظرف أي وَقْتَ العشاء.
والثاني: أن يكون جمع عائش كقائم، وقيامٍ ويقرأُ بضم العين. والأصل: عُشَاة مثل غازٍ وغُزَاة، فحذفت الياء، وزيدت الألف عِوَضًا منها، ثم قلبت الألف همزةً. ويجوز أن يكونَ جمع فاعل على فِعَالٍ كما جمع فعيل على فعال كمرِيضٍ ومِرَاضٍ. ﴿عِنْدَ مَتَاعِنَا﴾ المتاع في اللغة كل ما انتفع به، وأصله النفع الحاضر، وهو اسم مصدر من متع تمتعًا كالسلام من سلم. ﴿بِدَمٍ كَذِبٍ﴾ فيه وصف الدم بالمصدر على سبيل المبالغة، فكأنَّه نَفْسَه صار كَذِبًا، والفاعل والمفعول يسمَّيان بالمصدر كما يقال: ماء سكب؛ أي: مسكوبٌ والفاعل كقوله: ﴿إنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا﴾ وكما سموا المصدرَ بهما قالوا: للعقل المعقول، وللجلد المجلود، ومنه قوله تعالى: ﴿بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ (٦)﴾ اهـ كرخي. وقرىء: ﴿بدم كدب﴾ بالدال المهملة، والكدب: الكدر، وقيل: الطَّرِيُّ. ﴿بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا﴾؛ أي: زينت وسهّلت. وأصل التسويل تقدير معنى في النفس مع الطمع في إتمامه. قال صاحب "الكشاف": سَوَّلَتْ: سَهَّلَتْ من السول بالتحريك، وهو الاسترخاء في العصب، ونحوه؛ أي: سَهَّلت لكم أنْفُسكُم أمرًا عَظِيمًا، فعلتموه
360
بيوسف، وهوَّنْتمُوه في أنفسكم وأعينكم. ﴿فَأَرْسَلُوا وَارِدَهُمْ﴾، والوارد: الذي يَرِدُ الماءَ، ليستَقِي للقوم. ﴿فَأَدْلَى دَلْوَهُ﴾ في "المختار" الدَّلْو: الذي يُسْتَقى بها، ودَلَى الدلو إذا نَزَعها، وبابه عَدَا وأدلاها أرسلها في البئر. وفي "القاموس": ودَلَوْتُ الدَّلْوَ ودليتها أرسلتها في البئر، ودلَّاها جَذَبَها لِيُخرِجَها، والدلو مؤنث، وقد يذكر، اهـ. ويصَغَّر على دلية ويجمع على أدل ودلاءً ودُلًى. ﴿وَأَسَرُّوهُ﴾؛ أي: أخْفَوْه من الناس ﴿بِضَاعَةً﴾ والبضاعة: القِطْعَةُ من المال يفْرز للاتجار به من بَضَعْتُه إذا قَطَعْتُه، ومنه المَبْضَعُ. ﴿وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ﴾ وشُري الشيء: إذا باعَهُ واشتراه إذا ابْتَاعَهُ. والبَخْسُ: النَّاقِصُ والمَعيب كما قال: ﴿وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ﴾ والمراد هنا: الحرامُ أو الظلمُ لأنه بيع حر.
البلاغة
وقد تضمنت هذه الآيات ضروبًا من البلاغة، وأنواعًا من الفصاحة والبيان والبديع:
فمنها: الإشارة بالبعيد إلى القريب في قوله: ﴿تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ﴾ تنزيلًا لبعد مرتبته في الكمال، وعُلو شأنه مَنْزِلَةَ البُعْدِ الحسّيِّ. ومنها: الاستعارة في قوله: ﴿لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾ وقال في (١) "بحر العلوم": لعلَّ مُستعار لمعنى الإرادة لملاحظة العرب معنى الإرادة، أو الترجي في لَعَلَّ؛ أي: أنزلناه قرآنًا عربيًّا، إرَادَةَ أن تَعْقِلَه العربُ، ويفهموا منه ما يَدْعُوهم إليه، فلا يكون لهم حُجَّةً على الله، ولا يقولوا لنبيهم ما خُوطبنا به.
ومنا: جناسُ الاشتقاق في قوله: ﴿نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ﴾.
ومنها: التعبيرُ عن عدم العلم بالغفلة في قوله: ﴿لَمِنَ الْغَافِلِينَ﴾ لإجلال شأنه عليه السلام كما في "الإرشاد" فليست هي الغفلة المتعارفة بين الناس.
ومنها: عَطْفُ الخاصِ على العام في قوله: ﴿وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ﴾ لإظهار
(١) روح البيان.
361
شَرَفِهِمَا على سائر الطوالع كعطف الروح على الملائكة في قوله: ﴿تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ﴾.
ومنها: إجراءُ غير العقلاء مُجْرَى العقلاء في ضمير ﴿رَأَيْتُهُمْ﴾ لوصفها بوصف العقلاء أعني السجود.
ومنها: التشبيه المرسل المجمل في قوله: ﴿كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ﴾.
ومنها: جناس الاشتقاق في قوله: ﴿فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا﴾.
ومنها: التنكير للإبهام في قوله: ﴿أَرْضًا﴾؛ أي: أرضًا مجهولةً.
ومنها: الاكتفاء في قوله: ﴿آيَاتٌ لِلسَّائِلِينَ﴾؛ أي: ولغيرهم، فالسائلون هم اليهود ففيه اكتفاء، وهو ذِكْرُ أحد متقابلين، وحذفُ الآخر لعلمه من المذكور.
ومنها: الإظهار في موضع الإضمار في قوله: ﴿اقْتُلُوا يُوسُفَ﴾ وفي قوله: ﴿لَا تَقْتُلُوا يُوسُفَ﴾.
ومنها: الاستعارة التصريحية التبعية في قوله: ﴿يَرْتَعْ﴾ لأنَّ الرتع حقيقةٌ في أكل البهائم في الخصب من الربيع، ويُستعَار للإنسان إذا أريد به الأكلُ الكثير كما مر.
ومنها: الجناس المغاير في قوله: ﴿فَأَدْلَى دَلْوَهُ﴾.
ومنها: التنكير في قوله: ﴿بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا﴾ للدلالة على عظم ذلك الأمر؛ أي: أمرًا عظيمًا.
ومنها: الحذفُ والزيادةُ في عدَّةَ مواضِعَ.
والله سبحانه وتعالى أعلم
* * *
362
قال الله سبحانه جلَّ وعلا:
﴿وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْ مِصْرَ لِامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (٢١) وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (٢٢) وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (٢٣) وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ (٢٤) وَاسْتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ قَالَتْ مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (٢٥) قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (٢٦) وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٢٧) فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ (٢٨) يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ (٢٩) وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (٣٠) فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّينًا وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ (٣١) قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا مِنَ الصَّاغِرِينَ (٣٢) قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ (٣٣) فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٣٤) ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الْآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ (٣٥)﴾.
المناسبة
قوله تعالى: ﴿وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْ مِصْر...﴾ الآيتين، هاتان الآيتان مبدأُ قَصَصِ يوسف في بيت العزيز الذي اشتراه، وفيها بيان تمكين الله له، وتعليمه تأويلَ الأحاديث، وإيتائه حُكْمًا وعِلْمًا وشهادة من الله له بأنه من زمرة المتقين.
قوله تعالى: ﴿وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ...﴾ الآيات، مناسبة هذه
363
الآيات لما قبلها: أن الله سبحانَه وتَعالى لما ذكر (١) وَصِيَّة العزيز لامرأته بإكرام مثواه، وعَلَّلَ ذلك بحُسن الرَّجاء فيه، ثم بَيَّن عنايتَه سبحانَه به وتمهيدَ سبل كماله بتمكينه في الأرض، ذَكَرَ هنا مراودةَ امرأته له، ونظرها إليه بغير العينِ، التي نَظَرَ بها زَوْجُها إليه، وأرَادَتْ مِنه غير ما أراده هو، وما أرَادَ الله من فَوْقِهِمَا، وأعدت العُدَّةَ لِذلكَ فغَلَّقَتْ الأبوابَ، فهرب منها إلى باب المخْدَع، فقدَّتْ قَمِيصَه من خَلْف، ووَجَدَا زَوْجَها بالباب الخارجي، فبادرَت إلى اتهامه بإرادة السوء إلى أن استبانت براءته.
قوله تعالى: ﴿قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي...﴾ الآيات، مناسبتُها لما قبلها، بعد أن ذكر سبحانه في الآيات السابقة مخَادَعَتَها ليوسُفَ عن نفسه، وتغليقَها الأبواب، وهرَبه منها إلى الباب، وجَذْبِهَا لقميصه، ورؤيةِ سَيِّدها لذلك الحادث، واتهامها لِيُوسُفَ بإرادة السوء منها. ذكر هنا تبرئةَ يوسف لنفسه، وحكم قريبِها في القضية بعد بحث وتشاور بين زوجها وأهلها، ثمَّ علم الزوج ببراءةِ يُوسُفَ وثبوتِ خطيئتها.
قوله تعالى: ﴿وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ...﴾ الآيات، ناسبتها لما قبلها: بعد أن ذكر سبحانه تحقيقَ زوجها في الحادث، وحكم أحد أقاربها بما رَأى وقد استبانَ منه براءةَ يُوسُفَ، ذكر هنا أنَّ الأَمْرَ قد استفاض في بيوت نساء الوزراء، والكُبراء، فأحْبَبْنَ أن يَمْكُرْنَ بها لِتُرِيَهن هذا الشابَّ الذي فتنها جماله، وأذلَّها عَفَافُهُ وكماله حتَّى راودَتْه عن نفسه وهو فَتَاها، ودَعَتْهُ إلى نفسها فردَّها وأَبَاهَا خشيةَ لله، وحفظًا لأمانة السيد المحسن إليه، أن يَخُونَه في أعز شيء لديه، علَّه بعد هذا يَصْبُو إليهن، ويَجْذِبُه جمالهن، ويكون له فيهن رَأيٌ غير ما رآه فيها، فإنه قد ألِفَ جَمَالها قبل أن يَبْلُغ الأشدَّ، وكان يَنْظُرَ إليها نظرةَ العبدِ إلى سيدته، أو الولد إلى والدته.
(١) المراغي.
364
التفسير وأوجه القراءة
٢١ - ﴿وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ﴾؛ أي: اشترى يوسف ﴿مِنْ مِصْرَ﴾؛ أي: في مصر لم يبين الكتاب الكريمُ اسم الذي اشتراه في مصر، ولا منصبه، ولا اسمَ امرأته؛ لأن ذلك لا يهم في العبرة من القصة، ولا يزيد في العظة، ولكن لَقَّبه النسوة فيما يأتي ﴿العزيز﴾ وهو اللقب الذي لقب به يوسف بعد أن تولَّى إدارة الملك في مصر. والظاهر أنه لقب أكبر وُزراء الملك. قال في "القاموس": العزيز: المَلِكُ لغلبته على أهل مملكته، ولَقَبُ مَنْ مَلَكَ مصر مع الإسكندرية، انتهى. وبيانُ كَوْنِه من مصر للإشعار بكونه غيرَ من اشتراه من الملتقطين، بما ذكر من الثمن البخس كما في "الإرشاد".
فالذي (١) اشتراه في مصر هو قطفير خَازِنُ الملكِ الريَّان بن الوليد، وكان صَاحِبَ جنوده، ورئيسَ الشرطة، وحامِيةِ الملك، وناظر السجون، وقد آمن الملك بيوسف، ومات في حياة يُوسُفَ عليه السلام، فملك بَعْدَه قابوس بن مصعب، فدعاه يُوسُفُ إلى الإِسلام فأبى. وكانَ من نَسْلِهِ فرعونُ موسى. واشترى ذلك الوزيرُ يُوسُفَ، وهو ابن سبع عشرة سنة، وأقام في منزله ثلاث عَشَرَة سنة، واستوزره رَيَّان بن الوليد، وهو ابنُ ثلاثين سنَةً. وآتاه الله المُلْكَ والحكمةَ وهو ابن ثلاث وثلاثين سنة. وتوفي وهو ابن مئة وعِشْرِين سنةً. وهو أول من عملَ القراطيس. وقوله: ﴿لِامْرَأَتِهِ﴾ متعلق بـ (قال) لابـ (اشترى)؛ أي: قال لامرأته رَاعِيلَ بنتَ رعائيل، ولقبها (٢) زُليخا بضم الزاي المعجمة، وفتح اللام والمد مصغرًا كما في "عين المعاني" والمشهور في الألسنة فتح الزاي، وكسر اللام.
﴿أَكْرِمِي مَثْوَاهُ﴾؛ أي: اجعلي محلَّ إقامته كريمًا حَسَنًا مَرْضِيًّا. والمعنى: أحسني تعهده في المطعم، والمشرب وغيرهما. فهو كناية عن إكرام نفسه، إحسان تعهده كما يقال: المقام العالي ويكنى به عن السلطان. قال الإِمام الغزالي رحمه الله تعالى: يُكْنَى عن الشريف بالجَنابِ، والحضرة، والمجلس،
(١) المراح.
(٢) روح البيان.
365
فيقال: السلامُ على حضرته المباركة، ومجلسه الشريف، والمرادُ به السلامُ عليه، لكن يُكْنَى عنه بما يتعلَّق به نوع التعلق إجلالًا، انتهى.
وخُلاصة ما قال (١): أحسِنِي تعَهُّدَهُ وانظرِي فيما يقتضيه إكرام الضيف على أبلغ وجه وأتَمِّهِ.
ورُوي عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه قال: أفرسُ الناس ثلاثة: عزيز مصر حين قال لامرأته: ﴿أَكْرِمِي مَثْوَاهُ﴾، وابنة شعيب حين قالت لأبيها: ﴿يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ﴾ الآية، وأبو بكر رضي الله عنه حين استَخْلَفَ عُمَر بنَ الخطاب رضي الله عنه.
ثمَّ بَيَّنَ عِلَّةِ إكرامه برجائه فيه، وعظيم أمله في جليل مساعدته، فقال: ﴿عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا﴾؛ أي: عَلَّه أن يَنْفَعَنا في أمورنا الخاصة إذا تدرَّبَ فيها، وعَرَفَ مَوارِدَها ومصَادِرَها، أو شؤون الدولة العامة، لِمَا يلوح عليه من مخايل الذكاء والنَّجَابة. ﴿أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا﴾؛ أي: نتبناه، ونقيمه مقَامَ الولد فَيَكُون قُرة عَيْنٍ لنا، ووارثًا لمالنا، ومَجْدنا إذا تمَّ رشده، ونَضَج عقله. وفي الآية إيماء إلى شيئين:
١ - أنَّ العزيز كان عقيمًا.
٢ - أنه كان صادق الفراسة، ثاقب الفكر.
فقد استدل من كمال خُلُقه وخَلْقِهِ على أنَّ حُسْنَ عشرته، وكرمَ وَفادته، وشرفَ تربيته مما يُكمل استعدادَه الفطرِيّ. فالتجارب دلَّتْ على أنه لا يفسد الأخلاقَ شيء أكثر مما تُفْسِدُها البيئة الفاسدة، وسوء القدوة.
والمعنى: أكرمي إقامتَه عندنا بحسن العشرة، نرجو من الله أن ينفَعَنا فيما نحتاج إليه، ويكفينا بَعْضَ المهمات، أو نتبناه، ونُقيمه مقام الولد، ولم يكن لنا ولدٌ. وكان العزيز هذا لا يأتي النساء أو عَقِيمًا. فالمراد من نفعه أحدُ أمرين: إمَّا الرِّبحُ فيه إذا باعوه، أو معاونتُه لهم إن أبقَوه، وهذان غَيْرَ اتخاذه ولدًا. ويَجُوز
(١) المراغي.
366
أن تكونَ ﴿أو﴾ مَانِعَة خُلُوٍّ فتجوِّزَ الجمع، اهـ "فتوحات".
﴿وَكَذَلِكَ﴾؛ أي: وكما نجينا يوسف من القتل، والجبِّ وجَعَلْنَا في قلب الوزير حُنوًّا عليه ﴿مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ﴾؛ أي: أعطينا له مَكَانَةً؛ أي: رتبة عالية في أرض مصر. وهي أربعونَ فَرْسَخًا في أربعين فرسخًا. وقوله: ﴿وَلِنُعَلِّمَهُ﴾ معطوف على محذوف متعلق بـ ﴿مَكَّنَّا﴾؛ أي: وكذلك مكنا ليوسف في أرض مصر، وجعلناه وجيهًا بين أهلها، ومحبَّبًا في قلوبهم، لينشأ منه ما جرى بينه وبين امرأة العزيز، وليتصرَّف فيها بالعدل، ولنعلِّمه ﴿وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ﴾؛ أي: تعبير بعض المنامات، التي أعظمها رؤيا الملك، وصاحبي السجن ﴿وَاللَّهُ﴾ سبحانه وتعالى ﴿غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ﴾، و ﴿الهاء﴾ عائدة على الله؛ أي: غالب على أمر يريده لا يرده شيء، ولا ينازِعُه أحدٌ فيما شاء، ويحكم في أمر يوسف وغيره، بل إنما أمره إذا أراد شيئًا أن يقول له كن فيكون. ﴿وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ﴾ وهم الكفار ﴿لَا يَعْلَمُونَ﴾، أنَّ الأمر كله لله، وأن قَضَاءَ الله غالب، فمن تأمل في أحوال الدنيا عَرَف ذلك؛ أي: فما حدث من إخوة يوسف له، وما فعله مسترقوه، وبائِعُوه، وما وَصَّى به الذي اشتراه امرأتَه من إكرام مثواه، وما وقع له مع هذه المرأة من الأحداث، ومنْ دخولِهِ السجنَ، قد كان من الأسباب التي أراد الله تعالى له بها التمكينَ في الأرض، ولكنَّ أكثرَ الناس يأخذون الأمورَ بظواهرها، كما زَعَم إخوة يوسف أنه لو أُبْعِدَ يوسفُ عنهم خَلا لهم وجه أبيهم، وكانوا من بعده قومًا صالحين. وقوله: ﴿أَكْثَرَ النَّاسِ﴾ إيماء إلى أنَّ الأقل يعلمون ذلك، كيعقوب عليه السلام، فإنه يعلم أن الله غالب على أمره. فهذه أقواله السَّابقةُ واللاحقةُ صريحة في ذلك، ولكن عِلْمُه إجمالي لا تفصيليٌّ، إذ لا يحيطُ بما تخبئه الأقدارُ.
٢٢ - وبعد أن بيَّن سبحَانَه أنَّ إخوةَ يوسف أساؤوا إليه، وصَبَرَ على تلك الشدائد حتى مكَّنَ الله له في أرض مصر، بيَّن هنا أنه أتاه الحُكْمَ والعلم حين استكمال سن الشباب، وبلوغ الأشد، وأنَّ ذلك جزاء منه سبحانه على إحسانه في سيرته فقال عزَّ اسمه: ﴿وَلَمَّا بَلَغَ﴾ يوسف ﴿أَشُدَّهُ﴾؛ أي: سن رشده وكمال قوته،
367
باستكمال نموه البدني والعقليّ. وقال أهل التفسير: أي منتهى اشتداد جسمه، وقوته واستحكام عقله، وتمييزه، وهو سنُّ الوقوف ما بين الثلاثين إلى الأربعين. ﴿آتَيْنَاهُ﴾؛ أي: وَهَبْنَاه ﴿حُكْمًا﴾ صَحِيحًا فيما يعرض له من مَهامّ الأمور، ومشكلات الحوادث مقرونًا بالحق والصواب ﴿وَعِلْمًا﴾ لَدُنِيًّا، وفكرِيًّا بما ينبغي أن تسير عليه الأمور.
وقدَّرَ (١) الأطباء هذه السنَّ بخمس وعشرين سَنةً. وقد أثبت علماء الاجتماع أنَّ الاستعدادَ الإنسانيَّ يظهر رُوَيْدًا رُوَيْدًا حتى إذا ما بلغ المرء خَمْسًا وثلاثين سنة وَقَف عند هذا الحد، ولم يظهر فيه شيء جديد غير ما ظهر من بدء سن التمييز إلى هذه السن. ولهذا قال ابن عباس إنها ثلاث وثلاثون سنة.
وفي "روح البيان" (٢): والعقلاء ضبطوا مراتبُ أعمار الناس في أربع:
الأولى: سن النشوء والنَّماء، ونهايته إلى ثلاثين سنة.
والثانية: سن الوقوف وهو سن الشباب ونهايته إلى أن تتم أربعون سنةً من عمره.
والثالثة: سن الكهولة، وهو سن الانحطاط اليسير الخفيّ، وتمامه إلى ستين سنة.
والرابعة: سنِّ الشيخوخة، وهو سنُّ الانحطاط العظيم الظاهر، وتمامه عند الأطباء إلى مِئةً وعشرين سنة. والأشُدُّ: غاية الوصول إلى الفطرة الأولى. وعبارةُ "الخازن" ﴿وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ﴾ أي (٣) منتهى شبابه، وشدته، وقوته قال مجاهد: ثلاثةٌ وثلاثون سنة. وقال الضحاك: عِشْرُون سنةً. وقال السدي: ثلاثون سنة. وقال الكَلْبي: الأشد ما بين ثماني عشرة سنة إلى ثلاثين سنةً. وسُئِلَ مالك عن الأَشُدِّ فقال: هو الحُلُم. ﴿آتَيْنَاهُ﴾؛ أي: آتينا يُوسُفَ بعد بلوغ الأشد، ﴿حُكْمًا﴾؛ أي:
(١) المراغي.
(٢) روح البيان.
(٣) الخازن.
368
نبوة ﴿وَعِلْمًا﴾؛ أي: فقهًا في الدين. وقيل: حُكْمًا يعني إصابة في القول، وعَلمًا، بتأويل الرؤيا انتهت. وقال القشيري: مِنْ جملة الحكم الذي آتاه الله نُفوذُ حكمه على نفسه حتى غَلَبَ شَهْوَتَه، فامْتَنَع عمَّا راودته زُليخَا عن نفسه، ومَنْ لا حُكْمَ له على نفسه لم يَنفُذْ حُكْمُه على غيره.
قال الإِمام نقلًا عن الحسن: كان يوسفُ نبيًّا من الوقت الذي أُلْقِيَ فيه في غيابة الجب لقوله تعالى: ﴿وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ﴾ ولذا لم يقُلْ هُنا: ولمَّا بلغ أشدَّه واستوى، كما قال في قصة موسى؛ لأنَّ موسى أوحي إليه عند منتهى الأشدّ والاستواء وهو أربعون سنةً، وأوحي إلى يوسف عند أوله، وهو ثمان عشرة سنةً. وعن الحسن: مَنْ أَحسَنَ عبادةَ ربه في شبيبته آتاه الله الحكمة في اكتهالِه، وفيه إشارة إلى أنَّ المطيع تُفْتَحُ له ينابيع الحكمة، وتنبيه على أنَّ العطِيَّة الإلهية تَصِلُ إلى العبد، وإن طَالَ العَهْدُ إذا جاءَ أوانُها فلطالبِ الحق أن ينتظر إحسانَ الله تعالى، ولا ييأس منه.
﴿وَكَذَلِكَ﴾؛ أي: مثل ذلك الجزاء العجيب الذي جَزَيْنا يوسف ﴿نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ﴾؛ أي: كلَّ مَنْ يُحْسِنُ في عمله، وفي تعليق الجزاء المذكور بالمحسنين إشعارٌ بعَلِيّة الإحسان له، وتنبيهٌ على أنه سبحانه إنما أتاه الحكمَ والعلم لكونه مُحْسِنًا في أعماله، متقيًا في عنفوان أمره، هل جزاء الإحسان إلا الإحسان. قال بعضهم: نجزي المحسنين الذين يحسنون لأنفسهم في الطلب، والإرادة والاجتهاد، والرِّيادة فمَنْ أدْخل نَفسَه في زمرة أهل الإحسان جزاه الله تعالى بأَحْسَنِ الجزاء، وأحبه كما قال الله تعالى: ﴿وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾ فمن أحبَّه الله تعالى نَالَ سَعَادةَ الدَّارَيْنِ.
والمعنى: أي ومثل ذلك الجزاءِ العظيمِ نُجازِي به المتحلِّينَ بصفة الإحسان الذين لم يدنِّسُوا أنْفُسَهم بسيئات الأعمال، فنُؤتيهم نصيبًا من الحكم بالحق، والعدل، وعلمًا يظهره القولُ الفصلُ إذ يكون لذلك الإحسانِ تأثيرٌ في صفاء عقولهم وجَودةِ أفْهَامِهم وفقههم لحقائق الأشياء غيرَ ما يستفيدون بالكسب من غيرهم، ولا يتهيأ مثل ذلك للمسيئين في أعمالهم المتبعين لأهوائهم، وطاعة
369
شهواتهم.
٢٣ - ﴿وَرَاوَدَتْهُ﴾؛ أي: راودَتْ يوسفَ وطلبته المرأة ﴿الَّتِي هُوَ﴾؛ أي: يوسف ﴿فِي بَيْتِهَا﴾؛ أي: في سَكَنِها ومَنْزِلها أن يحابيَ لها ﴿عَنْ نَفْسِهِ﴾ ويمكنَ لها من نفسه بالمواقعة عليها، والمجامعة بها. يقال: راودَ فلان جاريتَهُ عن نفسِهَا، وراودته هي عن نَفْسِهِ إذا حاول كل واحد منهما الوطءَ والجماعَ، وهي مفاعلة. وأصلها: أن تكونَ من الجانبين فجُعِلَ السببُ هنا في أحد الجانبين قائمًا مقامَ المسبب، فكأن يوسُفَ عليه السلام - لمَّا كان ما أعطيه من كمال الخلق، والزيادة في الحسن سببًا لمراودة امرأة العزيز له - مُراود لها، وإنما قال ﴿الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا﴾ ولم يقُل امرأة العزيز أو زليخا قَصَدًا إلى زيادة التقرير مع استهجان التصريح باسم المرأة، والمحافظة على الستر عليها. ﴿وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ﴾ عليها، وعلى يُوسُفَ؛ أي: أطبقَتْها، وكانت سبعةً، لأنَّ مثل هذا الفعل لا يكون إلا في ستر وخفية، أو إنها أغْلَقَتْها لشِدّةِ خوفِها. ﴿وَقَالَتْ﴾ ليوسف ﴿هَيْتَ﴾؛ أي: هلمَّ إليَّ، وأَقْبِلْ وبَادِرْ، أو تهيأت ﴿لَكَ﴾ لتستمتع بي وتجامعني. والمعنى: وخادعَتْ امرأة العزيز يُوسُفَ عن نفسه، وراوغته ليريدَ منها ما تريد هي منه، مُخالفًا لإرادته، وإرادة ربه، والله غالبٌ على أمره. قال في "الكشاف": كأنَّ المعنى خادعَتْه عن نفسه؛ أي: فعلت ما يفعلُ المُخادِعُ لصاحبه عن شيء لا يريد إخراجَه من يده، وهو يحتال أن يأخذه منه، وهي عبارة عن التمحل في مواقعته إياها، اهـ.
﴿وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ﴾؛ أي: وأحْكَمَتْ إغلاق بابِ المخدعَ الذي كَانَا فيه، وباب البهو الذي يكون أمامَ الغُرَفِ في بيوت العظماء، وباب الدار الخارجيِّ ورُبَّما كان هناك غيرُها ﴿وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ﴾؛ أي: وقالَتْ: هلم أقْبِلْ وزيدت كلمةٌ ﴿لَكَ﴾ لبيان المخاطب كما يقولونَ سقيًا لك، ورَعْيًا لك. وهذا الأسلوب هو الغاية في الاحتشام في التعبير، وقد يكون هناك ما زادته من إغراءٍ، وتهييج مما تقتضيه الحالُ، وما نُقل من الإسرائيليات عنها وعنه من الوقاحة فكذب فمثل هذا لا يُعْلَمُ إلا من الله، أو من الرواية الصحيحة عنها، أو عنه، ولا يستطيع أن يدَّعِي ذلك أحدٌ. وقرأ (١) نافع وابن ذكوان والأعرج وشيبة وأبو جعفر: ﴿هَيْتَ﴾
(١) البحر المحيط.
370
بكسر الهاء بعدها ياء ساكنة وفح التاء. والحلوانيُّ عن هشام كذلك إلَّا أنه هَمَّزَ وقال: ﴿هِئْتَ﴾. وكذلك قرأ علي، وأبو وائل، وأبو رجاء، ويحيى، وعكرمة، ومجاهد، وقتادة، وطلحة، والمقرىء، وابنُ عباس، وأبو عامر في رواية عنهما، وأبو عمرو في رواية، وهشام في رواية، كذلك إلا أنهم ضَمُّوا التَّاء، وزيد بن علي، وابنُ أبي إسحاق كذلك إلا أنهما سهَّلاَ الهمزة. وذكر النَّحاس أنه قرئ بكسر الهاء بعدها ياء ساكنة، وكسر التاء. وقرأ ابن كثير، وأهل مكة بفتح الهاء، وسكون الياء، وضم التاء. وباقي السبعة أبو عَمرو والكوفيون، وابنُ مسعود، والحسن، والبصريون، كذلك إلا أنهم فتحوا التاءَ. وابن عباس، وأبو الأسود، وابن أبي إسحاق وابنُ مُحيصن، وعيسى البصرة كذلك. وعن ابن عباس: ﴿هييتَ﴾ مثل حييت. فهذه تسع قراءات هي فيها اسمُ فعل إلّا قراءة ابن عباس الأخيرة، فإنها فعل مبني للمفعول، مسهَّلُ الهمزة من هيأت الشيءَ، وإلا مَنْ ضَمَّ التاءَ، وكَسر الهاء سَوَاءٌ هَمَّز أم لم يُهَمِّزْ فإنه يحتمل أن يكون اسم فعل كحالها عند فتح التاء، أو كسرها، ويحتمل أن يكونَ فِعْلًا واقِعًا عن ضمير المتكلم من هاء الرجل يهيىء إذا أحسن هيئَتَهُ على مثال: جاء يجيء، أو بمعنى تهيأت يقال: هَيْتَ وتَهَيأتَ بمعنى واحد. فإذا كانَ فِعْلًا تعلقت اللام بِهِ. وفي هذه الكَلِمةِ لغات أُخر، أعرضنا عنها صَفْحًا خوف الإطالة.
وانتصب ﴿مَعَاذَ اللَّهِ﴾ على المصدر بفعل محذوف وجوبًا، تقديره: أعوذ باللهِ سبحانه وتعالى؛ عياذًا مما تدعينني إليه، وألْتَجِىء إليه، وأعْتَصِمُ به مما تريدين مني من فعل السوء فهو يعيذني أن أَكُون من الجاهلين، كما سيأتي من قوله: ﴿وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ﴾.
وجملة: ﴿إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ﴾ تعليل للامتناع الكائن منه ببعض الأسباب التي هي أقربُ إلى فهم امرأة العزيز، والضميرَ للشأن؛ أي: إنَّ الشَّأْنَ والحالَ ربي وسيِّدِيّ، ومالك رقبتي يعني العزيزَ قد أحسن معاملتي في إقامتي عندك، وأحسن مثوايَ، وإقامتي حيث أمرك، وأوصاك بقولهِ: ﴿أَكْرِمِي مَثْوَاهُ﴾ فكيف أخونه في أهله، وأجيبُك إلى ما تريدين من ذلك، فلا أجزيه على إحسانه
371
بالإساءة. والأصحَّ أنَّ الضمير في ﴿إِنَّهُ﴾ أن يعود على الله سبحانه وتعالى، والمعنى: أي: إنَّ الله ربِّي أحسن مثوايَ إذ نجَّاني من الجبِّ، وأقامني في أحسن مقام، إذ لا يطلق نبي كريم على مخلوق أنه ربي، ولا بمعنى السيد؛ لأنه لم يكن في الحقيقة مملوكًا له، وجملة قوله: ﴿إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ﴾ تعليل آخر للامتناع منه عن إجابتها. والفلاحُ: الظفرُ أي: إنَّ الشأنَ والحال لا يَسْعَدَ ولا يظفر الظالمون لأنفسهم وللناس بجناية وتعد على الأعراض، لا في الدنيا ببلوغ الإمامَةِ والرياسةِ، ولا في الآخرة بالوصول إلى رضوان الله تعالى، ودخول جنات النعيم. وقيل: المعنى: لا يُفْلِحُ المجازون الإحسانَ بالإساءةِ. وقيل: المعنى: لا يُفْلِحُ الزناة.
وفي هذا إيماء (١) إلى الاعتزاز بربه، والأمانة لسيده، والتعريض بخيانة امرأته، واحتقارها بما أضمر نار الغيظ في صدرها. وقرأ (٢) أبو الطفيل والجحدري: ﴿مثوي﴾ كما قرأ: ﴿يا بشرى﴾ وما أحسنَ هذا التنصل من الوقوع في السوء، استعاذَ أولًا بالله الذي بيده العصمةُ وملكوتُ كل شيءٍ. ثم نبَّه على أنَّ إحسانَ الله، أو إحسان العزيز الذي سَبَقَ منه لا يُناسِبُ أن يجازيَ بالإساءة. ثمَّ نفَى الفلاح عن الظالمين، وهو الظفر، والفوز بالبغية، فلا يناسب أن أكون ظالِمًا أضع الشيء في غير موضعه، وأَتَعَدَّى ما حَدَّه الله تعالى لي.
٢٤ - ﴿وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ﴾؛ أي: وعزتي وجلالي لقد همَّتْ زُليخًا بيوسف عليه السلام، وقصدَتْ مخالطةَ يوسف، ومجامَعَتَهُ إياها؛ أي: قَصدَتْها (٣) وعَزَمَتْ عليها عَزْمًا جازمًا، بَعدما باشرَتْ مَباديها من المراودة، وتغليق الأبوابِ، ودَعْوته إلى نفسها بقولها: هَيْتَ لك، ولعلَّها تصدَّتْ هنالك لأفعال أُخَر من بَسْطِ يدِهَا إليه، وقَصْد المعانقة، وغير ذلك مما يضطره إلى الهرب، نحو الباب، والتأكيدُ لِدَفْعِ ما عسى يتوهم من اختصاص إقلاعها عما كانت عليه بما في مقالته من
(١) المراغي.
(٢) البحر المحيط.
(٣) روح البيان.
372
الزواجر ﴿وَهَمَّ بِهَا﴾؛ أي: وقَصَدَ يُوسُفُ بمخالطتها؛ أي: مال إليها بمقتضى الطبيعة البشرية، وشهوة الشباب ميلًا جبليًّا، لا يكادُ يَدْخُل تحت التكليف لا قصدًا اختياريًّا؛ لأنه كما أنه برىء من ارتكاب نفس الفاحشة، والعمل الباطل كذلك برىء من الهَمِّ المحرَّم، وإنما عبر عنه بالهم لمجرد وقوعه في صحبة همِّها في الذكر بطريق المشاكلة لا لشُبهةٍ به. ولقد أشير إلى تَبَايُنِهِمَا بأنه لم يقُلْ: ولقدْ هَمَّا بالمخالطة، أو همَّ كلٌّ منهما بالآخر. قال بعضهم (١): الهمّ قسمان: هم ثابت، وهو هم اقترن بعزم وعقد ورضا مثل هم امرأة العزيز، فالعبدُ مأخوذ به، وهم عارض، وهو الخطرة، وحديث النفس من غير اختيار، ولا عَزْم مثلُ هَمِّ يوسف عليه السلام، والعبد غَيرُ مَأخُوذ به ما لم يتكلم أو يعمل.
﴿لَوْلَا أَنْ رَأَى﴾ يوسفُ وعلِمَ وأيقن ﴿بُرْهَانَ رَبِّهِ﴾؛ أي: حُجَّةَ ربه، وأدلّتَه الدالة على كمال قُبْحِ الزنى. والمراد برؤيته لها: كمال إيقانه ومشاهدته لها مشاهدة واصلةً إلى مرتبة عين اليقين، التي تتجلَّى هناك حقائق الأشياء بصورها الحقيقية. وجوابُ لولا محذوف تقديره: لولا مشاهدتُه وعِلْمُه بُرْهانَ ربه في شأن الزنا لجرى على موجب ميله الجِبْلّي فوقَع في الزنا، لكنه حيثُ كانَ البرهانُ الذِي هو الحكم والعلم حاضرًا لديه حُضورَ من يراه بالعين، فلم يَهُمَّ به أصلًا. ومن المعلوم أنَّ (لولا) حرف امتناع لوجود، فالمعنى امتنع وانتفى جِماعُه لها، لوجود رؤيته البرهان. وفي "السمين" المعنى: لولا رؤيته برهانَ رَبِّهِ لهَمَّ بها، لكنه امتنع همه بها لوجود رؤية ربه، فلم يَحْصُلْ منه هم ألبتة كقولك: لولا زيدٌ لأكرمتك فالمعنى: إنَّ الإكرامَ امتنع لوجود زيد. وبهذا يتخلَّص من الإشكال الذي يُورد هنا، وهو كيف يليق بنبيٍّ أن يهُمَّ بامرأة، اهـ.
والحاصل (٢): أن هذا البرهانَ عندَ المحققينَ المثبتينَ لعصمة الأنبياء هو حُجَّةُ الله تعالى في تحريم الزنا، والعِلْمُ بما على الزاني من العقاب. أو المرادُ
(١) المراح.
(٢) المراح.
373
برؤية البرهان حُصُولُ الأخلاق الحميدةِ وتذكير الأحوال الرَّادِعَةِ لهم عن الإقدامِ على المنكرات.
وقيل: إن البرهانَ النبوةُ المانعة من إتيان الفواحش. وقيل: إنه عليه السلام رأى مكتوبًا في سقف البيت: ﴿وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا﴾ وأمّا الذين نسبوا المعصية إلى يوسف، فقالوا: إنه رَأى يعقوب عاضًّا على إبهامِه، أو هَتَفَ هاتفٌ، وقال له: لا تَعْمَل عمل السفهاء، واسمك في ديوان الأنبياء، أو تمثل له يعقوب فضَرَبَ في صدره، فخَرَجَتْ مَنِيُّه من أنامله. وقيل: غير ذلك مما يطولُ ذِكرُه.
والحاصل: أنه رأى شيئًا حال بينه وبين ما همَّ به.
وعبارة المراغي هنا: ﴿وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ﴾؛ أي (١): ولقد همَّت بأن تبطِشَ به إذا عصَى أمرَهَا، وخالف مُرادَها، وهي سيدتُه وهو عبدها، وقد استذلت له بدعوته إلى نفسها بعد أن احتالت عليه بمراودته عن نفسه، وكُلَّما أَلَحَّتْ عليه ازدَاد عتُوًّا واستكبارًا معتزًّا عليها بالديانة، والأمانة، والترفع عن الخيانة، وحفظ شرف سيده، وهو سيدها ولا عِلاجَ لهذا إلا تذليله بالانتقام. وهذا ما شرَعَتْ في تنفيذه أو كادَتْ بأَن همَّتْ بالتنكيل به.
﴿وَهَمَّ بِهَا﴾ لدفع صيالها عنه وقهرها بالبعد عما أرادته ﴿لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ﴾؛ أي: ولكنه رَأى من ربه في سريرة نفسه ما جَعَلَهُ يمتنع من مُصاولَتِها، واللُّجوء إلى الفرار منها.
والخلاصة: أنَّ الفارق بين همِّها وهَمِّه أنها أرادت الانتقامَ منه شفاء لِغَيْظِها إذ فَشَلَتْ فيما تريدُ، وأهينَتْ بعتوه واستكباره وإبائه لما أرادَتْ، وأراد هو الاستعداد للدِّفاع عن نفسه، وهَمَّ بها حين رأى أَمارَةَ وُثُوبِهَا عليه، فكان مَوقفهما موقف المواثَبةِ والاستعداد للمضاربة، ولكِنَّهُ رأى منْ برهان ربه وعِصْمَتِه ما لم تَرَ مِثله؛ إذ ألهمه أنَّ الفرارَ من هذا الموقف هو الخير الذي به تتمُّ حكمته فيما أعده له، فاستبقا بابَ الدارَ، وكانَ من أمرِهِمَا ما يأتي بيانه فيما بَعْدُ.
(١) المراغي.
374
هذا خُلاصةُ رأي نَقَله ابن جرير، وأيَّده الفَخْرَ الرازيُّ وأبو بكر الباقلاني.
وَيرَى غَيْرُهم من المفسرين أنَّ المعنى أنها همَّتْ بفعل الفاحشة، ولم يكن لها معارض، ولا ممانع، وهم هو بمثل ذلك، ولولا أنْ رأى برهان رَبّه لاقْتَرَفها. وقد فنده بعض العلماء لوجوه (١):
١ - أنَّ الهَمَّ لا يكون إلَّا بفعل للهام، والوقاع ليس من أفعال المرأة حتى تَهُمَّ به، وإنما نَصِيبُها منه قبولهْ مِمَّنْ يطلبه منها بتمكينه منه.
٢ - أنَّ يوسف لم يطلب منها هذا الفعل حتى يسمَّى قبولها لطلبه، ورضاها بتمكينه همًّا لها، فالآيات قبل هذه وبعدها تبرئه من ذلك بل مِن وسائله ومقدماته.
٣ - أنه لو وَقَعَ ذلك لوجب أن يقال: ولقد همَّ بها وهمَّتْ به؛ لأنَّ الهمَّ الأُولَى هو المقدم بالطبع، وهو الهم الحقيقيُّ، والهم الثاني متوقِّفٌ عليه.
٤ - أنه قد عَلِم من هذه القصة أنَّ هذه المرأةَ كانت عازمة على ما طلبته طلبًا جازمًا، ومصرةً عليه، فلا يصح أن يُقَالَ: إنها همَّتْ به، إذ الهمُّ مقاربةُ الفعل المتردد فيه، بل الأنسبُ في معنى الهمِّ هو ما فسَّرْناه به أوَّلًا وذلك لإرادة تأديبه بالضَّرْبِ، انتهت.
والإشارة في قوله: ﴿كَذَلِكَ﴾ إلى الإراءة المدلول عليها بقوله: ﴿لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ﴾ أو إلى التثبيت المفهوم من ذلك، وهذه الكاف مع مجرورها في محلِّ نصب بفعل محذوف، واللامُ في قوله: ﴿لِنَصْرِفَ﴾ متعلقة بذلك المحذوف، والتقدير: أَريناه مثلَ ذلك الإراءَةِ أو ثَبَّتْنَاه مثلَ ذلك التثبيت. ﴿لِنَصْرِفَ عَنْهُ﴾؛ أي: عن يُوسُفَ وندفَع عنه ﴿السُّوءَ﴾؛ أي (٢): مقدمات الفاحشة من القبلة والنظر بشهوة ﴿وَالْفَحْشَاءَ﴾؛ أي: الزنا. وقيل (٣): السوء كل ما يَسُوؤُه، والفحشاء كل
(١) المراغي.
(٢) المراح.
(٣) الشوكاني.
375
أمرٍ مُفرطِ القُبح. وقيل: السوءُ الخيانة للعزيز في أهله، والفحشاء الزنا. وقيل: السوء الشهوة، والفحشاءُ المباشرة. وقيل: السوءُ الثناءُ القبيح، والأوْلَى الحمل على العموم فيدخُلُ فيه ما يدل عليه السياق دخولًا أوَّليًّا.
وفي هذه الجملة (١) آيةٌ بَيِّنَةٌ وحجة قاطعة على أنه لم يقع منه هَمٌّ بالمعصية، ولا توجُّهٌ إليها قط، وإلا لقِيلَ: لنصرفه عن السوء والفحشاء، وإنما توجَّه إليه ذلك من خارج، فصرفه تعالى عنه بما فيه من موجبات العفة، والعصمة كما في "الإرشاد". وجملة قوله: ﴿إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ﴾ تعليل لما قبلها؛ أي: صَرَفنا عنه السوءَ والفحشاءَ؛ لأنَّ يُوسُفَ عليه السلام من جملة عِبَادِنا الذين أخْلَصناهم لطاعتنا، بأن عَصَمْنَاهُم مما هو قادح فيها.
وفي هذا دليل على أنَّ الشَّيطانَ لم يجد إلى إغوائه سبيلًا، ألا ترى إلى قوله: ﴿فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (٨٢) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (٨٣)﴾ قال في "بحر العلوم". واعلم أنه تعالى شهد ببراءته من الذنب، ومَدَحه بأنه من المحسنين، وأنه من عباده المخلصين، فوَجَبَ على كل أحد أن لا يتوقَّفَ في نزاهته، وطهارة ذيله، وعِفَّته وتثبته في مواقع العثار.
قال الحسن: لم يَقُصَّ الله تعالى عليكم ما حكى من أخبار الأنبياء تعْييرًا لهم، لكن لئلا تَقنَطُوا من رحمته؛ لأنَّ الحُجَّةَ للأنبياء ألزم، فإذا قبلت توبتهم، كان قبولها من غيرهم أسْرَعَ.
وعدَمُ ذكر توبة يوسف دليلٌ على عدم معصيته؛ لأنه تعالى ما ذكر معصيةً عن الأنبياء، وإن صَغُرت إلا وذكر تَوبتَهم واستغفارَهم منها كآدم ونوح، وداود، وإبراهيم، وسليمان، عليهم السلام.
وقرأ الأعمش: ﴿ليُصْرفَ﴾ بياء الغيبة عائدًا على ربه. وقرأ العربيان: أبو عمرو، وابن عامر، وابن كثير: ﴿المخلِصين﴾ إذا كان فيه أن حيث وَقَع في القرآن بكسر اللام؛ أي: الذين أخلصوا دِينَهم، وعَمَلَهم لله تعالى. وقرأ باقي
(١) روح البيان.
376
السبعة بفتح اللام من جماعتنا ﴿المخلَصين﴾ وهم آباؤه الذين أخلَصهم رَبُّهم وصفَّاهم واختارهم لطاعته، وصفاهم من الشوائب، وقال فيهم: ﴿وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ (٤٥) إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ (٤٦) وَإِنَّهُمْ عِنْدَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيَارِ (٤٧)﴾.
٢٥ - ﴿وَاسْتَبَقَا الْبَابَ﴾؛ أي: تسابق يوسُفُ وزليخا إلى الباب البراني الذي هو المخرج من الدار، ولذلك وَحَّدَ بعد الجمع فيما سلف. وفي الكلام حذف حرف الجر، وإيصال الفعل إلى المفعول، والأصل تَسابَقا إلى الباب، أو ضُمِّن الفعلُ معنى فعل آخر يتعدَّى بنفسه كابتدار الباب. وهذا الكلام متصل بقوله: ﴿وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ﴾ وما بينَهُما اعتراض، أمَّا يُوسُفُ فلِلفرار منها، وأمَّا هي فلتَصُدَّه عن الفتح والخروج؛ أي: تسابقا إلى الباب، ففَرَّ يوسف من أمامها هاربًا إليه، طالبًا النجاة منها مرجحًا الفرارَ على الدفاع الذي لا تُعْرَفُ عاقبته وتبعته هيَ تبغي إرجاعه حتى لا يَفْلتَ من يدها، وهي لا تَدْرِي إذا هو خرَج إلى أين يذهب، ولا ماذا يقولُ، ولا ما يفعل لكنها أدركته.
﴿و﴾ جذبته بردائه و ﴿قدت﴾؛ أي: شقَّت ﴿قَمِيصَهُ﴾؛ أي: قميص يوسف ﴿مِنْ دُبُرٍ﴾ وخَلْفِه فانشق طُولًا نصفين، وهو القَدُّ كما أنَّ الشَّقَّ عرضًا هو: القط؛ أي: جذبَتْ قَمِيصَه من ورائِهِ فانْشَق إلى أسفله، وأكثر ما يُستعمل القد فيما كان طُولًا. والقط بالطاء فيما كان عرْضًا وقَعَ ذلك منها عندما فَرَّ يُوسُفُ لمَّا رَأَى بُرْهَانَ رَبه، فأرادت أن تَمْنَعَهُ من الخروج بجذبها لقميصه. ﴿وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا﴾؛ أي: وَجَدا زوْجَها ﴿لَدَى الْبَاب﴾؛ أي: عند الباب البراني مقبلًا ليدخُلَ أو كان جالسًا مع ابن عمٍّ لزليخا يقال له: يَمْليخا.
وقد كان النساء في مصر يلقَّبْنَ الزوجَ بالسيد، وإنما لم يَقُلْ سَيِّدَهُما، لأنَّ مِلْكَهُ لِيُوسُفَ لم يكن صحيحًا، فلم يكن سيدًا له؛ لأن استرقاق يُوسُفَ غير شرعي. وهذا كلامُ ربه العلم بأمره، لا كلام من اسْتَرَقَّه.
وقوله: ﴿قَالَتْ مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا﴾ كلام مستأنف واقع في جواب سؤال مُقدَّرٍ، فكأنه قيل: فماذا وَقَع منهما عندما ألفيا سيدها لدى الباب؟ فقيل:
377
قَالَتْ مُنزِّهةَ نفسَها: ما جزاء من أراد بأهلك سوءًا من الزنا ونحوه، و ﴿ما﴾ نافية؛ أي: ليس جزاؤه ﴿إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾؛ أي: لَيسَ جزاؤُه إلا السجنُ أو العذابُ الأليم مثل الضرب بالسوط، ونحوه. أو استفهامية؛ أي: أي شيء جزاؤه إلا السجن، أو العذاب الأليم كما تقول مَنْ في الدار إلَّا زيد؛ أي: قَالَتْ هذه المقالة طَلَبًا منها للحيلة، وللستر على نفسها، فنَسَبَتْ ما كان منها إلى يُوسُفَ، وفي الإبهام للعذاب زيادة تهويل؛ أي: وحينَئِذٍ خرجَتْ مما هي فيه بمكرها، وكيدها، وقالت لزوجها متنصِّلةً من جرمها، وقاذفةً لِيُوسُفَ: ما جزاءُ من أراد بأهلك شيئًا يسوؤُك صغيرًا كَانَ أو كبيرًا إلا سجن يعاقب به، أو عذابٌ مؤلم موجع يؤدبه، ويلزمه الطاعة. قال الرازي: وفي هذا القول ضروب من الحِيَلَ:
١ - إيهام زوجها أنَّ يوسفَ قدِ اعتدى عليها بما يسوؤها ويسوؤه.
٢ - أنَّها لم تصرح بجرمِهِ حتى لا يشتد غضبه، ويَقْسو في عقابه، كأن يبيعه أو يُقْصِيه عن الدار، وذلك غير ما تريد.
٣ - أنها هدَّدَتْ يُوسُفَ وأنذرته بما يعلم منه أن أَمْرَهُ بِيَدِها ليخضع لها ويُطِيعَها.
٤ - أنها قالت: إلا أن يُسْجَن والمراد منه: أن يُسْجَنَ يومًا أو أقلَّ على سبيل التخويف فحسبُ، أما الحبس الدائِمُ، فكان يقال فيه: يجب أن يُجْعَلَ من المسجونين ألا ترى أنَّ فِرْعَوْنَ حينَ هَدَّدَ موسى قال: ﴿لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ﴾.
وجملة القول في هذا: أنَّ يوسف عليه السلام كَانَ قوي الإرادة لا يمكن غَيْرُه أن يحتال عليه، ويَصْرِفَه عن رأيه، ويجعلَه خاضعًا له، ومن ثم لم تستطع امرأةُ العزيز أن تُحوِّل إرادتَه إلى ما تريد بمراودتها، ولا عَجَب في ذلك فهو في وِراثتِه الفطرية، والمكتسبة، ومقام النبوة عن آبائه الأكرمينَ، وما اختصَّه به ربه من تربيته، والعناية به، وما شهد له به من العرفان، والإحسان، والاصطفاء، وما صَرَفَ عنه من دواعي السوء، والفحشاء في مكان مكين، وحرز حصين من أن تتطلع نفسه إلى اجتراح السيئات، وارتكاب المنكرات، فكل ما صوروه به من
378
الصور البَشِعَةِ الدالة على الميل إلى الفجور، إنما هو من فعل زنادقة اليهود، لِيُلَبِّسوا على المسلمين دينهم، ويشوهوا به تفسيرَ كلام ربهم، ولا يَغُرَّنَّك إسناد تلك الروايات إلى بعض الصحابة، والتابعين، فهي موضوعة عليهم، ولا ينبغي أنْ يُعْتَدَّ بها؛ لأن نُصوصَ الدِّين تنبذها إلى أنه من علم الغيب في قصة لم يعلم الله رسولَه غير ما قصه عليه في هذه السورة، وكَفَى بهذا دلالة على وضعها.
ثم قال العزيزُ لزليخا: من أراد بأهلي سوءًا، قالت زُليخا: كنت نائمةً في الفراش، فجَاءَ هذا الغلام العبراني، وكشف عن ثيابي، وراودني عن نفسي، فالتفت العزيز إلى يُوسُفَ وقال: يا غلام هذا جزائي منك حيث أحسنت إليك، وأنت تحزنني
٢٦ - ﴿قَالَ﴾ يوسف دَفعًا عن نفسه، وتنزيهًا لعرضه ﴿هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي﴾؛ أي: طالبتني للمواقعة لا أني أردت بها سوءًا كما قالت؛ أي: هي طلبتني فامتنعتُ، وفرَرَتُ كما ترى.
ولم يَقُل هذه ولا تلك لفرط استحيائه، وهو أدبٌ حسن، حيث أتى بلفظ الغيبة، ولم يكن يوسف يريد أن يهتكَ سَتْرَها، ولكن لما لَطَّخَتْ عرضه احتاجَ إلى إزالة هذه التهمة عن نفسه، فصرَّحَ بالأمر فقال: هي طَالَبَتْنِي لِلمُواتَاة. وكانت الأمارات دالة على صدق يوسف لوجوه:
١ - أن يوسف كَانَ مولى لها، وفي مَجْرى العادة: أنَّ المولى لا يجرؤ أن يتسلَّط على سيدته، ويَتَشدَّد إلى مثل هذا.
٢ - أنهم رَأوا يُوسُفَ يعدو عَدْوًا شديدًا ليخرجَ، ومن يطلب امراْةً لا يَخْرُجُ على هذا النحو.
٣ - أنهم رأَوا الزينة قد بدَتْ على وجه المرأة، ولم يكن لها من أثر على وجهِ يوسف.
٤ - أنهم لم يشاهدوا من أخلاق يُوسُفَ في تلك الحقبة الطويلة ما يؤيد مثل هذه التهمة، أو يقوِّي الظنَّ عليه بأنه هو الطالبُ لا الهاربُ.
وقد أظهر الله تعالى لبراءته ما يقوِّي تلك الدلائل الكثيرةَ التي تظاهَرَتْ على أن بدء الفتنة كانت منها لا منه، وأنها هي المذنبة لا هو.
379
فقال العزيز ليوسف: مَا أقبل قولك إلا ببرهان. وفي رواية نظر العزيز إلى ظاهر قول زليخا وتظلمها، فأمر بأن يُسْجَن يوسُفَ، وعند ذلك دعا يوسفَ بإنزال البراءة، وكان لزليخا خال له ابن في المهد ابن ثلاثة أشهر، أو أربعة، أو ستة على اختلاف الروايات، فَهبَط جبريل إلى ذلك الطفل، وأجلسه في مهده، وقال له: اشهد ببراءة يوسف، فقام الطفل من المهد وجعل يَسْعى حتى قام بين يدي العزيز، وكان في حجراته كما قال الله تعالى: ﴿وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا﴾؛ أي: ابن خالها الذي كان صبيًّا في المهد، وإنما ألقى الله الشهادة على لسان من هو من أهلها ليكونَ أوْجَبَ للحجة عليها، وأوثق لبراءة يوسف، وأنفى للتهمة عنه.
واستدلَّ على أنَّ هذا الشاهدَ كانَ صبيًّا في المهد بما نقل عن ابن عباس، رضي الله عنه، أن النبي - ﷺ - قال: "تكلَّم أربعةٌ وهم صغار، ابنُ ماشطة بنت فرعون، لَمَّا أَسْلَمَتْ، أخبرتَ البنت أباها بإسلامها، فأمر بإلقائها، وإلقاء أولادها في النقرة المتخذة من النحاس المحماة، فلما بلغت النوبة إلى آخر ولدها، وكان مُرْضَعًا قال: اصبري يا أماه فإنك على الحق، وشاهد يوسف، وصاحبُ جُريج، وعيسى بن مريم".
وبما روى عن أبي هريرة قال: عيسى بن مريم، وصاحب يوسف، وصاحب جريجّ، تكَلَّموا في المهد. وهذا موقوف لا يصلح الاحتجاج به، والأول قد ضعفه رجال الحديث، إلا أنه لو نطَقَ الطفل بهذا لكان قولُه كافيًا في تفنيد زعمها دون حاجة إلى الاستدلال بتمزيق القميص؛ لأنه من الدلائل الظنية، وكلامه في المهد من الدلائل اليقينية، وأيضًا لو كانَ كذلك لما كان هناك داعٍ إلى قوله: ﴿مِنْ أَهْلِهَا﴾ الذي ينفي التحاملَ عليها، ويمتنع إرادة الضر بها. وأيضًا، فإن لفَظَ الشاهد لا يقع عُرْفًا إلا على من تقدَّمَتْ معرفته لما يَشْهَدُ وإحاطته به.
أي: وشهد شاهد من أهلها، فقال: أيها العزيز: إن عندي في أمرك هذا ما لَك فيه فرَجٌ ومخرجٌ، انظر إلى قميص الغلام العبرانيِّ ﴿إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ﴾؛ أي: شقَّ من قدام ﴿فَصَدَقَتْ﴾؛ أي: فقد صدقت المرأة {وَهُوَ مِنَ
380
الْكَاذِبِينَ} في قوله: ﴿هِيَ رَاوَدَتْنِي﴾ لأنه إذا طلبها دفعته عن نفسها، فشقَّتْ قميصَه من قدام، أو يُسْرعُ خَلْفَها لِيُدْرِكَها فيتعثر بذيله فينشق جيبه،
٢٧ - ﴿وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ﴾؛ أي: من خلف ﴿فَكَذَبَتْ﴾؛ أي: فقد كذبت المرأة في دعْواها ﴿وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ﴾ في قوله: ﴿هِيَ رَاوَدَتْنِي﴾ لأنه يدل على أنَّها تَبِعَتْهُ فاجتذَبَت ثَوْبَهُ فقدَّتْه، وقوله (١): ﴿وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ﴾، ﴿وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ﴾ جملتان مؤكدتان لأنَّ من قوله: ﴿فَصَدَقَتْ﴾ يعلم كذبه، ومن قوله: ﴿فَكَذَبَتْ﴾ يعلم صدقه، وفي بناءِ "قُدَّ" للمفعول ستر على مَنْ قَدَّه. وقال المفضل بن حرب: رأيت في مصحف ﴿قُطَّ من دبر﴾ أي شُقَّ. وقال ابن عطية: وقرأت فرقة ﴿قُطّ﴾. وقرأ زيد بن علي: ﴿أو عذابًا أليمًا﴾ وقدره الكسائي أو يعذُّب عَذابًا أليمًا. وقرأ الجمهور: ﴿مِنْ قُبُلٍ﴾ و ﴿مِنْ دُبُر﴾ بضم الباء فيهما والتنوين. وقرأ الحسن وأبو عمرو في رواية بتسكينها، وبالتنوين وهي لغة الحجاز وأسد. وقرأ ابن يعمر، وابن أبي إسحاق، والعطاردي، وأبو الزناد، ونوح القارئ، والجارود بن أبي سَبْرة بخلاف عنه: ﴿من قبل ومن دبر﴾ بثلاث ضمات. وقرأ ابن يعمر، وابن أبي إسحاق، والجارود أيضًا في رواية عنهم بإسكان الباء مع بنائهما على الضم، جعلوهما غايةً نحو من قبل، ومعنى الغَايَةِ: أن يصيرَ المضاف غايةَ نَفْسِهِ بعدما كان المضاف إليه غَايَتَه. والأصل: إعرابهما لأنهما اسمان متمكنان، ولَيْسا بظرفين. وقال أبو حاتم: هذا رديء في العربية، وإنما يقع هذا البناء في الظروف. وقال الزمخشري: والمعنى: مِنْ قُبُل القميص ومن دُبره. وأما التنكير فمعناه: من جهة يقال لها: قبل، ومن جهة يقال لها: دبر. وعن ابن أبي إسحاق أنه قرأ: ﴿من قبل ومن دبر﴾ بالفتح كأن جعَلَهُما عَلَمين للجهتين، فَمَنَعهما الصرفَ للعلمية والتأنيث.
والمعنى (٢): أي وحَكم ابن عم أو خال لها مستدلًّا بما ذكر، وكان عَاقِلًا حَصيفَ الرأي، فقال: قد سَمِعْنَا جلبةً وضوضاء، ورأينا شق القميص، إلا أنا لا ندري أيكما كان قُدَّامَ صاحبه، فإن كان شق القميص من قُدَّام فصدقت في دعواها، أنه أراد بها سوءًا؛ إذ الذي يقبله العقل أنه لما وثب عليها أخذت
(١) البحر المحيط.
(٢) المراغي.
بتلابيبه، فجَاذَبَها فانقد قميصه، وهما يتنازعان، ويتصارعان، وهو من الكاذبين، في دَعواه أنها راودته فامتنعَ وفرَّ هاربًا، فتبعته وجذبته تريد إرجاعه، وإن كَانَ قميصه قُدَّ من الخَلْف فكذبت في دعواها، أنه هجم عليها يريد ضَرْبَها، وهو من الصادقين في قوله: أنه فرَّ هاربًا منها.
٢٨ - ﴿فَلَمَّا رَأَى﴾ العزيز ﴿قَمِيصَهُ﴾ أي: قميص يوسف ﴿قُدَّ﴾ وشق ﴿مِنْ دُبُر﴾؛ أي: من وراءَ وخلف، وعلم براءة يوسف وصدقه ﴿قَالَ﴾؛ أي: العزيز ﴿إِنَّهُ﴾؛ أي: إنَّ الأمر الذي وقع فيه التشاجر ﴿مِنْ كَيْدِكُنَّ﴾؛ أي: من جنس حيلتكنَّ ومكركن أيها النساء، لا من غيركن، فخَجَلَتْ زليخا، وتعميم الخطاب للتنبيه على أنَّ ذَلِكَ خُلُقٌ لهن عريق ﴿إِنَّ كَيْدَكُنَّ﴾ ومَكْرَكُنّ يا معشرَ النساء ﴿عَظِيمٌ﴾ فإنه ألصق، وأعْلَقُ بالقلب، وأشد تأثيرًا في النفس؛ أي: من كيد الرجال؛ لأنَّ لهن في هذا الباب من الحِيَلِ ما لا يكون للرجال، ولأنَّ كَيْدَهُنَّ في هذا الباب يورث من العار ما لا يورثه كيد الرجال، ولأنَّ الشيطان يوسوس مسارقة، وهن يواجههن به الرجال، فالعظم بالنسبة إلى كيد الشيطان.
وقال بعض العلماء: إنّي أخاف من النساءِ ما لا أخاف من الشيطان، فإنه تعالى يقول: ﴿إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا﴾ وقال للنساء: ﴿إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ﴾. وإنما وَصَف كَيْدَ النِّساءِ بالعِظم، وَكَيد الشيطان بالضَّعْفِ؛ لأن كَيْدَ النساء أقوى بسبب أنهن حبائل الشيطان، فكيدهن مقرونٌ بكيد الشيطان فهما كيدان، بخلاف كيد الشيطان دونهن فكيد واحد.
والمعنى (١): أي فلمَّا نظر العزيز إلى القميص، ورأَى الشقَّ من الخلف أيقَنَ بصدق قوله، واعتقد كَذِبَها، وقال: إن هذا محاولة للتنصل من جُرْمِهَا باتِّهامها له بضروب الكيد المعروفة عن النساء، فهو سنة عامة فيهن، فهن يجتهدن في التبري من خطاياهن، ما وجدن إلى ذلك سبيلًا، وكيد النساء عظيم، لا قبَلَ للرجال به، ولا يفطنون لحيلهن حتى يدفَعُوها قدر المستطاع، ولا شك أنَّ هذه شهادة من
(١) المراغي.
قريب لها، يُتَّهَمُ بالتحامل عليها، ولا بظلمها، وتجريحها برَمْيِها بما هي منه براء.
٢٩ - ثم خاطب العزيز يوسف عليه السلام بقوله: يا ﴿يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هذا﴾ الأمر الذي جَرَى، واكتمه، ولا تتحدث به حتى لا يشيع فيعيروني. ثم أقبلَ عليها بالخطاب فقال: ﴿وَاسْتَغْفِرِي﴾ أنتِ يا زليخا ﴿لِذَنْبِكِ﴾ الذي صدر منك وثَبَتَ عليك؛ أي: توبي إلى الله تعالى ممَّا رَمَيْتِ يُوسُفَ به وهُو بريء منه. فإنْ قلت: إنَّهم قوم مشركون، فلا يعرفون ذَنْبَهُم مع خالقِهِم، فما الذنب الذي يطلب منه الاستغفار؟ أُجِيبَ: بأن المرادَ بالذنب خِيَانتها لزوجها.
﴿إِنَّكِ كُنْتِ﴾ بسبب ذلك ﴿مِنَ الْخَاطِئِينَ﴾؛ أي: من جملة القوم الذين تَعَمَّدُوا للخطيئة والذنب، يقال: خطىء إذا أذنب عَمْدًا.
والجملة (١): تعليل لما قَبْلَها من الأمر بالاستغفار، ولم يقل من الخَاطِئَات تغليبًا للمذكر على المؤنث كما في قوله: ﴿وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ﴾. وقيل: إن القائلَ لِيُوسُفَ ولامرأة العزيز بهذه المقالة هو الشاهد الذي حَكَمَ بينهما.
والمعنى (٢): أي يا يوسف أعرض عن ذكر هذا الكيد، الذي حصل، ولا تتحدَّثْ به كي لا ينتشر أمرُه بين الناس، ولا تَخَفْ من تهديدها، وكيدها لك، وأنتِ أيتها المرأة توبي إلى ربك واستغفري لذنبك، إنك كنت من زمرة المجرمين، الذين يتعمدون ارتكابَ الخَطايا، ويجترحُون السيئات، وهم مُصِرُّون عليها. قيل (٣): وَكَان العزيز رَجُلًا حَلِيمًا فاكتفى بهذا القدر في مؤاخذتها. وقيل: إنه كانَ قليلَ المغيرة بل قال في "البحر": إنَّ تُرْبَةَ مصر تقتضي ذلك، ولهذا لا يَنْشأُ فيها الأسد، ولو دَخَل فيها لا يَبْقى. ورُوي أنَّه حَلَفَ أن لا يدخل عليها إلى أربعين يومًا، وأخرج يوسف من عندها، وشغله في خِدْمَتِه وبقِيَتْ زُليخا لا تَرَى يُوسُفَ.
(١) الشوكاني.
(٢) المراغي.
(٣) روح البيان.
٣٠ - ﴿وَقَالَ نِسْوَةٌ﴾؛ أي: جماعة من النساء ﴿فِي الْمَدِينَةِ﴾ ظرف لـ ﴿قَالَ﴾؛ أي: أشَعْنَ الأمر في مصر، أو صفةٌ للنسوة، وكنَّ خَمْسًا امرأة الخبَّاز، وامرأةَ السَّاقِي، وامرأة صاحب الدواب، وامرأةُ صاحب السجن، وامرأة الحاجب. والنِّسوة اسم جمع لامرأة، وتأنيثه غير حقيقي، ولذا لم يُلْحِق فعلَه تاءَ التأنيث. يقال فيه: نسوة بضم النون، وهي قراءةُ الأعمش، والفضل، وسليمان. ويقال: نسوة بكسر النون، وهي قراءة الباقين، ذكره الشوكاني. ولم (١) يشر الكتاب الكريم إلى عَدَدهنّ، ولا إلى صفاتهن؛ لأنَّ العِبْرةَ ليست في حاجة إلى ذلك، والذي يقتضيه العُرْفُ، ومجرى العادة أنه عَمَلُ جماعة قليلة من بيوتات كبار الدولة، يُعْهَدُ منهن في العُرف أن يأتَمِرْنَ، ويتفقن على الاشتراك في مثل هذا المكر؛ إذ نساء البيوت الدنيا أو الوسطى، لا تتجه أنظارُهن إلى الإنكار على امرأة العزيز كبير وزراء الدولة، ولا إلى مشاركتها في سلب عشيقها، ولا إلى التمتع بجماله الساحر، وحادث مثل هذا جدير بأن ينتقلَ من بيت إلى بيت بوساطة الخَدم، ويكون الشغلَ الشاغلَ للنساء في مجالسهن الخاصَّة، وسمَرِهِنّ في البيوت، وخلاصَتُهُ: ﴿امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا﴾؛ أي: تطالب غُلامَها بمواقعته لها، وتحتال في ذلك، وتُخادعه ﴿عَنْ نَفْسِهِ﴾، وهو يمتنعُ منها. وتُرْسَم امرأةُ هذه بالتاء المجرورة، وأمَّا بالنطق فوقف عليها ابن كثير، وأبو عمرو، والكسائي بالهاء، والباقون بالتاء. وأما في الوصل فبالياء للجميع، اهـ خطيب. والعزيزُ بلسان العرب، الملك، والمراد به (٢): قِطْفير، وزير الرَّيان، وبامرأته زليخا، ولم يصرِّحْنَ باسمها على ما عليه عادة الناس عند ذكر السلطان، والوزير، ونحوهما، وذكر من يَتْبَعهم من خواص حُرَمهم. وقال بعضهم: صرَّحْنَ بإضافتها إلى العزيز، مبالغةً للتشنيع؛ لأنَّ النُّفوسَ أقبل إلى سماع أخبار ذوي الأخْطار وما يجري لهم.
وهذا كلام يقال (٣) للإنكار والتعجب منْ حصوله لوجوه عدَّة:
(١) المراغي.
(٢) روح البيان.
(٣) المراغي.
384
١ - أنها امرأة العزيز الأكبر في الدولة، ولها المنزلة السَّامِيةُ بين نساء العظماء.
٢ - أن الذي تراوده عن نفسه هو فتاها ورقيقها.
٣ - أنها قد بَلَغَ بها الأمر أنْ جادَتْ بعفتها، فكانت هي المراوِدة، والطالبةُ لا المراوَدةَ المطلوبة.
٤ - أنها وقد شاع ذكرا في المدينة، لم ينثن عزمها عمَّا تريد بل لا تزال مجدَّةً في نيل مرغوبها، والحصول على مطلوبها كما يفيد ذلك قولن: ﴿تُرَاوِدُ﴾ وهو فعل يدل على الاستمرار في الطلب.
ثم أكدن هذا الإنكارَ بقولهن: ﴿قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا﴾؛ أي: قد شَقَّ (١) فتاها شِغَاف قلبها من جهة الحب، والشغاف: جلدة محيطة بالقلب، يقال لها غلاف القلب.
والمعنى (٢): أنَّ حبه دَخَلَ الجلدةَ حتى أصاب القلبَ، وقيل: إن حُبَّه قد أحاط بقلبها، كإحاطة الشغاف بالقلب.
وقال الكلبي: حَجَبَ حبه قَلْبَها حتى لا تَعْقِلَ شيئًا سواه.
والمعنى: أي قد شَقَّ حبه شغاف قلبها؛ أي: غِلافَهُ المحيط به، وغاصَ في سويدَائِه فَمَلَكَ عليها أمرها، فلا تبالي بما يكون من عاقبة تهتكها، ولا بما يصيرُ إليه حالها. وقرأ (٣) ثابت البناني: ﴿شغِفها﴾ بكسر الغين المعجمة، والجمهور بفتحها. وقرأ الحسن: ﴿قد شغُفها﴾ بضم الغين المعجمة كما ذكره الشوكاني. وقرأ علي بن أبي طالب، وعلي بن الحسين، وابنه محمَّد بن علي، وابنه جعفر بن محمَّد، والشعبي، وعوف الأعرابي بفتح العين المهملة، وكذلك قتادةُ، وابن هرمز، ومجاهد، وحميد، والزهرى بخلاف عنهم.
(١) المراح.
(٢) الخازن.
(٣) البحر المحيط.
385
ورُوِيَ عن ثابت البناني، وابن رجاء كسر العين المهملة. قال ابن زيد: الشَّغَفُ في الحُبِّ، والشَّعَفُ في البُغْضِ.
وقال الشعبي: الشغف والمشغوف بالغين المعجمة في الحبِّ، والشعف الجنُونُ، والمشعوف المجنون. وأدْغَمَ النحويان أبو عمرو، والكسائي، وحمزة، وهشام، وابن محيصن دَالَ (قَدْ) في شين (شَغَفَها). ثم زدنَ ذلكَ تأكيدًا بقولهن: ﴿إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ﴾؛ أي: في خطأ بينٍ ظاهرٍ، حيث تركت ما يجب على أمثالها من العفافِ، والستر وأحبَّت فتاها؛ أي: إنا لنعلم أنها غَائِصَة في مَهَاوِي الضلالة البينة البعيدة عن طريق الهدى والرشاد. ولم يكن قولهن هذا إنكارًا للمنكر، ولا كرهًا للرذيلة، ولا نصرًا للفضيلة، بل قلنه مَكْرًا وحيلةً ليصل الحديث إليها، فيَحْمِلها ذلك على دعوتهن، والرؤية بأبصارهن، ما يكون فيه معذرة لها، فيما فعلتْ، وذلك منهن مَكْر ولا رأيٌ، وقد وصلنَ إلى ما أردْنَ. وهذه الجملة (١) مُقرِّرَة لمضمونِ ما قبلها.
والمعنى: ﴿إِنَّا لَنَرَاهَا﴾ أي: نَعْلَمُها في فعلها هذا، وهي المراودة لفتاها ﴿فِي ضَلَالٍ﴾ عن طريق الرشد والصواب، ﴿مُبِين﴾؛ أي: واضح لا يلتبس على مَنْ نظَر فيه، وإنما لم يقلْنَ (٢): إنها لفي ضلال مبينٍ إشعارًا بأنَّ ذلكَ الحكمَ غير صادر عنهن مجازفة بل عن علم، ورأي، مع التلويح بأنهن متنزهات عن أمثال ما هي عليه، ولذا ابْتَلاهن الله تعالى بما رَمَيْنَ به الغيرَ؛ لأنه ما عَيَّر واحد أخاه بذنب إلَّا ارتكبه قبْلَ أن يَمُوتَ.
٣١ - ﴿فَلَمَّا سَمِعَتْ﴾ امرأة العزيز ﴿بِمَكْرِهِنَّ﴾؛ أي: باغتيابهن إياها، وسوءِ قولهن، وقولهن: امرأة العزيز عَشقَتْ عبدها الكِنعانِيَّ، وهو مَقَتَها. وسميت الغيبة مكرًا لاشتراكهما في الإخْفاءِ. ﴿أَرْسَلَتْ﴾ امرأة العزيز ﴿إِلَيْهِنَّ﴾؛ أي: إلى نسوة المدينة تدعوهن للضيافة إكرامًا لهن، ومكرًا بهن، ولتُعْذَر في يوسف، لعلمِها أنهن إذا رأينَهُ دهشن وافتتنَّ به. قيل: دَعَتْ أربعين امرأةً، منهن الخَمْس المذكوراتُ.
(١) الشوكاني.
(٢) روح البيان.
386
﴿وَأَعْتَدَتْ﴾؛ أي: أحْضرَتْ وهيَّأتْ ﴿لَهُنَّ مُتَّكَأً﴾؛ أي: ما يتكئنَ عليه من النمارق والوسائد وغيرها عند الطعام، والشراب، كعادة المترفهين، ولذلك نهي عن الأكل بالشمال أو متكأ.
وهذا إنْ (١) قُرِىءَ: مُتَّكَأً بالتشديد، فإن قرئ بالتخفيف مُتْكَأً، كان معناه: الأترج أو الزماورد بالضم، وهو طعام من البيض واللحم، معرب كما سيأتي في مبحث القراءة؛ لأنهم كانوا يتكئون على المسانيد عند الطعام، والشراب، والحديث. ﴿وَآتَتْ﴾؛ أي: أعطَتْ ﴿كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ﴾؛ أي: من تلك النسوة الحاضرات ﴿سِكِّينًا﴾ لأجل أكل الفاكهة واللحم؛ لأنهم كانوا لا يأكلون من اللحم إلا ما يقطعون بسكاكينهم، وكانت تِلْكَ السَّكَاكِين تسمَّى خناجرَ. ﴿وَقَالَتِ﴾؛ أي: زليخا ليوسف وهنَّ مشغولات بإعمال الخناجر في الطعام ﴿اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ﴾؛ أي: أبرز لهن، ومرَّ عليهن، فإنَّ يوسُفَ عليه السلام ما قَدر على مخالفتها خوفًا منها.
وحاصل المعنى: أي فلمَّا (٢) سمعت مقالتَهن التي يردنَ بها إغضابَها حتى تريَهُنَّ يُوسُفَ إبداء لمعذرتها فيسألن ما يَبْغِينَ من رؤيته، وقد كان من المتوقع أن تَسْمَعَ ذلك لما اعتيدَ بَيْنَ الخَدم من التواصل والتزاور وهن ما قلنَه إلا لتَسمَعه، فإنْ لم يَتمَّ لهن ما أردن احتلن في إيصاله، وقد كان ما أرَدْنَ كما قال: ﴿أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّينًا﴾؛ أي: مَكَرت بهن كما مكرن بها، ودعتْهُنَّ إلى الطعام في دارها، وهيأت لهن ما يتكئنَ عليه من كراسي، وأرائكَ كما هو المعروفُ في بيوت العظماء. وكان ذلك في حجرة المائدة، وأعطت كلَّ واحدة منهن سكينًا، وخَنْجرًا، لِتَقْطَعَ بها ما تأكل من لحم وفاكهة. ﴿وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ﴾؛ أي: وأمرته بالخروج عليهن.
وفي هذا إيماء إلى أنه كان في حجرة في داخل حجرة المائدة التي كنَّ فيها محجوبًا عنهن، وقد تَعَمَّدَتْ إتْمامًا للحيلَةِ والمكر بهن أن يفجأهُنَّ، وهن
(١) المراح.
(٢) المراغي.
387
مشغولات بما يقطعنه، ويأكلنه عِلْمًا منها بما يكون لهذه المفاجأة من الدَّهْشَةِ.
وقد تم لها ما أرادَتْ كما يُشير إلى ذلك قوله: ﴿فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ﴾ هذا مرتَّب على محذوف تقديره: فَخَرج عليهن فلما رأينه أكبرنه؛ أي: فلمَّا رأتِ النسوة يوسفَ أكبَرْنَه؛ أي: أعظمنَ (١) يُوسُفَ ودهشن عند رؤيته من شدَّةِ جماله، وكان يوسُف قد أُعْطِيَ شَطْرَ الحسن.
وقال عكرمة: كان فَضْلُ يوسف على الناس في الحسن كفضل القمر ليلة البدر على سائر النجوم. وروى أبو سعيد الخدري رضي الله عنه، قال: قال رسول الله - ﷺ -: "رأيت ليلة أُسْرِيَ بي إلى السماء، يوسفَ كالقمر ليلةَ البدر" ذكر البغوي بغير سند.
وقيل (٢): معنى: أكبرن؛ أي: حِضْنَ، والهاء إما للسكت أو ضمير راجع إلى يوسف على حذف اللام؛ أي: حِضْنَ له من شدة الشَّبَقِ، وأيضًا إنَّ المرأة إذا فَزِعَت فربما أسقطَتْ ولدَها، فحاضَتْ ويقال: أكبرت المرأة؛ أي: دخلَت في الكبر، وذلك إذا حاضَتْ لأنها بالحيض تَخرُج من حَدِّ الصغر إلى الكبر.
وقال الإِمام فخر الدين الرازي: وعندي أنه يحتمل وجهًا آخرَ، وهو أنهن إنما أكبرنه لأنهن رأيْنَ عليه نُورَ النبوة، وسِيمَا الرسالة، وآثارَ الخضوع والإخبات، وشاهدن فيه مهابةً وهيبةً ملكيةً، وهي عدم الالتفات إلى المطعوم والمنكوح، وعدم الاعتداد بهن، وكان ذلك الجمالُ العظيم مقرونًا بتلك الهيبة والهيئة، فتعجبن من تلك الحالة، فلا جَرَمَ أكبرنَه، وأعظمنه، ووقع الرعب والمهابة في قلوبهن. قال: وحمل الآية عى هذا الوجه أولى، انتهى.
﴿وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ﴾؛ أي: جرحن أيديهن حتى سال الدَّمُ، ولم يَجِدْن الألمَ لفرط دهشتهن، وشغل قلوبِهِنَّ بيوسف؛ أي؛ فلمَّا رأينه أعظمنه فقطَّعْنَ أيديَهُنَّ بدلًا من تقطيع ما يأكلن ذهولًا عمَّا يعملن؛ أي: فجرحنها بما في أيديهن من السكاكين لفرط دهشتهن، وخُرُوج حركات الجوارح عن منهاج الاختيار، حتى لا
(١) الخازن.
(٢) المراح.
388
يشعرن بما عَمِلْنَ، ولا ألِمْنَ لما نالهن من أذى، واستعمال القطع بمعنى الجرح كثير في كلامهم، فيقولون: كنت أقْطَعُ اللحمَ فقطعْتُ يدي، يريدون فأخطأتها، فَجَرحْتُ يدي حتى كدتُ أقطعها.
ولم تقطع (١) زليخَا يديها؛ لأنّ حَالَها انتهت إلى التمكين في المحبة، كأهل النِّهايات، وحال النسوة كانت في مقام التَّلْوين كأهل البِدايات، فلكل مقام تَلَوُّنٌ وتمكنٌ وبداية ونهاية.
﴿وَقُلْنَ﴾؛ أي: النِّسْوَةُ ﴿حَاشَ لِلَّهِ﴾؛ أي: تنزيهًا، وبراءة لله سبحانه وتعالى من كل النقائص. وحَاشَ كلمة وُضِعَتْ موضِعَ المصدر، فمعناه التنزيه، والبراءةُ بدليل قراءة أبي السماك: حاشًا لله بالتنوين واللام لبيان المبرأ، والمنزه كما في ﴿سقيًا لك﴾. ﴿مَا هَذَا﴾ الغلام ﴿بَشَرًا﴾؛ أي: ليس هذا آدميًّا مثلنا؛ لأن من الجمالَ غيرُ معهود للبشر ﴿إِنْ﴾ نافية بمعنى ما؛ أي: ما ﴿هَذَا﴾ الغلام ﴿إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ﴾ على الله فإن (٢) الجمعَ بين الجمال الرائق، والكمال الفائق، والعصمةِ البالغةِ من خواصِّ الملائكة، أو لأنَّ جَمَالَهُ فوقَ جَمَال البشر، ولا يَفُوقه فيه إلا المَلَكُ، وقَصَرْنَهُ (٣) على الملكِيَّة مع علمهن أنه بشر؛ لأنَّه ثَبَتَ في النفوس أنه لا أكمل ولا أحسن خلقًا من المَلَك، يعني رَكَزَ في العقول أن لا حيَّ أحسنَ من الملك، كما ركزَ فيها أن لا أقبح مِنَ الشيطان. ولذلك لا يزال يشبَّه بهما كل متناه في الحسن والقبح، وغرضهن وصفه بأقصى مراتب الحسن والجمال.
وروي أنه كان يُوسُفُ إذا مشى في أزقة مصر يرى تلألؤ وجهه، كما يُرى نور الشمس من السماء عليها، وكان يُشْبِهُ آدمَ يوم خلقه ربه؛ وكانت أمه رَاحِيلُ وجدَّتُه سَارَة جميلتين جدًّا.
أي: وقلن على سبيل (٤) التعجب والتنزيه لله تعالى، ما صَحَّ أن يكونَ هذا الشخص الذي لم يُعْهَد مثاله في جماله، وعفَّتِه من النوع الإنساني إن هو إلَّا
(١) روح البيان.
(٢) البيضاوي.
(٣) روح البيان.
(٤) المراغي.
389
ملك تمثَّلَ في تلك الصورة البديعة، التي تخبل العقولَ، وتدهِشُ الأبصارَ.
رُوِيَ عن زيد بن أسلم من مفسِّري السلف: أعطَتْهُنَّ أُتْرُنْجًا "ثمر من نوع الليمون الحامض كبيرٌ مستطيلٌ يؤكَلَ بعد إزالة قشرته" وعسلًا فكن يحززنَ بالسكين ويأكلنه بالعسل، فلَمَّا قيل له: اخرج عَلَيْهِنَّ خَرَجَ، فلما رأينَه أعظمنه، وتَهَيَّمْنَ به حتى جعلن يحززن أيْدِيَهُن بالسكين، وفيها الترنجُ، ولا يعقلنَ ولا يحسبنَ، إلا أنهن يحززن الأترنج، قد ذهبَتْ عقولهن مما رأينَ، وقلْنَ حاش لله ما هذا بشرًا؛ أي: ما هكذا يكون البشرُ ما هذا إلا ملك كريم. وقرأ (١) الزهري، وأبو جعفر، وشيبة: ﴿متَّكى﴾ مشددَ التَّاءِ من غير همز على وزن متقى، فاحتمل ذلك وجهين:
أحدهما: أن يكون من الاتكاء، وفيه تخفيفُ الهمز كما قالوا في توضأت: توضيتُ.
والثاني: أن يَكُونَ مفتعلًا من أوكيت السقاءَ إذا شددتَه؛ أي: ما يشتددنَ عليه إما بالاتكاء، وإما بالقطع بالسكين. وقرأ الأعرج: ﴿مُتْكًا﴾ بوزن مفعلًا من تكأَ يَتْكَأَ إذا اتَّكَأَ. وقرأ الحسن، وابن هرمز: ﴿متكاءً﴾ بالمد والهمز وهو مفتعل من الاتكاء إلا أنه أشبع الفتحة فتولَّدَتْ منها الألفُ كما قال الشاعر:
أُعُوْذُ بِاللهِ مِنَ الْعَقْرَابِ الشَّائِلاَتِ عُقَدَ الأَذْنَابِ
وقرأ ابن عباسَ، وابن عمر، ومجاهد، وقتادة، والضحاك، والجحدري، والكلبي، وأبان بن تغلب ﴿مُتْكئًا﴾ بضم الميم وسكون التاء وتنوين الكاف. وجاء كذلك عن ابن هرمز. وقرأ عبد الله، ومعاذ، كذلك إلا أنهما فَتَحَا الميم. وقرأ الجمهور: ﴿حَاشَ لِلَّهِ﴾ بغير ألف بعد الشين، والله بلام الجر. وقرأ أبو عمرو: ﴿حاشا لله﴾ بألف ولام جر. وقرأت فرقة منهم الأعمش: ﴿حَشَى﴾ على وزن رمى، ﴿لله﴾ بلام الجر. وقرأ الحسن: ﴿حاش﴾ بسكون الشين وصلًا، ووقفًا، وبلام الجر. وقرأ أبي وعبد الله: ﴿حاش الله﴾ بالإضافة، وعنهما كقراءة أبي
(١) البحر المحيط.
390
عمرو، قاله صاحب "اللوامح". وقرأ الحسن: ﴿حاش الإله﴾ قال ابن عطية: محذوفًا من حاشى. وقرأ أبو السمال: ﴿حاشا للَّه﴾ بالتنوين كرعيًا لِلّهِ.
فأما القراءات ﴿للَّه﴾ بلام الجر في غير قراءة أبي السمال، فلا يجوز أن يكون ما قبلها مِن حَاشَى، أو حاشَ، أو حَشَى، أو حَاشَ حرف جر؛ لأنَّ حرف الجر لا يدخل على حرف الجر، ولأنه تصرُّف فيها بالحذف. وأصل التصريف بالحذف أن لا يكون في الحروف. وزعم المبرِّد وغيره، كابن عطية، أنه يتعيَّن فعليتها، ويكون الفاعل ضمير يُوسُفَ؛ أي: حاشى يوسف أن يفارِقَ ما رَمَتْهُ به زليخا، وعلى هذا تكون اللامُ في ﴿لله﴾ للتعليل؛ أي: جانَبَ يوسف المعصيةَ لأجل طاعةِ الله. وذهب غير المبرد إلى أنها اسم، وانتصابها على المصدرية انتصابَ المصدر الواقع بدلًا من اللفظ بالفعل، كأنه قَالَ تنزيهًا لله، ويدل على اسميتها قراءة أبي السمال: ﴿حاشا﴾ منونًا. وعلى هذا القول يتعلَّق لله بمحذوف على البيان كَلام لَكَ بعد سقيًا، ولم ينوَّن في القراءات المشهورة مراعاةً لأصله الذي نقِل منه، وهو الحرف.
وأما قراءةُ الحسن، وأبي بالإضافة فهو مصدر مضاف إلى فاعله، كما قالوا: سبحانَ الله، وهذا اختيار الزمخشري. وقال ابن عطية: وأما قراءة أبي بن كعب، وابن مسعود، فقال أبو علي: إنَّ حاشى حرفُ استثناء، كما قال الشاعر:
حَاشَى أبِي ثَوْبَانَ
انتهى. وأما قراءة حاش بالتسكين ففيها جَمْعٌ بين ساكنين، وقد ضعَّفوا ذلك. وقرأ الحسن، وأبو الحويرث الحنفي: ﴿ما هذا بشراء﴾ على أنَّ الباء حرف جر، والشين مكسورة، فالشراء حينئذ مصدر بمعنى اسم المفعول؛ أي: ما هذا بعبد يُشْتَرى. وهذه قراءة ضعيفة لا تناسب ما بعدها من قوله: ﴿إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ﴾ وتابَعهُما عبد الوارث عن أبي عَمْرو على ذلك، وزَادَ عليهما: ﴿إلا ملك﴾ بكسر اللام، واحد الملوك فهم نفَوا بذلك عنه ذل المماليك، وجعلوه في حيِّزِ الملوك، والله أعلم، انتهى. ونسب ابن عطية كسْرَهَا للحسن، وابن الحويرث اللذَين قرآ: ﴿بشرى﴾.
391
٣٢ - ﴿قَالَتْ﴾ امرأة العزيز للنسوة لما رأين يوسفَ ودهشْنَ عند رؤيته ﴿فَذَلِكُنَّ﴾، والخطاب في (كن) للنسوة، والإشارة في ذا ليوسف، ولم تَقُلْ فهذا مع أنه حاضر رفعًا لمنزلته في الحسن، واسم الإشارة مبتدأ، والموصول خبرَه، وهو ﴿الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ﴾؛ أي: فذلكن الخارج الذي ظَهَرَ لكم هو الغلام الذي لمتنَّنِي؛ وعيبتُنَّنِي في شأنه ومحبته. وإنما قالت ذلك لإقامة عُذْرِهَا عندهن، حِينَ قلْنَ إنَّ امرأة العزيز قد شَغَفَها فَتَاها الكنعانيُّ حبًّا، وإنما قالت فذلكن الخ، بعدما قام من المجلس، وذهَبَ ﴿وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ﴾؛ أي: والله لقد راودتْه، وطلَبْت منه أَن يمكنني ﴿عَنْ نَفْسِهِ﴾ حسبما قلتن وسمعتن ﴿فَاسْتَعْصَمَ﴾؛ أي: فامتنعَ من ذلك الفعل الذي طلبته منه، وإنَّما صرحت بذلك لأنَّها علمت أنه لا مَلامَةَ عليها منهن، وإنهن قد أصابَهُنَ ما أصابها عند رؤيته؛ أي: طلَب العصمةَ من الله مبالِغًا في الامتناع؛ لأنه يدلُّ على الامتناع البليغ، والتحفظ الشديد، كأنَّه في عصمة، وهو مجتهد في الاستزادة منها. وفيه برهان نيِّرٌ على أنه لم يصدر عنه شيء مخل باستعصامه، بقوله: ﴿مَعَاذَ اللَّهِ﴾ من الهم وغيره. ﴿وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ﴾؛ أي: والله لئن لم يَفْعَلْ يُوسُفُ ﴿مَا آمُرُهُ﴾ به مستقبلًا من قضاء شهوتي كما لم يفعله ماضيًا والله ﴿لَيُسْجَنَنَّ﴾ بالنون الثقيلة آثَرَتْ بِناء الفعل للمفعول (١) جَرْيًا على رَسْمِ الملوك؛ أَي: واللهِ ليعاقبنَّ على إباءه بالسجن والحبس ﴿وَلَيَكُونًا﴾ بالنون الخَفِيفَة، وإنما كتبت الألف إتباعًا لخط المصحف مثل ﴿لَنَسْفَعًا﴾ على حكم الوقف يعني أنَّ النون الخفيفة يبدل منها في الوقف الألف لشبهها بالتنوين، كقول الأعشى:
وَلاَ تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ وَاللهَ فَاعْبُدَا
﴿مِنَ الصَّاغِرِينَ﴾؛ أي: من الأذلاء المقهورين في السجن، وهو من (٢) صغر بالكسر، والصغيرُ من صَغُرَ بالضم؛ أي: والله لَيَكُونَنْ يُوسُفُ من الصاغرين المهانين في السجن، فإن زوجي لا يخالف لي رغبةً ولا يَعْصِيني في أمر وسيعاقبه بما أريد؛ ويُلْقِيهِ في غَيَابَاتِ السجون، ويجعله كغيره من العبيد بعد إكرام مثواه؛ وجعلِه كولده. وقرأت فرقة: ﴿وليكوننَّ﴾ بالنون المشددة.
(١) روح البيان.
(٢) روح البيان.
وفي ذلك (١) إيماء إلى أنها ستشدِّد العقوبةَ عليه أكثرَ مما توعَّدت به أولًا، فهناك أنذرته بسجن قد يكون على أخفِّ صورة، وأقلِّها وعذاب بأهون أنواعه، وألطفها كحَبْسٍ في حجرة الدار، أو لَطْمة على خَدَّيْهِ تُزِيلُ منها الاحمرار. وهنا أَنْذرَتْهُ بسجن مؤكَّد، وذل وصغار تأباه الأنفسُ الكريمةُ كنفس يوسف عليه السلام، فأشق الأعمال أهْوَنُ على كِرامِ الناس من الهوانِ والصَّغَارِ.
وفي هذا التهديد ليُوسُفَ من ثقتها بسلطانها على زوجها مع علمه بأمرها، واستعظامه لكيدها، ما كان مِنْ حقه أن يجعلَ يُوسُفَ يَخَافُ من تنفيذ إرادتها، ويثبتَ لديه عَدَم غيرته عليها، كما هو الحالُ لدى كثير من العظماء المُتْرفينَ العاجزين عن إحصان أزواجهم، والمحرومين من نِعْمَةِ الأولاد منهن، ورُبَّما تكون مُبَالَغَتُها في تهديده بمحضر من هؤلاء النسوة لما في قَلْبها منه من غل، وجَوى بظهور كذبها، وصدقه، وتصميمِه على عِصْيَان أمرها، ولتُظْهِرَ لِيُوسُفَ أنها ليسَت في أمرها على خِيفةٍ من أحد، فتضيِّقَ عليه، ولينصَحْنَه في موافقتها، ويرشِدنَه إلى الخلاص من عذابها.
٣٣ - فلمَّا سمع يوسف مقالَتَها هذه، وعَرَف أنها عُزْمَةٌ منها مع ما قد علمه من نفاذ قولها عند زوجها العزيز، قال مناجيًا لربه سبحانه وتعالى: ﴿رَبِّ السِّجْنُ﴾؛ أي: قال: يا ربي أنت العلم بالسر، والنجوى، والقدير، على كشف تلك البلوى؛ إنَّ دُخُولَ السجن الذي هدَّدَتْ به، والمكث في بيئة المجرمين على شَظْفِ العيش، ورقة الحال ﴿أَحَبُّ إِلَيّ﴾؛ أي: أحبُّ عندي ﴿مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ﴾؛ أي: مما تدعو إليه أولئك النسوة في مُؤَأتَاتِها التي تؤدِّي إلى الشقاءِ، والعذاب الأليم؛ أي: من الاستمتاع بها في ترف القصور والاشتغال بحبها عن حبِّك، وبقُرْبها عن قربك. وفي قوله: ﴿مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ﴾ إيماءٌ إلى أنهن خوفنه مُخَالفَتَها، وزيَّنَ له مطاوعتَها، فقلنَ لهُ: أطع مولاتَك، وأنِلها ما تهوَى لتكفى شرَّها، وتأمَنَ عقوبتَها. إن قلتَ هو مجاب الدعوة فلِمَ طَلَب النجاة بالسِّجْنِ ولم
(١) المراغي.
393
يطلُبِ النجاةَ العامَّة؟ أجيب: بأنه اطَّلَعَ على أنَّ السِّجْنَ محتمٌ عليه، فدعا به، لأن النبيَّ لا ينطِقُ عن الهوى ذكره "الصاوي". وقرأ عثمان (١)، ومولاه طارقٌ، وزيد بن علي، والزهري، وابن أبي إسحاق، وابن هرمز، ويعقوب: ﴿السَّجْنِ﴾ بفتح السين، وهو مصدر سجن؛ أي: حبسُهم إيَّايَ في السجن أحب إليّ، وأفعل التفضيل هنا ليس على بابه من التفضيل؛ لأنه لم يحب (٢) ما يَدْعُونَهُ إليه قط، وإنما هذان شران فآثر أحدَ الشرين على الآخر، وإن كان في أحدهما مشقَّةٌ، وفي الآخر لَذَّة لكن لما يترتَّبُ على تلك اللذة من معصية الله، وسوء العاقبة لَمْ يُخْطُرْ له ببال. وإسناد (٣) الدعوة إليهن جميعًا؛ لأنهن خَوَّفْنَه من مخالَفَتِها، وزيَّنَّ له مُطاوَعَتها أو دَعَوْنَهُ إلى أنفسهن، وقيل: إنما ابتلي بالسجن لقوله: ﴿هذا﴾ وإنما كان الأولى له أن يسأل الله العافِيَة من شرها، ولذلك رَدَّ رسُولُ الله - ﷺ - على مَنْ كان يسأل الصبرَ.
﴿وَإِلَّا تَصْرِفْ﴾؛ أي: وإنْ لم تصرف وتدفع ﴿عَنِّي﴾ يا إلهي ﴿كَيْدَهُنَّ﴾ ومكرهن؛ أي: وإن لم تبعد عني شِراكَ كيدهن، وتثبتني على ما أنا عليه من العصمة ﴿أَصْبُ إِلَيْهِنَّ﴾ مجزوم على أنه جواب الشرط؛ أي: أمِلْ إلى موافقتهن على أهوائهن، وأقَعُ في شباكِ صيدهن، وأرتَعُ في حمأة غوايتهن، وقد لجأ يوسف إلى ألطاف ربه، وسلكَ سبيل المرسلينَ من قبله في فزعهم إلى مولاهم، لينيلهم الخيرات، ويُبعُدَ عنهم الشرور، والموبقات، وإظهارَهم أن لا طاقةَ لهم إلا بمعونته سبحانه مبالغةً في استدعاء لطفه، وعظيم كرمه ومنِّه. ﴿وَأَكُنْ﴾؛ أي: وأصر ﴿مِنَ الْجَاهِلِينَ﴾؛ أي: من الذين لا يعملون بعِلْمهم؛ لأنَّ من لا جدوى لعلمه فهو ومَنْ لا يعلم سواء؛ أي: من السفهاءِ الذين تستخِفُّهم الأهواء والشهوات، فيَجْنَحُون إلى ارتكاب الموبقات، واجتراح السيئات، فمَنْ يعِشْ بين هؤلاءِ النسوة الماكرات المترفات، لا مهربَ له من الجهل إلّا أن تَعْصِمَهُ بما هو فوقَ الأسباب، والسنن العادية. وقرىء (٤): ﴿أصب إليهن﴾ من صبب صبابةً فأنا
(١) البحر المحيط.
(٢) البحر المحيط.
(٣) البيضاوي.
(٤) البحر المحيط.
394
صَبَبٌ، والصَّبَابَةُ: إفراطَ الشوق، كأنه ينْصَب فيما يَهْوَى. وقرأه الجمهور: ﴿أَصْبُ﴾ من صبا إلى اللهو ويصبو صبًا، صبوًا، ويقال: صَبَا يَصْبا صِبًّا والصِّبا بالكسر اللهو واللعبُ.
وفي هذه الجملة الشرطية إيماء إلى أنه ما صَبَا إليهن، ولا أحبَّ أن يَعِيشَ معهن، بل سأَلَ ربه أن يُدِيمَ له ما عوَّده من كشف السوء عنه في قوله: ﴿كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ﴾.
٣٤ - ﴿فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ﴾؛ أي: فأجاب له ربُّه دعاءه، الذي تضمنه قوله: ﴿وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ﴾ الخ، فإنَّ فيه التجاءً إلى الله تعالى، جَرْيًا على سننِ الأنبياء والصالحينَ في قَصر نيل الخيرات، وطلبِ النجاة من الشرور، على جناب الله تعالى، كقول المستغيث: أدركني وإلا هلكتُ، فكأنه قال: اللهم اصرف عني كَيْدَهن. ﴿فَصَرَفَ﴾ الله سبحانه وتعالى ﴿عَنْهُ﴾؛ أي: عن يوسف ﴿كَيْدَهُنَّ﴾؛ أي: كيدَ تلك النسوةَ، ومكْرَهُن، وعَصَمُه من الجهل والسفه، باتباع أهوائهن حَسْبَ دعائِه، وثبَّتَهُ على العصمة والعفة حتى وطَّنَ نَفْسَه على مشقة السجن ﴿إِنَّهُ﴾ تعالى ﴿هُوَ السَّمِيعُ﴾ لدعاء مَنْ تَضرَّعَ إليه، وأخلص الدعاءَ له ﴿الْعَلِيمُ﴾ بصدق إيمانهم، وبما يُصْلِح أحوالهم. وفي هذا إرشاد إلى أنَّ ربه حَرَسه بعنايته في جميع أطواره، وشُؤُونه وربَّاه أكْمَلَ تربية، ما خَلاهُ ونَفْسَه في أهون أموره. وهذه الجملةُ تعليلٌ (١) لما قبلها من صرف كيد النسوة عنه؛ أي: إنَّه هو السميع لدعوات الداعينَ له، العلم بأحوال الملتجئينَ إليه.
٣٥ - ﴿ثُمَّ بَدَا لَهُمْ﴾؛ أي: ثم ظهر العزيز وامرأته ومَنْ يُهِمُّه أمْرهُمَا من أصحابه المتصدِّين للحل والعقد رأي، أي: ظَهَرَ لهم من الرأي ما لم يظهر لهم من قبلُ. وثُمَّ تدلُّ على تغيُّرِ رأيهم في حقه. ﴿مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الْآيَاتِ﴾؛ أي: منْ بعد أنْ رأوا الآيات، والشواهدَ الدالة على بَراءة يوسفَ وصدقه كشهادة الصبي، وقَدِّ القميص من دُبر، وقطع النساء أيديَهن، وذهاب عقولهن عند رؤيته؛ أي: ظَهَرَ
(١) الشوكاني.
395
لهم سجنُه بعد هذه الآيات، قائلين: والله ﴿لَيَسْجُنُنَّهُ﴾؛ أي: لَيَسْجُنُنَّ يوسُفَ في السجن ﴿حَتَّى حِينٍ﴾؛ أي: إلى حين انقطاع مقالة الناس في المدينة، وهذا باديَ الرأي عند العزيز، وخواصِّه، وأمَّا عندها فحتى يُذَلِّلَهُ السجنُ، ويُسَخِّره لها؛ ويَحْسب الناس أنه المجرمَ فلبث في السجن خَمْسَ سنين، أو سبع سنين، ولا دَلالَةَ في الآية على تعيين مدة حبسه؛ لأنَّ الحينَ عند أهل اللغة وقْتٌ من الزمان غير محدود، ويقع على القصير منه والطويل؛ أى (١): إن زليخَا لما أيِسَتْ من يُوسُفَ بجميع حِيَلها كي تحملَه على موافقة مرادها، قالت لزوجها: إنَّ هذا العَبْدَ العِبْرانِيَّ فَضَحني في الناس، يقول لهم: إنى راودتُه عن نفسه، فإمَّا أنْ تأذَن لي فأخرج وأعتذرَ إليهم، وإما أن تَسْجُنه فسَجَنَه؛ لأنه كان مِطْواعًا لها. وقرأ الحسن: ﴿لتسجننه﴾ بالتاء على خطاب بعضهم، العزيزَ، ومن يليه، أو العزيز وحده على وجه التعظيم. وقرأ (٢) ابن مسعود: ﴿عَتى﴾ بإبدالِ حاءِ حتى عينًا، وهي لغة هذيل، وأقرأ بذلك فكَتَبَ إليه عُمَرُ يَأْمُرُه أن يُقرِىءَ بلغة قريش ﴿حَتَّى﴾ لا بِلُغَةِ هُذَيْلٍ.
والمعنى (٣): أي ثُمَّ ظهر للعزيز وامرأتِه، ومَنْ يهمه أمْرَهُمَا كالشاهد الذي شهِدَ عليها من أهلها من الرأي ما لم يكن ظاهرًا لهم من قبلُ. بعد أنْ رأوا من الآيات ما اختبَرُوه بأنفسهم، وشهدوه بأعينهم، ممَّا يدلُّ على أنَّ يوسف لم يكن إنسانًا كالذين عرفوا في أخلاقه، وعفَّتِه، واحتقاره للشهوات، واللذات التي يَتَمتع بها سكانُ القصور.
وفي إيمانه بأنَّ ربه لن يَتْرُكَهُ بل يكلؤه بعين عنايته، ويَحْرُسَه بوافر رعايته، وقد اسْتبَانَ لهم ذلك من وجوه:
١ - إنَّ افتتانَ سيدته في مراودته وجَذْبها خَلَسات نَظَرِه لم تؤثِّر في ميل قلبه إيها، بل ظلَّ معرِضًا عنها، مُتَجَاهِلًا لها حتى إذا ما صَارَحَتْهُ بما تريد، استعاذَ
(١) المراح.
(٢) البحر المحيط.
(٣) المراغي.
396
بربه، ورَبِّ آبائه، وعَيَّرَها بالخيانة لزوجها.
٢ - أنها لَمَّا غَضِبَت وهمَّتْ بالبطش به، هَمَّ بمقاومتها، والبطشِ بها، ولم يمنعه إلّا ما رأى في دَخِيلةِ نفسه من برهان ربه، الذي يَدُلُّ على أنَّ ربَّه صارف السوء والفحشاء.
٣ - أنها حين اتهمته بالتعدِّي عليها شَهِدَ شاهدٌ من أهلها، أنَّها كاذبةٌ في اتهامها إياه، وهو صادقٌ فيما ادَّعاه من مراودتها إياه عن نفسه، بدلالة القميص على ذلك. كلُّ هذا أثبتَ لهم أنَّ بَقَاءَه في هذه الدار بَيْنَ رَبَّتِهَا وصَدِيقَاتِهَا مَثارُ فتنة تدرك غَايتها، وأنَّ الحِكْمَة هو تنفيذُ رأيها الأول بسجنه لإخفاء ذكره، وكَفِّ ألسنة الناس عنها في أمره، وأقسموا ليسجننه حتى حين، دُونَ تقييد بزمن معين، ليَرَوا ماذا يكون فيه من تأثير السجن، وحديث الناس عنه.
وفي تنفيذ هذا العزم، دَلالةٌ على ما كان لهذه المرأة الماكرة من سلطان على زوجها، تَقُودُه كيف شاءَتْ، حتى فَقَدَ الغَيْرةَ عليها، فهو يَجري وراءَ هواها، ويستجلب رِضَاها، حتى أنساه ذلك، ما رَأَى من الآيات وعَمِلَ برأيها في سجنه، لإلحاق الهَوَان، والصَّغار به، حتى أيست من طاعته، وطَمِعَتْ في أن يذلِّلَهُ السجنُ لأمرها، ويَقِفَ به عند مشيئتِها، والله أعلم.
الإعراب
﴿وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْ مِصْرَ لِامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (٢١)﴾.
﴿وَقَالَ الَّذِي﴾ فعل وفاعل، والجملة مستأنفة. ﴿اشْتَرَاهُ﴾ فعل ومفعول. ﴿مِنْ مِصْر﴾ متعلق به، وفاعله ضمير يعود على الموصول، والجملة الفعلية صلة الموصول. ﴿لِامْرَأَتِهِ﴾ جار ومجرور، ومضاف إليه متعلق بـ ﴿قَالَ﴾. ﴿أَكْرِمِي مَثْوَاهُ﴾ إلى قوله: ﴿وَكَذَلِكَ﴾ مقول محكي لـ ﴿قَالَ﴾، وإن شئتَ قلت: ﴿أَكْرِمِي﴾ فعل وفاعل. ﴿مَثْوَاهُ﴾ مفعول به، ومضاف إليه؛ والجملة في محل النصب مقول
397
﴿قَالَ﴾. ﴿عَسَى﴾ فعل ماض ناقص، واسمه ضمير يعود على يوسف. ﴿أَنْ يَنْفَعَنَا﴾ ناصب وفعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على يوسف، وجملة ﴿يَنْفَعَنَا﴾ في تأويل مصدر منصوب على كونه خَبَر ﴿عَسَى﴾ ولكنه في تأويل اسم الفاعل تقديرُهُ: عسى نَفْعُه إيانا؛ أي: نَافِعًا لنا، وجملة ﴿عَسَى﴾ مسوقة لتعليل ما قبلها على كونها مقولَ القول. ﴿أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا﴾ فعل ومفعولان معطوف على ﴿يَنْفَعَنَا﴾ وفاعله ضمير يعود على المشترَى، والتقديرُ: عسى نَفْعُهُ إيانا، أو اتخاذُنا إياه ولدًا؛ أي: عسى هو نافعًا لنا، أو مُتخَذًا لنا ولدًا. ﴿وَكَذَلِكَ﴾ ﴿الواو﴾ استئنافية. ﴿كذلك﴾ جار ومجرور صفةٌ لمصدر محذوف، تقديره: تمكينًا مثل ذلك التمكين السابق من اجتبائه، وإنجائه من القَتْل والجُبِّ. ﴿مَكَّنَّا﴾ فعل وفاعل، والجملة مستأنفة. ﴿لِيُوسُفَ﴾ متعلق بـ ﴿مَكَّنَّا﴾. وكذلك قوله: ﴿فِي الْأَرْضِ﴾ متعلق به. ﴿وَلِنُعَلِّمَهُ﴾ ﴿الواو﴾ عاطفة على محذوف متعلق بـ ﴿مَكَّنَّا﴾ تقديره: وكذلك مكنا ليوسف في الأرض، لينشأ منه ما جَرَى بينه وبين امرأة العزيز، وليتصرَّفَ فيها بالعَدْل. ﴿لنعلمه﴾ ﴿اللام﴾ حرف جر وتعليل. ﴿نعلمه﴾ فعل، ومفعول أول منصوب بأن مضمرةً جوازًا بعد لام كي، وفاعله ضمير يعود على الله. ﴿مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ﴾ جار ومجرور متعلق به، وهو في محل المفعول الثاني، والجملة الفعلية في تأويل مصدر مجرور باللام، تقديره: وكذلك مكنَّا له في الأرض لتصرُّفه فيها بالعدل، ولتعليمنا إياه تأويلَ الأحاديث. ﴿وَاللَّهُ غَالِبٌ﴾ مبتدأ وخبر، والجملة مستأنفة. ﴿عَلَى أَمْرِهِ﴾ جار ومجرور متعلق بـ ﴿غَالِبٌ﴾. ﴿وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ﴾ ناصب واسمه. وجملة ﴿لَا يَعْلَمُونَ﴾ في محل الرفع خبر ﴿لكنَّ﴾، والجملة الاستدراكية معطوفةٌ على الجملة التي قبلها.
﴿وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (٢٢)﴾.
﴿وَلَمَّا﴾ ﴿الواو﴾ استئنافية. ﴿لَمَّا﴾ حرف شرط غير جازم. ﴿بَلَغَ﴾ فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على يوسف. ﴿أَشُدَّهُ﴾ منصوب على الظرفية متعلق بـ ﴿بَلَغَ﴾، والجملة فعل شرط لـ ﴿لما﴾. ﴿آتَيْنَاهُ حُكْمًا﴾ فعل وفاعل ومفعولان. ﴿وَعِلْمًا﴾ معطوف على ﴿حُكْمًا﴾ والجملة الفعلية جواب ﴿لمَّا﴾، وجملةُ ﴿لما﴾
398
مستأنفة. ﴿وَكَذَلِكَ﴾ ﴿الواو﴾ عاطفة. ﴿كذلك﴾ جار ومجرور صفةٌ لمصدر محذوف. ﴿نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ﴾ فعل ومفعول وفاعله ضمير يعود على الله، والتقدير: ونجزي المحسنين جزاء مثل جزائنا ليوسف، والجملة معطوفة على جملة ﴿لما﴾.
﴿وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (٢٣)﴾.
﴿وَرَاوَدَتْهُ﴾ ﴿الواو﴾ استئنافية. ﴿راودته﴾ فعل ومفعول. ﴿الَّتِي﴾ فاعل، والجملة مستأنفة. ﴿هُوَ﴾ مبتدأ. ﴿فِي بَيْتِهَا﴾ جار ومجرور، ومضاف إليه خبر المبتدأ، والجملة الاسمية صلة الموصول. ﴿عَنْ نَفْسِهِ﴾ جار ومجرور متعلق بـ ﴿راودت﴾. ﴿وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ﴾ فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على زليخا، والجملة معطوفة على جملة ﴿راودت﴾. ﴿وَقَالَتْ﴾ فعل ماض والفاعل ضمير يعود على زليخا ﴿هَيْتَ لَكَ﴾ مقول محكي لـ ﴿قَالَ﴾، وإن شئت قلت: ﴿هَيْتَ﴾ بفتح الهاء، والتاء اسم فعل أمر بمعنى أقبِلْ وتعَالَ مبني على الفتح لشبهه بالحرف شبهًا استعماليًّا، وفاعله ضمير يعود على يوسف، وجملة اسم الفعل في محل النصب مقولُ ﴿قَالَ﴾. ﴿لَكَ﴾ جار ومجرور متعلق بمحذوف خبر لمبتدأ محذوف تقديره: الخطاب كائن لك، أو معكَ، والجملة في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾. وفي "السمين": ﴿لَكَ﴾ متعلق بمحذوف على سبيل البيان، كأنها قالت: أقول لك أو الخِطابُ لك كهي، في سَقْيًا لك، ورَعْيًا لك، اهـ.
فائدة في لغات ﴿هيت﴾: وفي "الفتوحات": ﴿هَيتَ﴾ بفتح الهاء، والتاء ككيف ولَيْت و ﴿هِيْتَ﴾ بكسر الهاء وفتح التاء كقِيلَ وغِيضَ، و ﴿هَيْتُ﴾ بفتح الهاء وضم التاء، كحيثُ و ﴿هئْتُ﴾ بكسر الهاء وبالهمزة الساكنة وفتح التاء أو ضمها. وهذه خمسُ قراءات، وكلها سبعية، وكلُّها لغات في هذه الكلمة، وهي في كلها اسم فعل أمر بمعنى هَلُمَّ؛ أي: أقبل وتعال، اهـ شيخنا. فمن فَتَحَ التاء بناها على الفتح للتخفيف نحو: أيْنَ وكيف، ومن ضمَّها كابن كثير، فقد شَبَّهَها بحيثُ. ومَنْ كَسَرَها فعلى أصل التقاء الساكنين، اهـ "سمين". وذكر فيها قراءات أربعٌ أُخَرُ شاذة كما مرَّتْ في مبحث القراءة.
399
﴿قَالَ﴾ فعل ماض وفاعله ضمير يعود على يوسفَ، والجملة مستأنفة. ﴿مَعَاذَ اللَّهِ﴾ منصوب على المصدرية بفعل محذوف وجوبًا تقديره: أعوذ بالله معاذًا، والجملة المحذوفة في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾. ﴿إِنَّهُ رَبِّي﴾ ناصب واسمه وخبره، والضمير يعود على الباري جَلَّ وعلا، والجملة في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾ على كونِها تعليلًا لما قبلَها. ﴿أَحْسَنَ﴾ فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على ﴿رَبِّي﴾. ﴿مَثْوَايَ﴾ مفعول به ومضاف إليه، والجملة الفعلية في محل النصب حال لازمة من ربي. ﴿إِنَّهُ﴾ ناصب واسمه، والضمير للشأن. وجملة: ﴿لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ﴾ في محل الرفع خبر ﴿إنَّ﴾، وجملة إنَّ في محل النصب قول ﴿قَالَ﴾.
﴿وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ (٢٤)﴾.
﴿وَلَقَدْ﴾ ﴿الواو﴾ استئنافية. ﴿اللام﴾ موطئة للقسم. ﴿قد﴾ حرف تحقيق. ﴿هَمَّتْ﴾ فعل ماض، وفاعلُه يعود على زليخا. ﴿بِهِ﴾ متعلق به، والجملة الفعلية جوابُ القسم لا محل لها من الإعراب، وجملة القَسمِ مستأنفة. ﴿وَهَمَّ﴾ فعل ماض. ﴿بِهَا﴾ متعلق به، وفاعله ضمير يعود على يوسف، والجملة معطوفة على جملة ﴿هَمَّتْ﴾. ﴿لَوْلَا﴾ حرف امتناع لوجود. ﴿أن﴾ حرف نصب ومصدر. ﴿رَأَى﴾ فعل ماض وفاعله ضمير على يوسف، ﴿رَأَى﴾ بصرية. ﴿بُرْهَانَ رَبِّهِ﴾ مفعول به، ومضاف إليه، وجملة ﴿رَأَى﴾ في تأويل مصدر مرفوع على الابتداء، تقديره: لولا رؤيته برهانَ ربه، والخَبرُ محذوف وجوبًا، تقديره: موجودة، وجوابُ ﴿لولا﴾ محذوف تقديره: لولا رؤيته برهانَ ربه موجودةٌ لقَدْ همَّ بها، وجملةُ ﴿لولا﴾ مستأنفةٌ، والمعنى: انتفَى وامتنع جماعه لها لوجود رؤية برهان ربه. ﴿كَذَلِكَ﴾ جار ومجرور متعلق بمحذوف تقديره: أريناه برهانَ ربه، ﴿كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ﴾. ﴿لِنَصْرِفَ﴾ ﴿اللام﴾ حرفُ جر وتعليل. ﴿نصرف﴾ فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد لام كي، وفاعله ضمير يعود على الله. ﴿عَنْهُ﴾ متعلق به. ﴿السُّوءَ﴾ مفعول به. ﴿وَالْفَحْشَاءَ﴾ معطوف عليه، والجملة
400
في تأويل مصدر مجرور باللام، و ﴿اللام﴾ متعلقة بذلك المحذوف، والتقدير: أرَيناه كذلك لصرفنا عنه السوءَ والفحشاءَ. ﴿إِنَّهُ﴾ ناصب واسمه. ﴿مِنْ عِبَادِنَا﴾ جار ومجرور خبر ﴿إن﴾. ﴿الْمُخْلَصِينَ﴾ صفة لـ ﴿عِبَادِنَا﴾، وجملة ﴿إن﴾ مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها.
﴿وَاسْتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ﴾.
﴿وَاسْتَبَقَا الْبَابَ﴾ ﴿استبقا﴾ فعل وفاعل، والجملة مستأنفة. ﴿الباب﴾ منصوب بنزع الخافض؛ أي: إلى الباب أو ضمن استبقَ معنى ابتدر. ﴿وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ﴾ فعل ومفعول وفاعله ضمير يعود على زليخا، والجملة معطوفة على جملة ﴿استبقا﴾. ﴿مِنْ دُبُرٍ﴾ جار ومجرور متعلق بـ ﴿قدت﴾. ﴿وَأَلْفَيَا﴾ فعل وفاعل، وهو من أخوات ظن. ﴿سَيِّدَهَا﴾ مفعول أول. ﴿لَدَى الْبَابِ﴾ ظرف، ومضاف إليه، والظرف في محل المفعول الثاني لألْفَى تقديره: وألفيَا سيدها كائنًا لدى الباب، والجملةُ الفعلية معطوفة على جملة ﴿استبقا﴾.
﴿قَالَتْ مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾.
﴿قَالَتْ﴾ فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على زليخا، والجملة مستأنفة. ﴿مَا جَزَاءُ﴾ إلى آخر الآية مقول محكي لـ ﴿قَالَتْ﴾ وإن شئت قلت: ﴿مَا﴾ اسم استفهام في محل الرفع مبتدأ. ﴿جَزَاءُ﴾ خبره، والجملة في محل النصب مقول ﴿قَالَتْ﴾. ويجوز أن تكون ﴿مَا﴾ نافية. ﴿جَزَاءُ﴾ مبتدأ ﴿جَزَاءُ﴾ مضاف. ﴿مَنْ﴾ اسم موصول في محل الجر، مضاف إليه. ﴿أَرَادَ﴾ فعل ماض وفاعله ضمير يعود على ﴿مَنْ﴾. ﴿بِأَهْلِكَ﴾ متعلق به. ﴿سُوءًا﴾ مفعول به، والجملة صلةُ ﴿من﴾ الموصولة. ﴿إِلَّا﴾ أداة استثناء. ﴿أَنْ يُسْجَنَ﴾ ناصب وفعل مغير، ونائب فاعله ضمير يعود على ﴿مَنْ﴾، والجملة في تأويل مصدر منصوب على الاستثناء إن قلنا: ﴿ما﴾ استفهامية، أو مرفوع على الخبر إن قلنا: ﴿ما﴾ نافية، تقدير ما جزاء مَنْ أراد بأهلك سوءًا إلّا السِّجْن. ﴿أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ معطوف على المصدر المؤول من الفعل على كونه خَبَرَ المبتدأ فـ (أو) للتنويع.
{قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ
401
قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (٢٦)}.
﴿قَالَ﴾ فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على يوسف، والجملة مستأنفة. ﴿هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي﴾ مقول محكي لـ ﴿قَالَ﴾، وإن شئت قلت: ﴿هِيَ﴾ مبتدأ ﴿رَاوَدَتْنِي﴾ فعل ومفعول، و ﴿نون﴾ وقاية. ﴿عَنْ نَفْسِي﴾ متعلق به، وفاعله ضمير يعود على زليخَا، والجملة الفعلية في محل الرفع خَبرِ المبتدأ، والجملة الاسمية في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾. ﴿وَشَهِدَ شَاهِدٌ﴾ فعل وفاعل معطوف على ﴿قَالَ﴾. ﴿مِنْ أَهْلِهَا﴾ جار ومجرور صفة لـ ﴿شَاهِدٌ﴾. ﴿إن﴾ حرف شرط. ﴿كَانَ قَمِيصُهُ﴾ فعل ناقص، واسمه في محل الجزم بـ ﴿إن﴾ على كونه فِعل شرط لها. ﴿قُدَّ﴾ فعل ماض مغير الصيغة، ونائب فاعله ضمير يعود على قميص. ﴿مِنْ قُبُلٍ﴾ متعلق بـ ﴿قد﴾، وجملة ﴿قد﴾ في محل النصب خبر ﴿كَانَ﴾. ﴿فَصَدَقَتْ﴾ الفاء رابطة الجواب جوازًا، وقيل: إنه على تقدير: قد؛ أي: فقد صدقت لِيَكُونَ من المواضع التي تَجِبَ فيها الفاء. ﴿صدقت﴾ فعل ماض في محل الجزم على كونه جوابَ الشرط، وفاعله ضمير يعود على زليخَا، وجملة (إن) الشرطية في محل النصب مقول لقول محذوف حال من ﴿شَاهِدٌ﴾، تقديره: وشهد شاهد من أهلها حَالةَ كونه قائِلًا: إن كانَ قميصه قد من قبل.. فصدقت. ﴿وَهُوَ﴾ مبتدأ. ﴿مِنَ الْكَاذِبِينَ﴾ جار ومجرور خبره، والجملة الاسمية في محل الجزم معطوفة على جملة ﴿صدقت﴾.
﴿وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٢٧)﴾.
﴿وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ﴾ جازم وفعل ناقص واسمه. وجملة ﴿قُدَّ﴾ في محل النصب خبر ﴿كَانَ﴾. ﴿مِنْ دُبُر﴾ متعلق بـ ﴿قُدَّ﴾. وجملة ﴿فَكَذَبَتْ﴾ جواب الشرط، والجملة الشرطية في محل النصب معطوفة على جملة الشرط الأولى. ﴿وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ﴾ مبتدأ وخبر معطوف على جملة ﴿كذبت﴾.
﴿فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ (٢٨)﴾.
﴿فَلَمَّا﴾ ﴿الفاء﴾ فاء الفصيحة؛ لأنها أفْصَحَت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا عرفتَ ما شَهِدَ الشاهدُ وأردتَ بيانَ ما قال العزيز. فأقولُ لك.
402
﴿لَمَّا﴾ حرف شرط غير جازم. ﴿رَأَى قَمِيصَهُ﴾ فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على العزيز. ﴿قُدَّ﴾ فعل ماض مغير الصيغة، ونائب فاعله ضمير يعود على قميصه، والجملة في محل النصب حال من قميصه؛ لأنَّ ﴿رَأَى﴾ بصرية، والجملة الفعلية فعل شرط لـ ﴿لَمَّا﴾ لا محل لها من الإعراب. ﴿مِنْ دُبُر﴾ متعلقا بـ ﴿قُدَّ﴾ ﴿قَالَ﴾ فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على العزيز، وجملة ﴿قَالَ﴾ جواب لمَّا، وجملةُ ﴿لَمَّا﴾ في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة. ﴿إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ﴾ مقول محكي، وإن شئت قلت: إنه ناصب واسمه. ﴿مِنْ كَيْدِكُنَّ﴾ خبره، وجملة إنَّ في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾. ﴿إِنَّ كَيْدَكُنَّ﴾ ناصب واسمه ومضاف إليه. ﴿عَظِيمٌ﴾ خبره، وجملة ﴿إِنَّ﴾ في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾.
﴿يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ (٢٩)﴾.
﴿يُوسُفُ﴾ منادى مفرد العلم حُذِف منه حرف النداء للتخفيف، وجملةُ النداء في محل النصب مقولُ ﴿قَالَ﴾. ﴿أَعْرِضْ﴾ فعل أمر، وفاعله ضمير يعود على يوسف. ﴿عَنْ هَذَا﴾ متعلق به، وجملة ﴿أَعْرِضْ﴾ في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾ على كونها جوابَ النداء. ﴿وَاسْتَغْفِرِي﴾ فعل وفاعل. ﴿لِذَنْبِكِ﴾ متعلق به، والجملة معطوفة على جملة ﴿أَعْرِضْ﴾. ﴿إِنَّكِ﴾ ناصب واسمه. ﴿كُنْتِ﴾ فعل ناقص واسمه. ﴿مِنَ الْخَاطِئِينَ﴾ خبره، وجملة (كان) في محل الرفع خبر ﴿إِنَّ﴾ وجملة (إن) في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾ على كونها تعليلًا لما قبلَها.
﴿وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (٣٠)﴾.
﴿وَقَالَ نِسْوَةٌ﴾ فعل وفاعل، والجملة مستأنفة. ﴿فِي الْمَدِينَةِ﴾ جار ومجرور صفة لـ ﴿نِسْوَةٌ﴾. ﴿امْرَأَتُ الْعَزِيزِ﴾ إلى آخر الآية مقول محكي، وإن شئت قلت: ﴿امْرَأَتُ الْعَزِيزِ﴾ مبتدأ، ومضاف إليه. ﴿تُرَاوِدُ فَتَاهَا﴾ فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على المرأة، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾. ﴿عَنْ نَفْسِهِ﴾ متعلق بـ ﴿تُرَاوِدُ﴾. ﴿قَدْ﴾ حرف
403
تحقيق. ﴿شَغَفَهَا﴾ فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على الفتى. ﴿حُبًّا﴾ تمييز محول عن الفاعل، والجملة الفعلية في محل النصب حال عن الفتى. ﴿إِنَّا﴾ ناصب واسمه. ﴿لَنَرَاهَا﴾ ﴿اللام﴾ حرف ابتداء. ﴿نرى﴾ فعل مضارع. (ها) مفعوله، وفاعله ضمير يعود على النسوة. ﴿فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ﴾ متعلق بـ ﴿نرى﴾ وهو في محل المفعول الثاني، وجملة ﴿لَنَرَاهَا﴾ في محل الرفع خبر ﴿إن﴾، وجملة (إن) مستأنفة في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾.
﴿فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّينًا وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ﴾.
﴿فَلَمَّا﴾ ﴿الفاء﴾ عاطفة. ﴿لما﴾ حرف شرط غير جازم. ﴿سَمِعَتْ﴾ فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على امرأة العزيز. ﴿بِمَكْرِهِنَّ﴾ جار ومجرور متعلّق به، والجملة فعل شرط لـ ﴿لَمَّا﴾. ﴿أَرْسَلَتْ﴾ فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على امرأة العزيز. ﴿إِلَيْهِنَّ﴾ متعلق بـ ﴿أرسل﴾، والجملة جواب ﴿لَمَّا﴾، وجملةُ لَمَّا معطوفة على جملة قوله: ﴿وَقَالَ نِسْوَةٌ﴾. ﴿وَأَعْتَدَتْ﴾ فعل ماض. ﴿لَهُنَّ﴾ متعلق به. ﴿مُتَّكَأً﴾ مفعول به، وفاعله ضمير يعود على امرأة العزيز، والجملة معطوفة على جملة ﴿أَرْسَلَتْ﴾. ﴿وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ﴾ فعل، ومفعول أول، وفاعله ضمير يعود على امرأة العزيز، والجملة معطوفة على جملة ﴿أَرْسَلَتْ﴾. ﴿مِنْهُنَّ﴾ صفة لـ ﴿واحدة﴾. ﴿سِكِّينًا﴾ مفعول ثان. ﴿وَقَالَتِ﴾ فعل ماض معطوف على ﴿أَرْسَلَتْ﴾، وفاعله ضمير يعود على المرأة. ﴿اخْرُجْ﴾ فعل أمر، وفاعله ضمير يعود على يوسف. ﴿عَلَيْهِنَّ﴾ تعلق به، والجملة في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾.
﴿فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ﴾.
﴿فَلَمَّا﴾ (الفاء) عاطفة. ﴿لما﴾ حرف شرط. ﴿رَأَيْنَهُ﴾ فعل وفاعل ومفعول، والجملة فعل شرط لـ ﴿لما﴾. ﴿أَكْبَرْنَهُ﴾ فعل وفاعل ومفعول، والجملة جوابُ ﴿لَمَّا﴾ والجملة معطوفة على جملة ﴿لمَّا﴾ الأولى. ﴿وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنّ﴾ فعل وفاعل ومفعول، والجملة معطوفة على جملة ﴿أَكْبَرْنَهُ﴾.
﴿وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ﴾.
404
﴿وَقُلْنَ﴾ فعل وفاعل معطوف على ﴿أَكْبَرْنَهُ﴾. ﴿حَاشَ لِلَّهِ﴾ إلى آخر الآية مقول محكي، وإن شئت قلت: ﴿حَاشَ﴾ فعل ماض بمعنى بعد وتنزَّه، ويتصرَّفُ منه المضارع أحاشِي، وفاعله ضمير يعود على يوسف. ﴿لِلَّهِ﴾ جار ومجرور متعلق بـ ﴿حَاشَ﴾ و (اللام) فيه للتعليل، والمعنى: بَعُدَ يوسفُ عن المعصية لأجل طاعة الله تعالى، وخَوْفِه، والجملة الفعلية في محل النصب مقول ﴿قُلْنَ﴾. ﴿مَا﴾ نافية تعمل عمل ﴿ليس﴾. ﴿هَذَا﴾ اسمها. ﴿بَشَرًا﴾ خبَرُها، والجملة في محل النصب مقول ﴿قلن﴾. ﴿إِنْ﴾ نافية. ﴿هَذَا﴾ مبتدأ. ﴿إلا﴾ أداة استثناء مفرغ. ﴿مَلَكٌ﴾ خبر المبتدأ. ﴿كَرِيمٌ﴾ صفة ﴿مَلَكٌ﴾، والجملة الاسمية في حل النصب مقول ﴿قُلْنَ﴾.
﴿قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا مِنَ الصَّاغِرِينَ (٣٢)﴾.
﴿قَالَتْ﴾ فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على زليخا، والجملة مستأنفةٌ. ﴿فَذَلِكُنَّ﴾ إلى آخر الآية مقول محكي، وإن شئت قلت: ﴿فَذَلِكُنَّ﴾ ﴿الفاء﴾ فاء الفصيحة؛ لأنها أَفْصَحَتْ عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا رأيتن ما رأيتن، وأردتُنَ بَيَانَ ما شغلني فأقولُ لَكُنَّ ﴿ذَلِكُنَّ﴾. ﴿ذلكن﴾ مبتدأ. ﴿الَّذِي﴾ خبره. ﴿لُمْتُنَّنِي﴾ فعل وفاعل، وفعول ونون وقاية. ﴿فِيهِ﴾ متعلق به، وهو العائد على الموصول، والجملة الفعلية صلة الموصول، والجملة الاسمية في محل النصب، مقولٌ لجواب إذا المقدرة، وجملة إذَا المقدرة في محل النصب مقولُ ﴿قَالَتْ﴾. ﴿وَلَقَدْ﴾ ﴿الواو﴾ عاطفة. ﴿اللام﴾ موطئة للقسم. ﴿قد﴾ حرف تحقيق. ﴿رَاوَدْتُهُ﴾ فعل وفاعل ومفعول. ﴿عَنْ نَفْسِهِ﴾ هو متعلق به، والجملة الفعلية جواب للقسم المحذوف، وجملة القسم في محل النصب معطوفة على جملة قوله ﴿فَذَلِكُنَّ﴾. ﴿فَاسْتَعْصَمَ﴾ ﴿الفاء﴾ عاطفة. ﴿استعصم﴾ فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على يوسف، والجملة معطوفة على جملة قوله: ﴿وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ﴾ ﴿وَلَئِنْ﴾ ﴿الواو﴾ عاطفة. ﴿اللام﴾ موطئة للقسم. ﴿إن﴾ حرف شرط جازم. ﴿لَمْ يَفْعَلْ﴾ جازم ومجزوم، وفاعله ضمير يعود على يوسف والجملة الفعلية في محل الجزم بـ ﴿إن﴾
405
على كونِها فِعْلَ شرطِ لها. ﴿مَا﴾ موصولة، أو موصوفة في محل النصب مفعول به. ﴿آمُرُهُ﴾ فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على زليخا، والجملة صلة لـ ﴿ما﴾ أو صفة لها، وجواب الشرط محذوف دَلَّ عليه جواب القسم تقديره: ولئن لم يفعل ما آمره يسجن، وجملة الشرط معترضة بين القسم وجوابه. ﴿لَيُسْجَنَنَّ﴾ (اللام) موطئة للقسم مؤكدةً للأولى. ﴿يسجنن﴾ فعل مضارع مغير الصيغة في محل الرفع مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة، ونائب فاعله ضمير يعود على يوسف، والجملة جوابُ القسم لا محلَّ لها من الإعراب، وجملة القسم في محل النصب معطوفة على جملة القسم الأول، على كونه مقولًا لـ ﴿قالت﴾. ﴿وَلَيَكُونًا﴾ ﴿الواو﴾ عاطفة. ﴿اللام﴾ موطئة للقسم. ﴿يكونا﴾ فعل مضارع ناقص في محل الرفع مبني على الفتح، لاتصاله بنون التوكيد الخفيفة المنقلبة ألِفًا للتخفيف، واسمها ضمير يعود على يوسف. ﴿مِنَ الصَّاغِرِينَ﴾ جار ومجرور خبرها، والجملة جواب القسم لا محلَّ لها من الإعراب، وجملة القسم معطوفة على جملة القسم في قوله ﴿لَيُسْجَنَنَّ﴾.
﴿قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ (٣٣)﴾.
﴿قَالَ﴾ فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على يوسف، والجملة مستأنفة. ﴿رَبِّ السِّجْنُ﴾ إلى آخر الآية مقول محكي لـ ﴿قَالَ﴾، وإن شئت قلت: ﴿رَبِّ﴾ منادى مضاف حذف منه حرف النداء، وجملة النداء في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾. ﴿السِّجْنُ أَحَبُّ﴾ مبتدأ، وخبر، والجملة في محل النصب مقول القولِ على كونها جَوابَ النداءِ. ﴿إِلَيَّ﴾ جار ومجرور متعلق بـ ﴿أَحَبُّ﴾. ﴿مِمَّا﴾ جار ومجرور متعلق بـ ﴿أَحَبُّ﴾ أيضًا. ﴿يَدْعُونَنِي﴾ فعل وفاعل و (نون) وقاية ومفعول به؛ لأنه فعل مضارع مبني على سكون الواو، والنون الأولى للنسوة فاعل، والثانية: نون وقاية، وهو مثل النسوة يَعْفُون، فالواو ليست ضميرًا بل لام كلمة. ﴿إِلَيْهِ﴾ متعلق به، وهو العائد على ﴿ما﴾ الموصولة، والجملة صلة لـ ﴿ما﴾ أو صفة لها. ﴿وَإِلَّا﴾ ﴿الواو﴾ عاطفة. ﴿إلا﴾ ﴿إِنْ﴾ حرف شرط جازم مبني
406
بسكون على النون المدغمة في لام ﴿لا﴾ لا نافية. ﴿تَصْرِفْ﴾ فعل مضارع مجزوم بـ ﴿إن﴾ الشرطية على كونها فعل شرط لها، وفاعله ضمير يعود على يوسف. ﴿عَنِّي﴾ متعلق بـ ﴿تصرف﴾. ﴿كَيْدَهُنَّ﴾ مفعول به. ﴿أَصْبُ﴾ فعل مضارع مجزوم بـ ﴿إن﴾ الشرطية على كونها جوابًا لها، وعلامةُ جزمه حذفُ حرف العلة. ﴿إِلَيْهِنَّ﴾ متعلق به، وفاعله ضمير يعود يوسف، وجملة الشرط في محل النصب معطوفة على جملة قوله: ﴿السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ﴾ على كونها مقول ﴿قَالَ﴾. ﴿وَأَكُنْ﴾ فعل مضارع ناقص معطوف على ﴿أَصْبُ﴾ واسمها ضمير يعود على يوسف. ﴿مِنَ الْجَاهِلِينَ﴾ خبرها.
﴿فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٣٤)﴾.
﴿فَاسْتَجَابَ﴾ (الفاء) حرف عطف وتفريغ. ﴿استجاب﴾ فعل ماض. ﴿لَهُ﴾ متعلق به. ﴿رَبُّهُ﴾ فاعل، والجملة معطوفة على جملة قال. ﴿فَصَرَفَ﴾ (الفاء) حرف عطف وتفريع. ﴿صرف﴾ فعل ماض وفاعله ضمير يعود على الله. ﴿عَنْهُ﴾ متعلق به. ﴿كَيْدَهُنَّ﴾ مفعول به، والجملة معطوفة على جملة ﴿استجاب﴾. ﴿إِنَّهُ﴾ ناصب واسمه. ﴿هُوَ﴾ ضمير فصل. ﴿السَّمِيعُ﴾ خبره الأول. ﴿الْعَلِيمُ﴾ خبر ثان، وجملة ﴿إنَّ﴾ مستأنفة مسوقةٌ لتعليل ما قبلها.
﴿ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الْآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ (٣٥)﴾.
﴿ثُمَّ﴾ حرف عطف وترتيب. ﴿بَدَا﴾ فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على السجن المعلوم من قوله: ﴿لَيَسْجُنُنَّهُ﴾ كما في "البحر". ﴿لَهُمْ﴾ جار ومجرور متعلق به. ﴿مِنْ بَعْدِ﴾ جار ومجرور متعلق به أيضًا، وجملة ﴿بَدَا﴾ معطوفة على جملة محذوفة، تقديرها: تَشَاوَرُوا في شأن يوسف، ثمَّ بدا لهم السجن من بعد ما رأوا الآيات. ﴿مَا﴾ مصدرية. ﴿رَأَوُا الْآيَاتِ﴾ فعل وفاعل ومفعول، والجملةُ في تأويل مصدر مجرور بإضافة الظرف إليه، تقديره: من بعد رؤيتهم الآيات الدالة على صدق يوسف. ﴿لَيَسْجُنُنَّهُ﴾ (اللام) موطئة للقسم. ﴿يسجننه﴾ فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ثبات النون المحذوفة لتوالي الأمثال، و ﴿الواو﴾ المحذوفة لالتقاء الساكنين في محل الرفع فاعل والنون المشددة نون التوكيد الثقيلة. {حَتَّى
407
حِينٍ} جار ومجرور متعلق بـ ﴿يسجنن﴾، والجملة الفعلية جوابُ القسم المحذوف، وجملة القسم في محل النصب مقول لقول محذوف تقديره: ثم بدا لهم السجن حالَةَ كونهم قائلين: ليسجننه حتى حين.
التصريف ومفردات اللغة
﴿مَثْوَاهُ﴾ المثوى: اسم لمكان الثواء والإقامة، يقال: ثويَ بالمكان من باب: رِضي إذا أقام به؛ أي: أحْسَن تعهدَه. ﴿مَكَّنَّا لِيُوسُفَ﴾؛ أي: جعلنا له مَكَانةً رفيعةً، ودرجة عاليةً في أرض مصر؛ أي: جَعَلْنَاهُ على خزائنها، ومَكَّنَ يَتَعَدَّى بنفسه على حد قوله: ﴿وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ﴾ و (باللام) كما هنا، والمراد نعطيه مكانةً ورتبةً عاليةً في الأرض. ﴿مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ﴾؛ أي: بعض تعبير الرؤيا التي عَمَدَتْها رؤيا الملك، وصاحبي السجن. ﴿غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ﴾؛ أي: لا يمنع عما يشاء، ولا يُنازَع فيما يريد. ﴿أَشُدَّهُ﴾ والأشُدُّ: هو وقت رشده، وكمال قوته، باستكمال نموه الجسمانيِّ، والعَقْلِيِّ، ثم يكون بعده النقصانُ، قيل: هو ثلاث وثلاثون سنة، وقيل: ثماني عشرة، وقيل غير ذلك. وفي "الفتوحات": في الأشد ثلاثةُ أقوال:
أحدُها: وهو قول سيبويه أنه جمعٌ مفرده شدَّةُ نحو: نعمة وأَنْعُم.
والثاني: قول الكسائي أنَّ مفرده شُدّ بزنة قُفل.
الثالث: أنه جمعٌ لا واحِدَ له من لفظه قاله أبو عبيدة، وخَالَفه الناس في ذلك، وهو من الشدِّ، وهو الرَّبْطُ على الشيء والعَقْدُ عليه. قال الراغب: وفيه تنبيه على أنَّ الإنسان إذا بلغ هذا القَدْرَ يتقوَّى خلقه الذي هو عليه، فلا يكادُ يُزايله، اهـ "سمين".
ولم يَقُلْ هنا: واستوى كما قال في شأن موسى في سورة القصص؛ لأنَّ موسى كان قد بلغ أربعين سنة، وهي مدة النبوة، فقدِ استوى وتهيأ لحمل أسرار النبوة. وأما يُوسُفُ فلم يكن يوسف إذ ذاك قد بلَغَ هذا السن، اهـ شيخنا، اهـ "فتوحات". ﴿حُكْمًا وَعِلْمًا﴾ والحكم: هو ما كان يقع منه من الأحكام في سلطان
408
مصر. والعلم: هو العلم بالحكم الذي يحكمه. وقيل: العقل والفهم والنبوة. وقيل: الحكم هو النبوة، والعلم هو العلم بالدين. وقيل: علم الرؤيا.
﴿وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا﴾ المراودة: الإرادةُ والطلبُ برفق ولين. وقيل: هي مأخوذةٌ من الرَّود؛ أي: الرفق، والتأني، ويقال: أَرْوِدْنِي بمعنى أمهلني. وقيل: المراودة مأخوذة من راد يَرُود إذا جَاءَ، وذهب، كأن المعنى أنها فعلَتْ في مراودتها له فعل المخادع، ومنه الرائد لِمَنْ يطلُب الماءَ والكلأ. وقد يُخَصُّ بمحاولة الوقاع، فيقال: راود فلان جَارِيتَهُ عن نفسها، وراودته هي عن نفسه، إذا حاول كُلُّ واحد منهما الوطء والجماع، وهي مفاعلة، وأصلها أن تَكونَ من الجانِبَيْنِ فجعل السبب هنا في أحد الجانبين قَائِمًا مقام المسبَّب، فكأنَّ يُوسُفَ عليه السلام - لما كان ما أعطيه من كمال الخَلْقِ والزيادة في الحسن سببًا لمراودة امرأة العزيز له - مراود. ويجوز أن يُرادَ بصيغة المفاعلة مجردُ المبالغَةِ. وقيل (١): الصِّيغَةُ على بابها بمعنى أنَّها طلبت منه الفعلَ، وهو طَلَب منها الترْك، وقال الراغب: المراودة أن تنازعَ غيرك في الإرادة، فتريد منه غيرَ ما يريد، كما قالَ إخوة يوسف ﴿سَنُرَاوِدُ عَنْهُ أَبَاهُ﴾؛ أي: نحتالُ عليه، ونخدعه عن إرادته، ليرسل بنيامين معنا، اهـ.
﴿وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ﴾، وفي هذه (٢) الصيغة ما يدل على التكثير، فيقال: غلق الأبوابَ، ولا يقال: غلَّق البابَ، بل يقال: أغلق البابَ، وقد يقال: أغلق الأبوابَ، ومنه قول الفرزدق في أبي عمرو بن العلاء:
مَا زِلْتُ أُغْلِقُ أَبْوَابًا وَأَفْتَحُهَا حَتَّى أَتَيْتُ أبَا عَمْرِو بْنَ عَمَّارِ
قيل: وكانت الأبواب سبعةً. ﴿هَيْتَ لَكَ﴾ بفتح الهاء وكسرها مع فتح التاء وضمها وكسرها، اسمُ فعل بمعنى هَلُمَّ وأقبل وبَادِرْ. قال النحويون: هيت جاء بالحركات الثلاث، فالفتحُ للخفة، والكسر لالتقاء الساكنين، والضم تشبيهًا يحيثُ، وإذا بين باللام نحو: هَيْتَ لك، فهو صوتٌ قائمٌ مَقامَ المصدر، كأفّ
(١) الفتوحات.
(٢) الشوكاني.
409
له؛ أي: لَكَ أقول هذا، وإن لم يبين باللام فهو صوت قائم مَقَامَ مصدر الفعل، فيكون اسمَ فعل، إما خبر؛ أي: تهيأت، وإما أمرٌ؛ أي: أقْبلْ. وقال في "الصحاح": يُقال: هوت به، وهيت به إذا صَاحَ به، ودَعاهُ، ومنه قول الشاعر:
يَحْدُوْ بِهَا كُلُّ فَتَى هَيَّاتُ
وقد روي عن ابن عباس، والحسن، أنَّها كلمةٌ سريانية معناها، أنها تَدْعُوه إلى نفسها. قال أبو عبيدة: كان الكسائي يقول: هي لغة لأهل حورانَ، وقعت إلى أهل الحجاز، معناها: تَعَالَ. قال أبو عبيدة: فسألت شَيْخًا عَالِمًا منْ حورانَ فذكر أنها لُغَتُهم. ﴿مَعَاذَ اللَّهِ﴾ مصدر منصوب بفعل محذوفٍ، وجوبًا على أنه نائب عن فعله مضاف إلى اسم الله سبحانه؛ أي: أعوذ بالله مَعاذًا ممَّا تدعونني إليه، كسبحانَ الله بمعنى أسبِّح اللهَ، ويقال: عَاذ يعوذ عِيَاذًا، وعياذةً ومعاذًا، وعوذًا، اهـ "سمين".
والمعنى: أعُوذ وأتحصَّن بالله من أن أكونَ من الجاهلينَ الفاسِقِينَ. وقال في "روح البيان": هو من جملة المصادر التي ينصبُها العربُ بأفعال مضمرة، ولا يستعمل إظهارُها كقولهم: سبحانَ اللهِ، وغفرانَكَ وعونك، اهـ. ﴿وَلَقَدْ هَمَّتْ﴾؛ أي: هَمَّتْ (١) وقصدت لتبطش به لعصيانه أمرها، وهم بها ليقهرها في الدفع عما أرادته، ويَرُدَّ عنفها بمثله. وفي "الشهاب" قال الإِمام: المراد بالهمِّ؛ أي: بهم يوسفَ في الآية: خطور الشيء بالبال، أو ميل الطبع كالصائم، يَرَى الماء البارد فتحمله نفسه على الميل إليه، وطلب شربه، ولكنه يَمْنَعُه دينُه عنه، اهـ. ﴿المخلِصين﴾ بكسر اللام؛ أي: مُخْلصين أعمالهم لله تعالى، وبفتحها هم الذين أخلصهم الله تعالى، واجتباهم واخْتَارَهم لطاعته. ﴿وَاسْتَبَقَا الْبَابَ﴾؛ أي: تَسَابَقَا إلى الباب، وقصد كل منهما سَبْقَ الآخر إليه، فهو ليخرج، وهي لِتَمْنَعَه من الخروج. ﴿وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ﴾؛ أي: قطعته، وشقته طولًا من خلف، فهو من المضاعف المعدى من باب شدَّ. ﴿وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا﴾؛ أي: وَجداه، والسيد (٢):
(١) المراغي.
(٢) البحر المحيط.
410
فيعل من سَادَ يسودُ يطلق على المالك، وعلى رئيس القوم، وفَيْعَل: بناء مختص بالمعتل، وشذ بيئس وصيقل اسم امرأة. ﴿وَقَالَ نِسْوَةٌ﴾ والنسوة (١): اسمُ جمع لا واحد له من لفظه، بل من معناه، وهو امرأةٌ وتأنيثها غير حقيقي، بل باعتبار الجماعةِ، ولذلك لم يَلْحَقْ فعلَها تاء التأنيث، والمشهور كسر نونها. ويجوز ضمها في لغة ونقلها أبو البقاء قراءة ولم أحفظه وإذا ضُمَّت نونه كان اسمَ جمعَ بلا خِلاف. والنساء: جمع كثرة أيضًا، ولا واحدَ له من لفظه، اهـ "سمين". ﴿تُرَاوِدُ فَتَاهَا﴾ وألف الفتى منقلبة عن ياءٍ، لقولهم: فَتَيانِ، والفتوة شاذ؛ أي: رَقِيقَها وعَبْدَها. ﴿قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا﴾ والشِّغَافُ: الغلاف المحيط بالقلب، ويقال: شَغَفْتُ فلانًا إذا أَصَبْتَ شِغَافَ قلبه كما يقال: كبدته إذا أصبتَ كبده. وفي "المصباح": شَغَفَ الهوى قَلْبَه شغفا من باب نَفَع، والاسم الشَّغَفُ بفتحتين بلَغَ شغافه بالفتح، وهو غشاؤه، وشغفه المال زين له فأحَبَّهُ فهو مشغوف به، اهـ.
﴿ضَلَالٍ مُبِينٍ﴾، والضلال: الحيدة عن طريق الرشد، وسنَنِ العَقل. ﴿بِمَكْرِهِنَّ﴾؛ أي: بِقَوْلِهِنّ وسمِّي ذلك مكرًا لأنهن كن يردن إغْضَابَها كي تعرض عَليهنَّ يُوسُفَ لتبديَ عُذْرَهَا فَيَفُزْنَ بمشاهدته. ﴿وَأَعْتَدَتْ﴾؛ أي: أعدَّتْ وهيَّأتْ. ﴿مُتَّكَأً﴾ والمتكأ: ما يجلس عليه من كراسي، وأرائك. وأصل (٢) الكلمة: موتكأ لأنه من توكأت، فأبدلت الواو تاءً وأدغمت. ويجوز أن يكون من أوكيت السِّقَاءَ: فتكونُ الألفُ بدلًا من الياءِ، ووزنُه مفتعل من ذلك ذكره أبو البقاء. ﴿أَكْبَرْنَهُ﴾؛ أي: أعظمنَه ودَهِشْن من جماله الرائع. ﴿وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ﴾؛ أي: جَرَحْنَها.
﴿حَاشَ لِلَّهِ﴾؛ أي: تنزيهًا لله أن يكون هذا المخلوقُ العجيبُ من جنس البشر، قال أبو البقاء: ﴿حَاشَ لِلَّهِ﴾ يقرأ بألفين، وهو الأصل، والجمهور على أنه هنا فعل ماض، وقد صُرِّفَ منه أحاشي، وأيَّدَ ذلك دخول اللام على اسم الله تعالى، ولو كان حرفَ جر لَمَا دَخَل على حرف جر، وفاعلُه مضمر تقديره: حَاشَى يوسفُ؛ أي: بَعُدَ من المعصية لخوفِ الله تعالى. وأصل الكلمة: حاشَيْتُ
(١) الفتوحات.
(٢) العكبري.
411
الشيءَ، فَحَاشَا صَارَ في حاشيةٍ أي ناحيةٍ. وقال بعضهم: هي حرف جر، و (اللام) زائدة، وهو ضعيف، لأنَّ موضعَ مثلِ هذا ضرورةُ الشعر، اهـ. ﴿استعصم﴾؛ أي: اعتصَمَ وامتنعَ، فالسين فيه زائدة، أو المعنى: استمسك بعروة عصمتِه التي ورثها عمَّن (نَشَؤُا) عليها. ﴿رَبِّ السِّجْنُ﴾ بكسر السين اسمٌ للمكان، والمحبوبُ له، دخوله لا ذاته؛ أي: دخول السجن. ﴿أَحَبُّ إِلَيَّ﴾؛ أي: عندي. ﴿أَصْبُ إِلَيْهِنَّ﴾ الصبوة الميلُ إلى الهوى، ومنه ريح الصَّبَا لأن النَّفْسَ تستطِيبُها، وتميل إليها، اهـ "بيضاوي". وفي "المصباح": صَبَا يَصْبُو صَبْوًا من باب قعد، وصَبْوةً أيضًا مثل شَهْوَةٍ إذا مَالَ. ﴿فَاسْتَجَابَ لَهُ﴾؛ أي: أجاب دُعاءَه فالسين والتاء زَائِدتان.
البلاغة
وقد تضمنت هذه الآياتُ أنواعًا من البلاغة، وضروبًا من الفصاحة والبيان والبديع:
فمنها: الكناية في قوله: ﴿أَكْرِمِي مَثْوَاهُ﴾ لأنه كناية عن إحسان تعهده.
ومنها: التشبيه المجمل في قوله: ﴿وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ﴾.
ومنها: إطلاق العامّ وإرادةُ الخاصِّ في قوله: ﴿الْأَرْضِ﴾ لأنَّ المرادَ أرض مصر.
ومنها: الكناية في قوله: ﴿أَشُدَّهُ﴾ لأنّه كناية عن استكمالِ زمان قوته ورُجولته.
ومنها: التشبيهُ في قوله: ﴿وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ﴾.
ومنها: العدول (١) عن ذكر اسمها في قوله: ﴿وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا﴾ للمحافظة على الستر، أو للاستهجان بذكره.
(١) الفتوحات.
412
ومنها: إيراد الموصول لتقرير المراودَةِ، فإنَّ كونَه في بيتها مما يَدْعُو إلى ذلك. قيل لواحدة: ما حَمَلَكِ على ما أنت عليه ممّا لا خَيْرَ فيه؟ قالت: قُرْبُ الوِسَادِ وطُولُ السَّوَادِ، ولإظهار كمال نزاهته عليه السلام، فإنَّ عَدَمَ ميله إليها مع دوام مشاهدته لِمَحَاسِنِها، واستعصائِه عليها مع كونه تحت مِلكها، ينادي بكونه عليه السلام في أعلى معارج العفة والنزاهة، اهـ أبو السعود.
ومنها: ذكر الخاص بعد العام اهتمامًا بشأنه في قوله: ﴿لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ﴾.
ومنها: الحَصْرُ في قوله: ﴿مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾.
ومنها: الطباق بين قوله: ﴿قُبُلٍ﴾ و ﴿دبر﴾، وبين ﴿صدقت﴾ و ﴿كذبت﴾، وبين ﴿الْكَاذِبِينَ﴾ و ﴿الصَّادِقِينَ﴾.
ومنها: جناس الاشتقاق بين ﴿صدقت﴾ و ﴿الصَّادِقِينَ﴾، وبين ﴿كذبت﴾ و ﴿الْكَاذِبِينَ﴾.
ومنها: تغليبُ الذكور على الإناث في قوله: ﴿مِنَ الْخَاطِئِينَ﴾ ومقتضَى السياق أن يقال من الخاطئات.
ومنها: الاستعارة التصريحيةُ الأصلية في قوله: ﴿فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ﴾ حيث استعار المكر للغِيْبة بجامع الاختِفاءِ في كل منهما.
ومنها: الاستعارة التصريحية التبعية في قوله: ﴿وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ﴾ شبَّهَ الجُرْحَ بالقطع بجامع الإيلام في كلٍّ، فاستعارَ لفظ القطع للجرحِ، ثمَّ اشتقَّ من القطع بمعنى الجرح، قطَّعْنَ بمعنى جَرَحْنَ على طريق الاستعارة التصريحية التبعية.
ومنها: الحصْرُ في قوله: ﴿إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ﴾.
ومنها: التأكيد في قوله: ﴿لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا﴾.
ومنها: الجناس المغاير بين ﴿يسجنن﴾ و ﴿السِّجْنُ﴾.
413
ومنها: التشنيع، والتقبيحُ في قوله: ﴿امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا﴾ لأن في إضافتها إلى العزيز مبالغة في التشنيع؛ لأنَّ النفوسَ أميل لسماع أخبار ذوي الجاه.
ومنها: الإتيانُ بالمضارع في قوله: ﴿تُرَاوِدُ فَتَاهَا﴾ للدلالة على أنَّ ذلك سَجيَّةٌ لها؛ لأنَّ المضارعَ يفيد التجدد، والاستمرارَ.
ومنها: الاستعارة التصريحية الأصلية في قوله: ﴿إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ﴾ شبه يوسفَ بالملك، بجامع الحُسن، والجمال في كل ثمَّ استعار له اسم الملك على طريقة الاستعارة التصريحية الأصلية.
ومنها: الإشارة إلى القريب باسم إشارة البعيد في قوله: ﴿فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ﴾ تنزيلًا لبُعْدِ مرتبته عن غيره منزلة البعد الحسِّي.
ومنها: الدلالة على فَخَامَةِ شأن المشار إليه في قوله: ﴿وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ﴾؛ لأنَّ ذلك إشارةٌ إلى مصدر الفعل المؤخر، على أن يكونَ عبارة عن التمكين، في قلب العزيز، أو في منزله، وكون ذلك تَمْكينًا في الأرض بملابسة أنه عزيز فيها، لا عن تمكين آخر يشبه به، فالكاف مقحم للدلالة على فَخَامة شأنِ المشار إليه، إقحامًا، لا يترك في لغة العرب، ولا في غيرها، ومن ذلك قولهم: مِثْلُكَ لا يَبْخَلُ؛ أي: مثل ذلك التمكين البديع، مكنا ليوسف في الأرض، وجعلناه محبًّا في قلب العزيز، ومكْرمًا في منزله، ليترتَّب عليه ما ترتب بما جرى بينه وبين امرأة العزيز، ذكره في "روح البيان".
ومنها: الحَذْفُ والزيادةُ في عدَّة مواضع.
والله سبحانه وتعالى أعلم
* * *
414
قال الله سبحانه جلَّ وعلا:
﴿وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا وَقَالَ الْآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (٣٦) قَالَ لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (٣٧) وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ (٣٨) يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (٣٩) مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (٤٠) يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا وَأَمَّا الْآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ (٤١) وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ (٤٢) وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ (٤٣) قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلَامِ بِعَالِمِينَ (٤٤) وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ (٤٥) يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ (٤٦) قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تَأْكُلُونَ (٤٧) ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تُحْصِنُونَ (٤٨) ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ (٤٩) وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جَاءَهُ الرَّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ (٥٠) قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ قَالَتِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (٥١) ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ (٥٢)﴾.
المناسبة
قوله تعالى: ﴿وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ...﴾ الآيات، مناسبة هذه الآيات
415
لما قبلها: أن الله سبحانه (١) وتعالى لمَّا ذكر مكْر النسوة بامرأة العزيز لتريهن يوسف، ثم مكر امرأةِ العزيز بهن حتى قَطَعْنَ أيدِيَهُنَّ، وقلنَ في يوسف ما قلنَ من وصف جماله، ثم إظهارُ امرأة العزيز المعذرةَ لنفسها، فيما فعلتْ وعزمَها على سجنه إن لم يكن مطواعًا لها، ثمَّ حمايةُ الله له من كيدها بعد دعائه إياه، ثم تدبيرُ مُؤَامرة بين العزيز وامرأته وأهلها على إدخاله السجن، مع كل ما رَأوا من الآياتِ حتى ينسَى الناس هذا الحديث، وتَسكُن تلك الثائرة في المدينة.. ذَكَرَ هنا تَنْفِيذهم لما عزموا عليه من إدخالهم إياه السجن، وما كان من لطف الله به، إذ آتاه من علم تعبير الرؤيا ما يستطيع به أن يُعَبِّرَ لكل حالمٍ عمّا يراه، ويُخْبرَ كلَّ أحد عما يسأله عنه، مما لم يكن حاضرًا لديه، وما سيأتي له من طعام، وشراب، ونحوِ ذلك. ثمَّ ذكَر قولَ يُوسُفَ إنَّ هذا كلَّه نعمة من نعم الإيمان بالله عليه وعلى آبائه إبراهيمَ وإسحاقَ ويعقوبَ.
قوله تعالى: ﴿يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ...﴾ الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن (٢) يوسف لمّا ذَكَرَ ما هو عليه من الدين الحنيفي.. تلطَّفَ في حُسْنِ الاستدلال على فساد ما عليه قوم الفَتَيين من عبادة الأصنام فَنَاداهما باسم الصحبة في المكانِ الشَّاقِّ الذي تَخْلُص فيه المودةُ، وتتمحض فيه النصيحةُ.
وعبارة المراغي هنا (٣): بعد أن أبطلَ يوسف عليه السلام ما هما عليه من الشرك فيما سَلَفَ، وذكر أنه قد اتبعَ ملةَ آبائه إبراهيم، وإسحاق، ويعقوب، وبيَّن أنَّ هذا فضلٌ من الله تعالى، ومنة منه عليهم، وعلى سائر الناس، وكثير من الناس لا يشكرون الخالقَ، لهذه النعم، فيعبدوه وحده دون أن يشركوا به شيئًا.. دَعَاهُما إلى التوحيد الخالص، وأيدَهُ يالبرهان الذي لا يَجدُ العقل محيصًا من التسليم به، والإقرار بصحته قال: ﴿يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (٣٩)﴾ الآيتين.
(١) المراغي.
(٢) البحر المحيط.
(٣) المراغي.
416
قوله تعالى: ﴿يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُمَا...﴾ الآيتين، مناسبتُهما لما قبلهما: أنَّ يُوسُفَ (١) لمَّا أَلْقَى إليهما ما كان أهم وهو أمر الدين رجاء في إيمانهما.. ناداهما ثانيًا لتجتمع أنفسهما لسماع الجواب.
قوله تعالى: ﴿وَقَالَ الْمَلِكُ...﴾ الآيات، مناسبتُها لما قبلها: أنه لما دنا فَرَج يُوسُفَ عليه السلام.. رأى ملك مصر الريان بن الوليد رُؤيا عجيبةً هالته فرأى سبع بقراتٍ سمانٍ، الخ.
التفسير وأوجه القراءة
٣٦ - ﴿وَدَخَلَ مَعَهُ﴾؛ أي: مع يوسف ﴿السِّجْنَ فَتَيَانِ﴾، وفي الكلام (٢) حذفٌ تقديره: فسجنوه فدخلَ معه السجنَ غلامان. و (مع) تدلُّ على الصحبة واستحداثِها، فدلَّ على أنهم سَجَنُوا الثَّلاثَةَ في ساعةٍ واحدةٍ. ولمَّا دخل يُوسُفُ السِّجنَ، استمالَ النَّاس بحسن حديثه وفضله ونَبْلِهِ.
وكان يسلِّي حَزِينَهم، ويعود مريضَهم، ويسأل لفقيرهم، ويندبهم إلى الخير، فأَحبَّه الفتيان، ولزماه، وأحبَّه صاحب السجن، والقيِّمُ عليه، وقال له: كُنْ في أيِّ البيوت شئت، فقال له يوسف: لا تحبَّني يرحمك الله، فلقد أدخلت عليَّ المحبة مضرات أحبتني عمتي فامتحنت بمحبتها، وأحبَّني أَبي، فامتحِنت بمحبته، وأحبَّتنِي امرأة العزيز، فامتحنت بمحبتها بما ترَى.
وكان يوسف عليه السلام قد قال لأهل السجن: إنَّي أُعبِّر الرؤيا، وأُجيدُ - أي: ودخل (٣) معه السجنَ غلامان مملوكان مِنْ غلمان ملك مصر الأعظم، وهو الريَّانُ بن الوليد بن نَزْوَانَ العِملِيقِ، أحدهما خَبَّازه، وصاحب طعامه، والآخرُ سَاقِيه، وصاحب شرابه، وكان قد غَضِبَ عليهما المَلِكُ فحبسهما. وكان السَّببُ في ذلك أنَّ جماعةً من أشراف مصر أرادوا المَكْرَ بالمَلِكِ واغتياله، وقتله،
(١) البحر المحيط.
(٢) البحر المحيط.
(٣) الخازن.
417
فضمنوا لهذين الغلامين مالًا على أن يَسُمَّا المَلِكَ في طعامِه وشرابِه، فأجابا إلى ذلك، ثمَّ إنَّ الساقيَ ندم، فرجَعَ عن ذلك، وقَبِلَ الخبَّازُ الرَّشْوةَ، وسَمَّ الطعامَ. فلما حضر الطعامُ بين يدي الملك قال السَّاقي: لا تأكل أيها الملك، فإنَّ الطَّعامَ مسموم. وقال الخبَّاز: لا تَشْرَبْ فإنَّ الشَّرَاب مسموم. فقال للساقي: إِشْرَبْ، فَشَرِبَه به فلم يضره. وقال للخباز: كل من طعامك، فأَبَى. فأطعم من ذلك الطعام دابة فهلكت. فأمر الملك بحبسهما فحبسَا مع يُوسُفَ. وكان يُوسُفُ لما دخَلَ السِّجْنَ جَعَل ينشر علمه، ويقول: إني أعبِّر الأحلامَ فقال أحد الغُلامين لصاحبه: هلم فلنجرب هذا الغلام العبراني، فتَرَائيَا له رؤيا فسألاه من غير أن يكونا قد رَأيَا رؤيا حقيقةً.
قال ابن مسعود: ما رأيا شيئًا إنما تحالما لِيُجَرِّبا يُوسُفَ، وقال قوم: بل كانَا قد رأيا رؤية حقيقةً فرآهما يوسف وهما مهمومان، فسألَهما عن شأنهما، فذَكَرا أنهما غُلامانِ للملك، وقد حبَسهما، وقد رَأَيا رؤيا قد غمتهما، فقال يوسف قصَّا عليَّ ما رأيتما فقصا عليه ما رأياهُ. فذلك قولُه تعالى: ﴿قَالَ أَحَدُهُمَا﴾؛ أي: أحد الفتيين، وهو صاحب شراب الملك، اسمه سَرْهَم، أو مَرْطَش؛ أي: قال أحَدُهما ليوسف: ﴿إِنِّي أَرَانِي﴾؛ أي: رأيت نفسي ﴿أَعْصِرُ خَمْرًا﴾؛ أي: أعصِرُ عِنَبًا، فيصيرُ خَمرًا، وأسقِي المَلِكَ. وسمَّى العِنَبَ خَمَرًا باعتبار ما يؤول إليه. إذ الخَمْرُ لا يُعْصَرُ. وقيل: إنَّ عَربَ غسان وعُمَان يسمون العِنَبَ خَمْرًا. رُوي أنه قال: رأيت حَبْلَةً من كرم حسنةً، لها ثلاثة أغصان، فيها عناقيدُ، فكنت أعصرها، وأسقي. وقرأ أبي وعبد الله: ﴿أعصر عنبًا﴾ وينبغي أن يحمل ذلك على التفسير لمخالفته سَوادَ المصحف، والثابتُ عنهما بالتواتر قرائتهما: ﴿أَعْصِرُ خَمْرًا﴾. وفي مصحف عبد الله: ﴿فوق رأسي ثَرِيدًا تأكل الطير منه﴾ وهو أيضًا تفسير لا قراءة ذكره في "البحر".
﴿وَقَالَ الْآخَرُ﴾ وهو الخباز، واسمه بُرْهَمُ، أو رَأْسَانُ ﴿إِنِّي أَرَانِي﴾؛ أي: رأيت نفسي كأني ﴿أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ﴾؛ أي: من ذلك الخبز. وفوق بمعنى على؛ أي: على رأسي. ومثله: ﴿فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ﴾ كما في
418
"التبيان". وقد روي أنه قال: رأيتُ أني أَخْرجُ من مطبخ الملك، وعلى رأسي ثلاثُ سلال فيها خبز، والطير تأكل من أعلاه. ﴿نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ﴾؛ أي: أخبرنا بتفسير ما رأينا، وما يؤول إليه أمرُ هذه الرؤيا ﴿إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ﴾؛ أي: من العالمين بتعبير الرؤيا. والإحسان هنا بمعنى العلم، أو من المحسنين إلى أهل السجن، فيسليهم، ويقول: اصبروا وأبشروا تؤجَروا، فقالوا: بارك الله فيك، يا فتى، ما أحسن وجهك، وما أحسن خلقك، لقد بورك لنا في جوارك، فمَنْ أنت يا فتى؟ فقال: أنا يوسف بن صفيِّ الله يعقوبُ بن ذبيح الله إسحاق بن خليل الله إبراهيم عليهم الصلاة والسلام. فقال له عامل السجنِ: لو استطعت خلَّيْتُ سبيلك، ولكني أُحْسِن جِوارَكَ فكن في أيِّ بيوت السجن شئت.
فلمَّا (١) قصَّا عليه رؤياهما كره يوسف أن يعبِّرها لهما حينَ سألاه، لما علم ما في ذلك من المكروه لأحدهما: وأعرض (٢) عن سؤالهما، وأخذ في غيره من إظهار المعجزة، والنبوة والدعاء إلى التوحيد. وقيل: إنه عليه السلام أراد أن يبين لهما أنَّ دَرَجَتهُ في العلم أعلى وأعظم مما اعتقدَا فيه، وذلك أنهما طَلَبَا منه علم التعبير، ولا شكَّ أنَّ هذا العلم مبني على الظن، والتخمين، فأراد أن يعلمهما أنه يمكنه الإخبار عن الغيوب على سبيل القطع واليقين، وذلك مما يعجز الخلق عنه، وإذا قدَرَ على الإخبار عن المغيبات، كان أقْدَرَ على تعبير الرؤيا بطريق الأولى. وقيل: إنما عدل عن تعبير رؤياهما إلى إظهار المعجزة؛ لأنه علم أنَّ أحدهما سيصلب، فأراد أن يُدخِلَهُ في الإِسلام، ويخلِّصه من الكفر، ودخول النار، فأظْهَرَ له المعجزة لهذا السبب.
٣٧ - ﴿قَالَ﴾ يوسف ﴿لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ﴾ في اليقظة في منزلكما على حسب عادتكما، المطَّرِدَةِ ﴿إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا﴾ وأخبرتكما ﴿بِتَأْوِيلِهِ﴾؛ أي: بقدَرَهِ ولونه، والوقت الذي يصل إليكما فيه، والاستثناء (٣) مفرَّغ من أعمِّ الأحوال؛ أي: لا
(١) الخازن.
(٢) الخازن.
(٣) روح البيان.
419
يأتيكما طعام في حال من الأحوال إلّا حالَ ما نبأتكما؛ أي: بينت لكما ماهيَتَهُ وكيفيته ﴿قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا﴾؛ أي: قبل أن يَصِلَ إليكما، وأيُّ طعام أكلتم، وكم أكلتم؟ ومتى أكلتم؟
وهذا مِثْلُ معجزة عيسى عليه السلام، حيث قال: ﴿وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ﴾. فقالا ليوسف عليه السلام: هذا من علم العرَّافِينَ والكهنة، فمن أين لك هذا العلم؟ فقال: ما أنا بكاهن، ولا عرَّاف، وإنما ذلك مما علَّمنِيه رَبي، كما سيأتي بيانه. وقيل: أراد به في النوم، يقول: لا يأتيكما طعام ترزقانه في نومكما إلا أخبرتكما خبره في اليقظة.
والمعنى (١): أي قال لهما لا يأتيكما طعام إلا أخبرتكما به، وهو عند أهله، وبما يريدون من إرساله، وما ينتهي إليه بعد وصولِهِ إليكما. روي أنَّ رِجَالَ الدولة كانوا يرسلون إلى المجرمين طعامًا مسمومًا، يقتلونهم به، وأنَّ يوسف أراد هذا من كلامه.
وفي ذلك إيماء إلى أنه أُوتي عِلم الغيب، وهذا يجري مجرى قول عيسى عليه السلام: ﴿وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ﴾.
ومن هذا يعلم أن وحيَ الله جاءَهُ وهو في السجن، وبذلك تَحَقَّقَ قوله: ﴿رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ﴾. كما أنَّ وَحْي الإلهام جَاءه حين إلقائه في غيابة الجب، كما تقدم ذكره. وكأنه سبحانه جَعَلَ في كلَّ مِحْنَةٍ مِنْحَةً، وفي كلِّ ما ظاهره بلاءً نِعْمةً.
﴿ذَلِكُمَا﴾؛ أي: ذلك الذي أنبأتكما به أيها الفَتَيان. ﴿مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي﴾؛ أي: بعض ما علمني ربي سبحانه بوحي، وإلهام منه، لا بكهانة ولا عرافة، ولا يشبه ذلك من تعليم بشرى يلتبس به الحق بالباطل، ويَشْتَبِهُ فيه الصواب بالخطأ. وذلك (٢) أنه لما نَبَّأَهما بما يحمل إليهما من الطعام في السجن قَبْلَ أن يَأتِيَهُما ويَصِفُه لهما، ويقول: اليومَ يأتيكما طعام من صفته كيت وكيتَ، قالا هذا من
(١) المراغي.
(٢) روح البيان.
420
فعل العرافين، والكهَّان، فمن أيْنَ لك هذا العلم، فقال: ما أنا بكاهن؛ وإنما ذلك العلم مما علمني ربي.
وفيه دلالة على أنه له علومًا جَمَّةً ما سَمِعاه قِطْعةً من جملتها، وشعبة من دَوْحَتها.
وكأنَّه قيل: لماذا علمك ربُّك تلك العلوم البديعة؟ فقيل: ﴿إِنِّي﴾؛ أي: لأني ﴿تَرَكْتُ﴾؛ أي: رفضتُ من أول أمري ﴿مِلَّةَ قَوْمٍ﴾؛ أي: دينَ قوم؛ أيَّ قوم كانوا من قوم مصر وغيرهم ﴿لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ﴾؛ أي: لا يُصَدِّقُون بوحدانية الله تعالى. والمراد بالقوم (١) هنا: الكنعانيون وغيرهم من سكان أرض الميعاد، والمصريون الذين هم بينهم، فقد كانوا يعبدون آلهةً منها الشمس، وعجلهم، وفراعنتهم، وكان التوحيد خاصًّا بحكمائهم وعلمائهم. ومعنى تركها أنه تَركَ دخولها، واتباعَ أهلها من عبدة الأوثان على كثرة أهلها. وفي ذلك لفت لأنظارهما لأن يَتْرُكَا تلك الملةَ التي هم عليها.
والمعنى: إني بَرِئْتُ من ملة مَنْ لا يصدق بالله، ولا يقرُّ بوحدانيته، وأنه خَالِقُ السموات والأرض وما بينهما. وعبارة "روح البيان" هنا: والمراد (٢) بتركها، الامتناع عنها رَأْسًا، لا تركها بعد ملابستها، وإنما عَبَّرَ بذلك لكونه أدخلَ بحسب الظاهر في اقتدائهما به عليه السلام.
﴿وَهُمْ بِالْآخِرَةِ﴾ وما فيها من الجزاء ﴿هُمْ كَافِرُونَ﴾؛ أي: هم مختصون بذلك دون غيرهم، لإفراطهم في الكفر باللهِ تعالى. والمعنى: أي: وهم يكفرون (٣) بالآخرة، والحساب، والجزاء على الوجه الذي دعا إليه الأنبياء، إذ أنهم كانوا يصورون حياةَ الآخرة على صور مبتدعةٍ، منها: أنَّ فراعنتهم يعودون إلى الحياة الآخرة بأجسادهم المحنطة، ويَرجع إليهم الحكم والسلطان، كما كانوا في الدنيا، ومن ثَمَّ كانوا يَضَعُونَ معهم في مقابرهم جواهرهم، وحليهم، ويبنون
(١) المراغي.
(٢) روح البيان.
(٣) المراغي.
421
الأهرام لحفظ جثَّتِهم، وما معهم، ولهم معتقدات أُخرى في تلك الحياة، لا تشاكل ما جاء منها على ألسنة الرسل عليهم السلامُ.
٣٨ - قوله: ﴿وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ﴾ معطوف على (تركت). وقرأ (١) الأشهب العقيلي والكوفيون: ﴿آبائي﴾ بإسكان الياء، وهي مروية عن أبي عمرو، وسماهم جميعًا آباء؛ لأنَّ الأجدادَ آباء، وقدَّمَ الجد الأعلى ثم الجدَّ الأقرب، ثم الأب لكون إبراهيم هو أصل هذه الملة التي كان عليها أولاده، ثم تلقاها عنه إسحاق، ثم يعقوبُ. وفي ذكر ذلك ترغيب لصاحبيه في الإيمان بالله، والتوحيد، وتنفير لهما عما هما فيه من الشرك والضلال؛ أي: واتبعت ملةَ آبائي الذين دعوا إلى التوحيد، الخالص، وهم إبراهيم، وإسحاق، ويعقوب. وعَرَّف (٢) شرَفَ نَسَبِه، وأنه من أهل بيت النبوة، لتتقوى رغبتهما في الاستماع منه، والوثوق عليه، وكان فضل إبراهيم، وإسحاق، ويعقوب أمرًا مشهورًا في الدنيا، فإذا ظَهَرَ أنه ولدهم عظموه، ونظروا إليه بعين الإجلال وأخذوا منه. ولذلك جوِّز للعالم إذا جهلت منزلته في العلم، أن يَصِفَ نَفْسَه، ويعلم الناسَ بفضله حتى يعرف، فيقتبس منه، وينتفع به في الدين، وفي الحديث: "إنّ الله يسألُ الرجلَ عن فضل علمه كما يسأل عن فضل ماله". وقدم ذكر ترك ملة الكفرة على ذكر أتباعه لملة آبائه، لأن التخليَة بالمعجمة متقدمة على التحلية بالمهملة. وفيه إشارة إلى أنَّ الاتباعَ سبب للفوز بالكمالات، والظفر بجميع المرادات.
ثم بيَّن أساسَ الملة التي وَرِثَها عن أولئك الآباءِ الكرام، فكانت يقينًا له بقوله: ﴿مَا كَانَ﴾؛ أي ما صحَّ، وما استقام، فضلًا عن الوقوع ﴿لَنَا﴾ معاشر الأنبياء لقوة نفوسنا، ووفور علومنا ﴿أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ﴾؛ أي: شيء كان من ملك أو جنيِّ أو إنسي فضلًا عن الجماد الذي لا يضر ولا ينفع؛ أي (٣): لا ينبغي لنا مَعْشرَ الأنبياء أن نشرك بالله شيئًا فنتخذه ربًّا مدبرًا معه، ولا إلَهًا معبودًا
(١) البحر المحيط.
(٢) روح البيان.
(٣) المراغي.
من الملائكة، أو البشر كالفراعنة فضلًا عمَّا دونهما من البقر، كالعجل أو من الشمس والقمر أو ما يُتَّخَذُ من التماثيل والصور لهذه الآلهة. ﴿ذَلِكَ﴾ التوحيد المدلول عليه بقوله: ﴿مَا كَانَ لَنَا﴾ إلخ ناشئ ﴿مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا﴾ بالوحي ﴿وَعَلَى النَّاسِ﴾ كافَةً بواسطتنا، وإرسالنا لإرشادهم؛ إذ وجود القائد للأعمى رحمة من الله أيُّ رحمة.
والمعنى: أي عدم الإشراك من فضل الله علينا؛ إذ هدانا إلى معرفته وتوحيده في ربوبيته، وألوهيته بوحيه وآياته في الأنفس والآفاق. وعلى الناس بإرسالنا إليهم، ننشر فيهم الدعوةَ، ونقيم عليهم الحجة، فنهديهم سبيل الرشاد، ونبين لهم محجة الصواب، ونبعدهم عن طرف الغواية والضلال. ﴿وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ﴾ المبعوث إليهم ﴿لَا يَشْكُرُونَ﴾ نِعَم الله عليهم فيشركون به أرْبابًا وآلهة من خلقه يذلون أنفسَهم بعبادتهم، وهم مخلوقون لله مثلهم، أو أدنى منهم.
٣٩ - والإضافة في قوله: ﴿يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ﴾ من باب (١) الإضافة إلى الظرف؛ إذ الأصل: يا صاحبين لي في السجن، ويجوز أن يكونَ من باب الإضافة إلى التشبيه بالمفعول به، والمعنى: يا ساكني السجن كقوله: أصحاب النار، اهـ "سمين". والاستفهام في قوله: ﴿أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ﴾ تقريري؛ أي: لطلب الإقرار بجواب الاستفهام؛ أي: أقروا واعلموا أنَّ الله هو الخير، اهـ "جمل".
ومعنى التفرق هنا (٢): هو التفرق في الذوات، والصفات، والعدد، كذهب، وفضة، وحديد، وخشب، وحجارة، وغير ذلك، وجماد، وحيوان، وحي وميت.
والمعنى: هل الأرباب المتفرقون في ذواتهم المختلفون في صفاتهم، المتنافون في عددهم خير لكما يا صاحبي السجن، أم الله المعبود بحق المتفرد في ذاته، وصفاته الذي لا ضدَّ له ولا نِدَّ ولا شريك القهار الذي لا يغالبه مغالب، ولا يعانده معاند، أورد يوسف عليه السلام على صاحبي السجن هذه
(١) الجمل.
(٢) الشوكاني.
الحجةَ القاهرة على طريق الاستفهام، لأنهما كانا ممن يَعبُد الأصنام، وقد قيل: إنه كان بَيْنَ أيديهما أصنامٌ يعبدونها، عند أن خاطبهما بهذا الخِطَاب.
وعبارة المراغي: وهذا الاستفهام لتقرير ما يذكر بعده، وتوكيده، والمرادُ بالتفرق التفرقُ في الذوات، والصفات المعنوية التي يَنْعتونهم بها، والصفات الحسية التي يصوِّرها لهم بها الكَهَنة والرؤساء من رسوم منقوشة وتماثيل منصوبة في المعابد والهياكل.
والمعنى (١): أأرباب كثيرون متفرِّقون شأنهم التنازعُ والاختلاف في الأعمال، والتدبير الذي يُفْسِدُ النظام خير لكما، ولغيركما فيما تطلبون من كشف الضر، وجلب النفع، وكلِّ ما تحتاجون فيه إلى المعونة من عالم الغيب، أم اللَّهُ الواحدُ الأحدُ الفردُ الصمد الذي لا ينارع ولا يعارض في تصرفه، وتدبيره، وله القدرة التامَّةُ، والإرادةُ العامَّةُ، وهو المسخر لجميع القوى، والنواميس الظاهرة التي تَقُوم بها نظم العوالم السماوية، والأرضية، من نور وهواء وماء، والغائبة عنا كالملائكة، والشياطين مما كان الجهل بحقيقتها، هو سبب عبادتها، والقولُ بربوبيتها، ولا شكَّ أنَّ الجوابَ عن هذا مما لا يختلف فيه عاقلٌ، فلا خيرَ في تفرق المعبودات التي لا تستطيع ضرًّا ولا نفعًا في السموات والأرض.
٤٠ - ثم بين لهما أنَّ ما يعبدونه، ويسمونه آلهة إنما هي جَعْلٌ منهم، وتسمية من تلقاء أنفسهم، تَلَقَّاها خلف عن سلف، ليس لها مستندٌ من العقل، ولا الوحي السماويّ فقال: ﴿مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ﴾؛ أي: ما تعبدون من دون الواحد القهار ﴿إِلَّا أَسْمَاءً﴾ لمسميات ﴿سَمَّيْتُمُوهَا﴾؛ أي: وضعتموها ﴿أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ﴾ من قِبَلِكُم وتحملتموها صفات الربوبية، وأعمالها، وما هي بأرباب تَخْلُق، وترزق وتضر وتنفعُ ﴿مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ﴾؛ أي: ما أنزل الله حجةً وبرهانًا على أحد من رسله بتسميتها أربابًا، حتى يقالَ: إنكم تتبعونها تعبدًا له وحده، وطاعةً لرسله.
(١) المراغي.
424
والخلاصة: أنها تسمية لا دليلَ عليها من نقل سماوي، فتكونُ أصلًا من أصول الإيمان، ولا دليل عليها من عقل، فتكون من نتاج الحجة والبرهان.
وقيل المعنى (١): ما تعبدون من دون الله تعالى إلا مسميات أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم آلهةً من عند أنفسكم، وليس لها من الإلهية شيء إلا مجردَ الأسماء لكونها جمادات لا تَسمع، ولا تبصر، ولا تنفع، ولا تضر. ﴿مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا﴾؛ أي: بتلك التسمية ﴿مِنْ سُلْطَانٍ﴾؛ أي: من حُجَّةٍ تدل على صحتها، وإنما قال: ما تعبدون على خطاب الجَمع، وكذلك ما بعده من الضمائر؛ لأنه قَصَدَ خطاب صاحبي السجن، ومَنْ كان على دينهم. ومفعول سَمَّيتموها، الثاني محذوف كما قدرناه آنِفًا؛ أي: آلهةً من عند أنفسكم. ﴿إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ﴾؛ أي: ما الحكم (٢) الحق في الربوبية، والعبادة إلا لله سبحانه وتعالى وحده، يوحيه لِمَن اصطفاه من رسله، ولا يمكن بشرًا أن يَحْكُم فيه بهواه، ورأيه، ولا بعَقْله، واستدلاله ولا باجتهاده واستحسانه. وهذه قاعدة اتفقت عليها كلُّ الأديان دونَ اختلاف الأمكنة والأزمان.
ثمَّ بيَّنَ ما حَكَمَ به الله تعالى فقال: ﴿أَمَرَ﴾ سبحانه وتعالى على ألسنة الرسل عليهم الصلاة والسلام بـ ﴿أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ﴾ سبحانه وتعالى؛ أي (٣): أمَرَ ألَّا تعبدوا غَيْرَه، ولا تَدْعُوا سِوَاه، فله وحده اركعوا، واسجدوا، وإليه وحده توَجَّهوا حنفاءَ غير مشركين به شيئًا من مَلَك من الملائكة ولا ملك من الملوك الحاكمين، ولا شمس، ولا قمر، ولا نجم، ولا شجر، ولا حيوان كالعِجْل (أبِيسُ) لدى المصريين؛ لأنَّ (٤) العبادَة نهاية التعظيم، فلا تليق إلا بمَنْ حَصَلَ منه نهاية الإنعام، وهو الله تعالى؛ لأنَّ منه الخلق والإحياء، والرزق والهداية، ونعم الله كثيرة، وجهاتُ إحسانه إلى الخلق غير متناهية، فالمؤمن الصادق الإيمان، لا يذِلُّ ولا يَخْضَعُ لأحد غير الله تعالى مما خلق بدعاء ولا استغاثة، ولا طلب فرج من
(١) الشوكاني.
(٢) المراغي.
(٣) المراغي.
(٤) المراح.
425
ضيق، لإيمانه بأنه هو الرب المدبر لكل شيء، وأن كلَّ ما سواه فهو خاضع لسلطانه، ولا يملك لنفسه، ولا لغيره غير ما أعطَاه من القوى، فإليه وحده المَلْجَأُ في كل ما يعجز عنه الإنسانُ، أو يجهله من الأسباب، وإليه المصير في الجزاء على الأعمال يومَ يقوم الحساب والمعنى أنه (١) أمركم بتخصيصه بالعبادة دُونَ غيره مما تزعمون أنه معبودٌ.
ثم بين لهم أنَّ عبَادَته وحده دون غيره هي دين الله الذي لا دين غيره، فقال: ﴿ذَلِكَ﴾؛ أي: تخصيصه بالعبادة ﴿الدِّينُ الْقَيِّمُ﴾؛ أي: المستقيم الثابت؛ أي: إنَّ تَخْصِيصَه بالعبادة هو الدينُ الحق، الذي لا عِوَج فيه، والذي دعا إليه جميع الرسل، ودلَّتْ عليه براهينُ العقل والنقل. ﴿وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾ أنَّ ذلك هو الدين الحق المستقيم، الذي لا اعْوِجَاجَ فيه، لا ما سَارُوا عليه تبعًا لآبائهم الوثنيين من الاعتقاد، بأرباب متفرقين لجهلهم بتلك البراهين.
٤١ - ولما فرغ يوسف عليه السلام من بيان الحق لهما في مسألة التوحيد، وعبادة الله تعالى وحدَه، شرع في تعبير رؤياهما فقال: ﴿يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ﴾ الإضافة فيه بمعنى في؛ أي: يا صاحبين لي في السجن ﴿أَمَّا أَحَدُكُمَا﴾ وهو الساقي الذي رأى أنه يعصِرُ خَمْرًا، ولم يعينه ثقةً بدلالة الحال، ورعايةً لِحُسْن الصحبة، أو لكراهةِ التصريح للخبَّاز بأنه الذي سَيُصلب ﴿فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا﴾؛ أي: فيسقي سيده، ومالكَ رقبته خَمْرًا. وقد رُويَ أنَّ يُوسُفَ قال له في تعبير رؤياه: ما أحْسنَ ما رأيتَ؟ أمَّا الكرمة فهي الملك، وحسنها حسن حالك عنده برجوعك إلى منزلتك الأولى، بل إلى أحسنَ منها، وأما الأغصان الثلاثة: فثلاثة أيام، تَمْضي في السجن، ثم تخرج، وتعود إلى عملك. وقرأ الجمهور: ﴿فَيَسْقِي رَبَّهُ﴾ من سقَى، وفرقة: ﴿فيسقي﴾ من أسقى، وهما لغتان بمعنى واحد. وقال ابن عطية: وقرأ عكرمة والجحدري: ﴿فيُسْقَى ربه خمرًا﴾ بضم الياء، وفتح القاف؛ أي: ما يرويه، ذكره أبو حيان. ﴿وَأَمَّا الْآخَرُ﴾ وهو الخبَّاز الذي رَأَى أنه يحمل خبزًا تأكل الطير
(١) الشوكاني.
منه ﴿فَيُصْلَبُ﴾؛ أي: فيقتل صَلْبًا ﴿فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ﴾ الكواسر، كالحدأة، والرخمة، ونحوهما ﴿مِنْ رَأْسِهِ﴾ رُوي أنه عليه السلام قال له: بئس ما رأيتَ؟ أمَّا خروجك من المطبخ، فخُروجُك من عملك، وأما السلال الثلاث فَثلاثَةَ أيامٍ تمُرُّ ثم يُوجه الملك إليكَ عند انقضائهن، فيصلبك فتأكل الطير من رأسك. وفي "الكواشي": أكْلُ الطير من أعلاها إخراجه في اليوم الثالث، انتهى.
﴿قُضِيَ﴾؛ أي: نُفذَ وفرغ، وأتِمَّ، وأحكِم ﴿الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ﴾؛ أي: تطلبان فتواهُ، وتأويلَه، وهو ما رأياه من الرؤيين.
وإسناد (١) القضاء إليه مع أنه من أحوال مآله، وهو نَجَاةُ أحدهما، وهلاك الآخر؛ لأنه في الحقيقة عَيْنُ ذلك المآل، وقد ظَهر في عالم المثال بتلك الصورةِ؛ أي: تَمَّ الأمر الذي تسألان عنه، رأيتما أو لم تَرَيَا، فكما قلتما، وقُلْتُ لكما كذلك يكونُ. رُوِيَ أنَّه لمَّا عَبَّر رؤياهما جَحَدا، وقَالا: ما رأينا شَيئًا فأخْبَرَ أنَّ ذلك كائن صدقتما، أو كذبتما، ولعَلَّ الجحودَ من الخباز؛ إذ لا داعي إلى جحود الساقي إلَّا أن يكون ذلك لمراعاة جانبه، فكان الأمر كما عبَّر يُوسُف. قال ابن مسعود (٢) رضي الله عنه: فلما سمعا تعبيرَ يوسف عليه السلام، وقَولَه ذلك قالا: ما رأينا شيئًا، إنما كنا نَلْعَبُ قال يوسف: ﴿قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ﴾؛ أي: فُرغَ من الأمر الذي سألتما عنه، ووجب حُكْمُ الله عليكما بالذي أخبرتكما به، رأيتما شيئًا أم لم تَرَيا.
٤٢ - ﴿وَقَالَ﴾ يوسف عليه السلام ﴿لِلَّذِي ظَنَّ﴾؛ أي: يوسف؛ أي: عِلمَ وتَحَقَّق، فالظَّنُّ بمعنى العلم، والظان (٣) هو يوسف عليه السلام؛ لأنه قد علم من الرؤيا نجاة الساقي، وهلاك الخَبَّاز، وهكذا قال جمهور المفسرين. وقيل: الظن على ظاهره، ومعناه: لأنَّ عابِرَ الرؤيا إنما يَظُنُّ ظَنًّا، والأُولى أَولى، وأنسبُ بحال الأنبياء، ولا سيما وقد أخبَر عن نفسه عليه السلام بأنه قد أطلَعه الله على شيء مِنْ علم الغيب كما في قوله: {لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ
(١) روح البيان.
(٢) الخازن.
(٣) الشوكاني.
427
تُرْزَقَانِهِ} الآية. ﴿أَنَّهُ نَاجٍ مِنْهُمَا﴾؛ أي قال يوسف للرجل الذي ظَنَّهُ نَاجِيًا من القتل منهما؛ أي: من صاحبيه، وهو الساقي. وجملة قوله: ﴿اذْكُرْنِي﴾ أيُّها الساقي ﴿عِنْدَ رَبِّكَ﴾؛ أي: سيدك الملك الأكبر، هي مقول القول؛ أي: اذكر حالي عند سيدك، فقل له: إنَّ في السجن غلامًا مَحبوسًا، مظلومًا، طال حبسه نحوَ خمسِ سنينَ. يعني أمره بأن يذكره عند سيده، ويصفه بما شاهده منه من جودة التعبير، والاطلاع على شيء من علم الغيب. ﴿فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ﴾؛ أي: فأنسى الشيطان الساقي ﴿ذِكْرَ رَبِّهِ﴾؛ أي: أن يذكر يوسُفَ عند الملك؛ أي: أنسَى الشيطان بوسوسته الساقيَ ذكره ليوسف عند الملك، فالإنساء في الحقيقة لله تعالى، وهذا قول عامَّة المفسرين، قالوا: لأنَّ صَرْفَ وسوسة الشيطان إلى ذلك الرجل الساقي، حتى أنساه ذكرَ يوسف أولى من صرفها إلى يوسف. وقيل: الضمير في أنساه عائد على يوسف.
والمعنى: أن الشيطان أنْسَى يوسفَ ذكرَ ربه عَزَّ وَجَلَّ حتى طَلَب الفَرَجَ من مخلوق مثله، وتلك غفلة عرضت ليوسف عليه السلام، فإنَّ الاستعانة بالمخلوق في دفع الضرر جائزة في الشريعة، إلا أنه لما كان يوسف في أشرف المراتب، والمقامات، وهي منصب النبوة، والرسالة، لا جَرَمَ صارَ يوسف مؤاخذًا بهذا القدر من الاستعانة، فإنَّ حسنات الأبرار سيئات المقربين.
فإن قلتَ (١): كيف تمَكَّن الشيطان من يوسف حين أنساه ذكر ربّه؟.
قلت: بشغل الخاطر، وإلقَاءِ الوسوسة، فإنه قد صحَّ في الحديث: "إن الشيطان يجري من ابن آدم مَجْرى الدم"، فأما النِّسيان الذي هو عبارة عن ترك الذكر، وإزالته عن القلب بالكلية، فلا يقدر عليه. وبالجملة: فالأولى بالصدِّيقين أن لا يشتغلوا إلا بمسبب الأسباب، ولذلك جوزي يُوسُفُ بسنتين في الحبس كما قال: ﴿فَلَبِثَ﴾ يوسف ﴿فِي السِّجْنِ﴾ بسبب ذلك القول ﴿بِضْعَ سِنِينَ﴾؛ أي: سبعَ سنينَ خَمْسًا منها قبل ذلك القول، وثنتين بعده، هذا هو الصحيح. وقيل: لَبِثَ
(١) الخازن.
428
بعد هذا القول سبعَ سِنين، وقَبْلَه خمسًا، فالجملة اثنتا عشرةَ سنةً. وهذه الجملة تؤيِّدَ (١) عَوْدَ الضمير في أنساه إلى يوسف، ويؤيِّد عوده إلى الذي نجا منهما قوله فيما سيأتي: ﴿وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ﴾ أي سنة.
والمعنى: وقال يوسف (٢) للذي ظن أنه ناج منهما اذكرني عند سيدك الملك، بما رأيتَ مني، وما سمعتَ، وعلمت من أمري عَلَّه ينصفني ممَّنْ ظلمني، ويخرجني من ضائقة السجن، ومما هو جدير أن يذكره به من دَعْوَتِهِ إياهم إلى التوحيد، وتأويله للرؤيا، وإنبائهم بكل ما يأتيهم من طعام وشراب، وغيرهما، قبل إتيانه، وفُتْيَاه التي أفتى بها ﴿فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ﴾؛ أي: فأنسى الشيطانُ ذلك الساقيَ النَّاجيَ تذكر إخبار ربه؛ أي: أن يَذْكُرَ يوسف للملك ﴿فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ﴾ منسيًّا مظلومًا. والبضع من ثلاث إلى تسع، وأكثرُ ما يطلق على السبع، وعليه الأكثرون في مدة سجن يوسف. وقيل: ثنتا عشرة سَنَةً. وقيل: أربع عشرةَ سنةً. وقيل: خَمس سنينَ.
رؤيا ملك مصر وتأويل يوسف عليه السلام لها
٤٣ - ولما دنا فرج يوسف عليه السلام، وأراد الله عَزَّ وَجَلَّ إخراجَه من السجن رأى مَلِكَ مِصْرَ الأكبر رُؤيا عجيبةً هالته، وذلك أنه رَأَى في منامه سَبعَ بقرات سمان، قد خَرَجْنَ من البحر، ثُمَّ خَرَجَ عَقِيبَهن سبع بقرات عجاف، في غاية الهزال، فابتلع العِجافُ السمانَ، ودَخَلْن في بطونهن، ولم ير منهن شيء، ولم يتبين على العجاف منها شيء، ورأى سنبلات خضرًا قد انعَقَد حبها، وسبعَ سنبلات أخر اليابسات، قد استحصدت، فالتوت يابسات على الخُضْر، حتى علون عليهن، ولم يبقَ من خضرتها شيء، فجَمَع السحرة والكهنة والمعبّرين، وقص عليهم رؤياه التي رآها فذلك قوله تعالى: ﴿وَقَالَ الْمَلِكُ﴾؛ أي: ملك مصر الأكبرُ، وهو الريَّانُ بن الوليد الذي كَانَ العزيز، وزيرًا له، ﴿إِنِّي أَرَى﴾ في المنام عَبَّر بالمضارع حكايةً للحال الماضية، وكذلك قوله الآتي: ﴿يَأْكُلُهُنَّ﴾؛ أي:
(١) الشوكاني.
(٢) المراغي.
429
قال: إني رأي فيما يَرَى النائم رُؤْيا جَلِيَّةً كأني أراها الآن ﴿سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ﴾ جمع سمين، وسمينة خرجن من نهر يابس في إثرهن سبع عجاف؛ أي: مهازيلُ ﴿يَأْكُلُهُنَّ﴾؛ أي: يأكل تلك السمان ﴿سَبْعٌ عِجَافٌ﴾؛ أي: فابتلعت العجاف السمان. والعجاف: جمع عجفاءَ على غير قياس. وقياس جمعه: عُجْفٌ؛ لأنَّ فَعْلاَءَ وأفْعل لا يجمع على فعال كما سيأتي في مبحث الصرف إن شاء الله تعالى، ولكنه عَدَلَ عن القياس حَمْلًا على سمان. ﴿و﴾ إني رأيت ﴿سبع سنبلات﴾ جمع سنبلة، وهي ما يكون فيه الحب كسنبلة الحنطة ﴿خُضْرٍ﴾ قد انعَقَدَ حبها جمع خضراء، وهي التي لم تبلغ أوانَ الحصاد ﴿و﴾ رأيت سبعًا ﴿أُخَرَ يابسات﴾ قَدْ أدركت، وبلغت أوانَ الحصاد جمع يابسة، واليابس من السنبل ما آن حصاده، فالْتَوَتْ اليابساتُ على الخضر، حتى غلبن عليها، واستغنى عن بيان حالها، بما قصَّ مِنْ حال البقرات.
فلما (١) استيقظ من منامه، اضطرب بسبب أنَّهُ شاهَدَ أنَّ الناقص الضعيفَ، استولى على الكامل القوي، فشهدت فطرته بأنَّ هذه الرؤيا صورة شر عظيم، يقع في المملكة إلا أنه ما عَرَفَ كَيفية الحال فيه، فاشتاقَ ورغِبَ في تحصيل المعرفة بتعبير رؤياه، فجمع أعْيَانَ مملكته من العلماء والحكماء، وكذا الكهنة والمنجمين، وأخْبرهم بما رأى في منامه، وسألهم عن تأويلها فأعجزهم الله تعالى عن تأويل هذه الرؤيا؛ ليكون ذلك سببًا لخلاص يُوسُفَ من السجن، وذلك قوله عَزَّ وَجَلَّ: ﴿يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ﴾ والأشراف من قومي المعبرون للرؤيا فهو خطاب للأشراف من العلماء، والحكماء، أو للسحرة، والكهنة، والمنجمين، وغيرهم ﴿أَفْتُونِي﴾ وأجيبوا لي ﴿فِي﴾ تأويل ﴿رُؤْيَايَ﴾ هذه؛ أي: عبِّروها لي وبيِّنوا حكمَها، وما تؤول إليه من العاقبة ﴿إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ﴾؛ أي: إن كنتم تعلمون تعبيرَ جنس الرؤيا، وتفسيرَ المنام؛ أي: عبروها (٢) لي إنْ كنتم تعبرون الرؤيا، وتبينونَ المعنى الحقيقيَّ المرادَ من المعنى المثاليّ، فيكون حالكم حالَ
(١) روح البيان.
(٢) المراغي.
430
من يعبرُ النَّهْرَ من ضفةٍ إلى أخرى. وأصلُ العبارة (١): مشتقة من عبور النهر، فمعنى عبرت النهر: بلغت شَاطِئَه، فعابرُ الرؤيا يخبر بما يؤول إليه أمرها. قال الزجاج: (اللام) في (للرؤيا) للتبيين؛ أي: إن كنتم تعبرون، ثمّ بَيَّن فقال: (للرؤيا). وقيل: هي للتقوية وتأخير الفعل العامل فيه لرعاية الفَواصل.
٤٤ - وجملة قوله: ﴿قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ﴾ مستأنفة استئنافًا بيانيًّا واقعًا في جواب سؤال مقدر، فكأنه قيل: فماذا قال الملأ للملك؟ فقيل: قالوا، إلخ. والأضْغَاثُ (٢): جمع ضغث، وهو كل مختلط من بقل أو حشيش أو غيرهما. والأحلامُ: جمع حلم، وهي الرؤيا الكاذبة التي لا حقيقةَ لها، كما يكون من حديث النفس، ووسواس الشيطان، والإضافة بمعنى من أو من قبيل إضافة لجين الماء، وجمعوا الأحلام ولم يكن من الملك إلا رُؤْيَا واحدة مبالغةً منهم، في وصفها بالبطلان، ويجوز أن يَكُونَ رأى مع هذه الرؤية غيرها مما لم يَقُصَّه الله تعالى علينا، أو لتضمنها أشياءً مختلفةً من السبع السمان، والسبع العجاف: والسنابل السبع: الخضر والأخر اليابسات؛ أي: قالوا هذه الرؤيا أضْغَاثُ أحلام؛ أي: أخالِيطُ الأحلام وأباطيلها وأكاذيبها من حديث نفس أو وسوسة شيطانٍ؛ أي: هذه أحلام مختلطَةُ ورؤيا كاذبة، لا حقيقةً، ولا معنى لها ﴿وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلَامِ﴾؛ أي: بتعبير المنامات الباطلة التي لا أصل لها ﴿بِعَالِمِينَ﴾؛ لأنه لا تأويلَ لها، وإنما التأويل للمنامات الصادقةِ لا لأنَّ لها تأويلًا، ولكن لا نعلمه. قال الزجاج: المعنى: بتأويل الأحلام المختلَطَة، نفُوا عن أنفسهم عِلْمَ ما لا تأويلَ له، لا مطلقَ العلم بالتأويل. وقيل: إنَّهُم نَفَوْا عن أنفسهم عِلْمَ التعبير مطلقًا، ولم يَدَّعُوا أنه لا تعبيرَ لهذه الرؤيا. وقيل: إنهم قَصدوا مَحْوَها من صدرِ المَلِكِ حتى لا يشتغل بها، ولم يكن ما ذكروه مِنْ نَفْيِ العلم حقيقةً.
ويجوز (٣) أن يكون ذلك اعترافًا منهم بقصور علمهم، وأنَّهم لَيسوا بِنَحَارِير في تأويل الأحلام، مع أنَّ لها تأويلًا فكأنهم قالوا: هذه الرؤيا مختلطة من أشياء
(١) الشوكاني.
(٢) الشوكاني.
(٣) روح البيان.
كثيرة، والانتقال فيها من الأمور المخَيلة إلى الحقائق العقلية الروحانية، ليس بسهلٍ، وما نحن بمتبحِّرين في علم التعبير، حتى نهتدي إلى تعبير مثلها، ويَدُلُّ على قصورهم قول الملك ﴿إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ﴾، فإنه لو كان هنا متبحِّر: لبت القولَ بالإفتاء، ولم يعلِّقْه بالشرطِ، وهو اللائحُ بالبال، وعلى تقديرِ تبحرهم عَمى اللَّهُ عليهم، وأَعْجَزَهم عن الجواب؛ ليصير ذلك سببًا لخلاص يوسف من الحبس، وظهور كماله وفَضْلِهِ. وقرأ (١) أبو جعفر بالإدغام في (الرؤيا) وبَابُه (بعد) قلب الهمزة واوًا، ثمَّ قلبها ياءً لاجتماع الواو والياء، وقد سَبَقَتْ إحداهما بالسكون، ونصُّوا على شُذُوذِه؛ لأنَّ الواوَ هي بدلٌ غيرُ لازم و (اللام) في ﴿لِلرُّؤْيَا﴾ مقوية لوصول الفعل إلى مفعوله، إذا تقدَّمَ عليه، فلو تأخَّرَ لم يَحْسُن ذلك بخلاف اسم الفاعل، فإنه لِضَعْفِهِ قد تَقوَّى بها، فتقول: زيد ضاربٌ لعمرٍو فصيحًا.
وقد كان حديث الملك في رؤياه، مع كهنته، وعلمائه، ورجال دولته، مذكرًا للذي نجا من الفَتَيَيْنِ بِيُوسُفَ، وحُسْنِ تعبيره للرؤيا بعد أن مضَى على ذلك مدَّةً من الزمان، كما يشير إلى هذا ما بعده.
٤٥ - ﴿وَقَالَ الَّذِي نَجَا﴾ وخرج من السجن ﴿مِنْهُمَا﴾؛ أي: من صاحبي يوسف، وهو السَّاقي ﴿و﴾ الحال أنه قد ﴿ادَّكَرَ﴾؛ أي: قد تذكَّر يوسفَ وما قاله ﴿بَعْدَ أُمَّةٍ﴾؛ أي: بعد مدة طويلة من الزمان. وادّكر: أصله: إذْتكر، فقلبت التاء دَالًا، والذال دالًا، وأدغمت كما سيأتي في مباحث الصرف. أي: تذكَّر (٢) الناجي منهما يوسفَ، وتأويلَه رؤياه، ورؤيا صاحبه، وطَلَبَه أن يَذْكُره عند الملك، فجَثى بين يَدَي الملك؛ أي: جَلَس النَّاجِي على ركبتيه، قُدَّامَ الملك فقال للملك: ﴿أَنَا أُنَبِّئُكُمْ﴾؛ أي: أنا أُخبركم ﴿بِتَأْوِيلِهِ﴾؛ أي: بتأويل هذا المنام الذي أَشْكَلَ عليكم وتعبيره. خَاطبه بلفظِ الجمع تعظيمًا له ﴿فَأَرْسِلُونِ﴾؛ أي: فابعثون إلى السجن، فإن فيه رجلًا حكيمًا من آل يعقوب، يقال له: يُوسُفُ يعرِفُ تعبير الرؤيا، قد عَبَّر لنا قبلَ ذلِكَ فأرسلوه إلى يوسف، فأتاه فاعتذَرَ إليه، فاسْتَفْتَاه فيما عَجَزُوا عنه،
٤٦ - وقال: يا ﴿يُوسُفُ﴾، ويا
(١) البحر المحيط.
(٢) روح البيان.
432
﴿أَيُّهَا الصِّدِّيقُ﴾؛ أي: أيها البالغ غاية الكمال في الصدق، وإنما وَصَفَهُ بذلك، لأنه جَرَّب أحوالَه، وعرف صِدْقه في تأويل رؤياه، ورؤيا صاحبه. وجملةُ مجيء الرسول ليوسف في السجن أربعَ مرات، الأولى في قوله: ﴿فَأَرْسِلُونِ (٤٥) يُوسُفُ﴾، والثانية في قوله: ﴿فَلَمَّا جَاءَهُ الرَّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ﴾، والثالثة في قوله: ﴿وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (٥١) ذَلِكَ لِيَعْلَمَ﴾ إلخ، والرابعة في قوله: ﴿وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي﴾ إلخ؛ أي: يا يُوسُفُ البالغُ غَايَةَ الكمال بصدقك في أقوالك وأفعالك، وتأويل الأحاديث وتعبير الأحلام ﴿أَفْتِنَا﴾؛ أي: أخْبِرنَا، وبيّنَ لنا ﴿فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ﴾؛ أي: أخْبِرْنا في رؤيا مَنْ رَأَى في منامه سبع بقرات سمان، يَبْتَلِعهُنَّ سبعُ بقرات مهازِيلُ، وفي رؤيا مَن رأى سَبْعَ سُنْبُلاتٍ خضر، وسبعًا أخرى يابسات، فإنّ الملِكَ قَدْ رَأَى هذه الرؤيا، وعَجَز المعبّرون عن تعبيرها. ففي قوله (١): ﴿أَفْتِنَا﴾ مع أن المستفتي واحد إشعارٌ بأن الرؤيا لَيْسَتْ له، بل لغيره ممن له ملابسةٌ بأمور العامة، وأنه في ذلك سَفِيرٌ، ولم يُغَيّر لفظ الملك، وأصاب فيه، إذ قد يكون بعض عبارات الرؤيا متعلقة باللفظ ﴿لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ﴾؛ أي: إلى الملك ومَنْ عنده من الملأ، وأعود إليهم بفَتْوَاك ﴿لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ﴾ ما تأتي به في تأويل هذه الرؤيا، أو يعلمون فَضْلَكَ ومعرفِتَكَ فنَّ التعبير، فيطلبوك ويُخَلِّصوك من محنتك.
والمعنى: أفتِنا (٢) في هذا المنام الذي رآه الملك، وإنّي لأرجو أن يحقِّقَ اللَّهُ أمَلَكَ بالخروج من السجن، وانتفاعَ المَلِكِ وملئه بفضلك، وعِلْمِك، وإنَّما لم يبتَّ الكلامُ فيهما لأنه لم يكن جازمًا بالرجوع، فرُبَّما اخْتَرَمَتْهُ المنية دونه، ولا يُعْلِمهم. ذكره "البيضاوي". وقرأ (٣) الجمهورُ: ﴿وَادَّكَرَ﴾ بالدال المهملة المشدَّدة. وقرأ الحسن: ﴿واذكر﴾ بإبدال التاء ذالًا، وإدغام الذال فيها. وقرأ الأشْهَبُ العقيليُّ: ﴿بعد إمَّة﴾ بكسر الهمزة؛ أي: بعدَ نعمة أنْعَم الله عليه بالنجاة من القَتْل. وقال ابن عطية: بعد نعمةٍ أنعم الله بها على يوسف في تقريب إطلاقه
(١) روح البيان.
(٢) المراغي.
(٣) المراغي
433
من السجن، والإمَّةُ النِّعْمَةُ قال الشاعر:
أَلاَ لاَ أَرَى ذَا إِمَّةٍ أَصْبَحَتْ بِهِ فَتَتْرُكُهُ الأيَّامُ وَهِيَ كَمَا هِيَا
قال الأعلم: الإمَّةُ النِّعمة، والحالُ الحَسَنَةُ. وقرأ ابنُ عباس، وزيد بن علي، والضحاك، وقتادةُ، وأبو رجاء، وشبيل بن عزرة الضبعي، وربيعة بن عَمرو: ﴿بعد أَمَةٍ﴾ بفتح الهمزة، والميم مخففةً، وهاءٍ، والأَمَهُ: النِّسيانُ. وكذلك قرأ ابنُ عُمَرَ، ومجاهد، وعكرمة، واختلف عنهم. وقرأ عِكْرَمة، وأيضًا مجاهد، وشبيل بن عزرة: ﴿بعد أَمَهٍ﴾ بسكون الميم مصدر أمَهَ على غير قياس. وقال الزمخشري: ومَنْ قرأ بسكون الميم فَقَدْ أخطأ، انتهى. وهذا على عادته في نسبته الخطأ إلى القرَّاء. وقرأ الحسن: ﴿أنا آتيكم﴾ مضارعٌ آتى مِن الإتْيان، وكذا في مصحف أُبيٍّ. وقرأ يعقوب: ﴿فأرسلوني﴾ بالياء.
٤٧ - وجملة قوله: ﴿قَالَ تَزْرَعُونَ﴾ مستأنفة استئنافًا بيانيًّا، واقعةٌ في جواب سؤال مقدر، كأنه قيل: فماذا قال يوسف في التأويل؟ فقيل: قال يوسفُ لهم: تزرعون إن شاء الله تعالى في المستقبل. ﴿سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا﴾؛ أي: متواليةً متتابعةً، فدأبًا مصدرٌ واقع موقعَ الصفة؛ أي: دائبةً متواليةً فهو مصدرٌ دَأَب في العمل، إذا جَدَّ فيه، وتعبَ، أو واقع موقِعَ الحال من فاعل ﴿تَزْرَعُونَ﴾ بمعنى دائبين؛ أي: مُستَمَرِّينَ على الزراعة على عادتكم بجِدٍّ واجتهاد. وقرأ حفص: (دَأَبًا) بفتح الهمزة والجمهور بإسكانها وهما مصدران لدأب. والفرق بين الحرثِ والزرع أنَّ الحرثَ إلقاء البذْر، وتهيئة الأرضِ، والزرعُ مراعاتُه، وإنباتُه. فعَبَّر يوسف عليه السلام السبعَ البقراتِ السمانَ بسبع سنين فيها، خصبٌ والعجافَ بسبع سنين فيها جَدْبٌ. وهكذا عبَّر السبع السنبلات الخضرَ، والسبع السنبلات اليابسات، واستَدَلَّ بالسبع السنبلات الخضر على ما ذكره في التعبير من قوله: ﴿فَمَا حَصَدْتُمْ﴾ وقطعتم من الزروع في كل سنة من السنين المُخْصِبة ﴿فَذَرُوهُ﴾؛ أي: فاتركوا ذلك المحصودَ ﴿فِي سُنْبُلِهِ﴾؛ أي: كَوافرِهِ، وبقَصَبِهِ ليكون القصب عَلَفًا للدوابِّ، ولا
(١) البحر المحيط.
تَدُوسوه، وتفصلوه عن سنبله، لئلا يأكله السُّوسُ كما هو شأن غلال مصر، ونواحيها، فإن ذلك أبقى له على طول الزمان. ﴿إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تَأْكُلُونَ﴾ في هذه السنين المخصبة؛ فإنه لا بدَّ لكم من فصله عن سنبله وإخراجه عنها، وقتَ حاجتكم إليه، واقتصر على استثناء المَأْكُول دونَ ما يحتاجون إليه من البذر الذي يبذرونه في أموالهم؛ لأنه قد علم من قوله: ﴿تَزْرَعُونَ﴾. وفيه إرشاد منه عليه السلام إلى التقليل في الأكل. وقرأ السلمي: ﴿مما يأكلون﴾ بالياء على الغيبة؛ أي: يأكل الناس، وهذا تأويل السبع السمان، والسبع الخضر.
٤٨ - ﴿ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ﴾؛ أي: من بعدِ السبع السنين المخصِبَة ﴿سَبْعٌ شِدَادٌ﴾؛ أي: سبع سنين مجدبة يصعب أمرها على الناس، وهذا تأويل السبع العجاف، والسبع اليابسات، ﴿يَأْكُلْنَ﴾؛ أي: يأكل أهلُهُنَّ؛ أي: يأكل أهل السبع الشداد فيهن ﴿مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ﴾؛ أي: ما ادَّخرتم لأجلهن مِن الحبوب المتروكة في سَنَابِلِها. وإسناد الأكل إلى السنين مجاز، فهو من باب نهارُه صائمٌ؛ أي: تأكلون الحَبَّ المزروعَ وَقْتَ السنين المخصبة المتروك في سنبله في السنين المجدبة. ﴿إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تُحْصِنُونَ﴾؛ أي: مما تَحْبِسُون من الحب لتزرعوا به، لأن في استبقاء البذر تحصين الأَقْوات. وقال أبو عبيدة: معنى تُحْصِنُون تُحْرِزُون. وقيل: تَدَّخِرُون للبَذْرِ. والمعنى واحدٌ: فَأَكْلُ ما جُمِع أيامَ السنين المخصبة في السنين المجدبة، تأويل ابتلاع العجاف السمان.
٤٩ - ﴿ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ﴾؛ أي: من بعد ما ذُكِرَ من السنين المجدبات ﴿عَامٌ﴾؛ أي: سنة ﴿فِيهِ﴾؛ أي: في ذلك العام ﴿يُغَاثُ النَّاسُ﴾؛ أي: يمطر الناسُ، وينقذون فيه من كرب الجدب بالغيث ﴿وَفِيهِ﴾؛ أي: وفي ذلك العام ﴿يَعْصِرُونَ﴾ ما منْ عادته أن يُعْصَر كالعنب، والقصب، والزيتون، والسمسم، ونحوها من الفواكه لِكَثْرَتِها.
وقيل: معنى ﴿يَعْصِرُونَ﴾: يَحْلِبون الضُّروعَ. وقيل معناه: يمطرون. وقيل معناه: ينجون من الشدة. وعلى هذين المعنيَيْنِ يقرأ بالبناء للمفعول. قال
أبو حيان (١): والجمهور على أنه من عَصَر النباتَ كالعنب، والقصب، والفجل، وجميع ما يعصر، ومصر بلد عصير لأشياء كثيرة، والحلب منه، لأنه عَصْرٌ للضروع. وروي أنهم لم يَعْصِرُوا شيئًا مدة الجدب، انتهى. وهذا مِن (٢) مدلولات المَنام، لأنه لما كانت العجاف سبعًا دَلَّ ذلك على أنَّ السِّنينَ المجدبة لا تزيدُ على هذا العدد.
فالحاصلُ بعده: هو الخِصبُ على العادة الإلهية حيث يُوسِّع الله سبحانه وتعالى على عباده بعد تضييقه عليهم. وقيل: إنَّ الإنباءَ بهذا العام زَائِدٌ على تأويل الرؤيا، ولم يعرفه يوسف على التخصيص والتفصيل إلَّا بِوَحي من الله عَزَّ وَجَلَّ. وقرأ (٣) الأخوان حمزة، والكسائي: ﴿تعصرون﴾ بالتاء على الخطاب، وباقي السبعة بالياء على الغيبة. وقَرأ جعفر بن محمَّد، والأعرج، وعيسى البصرة: ﴿يُعصَرون﴾ بضم الياء، وفتح الصاد مبنيًّا للمفعول. وعن عيسى أيضًا: ﴿تعصرون﴾ بالتاء على الخطاب مبنيًّا للمفعول، ومعناه: يُنْجَونَ من عصره إذا أنجاه، وهو مناسب لقوله: ﴿فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ﴾. وحكى النقاش أنه قُرِىء: ﴿يعصرون﴾ بضم الياء وكسر الصاد، وشدِّها من عَصَّر مشددًا للتكثير. وقرأ زيد بن علي: ﴿وفيه تعصرون﴾ بكسر التاء، والعين، والصاد، وشدها وأصلُه تعتصرون فأدغم التاء في الصاد، ونقَلَ حركتها إلى العين، وأتبع حركة التاءِ لحركة العين، واحتمل أن يكونَ من اعتصر العنبَ، ونحوَه، ومن اعتصر بمعنى نجا.
٥٠ - فلما رجع الساقي إلى المَلِك وأخْبَره بما ذكره يوسف استَحْسَنَه المَلِك ﴿وَقَالَ الْمَلِكُ﴾؛ أي: ملك مصر، وهو رَيَّان بن الوليد ﴿ائْتُونِي بِهِ﴾، أي: جيئوني بيُوسُفَ عليه السلام كي أستمع كَلاَمَه مِنْ فمه، وأعْرِفُ دَرَجَة عَقْلِهِ، وأعلم تفضيلَ رَأْيِهِ ﴿فَلَمَّا جَاءَهُ﴾؛ أي: يوسف ﴿الرَّسُولُ﴾؛ أي: رسول الملك، وهو الساقي، وبلغه أمر الملك، وطلب إليه إنفاذه ﴿قَالَ﴾ يوسف للرسول ﴿ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ﴾؛ أي: سيدك قبل شخوصي إليه، ومثولي بَيْنَ يديه ﴿فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ﴾ والبَالُ هو (٤) الأمر الذي
(١) البحر المحيط.
(٢) المراح.
(٣) البحر المحيط.
(٤) المراغي.
436
يَبْحَثُ عنه، ويُهْتَمُّ به؛ أي: واسأله عن حال النسوة اللاتي قطَّعْنَ أيدِيَهُنَّ ليعرِفَ حَقِيقةَ أمره؛ إذ لا أحبُّ أن آتيه، وأنا متَّهَمٌ بقضيَّةٍ عوقبت من أجلِهَا بالسجن، وقد طال مكثِي فيه دُونَ تعرف الحقيقة، ولا البحث في صميم التهمة.
ولم يذكر (١) سيدته تأدُّبًا ومراعاةً لحقها، واحترازًا من مكرها، حيث اعتقدَها مقيمةً في عَدْوَةِ العَداوة، وأما النسوة فقد كان يَطْمَعُ في صَدْعهن بالحقِّ وشهادتهن بإقرارها، بأنها رَاوَدَتهُ عن نفسِهِ ﴿فَاسْتَعْصَمَ﴾.
قال العلماء (٢): إنما أبَى يُوسُفَ عليه السلام أن يخرجَ من السجن، إلا بعد أن يتفحَّص المَلِكُ عن حاله مع النسوة. لتنكشفَ حقيقة الحال، عنده لا سيما عند العزيز، ويَعلم أنه سجِنَ ظُلمًا، فلا يقدِر الحاسد إلى تقبيح أمره، وليظْهَر كمال عقله، وصبْرِه ووقَارِه، فإن مَنْ بَقِيَ في السجن ثنتي عشرة سنةً إذا طلبه الملك، وأمر بإخراجه، ولم يبادر إلى الخروج، وصَبَرَ إلى أن تتبين براءتَهُ من الخيانة في حق العزيز، وأهله دَلَّ ذلك على براءته من جميع أنواع التُّهَمِ. وفي الحديث: "مَنْ كان يؤمن بالله واليوم الآخِر فلا يقِفَنَّ مَوَاقِفَ التُّهَم". ومنه قال عليه السلام للمارين به في معتكفه وعنده بعض نساءه: "هِيَ فُلانةُ" نفيًا للتهمة.
وروي عن النبي - ﷺ - أنه اسْتَحْسَنَ حَزْمَ يُوسُفَ وصَبْره حين دعاه الملك، فلم يُبَادِر إلى الخروج حيث قال عليه السلام: "لقد عَجِبْتُ من يوسُفَ وكرمه، وصبْرِه، والله يَغْفِرُ له حينَ سُئل عن البقرات العِجاف والسمانِ، ولو كنتُ مَكَانَه ما أخبرتهم حتى اشْتَرطت أن يُخْرِجوني، ولقد عَجِبْتُ حين أتاه الرسول فقال: ﴿ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ﴾، الآية. ولو كنت مكانَه ولبثتُ في السجن ما لَبث.. لأسْرَعْتُ الإجابة، وبادَرْتُهم الباب، وما ابتغيت العذرَ، إنه كان حليمًا ذَا أناة". الحِلْمُ، بكسر الحاء: تأخير مكافأة الظُلّم، والأَناة على وزن القَنَاة: التأني وترك العجلة. قال ابن الملك: هذا ليس إخبارًا عن نبينا عليه الصلاة والسلام بتَضَجُّره، وقلة صبره، بل فيه دلالة على مدح صبر يوسف، وترك الاستعجال بالخروج، لِيَزُولَ
(١) روح البيان.
(٢) روح البيان.
437
عن قلب الملك ما كان مُتَّهَمًا به من الفاحشة، ولا يُنْظَر إليه بعين مشكوكة، انتهى.
وقال الطَّيبِي: هذا من رسول الله - ﷺ - على سبيل التواضع لا أنه كان مستعجلًا في الأمور غير متأن، والتَّواضُعُ لا يصغِّر كبيرًا، ولا يَضعُ رفيعًا، بل يُرحِّب لصاحبه فَضلًا، ويُورِثُه جَلالًا وقدرًا.
﴿إِنَّ رَبِّي﴾ سبحانه وتعالى، أو إن سيدي (١) ومربي، وهو ذلك الملك، قاله ابن عطية، ورُدَّ عليه. ﴿بِكَيْدِهِنَّ﴾؛ أي: بمكرهن ﴿عَلِيمٌ﴾ حين، قلنَ لي: أطع مَوْلاَتَكَ. وفيه استشهاد بعلم الله على أنهن كِدْنَه، وأنه بريء من التهمة كأنه قيل: احمله على التعرف، يتبيَّنُ له براءة ساحتي، فإنَّ الله يعلم أنَّ ذلك كان كيدًا منهن. والمعنى: أنه (٢) تعالى هو العالم بخفيات الأمور، وهو الذي صرَف عنِّي كيدهُن، فلم يَمْسَسْنِي منه سوء.
وقد دلَّ هذا التمهل، والتأني من يوسف عليه السلام عن إجابة طلب الملك له حتى تحقق براءته على جملة أمور:
١ - جميلُ صبره، وحُسْنُ أناته، ولا عَجَب، فمِثْلُه ممَّن لقيَ الشدائد جدير به أن يكون صبورًا حليمًا، ولا سيما ممن ورَثَ النبوة كابرًا عن كابر، وقد وَرد في "الصحيحين" مرفوعًا: "ولو لبثت في السجن ما لبث يوسف لأجبت الدَّاعي"، وفي رواية أحمد: "لو كنت أنا لأسرعت الإجابة، وما ابتغَيْتُ العُذْرَ".
٢ - عِزَّة نفسه وصون كرامته، إذ لم يَرْضَ أن تكون التهمة بالباطل عالقةً به، فطلب إظهار براءته، وعفَّتِه عن أن يَزِنَ بريبة، أو تَحُومَ حول اسمه شائبة السوء.
٣ - أنه عَفَّ عن اتهام النسوة بالسوء، والتصريح بالطعن عليهن، حتى يتحقق الملك بنفسه، حِينَ ما يسألهن عن السبب في تقطيع الأيدي، ويعلمُ ذلك
(١) المراح.
(٢) المراغي.
438
منهن حينَ الإجابة.
٤ - أنه لم يذكر سيدَتَهُ معهن، وهي السبب في تلك الفتنة الشَّعواء وَفاءً لزوجها ورحمةً بها، وإنما اتَّهمها أولًا دِفاعًا عن نفسه، حين وَقَفَ موقفَ التهمة لدى سيدها، وبعد أن طَعنَتْ فيه. وقرأ (١) أبو حيوة، وأبو بكر، عن عاصم في رواية ﴿النُّسوة﴾ بضم النون وقرأت فرقة ﴿اللائي﴾ بالياء وكلاهما جمع التي.
ومعنى قوله: ﴿إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ﴾؛ أي: إنَّ اللهَ سبحانه وتعالى عَالِمُ بصنيعهنّ، وما احتَلْنَ في هذه الواقعة من الحِيل العظيمة؛ فلمَّا أبي يُوسُفُ أن يَخْرُجَ من السجن، قبل تبين الأمر رَجَعَ الرسول إلى المَلِكِ، فأخبره بما قال يوسف عليه السلام، فأمر الملك بإحضارهنَّ، وكانت زليخا معهن،
٥١ - فلما حَضَرْنَ ﴿قَالَ﴾ الملك لهن ﴿مَا خَطْبُكُنَّ﴾؛ أي: ما شأنكن وأمركن ﴿إِذْ رَاوَدْتُنَّ﴾ وطالبتن ﴿يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ﴾ والخطب: الشَّأْنُ (٢) العظيم الذي يقع فيه التخاطب، إما لغرابته، وإما لإنكاره، ومنه قولُه تعالى حكايةً عن إبراهيم عليه السلام: ﴿قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (٥٧)﴾، وعن موسى عليه السلام: ﴿فَمَا خَطْبُكَ يَا سَامِرِيُّ﴾. وإنما (٣) خاطَبَ الملكُ جميعَ النسوة بهذا الخطاب، والمراد بذلك امرأةُ العزيز، وَحْدَها لِيَكُون أسْتَر لها. وقيل: إنَّ امرأة العزيز راودته عن نفسه، وَحْدَها وسَائِر النسوة أمَرْنَه بطاعتها، فلذلك خاطبهن بهذا الخطاب؛ أي: فلمَّا اجْتَمَعْنَ بأمره سألهن بقوله: ما خطبكن الذي حَمَلَكُنَّ على مراودته عن نفسه، هل كان عن ميل منه إليكن؟ وهل رأيتُنَّ منه مواتاة واستجابةً بعدها؟ وماذا كان السببُ في إلقائِهِ في السجن مع المجرمين؟ ﴿قُلْنَ﴾؛ أي: جماعةُ النسوة مجيبات للملك ﴿حَاشَ لِلَّهِ﴾؛ أي: مَعاذًا وتنزيهًا لله تعالى عن كلِّ ما لا يليقُ به. وأصله: حَاشَا بالألف فحُذِفَت للتخفيف، وهو في الأصل حَرفٌ وضِعَ هنا موضعَ المصدر؛ أي: التنزيه، و (اللام) لبيان من يبرأ، وينزَّهُ وقد سبقَ في هذه السورة، فهو تنزيه له
(١) البحر المحيط.
(٢) المراغي.
(٣) الخازن.
تعالى، وتعجب من قدرته على خَلْقٍ عَفيفٍ مِثله. ﴿مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ﴾؛ أي: خيانَةٍ في شيء من الأشياء؛ أي: تَنْزِيهًا لله سبحانه وتعالى، ما عَلِمْنَا على يوسف سوءًا، ولا ذَنْبًا يَشِينَهُ ويسوؤه لا قليلًا، ولا كثيرًا في شيء من الأشياء. ﴿قَالَتِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ﴾ زُليخَا ﴿الْآنَ﴾؛ أي: في هذا الوقت الحاضر ﴿حَصْحَصَ الْحَقُّ﴾؛ أي: ظَهَرَ، وتَبَيَّنَ أنه مع يوسف بعد أن كانَ خَفِيًّا؛ أي: إنَّ الحقَّ في هذه القضية كان في رَأْي مَنْ بَلَغهم موزَّع التبعة بيننا معشر النسوة، وبين يُوسُفَ لكل منَّا حِصَّة بقدر ما عرض فيها من شبهة، والآن قد ظَهَرَ الحق في جانب واحد، لا خَفَاءَ فيه، وهُنَّ قد شَهِدْنَ بما علِمْنَ شهادة نَفْي، وها أنا ذَا أشهد على نفْسِي شهادةَ إيجاب بقولي: ﴿أَنَا رَاوَدْتُهُ﴾ وطلبته ﴿عَنْ نَفْسِهِ﴾ لا أنَّه راودني بل اسْتَعْصَمَ، وأعرض عني ﴿وَإِنَّهُ﴾؛ أي: وإنَّ يوسف ﴿لَمِنَ الصَّادِقِينَ﴾ في قوله: حين افتريت عليه ﴿هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي﴾.
وإنَّما أقرَّت زُليخَا واعترفت بذنبها، وشَهِدَتْ ببراءة يوسف من الذنب، مُكَافأةً ليوسف على فعله، حيثُ تَرَكَ ذِكْرَهَا، وقال: ما بال النسوة اللَّاتي قَطَّعْنَ أيديهن، مع أنَّ الفِتَنَ كُلَّها إنما نشأت من جهَتِها، وقد عَرَفَتْ أنَّ ذلك لرعاية حقها، ولتعظيمها، ولإخفاء الأمر عليها. وفي هذا الاعتراف شهادةٌ مُريحة من امرأة العزيز، ببراءة يوسف من كلِّ الذنوب، وطهارته من كلِّ العيوب.
٥٢ - ﴿ذَلِكَ﴾ الاعترافُ منّي بالحق له، والشهادة بالصدق الذي علِمْتُهُ منه ﴿لِيَعْلَمَ﴾ يوسف ﴿أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ﴾ عنه منذ سجن إلى الآن، فلم أَنَلْ من أمانته، أو أطْعَنَ في شَرَفِه، وعفَّتِه بالغيبة، بل صرَّحَت لأولئك النسوة بأني راودته عن نفسه، فاستعصم، وها أنا ذا أُقِر بهذا أمام الملك، ورجال دولته، وهو غائب عنَّا، وإن كنتُ قد قلت فيه ما قلت في حضرته، ثمَّ بالغت في تأكيد هذا القول فقالت ﴿و﴾ ليعلم يوسف ﴿أَنَّ اللَّهَ﴾ سبحانه وتعالى ﴿لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ﴾؛ أي: لا ينفذه، ولا يسدِّدُهُ بل يبطله، ويُزْهِقُهُ، وتكون عاقبته الفَضِيحَةُ، والنَّكال، ولقد كِدنا له، فصرف رَبّهُ عنه كيدنا، وسجَّنَّاه فبَرَّأه الله تعالى، وفَضَحَ مكرنا حتى شَهِدْنَا على أنفسنا في مثل هذا الحفل الرهيب، والمقام المنيف، ببراءته من كل
440
العيوب، وسلامته من كل سوء. وعلى الجملة فالتحقيقُ أسْفَرَ عن أنَّ يُوسُفَ كان مثلَ الكَمال الإنساني في عفته ونزاهته، لم يمسسه سوء من فتنة أولئك النسوة، وأنَّ امرأة العزيز أقرَّتْ في خَاتِمَةِ المطاف بذنبها في مجلس الملك، إيثارًا للحق، وإثباتًا لبراءة يُوسُفَ عليه السلام.
تنبيه: واختلفَ المفسِّرون في قوله تعالى: ﴿ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ﴾ إلى قوله: ﴿وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي﴾ على قولين (١):
أحدهما: أنه من قول المرأة، وهو الظاهر كما جَرَيْنا عليه في حَلِّنا سابقًا. ووجه هذا القول: أنَّ هذا كلام متَّصِلٌ بما قبله، وهو قول المرأة: ﴿الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ﴾، ثم قالت: ﴿ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ﴾ إلخ. والمعنى عليه (٢): كما تقدَّم ذلك الإقرار، والاعتراف بالحق، ليعلم يوسُفُ أنّي لم أخنه في غيبته، وهو في السجن، ولم أكذب عليه بذنب، وهو بريء منه، بل قلت: أنا راودته عن نفسه، ثم اعتذرت عمَّا وقعت فيه، ممَّا يقع فيه البشرُ من الشهوات بقولها: ﴿وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي﴾. والنفوسُ مائِلةٌ إلى الشهوات، أمَّارةٌ بالسوء. وقال الزمخشري: ﴿وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي﴾ مع ذلك من الخيانة، فإني قَدْ خنته حين قذفته وقلتُ: ﴿مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ﴾ تريد الاعتذارَ لما كان منها؛ بأنَّ كل نفس لأمارة بالسوء إلّا نفسًا رَحِمَها الله تعالى بالعصمة، إنَّ ربي غفورٌ رحيمٌ، استغفرت ربَّها واسْتَرْحَمْتُهُ ممَّا ارتَكَبْت.
والقول الثاني: أنه من كلام يُوسُفَ عليه السلام اتصلَ بقول امرأة العزيز: أنا راودتُه عن نفسه من غير تمييز بين الكلامين لمعرفة السامعين، لذلك مع غموض فيه؛ لأنه ذَكَرَ كلامَ إنسان، ثمَّ أتْبَعَه بكلام إنسان آخر، من غير فصل بين الكلامين.
وقال الفراء: ولا يبعد وصْلُ كلام إنسان بكلام إنسان آخر إذا دلَّتِ القرينة
(١) الخازن.
(٢) البحر المحيط.
441
الفارقة لكل منهما إلى ما يليق به. ونظيرُ هذا قوله تعالى: ﴿قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ (١٠٩) يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ﴾ هذا من قول الملأ: ﴿فَمَاذَا تَأْمُرُونَ﴾ هذا من قول فرعون. ومثله قوله تعالى: ﴿وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً﴾ هذا من كلام بلقيس ﴿وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ﴾ من قوله عَزَّ وَجَلَّ تصديقًا لقولها.
ومعنى الآية على هذا القول ﴿ذَلِكَ﴾؛ أي: طَلَب (١) البراءة أو ذلك التثبتُ، والتَّشَمُّرُ لظهور البراءة ﴿لِيَعْلَمَ﴾ أي العزيز ﴿أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ﴾ في حرمه؛ لأنَّ المعصية خيانة ﴿بِالْغَيْبِ﴾؛ أي: بظهر الغيب، وهو حال من الفاعل؛ أي: لم أخنْهُ، وأنا غائِبٌ عنه خفي على عينه، أو من المفعول؛ أي: وهو غائب عني خفي عن عيني، أو ظرف؛ أي: بمكان الغيب؛ أي: وراءَ الأستار والأبواب المغلَقة. ﴿وَأَنَّ اللَّهَ﴾؛ أي: وليعلم العزيز أنَّ الله سبحانه وتعالى ﴿لَا يَهْدِي﴾ ولا ينفذ، ولا يسدِّد، ولا يتمِّم ﴿كَيْدَ الْخَائِنِينَ﴾ بل يبطله، ويزهقه كما لم يسدد كَيْدَ امرأته، حتى أقرت بخيانة أمانة زوجها، وسُمِّي فعل الخائن كيدًا؛ لأنَّ شأنَه أنْ يُفْعَلَ بطريق الاحتيال، والتلبيس، فمعنى هداية الكيد، إتمامُه وجعله مؤدِّيًا إلى ما قُصِدَ به. وفيه تعريض، بامرأة العزيز في خِيَانَتِها أمانَتَهُ، وبنفس العزيز في خيانة أمانة الله تعالى حين ساعدها على حبسِ يوسف بعدما رأوا آيات نَزَاهَتِه. ويجوز أن يكون ذلك لتأكيد أمانته، وأنه لو كان خائنًا.. لمَا هَدَى الله أمره وأحسن عاقِبَتَهُ. وفيه إشارة إلى أنَّ الله سبحانه وتعالى يُوصِلُ عبادَه الصَّادِقين بعد الغمِّ إلى السرور، ويُخرِجُهم من الظلمات إلى النور. وفي (٢) الآية دلالة على أنَّ الخيانة من الصفات الذميمة، كما أنَّ الأمانَةَ من الخصال المحمودة. ثمَّ أراد (٣) يُوسُفُ أن يَتَوَاضَعَ لله، ويهضم نفسه لئلا يكون مُزَكِّيِّا لها، ولحالها في الأمانة مُعْجِبًا، وليبيِّنَ أنَّ ما فيه من الأَمانةِ ليس به وحده، وإنما هو بتوفيق الله، ولُطْفِهِ، وعصمته فقال: ﴿وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي﴾ من الزلل، وما أشهدُ لها بالبراءة بالكلية، ولا أزكِّيها ﴿إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي﴾ بالعصمةِ ﴿إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾.
(١) روح البيان.
(٢) روح البيان.
(٣) البحر المحيط.
442
وعلى هذا القول الأخير: اختلفوا (١) أيْنَ كان يُوسُفُ حين قال هذه المقالة على قولين؛ أحدهما: أنَّه كان في السجن، وذلك أنَّه لمّا رَجَعَ إليه رسولُ الملك، وهو في السجن، وأَخْبره بجواب امرأة العزيز، للْمَلِك حينئذ قال: ﴿ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ﴾، وهذه رواية أبي صالح عن ابن عباس، وبه قال ابن جريج. والقولُ الثاني: أنه قال هذه المقالَةَ عند حضوره عند الملك، وهذه روايةُ عطاء عن ابن عباس، رضي الله عنهما، والله أعلم.
الإعراب
﴿وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا وَقَالَ الْآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (٣٦)﴾.
﴿وَدَخَلَ﴾ ﴿الواو﴾ عاطفة. (دخل) فعل ماض. ﴿مَعَهُ﴾ ظرف، ومضاف إليه متعلق به. ﴿السِّجْنَ﴾ منصوب على الظرفية متعلق به. ﴿فَتَيَانِ﴾ فاعل مرفوع بالألف، والجملة معطوفة على محذوف، تقديره: فسجنوه، ودَخَل معه السجن. ﴿قَالَ أَحَدُهُمَا﴾ فعل وفاعل، والجملةُ مستأنفة استئنافًا بيانيًّا. ﴿إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا﴾ مقول محكي لـ ﴿قَالَ﴾ وإن شئتَ قلت: ﴿إِنِّي﴾ ناصب واسمه. ﴿أَرَانِي﴾ فعل ومفعول أول ونون وقاية وفاعله ضمير يعود على أحدهما. ﴿أَعْصِرُ خَمْرًا﴾ فعل ومفعول وفاعله ضمير يعود على أحدهما، وجملة ﴿أَعْصِرُ﴾ في محل النصب مفعول ثاني لـ ﴿أَرَى﴾ الحلمية، وجملة ﴿أَرَانِي﴾ في محل الرفع خبر (إن)، وجملة (إن) في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾. ﴿وَقَالَ الْآخَرُ﴾ فعل وفاعل، معطوف على قال الأول. ﴿إِنِّي﴾ ناصب واسمه. ﴿أَرَانِي﴾ فعل ومفعول أول و (نون) وقاية وفاعله ضمير يعود على الآخر. ﴿أَحْمِلُ﴾ فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على الآخر. ﴿فَوْقَ رَأْسِي﴾ ظرف، ومضاف إليه متعلق بـ ﴿أَحْمِلُ﴾. ﴿خُبْزًا﴾ مفعول لـ ﴿أَحْمِلُ﴾. ﴿تَأْكُلُ الطَّيْرُ﴾ فعل وفاعل. ﴿مِنْهُ﴾ متعلق به، وجملة
(١) الخازن.
443
﴿تَأْكُلُ﴾ صفة لـ ﴿خُبْزًا﴾، ولكنّها صفةٌ سببية، وجملة ﴿أَحْمِلُ﴾ في محل النصب مفعول ثان لـ ﴿أَرَانِي﴾، وجملة ﴿أَرَانِي﴾ في محل الرفع خبر ﴿إِنِّي﴾، وجملة ﴿إِنِّي﴾ في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾. ﴿نَبِّئْنَا﴾ فعل ومفعول وفاعله ضمير يعود على يوسف. ﴿بِتَأْوِيلِهِ﴾ متعلِّق به، والجملة مستأنفة. ﴿إِنَّا﴾ ناصب واسمه. ﴿نَرَاكَ﴾ فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على الفتيين. ﴿مِنَ الْمُحْسِنِينَ﴾ جار ومجرور في محل النصب مفعول ثان، أو حال من (الكاف)، وجملة ﴿نَرَاكَ﴾ في محل الرفع خَبر (إنَّ)، وجملة (إنَّ) مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها.
﴿قَالَ لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (٣٧)﴾.
﴿قَالَ﴾ فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على يوسف، والجملة مستأنفة. ﴿لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ﴾ إلى قوله: ﴿وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ﴾ مقول محكي لـ ﴿قَالَ﴾، وإن شئت قلتَ: ﴿لا﴾ نافية. ﴿يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ﴾ فعل ومفعول وفاعل، والجملة في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾. ﴿تُرْزَقَانِهِ﴾ فعل ونائب فاعل ومفعول، والجملة في محل الرفع صفة لـ ﴿طَعَامٌ﴾. ﴿إلا﴾ أداة استثناء مفرغ من أعم الأحوال. ﴿نَبَّأْتُكُمَا﴾ فعل وفاعل ومفعول. ﴿بِتَأْوِيلِهِ﴾ متعلِّق به، والجملة في محل الجر بإضافة المستثنى المحذوف، والتقدير: لا يأتيكما طعام ترزقانه في حال من الأحوال إلا في حال تنبئني إياكما بتأويله. ﴿قَبْلَ﴾ منصوب على الظرفية. ﴿أَنْ يَأْتِيَكُمَا﴾ ناصب وفعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على الطعام، والجملةُ في تأويل مصدر مجرور بإضافة الظرف إليه، تقديره: قبل إتيانه إياكما، والظرفُ متعلق بـ ﴿نَبَّأْتُكُمَا﴾. ﴿ذَلِكُمَا﴾ مبتدأ. ﴿مِمَّا﴾ جار ومجرور خبرُ المبتدأ، والجملة مستأنفة. ﴿عَلَّمَنِي رَبِّي﴾ فعل ومفعول أول، وفاعل، والمفعول الثاني محذوف تقديره: مما علَّمنِيه ربي، والجملة صلةٌ لـ (ما) أو صفةٌ لها، والعائد، أو الرابطُ الضمير المحذوف. ﴿إِنِّي﴾ ناصب واسمه. ﴿تَرَكْتُ﴾ فعل وفاعل. ﴿مِلَّةَ قَوْمٍ﴾ مفعول، ومضاف إليه، وجملةُ ﴿تَرَكْتُ﴾ في محل الرفع خبر (إن)، وجملة (إنَّ) مستأنفة على كونها مقولَ ﴿قَالَ﴾. ﴿لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ﴾ فعل وفاعل. ﴿بِاللَّهِ﴾ متعلق به والجملة في محل الجر
444
صفة لـ ﴿قَوْمٍ﴾. ﴿وَهُمْ﴾ مبتدأ. ﴿بِالْآخِرَةِ﴾ متعلق بـ ﴿كَافِرُونَ﴾. ﴿هُمْ﴾ الثاني تأكيد للأول. ﴿كَافِرُونَ﴾ خبر المبتدأ، والجملة الاسمية في محل الجر معطوفة على جملة ﴿لَا يُؤْمِنُونَ﴾ على كونها صفةً لـ ﴿قَوْمٍ﴾.
﴿وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ﴾.
﴿وَاتَّبَعْتُ﴾ فعل وفاعل. ﴿مِلَّةَ آبَائِي﴾ مفعول به، ومضاف إليه، والجملة الفعلية في محل الرفع معطوفة على جملة ﴿تَرَكْتُ﴾ على كونها خبرًا لـ (إن). ﴿إِبْرَاهِيمَ﴾ بدل من ﴿آبَائِي﴾ بدل تفصيل من مجمل مجرور بالفتحة. ﴿وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ﴾ معطوفان على ﴿إِبْرَاهِيمَ﴾. ﴿مَا﴾ نافية. ﴿كَانَ﴾ فعل ماض ناقص. ﴿لَنَا﴾ خبرها مقدم على اسمها. ﴿أَنْ نُشْرِكَ﴾ ناصب وفعل، وفاعله ضمير يعود على يوسف. ﴿بِاللَّهِ﴾ متعلق بـ ﴿نُشْرِكَ﴾. ﴿مِنْ شَيْءٍ﴾ مفعول ﴿نُشْرِكَ﴾ و (من) زائدة، وجملة ﴿نُشْرِكَ﴾ في تأويل مصدر مرفوع على كونه اسم ﴿كَانَ﴾ والتقدير: ما كان إشراكُنَا بالله شيئًا كائنًا لنا، والجملة مستأنفة على كونها مقولًا لـ ﴿قَالَ﴾.
﴿ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ﴾.
﴿ذَلِكَ﴾ مبتدأ. ﴿مِنْ فَضْلِ اللَّهِ﴾ خبر المبتدأ، والجملة مستأنفة على كونها مقولًا لـ ﴿قَالَ﴾. ﴿عَلَيْنَا﴾ متعلق بـ ﴿فَضْلِ اللَّهِ﴾. ﴿وَعَلَى النَّاسِ﴾ معطوف على ﴿عَلَيْنَا﴾. ﴿وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ﴾ ناصب واسمه. وجملة ﴿لَا يَشْكُرُونَ﴾ خبر ﴿لكن﴾ والجملة معطوفة على جملة قوله: ﴿ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ﴾ على كونها مقولًا لـ ﴿قَالَ﴾.
﴿يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (٣٩)﴾.
﴿يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ﴾ منادى مضاف، وجملة النداء في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾، وهو من إضافة الوصف إلى الظرف؛ أي: يا صاحبين لي في السجن، أو من باب الإضافة إلى الشبيه بالمفعول، والمعنى: يا ساكني السجن. ﴿أَأَرْبَابٌ﴾ (الهمزة) للاستفهام التقريري. ﴿أرباب﴾ مبتدأ. ﴿مُتَفَرِّقُونَ﴾ صفة له، والجملة
445
في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾ على كونها جواب النداء ﴿خَيْرٌ أَمِ﴾ عاطفة متصلة. ﴿اللَّهُ﴾ معطوف على ﴿أرباب﴾. ﴿الْوَاحِدُ﴾ صفة أولى للجلالة. ﴿الْقَهَّارُ﴾ صفة ثانية له.
﴿مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (٤٠)﴾.
﴿مَا﴾ نافية. ﴿تَعْبُدُونَ﴾ فعل وفاعل. ﴿مِنْ دُونِهِ﴾ متعلق به، والمستثنى منه محذوف تقديره: ما تعبدون من دونه شيئًا. ﴿إِلَّا﴾ أداة استثناء. ﴿أَسْمَاءً﴾ منصوب على الاستثناء. ﴿سَمَّيْتُمُوهَا﴾ فعل وفاعل ومفعول أول. ﴿أَنْتُمْ﴾ تأكيد لتاء المخاطبين، ليُعْطَفَ عليه ما بعده. ﴿وَآبَاؤُكُمْ﴾ معطوف على (تاء) الفاعل والمفعول الثاني لـ ﴿سميتم﴾ محذوف تقديره: سميتموها آلهةً، وجملة ﴿سَمَّى﴾ في محل النصب صفة لـ ﴿أسماء﴾. ﴿مَا أَنْزَلَ اللَّهُ﴾ (ما) نافية. ﴿أَنْزَلَ اللَّهُ﴾ فعل وفاعل، والجملة في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾. ﴿بِهَا﴾ متعلق بـ ﴿أَنْزَلَ﴾. ﴿مِنْ سُلْطَانٍ﴾ مفعول ﴿أَنْزَلَ﴾ و ﴿من﴾ زائدة. ﴿إِنِ الْحُكْمُ﴾ ﴿إن﴾ نافية. ﴿الْحُكْمُ﴾ مبتدأ. ﴿إلا﴾ أداة استثناء مفرغ. ﴿لِلَّهِ﴾ جار ومجرور خبر المبتدأ، والجملة في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾. ﴿أَمَرَ﴾ فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة مستأنفة على كَوْنِها مقول ﴿قَالَ﴾. ﴿أَلَّا تَعْبُدُوا﴾ ﴿أن﴾ حرف نصب ومصدر. ﴿لا﴾ نافية. ﴿تَعْبُدُوا﴾ فعل وفاعل منصوب بـ (أن). ﴿إِلَّا﴾ أداة استثناء مفرغ. ﴿إِيَّاهُ﴾ ضمير نصب منفصل في محل النصب مفعول ﴿تَعْبُدُوا﴾، وجملة ﴿تَعْبُدُوا﴾ في تأويل مصدر مجرور بحرف جر محذوف تقديره: أمَرَ بعدم عِبَادَتِكم إلَّا إياه. ﴿ذَلِكَ﴾ مبتدأ. ﴿الدِّينُ﴾ خبره. ﴿الْقَيِّمُ﴾ صفة لـ ﴿الدِّينُ﴾، والجملة في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾. ﴿وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ﴾ ناصب، واسمه. وجملة ﴿لَا يَعْلَمُونَ﴾ في محل الرفع خبر ﴿لكن﴾، وجملة ﴿لكن﴾ في محل النصب معطوفة على الجملة التي قبلها.
﴿يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا﴾.
446
﴿يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ﴾ منادى مضاف، وجملة النداء في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾. ﴿أَمَّا﴾ حرف شرط وتفصيل. ﴿أَحَدُكُمَا﴾ مبتدأ، ومضاف إليه. ﴿فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا﴾ فعل ومفعولان، و (الفاء) رابطة لجواب ﴿أما﴾ واقعة في غير موضعها، وفاعله ضمير يعود على الأحد. والجملة الفعلية في محل الرفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية جواب ﴿أما﴾ لا محلَّ لها من الإعراب، وجملة ﴿أما﴾ في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾ على كونها مستأنفة استئنافًا بيانيًّا.
﴿وَأَمَّا الْآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ﴾.
﴿وَأَمَّا﴾ ﴿الواو﴾ عاطفة. ﴿أما﴾ حرف شرط. ﴿الْآخَرُ﴾ مبتدأ. ﴿فَيُصْلَبُ﴾ (الفاء) رابطة لجواب ﴿أما﴾. ﴿يصلب﴾ فعل مضارع مغيَّر الصيغة ونائب فاعله ضمير يعود على ﴿الآخر﴾ والجملة الفعلية في محل الرفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية جواب ﴿أما﴾، وجملة ﴿أما﴾ معطوفة على جملة ﴿أما﴾ الأولى. ﴿فَتَأْكُلُ﴾ (الفاء) عاطفة. ﴿تأكل الطير﴾ فعل وفاعل. ﴿مِنْ رَأْسِهِ﴾ متعلق به، والجملة الفعلية في محل الرفع معطوفة على جملة (يصلب). ﴿قُضِيَ الْأَمْرُ﴾ فعل ونائب فاعل، والجملة في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾. ﴿الَّذِي﴾ في محل الرفع صفة لـ ﴿الأمر﴾. ﴿فِيهِ﴾ متعلق بما بعده. ﴿تَسْتَفْتِيَانِ﴾ فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول، والعائد ضمير فيه.
﴿وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ (٤٢)﴾.
﴿وَقَالَ﴾ ﴿الواو﴾ عاطفة. ﴿قال﴾ فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على يوسف، والجملة معطوفة على جملة قوله: ﴿قَالَ لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ﴾. ﴿لِلَّذِي﴾ جار ومجرور متعلق بـ ﴿قَالَ﴾. ﴿ظَنَّ﴾ فعل ماض ناسخ، وفاعله ضمير يعود على الموصول والجملة صلة الموصول. ﴿أَنَّهُ نَاجٍ﴾ ناصب واسمه وخبره. ﴿مِنْهُمَا﴾ جار ومجرور حال من الضمير المستتر في ﴿نَاجٍ﴾؛ أي: حَالَة الناجي من جملة الاثنين، وجملة (أن) في تأويل مصدر سَادٍّ مسدَّ مفعولي ﴿ظَنَّ﴾ تقديره:
447
وقال للذي ظن نجاته حَالَةَ كونه منهما. ﴿اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ﴾ مقول محكي لـ ﴿قَالَ﴾، وإن شئت قلت: ﴿اذْكُرْنِي﴾ فعل ومفعول و (نون) وقاية وفاعله ضمير يعود على ﴿الناجي﴾. ﴿عِنْدَ رَبِّكَ﴾ متعلق به، والجملة الفعلية في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾. ﴿فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ﴾ (الفاء) عاطفة. ﴿أنساه الشيطان﴾ فعل ومفعول أول وفاعل. ﴿ذِكْرَ رَبِّهِ﴾ مفعول ثان، ومضاف إليه، والجملة معطوفة على جملة ﴿قَالَ﴾. ﴿فَلَبِثَ﴾ (الفاء) عاطفة. ﴿لبث﴾ فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على يوسف. ﴿فِي السِّجْنِ﴾ متعلق بـ ﴿لبث﴾ والجملة معطوفة على جملة ﴿أنساه﴾. ﴿بِضْعَ﴾ منصوب على الظرفية الزمانية متعلق بـ ﴿لبث﴾ بضع مضاف. ﴿سِنِينَ﴾ مضاف إليه.
﴿وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ﴾.
﴿وَقَالَ الْمَلِكُ﴾ فعل وفاعل، والجملة مستأنفة. ﴿إِنِّي أَرَى﴾ إلى قوله: ﴿قَالُوا﴾ مقول محكي، وإن شئت قلت: ﴿إِنِّي﴾ ناصب واسمه. ﴿أَرَى﴾ فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على الملك. ﴿سَبْعَ بَقَرَاتٍ﴾ مفعول به، ومضاف إليه. ﴿سِمَانٍ﴾ صفة لـ ﴿بَقَرَاتٍ﴾. ﴿يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ﴾ فعل ومفعول وفاعل. ﴿عِجَافٌ﴾ صفة لـ ﴿سَبْع﴾ وجملة ﴿يَأْكُلُهُنَّ﴾ في محل النصب مفعول ثان لـ ﴿أَرَى﴾ وجملة ﴿أَرَى﴾ في محل الرفع خبر (إن)، وجملة (إن) في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾. ﴿وَسَبْعَ سُنْبُلَاتٍ﴾ معطوف على ﴿سَبْعَ بَقَرَاتٍ﴾. ﴿خُضْرٍ﴾ صفة لـ ﴿سُنْبُلَاتٍ﴾. ﴿وَأُخَرَ﴾ معطوف على ﴿سَبْعَ﴾ لا على ﴿سُنْبُلَاتٍ﴾ ويكون، قد حُذِفَ اسمُ العدد من قوله: ﴿وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ﴾ والتقدير: وسبعًا آخر، وإنما حذفَ لأن التقسيم في البقرات يقتضي التقسيم في السنبلات، اهـ "سمين". ﴿يَابِسَاتٍ﴾ صفة لـ ﴿أُخر﴾.
﴿يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ﴾.
﴿يا﴾ حرف نداء. ﴿أي﴾ منادى نكرة مقصودة. ﴿ها﴾ حرف تنبيه زائد. ﴿الْمَلَأُ﴾ صفة لـ ﴿أي﴾ وجملة النداء في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾. ﴿أَفْتُونِي﴾
448
فعل وفاعل ومفعول، و (نون) وقاية. ﴿فِي رُؤْيَايَ﴾ جار ومجرور، ومضاف إليه، متعلق به، والجملة الفعلية في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾ على كونِها جوابَ النداء. ﴿إن﴾ حرف شرط. ﴿كُنْتُمْ﴾ فعل ناقص، واسمه في محل الجزم بـ (إن) الشرطية على كونه فعلَ شرط لها. ﴿لِلرُّؤْيَا﴾ (اللام) زائدة في المفعول. ﴿الرؤيا﴾ مفعول مقدم لـ ﴿تَعْبُرُونَ﴾. ﴿تَعْبُرُونَ﴾ فعل وفاعل، والجملة الفعلية في محل النصب خبر ﴿كان﴾، وجواب ﴿إن﴾ الشرطية محذوفٌ معلوم ممَّا قبله تقديره: إن كنتم تعبرون الرؤيا، فأفتوني في رؤياي، وجملة ﴿إن﴾ الشرطية في محلَّ النصب مقول ﴿قال﴾.
﴿قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلَامِ بِعَالِمِينَ (٤٤)﴾.
﴿قَالُوا﴾ فعل وفاعل، والجملة مستأنفة. ﴿أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ﴾ إلى قوله: ﴿وَقَالَ الَّذِي نَجَا﴾ مقول محكي، لـ ﴿قَالُوا﴾، وإن شئتَ قلت: ﴿أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ﴾ خبر لمبتدأ محذوف تقديره: هذه أضغاث أحلام، والجملة الاسمية في محل النصب مقول ﴿قَالُوا﴾. ﴿وَمَا﴾ ﴿الواو﴾ عاطفة. ﴿ما﴾ نافية حجازية، أو تميمية. ﴿نَحْنُ﴾ اسمها أو مبتدأ. ﴿بِتَأْوِيلِ الْأَحْلَامِ﴾ جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بما بعده. ﴿بِعَالِمِينَ﴾ خبر ﴿ما﴾ الحجازية أو خبر المبتدأ و ﴿الباء﴾ زائدة، والجملة الاسمية في محل النصب معطوفة على جملة قوله: ﴿أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ﴾ على كونها مقول ﴿قَالُوا﴾.
﴿وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ (٤٥)﴾.
﴿وَقَالَ الَّذِي﴾ فعل وفاعل، والجملة معطوفة على جملة ﴿قَالُوا﴾. ﴿نَجَا﴾ فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على الموصول، والجملة صلة الموصول. ﴿مِنْهُمَا﴾ جار ومجرور حال من فاعل ﴿نَجَا﴾. ﴿وَادَّكَرَ﴾ ﴿الواو﴾ واو الحال. ﴿ادكر﴾ فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على ﴿الَّذِي نَجَا﴾. ﴿بَعْدَ أُمَّةٍ﴾ ظرف، ومضاف إليه متعلق بـ ﴿ادكر﴾، والجملة في محل النصب حال من فاعل ﴿نَجَا﴾. ﴿أَنَا أُنَبِّئُكُمْ﴾ إلى قوله: ﴿تَزْرَعُونَ﴾ مقول محكي لـ ﴿قَالَ﴾، وإن شئت قلت:
449
﴿أَنَا﴾ مبتدأ. ﴿أُنَبِّئُكُمْ﴾ فعل ومفعول أول، وفاعله ضمير يعود على ﴿الَّذِي نَجَا﴾. ﴿بِتَأْوِيلِهِ﴾ مفعول ثان، و (الباء) زائدة، والجملة الفعلية في محل الرفع خَبر المبتدأ، والجملة الاسمية في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾. ﴿فَأَرْسِلُونِ﴾ (الفاء) عاطفة. (أرسلوا) فعل أمر مبني على حذف النون، و ﴿الواو﴾ فاعل، والنون للوقاية و (ياء) المتكلم المحذوفة اجتزاء عنها بكسرة (نون) الوقاية في محل النصب مفعول به، والجملة في محل النصب معطوفة على جملة ﴿أَنَا أُنَبِّئُكُمْ﴾.
﴿يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ﴾.
﴿يُوسُفُ﴾ منادى مفرد العلم حذف منه حرف النداء، وجملة النداء في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾. ﴿أَيُّهَا﴾ منادى نكرة مقصودة حذفت منه حرف النداء للتخفيف. ﴿الصِّدِّيقُ﴾ صفة لـ ﴿أي﴾ وجملة النداء في محل النصب مقول ﴿قال﴾. ﴿أَفْتِنَا﴾ فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على يوسف، والجملة في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾ على كونها جَوابَ النداء. ﴿فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ﴾ جار ومجرور، ومضاف إليه، متعلق بـ ﴿أَفْتِنَا﴾. ﴿سِمَانٍ﴾ صفة لـ ﴿بَقَرَاتٍ﴾. ﴿يَأْكُلُهُنَّ﴾ فعل ومفعول. ﴿سَبْعٌ﴾ فاعل. ﴿عِجَافٌ﴾ صفة لـ ﴿سَبْعٌ﴾، والجملة الفعلية في محل الجر صفة لـ ﴿سَبْعٌ﴾، ولكنها سببية، أو في محل النصب حال من ﴿سَبْعٌ﴾. ﴿وَسَبْعِ سُنْبُلَاتٍ﴾ معطوف على ﴿سَبْعِ بَقَرَاتٍ﴾. ﴿خُضْرٍ﴾ صفة لـ ﴿سَبْعِ﴾. ﴿وَأُخَرَ﴾ معطوف على ﴿سَبْعِ﴾ على كونه صفة لمحذوف تقديره: وسبعًا أخر مجرور بالفتحة للوصفية، والعدل؛ لأنه معدول عن الآخَر. ﴿يَابِسَاتٍ﴾ صفة لـ ﴿أُخر﴾. ﴿لَعَلِّي﴾ ناصب واسمه. ﴿أَرْجِعُ﴾ فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على ﴿الَّذِي نَجَا﴾. ﴿إِلَى النَّاسِ﴾ متعلق به، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر ﴿لَعَلِّي﴾ وجملة ﴿لعل﴾ في محل النصب مقول ﴿قال﴾ على كونها مسوقة لتعليل قوله ﴿أَفْتِنَا﴾. ﴿لَعَلَّهُمْ﴾ ناصب واسمه، وجملة ﴿يَعْلَمُونَ﴾ خبره، وجملة ﴿لعلَّ﴾ في محل النصب مقول ﴿قال﴾ على كونها مسوقة لتعليل الترجي قبلها.
450
﴿قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تَأْكُلُونَ (٤٧)﴾.
﴿قَالَ﴾ فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على يوسف، والجملة مستأنفة. ﴿تَزْرَعُونَ﴾ إلى قوله: ﴿وَقَالَ الْمَلِكُ﴾ مقول محكي، وإن شئت قلت: ﴿تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ﴾ فعل، وفاعل، ومفعول، والجملة في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾. ﴿دَأَبًا﴾ مصدر واقع موقع الصفة، فهو صفة لـ ﴿سَبْعَ سِنِينَ﴾؛ أي: سبع سنين متواليةً متتابعة، أو واقع موقِع الحال، فهو حال من (واو) ﴿تَزْرَعُونَ﴾؛ أي: حَالَة كونكم متدائبين؛ أي: مستمرين في الزراعة في تلك السبع. ﴿فَمَا حَصَدْتُمْ﴾ (الفاء) فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا عرفتم أنَّكم تزرعون سَبْعَ سنين، وأرَدْتُم بَيَانَ ما تفعلون بالمحصود من الزرع، فأقول لكم: ﴿ما حصدتم﴾. ﴿مَا﴾ اسم شرط في محل الرفع مبتدأ، والخبر جملة الشرط، أو الجواب أو هما على الخلاف المذكور في محله. ﴿حَصَدْتُمْ﴾ فعل، وفاعل في محل الجزم بما، والرابط محذوف تقديره: فما حصدتموه. ﴿فَذَرُوهُ﴾ ﴿الفاء﴾ رابطة الجواب. ﴿ذروه﴾ فعل وفاعل، ومفعول في محل الجزم على كونه جواب الشرط. ﴿فِي سُنْبُلِهِ﴾ متعلق به، وجملة ﴿ما﴾ الشرطية في محل النصب مقول لجواب ﴿إذا﴾ المقدرة، وجملة إذا المقدرة في محل النصب مقول ﴿قال﴾. ﴿إلا﴾ أداة استثناء. ﴿قَلِيلًا﴾ منصوب على الاستثناء. ﴿مِمَّا﴾ جار ومجرور صفة لـ ﴿قَلِيلًا﴾. ﴿تَأْكُلُونَ﴾ فعل وفاعل صلة لـ (ما)، أو صفة لها، والعائد، أو الرابط محذوف، تقديره: مما تأكلونه.
﴿ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تُحْصِنُونَ (٤٨)﴾.
﴿ثُمَّ﴾ حرف عطف. ﴿يَأْتِي﴾ فعل مضارع. ﴿مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ﴾ متعلق بـ ﴿يَأْتِي﴾. ﴿سَبْعٌ﴾ فاعل. ﴿شِدَادٌ﴾ صفة أولى له. ﴿يَأْكُلْنَ﴾ فعل وفاعل، والجملة صفة ثانية لـ ﴿سَبْعٌ﴾ ولكنها صفة سببية، وجملة ﴿يَأْتِي﴾ في محل النصب معطوفة على جملة ﴿تَزْرَعُونَ﴾ على كونها مقول ﴿قَالَ﴾. ﴿مَا﴾ موصولة أو موصوفة في محل النصب مفعول ﴿يَأْكُلْنَ﴾. ﴿قَدَّمْتُمْ﴾ فعل وفاعل. ﴿لَهُنَّ﴾ متعلق به، والجملة صلة لـ ﴿ما﴾
451
أو صفة لها، والعائد، أو الرابط محذوف تقديره: ما قدمتموه لهن. ﴿إلا﴾ أداة استثناء. ﴿قَلِيلًا﴾ منصوب على الاستثناء. ﴿مِمَّا﴾ جار ومجرور صفة لـ ﴿قَلِيلًا﴾. ﴿تُحْصِنُونَ﴾ فعل وفاعل صلة لـ ﴿ما﴾ أو صفة لها، والعائد، أو الرابط محذوف تقديره: تحصنونه.
﴿ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ (٤٩)﴾.
﴿ثُمَّ﴾ حرف عطف. ﴿يَأْتِي﴾ فعل مضارع. ﴿مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ﴾ متعلق به. ﴿عَامٌ﴾ فاعل، والجملة في محل النصب معطوفة على جملة ﴿ثُمَّ يَأْتِي﴾ الأول. ﴿فِيهِ﴾ متعلق بـ ﴿يُغَاثُ﴾. ﴿يُغَاثُ النَّاسُ﴾ فعل ونائب فاعل، والجملة في محل الرفع صفة لـ ﴿عَامٌ﴾. ﴿وَفِيهِ﴾ متعلق بـ ﴿يَعْصِرُونَ﴾. وجملة ﴿يَعْصِرُونَ﴾ في محل الرفع معطوفة على جملة ﴿يُغَاثُ﴾.
﴿وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جَاءَهُ الرَّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ (٥٠)﴾.
﴿وَقَالَ الْمَلِكُ﴾ فعل، وفاعل معطوف على محذوف تقديره: فلما رجع الساقي إلى الملك، وأخبره بما ذكره يوسف استحسنه الملك، وقال: ائتوني به، كما مرَّ في مبحث التفسير. ﴿ائْتُونِي بِهِ﴾ مقول محكي، وإن شئت قلت: ﴿ائتوني﴾ فعل وفاعل، ومفعول. ﴿بِهِ﴾ متعلق به، والجملة في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾. ﴿فَلَمَّا﴾ ﴿الفاء﴾ عاطفة. ﴿لما﴾ حرف شرط غير جازم. ﴿جَاءَهُ الرَّسُولُ﴾ فعل ومفعول، وفاعل، والجملة فعل شرط لـ ﴿لَمَّا﴾. ﴿قَالَ﴾ فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على يوسف، والجملة جواب ﴿لما﴾، وجملة ﴿لما﴾ معطوفة على محذوف تقديره: فرجع الرسول إلى يوسف من عند الملك ليخرجه من السجن، فلما جاءه الرسول، قال يوسف: ارجع إلى ربك. ﴿ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ﴾ إلى قوله: ﴿قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ﴾ مقول محكي، وإن شئت قلت: ﴿ارْجِعْ﴾ فعل أمر، وفاعله ضمير يعود على الرسول، والجملة في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾. ﴿إِلَى رَبِّكَ﴾ متعلق به. ﴿فَاسْأَلْهُ﴾ ﴿الفاء﴾ عاطفة. ﴿اسأله﴾ فعل ومفعول أول، وفاعله ضمير يعود على الرسول، والجملة في محل النصب معطوفة على جملة
452
﴿ارْجِعْ﴾. ﴿مَا بَالُ النِّسْوَةِ﴾ ﴿ما﴾ اسم استفهام في محل الرفع مبتدأ. ﴿بَالُ النِّسْوَةِ﴾ خبر، ومضاف إليه، والجملة الاسمية في محل النصب سادة مسد المفعول الثاني لـ ﴿سأل﴾. ﴿اللَّاتِي﴾ صفة لـ ﴿النسوة﴾. ﴿قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ﴾ فعل وفاعل ومفعول، والجملة صلة الموصول. ﴿إِنَّ رَبِّي﴾ ناصب واسمه. ﴿بِكَيْدِهِنَّ﴾ متعلق بـ ﴿عَلِيمٌ﴾. ﴿عَلِيمٌ﴾ خبر (إن)، وجملة (إن) في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾ على كونها مسوقة لتعليل ما قبلها.
﴿قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ قَالَتِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (٥١) ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ (٥٢)﴾.
﴿قَالَ﴾ فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على الملك، والجملة مستأنفة. ﴿مَا خَطْبُكُنَّ﴾ إلى قوله: ﴿قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ﴾ مقول محكي، لـ ﴿قَالَ﴾، وإن شئت قلت: ﴿ما﴾ اسم استفهام للاستفهام الاستخباري في محل الرفع مبتدأ. ﴿خَطْبُكُنَّ﴾ خبره، والجملة في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾. ﴿إِذْ﴾ ظرف لما مضى من الزمان في محل النصب على الظرفية متعلق بـ ﴿خَطْبُكُنَّ﴾ لأنه في معنى الفعل إذ المعنى ما فعلتن، وما أردتن به في ذلك الوقت، اهـ "سمين". ﴿رَاوَدْتُنَّ يُوسُفَ﴾ فعل وفاعل ومفعول. ﴿عَنْ نَفْسِهِ﴾ متعلق بـ ﴿رَاوَدْتُنَّ﴾، والجملة الفعلية في محل الجر، مضاف إليه لـ ﴿إذ﴾. ﴿قُلْنَ﴾ فعل، وفاعل، والجملة مستأنفة. ﴿حَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ﴾ مقول محكي لـ ﴿قُلْنَ﴾ وإن شئت قلت ﴿حَاشَ﴾ فعل ماض بمعنى بَعُدَ مبني بفتحة مقدرة على الألف المحذوفة، للتخفيف لكثرة الاستعمال، وفاعله ضمير يعود على يوسف. ﴿لِلَّهِ﴾ جار ومجرور متعلق به، ولكنه على حذف مضاف، والتقدير: حاش يوسف عن المعصية لطاعة الله تعالى وخوفه كما ذكره أبو البقاء، والجملة في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾. ﴿مَا﴾ نافية. ﴿عَلِمْنَا﴾ فعل وفاعل ﴿عَلَيْهِ﴾ متعلق به. ﴿مِنْ﴾ زائدة. ﴿سُوءٍ﴾ مفعول به؛ لأن علم هنا بمعنى عرف، والجملة الفعلية في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾. ﴿قَالَتِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ﴾ فعل وفاعل، ومضاف إليه، والجملة مستأنفة. ﴿الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ﴾
453
إلى قوله: ﴿وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ﴾ مقول محكي لـ ﴿قَالَ﴾، وإن شئت قلت: ﴿الْآنَ﴾ ظرف للزمان الحاضر في محل النصب على الظرفية، متعلق بـ ﴿حَصْحَصَ﴾. ﴿حَصْحَصَ الْحَقُّ﴾ فعل، وفاعل، والجملة في محل النصب مقول ﴿قَالَتِ﴾. ﴿أَنَا﴾ مبتدأ. ﴿رَاوَدْتُهُ﴾ فعل وفاعل ومفعول. ﴿عَنْ نَفْسِهِ﴾ متعلق به، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية في محل النصب مقول ﴿قَالَتِ﴾. ﴿وَإِنَّهُ﴾ ﴿الواو﴾ عاطفة. ﴿إنه﴾ ناصب واسمه. ﴿لَمِنَ﴾ ﴿اللام﴾ حرف ابتداء. ﴿مِنَ الصَّادِقِينَ﴾ جار ومجرور خبر ﴿إن﴾ والجملة الاسمية في محل النصب معطوفة على الجملة الاسمية المذكورة قبلها. ﴿ذَلِكَ﴾ مبتدأ. ﴿لِيَعْلَمَ﴾ ﴿اللام﴾ حرف جر وتعليل. ﴿يعلم﴾ فعل مضارع منصوب بأن مضمرة جوازًا بعد لام كي، وفاعله ضمير يعود على يوسف على القول، بأنه من كلام زليخا، وهو الظاهر من السياق، أو يعود على العزيز إن قلنا: إنه من كلام يوسف، وفيه تكلف ظاهر كما مرت الإشارة إليه، في مبحث التفسير. والجملة الفعلية مع أن المضمرة في تأويل مصدر مجرور باللام، تقديره: لعلم يوسف أني لم أخنه بالغيب الجار والمجرور متعلق بمحذوف خبر المبتدأ، ذلك الاعتراف كائن مني لكي يعلم يوسف أني لم أخنه بالغيب. ﴿أَنِّي﴾ ناصب واسمه. ﴿لَمْ أَخُنْهُ﴾ جازم وفعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على زليخا، والجملة في محل الرفع خبر (أن) وجملة (أن) في تأويل مصدر ساد مسد مفعولي ﴿علم﴾ تقديره: ذلك ليعلم يوسف عدم خيانتي إياه في الغيب. ﴿بِالْغَيْبِ﴾ جار ومجرور إما حال من فاعل ﴿أَخُنْهُ﴾ تقديره: حَالَةَ كوني غَائِبًا عن عينيه أو من المفعول تقديره: حَالَةَ كونه غَائِبًا عن عيني، ويجوز أن تكون (الباء) ظرفية متعلقة بـ ﴿أَخُنْهُ﴾؛ أي: لم أخنه في مكان الغيب، ذكره "السمين". ﴿وَأَنَّ اللَّهَ﴾ ناصب واسمه. ﴿لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ﴾ فعل ومفعول، ومضاف إليه، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة في محل الرفع خبر ﴿أن﴾، وجملة ﴿أن﴾ معطوفة على جملة ﴿أن﴾ المذكورة قبلها على كونها في تأويل مصدر ساد مسد مفعولي ﴿علم﴾ تقديره: ذلك الاعتراف ﴿لِيَعْلَمَ﴾ يوسف عدمَ خيانتي إياه، في الغيب، وعدم هداية الله تعالى كَيدَ الخائنين؛ أي: عَدَمَ إتمامه لهم مرادَهم من الكيد والمكر.
454
التصريف ومفردات اللغة
﴿وَدَخَلَ مَعَهُ﴾؛ أي: في صحبته؛ أي: صَاحَبَاهُ في الدخول فَدَخَلَ الثلاثةُ في وقت واحد. ﴿فَتَيَانِ﴾ تثنية فتى قلبت ألفه ياء في التثنية، لكونها أصله؛ لأنه من فتِيَ بوزن رَضِيَ بمعنى شَبَّ، وذلك يدل على أنهما عبدان للملك الأكبر. ويحتمل أن يكون الفتى اسمًا للخادم، وإن لم يكن مملوكًا. ﴿إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا﴾؛ أي: عِنبًا فسمَّاه باسم ما يؤول إليه لكونه المقصود. ﴿خُبْزًا﴾ الخُبْزُ معروف، وجمعه خبز ومعانيه خبَّازٌ. ﴿الطَّيْرُ﴾ اسم جنس مفرده الطائر. ﴿نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ﴾؛ أي: أَخبرنا بتأويل ما قصصناه عليك من مجموع المرئيين، أو بتأويل المذكور لك من كلامنا. ﴿مِنَ الْمُحْسِنِينَ﴾؛ أي: من العالمين بتعبير الرؤيا، والإحسان هنا: بمعنى العلم. وكذا قال الفراء: إن مَعْنَى ﴿مِنَ الْمُحْسِنِينَ﴾ من العالمين الذين أحسنوا العِلْمَ. وقال ابن إسحاق: من المحسنين إلينا، إن فسرت ذلك، أو من المحسنين إلى أهل السجن. ﴿إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ﴾ التَّرْكُ هنا عبارةٌ عن عدم التلبُّس بالشيء من أول الأمر، وعدم الالتفات إليه بالكلية، اهـ "خازن". ﴿يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ﴾؛ أي: مُصَاحبين للسجن لطول مقامهما فيه. وقيل: المرادُ يا صاحبي في السجن؛ لأن السِّجْنَ ليس بمصحوب، بل مصحوب فيه، وأنَّ ذلك من باب يا سارق الليلة، وعلى الأول من باب قوله: ﴿أَصْحَابُ الْجَنَّةِ﴾، ﴿أَصْحَابَ النَّارِ﴾. ﴿أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ﴾؛ أي: من أجناس مختلفة من حيوان، أو جماد، كذهب، وفضة، وحديد، وخشب، وحجارة.
﴿فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ﴾ السجن: المَحْبَسُ. والبضع: ما بين الثلاث إلى التسع، قاله قتادة. وقال مجاهد: من الثلاثة إلى السبعة. وقال أبو عبيدة: البضع لا يبلغ العقد، وإنما هو من الواحد إلى العشرة. وقال الفراء: ولا يُذْكَر البِضع إلا مع العشرات، ولا يُذْكَر مع مئة ولا ألف. ﴿سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ﴾ جمع سمينة، ويُجمع سَمِينٌ أيضًا عليه يقال: رِجالٌ سِمَانٌ كما يقال: نساء كرام، ورجال كرام. والسِّمَنَ مصدر سَمِن، يَسْمَنُ من باب فَرِح فهو سمين، فالمصدر واسم الفاعل جاءا على غير قياس، إذ قياسُهُما سَمْنًا بالفتح، فهو سَمِنٌ نحو: فَرِحَ فَرَحًا فهو فَرِح. وفي "المصباح": سَمِنَ يسمن من باب تَعِبَ، وفي لغة: من
455
باب قتل إذا كَثُر لَحْمُهُ وشَحْمُه، ويتعدى بالهمزة والتضعيف. ﴿عِجَافٌ﴾ جمع عجفاء جمعًا سماعِيًّا، والقياسُ عُجْف كحمراء وحُمْر على حد قول ابن مالك:
فُعْلٌ لِنَحْوِ أحْمَرٍ وَحَمْرَا
لكنه حُمِل على سمان، لأنه نَقِيضُه كما ذكره "البيضاوي". والعجفاء: المهزولة جِدًّا. ﴿إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ﴾ عبَر الرؤيا إذا فَسَّرها من باب نصر، ينصر، ويستعمل أيضًا بالتشديد، كعلَّم يعلِّم تَعْلِيمًا، اهـ شيخنا؛ أي: إن كنتم عَالِمين بعبارة الرؤيا، وهي الانتقالُ من الصور الخيالية إلى المعاني النفسانية التي هي مثالُها من العبور، وهو المجاوزة، وعبرت الرؤيا عبارة أثبت من عبرتها بالتشديد تعبيرًا، واللام للبيان أو لتقوية العامل، اهـ "بيضاوي". وفي "السمين": وحقيقةُ عَبَرْتُ الرؤيا ذَكَرْتُ عَاقِبَتَها وآخِرَ أمرها كما تقول: عَبرت النهر إذا قطعته حتى تبلغ أخر عرضه، اهـ. وفي "المصباح": عبرت النهر عَبْرًا من باب قتل، وعُبُورًا أيضًا إذا قطعته إلى الجانب الآخر، وعَبَرْت الرؤيا عَبْرًا أيضًا، وعبارةً إذا فسرتها، وبالتثقيل مبالغةً، وفي التنزيل: ﴿إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ﴾ اهـ. ﴿أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ﴾؛ أي: هي تخاليط المنامات الباطلة التي لا معنَى لها جمع ضغث، وأصله: ما جمِعَ وحُزِم من أخلاط النبات، كالحزمة من الحشيش، فاستعير للرؤيا الكاذبة، والأحلام: جمع حلم، وهي الرؤيا الكاذبة التي لا حقيقة لها، والإضافةُ على معنى منْ؛ أي: هي أضغاث من أحلام أخرجوها من جنس الرؤيا التي لها عاقبة تؤولُ إليها، والأضغاث: جمع ضِغْثٍ بكسر الضاد، وهو ما جمع من النبات، سواءٌ كان جنسًا واحدًا أو أجناسًا مختلطة، وهو أصغر من الحزمة وأكبر من القبضة.
﴿وَادَّكَرَ﴾ أصله: إذْتَكَرَ بوزن افْتَعَلَ من الدَّكر فوقعت تاء الافتعال بعد الذال، فأبدلت دالًا، فاجتمع متقاربان، فأبدل الأولُ من جنس الثاني، وأدغم، وكذا الحكمُ في (مدّكر) كما سيأتي في صورته إن شاء الله تعالى. ﴿بَعْدَ أُمَّةٍ﴾ بضم الهمزة، وتشديد الميم، وتاء منونة، وهيَ المدة الطويلة. وقرأ ابنُ عبَّاسٍ وغيره: (بعد أَمَهٍ) بفتح الهمزة وتخفيف الميم، وهاء منونةٌ والأَمهُ: هو النسيان يقال: أمَهَ يأْمَهُ أَمَهًا، وأَمْهًا، والسكونُ غيرُ مقيس، والمعنى: ﴿بَعْدَ أُمَّةٍ﴾؛ أي: بعد حين، وهو سنتان، أو سبع، أو تسع، وسمِّي الحين من الزمان، أمة لأنه
456
جماعة أيّامٍ؛ والأمَّةُ: الجماعة، اهـ "خازن".
﴿دَأَبًا﴾ قرأ حفص بفتح الهمزة والباقون بسكونها، وهما لغتان في مصدر دَأَبَ يَدْأَبُ؛ أي: دَاومَ على الشيء ولازمه، وهذا كما قالوا: ضَأَنَ وضَأْن ومعَز ومعْز، بفتح العين وسكونها، وأصل معنى الدأب التعب، ويُكنى به عن العادة المستمرة، لأنها تنشأ عن مداومة العمل اللازم له التعبُ، اهـ "شهاب". ﴿فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ﴾ وفي "المصباح": وسُنبُل بضم الفاء والعين، الواحدة سُنْبلةً، والسبل مثله، الواحدة سَبَلَة، مثل قَصَب وقَصَبَة، وسَنْبَل الزرع أخرج سُنْبُلَهُ وأسبل أخرج سبله، اهـ.
﴿عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ﴾ من الغيث على أنَّ الألف منقلبة عن ياءٍ، أو من الغوث على أنها منقلبة عن واو. والغيث مصدر غاث الله البلادَ يغيثها غيثًا، إذا أنزل بها الغيثَ، وهو المطر، والغوث الفرجُ، وزوالُ الهم، والكرب، وعلى هذا يكون فعله رُباعِيًّا يقال: استغاثَ اللهَ، فأغاثه؛ أي: أنْقَذَه من الكرب الذي هو فيه، كالحقط، اهـ "زاده". وفي "السمين": قوله: يغاث الناس، يجوز أن تَكُونَ الألف عن واو، وأن تكونَ عن ياء إمَّا من الغَوْثِ، وهو: الفَرَجُ، وفعلُه رباعي، يقال: أغاثنا الله من الغيث، اهـ. وفي "المصباح" أغاثه إغاثةً إذا أَعانَهُ، ونَصَره، فهو مُغِيث والغوث اسم منه، واستغاث به فأَغَاثَه، وأَغاثهم الله برحمته، كَشَفَ شدتَهم، وأغاثَنا المطر من ذلك فهو مغيث، وأغاثنا الله بالمَطر، والاسم الغِيَاث بالكسر، اهـ. وفيه أيضًا: الغَيْثُ المطرُ وغاث الله البلاد غَيثًا من باب ضَرب، أنزلَ بها الغيثَ، ويبنى للمفعول: فيقال: غِيثتِ الأرضُ تُغاثُ، وغاث الغيث الأرض غيثًا، من باب ضرَبَ نزل بها. وسمى النَّبَات غَيْثًا تسمية باسم السبب، ويقال: رعينا الغيثَ، اهـ. ﴿وَفِيهِ يَعْصِرُونَ﴾ بكسر الصاد من باب ضرب كما في "المصباح" و"القاموس".
﴿مَا خَطْبُكُنَّ﴾ والخطب الأمر والشأن الذي فيه خطر، وهو في الأصل مصدر خطب يخْطُب، وإنما يُخْطَبُ في الأمور العظام، اهـ "سمين". وفي "المختار": الخَطْبُ: الأمر، تقول: ما خَطْبُك. قال الأزهري: أي: ما أمْرُكَ، وتقول: هذا خطب جليل، وخَطْبُ يسير، وجمعه خُطُوب، اهـ. ﴿الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ﴾؛ أي: ظَهَرَ ووضح، وتبيَّنَ بعد خفاء، قاله الخليل. قال بعضهم: هو
457
مأخوذ من الحصة، والمعنى: بانَتْ حصة الحق من حصة الباطل، كما تتميز حصحص الأراضي وغيرها. وقيل بمعنى: ثَبَتَ واستَقَرَّ. وقال الراغب: حَصْحَصَ الحق، وذلك بانكشاف ما يغمِزُه وحص، وحصحص، نحو: كف، وكَفْكَفَ وحصه قَطَعَه إما بالمباشرة، وإما بالحكم، والحصة القطعة من الجملة، وتُسْتَعمل استعمالَ النصيب، اهـ "سمين". ﴿لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ﴾؛ أي: لا ينفذه، ولا يُمضيه، ولا يسدِّده، أو لا يهدي الخائنين بكيدهم فأوقع الفعلَ على الكَيْدِ مبالغةٌ، اهـ "بيضاوي".
البلاغة
وقد تضمنت هذه الآيات أنواعًا من البلاغة، وضروبًا من الفصاحة والبيان والبديع:
فمنها: المجاز المرسل في قوله: ﴿إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا﴾ لأنه أطْلَقَ الخمر على العنب، باعتبار ما يؤول إليه، كما يطلق الشيء على الشيء، باعتبار ما كان كقوله تعالى: ﴿وءاتُواْ الْيَتامَي﴾.
ومنها: التعبير بالمضارع في قوله: ﴿إِنِّي أَرَانِي﴾ في الموضعين حكايةً للحال الماضية، وحق العبارة أن يقال: إني رأيتني، وكذا قول الملك: ﴿إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ﴾ فيه حكايةٌ للحال الماضية، وحق العبارة أن يقال: إني رأيتُ.
ومنها: الطّباق بين قوله: ﴿سِمَانٍ﴾، وقوله: ﴿عِجَافٌ﴾، وبين قوله: ﴿خُضْرٍ﴾، وقوله: ﴿يَابِسَاتٍ﴾.
ومنها: الاستعارة التصريحية في قوله: ﴿أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ﴾ فإنَّها من أبلغِ الاستعارة وألْطفها، فإن الأضغاثَ حقيقةُ في المختلط من الحشيش المضموم بعضه إلى بعض، فشبَّه اختِلاطَ الأحلام، وما فيها من المحبوب، والمكروه، والخير، والشر باختلاط الحشيش المجموع من أصناف كثيرةٍ.
ومنها: براعة الاستهلال في قوله: ﴿يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ﴾ حيث قدَّم الثناء قبل السؤال، طَمَعًا في إجابة مطلبه.
ومنها: المجاز العقلي في قوله: ﴿يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ﴾ لأن السِّنينَ لا تأكل،
458
وإنما يأكل الناسُ ما إدخروه فيها، فهو من باب الإسناد إلى الزمان كقول الفصحاء نهار الزاهد صائم، وليلُه قائم.
ومنها: التأكيد في قوله: ﴿وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ﴾، وفي قوله: ﴿سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ﴾.
ومنها: الحصر في قوله: ﴿إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ﴾ وفي غير ذلك.
ومنها: الإظهار في موضع الإضمار في قوله: ﴿اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ﴾، وفي قوله: ﴿إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ﴾.
ومنها: المجاز في قوله: ﴿وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ﴾؛ لأن هدايةَ الكيد مجاز عن تنفيذه، وإمضائه، أو المراد لا يَهْدِي الخَائِنين بسبب كيدِهم، فأوقع الهدايةَ المنفيةَ على الكيد، وهي واقعة عليهم تجوزًا للمبالغة؛ لأنه إذا لم يهد السببُ علمَ منه عدم هداية مسببه بالطريق الأولى، اهـ "شهاب".
ومنها: الزيادة والحذفُ في عدة مواضع (١).
والله سبحانه وتعالى أعلم بمراد كلامه
* * *
_________
(١) إلى هنا تَمَّ ما أردنا إيرادَهُ من تفسير الجزء الثاني عشر من القرآن الكريم، وكان الفراغُ من تأليفه ليلةَ الخميس المباركة، الخامس عشر من ربيع الأول، الشهر الثالث من شهور سنة إحدى عشرة وأربع مئة وألف من الهجرة النبوية، على صاحبها أفضل الصلاة، وأزكَى التحية، والحمد لله في هدانا لهذا، وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله، وأسأل الله الإعانةَ على الكمال والتمام، وأن يُضَاعِفَ لنا البركةَ في أعمارنا إلى تمامه، ونشره بين المسلمين، إنه على ذلك قدير، وبالإجابة جدير، والحمد لله أولًا وآخرًا، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرا دائمًا إلى يوم الدين.
تمَّ المجلد الثالث عشر من تفسير حدائق الروح والريحان في روابي علوم القرآن في تاريخ ١٥/ ٣/ ١٤١١ هـ ويليه المجلد الرابع عشر وأوّلُه قوله تعالى: ﴿وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي﴾ الآية.
459
شعرٌ
وَقُلْ بِذُلٍّ رَبِّ لا تَقْطَعْنِي عَنْكَ بقَاطِعٍ وَلاَ تحْرِمْنِي
منْ سِرِّكَ الأبْهَى الْمُزِيلِ لِلْعَمَى وَاخْتِمْ بِخَيْرٍ يَا رحِيْمَ الرُّحَمَا
آخرُ
460
تفسير حدائق الروح والريحان في روابي علوم القرآن
تأليف
الشيخ العلامة محمد الأمين بن عبد الله الأرمي العلوي الهرري الشافعي
المدرس بدار الحديث الخيرية في مكة المكرمة
إشراف ومراجعة
الدكتور هاشم محمد علي بن حسين مهدي
خبير الدراسات برابطة العالم الإسلامي - مكة المكرمة
«المجلد الرابع عشر»
حقوق الطبع محفوظة للناشر
الطبعة الأولى
١٤٢١ هـ - ٢٠٠١ م
دار طوق النجاة
بيروت - لبنان
2
تفسير حدائق الروح والريحان في روابي علوم القرآن
[١٤]
3

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

4

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

الحمد لله الذي أنزل القرآن موعظة وشفاء لما في الصدور، وجعله منهلًا عذبًا للورود والصدور، جمع فيه علوم الأولين والآخرين، فلا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين، والصلاة والسلام على من أوحي إليه ذلك القرآن، من لوح الوجوب والأمر والشأن، سيدنا محمد الذي أجرى من مسجله ما يحاكي السلسبيل والرحيق، وأفحم ببلاغته كل متكلم منطيق، وفسر الآيات في الأنفس والآفاق على مراد الله الملك الخلاق، وعلى آله وأصحابه المقتبسين من مشكاة أنواره، المغترفين من بحار أسراره، ومن تبعهم بإحسان ممن تخلق بالقرآن في كل زمان.
أما بعد: فيقول العبد المعترف بذنبه وخطأه المنادي لربه في عفوه وعطاه، الراجي في إسبال سجاف الندى عليه، المناجي في إرسال رسول الهدى إليه، حفظه الله سبحانه وأخلاءه، وأعاذه وإياهم من الشيطان الرجيم، وجعل يومه خيرًا من أمسه إلى الإياس من حياة نفسه، سميُّ محمد الأمين الهرري:
إني لما فرغت من تفسير الجزء الثاني عشر من القرآن الكريم.. عزمت - إن شاء الله سبحانه وتعالى - على الشروع في تفسير الجزء الثالث عشر، وإن كان علم التفسير لا يقحم في معاركه كل ذمير وإن كان أسدًا، ولا يحمل لواءه كل أمير وإن مات حسدًا، وذلك أظهر من أن يورد عليه دليل كالنيرين لغير كليل. ومع خطر هذا الأمر، فالأمد قصير وفي العبد تقصير، وكم ترى من نحرير كامل في التحرير والتقرير قد أصابه سهم القضاء قبل بلوغ الأمل، وذلك بحلول ريب المنون والأجل، أو بتطاول يد الزمان، فإن الدنيا لا تصفو لشارب وإن كانت ماء
5
الحيوان، وأي وجود لا ينسج عليه عناكب العاهات؟ وأي نعيم لا يكدره الدهر؟ هيهات.
اللَّهم كما عودتني في الأول خيرًا كثيرًا، فيسر لي الأمر في الآخر تيسيرًا، واجعل رقيمي هذا سببًا لبياض الوجه كما تبيض وجوه أولئك، وامح مسودات صحائف أعمالي بحق كتابك الكريم، واجعل قراري في جنات النعيم، ولم أكن بدعائك رب شقيًّا بكرةً وعشيًّا ما دمت حيًّا، فلك الحمد في الأولى والأخرى على عنايتك الكبرى، وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين.
والله أعلم
* * *
6
قال الله سبحانه جلَّ وعلا:
﴿وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (٥٣) وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ (٥٤) قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ (٥٥) وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ وَلَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (٥٦) وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (٥٧) وَجَاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (٥٨) وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ قَالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ أَلَا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ (٥٩) فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلَا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلَا تَقْرَبُونِ (٦٠) قَالُوا سَنُرَاوِدُ عَنْهُ أَبَاهُ وَإِنَّا لَفَاعِلُونَ (٦١) وَقَالَ لِفِتْيَانِهِ اجْعَلُوا بِضَاعَتَهُمْ فِي رِحَالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَهَا إِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (٦٢) فَلَمَّا رَجَعُوا إِلَى أَبِيهِمْ قَالُوا يَا أَبَانَا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ فَأَرْسِلْ مَعَنَا أَخَانَا نَكْتَلْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (٦٣) قَالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلَّا كَمَا أَمِنْتُكُمْ عَلَى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (٦٤) وَلَمَّا فَتَحُوا مَتَاعَهُمْ وَجَدُوا بِضَاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ قَالُوا يَا أَبَانَا مَا نَبْغِي هَذِهِ بِضَاعَتُنَا رُدَّتْ إِلَيْنَا وَنَمِيرُ أَهْلَنَا وَنَحْفَظُ أَخَانَا وَنَزْدَادُ كَيْلَ بَعِيرٍ ذَلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ (٦٥) قَالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلَّا أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قَالَ اللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ (٦٦) وَقَالَ يَا بَنِيَّ لَا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَمَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (٦٧) وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ مَا كَانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا حَاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِمَا عَلَّمْنَاهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (٦٨)﴾.
المناسبة
قوله تعالى: ﴿وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي...﴾ الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها: أنها من تتمة إقرار امرأة العزيز، كما اختاره أبو حيان في "البحر"، ويؤيده عطفه على ما قبله، وقد جُعِلَت أول الجزء الثالث عشر؛ لأن تقسيم القرآن إلى الأجزاء الثلاثين قد لوحظ فيه مقادير الكلم العددي دون المعاني.
7
قوله تعالى: ﴿وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ...﴾ الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها: أنه بعد (١) انتهاء التحقيق في أمر النسوة، وظهور براءة يوسف عليه السلام من كل سوء.. طلب الملك إحضاره إليه من السجن بعد أن وفي له بما اشترط لمجيئه، فلما جاءه وسمع كلامه.. فهم من فحوى حديثه، ومن أمانته على مال العزيز وعرضه وحسن تصرفه، ومن سيرته الحسنة في السجن، ومن علمه وفهمه في تأويله للرؤيا، ومن حرصه على إظهار شرفه وكرامته في مسألة النسوة ما دل على أنه أهل لأن يرفع إلى أعلى المراتب، ويولى أسمى المناصب، وذلك هو ما فعله الملك لحصافة رأيه وبصره بأقدار الرجال، ولم يصرفه عن ذلك كونه غريبًا أو فقيرًا أو مملوكًا كما تشير إلى ذلك الآيتان.
قوله تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ...﴾ الآيتين، مناسبتهما لما قبلهما: أنه سبحانه وتعالى لما (٢) ذكر إجابة الملك له بأنه أصبح لديه مكينًا أمينًا، وطلب يوسف منه أن يجعله على خزائن الأرض يصرفها بحسب ما يرى من التدبير والنظام والدراية والإحكام.. ذكر هنا أنه أجابه إلى مطلبه، وجعله وزيرًا في دولته يتصرف في شؤونها لحسن تدبيره وثاقب رأيه، وذلك جارٍ على سنن الله في خلقه، فلن ينال الرياسات العليا والمناصب الرفيعة إلا من يؤتيه الله من المواهب ما يجعله قادرًا على ضبط الأعمال، وإقامة النظام، وحسن السياسة والكياسة في تصريف الأمور.
قوله تعالى ﴿وَجَاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ...﴾ الآيات، جاء (٣) في سفر التكوين من التوراة أن يوسف عليه السلام حين وَلِي الوزارة.. طفق يعد العدة، ويأخذ الأهبة لتنفيذ التدابير التي يقي بها البلاد من خطر المجاعة التي جاءت في تأويل رؤياه للملك، وكان من ذلك أن بنى الأهراء العظيمة، وخزن فيها الحبوب التي استكثر منها مدة سنين الخصب السبع الأولى، فلما جاءت السبع الشداد، وعم القحط مصر وغيرها من الأقطار القريبة منها، ولا سيما
(١) المراغي.
(٢) المراغي.
(٣) المراغي.
8
أقربها إليها، وهي فلسطين من بلاد الشام، واشتهر لدى أهلها ما فعله يوسف في مصر من حسن التدبير حتى كثرت فيها الغلال، وأصبح يبيع ما زاد على حاجة أهلها للأقطار المجاورة لها.. أمر يعقوب عليه السلام أولاده أن يرحلوا إلى مصر، ويأخذوا معهم ما يوجد في بلادهم من بضاعة ونقد فضة، ويشتروا به قمحًا؛ لأن المجاعة أوشكت أن تقضي عليهم، فنفذوا ما أراد، وكان بينهم وبين يوسف عليه السلام ما قصه الله سبحانه وتعالى علينا في كتابه الكريم.
التفسير وأوجه القراءة
٥٣ - وقوله: ﴿وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي...﴾ الآية. إن كان من كلام زليخا كما هو الراجح والظاهر من السياق... فمعناه أي: وما أبرىء نفسي ولا أنزهها عن السوء، ولا أشهد لها بالبراءة الكلية بدعوى عدم خيانتي إياه بالغيب بعد أن وجهت إليه اقتراف الذنب، وقلت: ﴿مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ وأودعته السجن، وعرف الناس خاصتهم وعامتهم ذلك، وكأنها بذلك تريد التنصل مما كان. ﴿إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ﴾؛ أي: إن (١) جنس النفس البشرية لكثيرة الأمر بعمل السوء؛ لما فيها من دواعي الشهوات الجسمية، والأهواء النفسية بما ركب فيها من القوى والآلات لتحصيل اللذات، وما يوسوس الشيطان ويزينه لها من النزغات، ومن ذلك أن حرضت زوجي على سجن يوسف، وقد كان ذلك مما يسوؤه، فالعفيف النزيه لا يرضى أن يزن بالريبة كما يسوء زوجي؛ إذ لا يرضى أن يكون عرضة مضغة للأفواه، وحديث الناس في أنديتهم وأسمارهم ﴿إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي﴾؛ أي: إلا نفسًا رحمها ربي وعصمها، فصرف عنها السوء والفحشاء بعصمته كنفس يوسف عليه السلام.
ثم عللت ما سلف بقولها: ﴿إِنَّ رَبِّي﴾ هو سبحانه وتعالى ﴿غَفُورٌ﴾؛ أي: عظيم المغفرة وكثيرها، فيغفر ما يعتري النفوس البشرية بمقتضى طباعها؛ إذ ركب فيها الشهوات الجسمية، والأهواء النفسية ﴿رَحِيمٌ﴾؛ أي: مبالغ في الرحمة لها
(١) المراغي.
9
بعصمتها من الجريان بمقتضى ذلك.
وعلى القول بأنه من كلام يوسف عليه السلام، فمعنى ﴿وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي﴾؛ أي: (١) لا أنزهها عن السوء، ولا أشهد لها بالبراءة الكلية. قاله تواضعًا لله تعالى، وهضمًا لنفسه الكريمة، لا تزكية لها وعجبًا بحاله في الأمانة، ومن هذا القبيل قوله عليه السلام: "أنا سيد ولد آدم ولا فخر" أو تحدثًا بنعمة الله تعالى عليه في توفيقه وعصمته؛ أي: لا أنزهها عن السوء من حيث هي هي، ولا أسند هذه الفضيلة إليها بمقتضى طبعها من غير توفيق من الله تعالى. واللام في قوله: ﴿إِنَّ النَّفْسَ﴾ للجنس؛ أي: إن جنس النفوس التي من جملتها نفسي في حدّ ذاتها ﴿لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ﴾ تأمر بالقبائح والمعاصي؛ أي: لأنها أشد استلذاذًا بالباطل والشهوات، وأميل إلى أنواع المنكرات، ولولا ذلك.. لما صارت نفوس أكثر الخلق مسخرة لشهواتهم في استنباط الحيل؛ لقضاء الشهوات وما صدرت منها الشرور أكثر.
ومن ما هنا وجب القول بأن كل من كان أوفر عقلًا، وأجل قدرًا عند الله.. كان أبصر بعيوب نفسه، ومن كان أبصر بعيوبها.. كان أعظم اتهامًا لنفسه، وأقل إعجابًا. ﴿إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي﴾؛ أي: إلا نفسًا رحمها ربي من النفوس التي يعصمها من الوقوع في المهالك، ومن جملتها نفسي ونفوس سائر الأنبياء ونفوس الملائكة. أما الملائكة فإنه لم تركَّب فيهم الشهوة. وأما الأنبياء فهم وإن ركبت هي فيهم، لكنهم محفوظون بتأييد الله تعالى معصومون. فـ ﴿مَا﴾ موصولة بمعنى من، وفيه إشارة إلى أن النفس من حيث هي كالبهائم. والاستثناء من ﴿النَّفْسَ﴾، أو من الضمير المستتر في ﴿أمارة﴾ كأنه قيل: إن النفس لأمارة هي بالسوء إلا نفسًا رحمها ربي، فإنها لا تأمر بالسوء، أو بمعنى الوقت؛ أي: هي أمارة بالسوء في كل وقت إلا وقت رحمة ربي وعصمته لها، ودل على عموم الأوقات صيغة المبالغة في أمارة. يقال في اللغة: أمرت النفس بشيء فهي آمرة، وإذا أكثرت
(١) روح البيان.
10
الأمر فهي أمارة ﴿إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ﴾ للهمّ الذي هممت به ﴿رَحِيمٌ﴾ لمن تاب إليه.
وقد قيل (١): إن هذا من قول العزيز، وهو بعيد جدًّا، ومعناه: وما أبريء نفسي من سوء الظن بيوسف، والمساعدة على حبسه بعد أن علمت ببراءته.
٥٤ - ﴿وَقَالَ الْمَلِكُ﴾ الريان بن الوليد بعد ما وفي ليوسف ما طلب من سؤال النسوة: ﴿ائْتُونِي بِهِ﴾؛ أي: بيوسف؛ أي: أحضروه إليّ من السجن ﴿أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي﴾؛ أي: أجعله خالصًا لنفسي دون غيري، وقد كان قبل ذلك خالصًا للعزيز. والاستخلاص: طلب خلوص الشيء من شوائب الشركة؛ أي: اجعله خالصًا لي وموضع ثقتي، فلا يشاركه أحد في إدارة ملكي، ولا تكون وساطة بينه وبيني، وقد جرت عادة الملوك أن يجعلوا الأشياء النفيسة خالصة لهم دون غيرهم.
فجاءه الرسول، فقال: ألق عنك ثياب السجن، والبس ثيابًا جددًا، وقم إلى الملك، فقام وودع أهل السجن، فدعا له أهل السجن، ودعا لهم، وقال في دعائه: اللهم عطف عليهم قلوب الأخيار، ولا تعم عنهم الأخبار، ثم اغتسل ولبس ثيابًا حسانًا، ولما خرج من السجن كتب على بابه: هذا بيت البلوى، وقبر الأحياء، وشماتة الأعداء، وتجربة الأصدقاء. فأتى الملك ودخل عليه فسلم عليه بالعربية، فقال له الملك: ما هذا اللسان؟ قال لسان عمي إسماعيل، ثم دعا له يوسف بالعبرانية، فقال له: وما هذا اللسان أيضًا؟ قال يوسف: هذا لسان آبائي. وكان الملك يتكلم بسبعين لسانًا، ولم يعرف هذين اللسانين، وكان كلما تكلم بلسان أجابه يوسف به، وزاد عليه بالعربية والعبرانية، فأعجب الملك أمره مع صغر سنه؛ إذ كان عمره يومئذ ثلاثين سنة. فقال: أيعلم هذا رؤياي ولم يعلمها السحرة والكهنة وأقعده قدامه، وقال: لا تخف، وألبسه طوقًا من ذهب، وثيابًا من حرير، وأعطاه دابة مسرجة مزينة كدابة الملك، وضرب الطبل بمصر أن يوسف خليفة الملك.
وقوله: ﴿فَلَمَّا كَلَّمَهُ﴾ مرتب على محذوف تقديره: فأتوه به، فلما كلمه؛
(١) الشوكاني.
أي: فلما كلم يوسف الملك، وشاهد منه الملك ما شاهد من الرشد والدهاء، وهو جودة الرأي ﴿قَالَ﴾ له الملك: ﴿إِنَّكَ﴾ أيها الصديق ﴿الْيَوْمَ لَدَيْنَا﴾؛ أي: عندنا وبحضرتنا ﴿مَكِينٌ﴾؛ أي: ذو مكانة سامية، ومنزلة رفيعة عالية ﴿أَمِينٌ﴾؛ أي: ذو أمانة تامة، فأنت غير منازع في تصرفك، ولا متهم في أمانتك، وأنت مؤتمن عندنا على كل شيء، واليوم (١) ليس بمعيار لمدة المكانة، بل هو آن التكلم. والمراد تحديد مبدئهما احترازًا عن احتمال كونهما بعد حين. وفي هذا إيماء (٢) إلى أن الحوار بين المتخاطبين يظهر معارف الإنسان وأخلاقه وآدابه وجميع شمائله، فيقدره من يعرف أقدار الرجال، ويزنهم بفضائلهم ومزاياهم. والظاهر أن الملك كلمه مشافهة بدون ترجمان؛ لأن يوسف كان قد عرف اللغة المصرية من العزيز وامرأته بمحادثته إياهما، ومن حاشية الوزير من حين قدم مصر، ومن محادثته صاحبيه في السجن.
وقد تكون اللغة التي كان يتكلم بها يوسف لغة جده إبراهيم وأولاده وحفدته، وكانوا من العرب القحطانيين، ثم تفرعت من هذه العربية الإسماعيلية، فالمصرية والعبرانية والسريانية. وكان ملوك مصر وكبراء حكامها في ذلك العهد من أولئك العرب، وهم الذين يسمون بالرعاة، ويقول المؤرخون: إن ملك مصر في ذلك العهد كان يسمى الوليد بن الريان.
فلما سمع يوسف من الملك قوله: ﴿إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ﴾.
٥٥ - ﴿قَالَ﴾: يوسف للملك ﴿اجْعَلْنِي﴾ أيها الملك واليًا ﴿عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ﴾ وأموالها التي تخزن وتدخر فيها؛ أي: ولني أمر الأرض التي أمرها إليك، وهي أرض مصر، أو اجعلني على حفظ خزائن الأرض. والخزائن: جمع خزانة، وهي اسم للمكان الذي تخزن فيه غلات الأرض ونحوها. طلب (٣) يوسف عليه السلام منه ذلك ليتوصل به إلى نشر العدل ورفع الظلم، ويتوسل به إلى دعاء أهل مصر إلى
(١) روح البيان.
(٢) المراغي.
(٣) الشوكاني.
12
الإيمان باللهِ وترك عبادة الأوثان. وفيه دليل على أنه يجوز لمن وثق من نفسه إذا دخل في أمر من أمور السلطان أن يرفع منار الحق، ويهدم ما أمكنه من الباطل طلب ذلك لنفسه، ويجوز له أن يصف نفسه بالأوصاف التي لها ترغيبًا فيما يرومه، وتنشيطًا لمن يخاطبه من الملوك بإلقاء مقاليد الأمور إليه، وجعلها منوطة به، ولكنه يعارض هذا الجواز ما ورد عن نبينا - ﷺ - من النهي عن طلب الولاية، والمنع من تولية من طلبها، أو حرص عليه.
وحاصل المعنى: فلما كلم الملك يوسف قال الملك في كلامه ليوسف: ﴿إنك اليوم لدينا مكين أمين﴾، فماذا (١) ترى أيها الصديق؟ ﴿قَالَ﴾ يوسف: أرى أن تزرع في هذه السنين المخصبة زرعًا كثيرًا، وتبني الخزائن، وتجمع فيها الطعام، فإذا جاءت السنون المجدبة.. بعنا الغلات، فيحصل بهذا الطريق مال عظيم، فقال الملك، ومن لي بهذا الشغل؟ فقال: ﴿اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ﴾؛ أي: ولني أمر خزائن أرض مصر ﴿إِنِّي حَفِيظٌ﴾ لما وليتني، ولجميع مصالح الناس ﴿عَلِيمٌ﴾ بوجوه التصرف في الأموال، وبجميع ألسن الغرباء الذين يأتونني. وقيل معنى ﴿حَفِيظٌ﴾: كاتب ﴿عَلِيمٌ﴾: حاسب.
والخلاصة: (٢) وَلِّني خزائن أرضك كلها، واجعلني مشرفًا عليها لأنقذ البلاد من مجاعة مقبلة عليها تهلك الحرث والنسل.
ثم ذكر سبب طلبه، فقال: ﴿إِنِّي حَفِيظٌ﴾؛ أي: شديد الحفظ لما يخزن فيها، فلا يضيع شيء منه، أو يوضع في غير موضعه ﴿عَلِيمٌ﴾ بوجوه تصريفه وحسن الانتفاع به. فإن قلت: كيف مدح يوسف عليه السلام نفسه بقوله: ﴿إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ﴾، والله تعالى يقول: ﴿فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ﴾.
قلت: إنما يكره تزكية النفس إذا قصد به الرجل التطاول والتفاخر والتوصل به إلى غير ما يحل، فهذا هو القدر المذموم في تزكية النفس. أما إذا قصد بتزكية النفس ومدحها إيصال الخير والنفع إلى الغير.. فلا يكره ذلك ولا يحرم، بل
(١) المراح.
(٢) المراغي.
13
يجب عليه ذلك. مثاله أن يكون بعض الناس عنده علم نافع ولا يعرف به، فإنه يجب عليه أن يقول: "أنا عالم" لينتفع الناس بعلمه، ذكره في "الفتوحات". وقد طلب إدارة الأمور المالية؛ لأن سياسة الملك وتنمية العمران، وإقامة العدل فيه تتوقف عليها، وقد كان مضطرًا إلى تزكية نفسه في ذلك حتى يشق الملك به، ويركن إليه في تولية هذه المهام. وما أضاع كثيرًا من المماليك في هذه القرون الأخيرة إلا الجهل والتقصير في النظام المالي، وتدبير الثروة وحفظها في الدولة والأمة.
٥٦ - ﴿كذَلِكَ﴾ معمول للتمكين الآتي؛ أي: ومثل ذلك التمكين في أنعمنا عليه من تقريبنا إياه إلى الملك، وإنجائنا إياه من غم الحبس في ذكرنا أسبابه ومقدماته ﴿مَكَّنَّا لِيُوسُفَ﴾؛ أي: جعلنا له مكانة ومرتبة، أو مكانًا ومنزلًا ﴿فِي الْأَرْضِ﴾؛ أي: في أرض مصر حالة كونه ﴿يَتَبَوَّأُ﴾ وينزل ﴿مِنْهَا﴾؛ أي: من أرض مصر ﴿حَيْثُ يَشَاءُ﴾ ويريد؛ أي: ينزل منها حيث أراد، ويتخذه مباءةً ومنزلًا. وهو عبارة عن كمال قدرته ونفوذ أمره ونهيه حتى صار الملك يصدر عن رأيه، وصار الناس يعملون على أمره ونهيه، وكأنه يتصرف في الأرض التي أمرها إلى سلطان مصر كما يتصرف الرجل في منزله. وقد استدل (١) بهذه الآية على أنه يجوز تولي الأعمال من جهة السلطان الجائر بل الكافر لمن وثق من نفسه بالقيام بالحق. وقرأ الحسن وابن كثير وشيبة (٢): ﴿حيث نشاء﴾ - بالنون - مسندًا إلى الله تعالى. وقرأ الجمهور بالياء.
والظاهر: أن قراءة الياء يكون فيها فاعل ﴿يَشَاءُ﴾: إما ضميرًا يعود على يوسف، ومشيئته معلقة بمشيئة الله تعالى؛ إذ هو نبيه ورسوله، وإما ضميرًا يعود على الله سبحانه وتعالى؛ أي: حيث يشاء الله تعالى، فيكون فيه حينئذٍ التفات من التكلم إلى الغيبة.
(١) الشوكاني.
(٢) البحر المحيط.
14
واعلم: أن التمكين الحاصل ليوسف له أسباب ومقدمات مهدت له؛ لأن إخوة يوسف لو لم يحسدوه.. ما ألقوه في غيابة الجبّ، ولو لم يلقوه.. لما وصل إلى عزيز مصر، ولو لم يعتقد العزيز بفراسته وصدقه وأمانته.. لما أمنه على بيته وأهله وماله، ولو لم تراوده امرأة العزيز عن نفسه ويستعصم.. لما ظهرت نزاهته وعرف أمرها، ولو لم تخب في كيدها وكيد صواحباتها.. ما ألقي في السجن لإخفاء هذا الأمر، ولو لم يسجن.. لما عرفه ساقي الملك وعرف علمه وفضله وصدقه في تعبير الرؤيا، ولو لم يعرف ذلك منه الساقي.. ما عرفه الملك ولم يجعله على خزائن الأرض، فما من حلقة من هذه السلسلة إلا كانت متممة لما بعدها، وبإذن الله كانت سببًا للوصول إلى ما يليها، فكلها في بدايتها كانت شرًّا وخسرًا، وفي عاقبتها فوزًا ونصرًا مبينًا، ومهدت للتمكين لدى ملك مصر. فكما مكن (١) له في ذلك مكن له في أرض مصر، وقد جيء به مملوكًا، فأصبح مالكًا ذا نفوذ وأمر ونهي لا ينازعه منازع فيما يراه ويختاره، وصار الملك يصدر عن رأيه، ولا يعترض عليه فيما يرى بما أعده الله تعالى له من تحليته بالصبر واحتمال الشدائد، والأمانة والعفة، وحسن التصرف والتدبير.
روي (٢): أنه لما تمت السنة من يوم سأل يوسف الإمارة.. دعاه الملك، فتوجه وأخرج خاتم الملك، وجعله في أصبعه، وقلده بسيفه، وجعل له سريرًا من ذهب مكلّلًا بالدرّ والياقوت طوله ثلاثون ذراعًا، وعرضه عشرة أذرع عليه ستون فراشًا، وضرب له عليه حلة من استبرق، فقال يوسف عليه السلام: أما السرير فأشد به ملكك، وأما الخاتم فأدبر به أمرك، وأما التاج فليس من لباسي ولا لباس آبائي. فقال الملك: قد وضعته إجلالًا لك وإقرارًا بفضلك، وأمره أن يخرج فخرج متوجًا لونه كالثلج، ووجهه كالقمر يرى الناظر وجهه فيه من صفاء لونه، فانطلق حتى جلس على ذلك السرير، ودانت له الملوك، وفوض الملك الأكبر إليه ملكه، وأمر مصر، وعزل قطفير عما كان عليه، وجعل يوسف مكانه،
(١) المراغي.
(٢) المراح.
15
ومات قطفير بعد ذلك، فزوجه عليه السلام الملك امرأته زليخا، فلما دخل يوسف عليها قال لها: أليس هذا خيرًا مما كانت تريدين؟ قالت له: أيها الصديق لا تلمني، فإني كنت امرأة حسناء ناعمة كما ترى، وكان صاحبي لا يأتي النساء، وكنت كما جعلك الله في حسنك وهيئتك، فغلبتني نفسي وعصمك الله، فأصابها يوسف عليه السلام فوجدها عذراء، فولدت له ذكرين أفراثم وميشا، فاستولى يوسف عليه السلام على ملك مصر، وأقام فيها العدل، وأحبه الرجال والنساء، وأسلم على يديه الملك وكثير من الناس، وباع من أهل مصر في سنين القحط الطعام في السنة الأولى بالدنانير والدراهم، وفي الثانية بالحلى والجواهر، وفي الثالثة بالدواب، وفي الرابعة بالجواري والعبيد، وفي الخامسة بالضياع والعقار، وفي السادسة بأولادهم، وفي السابعة برقابهم حتى لم يبق بمصر حر ولا حرة إلا صار عبدًا له عليه السلام، فقال أهل مصر: ما رأينا كاليوم ملكًا أجل وأعظم من يوسف، فقال يوسف للملك: كيف رأيت صنع الله بي فيما خولني، فما ترى في هؤلاء؟ فقال الملك: الرأي رأيك ونحن لك تبع. قال: فإني أشهد الله وأشهدك أني قد أعتقت أهل مصر عن آخرهم، ورددت عليهم أملاكهم، وكان يوسف لا يبيع من أحد من الممتارين أكثر من حمل بعير تقسيطًا بين الناس، ومات الملك في حياة يوسف عليه السلام.
﴿نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا﴾؛ أي: بعطائنا في الدنيا من الملك والغنى وغيرهما من النعم ﴿مَنْ نَشَاءُ﴾ من عبادنا بمقتضى ما وضعنا من السنن في الأسباب الكسبية مع موافقتها للأحداث الكونية، ومراعاة النظم الاجتماعية والفضائل الخلقية ﴿وَلَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ﴾ لأن (١) إضاعة الأجر؛ إما أن تكون للعجز أو للجهل أو للبخل، والكل ممتنع في حق الله تعالى، فكانت الإضاعة ممتنعة؛ أي: ولا نضيع في الدنيا أجر من أحسن.
أي: (٢) ولا نضيع أجر من أحسنوا في أعمالهم بشكران هذه النعم، بل
(١) المراح.
(٢) المراغي.
16
نأجرهم عليها سعادة وهناءة، وقد بذلنا تلك النعم لمن يطلبها متى أتى الأمور من أبوابها، وسار على مقتضى السنن التي وضعناها.
أما من يسيؤون التصرف فيها.. فتصيبهم المنغصات، وتتوالى عليهم المكدرات، فالمسرفون لا يلبثون أن ينالهم الفقر والعدم، والظالمون يثيرون أضغان المظلومين، وذووا الخيلاء والبطر يكونون محتقرين، وقلما يصيب المحسنين الشاكرين من ذلك شيء، وإن نالهم منه شيء يكون هينًا عليهم، وهم عليه صبر.
وفي الآية (١) إيماء إلى أنه ما أضاع صبر يوسف عليه السلام على أذى إخوته، وصبره على الحبس بسبب امرأة العزيز، بل كان جزاؤه ما مكن له في الأرض لدى ملك مصر.
٥٧ - ﴿وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ﴾؛ أي: وعزتي وجلالي لأجرهم في الآخرة، فاللام فيه موطئة للقسم، وأضيف الأجر إلى الآخرة للملابسة، وأجرهم فيها هو الجزاء الذي يجازيهم الله به فيها؛ وهو الجنة التي لا ينفد نعيمها، ولا تنقضي مدتها؛ أي: ولأجر الآخرة وثوابها ﴿خَيْرٌ﴾ وأفضل من أجر الدنيا ﴿لِلَّذِينَ آمَنُوا﴾ بالله ورسله ﴿وَكَانُوا يَتَّقُونَ﴾ الله تعالى، ويخافونه بامتثال المأمورات واجتناب المنهيات. وفي الآية (٢) إيماء إلى أن الذي أعد الله سبحانه وتعالى ليوسف عليه السلام في الآخرة من الأجر والثواب الجزيل أفضل مما أعطاه الله تعالى في الدنيا من الملك.
وقد ثبت (٣): أن الله تعالى شهد بأن يوسف عليه السلام كان من المتقين ومن المحسنين ومن المخلصين، والمعنى (٤): أي: إن أجر الآخرة؛ وهو نعميها يكون للمؤمنين المتقين، وهو خير لهم من أجر الدنيا لأهلها وإن بلغوا سلطان الملك، فإن ما أعده لأولئك ليتضاءل أمامه كل ما فيها من مال وجاه وزينة، ولا
(١) المراغي.
(٢) الخازن.
(٣) المراح.
(٤) المراغي.
شبهة في أن من يجمعون بين السعادتين يكون فضل الله عليهم أعظم؛ إذ هم أعطوا حقها من الشكر، وقاموا بما يجب عليهم نحو خالقهم من طاعته وترك معصيته.
روى الشيخان عن أبي صالح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال فقراء المهاجرين للنبي - ﷺ -: يا رسول الله، ذهب أهل الدثور - واحدها دثر بالفتح المال الكثير - بالدرجات العلى، والنعيم المقيم قال: "ما ذاك"؟ قالوا: يصلون كما نصلي، ويصومون كما نصوم، ويتصدقون كما نتصدق، ويعتقون ولا نعتق. قال - ﷺ -: "أفلا أعلمكم شيئًا تدركون به من سبقكم، وتسبقون به من بعدكم، ولا يكون أحد أفضل منكم إلا من صنع مثلكم"؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال: "تسبحون وتكبرون وتحمدون الله دبر كل صلاة ثلاثًا وثلاثين مرة"، قال أبو صالح: فرجع فقراء المهاجرين إلى رسول الله - ﷺ -، فقالوا: سمع إخواننا أهل الأموال بما فعلنا، ففعلوا مثله، فقال رسول الله - ﷺ -: "ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء".
٥٨ - ﴿وَجَاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ﴾ إلى مصر من أرض كنعان؛ ليمتاروا حين أصاب أرض كنعان وبلاد الشام ما أصاب مصر من القحط والجوع، وكان قد حلّ بآل يعقوب ما حلّ بأهلها، فدعا أبناءه ما عدا بنيامين؛ وهم عشرة، فقال لهم: يا بني قد بلغني أن بمصر ملكًا صالحًا يبيع الطعام، فتجهزوا إليه، واقصدوه واشتروا منه ما تحتاجون إليه، فخرجوا حتى قدموا مصر ﴿فَدَخَلُوا عَلَيْهِ﴾؛ أي: على يوسف، وهو في مجلس ولايته؛ لأن أمر الميرة وشراء الغلال كان بيده ورهن أمره ﴿فَعَرَفَهُمْ﴾ يوسف حين دخلوا عليه بلا تردد، ولا شك؛ لأنه فارقهم وهم رجال، ولم يزل عددهم وشكلهم وزيهم عالقًا بخياله؛ لنشوئه بينهم، ولا سيما ما قاساه منهم في آخر عهده بهم وربما كان عمال يوسف عليه السلام وعبيده قد سألوهم عن أمرهم قبل أن يدخلوهم عليه، وأخبروه بأوصافهم، والبيئة التي رحلوا منها ﴿وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ﴾، لنسيانهم له بطول العهد، وتغير شكله بدخوله في سن الكهولة، ولأنهم فارقوه صبيًّا يباع بالدراهم في أيدي السيارة بعد أن أخرجوه من الجبّ، ودخلوا عليه الآن، وهو رجل عليه أبهة الملك؛ أي: عظمته ورونق
الرئاسة؛ أي: زينتها، وعنده الخدم والحشم. وقيل: إنهم أنكروه لكونه كان في تلك الحال على هيئة ملك مصر ولبس تاجه وتطوق بطوقه. وقيل: كانوا بعيدًا عنه، فلم يعرفوه. وقيل: غير ذلك. فكل (١) ذلك مما يحول دون التثبت من معارف وجهه، ولا سيما أنهم كانوا يظنون أنه قد هلك، أو طوحت به طوائح الأيام، ولو كانوا قد فطنوا لبعض ملامحه وتذكروه بها.. لربما عدوه مما يتشابه فيه بعض الناس ببعض في العادات، وبخاصة أنه لم يكن يدور بخلدهم أن أخاهم قد وصل إلى ذلك المركز السامي.
فالمعنى (٢): فدخلوا على يوسف عليه السلام، وهو في مجلس ولايته، فعرفهم يوسف بأول نظرة نظر إليهم لقوة فهمه ﴿وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ﴾؛ أي: والحال أنهم لا يعرفونه لطول المدة، فبين أن ألقوه في الجبّ ودخولهم عليه أربعون سنة على ما قيل، فكلموه بالعبرانية، فقال لهم: من أنتم وأي شيء أقدمكم بلادي؟ فقالوا: قدمنا لأخذ الميرة، ونحن قوم رعاة من أهل الشام أصابنا الجهد، فقال: لعلكم عيون تطلعون على عوراتنا، وتخبرون بها أعداءنا، فقالوا: معاذ الله، قال: من أين أنتم؟ قالوا: من بلاد كنعان نحن إخوة بنو أب واحد، وهو شيخ كبير صديق، نبي من أنبياء الله تعالى اسمه يعقوب، قال: كم أنتم؟ قالوا: كنا اثني عشر، فهلك منا واحد، فقال: كم أنتم ههنا؟ قالوا: عشرة، قال: أين الحادي عشر؟ قالوا: هو عند أبيه يتسلى به عن الهالك؛ لأنه أخوه الشقيق، قال: فمن يشهد لكم أنكم لستم عيونًا، وأن ما تقولون حق؟ قالوا: نحن ببلاد غربة لا يعرفنا فيها أحد، فيشهد لنا، قال: فأتوني بأخيكم الذي من أبيكم إن كنتم صادقين؟ فأنا أكتفي بذلك منكم، قالوا: إن أبانا يحزن لفراقه، قال: فاتركوا بعضكم عندي رهينة حتى تأتوني به، فاقترعوا فيما بينهم، فأصابت القرعة شمعون، وكان أحسنهم رأيًا في يوسف في أمر الجبّ، فتركوه عنده، فأمر بإنزالهم وإكرامهم.
٥٩ - ﴿وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ﴾ يوسفُ عليه السلام وشيَّعهم وأعطاهم ﴿بِجَهَازِهِمْ﴾؛ أي: بما يحتاجون إليه في سفرهم؛ أي: فلما أوقر يوسف إبلهم بالميرة وأصلحهم
(١) المراح.
(٢) الخازن.
19
بالزاد وما يحتاج إليه المسافر. قال ابن عباس (١): حمل لكل واحد منهم بعيرًا من الطعام، وأكرمهم في النزول، وأحسن ضيافتهم، وأعطاهم ما يحتاجون إليه في سفرهم. قال الأزهري (٢): القراء كلهم على فتح الجيم، والكسر لغة جيدة. وقال أبو حيان: وقرىء بكسر الجيم قلت: وقراءة الكسر شاذة وليست بمتواترة.
ومعنى ﴿وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ﴾؛ أي: ولما هيأ لهم جهازهم وأهبة سفرهم ومؤنته - يقال: جهزت المسافر بالتشديد: هيأت له جهازه، وجهاز السفر: أهبته وما يحتاج إليه في قطع المسافة؛ أي: ولما أوقر ركائبهم بما جاؤوا لأجله من الميرة والطعام، وجهزهم بما سوى ذلك من الزاد، وبما يحتاج إليه المسافرون عادة على قدر طاقتهم وبيئتهم ﴿قَالَ﴾ يوسف عليه السلام: ﴿ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ﴾؛ أي: جيئوني بأخيكم ﴿مِنْ أَبِيكُمْ﴾ هو شقيقه بنيامين إذا رجعتم، لتمتاروا مرة أخرى، لأعلم صدقكم فيما قلتم: إن لنا أخًا من أبينا عند أبينا، وسبب (٣) ذلك أن يوسف ما كان يعطي لأحد إلا حمل بعير، وقد كان إخوته عشرة، فأعطاهم عشرة أحمال، فقالوا: إن لنا أبًا شيخًا كبيرًا وأخًا آخر بقي معه، وإن أباهم لتقادم سنه وشدة حزنه لا يستطيع الحضور، وإن أخاهم بقي في خدمة أبيه، ولا بدّ لهما من شيء من الطعام، فجهز لهما بعيرين آخرين، وقال: جيئوني بأخيكم لأراه وأصدقكم فيما قلتم. وإنما (٤) قال: ﴿بِأَخٍ لَكُمْ﴾ ولم يقل بأخيكم بالإضافة مبالغة في إظهار عدم معرفته لهم، فإنه فرق بين مررت بغلامك، ومررت بغلام لك. فإنك في التعريف تكون عارفًا بالغلام دون التنكير لأنك جاهل به. فالتعريف (٥) يفيد نوع عهد في الغلام بينك وبين المخاطب، والتنكير لا عهد فيه البتة، وجائز أن تخبر عمن تعرفه إخبار النكرة، فتقول: قال رجل لنا وأنت تعرفه؛ لصدق إطلاق النكرة على المعرفة.
﴿أَلَا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ﴾؛ أي: أني أتمه ولا أبخس منه شيئًا، وأزيدكم
(١) الشوكاني.
(٢) المراغي.
(٣) روح البيان.
(٤) البحر المحيط.
(٥) الخازن.
20
حمل بعير آخر لأجل أخيكم، وحملًا آخر لأبيكم؛ لأنهم قالوا: إن لنا أبًا شيخًا كبيرًا، وأخًا آخر بقي معه؛ لأن يوسف لا يزيد لأحد على حمل بعير. والهمزة فيه للاستفهام التقريري، وهو حمل المخاطب على الإقرار بما بعد حرف النفي، وجاء بصيغة الاستقبال في قوله: ﴿أُوفِي﴾ مع كونه قال لهم هذه المقالة بعد تجهيزهم للدلالة على أن ذلك عادته المستمرة، ثم أخبرهم بما يزيدهم وثوقًا به وتصديقًا لقوله، فقال: ﴿وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ﴾ لمن نزل بي؛ أي؛ والحال أني خير المضيفين وأفضلهم لمن استضافه كما فعلته بكم من حسن الضيافة وحسن الإنزال. قال الزجاج: قال يوسف عليه السلام: ﴿وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ﴾؛ لأنه حين أنزلهم أحسن ضيافتهم، ولم يقل ذلك يوسف على طريق الامتنان، بل لحثهم على تحقيق ما أمرهم به. والمعنى: وأنا مع إيفاء الكيل خير المكرمين لضيوفه، وقد أحسنت ضيافتكم وجهزتكم بالزاد الكافي لكم مدة سفركم، فلا تنسوا ما أمرتكم به من الإتيان بأخيكم.
٦٠ - ثم توعدهم إن لم يأتوه به، فقال: ﴿فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ﴾؛ أي: بأخيكم من أبيكم إذا رجعتم مرة أخرى ﴿فَلَا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي﴾؛ أي: فلا طعام يكال لكم عندي؛ أي: فلا أبيعكم شيئًا من الطعام فيما بعد، وأما في الحال.. فقد أوفاهم كيلهم ﴿وَلَا تَقْرَبُونِ﴾؛ أي؛ ولا تقربوا بلادي ولا تدخلوها فضلًا من الإحسان إليكم في الإنزال والضيافة. يعني (١): ولا ترجعوا ولا تقربوا بلادي، وهذا هو نهاية التخويف والترهيب؛ لأنهم كانوا محتاجين إلى تحصيل الطعام، ولا يمكنهم تحصيله إلا من عنده، فإذا منعهم من العود.. كان قد ضيق عليهم.
وقيل معناه (٢): لا أنزلكم عندي كما أنزلتكم هذه المرة، ولم يرد أنهم لا يقربون بلاده. و ﴿تَقْرَبُونِ﴾: مجزوم: إما على أن ﴿لا﴾ ناهية، أو على أنها نافية، وهو معطوف على محل الجزاء داخل في حكمه كأنه قال: فإن لم تأتوني تحرموا، ولا تقربوا،
٦١ - فلما سمعوا منه ذلك وعدوه بما طلبه منهم فـ {قَالُوا سَنُرَاوِدُ
(١) الشوكاني.
(٢) روح البيان.
عَنْهُ أَبَاهُ}؛ أي: سنطلبه من أبيه، ونحتال على أن ننتزعه من يده، ونجتهد في ذلك بما نقدر عليه. وقيل معنى المراودة هنا: المخادعة منهم لأبيهم والاحتيال عليه حتى ينتزعوه منه؛ أي: سنخادعه عنه ونحتال في انتزاعه من يده، ونجتهد في ذلك. وفيه تنبيه على عزة المطلب وصعوبة مناله ﴿وَإِنَّا لَفَاعِلُونَ﴾ ما أمرتنا به غير مفرطين ولا متوانين فيه من أن نجيئك بأخينا، فإنهم كانوا محتاجين إلى تحصيل الطعام، ولا يمكن إلا من عنده. وعبروا (١) بما يدل على الحال تنبيهًا على تحقق وقوعه، كقوله تعالى: ﴿وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ (٦)﴾. وقيل معناه: وإنا لقادرون على ذلك لا نتعانى به ولا نتعاظمه.
٦٢ - ﴿وَقَالَ﴾ يوسف ﴿لِفِتْيَانِهِ﴾؛ أي: لغلمانه الكيالين؛ أي: الموكلين على خدمة الكيل، جمع فتى؛ وهو المملوك شابًا كان أو شيخًا ﴿اجْعَلُوا بِضَاعَتَهُمْ﴾ التي اشتروا بها الطعام وكانت نعالًا وجلودًا ﴿فِي رِحَالِهِمْ﴾؛ أي: في أمتعتهم من حيث لا يشعرون؛ أي: دسوها في جواليقهم وذلك بعد أخذها وقبولها، وإعطاء بدلها من الطعام، ووكّل بكل رَحْلٍ واحدًا من غلمانه يدس فيه البضاعة التي اشتري بها الطعام الذى في هذا الرحل. والمراد (٢) بالبضاعة هنا: هي التي وصلوا بها من بلادهم ليشتروا بها الطعام، وكانت نعالًا وأدمًا، فعل يوسف ذلك تفضلًا عليهم. وقيل: فعل ذلك ليرجعوا إليه مرة أخرى؛ لعلمه أنهم لا يقبلون الطعام إلا بثمن. قاله الفراء. وقيل: فعل ذلك ليستعينوا بها على الرجوع إليه لشراء الطعام. وقيل: إنه استقبح أن يأخذ من أبيه وإخوته ثمن الطعام.
وقرأ الأخوان (٣) - حمزة والكسائي - وحفص عن عاصم وخلف العاشر: ﴿لِفِتْيَانِهِ﴾ - بالنون - واختار هذه القراءة أبو عبيد، ومثل هذه القراءة في مصحف عبد الله بن مسعود، وقرأ باقي العشرة وشعبة عن عاصم: ﴿لفتيته﴾ واختار هذه القراءة أبو حاتم والنحاس وغيرهما. قال النحاس ﴿لِفِتْيَانِهِ﴾ مخالف للسواد الأعظم ولا يترك السواد المجمع عليه لهذا الإسناد المنقطع، وأيضًا فإن فتية أشبه
(١) الشوكاني.
(٢) زاد المسير والبحر المحيط.
(٣) الشوكاني.
22
من فتيان؛ لأن فتية عند العرب لأقل العدد، وأمر القليل بأن يجعلوا البضاعة في الرحال أشبه. قال الزجاج: الفتية والفتيان في هذا الموضع المماليك. وقال الثعلبي: هما لغتان جيدتان مثل الصبيان والصبية.
قلت: وكلتا القراءتين متواترتان ولا انقطاع في إسناد إحداهما. والجملة مستأنفة واقعة في جواب سؤال مقدر كأنه: فما قال يوسف بعد وعدهم له بذلك؟ فأجيب بأنه قال لفتيانه. قال أبو حيان: فالكثرة على مراعاة المأمورين، والقلة على مراعاة المتأولين، فهم الخدمة الكائلون أمرهم بجعل المال الذي اشتروا به الطعام في رحالهم مبالغة في استمالتهم إليه. ثم علل يوسف عليه السلام ما أمر به من جعل البضاعة في رحالهم بقوله: ﴿لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَهَا﴾؛ أي: البضاعة ﴿إِذَا انْقَلَبُوا﴾ ورجعوا ﴿إِلَى أَهْلِهِمْ﴾؛ أي: دسوا بضاعتهم ودراهمهم التي اشتروا بها الطعام في أوعيتهم التي يحملون فيها الطعام؛ لكي يعرفوا بضاعتهم إذا رجعوا إلى أبيهم؛ أي: لكي يعرفوا لنا حق إكرامهم بإعادتها إليهم، وجعل ما أعطيناهم من الغلة مجانًا بلا ثمن إذا هم رجعوا إلى أهلهم، وفتحوا متاعهم فوجودها فيه.
فجعل (١) علة جعل البضاعة في الرحال هي معرفتهم لها إذا انقلبوا إلى أهلهم، وذلك لأنهم لا يعلمون برد البضاعة إليهم إلا عند تفريغ الأوعية التي جعلوا فيها الطعام، وهم لا يفرغونها إلا عند الوصول إلى أهلهم. ثم علل معرفتهم للبضاعة المردودة إليهم المجعولة في رحالهم بقوله: ﴿لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾ إلينا طمعًا في برنا، فإن العوز إلى القوت من أقوى الدواعي إلى الرجوع، فإنهم إذا عرفوا ذلك، وعلموا أنهم أخذوا الطعام بلا ثمن وأن ما دفعوه عوضًا عنه قد رجع إليهم، وتفضل به من وصلوا إليه عليهم.. نشطوا إلى العود إليه ولا سيما مع ما هم فيه من الجدب الشديد، والحاجة إلى الطعام، وعدم وجوده لديهم، فإن ذلك من أعظم ما يدعوهم إلى الرجوع، وبهذا يظهر أن يوسف عليه السلام لم يرد البضاعة إليهم إلا لهذا المقصد، وهو رجوعهم إليه، فلا يتم تعليل ردها بغير ذلك، والله أعلم.
(١) المراغي.
23
٦٣ - ﴿فَلَمَّا رَجَعُوا﴾؛ أي: فلما رجع إخوة يوسف غير شمعون من مصر ﴿إِلَى أَبِيهِمْ﴾ في كنعان ﴿قَالُوا﴾ لأبيهم قبل أن يشتغلوا بفتح المتاع: ﴿يَاأَبَانَا﴾ إنا قدمنا على خير رجل، أنزلنا وأكرمنا كرامة عظيمة، لو كان رجلًا من أولاد يعقوب ما أكرمنا كرامته، فقال لهم يعقوب عليه السلام: إذا رجعتم إلى ملك مصر فاقرؤوا عليه مني السلام، وقولوا له: إن أبانا يصلي عليك، ويدعو لك بما أوليتنا، ثم قال لهم: أين شمعون؟ قالوا: ارتهنه ملك مصر عنده، وأخبروه بالقصة، ثم قالوا: يا أبانا ﴿مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ﴾؛ أي: ميرة الطعام وكيله من مصر؛ أي: حكم ملك مصر بأنه سيمنع منا الكيل والميرة في المستقبل بعد هذه المرة إن لم نذهب إليه معنا بأخينا بنيامين، وهو إشارة إلى قول يوسف: ﴿فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلَا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلَا تَقْرَبُونِ (٦٠)﴾. والمراد بالكيل هنا: الطعام لأنه يكال، وفي هذه الجملة دلالة على أن الامتيار مرة بعد مرة معهود فيما بينهم وبينه عليه السلام. ثم ذكروا له ما أمرهم به، فقالوا: ﴿فَأَرْسِلْ مَعَنَا أَخَانَا﴾ بنيامين إلى مصر. وفيه إيذان بأن مدار المنع عدم كونه معهم إن أرسلته معنا ﴿نَكْتَلْ﴾ بسببه، ونأخذ من الطعام ما نحتاج إليه بقدر عددنا، ونكون قد وفينا له ما شرط علينا، والعرب تقول: كِلْتَ له الطعام، إذا أعطيته، واكتلت منه وعليه، إذا أخذت منه، أو توليت الكيل بنفسك ﴿وَإِنَّا لَهُ﴾؛ أي: لأخينا بنيامين ﴿لَحَافِظُونَ﴾ في ذهابه وإيابه من أن يصيبه سوء أو مكروه، ضامنون برده إليك، وكأنهم (١) كانوا يعتقدون أن أباهم لا بد أن يرفض إجابتهم خوفًا عليه من أن يحدث مثل ما حدث ليوسف عليه السلام بدافع الحسد من قبل، فكان جوابه لهم ما حكى الله سبحانه عنه بقوله: ﴿هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلَّا كَمَا أَمِنْتُكُمْ عَلَى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ﴾.
وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وعاصم وابن عامر (٢): ﴿نَكْتَلْ﴾ - بالنون -؛ أي: إن أرسلته معنا اكتلنا نحن، وإلا فقد منع منا الكيل. وقرأ حمزة والكسائي وخلف العاشر: ﴿يكتل﴾ - بالياء -؛ أي: إن أرسلته معنا يكتل أخونا
(١) زاد المسير.
(٢) الشوكاني.
بنيامين، وإلا فقد منع منه الكيل. واختار (١) أبو عبيد القراءة الأولى، قال: ليكونوا كلهم داخلين فيمن يكتال، وزعم أنه إذا كان بالياء كان للأخ وحده؛ أي: يكتال أخونا بنيامين لنفسه مع اكتيالنا.
٦٤ - وجملة قوله: ﴿قَالَ﴾ يعقوب ﴿هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ﴾ مستأنفة في جواب سؤال مقدر، والاستفهام فيه إنكاري، بمعنى النفي، والكاف في قوله: ﴿إِلَّا كَمَا أَمِنْتُكُمْ عَلَى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ﴾: نعت مصدر محذوف، وآمن: فعل مضارع، والأمن والائتمان بمعنى واحد، والاستفهام فيه إنكاري؛ أي: (٢) قال لهم يعقوب عليه السلام: كيف آمنكم علي بنيامين، وقد فعلتم بأخيه يوسف ما فعلتم، وأنكم ذكرتم مثل هذا الكلام بعينه في يوسف، وضمنتم لي حفظه، فما فعلتم، فإذا لم يحصل الأمن والحفظ هناك، فكيف يحصل ما ههنا؟ فأنتم لا يوثق لكم بوعد، ولا يطمأن منكم إلى عهد، فما أشبه الليلة بالبارحة.
والمعنى (٣): ما أمنكم علي بنيامين إلا أمنًا كأمني إياكم على أخيه يوسف من قبل بنيامين، وقد قلتم في حقه ما قلتم، ثم فعلتم به ما فعلتم، فلا أثق بكم ولا بحفظكم، وإنما أفوض الأمر إلى الله سبحانه وتعالى. وقوله: ﴿فَاللَّهُ﴾ سبحانه وتعالي ﴿خَيْرٌ﴾ مني ومنكم من جهة كونه ﴿حَافِظًا﴾ لبنيامين مرتب على محذوف تقديره: فتوكل يعقوب على الله ودفعه إليهم، فقال: ﴿فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا﴾ ﴿وَهُوَ﴾ سبحانه وتعالى ﴿أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ﴾ من أهل السموات والأرضين، فأرجو أن يرحمني بحفظه، ولا يجمع علي مصيبتين، وهذا كما ترى ميل منه إلى الإذن والإرسال؛ لما رأى فيه من المصلحة وشدة الحاجة إلى ذلك؛ ولأنه لم ير فيما بينهم وبين بنيامين من الحقد والحسد مثل ما شاهد بينهم وبين يوسف. وفيه من التوكل على الله ما لا خفاء فيه. قال كعب: لما قال يعقوب: ﴿فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا﴾ قال الله تعالى: وعزتي لأردن عليك كليهما بعدما توكلت علي، فينبغي أن يتوكل على الله، ويعتمد على حفظه دون حفظ ما سواه، فإن ما سواه محتاج في حفظه إلى الأسباب والآلات، والله تعالى غني بالذات مستغن من الوسائط في كل الأمور،
(١) المراح.
(٢) روح البيان.
(٣) زاد المسير.
وفي جميع الحالات، ولذا حفظ يوسف في الجبّ.
ومعنى الآية: أن حفظ الله تعالى إياه خير من حفظهم له لما وكل يعقوب حفظه إلى الله سبحانه حفظه وأرجعه إليه، ولما قال في يوسف: ﴿وَأَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ﴾.. وقع له من الامتحان ما وقع. وقرأ (١) ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر وأبو بكر عن عاصم: ﴿حِفْظًا﴾ والمعنى: خير حفظًا من حفظكم. وقرأ حمزة الكسائي، وحفص عن عاصم وخلف العاشر: ﴿خَيْرٌ حَافِظًا﴾ - بألف -. وقرأ الأعمش شذوذًا: ﴿خير حافظ﴾ على الإضافة؛ أي: فالله تعالى متصف بالحفظ وزيادته على كل حافظ. وقرأ أبو هريرة: ﴿خير الحافظين﴾، كذا نقل الزمخشري، وهي رواية شاذة. وقال ابن عطية وقرأ ابن مسعود: ﴿فالله خير حافظًا وهو خير الحافظين﴾، وهي رواية شاذة أيضًا.
٦٥ - ﴿وَلَمَّا فَتَحُوا مَتَاعَهُمْ﴾؛ أي: أوعيتهم التي وضعوا فيها الميرة بحضرة أبيهم ﴿وَجَدُوا بِضَاعَتَهُمْ﴾؛ أي: ثمن الميرة الذي دفعوه ليوسف ﴿رُدَّتْ إِلَيْهِمْ﴾ تفضلًا وإحسانًا من يوسف عليه السلام؛ والمعنى: ولما فتحوا أوعية طعامهم وجدوا فيها ما كان أعطوه من بضاعة ونقدٍ ثمنًا لما اشتروه من الطعام؛ إذ أن يوسف أمر فتيانه أن يضعوها في رحالهم، وهم لا يعلمون ذلك.
وجملة قوله: ﴿قَالُوا﴾ لأبيهم مستأنفة (٢) في سؤال مقدر كأنه قيل: ماذا قالوا حينئذٍ؟ فقيل: قالوا لأبيهم - ولعله كان حاضرًا عند الفتح كما في "الإرشاد"، ويؤيده ما في القصص من أن يعقوب عليه السلام قال لهم: يا بني قدموا أحمالكم لأدعو لكم فيها بالبركة، فقدموا أحمالهم، وفتحوها بين يديه، فرأوا بضاعتهم في رؤوس أحمالهم، فقالوا عند ذلك - ﴿يَا أَبَانَا مَا نَبْغِي﴾؛ أي: أي شيء نطلب وراء ما وصفنا لك من إحسان الملك إلينا وكرمه الذي يوجب علينا امتثال أمره ومراجعته في الحوائج، وقد كانوا حدثوا أباهم بذلك على ما روي أنهم قالوا له: إنا قدمنا على خير رجل، وقد أنزلنا خير منزل وأكرم
(١) روح البيان.
(٢) البحر المحيط.
26
وفادتنا، ولو كان رجلًا من آل يعقوب ما أكرمنا كرامته، ثم أكدوا صدق كلامهم بقولهم: ﴿هَذِهِ﴾ الموجودة في الأوعية ﴿بِضَاعَتُنَا﴾ أي: ثمن ميرتنا حالة كونها ﴿رُدَّتْ إِلَيْنَا﴾؛ أي: حالة كونها مردودة إلينا تفضلًا من حيث لا ندري بعدما منَّ علينا بالمنن العظام، هل من مزيد على هذا فنطلبه؟ أرادوا الاكتفاء به في استيجاب الامتثال لأمره، والالتجاء إليه في استجلاب المزيد، فكل ما جئنا به على غلائه وعظم قيمته هو هبة منه وتفضل منه علينا. وقرأ (١) علقمة ويحيى بن وثاب والأعمش: ﴿ردت﴾ - بكسر الراء - نقل حركة الدال المدغمة إلى الراء بعد توهم خلوها من الضمة، وهي لغة لبني ضبة كما نقلت العرب في قيل وبيع. وقرأ عبد الله وأبو حيوة: ﴿ما تبغي﴾ - بالتاء - على خطاب يعقوب، وروتها عائشة رضي الله عنها عن النبي - ﷺ -، وهي رواية شاذة وليست بمتواترة، ويحتمل ما في هذه القراءة الاستفهام والنفي كقراءة النون.
﴿وَنَمِيرُ أَهْلَنَا﴾، أي: ونأتي بالطعام إلى أهلنا ونجلبه لهم برجوعنا إلى ذلك الملك بتلك البضاعة، وهذا معطوف على محذوف، والتقدير: فنستعين بهذه البضاعة ونمير أهلنا برجوعنا إليه. يقال: مار أهله يميرهم ميرًا إذا أتاهم بالميرة؛ وهي الطعام المجلوب من بلد إلى بلد، ومثله امتار. وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي في رواية شاذة عنه: ﴿ونمير﴾ - بضم النون - مِن أمار الرباعي. ﴿وَنَحْفَظُ أَخَانَا﴾ بنيامين في الذهاب والإياب من الجوع والعطش وسائر المكاره ﴿وَنَزْدَادُ﴾ بسبب إرساله معنا ﴿كَيْلَ بَعِيرٍ﴾؛ أي: حمل بعير زائد على ما جئنا به هذه المرة يكال لنا لأجل أخينا؛ لأنه كان يعطي باسم كل رجل حمل بعير اقتصادًا وعدلًا بين الناس، وكأنه قيل: أي حاجة إلى الازدياد، فقيل: في ﴿ذَلِكَ﴾؛ أي: ما يحمله بعيرنا ﴿كَيْلٌ يَسِيرٌ﴾؛ أي: مكيل قليل لا يقوم بأودنا؛ أي: أي قوتنا، أو المعنى: ﴿ذَلِكَ﴾؛ أي: إن حمل البعير ﴿كَيْلٌ يَسِيرٌ﴾؛ أي: كيل سهل لا عسر فيه على ذلك المحسن الجواد؛ أي: زيادة كيل بعير لأخينا يسهل على الملك، ولا يمتنع علينا من زيادته له؛ أي: لكونه يسيرًا لا يتعاظمه ولا يضايقنا فيه،
(١) روح البيان.
27
واختار الزجاج هذا المعنى.
٦٦ - ﴿قَالَ﴾ لهم أبوهم يعقوب ﴿لَنْ أُرْسِلَهُ﴾؛ أي: أخاكم بنيامين، ولن أطلقه معكم إلى مصر بعد ما عاينت منكم ما عاينت ﴿حَتَّى تُؤْتُونِ﴾؛ أي: حتى تعطوني ﴿مَوْثِقًا﴾؛ أي: عهدًا مؤكدًا باليمين مأذونًا فيه ﴿مِنَ﴾ جهة ﴿اللَّهِ﴾ تعالى؛ لأن توكيد العهود به مأذون فيه من جهته تعالى، فهو إذن منه تعالى. وقوله: ﴿لَتَأْتُنَّنِي بِهِ﴾ جواب القسم، والاستثناء في قوله: ﴿إِلَّا أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ﴾؛ أي: إلا أن تغلبوا، فلا تطيقوا ذلك، أو إلا أن تهلكوا جميعًا من أعم الأوقات، والمعنى: لن أرسله معكم حتى تحلفوا بالله تعالى لترجعن به ولتردنه إليَّ في كل الأوقات إلا وقت الإحاطة بكم، وكونهم (١) محاطًا بهم؛ إما كناية عن كونهم مغلوبين مقهورين بحيث لا يقدرون على الإتيان به البتة، أو كناية عن هلاكهم وموتهم جميعًا، وأصله من العدو، فإن من أحاط به العدو يصير مغلوبًا عاجزًا عن تنفيذ مراده، أو هالكًا بالكلية، ولقد صدقت هذه القصة المثل السائر وهو قولهم: البلاء موكل بالمنطق، فإن يعقوب عليه السلام قال أولًا في حق يوسف عليه السلام: ﴿وَأَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ﴾ فابتلي من ناحية هذا القول حيث قالوا: ﴿أَكَلَهُ الذِّئْبُ﴾، وقال هنا: ﴿لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلَّا أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ﴾ فابتلي أيضًا بذلك، وأحيط بهم، وغلبوا عليه كما سيأتي. وقوله ﴿فَلَمَّا آتَوْهُ﴾؛ أي: أعطوه ﴿مَوْثِقَهُمْ﴾؛ أي: عهدهم ويمينهم في طلبه منهم قبله حذف تقديره: فأجابوه إلى ما طلبه، فلما آتوه موثقهم.. ﴿قَالَ﴾ يعقوب: ﴿الله﴾ سبحانه وتعالى ﴿عَلَى مَا نَقُولُ﴾؛ أي: على ما قلناه من طلبي الموثق منكم، وإعطائكم لي ما طلبته منكم ﴿وَكِيلٌ﴾؛ أي: مطلع رقيب لا يخفى عليه منه خافية، فهو المعاقب لمن خان في عهده وفجر في الحلف به، أو موكول إليه القيام بما شهد عليه منا.
ولما تجهَّز (٢) أولاد يعقوب للمسير إلى مصر.. خاف عليهم أبوهم أن تصيبهم العين لكونهم كانوا ذوي جمال ظاهر وثياب حسنة مع كونهم أولاد رجل
(١) الشوكاني.
(٢) روح البيان.
واحد
٦٧ - ﴿وَقَالَ﴾ ناصحًا لهم: ﴿لَا تَدْخُلُوا﴾ مدينة مصر ﴿مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ﴾ من أبوابها الأربعة ﴿وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ﴾؛ أي: مختلفة؛ أي: من طرق شتى وسكك مختلفة مخافة العين، فإن العين والسحر حق؛ أي: كائن أثرهما في المعين والمسحور، وصاهم بذلك في هذه الكرة؛ لأنهم كانوا ذوي جمال وهيئة حسنة مشتهرين في مصر بالقربة عند الملك، فخاف عليهم، إن دخلوا جماعة واحدة أن يصابوا بالعين، ولم يوصهم في الكرة الأولى؛ لأنهم كانوا مجهولين حينئذٍ مغمورين بين الناس غير متجملين تجملهم في الثانية، وكان الداعي إليها خوفه علي بنيامين ﴿وَمَا أُغْنِي﴾؛ أي: وما أدفع ﴿عَنْكُمْ﴾ بتدبيري ﴿مِنَ﴾ قضاء ﴿اللَّهِ﴾ تعالى وتدبيره ﴿مِنْ شَيْءٍ﴾؛ أي: شيئًا فـ ﴿مِنَ﴾ زائدة لتأكيد النفي، فإن الحذر لا يمنع القدر.
ولم يرد به إلغاء الحذر بالمرة (١)، كيف لا وقد قال تعالى: ﴿وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ﴾ وقال ﴿خُذُوا حِذْرَكُمْ﴾ بل أراد بيان أن ما وصاهم به ليس مما يستوجب المراد لا محالة، بل هو تدبير في الجملة، وإنما التأثير وترتب المنفعة عليه من العزيز القدير، وإن ذلك ليس بمدافعة للقدر، بل هو استعانة بالله تعالى وهرب منه إليه.
وإنما قال: ﴿مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ﴾ (٢) لأنهم لو دخلوا من بابين مثلًا.. كانوا قد امتثلوا النهي عن الدخول من باب واحد، ولكنه لما كان في الدخول من بابين مثلًا نوع اجتماع يخشى معه أن تصيبهم العين.. أمرهم بأن يدخلوا من أبواب متفرقة.
والمعنى: ولا أدفع عنكم ولا أجلب إليكم نفعًا بتدبيري هذا، بل ما قضاه الله عليكم فهو واقع لا محالة. قال الزجاج وابن الأنباري: لو سبق في علم الله أن العين تهلكهم مع الاجتماع.. لكان تفرقهم كاجتماعهم. وقال آخرون: ما كان يغني عنهم يعقوب شيئًا قط حيث أصابهم ما أصابهم مع تفرقهم من إضافة السرقة إليهم.
(١) روح البيان.
(٢) الشوكاني.
وقد اختلف العلماء فيمن عرف بالإصابة بالعين، فقال قوم: يمنع من الاتصال بالناس دفعًا لضرره بحبس أو غيره من لزوم بيته. وقيل: ينفى، وأبعد من قال إنه يقتل إلا إذا كان يتعمد ذلك، وتتوقف إصابته على اختياره وقصده ولم ينزجر عن ذلك، فإنه إذا قتل كان له حكم القاتل.
ثم صرّح يعقوب عليه السلام بأنه لا حكم إلا لله سبحانه وتعالى، فقال: ﴿إِنِ الْحُكْمُ﴾؛ أي: ما الحكم مطلقًا ﴿إِلَّا لِلَّهِ﴾ سبحانه وتعالى لا لغيره، ولا يشاركه أحد ولا يمانعه شيء، فلا يحكم أحد سواه بشيء من السوء وغيره ﴿وَعَلَيْهِ﴾ سبحانه وتعالى لا على غيره ﴿تَوَكَّلْتُ﴾؛ أي: اعتمدت في كل ما آتي وأذر. وفي هذا (١) إيماء إلى أن الأخذ في الأسباب ومراعاة اتباعها لا ينافي التوكل. وقد جاء في الخبر: "اعقلها وتوكل".
﴿وَعَلَيْهِ﴾ سبحانه وتعالى دون أحد سواه ﴿فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ﴾ على العموم، لا على أمثالهم من المخلوقين، ولا على أنفسهم، ويدخل فيه أولاده دخولًا أوليًّا؛ أي: فليثق الواثقون. والفاء (٢) فيه لإفادة التسبب، فإن فعل الأنبياء سبب لأن يقتدى بهم. وقال البيضاوي: جمع (٣) بين الحرفين في عطف الجملة على الجملة لتقدم الصلة للاختصاص كأن الواو للعطف والفاء لأفادة التسبب فإن فعل الأنبياء سبب لأن يقتدى بهم، انتهى. فعلى كل مؤمن أن يتخذ لكل أمر يقدم على عمله العدة، ويهيىء من الأسباب ما يوصل إليه على قدر طاقته، ثم بعد ذلك يكل أمر النجاح فيه إلى الله تعالى، ويطلب منه التوفيق والمعونة في إنجازه، فقد يكون من الأسباب ما يخفى عليه، أو ما لا تصل إليه يده.
٦٨ - ﴿وَلَمَّا دَخَلُوا﴾؛ أي: ولما دخل أخوة يوسف المدينة ﴿مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ﴾؛ أي: من المكان في أمرهم أبوهم الدخول منه، وهي الأبواب المتفرقة، والجار (٤) والمجرور في موضع الحال؛ أي: دخلوا متفرقين ﴿مَا كَانَ﴾
(١) المراغي.
(٢) روح البيان.
(٣) البيضاوي.
(٤) روح البيان.
30
رأي يعقوب ودخولهم متفرقين ﴿يُغْنِي عَنْهُمْ﴾؛ أي: يدفع عنهم ﴿مِنَ اللَّهِ﴾؛ أي: من جهته تعالى ﴿مِنْ شَيْءٍ﴾؛ أي: شيئًا مما قضاه الله تعالى عليهم، والجملة جواب لـ ﴿مَا﴾ فقد (١) وقع عليهم قضاء الله تعالى حيث نسبوا إلى السرقة، وأخذ منهم بنيامين، وتضاعفت المصيبة على يعقوب عليه السلام. ﴿إِلَّا حَاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا﴾؛ أي: لكن (٢) الدخول على صفة التفرق أظهر حاجةً في قلب يعقوب عليه السلام، وهي خوفه عليهم من إصابة العين، وهذا تصديق الله تعالى لقول يعقوب: ﴿وَمَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ﴾.
ولفظة ﴿حَاجَةً﴾ منصوبة (٣) بإلا؛ لكونها بمعنى لكن، و ﴿قَضَاهَا﴾ بمعنى: أظهرها، ووصى بها خبر لكن، والمعنى: إن رأي يعقوب عليه السلام في حق بنيه، وهو أن يدخلوا من الأبواب المتفرقة، واتباع بنيه له في ذلك الرأي ما كان يدفع عنهم شيئًا مما قضاه الله تعالى عليهم، ولكن يعقوب عليه السلام أظهر بذلك الرأي ما في نفسه من الشفقة والاحتراز من أن يعانوا؛ أي: يصابوا بالعين، ووصى به؛ أي: لم يكن للتدبير فائدة سوى دفع الخاطر من غير اعتقاد أن للتدبير تأثيرًا في تغيير التقدير، وأما إصابة العين، فإنما لم تقع لكونها غير مقدرة عليهم، لا لأنها اندفعت بذلك مع كونها مقضية عليهم. وعبارة "الجمل" هنا: وتقرير انقطاع الاستثناء أن المستثنى منه شيء قضاه الله وأراده، والمستثنى شيء لم يرده الله؛ وهو إصابة العين لهم، فهذا لم يرده الله، ولم يقضه؛ إذ لو أراده لوقع مع أنه لم يقع ولم يحصل، هذا تقرير الانقطاع. انتهت.
﴿وَإِنَّهُ﴾؛ أي: إن يعقوب عليه السلام ﴿لَذُو عِلْمٍ﴾ جليل ﴿لِمَا عَلَّمْنَاهُ﴾ بالوحي ونصب الأدلة، ولذلك قال: ﴿وَمَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ﴾؛ لأن العين لو قدر أن تصيبهم أصابتهم وهم متفرقون، كما تصيبهم وهم مجتمعون؛ أي: وإنه (٤) لذو علم خاص به وبأمثاله من الأنبياء لما أعطيناه من علم الوحي،
(١) الفتوحات.
(٢) المراح.
(٣) روح البيان.
(٤) المراغي.
31
وتأويل الرؤيا الصادقة، واعتقاده أن الإنسان يجب عليه في كل أمر يحاوله أن يتخذ له من الأسباب ما يصل به إلى غرضه، ويبلغ به إلى غايته، ثم يتوكل بعد ذلك على الله في تسخير ما لم يصل إليه علمه مما لا تتم المقاصد بدونه.
﴿وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾ أسرار القدر، ويزعمون أن الحذر يغني عن القدر، أو المعنى: ولكن أكثر الناس لا يعلمون أن الواجب الجمع بين أخذ العدة والسعي في تحقيق الأسباب الصحيحة الموصلة إلى المراد، وبين الاتكال على الله؛ وهو ما فعله يعقوب عليه السلام، ولا يكفي تحقق الأسباب وحدها للحصول عليه، أو المعنى: ولكن أكثر الناس لا يعلمون أن يعقوب عليه السلام بهذه الصفة والعلم، أو لا يعلمون ما كان يعلم يعقوب؛ لأنهم لم يسلكوا طريق إصابة العلم. وقال ابن عباس رضي الله عنهما: لا يعلم المشركون ما ألهم الله أولياءه. وقرأ الأعمش شاذًا: ﴿مما علمناه﴾ ذكره أبو حيان.
الإعراب
﴿وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾.
﴿وَمَا﴾ (و): حالية. ﴿ما﴾: نافية. ﴿أُبَرِّئُ نَفْسِي﴾: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على زليخا كما هو الراجح، أو على يوسف، والجملة في محل النصب حال من فاعل القول المحذوف تقديره: قلت ذلك الاعتراف ليعلم يوسف أني لم أخنه بالغيب حالة كوني غير مبرئة نفسي من السوء. ﴿إِنَّ﴾: حرف نصب. ﴿النَّفْسَ﴾: اسمها. ﴿لَأَمَّارَةٌ﴾: (اللام): حرف ابتداء. ﴿أمارة﴾: خبر ﴿إِنَّ﴾. ﴿بِالسُّوءِ﴾: متعلق به، وجملة ﴿إِنَّ﴾ مستأنفة مسوقة لتعليل النفي المذكور قبلها. ﴿إِلَّا﴾: أداة استثناء. ﴿مَا﴾: اسم موصول بمعنى نفسًا في محل النصب على الاستثناء. ﴿رَحِمَ رَبِّي﴾: فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول، والعائد محذوف تقديره: إلا نفسًا رحمها ربي بالعصمة كيوسف عليه السلام. ﴿إِنَّ رَبِّي﴾: ناصب واسمه. ﴿غَفُورٌ﴾: خبر أول لـ ﴿إِنَّ﴾. ﴿رَحِيمٌ﴾: خبر ثان لها، وجملة ﴿إِنَّ﴾ مستأنفة.
﴿وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ﴾.
32
﴿وَقَالَ الْمَلِكُ﴾: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة. ﴿ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي﴾: مقول محكي لـ ﴿قَالَ﴾. وإن شئت قلت: ﴿ائْتُونِي﴾: فعل وفاعل ونون وقاية ومفعول به. ﴿بِهِ﴾ متعلق به والجملة في محل النصب مقول ﴿قال﴾. ﴿أَسْتَخْلِصْهُ﴾: فعل ومفعول مجزوم بالطلب السابق. ﴿لِنَفْسِي﴾: متعلق به، وفاعله ضمير يعود على ﴿الْمَلِكُ﴾، والجملة في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾. ﴿فَلَمَّا﴾: (الفاء): عاطفة على محذوف تقديره: فأتوه به فلما كلّمه. ﴿لما﴾: حرف شرط غير جازم. ﴿كَلَّمَهُ﴾: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على ﴿الْمَلِكُ﴾، والجملة الفعلية فعل شرط لـ ﴿لمّا﴾. ﴿قَالَ﴾: فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على ﴿الْمَلِكُ﴾، والجملة الفعلية جواب ﴿لما﴾ لا محل لها من الإعراب، وجملة ﴿لمَّا﴾ معطوفة على تلك الجملة المحذوفة. ﴿إِنَّكَ الْيَوْمَ﴾ إلى آخر الآية مقول محكي، وإن شئت قلت: ﴿إِنَّكَ﴾: ناصب واسمه. ﴿الْيَوْمَ﴾: منصوب على الظرفية الزمانية تنازع فيه كل من ﴿مَكِينٌ أَمِينٌ﴾. ﴿لَدَيْنَا﴾: في محل النصب على الظرفية المكانية مضاف إلى الضمير تنازع فيه أيضًا كل من الاسمين. ﴿مَكِينٌ﴾: خبر أول لـ ﴿إِنَّ﴾. ﴿أَمِينٌ﴾: خبر ثان لها، وجملة ﴿إِنَّ﴾: في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾.
﴿قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ (٥٥)﴾.
﴿قَالَ﴾: فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على يوسف، والجملة مستأنفة. ﴿اجْعَلْنِي﴾ إلى آخر الآية مقول محكي، وإن شئت قلت: ﴿اجْعَلْنِي﴾: فعل ومفعول أول ونون وقاية، وفاعله ضمير يعود على ﴿الْمَلِكُ﴾، والجملة في محل النصب مقول ﴿وَقَالَ﴾. ﴿عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ﴾: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بالمفعول الثاني المحذوف لـ ﴿جعل﴾ تقديره: اجعلني واليًا على خزائن الأرض، أو متعلق بـ ﴿اجْعَلْنِي﴾ على تضمينه معنى ولّني. ﴿إِنِّي﴾: ناصب واسمه. ﴿حَفِيظٌ عَلِيمٌ﴾: خبران له.
﴿وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ وَلَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (٥٦)﴾.
﴿كذَلِكَ﴾ (الواو): استئنافية. ﴿كذلك﴾: صفة لمصدر محذوف معمول
33
لـ ﴿مَكَّنَّا﴾ تقديره: ومكنا ليوسف في الأرض تمكينًا مثل التمكين في ذكرناه من إخراجه من السجن وتقريبه إلى الملك. ﴿لِيُوسُفَ﴾: متعلق بـ ﴿مَكَّنَّا﴾. وكذلك يتعلق به ﴿فِي الْأَرْضِ﴾. وفي "الفتوحات" قوله: ﴿لِيُوسُفَ﴾ يجوز في هذه اللام أن تكون متعلقة بـ ﴿مَكَّنَّا﴾ على أن يكون مفعول ﴿مَكَّنَّا﴾ محذوفًا تقديره: مكنا ليوسف الأمور، أو على أن يكون المفعول به ﴿حَيْثُ﴾ كما سيأتي، ويجوز أن تكون زائدة عند من يرى ذلك. اهـ. "سمين". ﴿يَتَبَوَّأُ﴾: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على ﴿يوسف﴾. ﴿مِنْهَا﴾: متعلق به، والجملة الفعلية في محل النصب حال من ﴿يوسف﴾، وفي "الخازن": إن هذه الجملة في المعنى تفسير للتمكين. ﴿حَيْثُ﴾: في محل النصب على الظرفية المكانية متعلق بـ ﴿يَتَبَوَّأُ﴾. ﴿يَشَاءُ﴾؛ فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على ﴿يوسف﴾، والجملة في محل الجر مضاف إليه لـ ﴿حَيْثُ﴾. وفي "السمين" قوله: ﴿يَتَبَوَّأُ﴾ هذه جملة حالية من ﴿يوسف﴾، ومنها يجوز أن يتعلق بـ ﴿يَتَبَوَّأُ﴾، وأجاز أبو البقاء أن يتعلق بمحذوف على أنه حال من ﴿حَيْثُ﴾، و ﴿حَيْثُ﴾ يجوز أن يكون ظرفًا بـ ﴿يَتَبَوَّأُ﴾، ويجوز أن يكون مفعولًا به. اهـ. ﴿نُصِيبُ﴾: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على الله. ﴿بِرَحْمَتِنَا﴾: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق به، والجملة مستأنفة. ﴿مَن﴾: اسم موصول في محل النصب مفعول به. ﴿نَشَاءُ﴾: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة صلة ﴿مَن﴾ الموصولة، والعائد محذوف تقديره: من نشاءه. ﴿وَلَا﴾: (الواو): عاطفة. ﴿لا﴾: نافية. ﴿نُضِيعُ﴾: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة معطوفة على جملة ﴿نُصِيبُ﴾. ﴿أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ﴾: مفعول به ومضاف إليه.
﴿وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (٥٧) وَجَاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (٥٨)﴾.
﴿وَلَأَجْرُ﴾ (الواو): استئنافية. (اللام): موطئة للقسم. ﴿أجر الآخرة﴾: مبتدأ ومضاف إليه. ﴿خَيْرٌ﴾: خبر المبتدأ، والجملة الاسمية جواب القسم لا محل لها من الإعراب. ﴿لِلَّذِينَ﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿خَيْرٌ﴾. ﴿آمَنُوا﴾: فعل
34
وفاعل صلة الموصول. ﴿وَكَانُوا﴾: فعل ناقص واسمه، وجملة ﴿يَتَّقُونَ﴾ خبره، وجملة ﴿كان﴾ معطوفة على جملة الصلة. ﴿وَجَاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ﴾: فعل وفاعل ومضاف إليه، والجملة مستأنفة استئنافًا نحويًّا ﴿فَدَخَلُوا﴾: فعل وفاعل معطوف على ﴿جاء﴾. ﴿عَلَيهِ﴾: متعلق بـ ﴿دخل﴾. ﴿فَعَرَفَهُمْ﴾: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على ﴿يُوسُفَ﴾، والجملة معطوفة على جملة ﴿دخلوا﴾؛ لأن العاطف هنا حرف مرتب. ﴿وَهُمْ﴾: مبتدأ. ﴿لَهُ﴾: متعلق بما بعده. ﴿مُنْكِرُونَ﴾: خبر المبتدأ، والجملة الاسمية في محل النصب حال من مفعول ﴿عرف﴾ والتقدير: فعرفهم يوسف حالة كونهم جاهلين له.
﴿وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ قَالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ أَلَا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ (٥٩)﴾.
﴿وَلَمَّا﴾ (الواو): استئنافية. ﴿لما﴾: حرف شرط. ﴿جَهَّزَهُمْ﴾: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على ﴿يُوسُفَ﴾. ﴿بجهازهم﴾: متعلق به. ﴿قَالَ﴾: فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على ﴿يُوسُفَ﴾، والجملة الفعلية جواب ﴿لما﴾، وجملة ﴿لما﴾ مستأنفة. ﴿ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ﴾: مقول محكي لـ ﴿قَالَ﴾. وإن شئت قلت: ﴿ائْتُونِي﴾: فعل وفاعل ومفعول ونون وقاية. ﴿بِأَخٍ﴾: متعلق به والجملة في محل النصب مقول قال. ﴿لكُم﴾: جار ومجرور صفة لـ ﴿أخٍ﴾. ﴿مِنْ أَبِيكُمْ﴾: جار ومجرور حال من الضمير المستكن في الجار والمجرور قبله، أو صفة ثانية لـ ﴿أخٍ﴾. ﴿أَلَا﴾: (الهمزة): للاستفهام التقريري. ﴿لا﴾: نافية. ﴿تَرَوْنَ﴾: فعل وفاعل، والجملة في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾. ﴿أنِّي﴾: ناصب واسمه. ﴿أُوفِي الْكَيْلَ﴾: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على ﴿يُوسُفَ﴾، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر ﴿أن﴾، وجملة ﴿أن﴾ في تأويل مصدر سادّ مسدّ مفعولي ﴿رأى﴾ إن كانت علمية، أو منصوب على المفعولية لـ ﴿رأى﴾ إن كانت بصرية، تقديره: ألا ترون إيفائي الكيل. ﴿وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ﴾ مبتدأ وخبر ومضاف إليه، والجملة الاسمية في محل النصب معطوفة على جملة ﴿أن﴾ على كونها سادة مسد مفعول رأى.
﴿فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلَا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلَا تَقْرَبُونِ (٦٠)﴾.
35
﴿فَإِنْ﴾ (الفاء): فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر تقديره: إذا عرفتم ما قلت لكم، وأردتم بيان شأنكم إذا لم تأتوني به.. فأقول لكم ﴿إن لم تأتوني به﴾: ﴿إن﴾: حرف شرط جازم. ﴿لَمْ﴾: حرف نفي وجزم ﴿تَأْتُونِي﴾: فعل وفاعل ومفعول ونون وقاية مجزوم بـ ﴿لَمْ﴾، وجزمه بحذف النون. ﴿بِهِ﴾: متعلق به، والجملة الفعلية في محل الجزم بـ ﴿إن﴾ الشرطية على كونها فعل شرط لها. ﴿فَلَا﴾: (الفاء): رابطة لجواب ﴿إن﴾ الشرطية وجوبًا. ﴿لا﴾: نافية. ﴿كَيْلَ﴾: في محل النصب اسمها. ﴿لَكُمْ﴾: جار ومجرور خبر ﴿لا﴾ النافية، والجملة الاسمية في محل الجزم بـ ﴿إن﴾ الشرطية على كونها جوابًا لا. ﴿وَلَا تَقْرَبُونِ﴾: جاز ومجزوم بحذف النون، وهذه النون نون الوقاية، وحذفت ياء المتكلم تخفيفًا، وجملة قوله: ﴿وَلَا تَقْرَبُونِ﴾ في محل الجزم معطوفة على جملة ﴿لا﴾ النافية على كونها جوابًا لـ ﴿إن﴾: الشرطية، وجملة ﴿إن﴾ الشرطية في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة استئنافًا بيانيًّا.
﴿قَالُوا سَنُرَاوِدُ عَنْهُ أَبَاهُ وَإِنَّا لَفَاعِلُونَ (٦١)﴾.
﴿قَالُوا﴾: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة. ﴿سَنُرَاوِدُ عَنْهُ...﴾ إلى آخر الآية: قول محكي لـ ﴿قَالُوا﴾، وإن شئت قلت: ﴿سَنُرَاوِدُ﴾: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على إخوة يوسف. ﴿عَنهُ﴾: متعلق به. ﴿أَبَاهُ﴾: مفعول به، والجملة في محل النصب مقول ﴿قَالُوا﴾. ﴿وَإِنَّا﴾: ناصب واسمه. ﴿لَفَاعِلُونَ﴾ خبره، واللام: حرف ابتداء، والجملة الاسمية في محل النصب معطوفة على الجملة الفعلية على كونها مقولًا لـ ﴿قَالُوا﴾.
﴿وَقَالَ لِفِتْيَانِهِ اجْعَلُوا بِضَاعَتَهُمْ فِي رِحَالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَهَا إِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (٦٢)﴾.
﴿وَقَالَ﴾: فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على ﴿يُوسُفَ﴾. ﴿لِفِتْيَانِهِ﴾: جار ومجرور متعلق به، والجملة مستأنفة استئنافًا نحويًّا. ﴿اجْعَلُوا بِضَاعَتَهُمْ﴾ إلى آخر الآية: مقول محكي لـ ﴿قال﴾، وإن شئت قلت: ﴿اجْعَلُوا بِضَاعَتَهُمْ﴾: فعل وفاعل ومفعول، وجعل هنا بمعنى دس فلا يتعدى إلا إلى مفعول واحد. ﴿فِي رِحَالِهِمْ﴾:
36
متعلق به، والجملة الفعلية في محل النصب مقول ﴿قال﴾. ﴿لَعَلَّهُمْ﴾: ناصب واسمه. ﴿يَعْرِفُونَهَا﴾: فعل وفاعل ومفعول به، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر ﴿لعل﴾، وجملة ﴿لعل﴾: في محل النصب مسوقة لتعليل ما قبلها على كونها مقول ﴿قال﴾. ﴿إِذَا﴾: ظوف لما يسقبل من الزمان مجرد عن معنى الشرط. ﴿انْقَلَبُوا﴾: فعل وفاعل. ﴿إِلَى أَهْلِهِمْ﴾: متعلق به، والجملة الفعلية في محل الخفض بإضافة ﴿إِذَا﴾ إليها، والظرف متعلق بـ ﴿انْقَلَبُوا﴾، والتقدير: لعلهم يعرفونها وقت انقلابهم إلى أهلهم. ﴿لَعَلَّهُمْ﴾: ناصب واسمه، وجملة ﴿يَرْجِعُونَ﴾ في محل الرفع خبر، ﴿لعل﴾، وجملة ﴿لعل﴾ في محل النصب مقول ﴿قال﴾ مسوقة لتعليل ما قبلها؛ أي: ولعل معرفتهم ذلك تدعوهم إلى الرجوع كما في "البيضاوي".
﴿فَلَمَّا رَجَعُوا إِلَى أَبِيهِمْ قَالُوا يَا أَبَانَا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ فَأَرْسِلْ مَعَنَا أَخَانَا نَكْتَلْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (٦٣)﴾.
﴿فَلَمَّا﴾: (الفاء): فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر تقديره، إذا عرفت ما قال يوسف لهم، وما عاهد عليهم من الإتيان بالأخ، وما قالوا له من مراودته من أبيه، وأردت بيان ما قالوا لأبيهم بعد ما رجعوا إلى بلادهم.. فأقول لك، ﴿لَمَّا رَجَعُوا﴾، ﴿لما﴾: حرف شرط غير جازم. ﴿رَجَعُوَا﴾: فعل وفاعل. ﴿إِلَى أَبِيهِمْ﴾ متعلق به، والجملة فعل شرط لـ ﴿ما﴾. ﴿قَالُوا﴾: فعل وفاعل، والجملة جواب ﴿لما﴾ في محل النصب مقول الجواب إذا المقدرة. ﴿يَا أَبَانَا﴾ إلى آخر الآية: مقول محكي، وإن شئت قلت: ﴿يَا أَبَانَا﴾: منادى مضاف، وجملة النداء في محل النصب مقول ﴿قَالُوا﴾. ﴿مُنِعَ﴾: فعل ماض مغيّر الصيغة. ﴿مِنَّا﴾: متعلق به. ﴿الْكَيْلُ﴾: نائب فاعل، والجملة في محل النصب مقول ﴿قَالُوا﴾ على كونها جواب النداء. ﴿فَأَرْسِلْ﴾ (الفاء): عاطفة تفريعية، ﴿أرسل﴾: فعل أمر؛ وفاعله ضمير يعود على يعقوب. ﴿مَعَنَا﴾: متعلق به، أو حال من ﴿أَخَانَا﴾. ﴿أَخَانَا﴾: مفعول به، والجملة الفعلية معطوفة مفرعة على جملة قوله: ﴿مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ﴾ على كونها مقولًا لـ ﴿قَالُوا﴾. ﴿نَكْتَلْ﴾: فعل مضارع مجزوم بالطلب السابق، وفاعله ضمير يعود على إخوة يوسف، والجملة في محل النصب مقول ﴿قَالُوا﴾. ﴿وَإِنَّا﴾: ناصب واسمه. ﴿لَهُ﴾: متعلق بما بعده. ﴿لَحَافِظُونَ﴾: خيره،
37
واللام حرف ابتداء، والجملة الاسمية في محل النصب معطوفة على جملة ﴿أرسل﴾ على كونها مقول ﴿قَالُوا﴾.
﴿قَالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلَّا كَمَا أَمِنْتُكُمْ عَلَى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ﴾.
﴿قَالَ﴾: فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على يعقوب، والجملة مستأنفة. ﴿هَلْ آمَنُكُمْ﴾ إلى آخر الآية: مقول محكي، وإن شئت قلت: ﴿هَلْ﴾: حرف الاستفهام الإنكاري. ﴿آمَنُكُمْ﴾: فعل مضارع ومفعول به، وفاعله ضمير يعود على يعقوب. ﴿عَلَيْهِ﴾: متعلق به، والجملة الفعلية في محل النصب مقول ﴿قالَ﴾. ﴿إلّا﴾: أداة استثناء مفرغ. ﴿كَمَا﴾: ﴿الكاف﴾: حرف جر وتشبيه. ﴿ما﴾: مصدرية. ﴿أَمِنْتُكُمْ﴾: فعل وفاعل ومفعول. ﴿عَلَى أَخِيهِ﴾: متعلق به. وكذا قوله: ﴿مِنْ قَبْلُ﴾: متعلق به أيضًا. والجملة الفعلية صلة ﴿ما﴾ المصدرية، ﴿ما﴾ مع صلتها: في تأويل مصدر مجرور بالكاف تقديره: كأمني إياكم على أخيه من قبل، الجر والمجرور صفة لمصدر محذوف تقديره: هل آمنكم عليه إلا أمنًا كائنًا كأمني إياكم على أخيه من قبل. ﴿فَاللهُ﴾ (الفاء): عاطفة لقول محذوف على فعل محذوف تقديره: فتوكل يعقوب على الله، ودفعه إليهم، فقال الله خير حافظًا، ﴿الله خير﴾: مبتدأ وخبر. ﴿حَافِظًا﴾: حال من الضمير المستكن في ﴿خَيْر﴾، أو تمييز منصوب باسم التفضيل، والجملة في محل النصب مقول لذلك القول المحذوف. ﴿وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ﴾: مبتدأ وخبر، والجملة في محل النصب معطوفة على جملة قوله: ﴿فَاللَّهُ خَيْرٌ﴾ على كونها مقولًا لذلك القول المحذوف.
﴿وَلَمَّا فَتَحُوا مَتَاعَهُمْ وَجَدُوا بِضَاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ قَالُوا يَا أَبَانَا مَا نَبْغِي هَذِهِ بِضَاعَتُنَا رُدَّتْ إِلَيْنَا وَنَمِيرُ أَهْلَنَا وَنَحْفَظُ أَخَانَا وَنَزْدَادُ كَيْلَ بَعِيرٍ ذَلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ﴾.
﴿وَلَمَّا﴾ (الواو): استئنافية. ﴿لما﴾: حرف شرط. ﴿فَتَحُوا مَتَاعَهُمْ﴾: فعل وفاعل ومفعول، والجملة فعل شرط لـ ﴿لما﴾. ﴿وَجَدُوا بِضَاعَتَهُمْ﴾: فعل وفاعل ومفعول أول لـ ﴿وجد﴾. ﴿رُدَّتْ﴾: فعل ماضي مغير الصيغة، ونائب فاعله ضمير يعود على البضاعة. ﴿إِلَيْهِمْ﴾: متعلق به، والجملة الفعلية في محل النصب
38
مفعول ثان لـ ﴿وجد﴾ أو حال من البضاعة، وجملة ﴿وَجَدُوا﴾ جواب ﴿لما﴾، وجملة ﴿لما﴾ مستأنفة. ﴿قَالُوا﴾: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة. ﴿يَا أَبَانَا﴾ إلى آخر الآية مقول محكي، وإن شئت قلت: ﴿يَا أَبَانَا﴾: منادى مضاف، وجملة النداء في محل النصب مقول ﴿قَالُوا﴾. ﴿مَا﴾: استفهامية في محل النصب مفعول مقدم وجوبًا. ﴿نَبْغِي﴾: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على إخوة يوسف، والجملة الفعلية في محل النصب مقول ﴿قَالُوا﴾ على كونها جواب النداء. ﴿هَذِهِ بِضَاعَتُنَا﴾: مبتدأ وخبر، والجملة مستأنفة موضحة لجملة قوله: ﴿مَا نَبْغِي﴾. ﴿رُدَّتْ﴾: فعل ماض مغير الصيغة، ونائب فاعله ضمير يعود على البضاعة. ﴿إِلَيْنَا﴾: متعلق به، والجملة الفعلية في محل النصب حال من ﴿بِضَاعَتُنَا﴾. ﴿وَنَمِيرُ أَهْلَنَا﴾: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على إخوة يوسف، والجملة في محل النصب معطوفة على جملة محذوفة تقديرها: نستعين بها ونمير أهلنا ذكره في "الفتوحات". ﴿وَنَحْفَظُ أَخَانَا﴾: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على إخوة يوسف، والجملة معطوفة على ما قبلها. ﴿وَنَزْدَادُ كَيْلَ بَعِيرٍ﴾: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على إخوة يوسف، والجملة معطوفة على ما قبلها. ﴿ذَلِكَ كَيْلٌ﴾: مبتدأ وخبر. ﴿يَسِيرٌ﴾: صفة ﴿كَيْلٌ﴾.
﴿قَالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ﴾.
﴿قَالَ﴾: فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على يعقوب، والجملة مستأنفة. ﴿لَنْ﴾: حرف نفي ونصب. ﴿أُرْسِلَهُ﴾: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على يعقوب، والجملة في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾. ﴿مَعَكُمْ﴾: حال من مفعول ﴿أُرْسِلَهُ﴾. ﴿حَتَّى﴾: حرف جر وغاية. ﴿تُؤْتُونِ﴾: فعل وفاعل منصوب بأن مضمرة وجوبًا بعد حتى بمعنى إلى، وعلامة نصبه حذف النون: لأن أصله حتى تؤتونني، والنون المذكورة نون الوقاية، وياء المتكلم المحذوفة اجتزاءً عنها بكسرة نون الوقاية في محل النصب مفعول أول. ﴿مَوْثِقًا﴾: مفعول ثان. ﴿مِنَ اللَّهِ﴾ صفة لـ ﴿مَوْثِقًا﴾، والجملة الفعلية صلة أن المضمرة، أن مع صلتها في تأويل مصدر مجرور بحتى بمعنى إلى تقديره: إلى إيتائكم إيايّ موثقًا من الله، والجار والمجرور متعلق بـ ﴿أرسل﴾.
39
﴿لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلَّا أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قَالَ اللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ﴾.
﴿لَتَأْتُنَّنِي﴾: ﴿اللام﴾: موطئة للقسم. ﴿تأتنني﴾: فعل مضارع مرفوع لتجرده عن الناصب والجازم، وعلامة رفعه ثبات النون المحذوفة لتوالي الأمثال، والنون المشددة: نون التوكيد الثقيلة: حرف لا محل لها من الإعراب، والواو المحذوفة لالتقاء الساكنين: في محل الرفع فاعل، والنون الأخيرة: نون الوقاية، و (الياء): ضمير المتكلم: في محل النصب مفعول به مبني على السكون. ﴿بِهِ﴾: جار ومجرور متعلق به، والجملة الفعلية جواب القسم لا محل لها من الإعراب، وجملة القسم مقول لقول محذوف تقديره: حتى تؤتون موثقًا من الله قائلًا: والله لتأتنني به. ﴿إِلَّا﴾: أداة استثناء مفرغ من أعم الأحوال، أو من أعم العلل. ﴿أَن﴾: حرف نصب ومصدر. ﴿يُحَاطَ﴾: فعل مضارع مغير، الصيغة منصوب بـ ﴿أَن﴾. ﴿بِكُمْ﴾: جار ومجرور في محل الرفع نائب فاعل، والجملة الفعلية مع أن المصدرية في تأويل مصدر مجرور بإضافة المستثنى المحذوف تقديره: لتأتنني به على كل حال إلا حال الإحاطة بكم، أو لا تمتنعون من الإتيان به لعلة من العلل إلا العلة الإحاطة بكم. ﴿فَلَمَّا﴾: (الفاء): فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر تقديره: إذا عرفت أنه أبى من الإرسال معهم حتى يؤتوه موثقًا من الله، وأردت بيان قوله وحاله بعد أخذ الميثاق منهم.. فأقول لك: لما أتوه. ﴿لما﴾: حرف شرط غير جازم. ﴿آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ﴾: فعل وفاعل ومفعولان؛ لأن أتى هنا بمعنى أعطى يتعدى إلى مفعولين، والجملة شرط لـ ﴿لما﴾. ﴿قَالَ﴾: فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على يعقوب، والجملة جواب ﴿لما﴾ لا محل لها من الإعراب، وجملة ﴿لما﴾: في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة. ﴿اللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ﴾: مقول محكي لقال، وإن شئت قلت: ﴿اللَّهُ﴾: مبتدأ. ﴿عَلَى مَا﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿وَكِيلٌ﴾. ﴿نَقُولُ﴾: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على يعقوب ومن معه، والجملة صلة لـ ﴿مَا﴾، أو صفة لها، والعائد أو الرابط محذوف تقديره: على ما نقوله. ﴿وَكِيلٌ﴾: خبر المبتدأ، والجملة الاسمية في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾.
{وَقَالَ يَا بَنِيَّ لَا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَمَا أُغْنِي عَنْكُمْ
40
مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ}.
﴿وَقَالَ﴾: فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على يعقوب، والجملة معطوفة على جملة ﴿قال﴾ الأولى. ﴿يَا بَنِيَّ﴾: إلى آخر الآية: مقول محكي، وإن شئت قلت: ﴿يَا بَنِيَّ﴾: منادى مضاف، وجملة النداء في محل النصب مقول ﴿قال﴾. ﴿لَا تَدْخُلُوا﴾: فعل وفاعل مجزوم بـ ﴿لَا﴾ الناهية. ﴿مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ﴾: جار ومجرور وصفة متعلق بـ ﴿لَا تَدْخُلُوا﴾، والجملة الفعلية في محل النصب مقول ﴿قال﴾ على كونها جواب النداء. ﴿وَادْخُلُوا﴾: فعل وفاعل. ﴿مِنْ أَبْوَابٍ﴾: متعلق به. ﴿مُتَفَرِّقَةٍ﴾: صفة لـ ﴿أَبْوَابٍ﴾، والجملة في محل النصب معطوفة على جملة قوله: ﴿لَا تَدْخُلُوا﴾. ﴿وَمَا﴾: (الواو): عاطفة. ﴿ما﴾: نافية. ﴿أُغْنِي﴾: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على يعقوب. ﴿عَنْكُمْ﴾: متعلق به، والجملة في محل النصب معطوفة على جملة ﴿وَادْخُلُوا﴾. ﴿مِنَ اللَّهِ﴾: جار ومجرور حال من ﴿شَيْءٍ﴾؛ لأنه صفة نكرة قدمت عليها. ﴿مِنْ﴾: زاندة. ﴿شَيْءٍ﴾: مفعول ﴿أُغْنِي﴾؛ أي: أغني عنكم شيئًا من قضاء الله تعالى. ﴿إِن﴾: نافية مهملة لانتقاض نفيها بـ ﴿إِلَّا﴾. ﴿الْحُكْمُ﴾: مبتدأ. ﴿إلَّا﴾: أداة استثناء مفرغ. ﴿لِلَّهِ﴾: جار ومجرور خبر المبتدأ، والجملة في محل النصب مقول (قال). ﴿عَلَيْهِ﴾: جار ومجرور متعلق بما بعده. ﴿تَوَكَّلْتُ﴾: فعل وفاعل، والجملة في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾. ﴿وَعَلَيْهِ﴾: جار ومجرور متعلق بما بعده. ﴿فَلْيَتَوَكَّلِ﴾: ﴿الفاء﴾: سببية كما مر في مبحث التفسير نقلًا عن "روح البيان"، و (اللام): حرف جزم وطلب. ﴿يتوكل المتوكلون﴾: فعل وفاعل مجزوم بلام الأمر، والجملة في محل النصب معطوفة على الجملة التي قبلها.
﴿وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ مَا كَانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا حَاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِمَا عَلَّمْنَاهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾.
﴿وَلَمَّا﴾: (الواو): استئنافية. ﴿لما﴾: حرف شرط. ﴿دَخَلُوا﴾: فعل وفاعل، والجملة فعل شرط لـ ﴿لما﴾. ﴿مِنْ حَيْثُ﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿دَخَلُوا﴾. ﴿أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ﴾: فعل ومفعول وفاعل، والجملة في محل الجر
41
مضاف إليه لـ ﴿حَيْثُ﴾. ﴿مَا﴾: نافية. ﴿كَانَ﴾: فعل ماض ناقص، واسمها ضمير مستتر فيها يعود على دخولهم من أبواب متفرقة. ﴿يُغْنِي﴾: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على الدخول. ﴿عَنْهُمْ﴾: متعلق به. ﴿مِنَ اللَّهِ﴾: جار ومجرور حال من ﴿شَيْءٍ﴾. ﴿مِنْ شَيْءٍ﴾: مفعول ﴿يُغْنِي﴾ وجملة ﴿يُغْنِي﴾: في محل النصب خبر ﴿كَانَ﴾ وجملة ﴿كَانَ﴾ جواب ﴿لِمَا﴾ لا محل لها من الإعراب، وجملة ﴿لِمَا﴾ مستأنفة. ﴿إِلَّا﴾: أداة استثناء بمعنى لكن؛ لأن الاستثناء منقطع. ﴿حَاجَةً﴾: منصوب على الاستثناء. ﴿فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ﴾: جار ومجرور ومضاف إليه صفة أولى لـ ﴿حَاجَةً﴾. ﴿قَضَاهَا﴾: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على الله تعالى، وجملة ﴿قَضَاهَا﴾: في محل النصب صفة ثانية لـ ﴿حَاجَةً﴾. ﴿وَإِنَّهُ﴾: (الواو): استئنافية. ﴿إن﴾: ناصب واسمه. ﴿لَذُو عِلْمٍ﴾: (اللام): حرف ابتداء. ﴿ذو علم﴾: خبر ﴿إن﴾ مرفوع بالواو، والجملة مستأنفة. ﴿لِمَا﴾: (اللام): حرف جر وتعليل. ﴿ما﴾: مصدرية. ﴿عَلَّمْنَاهُ﴾: فعل وفاعل ومفعول، والجملة صلة لـ ﴿ما﴾ المصدرية ﴿ما﴾ مع صلتها في تأويل مصدر مجرور باللام تقديره: لتعليمنا إياه، الجار والمجرور متعلق بمحذوف تقديره: وإنما كان ذا علم لتعليمنا إياه. ﴿وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ﴾: ناصب واسمه، وجملة ﴿لَا يَعْلَمُونَ﴾: خبره، والجملة الاستدراكية معطوفة على جملة قوله تعالى: ﴿وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ﴾.
التصريف ومفردات اللغة
﴿إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ﴾؛ أي: كثيرة الأمر لصاحبها بالسوء؛ أي: شأنها الأمر بالسوء لميلها إلى الشهوات، وتأثيرها بالطبع، وصعوبة قهرها وكفها عن ذلك. والسوء: الفعل القبيح. والأمارة: صيغة مبالغة تدل على الكثرة.
﴿إِلَّا مَا رَحِمَ﴾ ﴿مَا﴾: واقعة على نفس من النفوس، فلذلك كانت بمعنى.
﴿أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي﴾؛ أي: أجعله خالصًا لنفسي، والاستخلاص طلب خلوص الشيء من جميع شوائب الاشتراك، فهو من باب استفعل السداسي، ولكنه بمعنى أفعل، فالسين والتاء فيه زائدتان، وإنما طلب الملك أن يستخلص يوسف لنفسه؛ لأن عادة الملوك أن ينفردوا بالأشياء النفيسة، ولا يشاركهم فيها أحد من الناس.
42
﴿إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ﴾؛ أي: ذو مكانة ومنزلة أمين؛ أي: مؤتمن على كل شيء، فهما صفتان مشبهتان من مكن على وزن كرم، وأمن على وزن فرح، يقال: مكن فلان عند فلان إذا اتخذ عنده مكانة؛ أي: منزلة؛ وهي الحالة التي يتمكن بها صاحبها مما يريد. وقيل: المكانة: المنزلة والجاه، والمعنى قد عرفنا أمانتك ومنزلتك، وصدقك وبرائتك مما نسبت إليه، ومكين: كلمة جامعة لكل ما يحتاج إليه من الفضائل والمناقب في أمر الدين والدنيا. اهـ. "خازن". وفي "المصباح": مكن فلان عند السلطان مكانة - وزان ضخم ضخامة - إذا عظم عنده وارتفع، فهو مكين، ومكنته من الشيء: جعلت له عليه سلطانًا وقدرةً، فتمكن منه، واستمكن: قدر عليه، وله مكنة؛ أي: قوة وشدة، وأمكنته منه بالألف مثل مكنته، وأمكنني الأمر سهل وتيسر. اهـ.
﴿اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ﴾؛ أي: ولّني على خزائن الطعام والأموال، وأراد بالأرض أرض مصر. ﴿إِنِّي حَفِيظٌ﴾ للخزائن ﴿عَلِيمٌ﴾ بوجوه مصالحها. وقيل: حفيظ لما استودعني عليم لما وليتني. وقيل: حفيظ للحساب عليم أعلم لغة من يأتيني. ﴿وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ﴾؛ أي: جعلنا له سلطانًا.
﴿فَعَرَفَهُمْ﴾ المعرفة والعرفان: معرفة الشيء بتفكر في أثره، وضده الإنكار.
﴿وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ﴾؛ أي: وفر ركائبهم بما جاءوا لأجله.
﴿بِجَهَازِهِمْ﴾ وجهاز السفر: أهبته وما يحتاج إليه في قطع المسافة، ومثله جهاز الميت والعروس بالكسر والفتح، وبهما قرئ، والمتواتر هو الفتح. وفي "المصباح": وجهزت المسافر بالتثقيل: هيأت له بجهازه، وجهاز السفر أهبته وما يحتاج إليه في قطع المسافة - بالفتح والكسر - لغة قليلة. اهـ.
﴿أَلَا تَرَوْنَ﴾ أصله تريون، تحركت الياء وانفتح ما قبلها قلبت ألفًا، فالتقى ساكنان، ثم حذفت الألف لبقاء دالها؛ وهو فتحة الراء، فصار ترون بوزن تفعون.
﴿أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ﴾ يقال: أوفى الشيء إذا جعله وافيًا تامًّا. ﴿وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ﴾؛ أي: خير المستضيفين للضيوف وأكثرهم قرى.
43
﴿وَلَا تَقْرَبُونِ﴾ وفي القاموس - قرب - ككرم، وقرب كسمع قربًا وقربانًا - بالضم - وقِربانًا - بالكسر - دنا فو قريب للواحد والجمع. اهـ. والمعنى هنا: لا تدنوا مني؛ أي: من بلادي؛ أي: لا تدخلوها فضلًا عن وصولكم إلي. اهـ. شيخنا.
﴿سَنُرَاوِدُ عَنْهُ أَبَاهُ﴾؛ أي: نخادع ونستميل برفق. ﴿وَإِنَّا لَفَاعِلُونَ﴾؛ أي: لقادرون على تلك المراودة.
﴿وَقَالَ لِفِتْيَانِهِ﴾؛ أي: لغلمانه الكيالين ﴿اجْعَلُوا بِضَاعَتَهُمْ﴾، أي: التي اشتروا بها الطعام الذي في هذا الرحل، وكانت نعالًا وأدمًا. وقيل: دراهم، والبضاعة: المال في يستعمل للتجارة. ﴿فِي رِحَالِهِمْ﴾: جمع رحل، وهو ما يوضع على ظهر الدابة، وفوقه متاع الراكب وغيره، والمراد هنا الأوعية التي يجعلون فيها ما يمتارونه من الطعام. ﴿إِذَا انْقَلَبُوا﴾؛ أي: رجعوا.
﴿نَكْتَلْ﴾: أصله نكتيل بوزن نغتنم، فتحركت الياء التي هي عين الكلمة، وانفتح ما قبلها، فقلبت ألفًا، ثم حذفت لالتقاء الساكنين، فوزنه الآن نفتل، وبحسب الأصل، نفتعل. اهـ. "شيخنا".
﴿هَلْ آمَنُكُمْ﴾ أصله: أأمنكم بهمزتين، فقلبت الثانية ألفًا على القاعدة.
﴿مِنْ قَبْلُ﴾؛ أي: من قبل هذا الزمان.
﴿وَلَمَّا فَتَحُوا مَتَاعَهُمْ﴾؛ أي: رحالهم؛ أي: الأوعية التي وضعوا فيها الميرة. ﴿وَجَدُوا بِضَاعَتَهُمْ﴾؛ أي: التي دفعوها له؛ وهي ثمن الميرة.
﴿وَنَمِيرُ أَهْلَنَا﴾؛ أي: نجلب لهم المِيرة - بالكسر - وهي الطعام يجلبه الإنسان من بلد إلى بلد ﴿كَيْلَ بَعِيرٍ﴾؛ أي: حمل جمل، فكيل بمعنى: مكيل.
﴿ذَلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ﴾، أي: قليل لا يكثر على سخائه كما جاء في قوله: ﴿وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلَّا يَسِيرًا﴾، أو سهل لا عسر فيه كما في قوله: ﴿وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا﴾.
﴿مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ﴾ والموثق العهد المؤكد باليمين، وقيل: العهد بإشهاد الله
44
عليه. اهـ. "خازن".
﴿إِلَّا أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ﴾؛ أي: إلا أن تغلبوا على أمركم، إلا أن تهلكوا، فإن من يحيط به العدو يهلك غالبًا، وتقول العرب: أحيط بفلان إذا هلك، أو قارب هلاكه.
﴿عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ﴾؛ أي: مطلع رقيب، فإن الموكل بالأمر يراقبه ويحفظه.
البلاغة
وقد تضمنت هذه الآيات أنواعًا من البلاغة، وضروبًا من الفصاحة والبيان والبديع:
فمنها: المبالغة في قوله: ﴿لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ﴾ لم يقل: آمرة مبالغة في وصف النفس بكثرة الدفع في المهاوي والقود إلى المغاوي؛ لأن فَعَّالًا من أبنية المبالغة.
ومنها: الإظهار في مقام الإضمار في قوله: ﴿لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ﴾ وهم المحسنون للتوصل إلى وصفهم بالإيمان والتقوى بعد وصفهم بالإحسان مبالغة في مدحهم.
ومنها: التضمين في قوله: ﴿وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ﴾ ضمن جهز معنى أكرم، فلذلك عداه بالباء؛ أي: ولما أكرمهم بجهازهم؛ أي: بتحصيله لهم.
ومنها: الجناس المغاير بين ﴿الْكَيْلَ﴾ وبين ﴿نَكْتَلْ﴾ في قوله: ﴿يَا أَبَانَا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ فَأَرْسِلْ مَعَنَا أَخَانَا نَكْتَلْ﴾، والمماثل في قوله: ﴿هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلَّا كَمَا أَمِنْتُكُمْ عَلَى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ﴾، وفي قوله: ﴿وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ﴾.
ومنها: التشبيه في قوله: ﴿إِلَّا كَمَا أَمِنْتُكُمْ﴾؛ أي: إلا ائتمانًا كائتماني لكم على أخيه، شبه ائتمانه لهم على هذا بائتمانه لهم على ذاك. اهـ. "سمين".
ومنها: الكناية في قوله: ﴿إِلَّا أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ﴾؛ لأن الإحاطة حقيقة في إحاطة العدو، وهو هنا كناية عن الهلاك؛ أي: إلا أن تهلكوا.
45
ومنها: الجناس المغاير في قوله: ﴿وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ﴾.
ومنها: المجاز العقلي في قوله: ﴿أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ﴾ لما فيه من الإسناد إلى السبب؛ لأنه الآمر.
ومنها: الطباق بين عرف وأنكر في قوله: ﴿فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ﴾.
ومنها: الإطناب في قوله: ﴿لَا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ﴾ وهو زيادة اللفظ على المعنى المراد؛ وفائدته: تمكين المعنى من النفس ورسوخه فيها، وفيه أيضًا من المحسنات البديعية ما يسمى طباق السلب.
ومنها: القصر في قوله: ﴿إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ﴾، وقوله: ﴿عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ﴾، وقوله: ﴿وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ﴾.
ومنها: الإتيان بصيغة الاستقبال في قوله: ﴿أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ﴾ مع أنه قال لهم هذه المقالة بعد تجهيزهم؛ للدلالة على أن ذلك عادته المستمرة.
ومنها: التعبير عما في المستقبل بالماضي في قوله ﴿مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ﴾؛ لأنه يراد به المنع في المستقبل.
ومنها: الزيادة والحذف في عدة مواضع.
والله سبحانه وتعالى أعلم
* * *
46
قال الله سبحانه جلَّ وعلا:
﴿وَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَخَاهُ قَالَ إِنِّي أَنَا أَخُوكَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (٦٩) فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ جَعَلَ السِّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ (٧٠) قَالُوا وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ مَاذَا تَفْقِدُونَ (٧١) قَالُوا نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ (٧٢) قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ مَا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ وَمَا كُنَّا سَارِقِينَ (٧٣) قَالُوا فَمَا جَزَاؤُهُ إِنْ كُنْتُمْ كَاذِبِينَ (٧٤) قَالُوا جَزَاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (٧٥) فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَاءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِنْ وِعَاءِ أَخِيهِ كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ (٧٦) قَالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ قَالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكَانًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَصِفُونَ (٧٧) قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (٧٨) قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِنْدَهُ إِنَّا إِذًا لَظَالِمُونَ (٧٩) فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا قَالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ وَمِنْ قَبْلُ مَا فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ (٨٠) ارْجِعُوا إِلَى أَبِيكُمْ فَقُولُوا يَا أَبَانَا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَمَا شَهِدْنَا إِلَّا بِمَا عَلِمْنَا وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ (٨١) وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (٨٢) قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (٨٣) وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ (٨٤)﴾.
التفسير وأوجه القراءة
٦٩ - ﴿وَلَمَّا دَخَلُوا﴾؛ أي: ولما دخل إخوة يوسف ﴿عَلَى يُوسُفَ﴾ في مجلسه الخاص به بعد دخولهم باحة القصر من حيث أمرهم أبوهم ﴿آوَى﴾ يوسف وضمّ ﴿إِلَيْهِ﴾؛ أي: إلى نفسه في الطعام والمنزل والمبيت ﴿أَخَاهُ﴾ الشقيق بنيامين، وقد حصل ما كان يتوقع يعقوب، أو فوق ما كان يتوقع من الحنوِّ عليه
47
والعناية التي خصه بها.
قال المفسرون (١): لما دخل إخوة يوسف على يوسف عليه السلام.. قالوا: أيها الملك هذا أخبرنا الذي أمرتنا أن نأتيك به، فقد جئناك به، فقال لهم: أحسنتم وأصبتم، وستجدون ذلك عندي، ثم أنزلهم وأكرم نُزلهم، ثم إنه أضافهم وأجلس كل اثنين على مائدة، فبقي بنيامين وحيدًا، فبكى وقال: لو كان أخي يوسف حيًّا.. لأجلسني معه، فقال لهم يوسف عليه السلام، لقد بقي هذا وحده، فقالوا: كان له أخ، فهلك. قال لهم: فأنا أجلسه معي، فأخذه فأجلسه معه على مائدته، وجعل يؤاكله، فلما كان الليل أمرهم بمثل ذلك، وقال كل اثنين منكم ينامان على فراش واحد، فبقي بنيامين وحده، فقال يوسف: هذا ينام عندي على فراشي، فنام بنيامين مع يوسف على فراشه، فجعل يوسف يضمه إليه، ويشمّ ريحه، ويشمّ ريح أبيه منه حتى أصبح، فلما أصبح قال لهم: إني أرى هذا الرجل وحيدًا ليس معه ثان، وسأضمه إلي فيكون معي في منزلي، ثم إنه أنزلهم وأجرى عليهم الطعام، فقال رويبل: ما رأينا مثل هذا قط، فلما خلا به.. قال له يوسف: ما اسمك؟ قال: بنيامين. قال: وما بنيامين؟ قال: ابن المشكّل، وذلك أنه لما ولدته أمه هلكت. قال: وما اسم أمك؟ قال: راحيل بنت لاوى. قال: فهل لك من ولد؟ قال: لي عشرة بنين. قال: فهل لك من أخ لأمك؟ قال: كان لي أخ، فهلك. قال يوسف: أتحب أن أكون أخاك بدل أخيك الهالك؟ قال بنيامين: ومن يجد أخًا مثلك أيها الملك، ولكن لم يلدك يعقوب ولا راحيل، فبكى يوسف عليه السلام، وقام إليه وعانقه و ﴿قَالَ إِنِّي أَنَا أَخُوكَ﴾ يوسف الذي فقدتموه صغيرًا ﴿فَلَا تَبْتَئِسْ﴾؛ أي: فلا تحزن، وقال أهل اللغة: تبتئس تفتعل من البؤس؛ وهو الضرر والشدة، والابتئاس: اجتلاب الحزن والبؤس؛ أي: فلا تحزن ولا تتأسف ﴿بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ بنا فيما مضى من الضرر والأذى، فإن الله تعالى قد أحسن إلينا وجمع بيننا بخير؛ أي: فلا تلتفت إلى ما صنعوه بنا فيما تقدم من أعمالهم المنكرة، ولا يلحقن بك بعد الآن بؤس؛ أي: مكروه ولا شدة
(١) الخازن.
48
بسبب ما كانوا يعملون من الجفاء وسوء المعاملة بحسدهم لي ولك، وأمره أن لا يخبرهم، بل يخفي الحال عنهم. وقال بنيامين: أنا لا أفارقك أبدًا. قال يوسف عليه السلام: قد علمت اغتمام والدك بي، فإذا حبستك عندي ازداد غمه، ولا يمكنني هذا إلا بعد أن أشهرك بأمر فظيع، وأنسبك إلى ما لا يحمد. قال: لا أبالي فافعل ما بدا لك، فإني لا أفارقك. قال يوسف عليه السلام: فإني أدس صاعي في رحلك، ثم أنادي عليك بالسرقة لأحتال في ردك بعد إطلاقك معهم. قال: فافعل ما شئت،
٧٠ - فذلك قوله تعالى: ﴿فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ﴾ يوسف وهيأهم ﴿بِجَهَازِهِمْ﴾؛ أي: بأهبة سفرهم؛ أي: فلما هيأ يوسف لهم ما يحتاجون إليه للسفر، وحمل لهم أحمالهم من الطعام على إبلهم، وعبّر (١) هنا بالفاء إشارة إلى طلب سرعة سيرهم وذهابهم إلى بلادهم؛ أي: لأن الغرض منه قد حصل، وقد عرفت حالهم بخلاف المرة الأولى، كان المطلوب فيها طول مدة إقامتهم؛ ليتعرف الملك حالهم. ﴿جَعَلَ﴾ يوسف عليه السلام ﴿السِّقَايَةَ﴾؛ أي: المشربة - بكسر الميم - وهي صاع من ذهب مرصع بالجواهر؛ أي: على بالرصائع، وهي حلق يحلى بها، الواحدة رصيعة وكان يشرب فيه الملك، فيسمى سقاية باعتبار أول حاله، وصاعًا باعتبار آخر أمره؛ لأن الصاع آلة الكيل يسع أربعة أمداد. فالسقاية إناء يشرب منه، جعلها يوسف مكيالًا؛ لئلا يكال بغيرها، وكان يشرب فيها، أو كال بها لإخوته إكرامًا لهم، وكانت من ذهب، وقيل: من فضة، وكان الشرب في إناء الذهب والفضة مباحًا في الشريعة الأولى، فالسقاية والصُّواع اسم لإناء كما مر آنفًا؛ أي: دس يوسف مشربته التي كان يشرب فيها ﴿فِي رَحْلِ أَخِيهِ﴾ الشقيق بنيامين؛ أي: في وعاء طعامه. والمعنى: فلما قضى لهم حاجتهم، ووفاهم كيلهم جعل الإناء الذي يكيل به الطعام في رحل أخيه. وفي قوله: ﴿جَعَلَ السِّقَايَةَ﴾ إيماء إلى أنه وضعها بيده، ولم يكل ذلك إلى أحد من فتيانه كتجهيزهم الأول والثاني؛ لئلا يطلعوا على مكيدته.
ثم ارتحلوا راجعين إلى بلادهم، فأمهلهم يوسف حتى خرجوا من العمران،
(١) الفتوحات.
49
ولما انفصلوا عن مصر نحو الشام.. أرسل يوسف وراءهم من استوقفهم، فاستوقفهم فوقفوا ﴿ثُمَّ أَذَّنَ﴾ ونادى ﴿مُؤَذِّنٌ﴾؛ أي: مناد من فتيان يوسف، قيل: اسمه أفراييم كما في "روح البيان"؛ أي: نادى منادٍ برفع صوته مرارًا كثيرة قائلا: ﴿أَيَّتُهَا الْعِيرُ﴾؛ أي: أيتها القافلة التي فيها الأحمال ويا أصحاب الإبل التي عليها الأحمال. والعير (١) في الأصل: كل ما يحمل عليه من الإبل والحمير والبغال، سمي بذلك؛ لأنه يعير؛ أي: يذهب ويجيء، والمراد هنا: أصحاب الإبل ونحوها. ﴿إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ﴾ صواعنا فقفوا لنفتشكم. وقرأ عبد الله فيما نقل الزمخشري شذوذًا: ﴿وجعل السقاية في رحل أخيه ثم أمهلهم حتى انطلقوا ثم أذن﴾. وفي نقل ابن عطية ﴿وجعل السقاية﴾ - بزيادة واو - دون الزيادة التي زادها الزمخشري بعد قوله: ﴿فِي رَحْلِ أَخِيهِ﴾ وثم تنتفي المهلة بين جعل السقاية والتأذين، ذكره أبو حيان.
والخلاصة: افتقد فتيان يوسف عليه السلام السقاية (٢)؛ لأنها الصواع الذي يكيلون به للمتارين، فلم يجدوها، فأذن مؤذنهم بذلك؛ أي: كرر النداء به كدأب الذين ينشدون المفقود في كل زمان ومكان قائلًا: أيتها العير إنكم لسارقون؛ أي: يا أصحاب العير قد ثبت عندنا أنكم سارقون، فلا ترحلوا حتى نفتشها في رحالكم.
فإن قلت: (٣) هل كان هذا النداء بأمر يوسف عليه السلام أم لا؟، فإن كان بأمره، فكيف يليق بيوسف مع علو منصبه، وشريف رتبته من النبوة والرسالة أن يتهم أقومًا، وينسبهم إلى السرقة كذبًا مع علمه ببراءتهم عن تلك التهمة التي نسبوا إليها؟
قلت: ذكر العلماء عن هذا السؤال أجوبة:
أحدها: أن يوسف لما أظهر لأخيه أنه أخوه قال: لست أفارقك، قال: لا سبيل إلى ذلك إلا بتدبير حيلة أنسبك فيها إلى ما لا يليق، قال: رضيت بذلك،
(١) الفتوحات.
(٢) المراغي.
(٣) الخازن.
50
فعلى هذا التقدير لم يتألم قلبه بسبب هذا الكلام، بل قد رضي به، فلا يكون ذنبًا.
الثاني: أن يكون المعنى: إنكم لسارقون ليوسف من أبيه إلا أنهم ما أظهروا هذا الكلام، فهو من المعاريض، وإنَّ في المعاريض مندوحةً عن الكذب.
الثالث: يحتمل أن يكون المنادي ربما قال ذلك على سبيل الاستفهام، وعلى هذا التقدير لا يكون كذبًا.
والرابع: ليس في القرآن ما يدل على أنهم قالوا ذلك بأمر يوسف، وهو الأقرب إلى ظاهر الحال؛ لأنهم لمَّا طلبوا السقاية، فلم يجدوها، ولم يكن هناك أحد غيرهم.. غلب على ظنهم أنهم هم الذين أخذوها، فقالوا ذلك بناء على غلبة ظنهم. اهـ. "خازن".
٧١ - ﴿قَالُوا﴾؛ أي: قال أخوة يوسف للمؤذن ومن معه ﴿و﴾ قد وقفوا و ﴿أقبلوا عليهم﴾؛ أي: والحال أنهم قد التفتوا إلى جماعة الملك المؤذن وأصحابه ﴿مَاذَا﴾ تعدمون، وأي شيء ﴿تَفْقِدُونَ﴾؛ أي: تطلبون، وما الذي ضاع منكم. والفقد: غيبة الشيء عن الحس بحيث لا يعرف مكانه، تقول: فقدت الشيء إذا عدمته بأن ضل عنك لا بفعلك. وقرأ السلمي شذوذًا (١): ﴿تَفْقِدُونَ﴾ - بضم التاء - من أفقدته إذا وجدته فقيدًا، نحو أحمدته إذا وجدته محمودًا، وضَعَّف هذه القراءة أبو حاتم. قال أهل الأخبار (٢): لما وصل الرسل إلى إخوة يوسف قالوا لهم: ألم نكرمكم ونحسن ضيافتكم، ونوف إليكم الكيل ونفعل بكم ما لم نفعل بغيركم؟؛ قالوا: بلى، وما ذاك؟ قالوا: فقدنا سقاية الملك ولا نتهم عليها غيركم، فذلك قوله تعالى: ﴿قَالُوا وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ﴾؛ أي: عطفوا على المؤذن وأصحابه، وقالوا ما الذي تفقدون، والفقدان: ضد الوجود.
٧٢ - ﴿قَالُوا﴾؛ أي: قال المؤذن وأصحابه في جوابهم ﴿نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ﴾؛
(١) البحر المحيط.
(٢) الخازن.
51
أي: نطلب إناء الملك الذي كان يشرب فيه ويكيل به، وإنما اتخذ هذا الإناء مكيالًا لعزة ما يكال به في ذلك الوقت؛ أي: نفقد الصواع الذي عليه شارة الملك، وقرأ الجمهور (١): ﴿صُوَاعَ﴾ بزنة غراب بضم الصاد بعدها واو مفتوحة بعدها ألف بعدها عين مهملة. وقرأ أبو حيوة والحسن وابن جبير فيما نقل ابن عطية كذلك إلا أنه كسر الصاد.
وقرأ أبو هريرة ومجاهد: ﴿صاع﴾ - بغير واو - وعلى وزن ناب، فالألف فيها بدل من الواو المفتوحة. وقرأ أبو رجاء: ﴿صوع﴾ على وزن قوس. وقرأ عبد الله بن عون بن أبي أرطبان: ﴿صرع﴾ - بضم الصاد - وقرأ أبيّ: ﴿صياع﴾. وكلها لغات في الصاع. وقرأ الحسن وابن جبير فيما نقل عنهما صاحب "اللوامح" ﴿صواغ﴾ - بالغين المعجمة - على وزن غراب. وقرأ يحيى بن يعمر كذلك إلا أنه يحذف الألف، ويسكن الواو. وقرأ زيد بن علي: ﴿صوغ﴾ مصدر صاغ، وصواغ وصوغ مشتقان من الصوغ مصدر صاغ يصوغ أقيما مقام المفعول بمعنى مصوغ الملك. فهذه ثمان قراءات في هذا الحرف كلها لغات، والمتواتر منها واحدة وهي قراءة الجمهور، وهذا اللفظ يذكر ويؤنث، ويجمع الصواع على صيعان كغراب وغربان، والصاع على أصوع.
قال المؤذن: ﴿وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ﴾؛ أي: بالإناء من عند نفسه مظهرًا له قبل التفتيش ﴿حِمْلُ بَعِيرٍ﴾؛ أي: حمولة جمل من الطعام أجرة له وجعلًا. ﴿وَأَنَا بِهِ﴾؛ أي: بذلك الحمل ﴿زَعِيمٌ﴾؛ أي: كفيل ضامن أؤديه إليه؛ لأن الإناء كان من الذهب، وقد اتهمني الملك. وفي "البحر": ﴿وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ﴾؛ أي: ولمن دل على سارقه وفضحه ﴿حِمْلُ بَعِيرٍ﴾؛ أي: وسق بعير من طعام جعلًا لمن حصله. وفي قوله: ﴿حِمْلُ بَعِيرٍ﴾ دليل على أن عيرهم كانت الإبل لا الحمير (٢).
وهذه الآية (٣): تدل على أن الكفالة كانت صحيحة في شرعهم، وقد حكى رسول الله - ﷺ - بها في قوله: ".. الحميل غارم" والحميل: الكفيل.
(١) البحر المحيط.
(٢) المراغي.
(٣) الخازن.
52
فإن قلت: كيف تصح هذه الكفالة مع أن السارق لا يستحق شيئًا؟
قلت: لَمْ يكونوا سراقًا في الحقيقة، فيحمل ذلك على مثل رد الضائع، فيكون جعالة، ولعل مثل هذه الكفالة كانت جائزة عندهم في ذلك الزمان، فيحمل عليه.
٧٣ - ﴿قَالُوا﴾؛ أي: إخوة يوسف متعجبين من مقالة الرسل ﴿تَاللَّهِ﴾ قسم فيه معنى التعجب مما أضيف إليهم من السرقة، والتاء بدل من الواو مختصة باسم الله تعالى: ﴿لَقَدْ عَلِمْتُمْ﴾ فيه معنى القسم، فهو تأكيد للقسم قبله؛ أي: والله لقد علمتم وعرفتم يا أصحاب يوسف ﴿مَا جِئْنَا﴾ نحن في هذه البلدة ﴿لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ﴾؛ أي: لنفعل الفساد في أرض مصر بمضرة الناس ولنسرق فيها، فإنه من أعظم الفساد ﴿وَمَا كُنَّا سَارِقِين﴾؛ أي: ما كنا نوصف بالسرقة قط. والمعنى: (١) ما أعجب حالكم؛ أنتم تعلمون علمًا جليًّا من ديانتنا وفرط أمانتنا، أننا بريئون مما تنسبون إلينا فكيف تقولون لنا إنكم لسارقون؟ لأنه (٢) قد ظهر من أحوالهم وامتناعهم من التصرف في أموال الناس بالكلية لا بالأكل ولا بإرسال الدواب في مزارع النَّاس، ولأنهم لما وجدوا بضاعتهم في رحالهم حملوها من بلادهم إلى مصر، ولم يستحلوا أخذها. وإنما حكموا بعلمهم ذلك (٣)؛ لأن العلم بأحوالهم الشاهدة يستلزم العمل بأحوالهم الغائبة. قال المفسرون (٤): إن إخوة يوسف حلفوا على أمرين:
أحدهما: أنهم ما جاؤوا لأجل الفساد في الأرض.
والثاني: أنهم ما جاؤوا سارقين، وإنما قالوا هذه المقالة؛ لأنه كان قد ظهر من أحوالهم ما يدل على صدقهم، وهم أنهم كانوا مواظبين على أنواع الخير والطاعة والبر حتى بلغ من أمرهم أنهم شدوا أفواه دوابهم؛ لئلا تؤذي زرع الناس، ومن كانت هذه صفته.. فالفساد في حقه ممتنع. وأما الثاني وهو أنهم ما كانوا سارقين، فلأنهم قد كانوا ردوا البضاعة التي وجدوها في رحالهم، ولم
(١) روح البيان.
(٢) المراح.
(٣) روح البيان.
(٤) الخازن.
يستحلوا أخذها، ومن كانت هذه صفته.. فليس بسارق، فلأجل ذلك قالوا: ﴿لَقَدْ عَلِمْتُمْ مَا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ﴾،
٧٤ - فلما تبينت براءتهم من هذه التهمة ﴿قَالُوا﴾؛ أي: قال أصحاب يوسف؛ وهو المنادي وأصحابه: ﴿فَمَا جَزَاؤُهُ﴾؛ أي: أي فما جزاء السارق. قال النسفي: الضمير للصواع، ولكنه على حذف مضاف؛ أي: فما جزاء سرقة الصواع عندكم وفي شريعتكم ﴿إِنْ كُنْتُمْ كَاذِبِينَ﴾ في قولكم: ﴿مَا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ وَمَا كُنَّا سَارِقِينَ﴾؛ أي: إن كنتم كاذبين في جحودكم ونفي كون الصواع فيكم.
٧٥ - ﴿قَالُوا﴾؛ أي: قال إخوة يوسف: ﴿جَزَاؤُهُ﴾: مبتدأ ﴿مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ﴾: خبره، ولكنه على تقدير مضاف في الطرفين؛ أي: جزاء سرقة الصواع هو استرقاق من وجد الصواع في رحله سنة، ثم يخلى سبيله، فهذه شريعتهم. يعني (١) جزاء السارق الذي وجد في رحله أن يسلم برقبته إلى المسروق منه، فيسترقه سنة، وكان ذلك سنة آل يعقوب في حكم السارق، وكان في حكم ملك مصر أن يضرب السارق ويغرم ضعفي قيمة المسروق، وكان هذا في شرعهم في ذلك الزمان يجري مجرى القطع في شرعنا، فأراد يوسف أن يأخذ بحكم أبيه في السارق، فلذلك ردّ الحكم إليهم. والمعنى: إن جزاء السارق أن يستعبد سنة للمسروق منه جزاء له على جرمه وسرقته، وقوله: ﴿فَهُوَ جَزَاؤُهُ﴾؛ أي: فاسترقاق ذلك السارق سنة هو جزاء سرقة الصواع لا غير، تقرير للحكم المذكور، وتأكيد له بإعادته كما تقول: حق الضيف أن يكرم فهو حقه، والقصد من الأول: إفادة الحكم، ومن الثاني: إفادة أن ذلك هو الحق الواجب في مثل هذا؛ أي: فهذه (٢) الجملة بمعنى التي قبلها. ﴿كَذَلِك﴾؛ أي: مثل ذلك الجزاء المذكور بقوله: ﴿جَزَاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ﴾ والمراد به: استرقاق السارق ﴿نَجْزِي﴾ في شريعتنا وحكمنا ﴿الظَّالِمِينَ﴾ للناس بالسرقة لأمتعتهم وأموالهم في شريعتنا، فنحن أشد الناس عقابًا للسراق؛ أي: نحكم ونفتي باسترقاق كل سارق؛ لأنه شرعنا المقرر
(١) الفتوحات.
(٢) روح البيان.
فيما بيننا؛ أي: مثل (١) هذا الجزاء الأوفى نجزي الظالمين بالسرقة، قالوا ذلك ثقة بكمال برائتهم منها، وهم عما فعل بهم غافلون، وهذا تأكيد منهم بعد تأكيد لثقتهم ببراءة أنفسهم. وهذه الجملة (٢) من بقية كلام إخوة يوسف، وقيل: من كلام أصحاب يوسف جوابًا لقول إخوته ذلك، فردوا لتفتيش أوعيتهم إلى يوسف عليه السلام من المكان (٣) الذي لحقهم فيه جماعة الملك، وتقدم أنهم وصلوا إلى خارج مصر، وقيل: إلى بلبيس. اهـ. "شيخنا".
٧٦ - ﴿فَبَدَأَ﴾ يوسف بعد ما رجعوا إليه ﴿بِأَوْعِيَتِهِمْ﴾؛ أي: بتفتيش أوعية الأخوة العشرة التي تشتمل عليها رحالهم ﴿قَبْلَ﴾ تفتيش ﴿وِعَاءِ أَخِيهِ﴾ الشقيق بنيامين؛ لنفي التهمة وابتعادًا عن الشبهة بطريق الحيلة. روي أنه لما بلغت النوبة إلى وعائه.. قال: ما أظن هذا أخذ شيئًا، فقال إخوة يوسف: والله لا نتركك حتى تنظر في رحله، فإنه أطيب لنفسك وأنفسنا. وقرأ الحسن: ﴿من وعاء﴾ - بضم الواو - وجاء كذلك عن نافع. وقرأ ابن جبير: ﴿من إعاء﴾ - بإبدال الواو المكسورة همزة - كما قالوا إشاح وإسادة في وشاح ووسادة، وذلك مطرد في لغة هذيل يبدلون من الواو المكسورة الواقعة أولًا همزةً وهاتان القراءتان شاذتان.
وأنث الضمير الراجع إلى الصواع في قوله: ﴿ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا﴾ نظرًا لمعنى السقاية، أو لكون الصواع يذكر ويؤنث؛ أي: ثم بعد أن فرغ يوسف من تفتيش أوعيتهم فتش وعاء أخيه، فاستخرجها ﴿مِنْ وِعَاءِ أَخِيهِ﴾؛ أي: أخرج الصواع والسقاية من رحل أخيه بنيامين، فقال له فرَّجك الله كما فرجتني.
فلما وجد الصاع مدسوسًا في رحل بنيامين (٤)، واستخرج منه نكسوا رؤوسهم وانقطعت ألسنتهم، فأخَذوا بنيامين مع ما معه من الصواع، وردوه إلى يوسف، وأخذوا يشتمونه بالعبرانية، وقالوا له: يا لص ما حملك على سرقة صاع الملك، ولا يزال ينالنا منك بلاء كما لقينا من ابن راحيل، فقال بنيامين: بل ما
(١) المراح.
(٢) الفتوحات.
(٣) روح البيان.
(٤) روح البيان.
55
لقي إبنا راحيل البلاء إلا منكم، فأما يوسف فقد علمتم ما فعلتم به، وأما أنا فسرقتموني؛ أي: نسبتموني إلى السرقة قالوا: فمن جعل الإناء في متاعك؟ أليس قد خرج من رحلك؟ قال: إن كنتم سرقتم بضاعتكم الأولى وجعلتموها في رحالكم، فكذلك أنا سرقت الصاع وجعلته في رحلي، فقال روبيل: لقد صدق، وأراد بنيامين أن يخبرهم بخبر يوسف، فذكر وصيته له فسكت.
﴿كَذَلِكَ﴾؛ أي: مثل ذلك الكيد العجيب والتدبير الخفي، وهو عبارة عن إرشاد الإخوة إلى الإفتاء المذكور بإجرائه على ألسنتهم، وبحملهم عليه بواسطة المستفتين من حيث لم يحتسبوا ﴿كِدْنَا لِيُوسُفَ﴾؛ أي: (١) صنعنا له ودبرنا لأجل تحصيل غرضه من المقدمات التي رتبها من دس الصواع وما يتلوه. والكيد في الأصل عبارة عن المكر والخديعة، وهو أن توهم غيرك خلاف ما تخفيه.
أي: مثل (٢) ذلك الحكم الذي ذكره إخوة يوسف من استرقاق السارق حكمنا به ليوسف، والمعنى: كما ألهمنا إخوة يوسف أن احكموا أن جزاء السارق أن يسترق.. كذلك ألهمنا يوسف ما فعله من دس الصواع في رحل أخيه ليضمه إليه على ما حكم به إخوته. والكيد (٣) مبدؤه السعي في الحيلة والخديعة، ونهايته إلقاء المخدوع من حيث لا يشعر في أمر مكروه لا سبيل إلى دفعه، وهو محمول في حقه سبحانه على النهاية لا على البداية. وفي الآية دليل على جواز التوصل إلى الأغراض الصحيحة بما صورته صورة الحيلة والمكيدة إذا لم يخالف شرعًا ثابتًا.
وقوله: ﴿مَا كَانَ﴾ يوسف ﴿لِيَأْخُذَ أَخَاهُ﴾ بنيامين ﴿فِي دِينِ الْمَلِكِ﴾؛ أي: في دين ملك مصر وحكمه قضائه وشريعته التي كان عليها استئناف تعليل لما صنعه الله تعالى من الكيد ليوسف، أو تفسير له كأنه قيل: لماذا فعل يوسف ذلك؟ فقيل: لأنه لم يكن ليأخذ أخاه بما فعل في دين ملك مصر في أمر
(١) الخازن.
(٢) الشوكاني.
(٣) روح البيان.
56
السارق؛ أي: في حكمه وقضائه إلا بما فعل.
بل كل دين الملك وقضاؤه أن يضرب السارق ويغرم ضعف ما سرقه دون الاستعباد سنة كما هو دين يعقوب وشريعته.
وحاصله: أن يوسف ما كان يتمكن من إجراء حكم يعقوب على أخيه مع كونه مخالفًا لدين الملك وشريعته لولا ما كاد الله له ودبره وأرادوه حتى وجد السبيل إليه؛ وهو ما أجراه على ألسن إخوته من قولهم: إن جزاء السارق الاسترقاق، فكان قولهم هذا هو بمشيئة الله تعالى وتدبيره، وهو معنى قوله: ﴿إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ﴾؛ أي: لم يكن يوسف يأخذ أخاه في حكم الملك بسبب من الأسباب إلا بسبب مشيئة الله تعالى وهو حكم أبيه، فالاستثناء من أعم الأحوال؛ أي: لم يكن يتمكن من أخذه وضمه إليه في دين الملك بالسرقة التي نسبها إليه في حال من الأحوال إلا حال مشيئته تعالى التي هي عبارة عن إرادته لذلك الكيد، وإلا حال مشيئته للأخذ بذلك الوجه. قال الكواشي: لولا شريعة أبيه لما تمكن من أخذ أخيه. انتهى. ولما كانت هذه الوسيلة إلى تلك الغاية الشريفة منكرة بحسب الظاهر؛ لأنها تهمة باطلة، وكان من شأن يوسف أن يتباعد عنها ويتحاماها إلا بوحي من الله تعالى.. بين أنه فعل ذلك بإذن الله ومشيئته، فقال: ﴿إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ﴾؛ أي: إنه فعل ذلك بإذن الله ووحيه، لا أنه هو الذي اخترع هذه المكيدة؛ لأن ذلك كله كان إلهامًا من الله ليوسف وإخوته حتى جرى الأمر على وفق المراد.
﴿نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ﴾؛ أي: نرفع إلى درجات كثيرة ورتب عالية من العلم ﴿مَنْ نَشَاءُ﴾ رفعه في العلم من عبادنا حسبما تقتضيه الحكمة وتستدعيه المصلحة كما رفعنا يوسف على إخوته في العلم، والمعنى: نرفع درجات من نشاء بضروب العلوم والمعارف والعطايا والكرامات كما رفعنا درجة يوسف بذلك. وانتصاب (١) ﴿دَرَجَاتٍ﴾: إما على المصدرية؛ أي: نرفع رفع درجات، وإما على الظرفية؛
(١) المراغي.
57
أي: في درجات، أو بنزع الخافض؛ أي: إلى درجات.
والمعنى (١): أي: نرفع من نشاء درجات كثيرة في العلم والإيمان، نريه وجوه الصواب في بلوغ المراد كما رفعنا درجات يوسف على إخوته في كل شيء. وفي هذا (٢) إيماء إلى أن العلم الشريف أشرف المقامات وأعلى الدرجات؛ لأن الله تعالى مدح يوسف ورفع درجته على إخوته بالعلم، وبما ألهمه على وجه الهداية والصواب في الأمور كلها. وقرأ الكوفيون حمزة والكسائي وعاصم وابن محيصن (٣): ﴿نَرفَع﴾ - بنون - ﴿دَرَجَاتٍ﴾ - منونًا - ﴿من يشاء﴾ - بالنون -. وباقي السبعة كذلك إلا أنهم أضافوا ﴿دَرَجَاتٍ﴾. وقرأ يعقوب بالياء في: ﴿يرفع﴾ و ﴿يشاء﴾؛ أي: يرفع الله تعالى درجات من يشاء رفع درجاته. وقرأ عيسى البصرة شاذًا: ﴿نَرْفَع﴾ - بالنون - ﴿دَرَجَاتٍ﴾ - منونًا - ﴿من يشاء﴾ - بالياء -. قال صاحب "اللوامح": وهذه قراءة مرغوب عنها تلاوة وجملة، وإن لم يمكن إنكارها. وقال ابن عطية، وقرأ الجمهور: ﴿نَرْفَع﴾ على ضمير المعظم، وكذلك ﴿نَشَاءُ﴾. وقرأ الحسن وعيسى ويعقوب بالياء؛ أي: الله تعالى. انتهى.
﴿وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ﴾؛ أي: وفوق كل صاحب علم من الخلائق ﴿عَلِيمٌ﴾؛ أي: من هو أوسع وأكثر منه إحاطة بالعلم، وأرفع درجة منه فيه إلى أن يصل الأمر إلى من أحاط بكل شيء علمًا، وهو فوق كل ذي علم. يعني: ليس من عالم إلا وفوقه أعلم منه حتى ينتهي العلم إلى الله تعالى، وعليم صيغة مبالغة، أو المعنى: وفوق كل ذي علم من العلماء كلهم عليم هم دونه في العلم، وهو الله عَزَّ وَجَلَّ، ذكره النسفي.
وخلاصة ذلك: أن إخوة يوسف كانوا علماء فضلاء إلا أن يوسف كان أعلم منهم. وقرأ عبد الله شاذًا (٤): ﴿وفوق كل ذي عالم﴾ فخرَّجت على زيادة ذي، أو على أن قوله: ﴿عالم﴾ مصدر بمعنى علم كالباطل، أو على أن التقدير:
(١) الخازن.
(٢) البحر المحيط.
(٣) البحر المحيط.
(٤) الخازن.
58
وفوق كل ذي شخص عالم. قال ابن الأنباري (١): يجب أن يتهم العالم نفسه، ويستشعر التواضع لمواهب ربه سبحانه وتعالى، ولا يطمع نفسه في الغلبة؛ لأنه لا يخلو عالم من عالم فوقه. انتهى.
٧٧ - ولما خرج الصواع من رحل بنيامين.. افتضح الإخوة ونكسوا رؤوسهم و ﴿قَالُوَا﴾ تبرئة لساحتهم ﴿إِنْ يَسْرِقْ﴾ بنيامين.. فلا عجيب لسرقته ﴿فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ﴾؛ أي: أخ لبنيامين يريدون به يوسف ﴿مِنْ قَبْلُ﴾؛ أي: من قبل سرقته الآن، فالسرقة جاءت لهما وراثة من أمهما؛ إذ هما لا ينفردان منا إلا بها. وفي قولهم هذا إيماءٌ إلى أن الحسد لا يزال كامنًا في قلوبهم لاختلاف الأمهات، ولمزيد محبة الأب لهما، وأتوا (٢) بـ ﴿إِن﴾ المفيدة للشك؛ لأن ليس عندهم تحقق سرقته بمجرد إخراج الصاع من رحله، وبالمضارع لحكاية الحال الماضية.
وأصح ما قيل في سرقة يوسف (٣): ما رواه ابن مردويه عن ابن عباس مرفوعًا قال: "سرق يوسف عليه السلام صنمًا لجده أبي أمه من ذهب وفضة، فكسره وألقاه في الطريق، فعيره بذلك إخوته". وأخرج ابن إسحاق وابن جرير وابن أبي حاتم عن مجاهد قال: كان أول ما دخل على يوسف عليه السلام من البلاء فيما بلغني أن عمته - وكانت أكبر ولد إسحاق عليه السلام - كانت إليها منطقة إسحاق؛ إذ كانوا يتوارثونها بالكبر، وكان يعقوب حين ولد له يوسف عليه السلام قد حضنته عمته، فكان معها، فلم يحب أحد شيئًا من الأشياء كحبها إياه بحيث لا تصبر عنه، فلما شب أراد يعقوب أن ينزعه منها، فأتاها فقال: يا أخية سلِّمي إلى يوسف، فوالله ما أقدر على أن يغيب عني ساعة، قالت: فوالله ما أنا بتاركته، فدعه عندي أيامًا أنظر إليه لعل ذلك يسليني عنه، فلما خرج يعقوب من عندها عمدت إلى منطقة إسحاق عليه السلام، فحزمتها على يوسف عليه السلام من تحت ثيابه، ثم قالت: فقدت منطقة إسحاق، فانظروا من أخذها ومن
(١) الصاوي.
(٢) المراغي.
(٣) المراغي.
59
أصابها، فالتمست ثم قالت: اكشفوا أهل البيت فكشفوهم فوجدوها مع يوسف عليه السلام مشدودةً عليه تحت ثيابه، فقالت: إنه سرقها مني، فقالت: والله إنه لسلم لي أصنع فيه ما شئت، فأتاها يعقوب فأخبرته الخبر، فقال لها: أنت وذلك إن كان فعل فهو سلم لك ما أستطيع غير ذلك، فأمسكته فما قدر عليه حتى ماتت، وكان حكمهم أن من سرق يُسترق، فتوسلت بهذه الحيلة إلى إمساكه عندها.
وهذا هو الذي عناه إخوته بقولهم: ﴿إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ﴾ وهذه الروايات لا يوثق بها كما لا يدل شيء منها على سرقة حقيقية.
﴿فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ﴾؛ أي: فأضمر يوسف مقالتهم هذه، أعني قولهم: ﴿إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ﴾ في نفسه، ولم يجبهم عنها، لا أنه أسرها في بعض أصحابه كما في قوله: ﴿وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا﴾؛ أي: أكن الحزازة الحاصلة مما قالوا في نفسه وقلبه. والحزازة: وجع في القلب من غيظ ونحوه كما في "القاموس".
﴿وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ﴾؛ أي: لم يظهرها لهم ولم يؤأخذهم بها لا قولًا ولا فعلًا صفحًا عنهم وحلمًا، كأنه قيل: فماذا قال في نفسه عند تضاعيف ذلك الإسرار؟ فقيل: ﴿قَالَ﴾ يوسف في نفسه ﴿أَنْتُمْ شَرٌّ مَكَانًا﴾؛ أي: أقبح منزلة في السرقة حيث سرقتم أخاكم من أبيكم، ثم طفقتم تفترون على البريء، وهذه الجملة تفسير لما أسرَّه يوسف؛ أي: (١) قال في نفسه: أنتم شر في مكانتكم ومنزلتكم ممن تعرضون به أو تفترون عليه بالسرقة؛ إذ أنكم سرقتم من أبيكم أحب أولاده إليه وعرضتموه للهلاك والرق، وقلتم لأبيكم: قد أكله الذئب.. إلخ.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما (٢): عوقب يوسف بثلاث: حين همَّ بزليخا فسجن، وحين قال: اذكرني عند ربك فلبث في السجن بضع سنين، وحين قال:
(١) روح البيان.
(٢) المراغي.
60
إنكم لسارقون فردوا عليه، فقالوا: فقد سرق أخ له من قبل.
﴿وَاللَّه﴾ سبحانه وتعالى ﴿أَعْلَم﴾ منكم ﴿بما تصفون﴾ ـه به من السرقة؛ أي: أعلم بحقيقة ما تذكرون من أمر يوسف يوجب عود مذمة إليه أم لا؟ لأنه سبحانه وتعالى هو العلم بحقائق الأمور، فيعلم كيف كانت سرقة الذي أحلتم سرقته عليه؛ أي: والله أعلم أسرق أخ له أم لا، فـ ﴿أعلم﴾ على ما قررناه على معناه التفضيلي، فإن قيل: لم يكن فيهم علم، والتفضيل يقتضي الشركة.. قلنا: يكفي الشركة بحسب زعمهم، فإنهم كانوا يدعون العلم لأنفسم، ألا ترى إلى قولهم: ﴿فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ﴾ على سبيل الجزم كما في "الحواشي السعدية".
وقيل: إن المفاضلة ليست على بابها، والمعنى عليه: والله تعالى أعلم؛ أي: عالم علمًا بالغًا إلى أقصى المراتب بأن الأمر ليس كما تصفون من صدور السرقة منا، بل إنما هو افتراء علينا، فالصيغة لمجرد المبالغة لا لتفضيل علمه على علمهم، كيف لا وليس لهم بذلك من علم.
روي: أنهم كلموا العزيز في إطلاق بنيامين، فقال روبيل: أيها الملك لتردن إلينا أخانا، أو لأصيحن صيحة تضع منها الحوامل في مصر، وقامت شعور جسده، فخرجت من ثيابه، وكان بنو يعقوب إذا غضبوا لا يطاقون، خلا أنه إذا مس من غضب واحد منهم.. سكن غضبه، فقال يوسف لابنه: قم إلى جنبه فمسه. ويروى: خذ بيده فمسه، فسكن غضبه، فقال روبيل: إن هنا لبذرًا من بذر يعقوب، فقال يوسف: مَنْ يعقوب؟ ولما رأوا أن لا سبيل لهم إلى تخليصه خضعوا وأرادوا أن يستعطفوه ليطلق لهم أخاه بنيامين، فيرجعوا به إلى أبيهم؛ لأنه قد أخذ عليهم الميثاق بأن يردوه إليه
٧٨ - و ﴿قَالُوا﴾ له مستعطفين ﴿يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ﴾؛ أي: يا أيها الملك ﴿إِنَّ لَهُ أَبًا﴾؛ أي: إن لبنيامين ﴿أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا﴾؛ أي: طاعنًا في سن الكبر لا يكاد يستطيع فراقه، وهو علالته التي يتعلل بها عن شقيقه الهالك، أو هو كبير القدر جدير بالرعاية كما علمت مما سلف في قصصه ومن تعلقه به ﴿فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ﴾؛ أي: بدله على وجه الاسترهان أو الاسترقاق،
فلسنا عنده بمنزلته من المحبة والشفقة عنده. ثم عللوا رجاءهم في إجابته بقولهم: ﴿إِنَّا نَرَاكَ﴾ أيها الملك ﴿مِنَ الْمُحْسِنِينَ﴾ إلينا في ميرتنا وضيافتنا وتجهيزنا، فأتم إحسانك إلينا بهذه النعمة، فما الإنعام إلا بالإتمام، أو المعنى: إن من عادتك الإحسان مطلقًا، فاجر على عادتك ولا تغيرها، فنحن أحق الناس بذلك.
٧٩ - فأجابهم يوسف عن مقالتهم هذه بقوله: ﴿مَعَاذَ اللَّهِ﴾ من إضافة المصدر إلى المفعول به؛ أي: نعوذ باللهِ معاذًا من ﴿أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِنْدَهُ﴾؛ أي: إلا من وجدنا صواعنا عنده مدسوسًا في رحله، وهو بنيامين لأنا قد أخذناه بفتواكم: ﴿مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ﴾ فلا يسوغ لنا أن نخل بموجبها.
ولم يقل (١): إلا من سرق متاعنا اتقاءً للكذب؛ لأنه يعلم أنه ليس بسارق ﴿إِنَّا إِذًا﴾ أي: إذا أخذنا غير من وجد متاعنا عنده، وأخذنا بريئًا بمذنب ولو برضاه ﴿لَظَالِمُونَ﴾ من وجهين: مخالفة شرعكم ونص فتواكم، ومخالفة شريعة الملك. قال في "بحر العلوم": ﴿إِذًا﴾ جواب لهم وجزاء؛ لأن المعنى: إن أخذنا بدله ظلمنا، هذا ظاهره، وأما باطنه فهو أن الله أمرني بالوحي أن آخذ بنيامين لمصالح علمها الله في ذلك، فلو أخذت غيره لكنت ظالمًا وعاملًا بخلاف الوحي، فصرت ظالمًا لنفسي.
٨٠ - ﴿فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا﴾؛ أي: فلما يئس إخوة يوسف غاية اليأس بدلالة صيغة الاستفعال، واستحكم اليأس في أنفسهم ﴿مِنْهُ﴾؛ أي: من قبول العزيز لشفاعتهم واستعطافهم بعد أن أقام الحجة عليهم بشرعهم وفتواهم، وأنه إن فعل غيره يكون ظالمًا بمقتضى شريعتهم وشريعة ملك مصر ﴿خَلَصُوا﴾؛ أي: اعتزلوا وانفردوا عن الناس خالصين لا يخالطهم غيرهم حالة كونهم ﴿نَجِيًّا﴾؛ أي: متناجين متحدثين في تدبير أمرهم، ومتشاورين على أي صفة يذهبون وماذا يقولون لأبيهم في شأن أخيهم إذا رجعوا. وقرأ البزّي عن ابن كثير (٢): ﴿اسْتَيْأَسُوا﴾ بوزن استفعلوا من أيس مقلوبًا من يئس، ومعناهما واحد. ودليل القلب كون ياء أيس
(١) روح البيان.
(٢) البحر المحيط.
62
لم تنقلب ألفًا لتحركها وانفتاح ما قبلها.
وخلاصة ذلك (١): أن أولئك الإخوة العشرة بعد أن انتهى كبيرهم من استعطاف العزيز وعدم جدوى ما فعل.. غادر كل منهم رحله، وانضم بعضهم إلى بعض، وأدنى رأسه من رأسه، وأرهفوا آذانهم للنجوى.
والمعنى: فلما أيسوا من يوسف أن يجيبهم لما سألوه، وقيل: أيسوا من أخيهم أن يرد عليهم.. خلا بعضهم ببعض يتناجون ويتشاورون ليس فيهم غيرهم ﴿قَالَ كَبِيرُهُمْ﴾ في السن وهو روبيل، أو في العقل وهو يهوذا، أو رئيسهم وهو شمعون، وكانت له الرياسة على إخوته كأنهم أجمعوا عند التناجي على الانقلاب والرجوع إلى أبيهم جملة، ولم يرض ذلك، فقال منكرًا عليهم: ﴿أَلَمْ تَعْلَمُوا﴾ والاستفهام فيه للتقرير؛ أي: قال كبيرهم قد علمتم أيها القوم يقينًا ﴿أنَّ أَبَاكُمْ﴾ يعقوب ﴿قَدْ أَخَذَ﴾ وجعل ﴿عَلَيْكُمْ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ﴾ تعالى؛ أي: عهدًا مؤكدًا باليمين من الله لتردنه إليه إلا أن يحاط بكم، وقد رأيتم كيف تعذر ذلك عليكم، وكونه من الله لإذنه فيه.
والجار والمجرور في قوله: ﴿وَمِنْ قَبْلُ﴾؛ أي: ومن قبل هذا متعلق بـ ﴿فَرَّطْتُم﴾ الآتي، و ﴿مَا﴾ في قوله: ﴿مَا فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ﴾ زائدة؛ أي: ومن (٢) قبل أخذكم العهد في شأن بنيامين قصرتم في شأن يوسف، ولم تفوا بوعدكم على النصح والحفظ له، أو مصدرية عطفًا على مفعول ﴿تَعْلَمُوا﴾؛ أي: ألم تعلموا أخذ أبيكم عليكم موثقًا من الله وتفريطكم السابق في شأن يوسف، أو ترككم ميثاقه في حق يوسف، أو موصولة عطفًا على مفعول ﴿تَعْلَمُوا﴾ أيضًا؛ أي: ألم تعلموا أخذ أبيكم موثقًا من الله في شأن بنيامين، والذي قدمتموه في حق يوسف من الخيانة العظيمة من قبل تقصيركم في بنيامين، وكيف أن أباكم قد قاسى من أجله من الحزن ما قاسى.
(١) المراغي.
(٢) المراح.
63
﴿فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ﴾؛ أي: فلن أفارق أرض مصر ذاهبًا منها ﴿حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي﴾ بتركها وبترك بنيامين فيها والرجوع إليه، ضمن (١) ﴿أَبْرَحَ﴾ معنى المفارقة، فعدي إلى المعفول، و ﴿أَبْرَحَ﴾ هنا تامة لا ناقصة؛ لأن الأرض لا تحمل على المتكلم، وكأن أيمانهم معقودة على عدم الرجوع بغير إذن يعقوب ﴿أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي﴾ بالخروج منها على وجهٍ لا يؤدي إلى نقض الميثاق، أو بخلاص أخي من يد العزيز بسبب من الأسباب كأن يتركه العزيز لي بإلهام منه تعالى، أو بسبب آخر ﴿وَهُو﴾ سبحانه وتعالى ﴿خَيْرُ الْحَاكِمِينَ﴾ وأفضلهم؛ لأنه لا يحكم إلا بما هو الحق والعدل، وهو المسخر للأسباب والمقدر للأقدار، والمراد من هذا الكلام الالتجاء إلى الله تعالى في إقامة عذره عند والده يعقوب عليه السلام، ثم أمرهم أن يقولوا لأبيهم ما يزيلون به التهمة عن أنفسهم،
٨١ - فقال: ﴿ارْجِعُوا﴾ يا إخوتي ﴿إِلَى أَبِيكُمْ﴾ يعقوب دوني ﴿فَقُولُوا﴾ له متلطفين بخطابكم: ﴿يَا أَبَانَا إِنَّ ابْنَكَ﴾ بنيامين ﴿سَرَقَ﴾ صواع الملك من ذهب فيما يظهر لنا، فاسترقه وزيره العزيز القائم بالأمر في مصر عملًا بشريعتنا؛ إذ نحن أنبأناه بها بعد أن استنبأنا إياها. وقرأ الجمهور: ﴿سَرَقَ﴾ - ثلاثيًّا مبنيًّا للفاعل - إخبارًا بظاهر الحال. وقرأ ابن عباس وأبو رزين والكسائي في رواية: ﴿سَرَقَ﴾ - مبنيًّا للمفعول - لم يقطعوا عليه بالسرقة، بل ذكروا أنه نسب إلى السرقة. وقرأ الضحاك: ﴿سارق﴾ اسم فاعل، وما عدا قراءة الجمهور شاذ وليس بمتواتر.
﴿وَمَا شَهِدْنَا﴾ عليه بالسرقة بسماع أو إشاعة أو تهمة، بل ما شهدنا عليه بالسرقة ﴿إِلَّا بِمَا عَلِمْنَا﴾ وشاهدنا؛ إذ رأينا الصواع قد استخرج من متاعه ﴿وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ﴾ فنعلم أنه سيسرق حين أعطيناك المواثيق، ولو كنا نعلم ذلك لما آتيناك وأعطيناك العهد الموثق علينا، أو المعنى: وما كنا للغيب عالمين، فما ندري أحقيقة الأمر كما شاهدنا، أم هي بخلافه؛ لأن حقيقة الأمر غير معلومة لنا؛ فإن الغيب لا يعلمه إلا الله، فلعل الصواع دس في رحله، ونحن لا نعلم ذلك.
(١) روح البيان.
﴿و﴾ قولوا لأبيكم: أرسل إلى أهل مصر
٨٢ - و ﴿اسأل﴾ أهل ﴿الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا﴾ نمتار ﴿فِيهَا﴾ عن كنه هذه القصة؛ ليتبين لك صدقنا، فقد اشتهر فيهم أمر هذه السرقة حتى لو سئلوا لشهدوا، واسأل ﴿وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا﴾؛ أي: واسأل أصحاب العير والإبل الذين كانوا يمتارون معنا وجئنا معهم، وهم قوم من كنعان من جيران يعقوب عليه السلام، ثم أكدوا صدق مقالهم بقولهم: ﴿وَإِنَّا لَصَادِقُونَ﴾ فيما أخبرناك به سواء أسألت غيرنا، أم لم تسأل؛ إذ أن من عادتنا الصدق، فلا نخبرك إلا به، ولا نظنك في مرية من هذا، فرجع الأخوة التسعة إلى أبيهم، فقالوا له ما قال كبيرهم، فلم يصدقهم فيما قالوا،
٨٣ - بل ﴿قاَلَ﴾ لهم أبوهم يعقوب عليه السلام ﴿بَلْ سَوَّلَتْ﴾ وزينت ﴿لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا﴾؛ أي: كيدًا آخرًا، وهو إخراج بنيامين عني إلى مصر طلبًا للمنفعة، فعاد من ذلك ضرر فنبذتموه، ومما يقوي ذلك عندي أنكم لقنتم ذلك الملك حكم شريعتنا، وأفتيتموه بأن جزاء السارق أن يؤخذ ويسترق، وإلا فما يعرف الملك أن السارق يؤخذ بسرقته؛ لأن ذلك إنما هو من دين يعقوب لا من دين الملك، ولولا فتواكم وتعليمكم لما حكم الملك ذلك ﴿فَصَبْرٌ جَمِيلٌ﴾؛ أي: فحالي على ما نالني من فقده صبر جميل لا جزع فيه ولا شكاية فيه لأحد، بل أشكوا إلى الله وحده وأعلق رجائي به.
﴿عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا﴾؛ أي: حقق الله سبحانه وتعالى أن يرجع إليَّ يوسف وبنيامين والأخ الثالث الباقي بمصر، وقد كان لديه إلهام بأن يوسف لم يمت وإن غاب عنه خبره، وإنما قال يعقوب هذه المقالة؛ لأنه لما طال حزنه واشتد بلائه، ومحنته علم أن الله سيجعل له فرجًا ومخرجًا عن قريب، فقال ذلك على سبيل حسن الظن بالله عَزَّ وَجَلَّ؛ لأنه إذا اشتد البلاء وعظم كان أسرع إلى الفرج. ﴿إِنَّهُ﴾ سبحانه وتعالى ﴿هُوَ الْعَلِيمُ﴾ بفقدي لهم وحزني ووجدي عليهم، وله فينا حكمة بالغة ﴿الْحَكِيمُ﴾ في أفعاله فيبتلي ويرفع البلاء على مقتضى سننه وحكمته في تدبير خلقه، وقد جرت سنته أنَّ الشدة إذا تناهت جعل وراءها فرجًا، والمصيبة إذا عظمت جعل بعدها المخلص منها كما قال: ﴿فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (٥) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (٦)﴾.
٨٤ - ﴿وَتَوَلَّى عَنْهُمْ﴾؛ أي: أعرض عنهم كراهة لما جاءوا به؛ أي: وأعرض يعقوب عن بنيه حين بلغوه خبر بنيامين، فحينئذ تناهى حزنه واشتد بلاؤه، وبلغ جهده وهيج حزنه على يوسف، فعند ذلك أعرض عنهم.
وقال: ﴿يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ﴾؛ أي: يا حزني ويا حسرتي على يوسف أقبلي إلي فهذا وقتك، والحال مقتضية لك، فقد كنت أنتظر أن يأتوني من مصر ببشرى لقاء يوسف، فخاب أملي وحلّ محله ذهاب ابني المسلي عنه، ولم يشرك معه بنيامين بالأسف عليه؛ لأن مكان حب يوسف والرجاء فيه قد ملأ سويداء القلب وزواياه، ومحل غيره دون ذلك.
قال الزجاج: الأصل يا أسفي فأبدل من الياء ألفًا لخفة الفتحة، والأسف: شدة الجزع، وقيل: شدة الحزن.
قال يعقوب هذه المقالة لما بلغ منه غاية مبالغة بسبب فراقه ليوسف، وانضمام فراقه لأخيه بنيامين، وبلوغ ما بلغه من كونه أسيرًا عند ملك مصر، فتضاعفت أحزانه وهاج عليه الوجد القديم بما أثاره من الخبر الأخير.
وقد روي عن سعيد بن جبير (١): أن يعقوب لم يكن عنده ما ثبت في شريعتنا من الاسترجاع والصبر على المصائب، ولو كان عنده ذلك لما قال: ﴿يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ﴾، ومعنى المناداة للأسف طلب حضوره، كأنه قال: تعالَ يا أسفي وأقبل إلي.
﴿وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ﴾؛ أي: أصابت عينيه غشاوة بيضاء غطت على البصر مع بقاء العصب الذي يدرك المبصرات سليمًا معافى، أو المعنى: انقلب سواد عينيه بياضًا من كثرة البكاء. قيل: إنه زال إدراكه بحاسَّة البصر بالمرة. وقيل: كان يدرك إدراكًا ضعيفًا من كثرة البكاء، فإن الدمع يكثر عند غلبة البكاء، فتصير العين كأنها بيضاء من بياض الماء الخارج منها.
(١) الشوكاني.
(٢) المراغي.
66
﴿فَهُوَ كَظِيمٌ﴾؛ أي: مكظوم مملوء غيظًا وغضبًا على أولاده يردد حزنه في جوفه، ولا يتكلم بسوء، أو مملوء حزنًا ممسك له كاتم له لا يبثه، ومنه كظم الغيظ؛ أي: وهو إخفاؤه، فالمكظوم المسدود عليه طريق حزنه، من كظم السقاء إذا سده على ما فيه.
والحزن: عرض طبيعي للنفس ولا يذم شرعًا إلا إذا بلغ بصاحبه أن يقول أو أن يفعل ما لا يرضي الله تعالى، ومن ثم قال النبي - ﷺ - عند موت ولده إبراهيم، وقد جعلت عيناه تذرفان، فقال له عبد الرحمن بن عوف: وأنت يا رسول الله؟! "يا ابن عوف إنها رحمة" ثم أتبعها بأخرى، فقال: "إن العين لتدمع وإن القلب ليخشع، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا، وإنا على فراقك يا إبراهيم لمحزونون". رواه الشيخان وغيرهما.
فائدة: وقد اعترض بعض الجهال على يعقوب عليه السلام في قوله: ﴿يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ﴾ فقال هذه شكاية وإظهار جزع، فلا يليق بعلو منصبه ذلك، وليس الأمر كما قال هذا الجاهل المعترض؛ لأن يعقوب عليه السلام شكا إلى الله لا منه، فقوله: ﴿يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ﴾ معناه: يا رب ارحم أسفي على يوسف. وقد ذكر ابن الأنباري عن بعض اللغويين أنه قال: نداء يعقوب بالأسف في اللفظ من المجاز يعني به غير المظهر في اللفظ، وتخليصه: يا إلهي ارحم أسفي، أو أنت رائي أسفي، أو هذا أسفي، فنادى الأسف في اللفظ، والمنادى سواه في المعنى، ولا مأثم إذا لم ينطق اللسان بكلام مؤثم؛ لأنه لم يشك إلا إلى ربه عز وجل. فلما كان قوله: ﴿يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ﴾ شكوى إلى ربه كان غير ملوم في شكواه، وقيل: إن يعقوب لما عظمت مصيبته واشتد بلاؤه وقويت محنته.. قال: يا أسفا على يوسف؛ أي: أشكو إلى الله شدة أسفي على يوسف، ولم يشكه إلى أحد من الخلق بدليل قوله: ﴿إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ﴾.
وقال الحسن: كان بين خروج يوسف من حجر أبيه إلى يوم التقيا ثمانون سنة لم تجف عينا يعقوب، وما على وجه الأرض يومئذ أكرم على الله منه.
67
الإعراب
﴿وَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَخَاهُ قَالَ إِنِّي أَنَا أَخُوكَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (٦٩)﴾.
﴿وَلَمَّا﴾ (الواو): استئنافية. ﴿لما﴾: حرف شرط. ﴿دَخَلُوا﴾؛ فعل وفاعل. ﴿عَلَى يُوسُفَ﴾: متعلق به، والجملة فعل شرط ﴿لما﴾. ﴿آوَى﴾: فعل ماضٍ، وفاعله ضمير يعود على ﴿يُوسُفَ﴾. ﴿إِلَيْهِ﴾: متعلق به. ﴿أَخَاهُ﴾: مفعول به، والجملة جواب ﴿لما﴾، وجملة ﴿لما﴾ من فعل شرطها وجوابها مستأنفة استئنافًا بيانيًّا. ﴿قَال﴾: فعل ماض وفاعله ضمير يعود على ﴿يُوسُفُ﴾. والجملة مستأنفة، أو بدل من جملة ﴿آوَى﴾. ﴿إِنِّي أَنَا أَخُوكَ﴾ إلى آخر الآية: مقول محكي، وإن شئت قلت: ﴿إِنِّي﴾: ناصب وإسمه. ﴿أَنَا﴾: ضمير فصل، أو مؤكد لياء المتكلم. ﴿أَخُوكَ﴾: خبر ﴿إن﴾ وجملة ﴿إن﴾ في محل النصب مقول ﴿قَال﴾. ﴿فَلَا﴾: (الفاء): حرف عطف وتفريع، ﴿لا﴾: ناهية جازمة: ﴿تَبْتَئِسْ﴾: فعل مضارع مجزوم بلا الناهية، وفاعله ضمير يعود على أخي يوسف، والجملة الفعلية في محل النصب معطوفة على جملة ﴿إن﴾ على كونها مقول قَالَ. ﴿بِمَا﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿تَبْتَئِسْ﴾. ﴿كَانُوا﴾: فعل ناقص واسمه، وجملة ﴿يَعْمَلُونَ﴾: خبر كان، وجملة ﴿كان﴾: صلة لـ ﴿ما﴾، أو صفة لها، والعائد أو الرابط محذوف تقديره، بما كانوا يعملونه ويصح كون ﴿ما﴾ مصدرية.
﴿فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ جَعَلَ السِّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ (٧٠)﴾.
﴿فَلَمَّا﴾: (الفاء): حرف عطف وتعقيب، ومر في مبحث التفسير علة الإتيان بالفاء هنا. ﴿لما﴾: حرف شرط غير جازم ﴿جَهَّزَهُمْ﴾. فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على ﴿يُوسُفَ﴾. ﴿بِجَهَازِهِمْ﴾: متعلق به، والجملة فعل شرط لـ ﴿لما﴾. ﴿جَعَلَ السِّقَايَةَ﴾: فعل ومفعول به؛ لأن ﴿جَعَل﴾ هنا بمعنى وضع، وفاعله ضمير يعود على ﴿يُوسُفَ﴾. ﴿فِي رَحْلِ أَخِيهِ﴾: جا ومجرور ومضاف إليه
68
متعلق به، والجملة جواب ﴿لما﴾ لا محل لها من الإعراب، وجملة ﴿لما﴾ معطوفة على جملة ﴿لما﴾ في قوله: ﴿وَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ﴾ ﴿ثُمَ﴾: حرف عطف وتراخ. ﴿أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ﴾: فعل وفاعل معطوف على ﴿جَعلَ﴾. ﴿أَيتُها﴾: منادى نكرة مقصودة حذف منه حرف النداء، والهاء حرف تنبيه زيد تعويضًا عما فات؛ أي: من الإضافة، وجملة النداء في محل النصب مقول لقول محذوف حال من ﴿مُؤَذِّنٌ﴾ تقديره: حالة كونه قائلًا أيتها العير إنكم لسارقون. ﴿الْعِيرُ﴾ بدل ﴿إنَّكُمْ لَسَارِقُونَ﴾: ناصب واسمه وخبره، واللام حرف ابتداء، والجملة الاسمية في محل النصب مقول لذلك القول المحذوف على كونها جواب النداء.
﴿قَالُوا وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ مَاذَا تَفْقِدُونَ (٧١)﴾.
﴿قَالُوا﴾: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة. ﴿وَأَقْبَلُوا﴾: ﴿الواو﴾: واو الحال. ﴿أَقْبَلُوا﴾: فعل وفاعل. ﴿عَلَيْهِمْ﴾: متعلق به، والجملة في محل النصب حال من فاعل ﴿قَالُوا﴾. ﴿مَاذَا تَفْقِدُونَ﴾: مقول محكي لـ ﴿قَالُوا﴾، وإن شئت قلت: ﴿مَاذَا﴾: استفهام مركب في محل النصب مفعول مقدم وجوبًا، أو ﴿ما﴾: اسم استفهام في محل الرفع مبتدأ، ﴿ذا﴾: اسم موصول بمعنى الذي في محل الرفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية في محل النصب مقول ﴿قَالُوا﴾. ﴿تَفْقِدُونَ﴾: فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول، والعائد محذوف تقديره: تفقدونه.
﴿قَالُوا نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ (٧٢)﴾.
﴿قَالُوا﴾: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة استئنافًا بيانيًّا. ﴿نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ﴾ إلى آخر الآية: مقول محكي لـ ﴿قَالُوا﴾، وإن شئت قلت: ﴿نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ﴾: فعل ومفعول به ومضاف إليه، وفاعله ضمير يعود على أصحاب يوسف، والجملة في محل النصب مقول ﴿قَالُوا﴾. ﴿وَلِمَنْ﴾: جار ومجرور خبر مقدم. ﴿جَاءَ﴾: فعل ماضٍ، وفاعله ضمير يعود على ﴿من﴾. ﴿بِهِ﴾: متعلق بـ ﴿جَاءَ﴾، والجملة صلة الموصول. ﴿حِمْلُ بَعِيرٍ﴾: مبتدأ مؤخر، والجملة الاسمية في محل النصب مقول ﴿قَالُوا﴾. ﴿وَأَنَا﴾ مبتدأ. ﴿بِهِ﴾: متعلق بما بعده ﴿زَعِيمٌ﴾: خبر المبتدأ، والجملة في محل النصب مقول ﴿قَالُوا﴾.
69
﴿قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ مَا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ وَمَا كُنَّا سَارِقِينَ﴾.
﴿قَالُوا﴾: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة. ﴿تَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ﴾ إلى آخر الآية: مقول محكي، وإن شئت قلت: ﴿تَاللَّهِ﴾: (التاء): حرف جر وقسم مختص بلفظ الجلالة. ﴿الله﴾: مقسم به مجرور بتاء القسم، الجار والمجرور متعلق بفعل محذوف تقديره: أقسم تالله، وجملة القسم مع جوابه الآتي في محل النصب مقول ﴿قَالُوا﴾. ﴿لَقَد﴾: ﴿اللام﴾: موطئة للقسم. ﴿قد﴾: حرف تحقيق. ﴿عَلِمْتُمْ﴾: فعل وفاعل، والجملة الفعلية جواب القسم لا محل لها من الإعراب. ﴿مَا﴾: نافية. ﴿جِئْنَا﴾: فعل وفاعل، والجملة الفعلية في محل النصب سادة مسد مفعول علم؛ لأنه بمعنى عرف تقديره: لقد علمتم عدم مجيئنا لنفسد في الأرض. ﴿لِنُفْسِد﴾: ﴿اللام﴾: لام كي. ﴿نفسد﴾: فعل مضارع منصوب بأن مضمرة جوازًا بعد لام كي، وفاعله ضمير يعود على أخوة يوسف. ﴿فِي الْأَرْضِ﴾: متعلق به. ﴿وَمَا﴾: (الواو): عاطفة. ﴿ما﴾: نافية. ﴿كُنَّا سَارِقِينَ﴾: فعل ناقص واسمه وخبره، والجملة في محل النصب معطوفة على الجملة التي قبلها تقديره: وعدم كوننا سارقين.
﴿قَالُوا فَمَا جَزَاؤُهُ إِنْ كُنْتُمْ كَاذِبِينَ (٧٤)﴾.
﴿قَالُوا﴾: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة. ﴿فَمَا جَزَاؤُهُ﴾ إلى آخر الآية: مقول محكي، وإن شئت قلت: ﴿فَمَا﴾: (الفاء): عاطفة على محذوف تقديره: قد سمعنا قولكم ما جئنا لنفسد في الأرض، وما كنا سارقين، ﴿مَا جَزَاؤُهُ﴾: ﴿ما﴾: استفهامية في محل الرفع مبتدأ. ﴿جَزَاؤُهُ﴾: خبر مضاف إليه، والجملة الاسمية في محل النصب معطوفة على ذلك المحذوف على كونها مقولًا لـ ﴿قَالُوا﴾، ويحتمل كون الفاء زائدة. ﴿إِن﴾: حرف شرط. ﴿كُنْتُمْ كَاذِبِينَ﴾: فعل ناقص واسمه، وخبره في محل الجزم بـ ﴿إن﴾ الشرطية على كونها فعل شرط لها، وجواب ﴿إن﴾ الشرطية معلوم مما قبلها تقديره: إن كنتم كاذبين فما جزاؤه.
﴿قَالُوا جَزَاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (٧٥)﴾.
﴿قَالُوا﴾: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة. ﴿جَزَاؤُهُ مَنْ وُجِدَ﴾ إلى آخر الآية
70
مقول محكي لـ ﴿قَالُوا﴾، وإن شئت قلت: ﴿جَزَاؤُهُ﴾: مبتدأ أول. ﴿مَن﴾: اسم شرط في محل الرفع مبتدأ ثان، وخبره جملة الشرط، أو جملة الجواب، أو هما على الخلاف. ﴿وُجِدَ﴾: فعل ماض مغيّر الصيغة في محل الجزم بـ ﴿مَن﴾ على كونه فعل شرط لها، ونائب فاعله ضمير يعود على الصواع. ﴿فِي رَحْلِهِ﴾: متعلق به. ﴿فَهُوَ﴾: (الفاء): رابطة لجواب ﴿مَن﴾ الشرطية. ﴿هُوَ جَزَاؤُهُ﴾: مبتدأ وخبر، والجملة الاسمية في محل الجزم بـ ﴿مَن﴾ الشرطية على كونها جوابًا لها، وجملة ﴿مَن﴾ الشرطية: في محل الرفع خبر المبتدأ الأول، والجملة من المبتدأ الأول وخبره في محل النصب مقول لـ ﴿قَالُوا﴾.
وفي "السمين" قوله: ﴿جَزَاؤُهُ مَنْ وُجِدَ﴾ فيه أوجه:
أحدها: أن يكون ﴿جَزَاؤُهُ﴾؛ مبتدأ، والضمير للسارق، و ﴿مَن﴾ شرطية أو موصولة مبتدأ ثان، والفاء: رابطة الجواب للشرط، أو مزيدة في خبر الموصول لشبهه بالشرط، و ﴿مَن﴾ وما في حيزها على وجهيها خبر المبتدأ الأول.
والثاني: أن يكون ﴿جَزَاؤُهُ﴾ مبتدأ، والهاء تعود للمسروق، و ﴿مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ﴾ خبره، و ﴿مَن﴾ بمعنى الذي، والتقدير: وجزاء الصواع الذي وجد في رحله.
والثالث: أن يكون ﴿جَزَاؤُهُ﴾ خبر مبتدأ محذوف؛ أي: والمسؤول عنه ﴿جَزَاؤُهُ﴾، ثم أفتوا بقولهم: ﴿مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ﴾. اهـ. ﴿كَذَلِكَ﴾: صفة لمصدر محذوف، والعامل فيه ما بعده. ﴿نَجْزِي الظَّالِمِينَ﴾: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على إخوة يوسف، والتقدير: نجزي الظالمين جزاء مثل ذلك الجزاء المذكور، والجملة الفعلية في محل النصب مقول لـ ﴿قَالُوا﴾.
﴿فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَاءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِنْ وِعَاءِ أَخِيهِ كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ (٧٦)﴾.
﴿فَبَدَأَ﴾: (الفاء): فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر تقديره: إذا عرفت ما قال إخوة يوسف، وما قال أصحاب يوسف، وأردت بيان ما فعل يوسف بهم.. فأقول لك: ﴿بَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ﴾: ﴿بدأ﴾: فعل ماض، وفاعله
71
ضمير يعود على ﴿يُوسُف﴾، والجملة الفعلية في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة. ﴿بِأَوْعِيَتِهِمْ﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿بدأ﴾. ﴿قَبْلَ وِعَاءِ أَخِيهِ﴾: ظرف ومضاف إليه متعلق بـ ﴿بدأ﴾ أيضًا. ﴿ثُمَّ﴾: حرف عطف. ﴿اسْتَخْرَجَهَا﴾: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على ﴿يُوسُفَ﴾. ﴿مِنْ وِعَاءِ أَخِيهِ﴾: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق باستخراج، والجملة الفعلية معطوفة على جملة ﴿بدأ﴾. ﴿كَذَلِكَ﴾: جار ومجرور صفة لمصدر محذوف معمول لما بعده. ﴿كِدْنَا﴾: فعل وفاعل. ﴿لِيُوسُفَ﴾: متعلق به، والتقدير: كدنا ليوسف كيدًا مثل ذلك الكيد المذكور، والجملة في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة. ﴿مَا﴾: نافية. ﴿كاَنَ﴾: فعل ماضٍ ناقص، واسمها ضمير يعود على ﴿يوسف﴾. ﴿لِيَأخُذَ﴾: (اللام): حرف جر وجحود. ﴿يأخذ أخاه﴾: فعل ومفعول منصوب بأن مضمرة وجوبًا بعد لام الجحود. ﴿فِي دِينِ الْمَلِكِ﴾: جار ومجرور متعلق به، والجملة الفعلية صلة أن المضمرة، أن مع صلتها في تأويل مصدر مجرور بلام الجحود، الجار والمجرور متعلق بمحذوف خبر ﴿كاَنَ﴾ على مذهب البصريين تقديره: ما كان يوسف مريدًا لأخذ أخيه في دين الملك، ومتمكنًا منه في حكمه، وهذه الجملة تعليق لما صنعه الله ليوسف من الكيد، أو تفسير له. ذكره الشوكاني وغيره. ﴿إِلَّا﴾: أداة استثناء من أعم الأحوال. ﴿أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ﴾: ناصب وفعل وفاعل، والجملة في تأويل مصدر مجرور بإضافة مستثنى المحذوف إليه، والتقدير: ما كان ليأخذ أخاه في دين الملك في حال من الأحوال إلا حال مشيئة الله سبحانه وتعالى. ﴿نَرْفَعُ﴾: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على ﴿اللَّهُ﴾، والجملة في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة. ﴿دَرَجَاتٍ مَنْ﴾: مفعول به ومضاف إليه إذا قرأناه بلا تنوين، وإذا قرأناه بالتنوين ﴿دَرَجَاتٍ﴾ منصوب بنزع الخافض. ﴿مَنْ﴾: اسم موصول في محل النصب مفعول به، وجملة ﴿نَشَاءُ﴾: صلة ﴿مَنْ﴾ الموصولة، والتقدير: نرفع من نشاء رفعه من عبادنا في درجات. ﴿وَفَوْقَ كُلِّ﴾: ظرف ومضاف إليه خبر مقدم. ﴿ذِي عِلْمٍ﴾ مضافان ﴿عَلِيمٌ﴾: مبتدأ مؤخر، والجملة في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة.
{قَالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ
72
وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ قَالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكَانًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَصِفُونَ (٧٧)}.
﴿قَالُوا﴾: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة. ﴿إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ﴾: مقول محكي، وإن شئت قلت: ﴿إِنْ﴾: حرف شرط. ﴿يَسْرِقْ﴾: فعل مضارع مجزوم بـ ﴿إِنْ﴾ الشرطية، وفاعله ضمير يعود علي بنيامين. ﴿فَقَدْ﴾: (الفاء): رابطة لجواب ﴿إن﴾ الشرطية وجوبًا لاقترانه بـ ﴿قد﴾. ﴿قد﴾: حرف تحقيق. ﴿سَرَقَ أَخٌ﴾: فعل وفاعل في محل الجزم بـ ﴿إن﴾ الشرطية على كونه جوابًا لها. ﴿لَهُ﴾: جار ومجرور صفة لـ ﴿أَخٌ﴾. ﴿مِنْ قَبْلُ﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿سَرَقَ﴾، وجملة ﴿إِنْ﴾ الشرطية في محل النصب مقول ﴿قَالُوا﴾، ﴿فَأَسَرَّهَا﴾ (الفاء): عاطفة. ﴿أسرها يوسف﴾: فعل ومفعول به. ﴿فِي نَفْسِهِ﴾ متعلقان به ﴿وَلَمْ يُبْدِهَا﴾ جازم وفعل مجزوم ومفعول به، والجملة معطوفة على ﴿فَأَسَرَّهَا﴾ ﴿لَهُمْ﴾: متعلق به، وفاعله ضمير يعود على ﴿يُوسُفُ﴾، والجملة معطوفة على جملة ﴿فَأَسَرَّهَا﴾. ﴿قَالَ﴾: فعل ماضٍ، وفاعله ضمير يعود على ﴿يُوسُفُ﴾، والجملة مستأنفة. ﴿أَنْتُمْ شَرٌّ﴾ إلى آخر الآية: مقول محكي، وإن شيء قلت: ﴿أَنْتُمْ شَرٌّ﴾: مبتدأ وخبر. ﴿مَكَانًا﴾: تمييز محول عن المبتدأ منصوب باسم التفضيل، والجملة في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾. ﴿وَاللَّهُ أَعْلَمُ﴾: مبتدأ وخبر. ﴿بِمَا﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿أَعْلَمُ﴾، والجملة الاسمية في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾، وجملة ﴿تَصِفُونَ﴾: صلة لـ ﴿ما﴾ أو صفة لها، والعائد أو الرابط محذوف تقديره: بما تصفونه.
﴿قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ﴾.
﴿قَالُوا﴾: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة. ﴿يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ﴾ إلى آخر الآية: مقول محكي، وإن شئت قلت: ﴿يا﴾: حرف نداء، ﴿أي﴾: منادى نكرة مقصودة. ﴿ها﴾: حرف تنبيه. ﴿الْعَزِيزُ﴾: صفة لـ ﴿أي﴾، وجملة النداء في محل النصب مقول ﴿قَالُوا﴾. ﴿إنَّ﴾: حرف نصب. ﴿لَهُ﴾: جار ومجرور خبر مقدم لـ ﴿إِنَّ﴾. ﴿أَبًا﴾: اسم ﴿إِنَّ﴾ مؤخر. ﴿شَيْخًا﴾: صفة لـ ﴿أَخٌ﴾. ﴿كَبِيرًا﴾: صفة
73
لـ ﴿شَيْخًا﴾، وجملة ﴿إِنَّ﴾ في محل النصب مقول ﴿قَالُوا﴾ على كونها جواب النداء. ﴿فَخُذْ﴾: (الفاء): عاطفة تفريعية. ﴿خذ﴾: فعل أمر، وفاعله ضمير يعود على ﴿يوُسُفُ﴾، والجملة الفعلية في محل النصب معطوفة على جملة ﴿إن﴾. ﴿أَحَدَنَا﴾: مفعول به. ﴿مَكَانَهُ﴾: ظرف متعلق بـ ﴿خذ﴾. ﴿إِنَّا﴾: ناصب واسمه. ﴿نَرَاكَ﴾: فعل ومفعول به؛ لأن رأى بصرية. ﴿مِنَ الْمُحْسِنِينَ﴾: متعلق به، ويصح كونها علمية، والجار والمجرور في محل المفعول الثاني، وفاعل نرى ضمير يعود على إخوة يوسف، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر ﴿إن﴾، وجملة ﴿إن﴾: في محل النصب مقول ﴿قَالُوا﴾ مسوقة لتعليل ما قبلها.
﴿قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِنْدَهُ إِنَّا إِذًا لَظَالِمُونَ (٧٩)﴾.
﴿قَالَ﴾: فعل ماضٍ، وفاعله ضمير يعود على ﴿يُوسُفُ﴾، والجملة مستأنفة. ﴿مَعَاذَ اللَّهِ﴾ إلى آخر الآية: محكي لـ ﴿قَالَ﴾، وإن شئت قلت ﴿مَعَاذَ اللَّهِ﴾ منصوب. على المفعولية المطلقة بفعل محذوف وجوبًا تقديره: نعوذ بالله معاذ؛ أي: نتعوذ بالله تعوذًا، والجملة المحذوفة في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾. ﴿أَنْ نَأْخُذَ﴾: ناصب وفعل منصوب به، وفاعله ضمير يعود على ﴿يوُسُفُ﴾، والجملة الفعلية في تأويل مصدر مجرور بحرف جر محذوف تقديره: نعوذ بالله من أخذنا. ﴿إِلَّا﴾: أداة استثناء مفرغ. ﴿مَن﴾: اسم موصول في محل النصب مفعول به. ﴿وَجَدْنَا مَتَاعَنَا﴾: فعل وفاعل ومفعول. ﴿عِنْدَهُ﴾: متعلق به، والجملة صلة ﴿مَنْ﴾ الموصولة. ﴿إِنَّا﴾: ناصب واسمه. ﴿إِذًا﴾: حرف جواب وجزاء ملغاة لا عمل لها؛ لعدم دخولها على الفعل. ﴿لَظَالِمُونَ﴾: خبر ﴿إن﴾، و ﴿اللام﴾: حرف ابتداء، وجملة ﴿إن﴾ في محل النصب مقول ﴿قَال﴾ مسوقة لتعليل ما قبلها.
﴿فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا قَالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ﴾.
﴿فَلَمَّا﴾: (الفاء): استئنافية. ﴿لما﴾: حرف شرط غير جازم. ﴿اسْتَيْأَسُوا﴾: فعل وفاعل، فعل شرط لـ ﴿لما﴾. ﴿مِنْهُ﴾: متعلق به. ﴿خَلَصُوا﴾: فعل وفاعل جواب ﴿لما﴾. ﴿نَجِيًّا﴾: حال من فاعل ﴿خَلَصُوا﴾، وجملة ﴿لما﴾: مستأنفة،
74
وإنما أفردت الحال مع كون صاحبها جمعًا؛ لأن فعيلًا يستوي فيه المذكر والمؤنث. والجميع وغيره. ﴿قَالَ كَبِيرُهُمْ﴾: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة. ﴿أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَبَاكُمْ﴾ إلى قوله: ﴿بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ﴾ مقول محكي، وإن شئت قلت ﴿أَلَمْ تَعْلَمُوا﴾: (الهمزة): للاستفهام التقريري. ﴿لَمْ تَعْلَمُوا﴾: جازم وفعل وفاعل، والجملة في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾. ﴿أَنَّ أَبَاكُمْ﴾: ناصب واسمه. ﴿قَدْ أَخَذَ﴾: فعل ماضٍ، وفاعله ضمير يعود على الأب. ﴿عَلَيْكُمْ﴾: متعلق به. ﴿مَوْثِقًا﴾: مفعول به. ﴿مِنَ اللَّهِ﴾: جار ومجرور صفة له، وجملة ﴿أَخَذَ﴾ في محل الرفع خبر ﴿أَنَّ﴾، وجملة ﴿أَنَّ﴾ في تأويل مصدر ساد مسد مفعولي علم تقديره: ألم تعلموا أخذ أبيكم عليكم موثقًا من الله في شأن بنيامين.
﴿وَمِنْ قَبْلُ مَا فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ﴾.
﴿وَمِنْ قَبْلُ﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿فَرَّطْتُم﴾. ﴿مَا﴾: زائدة، أو مصدرية. ﴿فَرَّطْتُم﴾: فعل وفاعل. ﴿في يُوسُف﴾: متعلق به، والجملة صلة لـ ﴿مَا﴾ المصدرية. ﴿ما﴾ مع صلتها في تأويل مصدر معطوف على مصدر مؤول من جملة ﴿أَنَّ﴾ تقديره: ألم تعلموا أخذ أبيكم عليكم موثقًا من الله في شأن بنيامين، وتفريطكم في شأن يوسف من قبل بنيامين. ﴿فَلَنْ أَبْرَحَ﴾: (الفاء): فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر تقديره: إذا عرفتم ما قلت لكم وأردتم بيان شأني وحالي.. فأقول لكم، ﴿لَنْ أَبْرَحَ﴾: ناصب وفعل منصوب، و ﴿أَبْرَحَ﴾ هنا تامة، وفاعله ضمير يعود على الكبير. ﴿الْأَرْضَ﴾: مفعول به؛ لأنه في معنى لن أفارق الأرض، والجملة الفعلية في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾. ﴿حَتَّى﴾: حرف جر وغاية. ﴿يَأْذَنَ﴾: فعل مضارع منصوب بأن مضمرة وجوبًا بعد حتى بمعنى إلى. ﴿لِي﴾: متعلق به. ﴿أَبِي﴾: فاعل. ﴿أَوْ يَحْكُمَ اللَّه﴾: فعل وفاعل معطوف على ﴿لِي﴾. ﴿لِي﴾: متعلق به، وجملة ﴿يَأْذَنَ﴾ في تأويل مصدر مجرور بحتى بمعنى إلى، الجار والمجرور متعلق بـ ﴿أَبْرَحَ﴾، والتقدير: فلن أبرح الأرض إلى إذن أبي لي، أو حكم الله لي. ﴿وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ﴾: مبتدأ وخبر، والجملة في محل
75
النصب مقول ﴿قَالَ﴾ على كونها معللة لما قبلها.
﴿ارْجِعُوا إِلَى أَبِيكُمْ فَقُولُوا يَا أَبَانَا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَمَا شَهِدْنَا إِلَّا بِمَا عَلِمْنَا وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ (٨١)﴾.
﴿ارْجِعُوا﴾: فعل وفاعل. ﴿إِلَى أَبِيكُمْ﴾: متعلق به، والجملة في محل النصب مقول ﴿قَال﴾. ﴿فَقُولُوا﴾: (الفاء): عاطفة. ﴿قولوا﴾: فعل وفاعل معطوف على ﴿ارْجِعُوا﴾. ﴿يَا أَبَانَا﴾ إلى آخر الآية: مقول ﴿قولوا﴾، وإن شئت قلت: ﴿يَا أَبَانَا﴾: منادى مضاف، وجملة النداء في محل النصب مقول ﴿قولوا﴾. ﴿إِنَّ ابْنَكَ﴾: ناصب واسمه. ﴿سَرَقَ﴾: فعل ماضٍ، وفاعله ضمير يعود على الابن، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر ﴿إِنَّ﴾، وجملة ﴿إِنَّ﴾: في محل النصب مقول ﴿قولوا﴾ على كونها جواب النداء. ﴿وَمَا﴾: (الواو): عاطفة. ﴿ما﴾: نافية. ﴿شَهِدْنَا﴾: فعل وفاعل، والجملة في محل النصب معطوفة على جملة ﴿إِنَّ﴾ على كونها جواب النداء. ﴿إِلَّا﴾: أداة استثناء مفرغ. ﴿بِمَا﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿شَهِدْنَا﴾. ﴿عَلِمْنَا﴾: فعل وفاعل، والجملة صلة لـ ﴿ما﴾، أو صفة لها، والعائد أو الرابط محذوف تقديره: إلا بما علمناه، وعلم بمعنى عرف. ﴿وَمَا﴾: (الواو): عاطفة. ﴿ما﴾: نافية. ﴿كُنَّا﴾: فعل ناقص واسمه. ﴿لِلْغَيْبِ﴾: متعلق بما بعده. ﴿حَافِظِينَ﴾: خبر كان، وجملة كان معطوفة على جملة ﴿إِنَّ﴾ على كونها جواب النداء.
﴿وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (٨٢)﴾.
﴿وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ﴾: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على الأب، والجملة في محل النصب معطوفة على جملة ﴿إِنَّ﴾ على كونها جواب النداء. ﴿الَّتِي﴾ صْفة لـ ﴿الْقَرْيَةَ﴾. ﴿كُنَّا﴾: فعل ناقص واسمه. ﴿فِيهَا﴾: خبره، وجملة كان صلة الموصول. ﴿وَالْعِيرَ﴾: معطوف على ﴿الْقَرْيَةَ﴾. ﴿الَّتِي﴾: صفة للعير. ﴿أَقْبَلْنَا﴾: فعل وفاعل. ﴿فِيهَا﴾: متعلق به، والجملة صلة الموصول. ﴿وَإِنَّا﴾: ناصب واسمه. ﴿لَصَادِقُونَ﴾: خبره، واللام حرف ابتداء، والجملة الاسمية معطوفة على جملة ﴿وَاسْأَلِ﴾ على كونها مقول ﴿قولوا﴾.
76
﴿قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ﴾.
﴿قَالَ﴾: فعل ماضٍ، وفاعله ضمير يعود على يعقوب، والجملة مستأنفة. ﴿بَلْ سَوَّلَتْ﴾ إلى آخر الآية: مقول محكي، وإن شئت قلت: ﴿بَل﴾: حرف إضراب وابتداء. ﴿سَوَّلَتْ﴾: فعل ماضٍ. ﴿لَكُمْ﴾: متعلق به. ﴿أَنْفُسُكُمْ﴾: فاعل. ﴿أَمْرًا﴾: مفعول به، والجملة في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾. ﴿فَصَبْرٌ جَمِيلٌ﴾: (الفاء): فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر تقديره: إذا عرفتم ما قلت لكم وأردتم بيان حالي لكم.. فأقول لكم: ﴿صبر جميل﴾: ﴿صبر﴾: خبر مبتدأ محذوف. ﴿جَمِيلٌ﴾: صفة له تقديره: فصبري صبر جميل، والجملة في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾. ﴿عَسَى اللَّهُ﴾ لهُ: فعل ناقص واسمه، وهو من أفعال الرجاء. ﴿أَنْ يَأْتِيَنِي﴾: ناصب وفعل ونون وقاية ومفعول به. ﴿بِهِمْ﴾: متعلق به. ﴿جَمِيعًا﴾: حال من ضمير ﴿بِهِمْ﴾، وفاعله ضمير يعود على ﴿اللَّهُ﴾، والجملة الفعلية صلة ﴿أَن﴾ المصدرية، ﴿أَن﴾ مع صلتها: في تأويل مصدر منصوب على كونه خبر ﴿عَسَى﴾، ولكنه في تأويل اسم الفاعل؛ ليصح الإخبار تقديره: عسى الله آتيًا بهم جميعًا. ﴿إِنَّهُ﴾: ناصب واسمه. ﴿هُوَ﴾: ضمير فصل. ﴿الْعَلِيمُ﴾: خبر أول له. ﴿الْحَكِيمُ﴾: خبر ثان له، وجملة ﴿إن﴾ في محل النصب مقول القول مسوقة لتعليل ما قبلها.
﴿وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ﴾.
﴿وَتَوَلَّى﴾: فعل ماضٍ، وفاعله ضمير يعود على يعقوب. ﴿عَنْهُمْ﴾: متعلق به، والجملة معطوفة على جملة ﴿قال﴾. ﴿وَقالَ﴾: فعل ماضٍ معطوف على ﴿تولى﴾، وفاعله ضمير يعود على يعقوب. ﴿يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ﴾: مقول محكي لـ ﴿قال﴾، وإن شئت قلت ﴿يا﴾: حرف نداء. ﴿أسفى﴾: منادى مضاف منصوب، وعلامة نصبه فتحة مقدرة على ما قبل ياء المتكلم المنقلبة ألفًا للتخفيف بعد قلب الكسرة فتحة، منع مع ظهورها اشتغال المحل بحركة المناسبة، ﴿أسفى﴾: مضاف، وياء المتكلم المنقلبة ألفًا في محل الجر مضاف إليه. {عَلَىَ
77
يُوسُفَ} يُوسُفَ: متعلق بـ ﴿أَسَفَى﴾، وجملة النداء في محل النصب مقول ﴿قال﴾. ﴿وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ﴾: فعل وفاعل. ﴿مِنَ الْحُزْنِ﴾: متعلق به، والجملة معطوفة على جملة ﴿قال﴾، أو حال من فاعل ﴿قال﴾. ﴿فَهُوَ﴾: (الفاء): عاطفة تعليلية، ﴿فَهُوَ كَظِيمٌ﴾: مبتدأ وخبر، والجملة الاسمية معطوفة على جملة ﴿وَابْيَضَّتْ﴾.
التصريف ومفردات اللغة
﴿آوَى إِلَيْهِ أَخَاهُ﴾؛ أي: ضم إليه في الطعام والمنزل والمبيت كما مر في مبحث التفسير. وأصل آوى: أأوى بهمزتين ثانيتهما ساكنة على وزن أفعل الرباعي، فقلبت الثانية ألفًا ثلاثية أوى يأوي بوزن رمى يرمي إذا رق له ورحمه.
﴿فَلَا تَبْتَئِسْ﴾؛ أي: فلا تحزن، والابتئاس: اجتلاب البؤس والشقاء، وهو من باب افتعل الخماسي.
﴿فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ﴾؛ أي: هيأهم بأهبة السفر. ﴿جَعَلَ السِّقَايَةَ﴾ والسقاية - بكسر أوله - وعاء يسقى به، وبه يكال للناس، ويقدر بكيلة مصرية (١/ ١٢ من الأردب المصري) - وهو الذي عبر عنه بصواع الملك، فيسمى سقاية باعتبار أول حاله، وصاعًا باعتبار آخر أمره؛ لأن الصاع آلة الكيل، وهو أربعة أمداد، والأردب المصري يسع اثني عشر صاعًا. ﴿فِي رَحْلِ أَخِيهِ﴾ والرحل هو الوعاء الذي يجعل فيه ما يشتريه من الطعام من مصر. ﴿ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ﴾؛ أي: نادى مرارًا كثيرة بدليل صيغة التفعيل؛ لأنه من التأذين، وهو تكرار الأذان، والإعلام بالشيء، وكان ذلك النداء مع رفع الصوت قائلًا ﴿أَيَّتُهَا الْعِيرُ﴾؛ أي: يا أصحاب العير، والعير في الأصل: كل ما يحمل عليه من الإبل والحمير والبغال، سمي بذلك؛ لأنه يعير؛ أي: يذهب ويجيء، والمراد منه هنا أصحاب الإبل ونحوها. وفي "المصباح": العير - بالكسر - اسم للإبل التي تحمل الميرة في الأصل، ثم غلب على كل قافلة. اهـ.
﴿وَأَقْبَلُوا﴾؛ أي: والحال أنهم؛ أي: إخوة يوسف أقبلوا عليهم؛ أي: على جماعة الملك المؤذن وأصحابه؛ أي: التفتوا إليهم وخاطبوهم بما ذكر كما مر.
78
﴿مَاذَا تَفْقِدُونَ﴾؛ أي: أي شيء ضاع منكم؟ والفقد: غيبة الشيء عن الحس بحيث لا يعرف مكانه كما في "البيضاوي" من فقد من باب ضرب.
﴿صُوَاعَ الْمَلِكِ﴾ فالصاع والصواع لغتان معناهما واحد؛ وهو آلة الكيل، وتقدم أنه هو السقاية. قال الزجاج: الصواع هو الصاع بعينه، وهو يذكر ويؤنث، وهو السقاية، ومنه قول الشاعر:
نَشْرَبُ الخَمْرَ بِالصُّوَاعِ جَهَارَا
﴿وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ﴾ والحمل - بكسر الحاء - هنا هو ما يحمله البعير من الطعام.
﴿وَأَنَا بِهِ﴾؛ أي: يحمل البعير الذي جعل لمن جاء بالصواع قبل التفتيش للأوعية. ﴿زَعِيمٌ﴾؛ أي: كفيل أجعله جزاءً لمن يجيء به.
﴿كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ﴾ والكيد: التدبير الذي يخفى ظاهره على المتعاملين به حتى يؤدي إلى باطنه المراد منه، واعلم أن الكيد يشعر بالحيلة والخديعة، وهذا في حق الله تعالى محال إلا أنه قد تقدم أصل معتبر في هذا الباب، وهو أن أمثال هذه الألفاظ في حق الله تعالى تحمل على نهاية الأغراض لا على بداياتها، فالكيد: السعي في الحيلة والخديعة، ونهايته إيقاع الإنسان من حيث لا يشعر في أمر مكروه، ولا سبيل له إلى دفعه، فالكيد في حق الله تعالى محمول على هذا المعنى. اهـ. "كرخي". ﴿دِينِ الْمَلِكِ﴾ شرعه الذي يدين الله تعالى به.
﴿وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ﴾ يقرأ شاذًا: ﴿ذي عالم﴾ وفيه ثلاثة أوجه:
أحدها: هو مصدر كالباطل.
والثاني: أن ذي زائدة، وقد جاء مثل ذلك في الشعر كقول الكميت:
إِلَيْكُمْ ذَوِيْ آلِ النَبِيِّ
والثالث: أنه أضاف الاسم إلى المسمى، وهو محذوف تقديره: ذي مسمى عالم كقول الشاعر: إلى الحول ثم اسم السلام عليكما
79
أي: مسمى السلام. ذكره أبو البقاء.
﴿إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ﴾ سرق - من باب ضرب - أخذ الشيء من حرز مثله خفية. وقد سبق بيان سبب نسبة السرقة إلى يوسف في مبحث التفسير. وقولهم: ﴿إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا﴾؛ أي: كبير القدر، ولم يريدوا كبر السنن؛ لأن ذلك معروف من حال الشيخ ذكره "القرطبي".
﴿مَعَاذَ اللَّهِ﴾ مصدر ميمي من عاذ يعوذ عوذًا ومعاذًا.
﴿فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا﴾؛ أي: يئسوا مثل عجيب واستعجب وسخر واستسخر، فالسين والتاء زائدتان للمبالغة كما في "البيضاوي" و"القرطبي"، وفي "السمين": ﴿فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا﴾ استفعل هنا بمعنى فعل المجرد، يقال: يئس واستيأس بمعنى نحو عجيب واستعجب، وسخر واستسخر. وقال الزمخشري: زيادة السين والتاء للمبالغة نحو ما مر في استعصم.
﴿خَلَصُوا﴾؛ أي: اعتزلوا عن مجلس يوسف، وانفردوا عنه، وانحازوا على حدة. وفي "المصباح": خلص يخلص خلوصًا من باب قعد؛ أي: انفصل. ﴿نَجِيًّا﴾: حال من فاعل ﴿خَلَصُوا﴾ كما مر؛ أي: اعتزلوا حالة كونهم متناجين؛ أي: متحدثين في التشاور في شأن هذه القضية، وهو لفظ يوسف به من له نجوى، واحدًا كان أو جماعة مؤنثًا أو مذكرًا، فهو كعدل، ويجمع على أنجية، قال لبيد:
والْحمْدُ للهِ عَلَى مَا أَوْلَى فَنِعْمَ مَا أَوْلَى ونِعْمَ الموْلَى
وَشَهِدْتُ أَنْجِيَةً الإِفَاقَةِ عَالِيًا كَعْبِي وَأَرْدَافُ الملُوْكِ شُهُوْدُ
وقال آخر:
إِني إِذَا مَا القَوْم كَانُوْا أنْجِيَهْ وَاضْطَرَبَ القَوْمُ اضْطِرَابَ الأَرْشِيَهْ
هُنَاكَ أوْصِيْنِيُ وَلا توْصِي بِيَهْ
وفي "الكرخي" قوله: ﴿نَجِيًّا﴾ حال من فاعل ﴿خَلَصُوا﴾؛ أي: اعتزلوا في هذه الحالة متناجين، وإنما أفردت الحال وصاحبها جمع؛ إما لأن النجي فعيل
80
بمعنى فاعل كالعشير والخليط بمعنى المعاشر والمخالط كقوله: ﴿وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا﴾؛ أي: مناجيًا، وهذا في الاستعمال يفرد مطلقًا، يقال: هم خليطك وعشيرك؛ أي: مخالطوك ومعاشروك، وإما لأنه صفة على فعيل بمنزلة صديق وبابه، فوحد لأنه بزنة المصادر كالصهيل والوحيد والذميل، وإما لأنه مصدر بمعنى التناجي كما قيل: النجوى بمعناه قال الله تعالى: ﴿وَإِذْ هُمْ نَجْوَى﴾ وحينئذ يكون فيه التأويلات المذكورة في رجل عدل وبابه. اهـ.
﴿قَالَ كَبِيرُهُمْ﴾؛ أي: رأيًا وتدبيرًا وعلمًا؛ وهو شمعون. قاله مجاهد، أو كبيرهم في السنن، وهو روبيل. قاله قتادة، وقيل: في العقل والرأي؛ وهو يهوذا ذكرهم الميثاق في قول يعقوب: ﴿لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلَّا أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ﴾.
﴿فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ﴾: ﴿أَبْرَحَ﴾ هنا تامة ضمِّنت معنى أفارق، فالأرض مفعول به، ولا يجوز أن تكون تامة من غير تضمين؛ لأنها إذا كانت كذلك كان معناها ظهر وذهب، ومعنى الظهور والذهاب لا يصل إلى الظرف المخصوص إلا بواسطة في تقول: ذهبت في الأرض، ولا يجوز ذهبت الأرض. وقد جاء شيء لا يقاس عليه. واعلم أنه لا يجوز في أبرح أن تكون ناقصة؛ لأنه لا ينتظم من الضمير الذي فيها ومن الأرض مبتدأ وخبر، ألا ترى أنك لو قلت: أنا الأرض، لم يجز من غير في بخلاف: أنا في الأرض. اهـ. "كرخي".
﴿الْقَرْيَةَ﴾: اسم للموضع الذي يجتمع فيه الناس وللناس جميعًا، ويستعمل في كل واحد منهما. قاله الراغب.
﴿قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ﴾؛ أي: زينت وخيلت لكم ﴿أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا﴾؛ أي: كيدًا آخر ﴿فَصَبْرٌ جَمِيلٌ﴾؛ أي: فشأني صبر جميل؛ أي: حسن، أو صبر جميل أولى بي وأليق.
واعلم: أن الواجب على كل مسلم إذا أصيب بمكروه في نفسه أو ولده أو ماله أن يتلقى ذلك بالصبر الجميل والرضا والتسليم لمجريه عليه؛ وهو العليم الحكيم، ويقتدي بيعقوب وسائر النبيين صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين. وقال سعيد بن عروبة عن قتادة عن الحسن قال: ما من جرعتين يتجرعهما العبد
81
أحب إلى الله من جرعة مصيبة يتجرعها العبد بحسن صبر وحسن عزاء، وجرعة غيظ يتجرعها العبد بحلم وعفو.
﴿وَتَوَلَّى عَنْهُمْ﴾؛ أي: أعرض عنهم ﴿وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ﴾؛ أي: يا حزني عليه، والأسف أشد الحزن على ما فات، ومنه قول كثير:
فَيَا أَسَفًا لِلْقَلْبِ كَيْفَ انْصِرَافُهُ وَلِلنَّفْس لَما سُلِّيَتْ فَتَسَلَّتِ
قال يعقوب هذه المقالة لما بلغ منه الحزن غاية مبالغة بسبب فراقه ليوسف وانضمام فراقه لأخيه بنيامين، وبلوغ ما بلغه من كونه أسيرًا عند ملك مصر، فتضاعفت أحزانه، وهاج عليه الوجد القديم بما أثاره من الخبر الأخير.
﴿فَهُوَ كَظِيمٌ﴾؛ أي: مملوء غيظًا على أولاده ممسك له في قلبه لا يبثه لأحد، فهو فعيل بمعنى مفعول، وقيل: الكظيم بمعنى الكاظم؛ أي: المشتمل على حزنه الممسك له، ومنه قوله:
فَإِنْ أكُ كَاظِمًا لِمُصَابِ نَاسٍ فَإنِّيْ اليَوْمَ مُنْطَلِقٌ لِسَانِي
وقال الزجاج: معنى كظيم محزون. وعن ابن عباس أنه قال: معناه مغموم مكروب. وفي "المصباح": كظمت الغيظ كظمًا - من باب ضرب - وكظومًا أمكست على ما في نفسك منه على صفح أو غيظ. انتهى.
البلاغة
وقد تضمنت هذه الآيات أنواعًا من البلاغة، وضروبًا من الفصاحة والبيان والبديع:
فمنها: جناس الاشتقاق في قوله: ﴿وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ﴾ وفي قوله: ﴿ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ﴾.
ومنها: المجاز المرسل في قوله: ﴿أَيَّتُهَا الْعِيرُ﴾؛ لأن المراد منه أصحاب الإبل ونحوها، والعلاقة فيه المجاورة كما في "السمين".
ومنها: التعريض في قوله: ﴿إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ﴾ لما فيه من التعريض إلى
82
سرقتهم يوسف من أبيه.
ومنها: التخصيص في قوله: ﴿وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ﴾ بعد التعميم في قوله: ﴿قَالُوا نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ﴾؛ لأن هذه الجملة من كلام المؤذن؛ لأنه هو الذي كفل وضمن.
ومنها: ذكر الخاص بعد العام إشعارًا بأنه المقصود من العام في قوله: ﴿وَمَا كُنَّا سَارِقِينَ﴾ بعد قوله: ﴿مَا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ﴾.
ومنها: التأكيد في قوله: ﴿فَهُوَ جَزَاؤُهُ﴾؛ لأن هذه الجملة بمعنى قوله: ﴿جَزَاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ﴾، فهي مؤكدة لها.
ومنها: جناس الاشتقاق في قوله: ﴿فَهُوَ جَزَاؤُهُ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ﴾. ومنها: الإظهار في مقام الإضمار في قوله: ﴿ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِنْ وِعَاءِ أَخِيهِ﴾؛ لأن حق العبارة: ثم استخرجها منه.
ومنها: التشبيه في قوله: ﴿كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ﴾.
ومنها: حكاية الحال الماضية في قوله: ﴿مَاذَا تَفْقِدُونَ﴾ وفي قوله: ﴿نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ﴾؛ لأن صيغة المضارع في كلا الموضعين لاستحضار الصورة الماضية كما في "روح البيان".
ومنها: الجناس المماثل في قوله: ﴿إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ﴾.
ومنها: التنكير في قوله: ﴿أَخٌ لَهُ﴾ لغرض الإبهام.
ومنها: الطباق في قوله: ﴿فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا﴾.
ومنها: الإطناب في قوله: ﴿شَيْخًا كَبِيرًا﴾ لغرض الاستعطاف؛ لأن كبر السن معلوم من لفظ الشيخ.
ومنها: المجاز المرسل في قوله: ﴿وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ﴾؛ أي: أهلها، والعلاقة فيه المحلية، وفي قوله: ﴿وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا﴾؛ أي: أصحابها، والعلاقة فيه
83
المجاورة كما مر قريبًا.
ومنها: نداء غير العاقل تنزيلًا له منزلة العاقل في قوله: ﴿يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ﴾.
ومنها: جناس الاشتقاق بين لفظي الأسف ويوسف في قوله: ﴿يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ﴾ وقال الزمخشري: والتجانس بين لفظتي الأسف ويوسف مما يقع مطبوعًا غير مستعمل، فيملح ويبدع، ونحوه ﴿اثَّاقَلْتُمْ﴾، ﴿أَرَضِيتُمْ﴾، ﴿وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ﴾، ﴿يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا﴾، ﴿مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ﴾ انتهى. ويسمى هذا تجنيس التصريف، وهو أن تنفرد كل كلمة من الكلمتين عن الأخرى بحرف، ذكره أبو حيان.
ومنها: الكناية في قوله: ﴿وَابْيَضَّتْ عَيْنَاه﴾؛ لأنه كناية عن فقدان البصر وذهابه عنه.
ومنها: عطف العام على الخاص في قوله: ﴿حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ﴾ فإنه غيا الأمر بغايتين؛ إحداهما خاصة؛ وهي إذن أبيه، والثانية عامة؛ لأن إذن أبيه له في الانصراف من حكم الله تعالى. اهـ. "كرخي".
ومنها: جناس الاشتقاق بين ﴿يَحْكُمَ﴾ و ﴿الْحَاكِمِينَ﴾ في قوله: ﴿حَتَّى﴾ ﴿يَحْكُمَ اللَّهُ لِي﴾ ﴿وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ﴾.
ومنها: الحذف والزيادة في عدة مواضع.
والله سبحانه وتعالى أعلم
* * *
84
قال الله سبحانه جلَّ وعلا:
﴿قَالُوا تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ (٨٥) قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (٨٦) يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلَا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ (٨٧) فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ (٨٨) قَالَ هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جَاهِلُونَ (٨٩) قَالُوا أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (٩٠) قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ (٩١) قَالَ لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (٩٢) اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيرًا وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ (٩٣) وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قَالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلَا أَنْ تُفَنِّدُونِ (٩٤) قَالُوا تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلَالِكَ الْقَدِيمِ (٩٥) فَلَمَّا أَنْ جَاءَ الْبَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيرًا قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (٩٦) قَالُوا يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ (٩٧) قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (٩٨) فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقَالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ (٩٩) وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (١٠٠)﴾.
التفسير وأوجه القراءة
٨٥ - ﴿قَالُوا﴾؛ أي: قال أولاد يعقوب الذين جاؤوا عن مصر وعن معهم عن أولاد الأولاد الحاضرين عند يعقوب حين قال يعقوب: ﴿يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ﴾: ﴿تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ﴾؛ أي: والله لا تزال تذكر يوسف وتلهج به، ولا تفتر عن حبه ﴿حَتَّى تَكُونَ﴾؛ أي: تصير بذلك ﴿حَرَضًا﴾؛ أي: مريضًا مشرفًا على الهلاك ﴿أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ﴾؛ أي: من الميتين.
85
وخلاصة ذلك (١): أنك الآن في بلاءٍ شديد، ويخاف أن يحصل لك ما هو أكثر وأشد، وهم يريدون بذلك منعه من البكاء والأسف، وإن كانوا هم سبب أحزانه ومنشأ همومه وغمومه، وإنما (٢) قالوا له ذلك؛ لأنهم علموا باليقين أنه يداوم على ذلك.
وأصل ﴿تَاللَّهِ تَفْتَأُ﴾؛ أي: والله لا تفتأ ولا تزال، فلا (٣) محذوفة في جواب القسم للتخفيف لعدم الالتباس؛ لأنه لو كان الجواب مثبتًا.. للزمه اللام ونون التوكيد عند البصريين، أو إحداهما عند الكوفيين، وذلك نظير قول العرب: والله أقصدك أبدًا، يعنون: لا أقصدك. وقال الفراء إن (لا) مضمرة؛ أي: لا تفتأ. قال النحاس: والذي قال صحيح، وقد روي عن الخليل وسيبويه مثل قول الفراء، وأنشد الفراء محتجًا على ما قاله قول امرئ القيس:
فَقُلْتُ يَمِيْنَ اللهِ أَبْرَحُ قَاعِدًا وَلَوْ قَطَعُوْا رَأسِيْ لَدَيْكِ وَأوْصَالي
يريد: لا أبرح.
وقالت الخنساء:
فَأقْسَمْتُ آسَى عَلَى هَالِكٍ أوَ أسْألُ نَائِحَةً مَالَهَا
أرادت: لا آسى.
وقال الآخر:
لَمْ يَشْعُرِ النَّعْشُ مَا عَلَيْهِ مِنَ الْـ ـعُرْفِ وَلا الحَامِلُوْنَ مَا حَمَلُوْا
تَاللهِ أَنْسَى مُصِيْبَتي أبَدَا مَا أسْمَعَتْنِي حَنِيْنَهَا الإِبِلُ
وقرأ أبو عمران وابن محيصن وأبو حيوة شذوذًا (٤): ﴿قالوا باللهِ﴾ - بالباء - وكذلك كل قسم في القرآن، ويقال: فتىء وفتا لغتان فيه، (٥) ولا يستعملان إلا
(١) المراغي.
(٢) القرطبي.
(٣) روح البيان.
(٤) زاد المسير.
(٥) القرطبي.
86
مع الجحد.
قال الشاعر:
فَمَا فَتِئَتْ حَتَّى كَأنَّ غُبَارَهَا سُرَادِقُ يَوْمٍ ذِيْ رِيَاحٍ تَرَفَّعُ
أي: ما برحت.
﴿حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا﴾ وأصل الحرض: الفساد في الجسم أو العقل من الحزن أو العشق أو الهرم حكي ذلك عن أبي عبيدة وغيره، ومنه قول الشاعر:
سَرَ هَمِّي فَأمْرَضَنِيْ وَقَدْمَا زَادَنِي مَرَضَا
كَذَاكَ الحُبُّ قَبْلَ الْيَوْ مِ مِمَّا يُوْرِثُ الْحَرَضَا
وقال عبد الله بن عمر العرجي (١):
إِنِّيْ امْرُؤٌ لَجَّ بِيْ حُبٌّ فَأحْرَضَنِيْ حَتَّى بَلِيْتُ وَحَتَى شَفَّنِيْ السَّقَمُ
ومعنى: ﴿حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا﴾؛ أي: (٢) تالفًا، وقال ابن عباس ومجاهد: دنفًا؛ أي: ملازمًا للمرض، وقال قتادة: هرمًا، والضحاك: باليًا داثرًا، ومحمد بن إسحاق: فاسدًا لا عقل لك. وقال الفراء: الحارض: الفاسد الجسم والعقل وكذا الحرض. وقال ابن زيد: الحرض الذي قد ردَّ إلى أرذل العمر. وقال الربيع بن أنس: يابس الجلد على العظم. وقال المؤرِّخ: ذائبًا من الهم. وقال الأخفش، ذاهبًا، وابن الأنباري: هالكًا، وكلها متقاربة.
٨٦ - فأجابهم والتمس لنفسه معذرة على الحزن كما حكاه الله سبحانه وتعالى عنه بقوله: ﴿قَالَ﴾ يعقوب عليه السلام، وهذه الجملة مستأنفة في جواب سؤال مقدر كأنه قيل: فماذا قال يعقوب لهم حين قالوا له ما قالوا؟ فقيل: قال يعقوب جوابًا لأولاده اللائمين له: لا تلوموني يا أولاد على حزني وبكائي، وأنا لم أشك إليكم حزني ولا إلى أحد من خلق الله، بل ﴿إِنَّمَا أَشْكُو﴾ وأظهر ﴿بَثِّي﴾؛ أي:
(١) زاد المسير.
(٢) القرطبي.
87
شديد حزني وهمي ﴿وَحُزْنِي﴾؛ أي: وقليل حزني ﴿إِلَى اللَّهِ﴾ سبحانه وتعالى ملتجئًا إلى جنابه متضرعًا لدى بابه في دفعه. وقد (١) ذكر المفسرون أن الإنسان إذا قدر على كتم ما نزل به من المصائب.. كان ذلك حزنًا، وإن لم يقدر على كتمه كان ذلك بثًا، فالبث على هذا أعظم الحزن وأصعبه. والحزن (٢): أعم من البث، فإذا عطف على الخاص يراد به الأفراد الباقية، فيكون المعنى: لا أذكر الحزن العظيم والحزن القليل إلا مع الله، لا مع غيره من الناس. وقيل: البث الهم، وقيل: هو الحاجة. وعلى هذا القول يكون عطف الحزن على البث واضح المعنى. وقرأ الجمهور: ﴿حُزْني﴾ - بضم الحاء وسكون الزاي -. وقرأ (٣) الحسن وعيسى: ﴿وحَزَني﴾ - بفتحتين -. وقرأ قتادة بضمتين، وما عدا قراءة الجمهور شاذ.
فإن قيل (٤): لِمَ قال يعقوب ﴿فَصَبْرٌ جَمِيلٌ﴾، ثم قال: ﴿يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ﴾، وقال: ﴿إنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ﴾؟ فكيف يكون الصبر مع الشكوى؟
قيل: ليس هذا إلا شكاية من النفس إلى خالقها، وهو جائز، ألا ترى أن أيوب عليه السلام قال: ﴿أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ﴾ وقال تعالى مع شكواه إلى ربه في حقه: ﴿إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ﴾ لأنه شكا منه إليه، وبكى منه عليه، فهو المعذور لديه؛ لأن حقيقة الصبر ومعناه الحقيقي حبس النفس ومنعها عن الشكوى إلى الغير، وترك الركون إلى الغير، وتحمل الأذى والابتلاء لصدوره من قضائه وقدره، كما قيل بلسان الحقيقة:
كُلُّ شَيءٍ مِنَ الملِيْحِ مَلِيْحُ لَكنِ الصَّبْرُ عَنْهُ غَيْرُ مَلِيْحِ
وقيل أيضًا:
وَالصَّبْرُ عَنْكَ فَمَذْمُوْمٌ عَوَاقِبُهُ وَالصَّبْرُ فِي سَائرِ الأَشْيَاءِ مَحْمُوْدُ
وذلك لأن المحب لا يصبر عن حضرة المحبوب، فلا يزال يعرض حاله
(١) الشوكاني.
(٢) روح البيان.
(٣) البحر المحيط.
(٤) روح البيان.
88
وافتقاره إلى حضرته، ولسان العشق لسان التضرع والحكاية، لا لسان الجزع والشكاية، فشكاية العارف الواقف في صورة الشكوى حكاية حاله وتضرعه وافتقاره إلى حبيبه.
وروى الحاكم (١) - أبو عبد الله - في "صحيحه" من حديث أنس بن مالك عن رسول الله - ﷺ - أنه قال: "كان ليعقوب أخ مؤاخ" فقال له ذا يوم: يا يعقوب ما الذي أذهب بصرك، وما الذي قوس ظهرك؟ قال: أما الذي أذهب بصري، فالبكاء على يوسف، وأما الذي قوّس ظهري فالحزن على بنيامين، فأتاه جبريل فقال: يا يعقوب إن الله يقرئك السلام، ويقول لك: أما تستحيي أن تشكو إلى غيري؛ فقال: إنما أشكو بثي وحزني إلى الله، فقال جبريل: الله أعلم بما تشكو، ثم قال يعقوب: أي رب؛ أما ترحم الشيخ الكثير أذهبت بصري، وقوست ظهري، فاردد عليَّ ريحانتاي أشمهما شمة قبل الموت، ثم اصنع بي يا رب ما شئت، فأتاه جبريل فقال: يا يقعوب إن الله يقرأ عليك السلام، ويقول: أبشر فوعزتي لو كانا ميتين لنشرتهما لك، إصنع طعامًا للمساكين، فإن أحب عبادي إلي المساكين، وهل تدري لم أذهبت بصرك وقوست ظهرك وصنع إخوة يوسف بيوسف ما صنعوا؛ لأنكم ذبحتم شاة، فأتاكم فلان المسكين وهو صائم، فلم تطعموه منها، فكان يعقوب بعد ذلك إذا أراد الغداء أمر مناديًا فنادى ألا من أراد الغداء من المساكين.. فليتغد مع يعقوب، وإذا كان صائمًا أمر مناديًا فنادى من كان صائمًا.. فليفطر مع يعقوب.
وقال وهب بن منبِّه (٢): أوحى الله تعالى إلى يعقوب: أتدري لما عاقبتك، وحبست عنك يوسف ثمانين سنة؟ قال: لا، قال: لأنك شويت عناقًا، وقترت على جارك، وأكلت ولم تطعمه، وذكر بعضهم أن السبب في ذلك أن يعقوب ذبح عجل بقرة بين يديها وهي تخور، فلم يرحمها.
(١) زاد المسير.
(٢) زاد المسير.
89
فإن قيل: كيف صبر يوسف عن أبيه بعد أن صار ملكًا؟
فقد أجاب المفسرون عنه بثلاثة أجوبة:
أحدها: أنه يجوز أن يكون ذلك عن أمر الله تعالى وهو الأظهر.
والثاني: لئلا يظن الملك بتعجيل استدعائه أهله شدة فاقتهم.
والثالث: أنه أحب بعد خروجه من السجن أن يدرج نفسه إلى كمال السرور. والصحيح أن ذلك كان عن أمر الله تعالى ليرفع درجة يعقوب بالصبر على البلاء، وكان يوسف يلاقي من الحزن لأجل حزن أبيه عظيمًا، ولا يقدر على دفع سببه.
﴿وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ﴾؛ أي: أعلم (١) من لطفه وإحسانه وثوابه على المصيبة ﴿مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾ ـه أنتم، وقيل: أراد علمه بأن يوسف حي، وقيل: أراد علمه بأن رؤياه صادقة، وقيل: أعلم من إجابة المضطرين إلى الله ما لا تعلمون، فأرجو أن يرحمني ويلطف بي ولا يخيب رجائي.
والخلاصة (٢): أي وأنا أعلم في ابتلائي بفراقه مع حسن عاقبته ما لا تعلمون، فاعلم أنه حي يرزق، وأن الله يجتبيه ويتم نعمته عليه وعلى آل يعقوب، وأنتم تظنون أن يوسف قد هلك، وأن بنيامين قد سرق فاسترقَّ، وتحسبون أني بحزني ساخط على قضاء الله تعالى في شيء أمضاه ولا مرد له، وأنا أعلم أن لهذا أجلًا هو بالغه، وإني لأرى البلاء ينزل عليكم من كل جانب بذنوبكم وبتفريطكم في يوسف من قبل وبأخيه الذي كان يسليني عنه من بعده.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما في تفسير الآية: أنا أعلم أن رؤيا يوسف حق، وأنني سأسجد له.
٨٧ - وقال السدي (٣): لما أخبره أولاده بسيرة الملك.. أحست نفسه، فطمع وقال: لعله يوسف، فقال: ﴿يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا﴾ إلى مصر
(١) الشوكاني.
(٢) المراغي.
(٣) روح البيان.
90
وارجعوا إليها ﴿فَتَحَسَّسُوا﴾؛ أي: فتعرفوا ﴿مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ﴾ بنيامين، وابحثوا فيها من خبرهما بحواسكم من سمع وبصر حتى تكونوا على يقين من أمرهما. فقوله: ﴿اذْهَبُوا﴾ أمر بالذهاب إلى الأرض التي جاؤوا منها وتركوا بها أخويهم بنيامين والمقيم بها. وقوله: ﴿فَتَحَسَّسُوا﴾ أمر بالتحسس وهو الاستقصاء والطلب بالحواس، ويستعمل في الخير والشر. والتحسس - بمهملات - طلب الشيء بالحواس مأخوذ من الحس أو من الإحساس. وقرىء (١) بالجيم كالذي في الحجرات ﴿وَلَا تَجَسَّسُوا﴾ وهو أيضًا التطلب. وفي "الإحياء" بالجيم: في تطلع الأخبار، وبالحاء: في المراقبة بالعين، وقال في "إنسان العيون" أما بالحاء: أن يفحص الشخص عن الأخبار بنفسه، وأما بالجيم: أن يفحص عنها بغيره، وجاء تحسسوا ولا تجسسوا انتهى.
والمعنى: اذهبوا فتعرفوا خبر يوسف وأخيه وتطلبوه، وإنما (٢) خصهما ولم يذكر الثالث، وهو الذي قال: فلن أبرح الأرض واحتبس بمصر؛ لأن غيبته اختيارية لا يعسر إزالتها؛ لأنه إنما أقام مختارًا.
﴿وَلَا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ﴾؛ أي: ولا تقنطوا من فرجه سبحانه وتعالى وتنفيسه عن النفس هذا الكرب بما ترتاح إليه الروح، ويطمئن به القلب. وقرأ (٣) الجمهور: ﴿تَيْأَسُوا﴾، وفرقة: ﴿تَيْأَسُوا﴾. وقرأ الأعرج: ﴿تَئَسُوا﴾ - بكسر التاء - والقراءتان اللتان عدا قراءة الجمهور شاذتان. واليأس والقنوط: انقطاع الرجاء. و ﴿رَوْحِ اللَّهِ﴾ - بفتح الراء -: رحمته وفرجه وتنفيسه؛ أي: إزالته الكرب عن النفس. قال ابن عطية: وكان معنى هذه القراءة: لا تيأسوا من حي معه روح الله الذي وهبه، فإن من بقي روحه يرجى حضوره، ومن هذا قول الشاعر:
وفي غير من قد وارت الأرض فاطمع
ومن هذا قول عبيد بن الأبرص:
(١) البحر المحيط.
(٢) روح البيان.
(٣) البحر المحيط.
91
وكُلُّ ذِيْ غَيْبةِ يؤُوْبُ وَغَائِبُ الْموْتِ لاَ يَؤوْبُ
وقال الزمخشري: ﴿من رَوْحِ اللَّهِ﴾ - بالضم - أي: من رحمته التي تحيا بها العباد انتهى.
﴿إِنَّهُ﴾؛ أي: إن الشأن والحال ﴿لَا يَيْأَسُ﴾ ولا يقنط ﴿مِنْ رَوْحِ اللَّهِ﴾ ورحمته ﴿إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ﴾ بالله سبحانه وتعالى وبقدرته وسعة رحمته (١)، ويجهلون ما لله في عباده من حكم بالغة ولطف خفي، فإذا لم يصلوا إلى ما يبتغون من كشف ضر، أو جلب خير بخعوا أنفسهم - انتحروا - همًّا وحزنًا، أما المؤمن حقًّا فلا تقنطه المصائب ولا الشدائد من رحمة ربه وتفريجه لكربه، يعني: أن المؤمن يصبر عند البلاء، وينتظر الفرج والرحمة، فيسأل به خيرًا، ويحمد الله عند الرخاء، والكافر بضد ذلك. ومن ثم قال ابن عباس: إن المؤمن من الله تعالى على خير يرجوه في البلاء، ويحمده في الرخاء. وقرأ أبي شذوذًا: ﴿من رحمة الله﴾.
٨٨ - وقوله: ﴿فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ﴾ فيه حذف واختصار (٢)، والتقدير: فخرجوا من عند أبيهم قاصدين مصر، فذهبوا كما أمرهم أبوهم ليتحسسوا من يوسف وأخيه ﴿فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ﴾؛ أي: على يوسف عليه السلام ﴿قَالُوا﴾ ليوسف ﴿يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ﴾؛ أي: أيا أيها الملك الممتنع القادر الغالب ﴿مَسَّنَا﴾؛ أي: أصاب إيانا ﴿وَأَهْلَنَا﴾؛ أي: وعيالنا وأولادنا وهم من خلفوهم ﴿الضُّرُّ﴾؛ أي: الفقر والحاجة، والهزال والضعف؛ لما نحن فيه من المجاعة وكثرة العيال وقلة الطعام، وقد شكوا إليه رقة الحال وقلة المال وشدة الحاجة وغير ذلك مما يرقق القلب، مع أن مقصدهم التحسس من يوسف وأخيه؛ ليروا تأثير الشكوى فيه، فإن رق قلبه لهم ذكروا ما يريدون وإلا سكتوا، وقد كان أبوهم يرجح أنه هو يوسف، فأرادوا أن يروا تأثير هذا الاستعطاف فيه، وقالوا: ﴿وَجِئْنَا﴾ إليك
(١) المراغي.
(٢) الخازن.
﴿بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ﴾؛ أي: ببضاعة رديئة وأمتعة خسيسة يحتقرها التجار، ويدفعونها احتقارًا لها ﴿فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ﴾؛ أي: فأتمه لنا كما تعودنا من جميل رعايتك وإحسانك، ولا تنقصه لرداءة بضاعتنا ﴿وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا﴾ بما تزيده على حقنا ببضاعتنا بعد أن تغمض عن ردائتها ﴿إِنَّ اللَّهَ﴾ سبحانه وتعالى ﴿يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ﴾ فيخلف ما ينفقون، يضاعف لهم الأجر. قال الضحاك: لم يقولوا إن الله يجزيك إن تصدقت علينا؛ لأنهم لم يعلموا أنه مؤمن، بل لتيقنهم كفره على عادة ملوك مصر في ذلك الوقت، فعبروا بهذه العبارة المحتملة. وقد بالغوا في الضراعة والتذلل لما كانوا يرون من تأثير ذلك في ملامح وجهه، وجرس صوته، ومغالبة دمعه، وقد قيل: كيف يطلبون التصدق عليهم وهم أنبياء، والصدقة محرمة على الأنبياء، وأجيب باختصاص ذلك بنبينا محمد - ﷺ -. وفي هذا الكلام (١) دليل على أنه تجوز الشكوى عند الضرورة إذا خاف من إصابته على نفسه، كا يجوز للعليل أن يشكو إلى الطبيب ما يجده من العلة. وهذه المرة التي دخلوا فيها مصر هي المرة الثالثة كما يفيده ما تقدم من سياق الكتاب العزيز.
روي (٢): أن يعقوب أمر بعض أولاده، فكتب بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، من يعقوب إسرائيل الله، ابن إسحاق ذبيح الله، ابن إبراهيم خليل الله إلى عزيز مصر أما بعد: فإنا أهل بيت موكل بنا البلاء؛ أما جدي إبراهيم فإنه ابتلي بنار النمروذ، فصبر وجعلها الله عليه بردًا وسلامًا، وأما أبي إسحاق فابتلي بالذبح، فصبر ففداه الله بذبح عظيم، وأما أنا فابتلاني الله بفقد ولدي يوسف فبكيت عليه حتى ذهب بصري، ونحل جسمي، وقد كنت أتسلى بهذا الغلام الذي أمسكته عندك، وزعمت أنه سارق، وإنا أهل بيت لا نسرق ولا نلد سارقًا، فإن رددته علي وإلا دعوت عليك دعوة تدرك السابع من ولدك والسلام. فلما قرأ يوسف كتاب أبيه اشتد بكاؤه وعيل صبره، وأظهر نفسه لأخوته.
٨٩ - ثم بعد أن ذكر طريق تحسسهم ذكر رد يوسف عليهم بقوله: ﴿قَالَ﴾ يوسف
(١) الشوكاني.
(٢) روح البيان.
93
عليه السلام لأخوته: ﴿هَلْ عَلِمْتُمْ﴾ والاستفهام فيه للتوبيخ والتقريع، وقيل: ﴿هَلْ﴾ بمعنى قد؛ أي: هل تذكرون ﴿مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ﴾ من إلقائه في الجبّ، وبيعه بثمن بخس، وتفريقه عن أبيه ﴿و﴾ ما فعلتم بـ ﴿أخيه﴾ بنيامين من إدخال الغم عليه بفراق أخيه الشقيق، وما كان يناله من جهتهم من الاحتقار والإهانة حتى كان لا يقدر أن يكلمهم. قال الواحدي: ولم يذكر أباه يعقوب من عظم ما دخل عليه من الغم بفراقه تعظيمًا له، ورفعًا من قدره، وعلمًا بأن ذلك كان بلاءً له من الله عَزَّ وَجَلَّ؛ ليزيد في درجته عنده؛ أي: ما أعظم ما فعلتم بيوسف وأخيه، فهل تبتم عن ذلك بعد علمكم بقبحه؟ فهو سؤال عن الملزوم، والمراد لازمه، وهذا استفهام (١) يفيد تعظيم أمر هذه الواقعة، ومعناه: ما أعظم ما ارتكبتم من أمر يوسف، وما أقبح ما أقدمتم عليه من قطيعة الرحم وتفريقه من أبيه، وهذا كما يقال للمذنب: هل تدري من عصيت، وهل تعرف من خالفت؟ ولم يرد بهذا نفس الاستفهام، ولكنه أراد تفظيع الأمر وتعظيمه. ويجوز أن يكون المعنى: هل علمتم عقبى ما فعلتم بيوسف وأخيه من تسليم الله إياهما من المكروه. ﴿إِذْ أَنْتُمْ جَاهِلُونَ﴾ ظرف لفعلتم؛ أي: فعلتم وقت جهلكم عقبى فعلكم ليوسف من خلاصه من الجب، وولايته السلطنة، وإنما (٢) كان كلامه هذا شفقة عليهم، وتنصحًا لهم في الدين، وتحريضًا على التوبة، لا معاتبته وتثريبًا إيثارًا لحق الله تعالى على حق نفسه.
روي: أنه لمَّا قرأ كتاب يعقوب بكى وكتب إليه: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ إلى يعقوب إسرائيل الله من ملك مصر أما بعد: أيها الشيخ فقد بلغني كتابك وقرأته، وأحطت به علمًا، وذكرت فيه آباءك الصالحين، وذكرت أنهم كانوا أصحاب البلايا، فإنهم إن ابتلوا وصبروا ظفروا، فاصبر كما صبروا والسلام. فلما قرأ يعقوب الكتاب قال: والله ما هذا كتاب الملوك، ولكنه كتاب الأنبياء، ولعل صاحب الكتاب هو يوسف.
(١) الخازن.
(٢) روح البيان.
94
واعلم (١): أن هذه الآية تصديق لقوله تعالى: ﴿وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ﴾. قال صاحب "الكشاف" في تفسير الآية: أتاهم من جهة الدين، وكان حليمًا موفقًا، فكلمهم مستفهمًا على معرفة وجه القبح الذي يجب أن يراعيه التائب فـ ﴿قَالَ هَلْ عَلِمْتُمْ﴾ أقبح ما فعلتم بيوسف وأخيه إذ أنتم جاهلون لا تعلمون قبحه، فلذلك أقدمتم عليه يعني: هل علمتم قبحه، فتبتم إلى الله منه، لأن علم القبح يدعو إلى الاستقباح، والاستقباح يجر إلى التوبة، فكان كلامه شفقة عليهم وتنصحًا لهم في الدين، لا معاتبة وتثريبًا إيثارًا لحق الله تعالى على حق نفسه في ذلك المقال الذي يتنفس فيه المكروب، وينفث المصدور، ويستنفي المغيظ المحنق، ويدرك ثأره الموتور، فلله أخلاق الأنبياء ما أوطأها وأسمحها، ولله حصا عقولهم ما أوزنها وأرجحها. اهـ.
وكان سؤاله (٢) إياهم عما فعلوا بيوسف وأخيه هو سؤال العارف بأمرهم فيه من البداية إلى النهاية مصدقًا لما أوحاه الله إليه حين ألقوه في غيابة الجبّ من قوله: ﴿وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ﴾. إذ يبعد أن يعرف هذا سواه.
٩٠ - ولما أرادوا أن يثبتوا من ذلك ويستيقنوا به وجهوا إليه سؤالًا هو سؤال المتعجب المستغرب لما يسمع وقالوا: ﴿أإنك لَأَنْتَ يُوسُفُ﴾؛ أي: قالوا هل من المؤكد قطعًا أنك أنت يوسف، وقد عجبوا من أنهم يترددون عليه مدى سنتين أو أكثر وهم لا يعرفونه، وهو يعرفهم، ويكتم نفسه، والاستفهام فيه للتقرير.
قرأ ابن كثير وقتادة وابن محيصن (٣): ﴿أَإِنَّكَ﴾ على لفظ الخبر بغير همزة استفهام، والظاهر أنها مرادة، ويبعد حمله على الخبر المحض. وقرأ (٤) نافع: ﴿أينك﴾ - بفتح الألف غير ممدودة وبالياء -. وقرأ أبو عمرو: ﴿آينك﴾ - بمد الألف وبالياء - وهو رواية قالون عن نافع. والباقون: ﴿أإنك﴾ بهمزتين وكل ذلك
(١) الخازن.
(٢) المراغي.
(٣) البحر المحيط.
(٤) المراح.
95
على الاستفهام؛ لأنهم فهموا من فحوى كلامه عليه السلام، أو من إبصار ثناياه وقت تبسمه عند تكلمه بذلك.
وقال: من قرأ على الخبر إن الأخوة لم يعرفوا يوسف حتى رفع التاج عن رأسه، فرأوا في قرنه علامة تشبه الشامة البيضاء كما كان ليعقوب وإسحاق مثل ذلك، فلما عرفوه بتلك العلامة قالوا ذلك.
﴿قالَ﴾ يوسف عليه السلام جوابًا لهم ﴿أَنَا يُوسُفُ﴾ الذي ظلمتموني غاية الظلم، وقد نصرني الله تعالى فأكرمني وأوصلني إلى أسمى المراتب، أنا ذلك العاجز الذي أردتم قتله بإلقائه في غيابة الجبّ، ثم صرت إلى ما ترون ﴿وَهَذَا﴾؛ أي: بنيامين ﴿أَخِي﴾؛ أي: شقيقي الذي فرقتم بيني وبينه وظلمتموه، ثم أنعم الله عليه بما تبصرون ﴿قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا﴾؛ أي: أنعم الله تعالى علينا، فجمع بيننا بعد الفرقة، وأعزنا بعد الذلة وآنسنا بعد الوحشة، وخلصنا مما ابتلينا به. وقيل: منَّ علينا بكل عز وخير في الدنيا والآخرة. وقيل: منَّ علينا بالسلامة في ديننا ودنيانا. وفيه إيماء إلى أنه لا وجه لطلبكم بنيامين؛ لأنه أخي لا أخوكم.
قال بعض العلماء (١): إنما أظهر الاسم في قوله: ﴿أَنَا يُوسُفُ﴾ ولم يقل أنا هو تعظيمًا لما نزل به من ظلم إخوته له، وما عوضه الله من النصر والظفر والملك؛ فكأنه قال: أنا يوسف المظلوم الذي ظلمتموني، وقصدتم قتلي بأن ألقيتموني في الجبّ، ثم بعتموني بأبخس الأثمان، ثم صرت إلى ما ترون، فكان تحت ظهور الاسم هذه المعاني كلها. ولهذا قال: ﴿وَهَذَا أَخِي﴾ وهم يعرفونه؛ لأنه قصد به أيضًا وهذا أخي المظلوم كما ظلمتموني، ثم صرت أنا وهو إلى ما ترون، وهو قوله: ﴿قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا﴾ بكل عز وخير في الدنيا والآخرة ﴿إِنَّهُ﴾؛ أي: إن الشأن والحال ﴿مَنْ يَتَّقِ﴾ الله سبحانه وتعالى بامتثال المأمورات، واجتناب المنهيات ﴿وَيَصْبِر﴾ على المحن والبلايا والإذاية ﴿فَإِنَّ اللَّهَ﴾ سبحانه وتعالى ﴿لَا يُضِيعُ﴾ ولا يبطل ﴿أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ﴾ بالتقوى والصبر؛
(١) الخازن.
96
أي: لا يضيع أجرهم، فوضع المحسنين موضع المضمر لاشتماله على المتقين والصابرين. وقيل المعنى: من يتق مولاه ويصبر على بلواه. وقيل: من يتق الزنا ويصبر على العزوبة قاله ابن عباس. وقال مجاهد: يتقي المعصية ويصبر على السجن.
والمعنى (١): أن الحق الذي نطقت به الشرائع وأرشدت إليه التجارب هو من يتق الله فيما به أمر وعنه نهى، ويصبر على ما أصابه من المحن وفتن الشهوات والأهواء، فلا يستعجل الأقدار بشيء قبل أوانه، فإن الله لا يضيع أجره في الدنيا، ثم يؤتيه أجره في الآخرة.
وفي الآية شهادة له من ربه بأنه من المحسنين المتقين لله، وبأن من كان مطيعًا لنفسه الأمارة بالسوء ومتبعًا لنزغات الشيطان.. فإن عاقبته الخزي في الدنيا والنكال في الآخرة إلا من تاب وعمل صالحًا، ثم اهتدى. وقرأ (٢) قنبل ابن كثير: ﴿من يتقي﴾ - بالياء - وصلًا ووقفًا. فقيل: هو مجزوم بحذف الياء التي هي لام الكلمة، وهذه الياء إشباع وقيل: جزمه بحذف الحركة على لغة من يقول: لم يرمي زيد، وقد حكوا ذلك لغةً، وقيل غير ذلك. وقرأ الباقون بحذفها وصلًا ووقفًا، والإعراب على قراءتهم ظاهر واضح.
تنبيه: فإن قيل: لِمَ لَمْ يعرف يوسف إخوته بنفسه في أول مرة ليبشروا أباهم به، وبما هو عليه من حسن حال وبسطة وجاه، فيكون في ذلك السرور كل السرور له؟
فالجواب عن ذلك: ما أجاب به ابن القيم في كتابه "الإغاثة الكبرى" قال رحمه الله تعالى: لو عرفهم بنفسه في أول مرة لم يقع الاجتماع بهم وبأبيه ذلك الموقع العظيم، ولم يحل ذلك المحل، وهذه سنَّة الله تعالى في الغايات العظيمة الحميدة إذا أراد أن يوصل عبده إليها هيأ له أسبابًا من المحن والبلايا والمشاق،
(١) المراغي.
(٢) البحر المحيط.
97
فيكون وصوله إلى تلك الغايات بعدها كوصول أهل الجنة إليها بعد الموت وأهوال البرزخ، والبعث والنشور، والموقف والحساب والصراط، ومقاساة تلك الأهوال والشدائد، وكما أدخل رسول الله - ﷺ - إلى مكة ذلك المدخل العظيم بعد أن أخرجه الكفار ذلك المخرج، ونصره ذلك النصر العزيز بعد أن قاسى مع أعداء الله ما قاساه، وكذلك ما فعل برسله كنوح وإبراهيم وموسى وهود وصالح وشعيب عليهم السلام، فهو سبحانه وتعالى يوصل إلى الغايات الحميدة بالأسباب التي تكرهها النفوس وتشق عليها كما قال تعالى: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (٢١٦)﴾. وربما كان مكروه النفوس إلى محبوبها سببًا ما مثله سبب، وبالجملة فالغايات الحميدة في خبايا الأسباب المكروهة الشاقة، كما أن الغايات المكروهة في خبايا الأسباب المشتهاة المستلذة، وهذا من حين خلق الله سبحانه الجنة وحفها بالمكاره، والنار وحفها بالشهوات. اهـ.
٩١ - ﴿قَالُوا﴾؛ أي: قال إخوة يوسف له ﴿تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ﴾ سبحانه وتعالى واختارك وفضلك ﴿عَلَيْنَا﴾ بالعلم والحلم والفضل والعقل والملك ﴿وَإِنْ كُنَّا﴾؛ أي: وإن الشأن والحال كنا في صنيعنا بك وتفريقنا بينك وبين أخيك ﴿لَخَاطِئِينَ﴾؛ أي: لآثمين متعمدين للخطيئة غير متقين الله؛ ولا عذر لنا فيها عند الله، ولا عند الناس، وفيه إشعار بالتوبة والاستغفار.
٩٢ - وبعد أن قدموا له المعذرة أجابهم بالصفح عما فعلوا ولذلك ﴿قَالَ﴾ يوسف عليه السلام: ﴿لَا تَثْرِيبَ﴾؛ أي: لا لوم ولا تعنيف ولا تقريع ولا تعيير ﴿عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ﴾؛ أي: في هذا اليوم الذي هو مظنته، ولكن لكم عندي الصفح والعفو، وهو إذا لم يثرب أول لقائه واشتعال ناره، فبعده أولى. والتثريب (١): تفعيل من الثرب، وهو الشحم الذي يغشي الكرش، ومعناه: إزالة الثرب، فكأن التعيير والاستقصاء في اللوم يذيب جسم الكريم وثربه لشدته عليه كما في "الكواشي". وقال ابن الشيخ: سمي التقريع تثريبًا تشبيهًا له بالتثريب في اشتمال كل منهما على معنى التمزيق، فإن
(١) روح البيان.
98
التقريع يمزق العرض، ويذهب ماء الوجه، و ﴿اليوم﴾ منصوب بالتثريب؛ أي: لا تثريب عليكم اليوم الذي هو مظنة التثريب، فما ظنكم بسائر الأيام؟ والمراد باليوم الزمان مطلقًا كقوله:
الْيَوْمَ يَرْحَمُنَا مَنْ كَانَ يَغْبِطُنَا وَالْيَوْمَ نَتْبَعُ مَنْ كَانُوْا لَنَا تَبَعَا
كأنه أريد بعد اليوم.
ثم ابتدأ، فقال: ﴿يَغْفِرُ اللَّهُ﴾ سبحانه وتعالى، ويعفو ﴿لَكُمْ﴾ عن ذنبكم وظلمكم ويستره عليكم، فدعا لهم بمغفرة ما فرط منهم.
وفي "الخازن" (١): وفي محل قوله: ﴿الْيَوْمَ﴾ قولان:
أحدهما: أنه يرجع إلى ما قبله، فيكون التقدير: لا تثريب عليكم اليوم، والمعنى: إن هذا اليوم هو يوم التثريب والتقريع والتوبيخ، وأنا لا أقرعكم اليوم ولا أوبخكم ولا أثرب عليكم، فعلى هذا يحسن الوقف على قوله: ﴿لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ﴾، ويبتدأ بقوله: ﴿يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ﴾.
والقول الثاني: أن اليوم متعلق بقوله: ﴿يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ﴾ فعلى هذا يحسن الوقف على قوله: ﴿لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ﴾، ويبتدأ بـ ﴿الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ﴾ كأنه لما نفى عنهم التوبيخ والتقريع بقوله: ﴿لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ﴾ بشرهم بقوله: ﴿الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ﴾.
﴿وَهُوَ﴾ سبحانه وتعالى ﴿أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ﴾ لمن أقلع عن ذنبه وأناب إلى طاعته بالتوبة من معصيته يرحم عباده رحمة لا يتراحمون بها فيما بينهم، فيجازي، محسنهم، ويغفر لمسيئهم؛ لأن (٢) رحمة الراحمين أيضًا برحمته، أو لأن رحمتهم جزء من رحمته تعالى، والمخلوق إذا رحم فكيف الخالق. قال في "بحر العلوم" الذنب للمؤمن سبب للوصلة، والقرب من الله تعالى، فإنه سبب لتوبته، وإقباله على الله تعالى.
(١) الخازن.
(٢) روح البيان.
99
وقال عطاء الخراساني: طلب الحوائج من الشباب أسهل منه من الشيوخ، ألم تر قول يوسف: ﴿لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ﴾ وقال يعقوب: ﴿سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي﴾.
وقد تمثل النبي - ﷺ - بهذه الآية يوم فتح مكة حين طاف بالبيت، وصلى ركعتين، ثم أتى الكعبة فأخذ بعضادتي الباب وقال: "ما تظنون أني فاعل بكم"؟ قالوا: نظن خيرًا أخ كريم وابن أخ كريم، فقال: وأنا أقول كما قال أخي يوسف: ﴿لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ﴾ فخرجوا كأنما نشروا من القبور". أخرجه ابن مردويه عن ابن عباس، والبيهقي عن أبي هريرة.
٩٣ - روي (١): أن يوسف عليه السلام لما عرف نفسه إخوته سألهم عن أبيهم، فقالوا: ذهب بصره، فعند ذلك أعطاهم قميصه، وقال: ﴿اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَذَا﴾ الذي على بدني أو بيدي ﴿فَأَلْقُوهُ﴾؛ أي: فألقوا هذا القميص ﴿عَلَى وَجْهِ أَبِي﴾ حين وصولكم إليه دون تأخير ﴿يَأْتِ بَصِيرًا﴾؛ أي: يصير بصيرًا على أن ﴿يأت﴾ هي التي من أخوات (كان)، قال الفراء: يرجع بصيرًا. وقال السدي: يعد بصيرًا، وقيل: معناه يأت إليّ إلى مصر وهو بصير قد ذهب عنه العمى. وقد علم هذا؛ إما بوحي من الله تعالى، وإما لأنه علم أن أباه ما أصابه ما إصابه إلا من كثرة البكاء وضيق النفس، فإذا ألقي عليه قميصه شرح صدره، وسر أعظم السرور، وقوي بصره، وزالت عنه هذه الغشاوة التي رانت عليه، والقوانين الطبية تؤيد هذا كما سيأتي بعد. ﴿وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ﴾ من الرجال والنساء والذراري وغيرهم. وقد روي أن أهله كانوا سبعين رجلًا وامرأة وولدًا. فإن الأهل يفسر بالأزواج والأولاد، وبالعبيد والإماء، وبالأقارب وبالأصحاب وبالمجموع.
روي (٢) أن يهوذا حمل القميص، وقال: أنا أحزنته بحمل القميص الملطخ بالدم إليه، فأفرحه كما أحزنته، فحمله وهو حاف حاسر من مصر إلى كنعان، ومعه سبعة
(١) المراغي.
(٢) روح البيان.
أرغفة لم يستوف أكلها حتى أتاه، وكانت المسافة ثمانين فرسخًا. قيل (١): هذا القميص هو القميص الذي ألبسه الله إبراهيم لما ألقي في النار، وكساه إبراهيم إسحاق، وكساه إسحاق يعقوب، وكان يعقوب أدرج هذا القميص في قضيبه وعلقه في عنق يوسف لما كان يخاف عليه من العين، فأخبر جبريل يوسف أن يرسل به إلى يعقوب ليعود عليه بصره؛ لأن فيه ريح الجنة، وريح الجنة لا يقع على سقيم إلا شقي، ولا مبتلى إلا عوفي.
٩٤ - ﴿وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ﴾؛ أي: ولما انفصلت عير بني يعقوب عن حدود مصر، وخرجت منها قافلة إلى أرض الشام ﴿قَالَ أَبُوهُمْ﴾ يعقوب عليه السلام لمن حضره من حفدته ومن غيرهم: ﴿إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ﴾؛ أي: لأشم رائحة يوسف كما عرفتها في صغره. وفي "التبيان" هاجت الريح، فحملت ريح القميص من مسافة ثمانين فرسخًا، واتصلت بيعقوب، فوجد ريح الجنة، فعلم أنه ليس في الدنيا من ريح الجنة إلا ما كان من ذلك القميص انتهى. وهذا موافق لما سبق من أنه كان في القميص ريح الجنة لا يقع على مبتلى إلا عوفي، فالخاصية في ريح الجنة لا في ريح يوسف كما ذهب إليه "البيضاوي". وأما الإضافة في قوله: ﴿رِيحَ يُوسُفَ﴾ فللملابسة كما لا يخفى ﴿لَوْلَا أَنْ تُفَنِّدُونِ﴾؛ أي: لولا أنا تنسبوني إلى الفند، وهو الخرف ونقصان العقل وفساد الرأي من هرم. وجواب ﴿لَوْلَا﴾ محذوف تقديره: لولا تفنيدكم إياي لصدقتموني فيما أقول لكم، فوجد ريحه من ثمانية أيام. وفي رواية من ثمانين فرسخًا، والمراد: من مسافات بعيدة جدًّا. والفند (٢): وهو نقصان العقل من هرم، يقال: شيخ مفند، ولا يقال: عجوز مفندة؛ إذ لم تكن في شبيبتها ذات رأي فتفند في كبرها؛ أي: نقصان عقلها ذاتي لا حادث من عارض الهرم.
واعلم: أن الخرف لا يطرأ على الأنبياء والورثة؛ لأنه نوع من الجنون الذي هو من النقائص، وهم مبرأون مما يشين بهم من الآفات.
(١) الشوكاني.
(٢) روح البيان.
٩٥ - ﴿قَالُوا﴾؛ أي: قال حاضروا مجلسه ﴿تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلَالِكَ﴾؛ أي: لفي خطئك ﴿الْقَدِيمِ﴾؛ أي: الذي طال أمده باعتقادك أن يوسف حي يرجى لقاؤه، وقد قرب ولا غرو فللخلي أن يقول في الشجي ما شاء، فأذنه عن العذَّل صماء:
سَلْوَتِيْ عَنْكُمُ احْتِمَالٌ بَعِيْدٌ وَافْتِضَاحِيْ بِكُمْ ضَلاَلٌ قَدِيْمُ
كُلُّ مَنْ يَدَّعِيْ الْمَحَبَّةَ فِيْكُمُ ثُمَّ يَخْشَى الْمَلاَمَ فَهُوَ مُلِيْمُ
قال قتادة في تفسيرها (١): ﴿تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلَالِكَ الْقَدِيمِ﴾؛ أي: من حب يوسف لا تنساه ولا تسلوه. اهـ.
قالوا لوالدهم كلمة غليظة لم يكن ينبغي لهم أن يقولوها له.
٩٦ - و ﴿أَنْ﴾ في قوله: ﴿فَلَمَّا أَنْ جَاءَ الْبَشِيرُ﴾ صلة؛ أي: زائدة لتأكيد (٢) الفعلين واتصالهما حتى كأنهما وجدا في جزء واحد من الزمان من غير فاصل وقت؛ أي: فلما جاء البشير وهو ابنه يهوذا الذي يحمل القميص من يوسف، وهو الذي حمل إليه قميصه الملطخ بالدم الكذب ليمحو السيئة بالحسنة ﴿أَلْقَاهُ﴾؛ أي: ألقى البشير القميص وطرحه ﴿عَلَى وَجْهِهِ﴾؛ أي: على وجه يعقوب ﴿فَارْتَدَّ﴾ يعقوب؛ أي: عاد ورجع يعقوب من فوره ﴿بَصِيرًا﴾؛ أي: ذا بصر كما كان قبل فراق يوسف. والارتداد: انقلاب الشيء إلى حال كان عليها، وهو من الأفعال الناقصة؛ أي: عاد ورجع بصيرًا بعدما كان قد عمي، ورجعت قوته وسروره بعد الضعف والحزن، بل قد قيل: إنه عادت إليه سائر قواه، وليس ذلك بعجيب ولا منكر، فكثيرًا ما شفى السرور من الأمراض، وجدد قوى الأبدان والأرواح، والتجارب وقوانين الطب شاهد صدق على صحة ذلك، وقد أجاب يعقوب من لاموه بما كان عليه من علم قطعي من ربه بصدق ما يقول، كما قال سبحانه: ﴿قَالَ﴾ لهم يعقوب: ﴿أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ﴾ يا بني حين أرسلتكم إلى مصر وأمرتكم بالتجسس، ونهيتكم عن اليأس من روح الله: - والاستفهام فيه تقريري - {إِنِّي
(١) المراغي.
(٢) روح البيان.
102
أَعْلَمُ} بالوحي ﴿مِنَ اللَّهِ﴾ سبحانه وتعالى لا بالخطرات من الأوهام ﴿مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾ من حياة يوسف وإنزال الفرج، وقد ذكرهم الآن إذ عاد بصيرًا بما كان قد قاله لهم حين ابيضت عيناه من الحزن وهو كظيم. وروي (١) أنه سأل البشير كيف يوسف؟ قال: هو ملك مصر. قال: ما أصنع بالملك؟ قال: على أي دين تركته؟ قال: على دين الإسلام، قال: الآن تمّت النعمة.
نبذة في تعليل شم يعقوب رائحة يوسف (٢)
أثبت العلم حديثًا أن الريح تحمل الغبار وما فيه من قارة إلى أخرى، فتحمله من إفريقية مثلًا إلى أوروبا، وهي مسافة أبعد مما بين مصر وأرض كنعان من بلاد الشام، وهي بلا شك تحمل رائحة ماله منها رائحة، ولكن الغريب شم البشر لها من المسافات البعيدة، والإنسان إذا قيس بغيره من الوحوش والحشرات كان أضعف منهما شمًّا. فالكلب ذو حاسة قوية في الشم حتى ليدربه الآن رجال الشرطة، ويستخدمونه في حوادث الإجرام من قتل وسرقة، لإثبات التهمة على المجرمين، فيأتون بالكلب المعلم، فيشم المجرم ويخرجه من بين أشخاص كثيرين، ويرى ذلك رجال القانون دليلًا قويًّا على إثبات الجريمة على من يرشد إليه، بل دليلًا قاطعًا في بعض الدول.
والروائح منها القوي والضعيف، ومن أضعفها رائحة جسم الإنسان وعرقه وما يصيب ثوبه منها، ولكن ما نحن فيه من خوارق العادات ومن خواص عالم الغيب، لا من السنن العادية والحوادث التي تتكرر من البشر. وقد دلت الآية على أن يعقوب عليه السلام أخبر أنه وجد رائحة يوسف لما فصلت العير من أرض مصر، فعلينا أن نؤمن به؛ لأنه معصوم من الكذب، وقد تبين صدقه بعد. وليس بالواجب علينا أن نعرف كنهه، أو نصل إلى معرفة سببه، ولكن إذا نحن قلنا: إنه لشدة تفكره في أمر ولده، وتذكره لرائحته حين كان يضمه ويشمه شعر
(١) روح البيان.
(٢) المراغي.
103
بتلك الرائحة قد عادت له سيرتها الأولى.. لم يكن ذلك مجانبًا للصواب ولا معارضًا للعقل، ولا ناقضًا لما يثبته العلم، أو قلنا: بأن نتقبل هذا بدون تعليل ولا تصوير لكيفية ذلك.. لا نبعد عن العقل، ولا عن العلم؛ إذ لا خلاف بين العلماء في أن ما يجهله الباحثون أضعاف ما يعرفونه. وعلى الجملة فعلينا التسليم بما أخبر به دون حاجة للبحث في كنهه أو صفته ما دام ذلك داخلًا في حيز الإمكان.
٩٧ - وقوله: ﴿قَالُوا يَا أَبَانَا﴾ مرتب على محذوف تقديره: ولما رجع أولاد يعقوب من مصر، ووصلوا إلى أبيهم إثر مجيء البشير قالوا يا أبانا: ﴿اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا﴾؛ أي: اسأل الله سبحانه وتعالى، واطلب منه أن يغفر لنا ذنوبنا التي اجترحناها من عقوقك وإيذاء أخوينا ﴿إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ﴾؛ أي: متعمدين لهذه الخطيئة عاصين لله، ظانين أن نكون بعدها قومًا صالحين، الآن اعترفوا بذنوبهم كما اعترفوا ليوسف من قبل، لكن يوسف بادر إلى الاستغفار لهم وهم لم يطلبوه منه.
وإنما سألوه المغفرة (١)؛ لأنهم أدخلوا عليه من ألم الحزن ما لا يسقط المأثم عنهم إلا بإحلاله. قلت: وهذا الحكم ثابت فيمن آذى مسلمًا في نفسه أو ماله، أو غير ذلك ظالمًا له، فإنه يجب عليه أن يتحلل له ويخبره بالمظلمة وقدرها، وهل ينفعه التحليل المطلق أم لا؟ فيه خلاف، والصحيح أنه لا ينفع، فإنه لو أخبره بمظلمة لها قدر وبال ربما لم تطب نفس المظلوم في التحلل منها، والله أعلم.
وفي "صحيح البخاري" وغيره عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - ﷺ -: "من كانت له مظلمة لأخيه من عرضه أو شيء.. فليحلله منه اليوم قبل أن لا يكون دينار ولا درهم، إن كان له عمل صالح أخذ منه بقدر مظلمته، وإن لم يكن له حسنات أخذ من سيئات صاحبه، فحمل عليه".
(١) القرطبي.
٩٨ - ﴿قَالَ﴾ يعقوب لهم: ﴿سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي﴾؛ أي: في مستقبل الزمان أطلب لكم من ربي مغفرة ذنوبكم، وعدهم بالاستغفار لهم في مستأنف الزمان، وعلل هذا بـ ﴿إِنَّهُ﴾ سبحانه وتعالى ﴿هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾؛ أي: بأن ربه واسع المغفرة والرحمة لا ينقطع رجاء المؤمن فيها وإن ظلم وأساء. قال الزجاج (١): أراد يعقوب أن يستغفر لهم في وقت السحر؛ لأنه أخلق بإجابة الدعاء، لا أنه بخل عليهم بالاستغفار. وقيل: أخره إلى ليلة الجمعة، وقيل: أخره إلى أن يستحل لهم من يوسف، ولم يعلم أنه قد عفا عنهم. وجملة: ﴿إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾ تعليل لما قبله كما مر آنفًا.
وعن الشعبي (٢): ﴿سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي﴾ قال: أسأل يوسف، إن عفا عنكم أستغفر لكم ربي، فإن عفو المظلوم شرط المغفرة، فأخر الاستغفار إلى وقت الاجتماع بيوسف، فلما قدموا عليه في مصر قام إلى الصلاة في السحر ليلة الجمعة، وكانت ليلة عشوراء، فلما فرغ رفع يديه، وقال: اللهم اغفر جزعي على يوسف، وقلة صبري منه، واغفر لأولادي ما أتوا به أخاهم، وقام يوسف خلفه يؤمِّن، وقام إخوته خلفهما أذلة خاشعين، فأوحى الله تعالى إليه أن الله قد غفر لك ولهم أجمعين، ثم لم يزل يدعو لهم كل ليلة جمعة في نيف وعشرين سنة إلى أن حضرت الوفاة.
وقال في "روح البيان": سوف وعسى ولعل في وعد الأكابر والعظماء يدل على صدق الأمر وجده، ووقوع ذلك منهم موقع القطع والبت، وإنما يعنون بذلك إظهار وقارهم وترك استعجالهم، فعلى ذلك جرى وعد يعقوب كأنه قال: إني أستغفر لكم ربي لا محالة، وإن تأخر كما في "بحر العلوم".
فائدة: والفارق بين جواب يعقوب وجواب يوسف من وجوه كثيرة اقتضتها الحكمة:
١ - أن حال أبيهم معهم حال المربي المرشد للمذنب، لا حال المنتقم
(١) الشوكاني.
(٢) روح البيان.
الذي يخشى أذاه، وليس من حسن التربية ولا من طرق التهذيب أن يريهم أن ذنبهم هين لديه حتى يعجل بإجابة مطلبهم بالاستغفار لهم.
٢ - أن ذنبهم لم يكن موجهًا إليه مباشرة، بل موجه إلى يوسف وأخيه، ثم إليه بالتبع واللزوم إلا أنه ليس من العدل أن يستغفر لهم إلا بعد أن يعلم حالهم مع يوسف وأخيه، ولم يكن يعقوب قد علم بعفو يوسف عنهم واستغفاره.
٣ - أن هذا ذنب كبير وإثم عظيم طال عليه الأمد، وحدثت منه أضرار نفسية وخلقية، وأعمال كان لها خطرها، فلا يمحى إلا بتوبة نصوح تجتث الجذور التي علقت بالأنفس والأرجاس التي باضت وفرخت فيها. فلا يحسن بعدئذ من المربي الحكيم أن يسارع إلى الاستغفار لمقترفها عقب طلبه، حتى كأنها من هينات الأمور التي تغفر ببادرة من الندم، ومن ثم تلبث في الاستغفار لهم إلى أجل، ليعلمهم عظيم جرمهم، ويعلمهم بأنه سوف يتوجه إلى ربه، ويطلب لهم الغفران منه بفضله ورحمته.
٤ - أن حال يوسف معهم كان حال القادر، بل المالك القادر مع مسيء ضعيف لديه عظم جرمه عليه، فلم يشأ أن يكون الغفران بشفاعته ودعائه، فآمنهم من خوف الانتقام تعجيلًا للسرور بالنعمة الجديدة التي جعل الله أمرها بين يديه، وليروا ويرى الناس فضل العفو عند القدرة، وليكون لهم في ذلك أحسن الأسوة. وفي هذا من ضروب التربية أكبر العظة، ولو أخر المغفرة لكانوا في وجل مما سيحل بهم، ولخافوا شر الانتقام، فكانوا في قلق دائم وتبلبل بال واضطراب نفس، فكان توجسهم له عذابًا فوق العذاب الذي هم فيه، ولكن شاءت رحمته بهم أن يجعل السرور عامًّا، والحياة الجديدة حافلة بالاطمئنان وقرة العين، وهكذا شاءت الأقدار وشاء الله أن يكون ذلك، وهو العليم الحكيم.
تأويل رؤيا يوسف من قبل
٩٩ - وقوله: ﴿فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ﴾ في محل ضرب فيه يوسف خيامه حين خرج من مصر لتلقي أبيه ﴿آوَى﴾ يوسف وضم ﴿إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ﴾؛ أي: أباه وخالته
106
وأعتنقهما، فإن أمه ماتت في نفاس أخيه بنيامين، فمعنى بنيامين بالعبراية ابن الوجع؛ لأن يامين معناه الوجع، ولما ماتت أمه راحيل.. تزوج أبوه بخالته ليا والرابة، وهي موطؤة الأب، تدعى أمًا؛ لقيامها مقام الأم، أو لأن الخالة أم كما أن العم أب. وظاهر الآية يدل على أن أمه كانت لا تزال حية، ورجحه ابن جرير، وخالفه أكثر المفسرين كما بينا. وفيه حذف وإيجاز يفهم من سياق الكلام، وتقدير المعنى: فبعد أن ذهب إخوة يوسف إلى أبيهم وأخبروه بمكانة يوسف في مصر، وأنه الحاكم المفوض المستقل في أمرها.. أبلغوه أن يدعوهم كلهم للإقامة معه في مصر والتمتع بحضارتها، فرحلوا حتى بلغوها، ولما دخلوا على يوسف وكان قد استقبلهم في الطريق في جمع حافل احتفاء بهم.. ضم إليه أبويه واعتنقهما.
روي (١): أن يوسف وجه إلى أبيه جهازًا كثيرًا ومئتي راحلة، وسأله أن يأتيه بأهله أجمعين، فتهيأ يعقوب للخروج إلى مصر، فتوجه مع أولاده وأهاليهم إلى مصر على رواحلهم، فلما قربوا من مصر أخبر بذلك يوسف، فاستقبله يوسف والملك الريان - في أربعة آلاف من الجند، أو ثلاث مئة ألف فارس - والعظماء وأهل مصر بأجمعهم، ومع كل واحد من الفرسان جنة من فضة وراية من ذهب، فتزينت الصحراء بهم واصطفُّوا صفوفًا، وكان الكل غلمان يوسف ومراكبه، ولما صعد يعقوب تلًّا ومعه أولاده وحفدته؛ أي: أولاد أولاده ونظر إلى الصحراء مملوءة من الفرسان مزينة بالألوان نظر إليهم متعجبًا، فقال له جبريل: انظر إلى الهواء، فإن الملائكة قد حضرت سرورًا بحالكم كما كانوا محزونين مدة لأجلك، ثم نظر يعقوب إلى الفرسان، فقال: أيهم ولدي يوسف؟ فقال جبريل: هو ذاك الذي فوق رأسه ظلة، فلم يتمالك أن أوقع نفسه من البعير، فجعل يمشي متوكئًا على يهوذا، فقال جبريل: يا يوسف إن أباك يعقوب قد نزل لك، فانزل له، فنزل من فرسه وجعل كل واحد منهما يعدو إلى الآخر، فلما تقاربا قصد يوسف أن يبدأ بالسلام، فقال جبريل: لا حتى يبدأ يعقوب به؛ لأنه أفضل وأحق، فابتدأ به
(١) روح البيان.
107
وقال: السلام عليك يا مذهب الأحزان، فتعانقا وبكيا سرورًا وبكت ملائكة السموات وماج الفرسان بعضهم في بعض، وصهلت الخيول وسبَّحت الملائكة، وضرب بالطبول والبوقات، فصار كأنه يوم القيامة قال يوسف: يا أبت بكيت عليّ حتى ذهب بصرك، ألم تعلم أن القيامة تجمعنا؟ فقال: بلى، ولكن خشيت أن يسلب دينك، فيحال بيني وبينك، نسأل الله الثبات على الإيمان إنه الكريم المنان - آمين -.
﴿وَقَالَ﴾ يوسف لجميع أهله قبل أن يدخلوا مصر: ﴿ادْخُلُوا مِصْرَ﴾ للإقامة بها ﴿إِنْ شَاءَ اللَّهُ﴾ سبحانه وتعالى دخولكم حالة كونكم ﴿آمِنِينَ﴾ من الجوع والخوف وسائر المكاره قاطبة على أنفسكم وأموالكم وأهليكم لا تخافون أحدًا؛ لأنهم كانوا قبل ولاية يوسف يخافون ملوك مصر، ولا يدخلونها إلا بإجازتهم لكونهم جبابرة. قيل (١): المراد بالدخول الأول في قوله: ﴿فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ﴾ أرض مصر، وذلك حين استقبلهم، ثم قال: ﴿ادْخُلُوا مِصْرَ﴾ يعني البلد. وقيل: إنه أراد بالدخول الأول دخولهم مصر، وأراد بالدخول الثاني الاستيطان بها؛ أي: ادخلوا مصر مستوطنين فيها.
والمشيئة في قوله: ﴿إِنْ شَاءَ اللَّهُ﴾ متعلقة بالدخول والأمن معًا كقولك للغازي: إرجع سالمًا غانمًا إن شاء الله، فالمشيئة متعلقة بالسلامة والغنم معًا. والتقدير: ادخلوا مصر آمنين إن شاء الله تعالى.
والمعنى: أي (٢) وقال لهم يوسف: ادخلوا بلاد مصر إن شاء الله تعالى آمنين على أنفسكم وأنعامكم من الجوع والهلاك، فإن سني القحط كانت لا تزال باقية، وذكر المشيئة في كلامه للتبرؤ من مشيئته وحوله وقوته إلى مشيئة الله الذي سخر ذلك لهم، وسخر ملك مصر وأهلها له ثم لهم. وهذا من شأن المؤمنين، ولا سيما الأنبياء والصديقون.
(١) الخازن.
(٢) المراغي.
108
١٠٠ - ﴿وَرَفَعَ﴾ يوسف ﴿أَبَوَيْهِ﴾ عند نزولهم بمصر، وكانوا اثنين وسبعين رجلًا وامرأة، وكانوا حين خرجوا منها مع موسى عليه السلام ست مئة ألف وخمس مئة وبضعًا وتسعين، أو سبعين رجلًا سوى الذرية والهرمى، وكانت الذرية ألف ألف ومئتي ألف. ﴿عَلَى الْعَرْشِ﴾؛ أي: على السرير الرفيع الذي كان يجلس عليه يوسف؛ أي: أجلسهما معه على سرير الملك تكرمة لهما فوق ما فعله لإخوته، واشتركوا في دخول دار يوسف، لكنهم تباينوا في الإيواء، فانفرد الأبوان بالجلوس معه على سرير الملك، لبعدهما من الجفاء، كذا غدًا إذا وصلوا إلى الغفران يشتركون فيه في دخول الجنة، ولكنهم يتباينون في بساط القربة، فيختص به أهل الصفاء دون من اتصف اليوم بالالتواء. ﴿وَخَرُّوا﴾؛ أي: سقط أبوا يوسف وإخوته على الأرض ﴿لَهُ﴾؛ أي: لأجل ملاقاة يوسف واجتماعهم معه ﴿سُجَّدًا﴾؛ أي: حالة كونهم مقدرين السجود بوضع الجبهة شكرًا لله تعالى على نعمة الاجتماع معه، وكان يوسف كالقبلة لهم كما سجدت الملائكة لآدم، فإن الله تعالى أمر يعقوب بالسجود لحكمة خفية، وذلك لإزالة الاستعلاء والتكبر عن قلوب إخوته؛ لأنهم لو لم يفعلوا ذلك السجود؛ لظهرت الأحقاد القديمة بعد كمونها، فالسجود لإزالتها، وكان ذلك جائزًا في ذلك الزمان.
فلما جاءت هذه الشريعة نسخت تلك الفعلة، فقوله: ﴿سُجَّدًا﴾ حال مقدرة كما أشرنا إليه في الحال؛ لأن السجود إنما يكون بعد الخرور.
وقيل: المراد بالسجود هنا: الانحناء لا وضع الجبهة على الأرض، والمعنى: أهوى أبوا يوسف وإخوته عن القيام والانتصاب تحية وتكرمة له حالة كونهم سجدًا؛ أي: منحنين بظهورهم، وكان ذلك تحية الملوك والعظماء في عهدهم كالقيام والمصافحة وتقبيل اليد ونحوها من عادات الناس الناشئة في التعظيم والتوقير.
والرفع في قوله: ﴿وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ﴾ مؤخر عن الخرور في قوله: ﴿وَخَرُّوا لَهُ﴾؛ إذ السجود له كان قبل الصعود على السرير في أول الملاقاة؛ لأن ذلك هو وقت التحية إلا أنه قدم لفظًا؛ للاهتمام بتعظيمه لهما، والترتيب الذكري لا يجب كونه
109
على وفق الترتيب الوقوعي، وليصل به ذكر كونه تعبير رؤياه ﴿وَقَالَ﴾ يوسف لأبيه يعقوب: ﴿يَا أَبَتِ﴾؛ أي: يا أبي ﴿هَذَا﴾ السجود منكم ﴿تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ﴾؛ أي: تصديق منامي التي رأيتها وقصصتها عليك ﴿مِنْ قَبْلُ﴾؛ أي: من قبل هذا الوقت في زمن الصبا يريد قوله: ﴿إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ﴾. ﴿قَدْ جَعَلَهَا﴾؛ أي: قد جعل تلك الرؤية ﴿رَبِّي حَقًّا﴾؛ أي: صدقًا في اليقظة واقعًا بعينها؛ أي: قد جعلها ربي حقيقة واقعة، واستبان أنها لم تكن أضغاث أحلام، فالكواكب الأحد عشر مثال إخوتي الأحد عشر، وأنت وأمي مثال الشمس والقمر، ولا بدع في ذلك. فهذه الأسرة هي التي حفظ الله بها ذرية إسحاق بن إبراهيم لتنشر دين التوحيد بين العالمين، فكانت خير أسر البشر جميعًا. قال سلمان: كان بين رؤياه وتأويلها أربعون عامًا. ﴿وَقَدْ أَحْسَنَ بِي﴾ ربي وأكرمني وأنعم علي ﴿إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ﴾ والحبس، وسما بي إلى عرش الملك، إنما ذكر إخراجه من السجن، ولم يذكر إخراجه من الجبّ؛ لئلا تخجل إخوته، ولأن خروجه من السجن كان سببًا لصيرورته ملكًا، ولوصوله إلى أبيه وإخوته، ولزوال التهمة عنه، وكان ذلك من أعظم نعمه تعالى عليه، ولأن عهده بالسجن أقرب من الجبّ.
فائدة: قال لقمان الحكيم رضي الله عنه: خدمت أربعة آلاف نبي، واخترت من كلامهم ثماني كلمات: إن كنت في الصلاة.. فاحفظ قلبك، وإن كنت في بيت الغير.. فاحفظ عينيك، وإن كنت بين الناس.. فاحفظ لسانك، واذكر اثنين وانس اثنين، أما اللذان تذكرهما فالله والموت، وأما اللذان تنساهما إحسانك في حق الغير وإساءة الغير في حقك. ذكره في "روح البيان".
﴿وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ﴾؛ أي: من البادية، وكان يعقوب وأولاده أصحاب ماشية، فسكنوا البادية، وهي أرض كنعان بالشام. وقال علي بن طلحة؛ أي: من فلسطين. ﴿مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ﴾ وأفسد ﴿بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي﴾ بالحسد، وحمل بعضنا على بعض، وأحال يوسف ذنب إخوته على الشيطان تكرمًا منه وتأدبًا؛ أي: وقد أحسن بي ربي من بعد أن أفسد الشيطان ما بيني وبين إخوتي من عاطفة
110
الأخوة، وقطع ما بيننا من وشيجة الرحم، وهيج الحسد والشر ﴿إِنَّ رَبِّي﴾ سبحانه وتعالى ﴿لَطِيفٌ﴾؛ أي: عالم بدقائق الأمور رفيق بعباده مدبر ﴿لِمَا يَشَاءُ﴾ في خلقه من خفايا الأمور بحكمته البالغة، وقدرته القاهرة، وقيل: معناه: لطيف التدبير لما يشاء من الأمور رفيق، فإذا أراد الله سبحانه وتعالى حصول شيء.. سهل أسبابه فحصل، وإن كان في غاية البعد عن الحصول عند العقول.. فمن ذا الذي كان يدور بخلده أن الإلقاء في الجبّ يعقبه الرق، ويتلو الرق فتنة العشق، ومن أجله يزج في غيابات السجن، ومن ذا إلى السيادة والملك. وقال الأزهري: اللطيف من أسماء الله تعالى معناه: الرفيق بعباده، يقال: لطف فلان بفلان يلطف إذا رفق به. وقال عمرو بن أبي عمرو: اللطيف الذي يوصل إليك أربك في لطف. قال الخطابي: اللطيف هو البر بعباده الذي يلطف بهم من حيث لا يعلمون، ويسبب لهم مصالحهم من حيث لا يحتسبون. وقيل: اللطيف العالم بدقائق الأمور. ذكره الشوكاني. ﴿إِنَّهُ﴾ سبحانه وتعالى ﴿هُوَ الْعَلِيمُ﴾ بمصالح عباده، فلا تخفى عليه مبادئ الأمور وغايتها ﴿الْحَكِيمُ﴾ الذي يفعل الأمور على وجه الحكمة والمصلحة، فيجازي الذين أحسنوا بالحسنى، ويجعل العاقبة للمتقين.
الإعراب
﴿قَالُوا تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ﴾.
﴿قَالُوا﴾: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة. ﴿تَاللَّهِ﴾ إلى آخر الآية: مقول محكي، وإن شئت قلت: ﴿تَاللَّهِ﴾: جار ومجرور متعلق بفعل قسم محذوف تقديره: أقسم والله، وجملة القسم في محل النصب مقول ﴿قَالُوا﴾. ﴿تَفْتَأُ﴾: فعل مضارع ناقص من أخوات زال منفي بلا المحذوفة؛ لأن جواب القسم الخالي من اللام ونون التوكيد.. يجب كونه منفيًّا، فلا بدّ من تقدير لا معه، واسمه ضمير مستتر فيه وجوبًا تقديره: أنت يعود على يعقوب. ﴿تَذْكُرُ يُوسُفَ﴾: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على يعقوب، والجملة الفعلية في محل النصب خبر ﴿تَفْتَأُ﴾، وجملة ﴿تَفْتَأُ﴾: جواب القسم لا محل لها من الإعراب. ﴿حَتَّى﴾: حرف جر وغاية. ﴿تَكُونَ﴾: فعل مضارع ناقص منصوب
111
بأن مضمرة وجوبًا بعد حتى بمعنى إلى، واسمه ضمير يعود على يعقوب. ﴿حَرَضًا﴾: خبره. ﴿أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ﴾: فعل ناقص وخبره معطوف على ﴿تَكُونَ﴾ الأولى، واسمه ضمير يعود على يعقوب أيضًا، وجملة ﴿تَكُونَ﴾ الأولى، صلة أن المضرة، أن مع صلتها في تأويل مصدر مجرور بـ ﴿حَتَّى﴾ بمعنى إلى، تقديره: إلى كونك حرضًا، أو كونك من الهالكين، الجار والمجرور متعلق بـ ﴿تَذْكُرُ﴾.
﴿قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (٨٦)﴾.
﴿قَالَ﴾: فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على يعقوب، والجملة مستأنفة. ﴿إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي﴾ إلى قوله: ﴿فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ﴾: مقول محكي، وإن شئت قلت: ﴿إِنَّمَا﴾: أداة حصر. ﴿أَشْكُو بَثِّي﴾: فعل ومفعول. ﴿وَحُزْنِي﴾: معطوف على ﴿بَثِّي﴾، وفاعله ضمير يعود على يعقوب، والجملة الفعلية في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾. ﴿إِلَى اللَّهِ﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿أَشْكُو﴾. ﴿وَأَعْلَمُ﴾: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على يعقوب. ﴿مِنَ اللَّهِ﴾: متعلق به. ﴿مَا﴾: موصولة، أو موصوفة في محل النصب مفعول به لـ ﴿أعلم﴾؛ لأنه بمعنى عرف. ﴿لَا تَعْلَمُونَ﴾: فعل وفاعل صلة لـ ﴿مَا﴾، أو صفة لها، والعائد أو الرابط محذوف تقديره: ما لا تعلمونه، وجملة ﴿أعلم﴾: في محل النصب معطوفة على جملة ﴿أَشْكُو﴾.
﴿يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلَا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ (٨٧)﴾.
﴿يَا بَنِيَّ﴾: ﴿يا﴾: حرف نداء. ﴿بني﴾: منادى منصوب، وعلامة نصبه الياء المدغمة في ياء المتكلم؛ لأنه ملحق بجمع المذكر السالم، لأن أصله: يا بنين لي، حذفت النون للإضافة، واللام للتخفيف، وجملة النداء في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾. ﴿اذْهَبُوا﴾: فعل وفاعل، والجملة في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾ على كونها جواب النداء. ﴿فَتَحَسَّسُوا﴾: (الفاء): عاطفة. ﴿تحسسوا﴾: فعل وفاعل معطوف على ﴿اذْهَبُوا﴾. ﴿مِنْ يُوسُفَ﴾: متعلق به. ﴿وَأَخِيهِ﴾: معطوف
112
على ﴿يُوسُفَ﴾. ﴿وَلَا تَيْأَسُوا﴾: فعل وفاعل مجزوم بـ ﴿لا﴾ الناهية معطوف على قوله: ﴿فَتَحَسَّسُوا﴾. ﴿مِنْ رَوْحِ اللَّهِ﴾: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق به. ﴿إِنَّهُ﴾: ناصب واسمه. ﴿لَا يَيْأَسُ﴾: فعل مضارع مرفوع. ﴿مِنْ رَوْحِ اللَّهِ﴾: متعلق به. ﴿إِلَّا﴾: أداة استثناء مفرغ. ﴿الْقَوْمُ﴾: فاعل. ﴿الْكَافِرُونَ﴾: صفة له، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر ﴿إن﴾ وجملة ﴿إن﴾ في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾ مسوق لتعليل ما قبلها.
﴿فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ﴾.
﴿فَلَمَّا﴾ (الفاء): عاطفة على محذوف تقديره: فخرجوا من عند أبيهم، فذهبوا إلى مصر، فلما دخلوا على يوسف. ﴿لما﴾: حرف شرط غير جازم. ﴿دَخَلُوا﴾ فعل وفاعل. ﴿عَلَيْهِ﴾: متعلق به، والجملة فعل شرط لـ ﴿لما﴾. ﴿قَالُوا﴾: فعل وفاعل، والجملة جواب ﴿لما﴾، وجملة ﴿لما﴾: معطوفة على الجملة المحذوفة. ﴿يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ﴾ إلى آخر الآية: مقول محكي، وإن شئت قلت: ﴿يا﴾: حرف نداء. ﴿أيّ﴾: منادى نكرة مقصودة. ﴿ها﴾: حرف تنبيه زائد تعويضًا عما فات؛ أي: من الإضافة. ﴿الْعَزِيزُ﴾: صفة لـ ﴿أي﴾، وجملة النداء في محل النصب مقول ﴿قَالُوا﴾ ﴿مَسَّنَا﴾: فعل ومفعول. ﴿وَأَهْلَنَا﴾: معطوف على ضمير المفعول. ﴿الضُّرُّ﴾: فاعل، والجملة الفعلية في محل النصب مقول ﴿قال﴾ على كونها جواب النداء. ﴿وَجِئْنَا﴾: فعل وفاعل معطوف على ﴿مَسَّنَا﴾. ﴿بِبِضَاعَةٍ﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿جئنا﴾. ﴿مُزْجَاةٍ﴾: صفة لـ ﴿بضاعة﴾. ﴿فَأَوْفِ﴾: (الفاء): عاطفة. ﴿أوف﴾: فعل أمر، وفاعله ضمير يعود على يوسف. ﴿لَنَا﴾: متعلق به. ﴿الْكَيْلَ﴾: مفعول به، والجملة معطوفة على جملة قوله: ﴿وَجِئْنَا﴾. ﴿وَتَصَدَّقْ﴾: فعل أمر معطوف على ﴿أوف﴾، وفاعليه ضمير يعود على يوسف. ﴿عَلَيْنَا﴾: متعلق به. ﴿إِنَّ اللَّهَ﴾: ناصب واسمه. ﴿يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ﴾: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة في محل الرفع خبر ﴿إِنَّ﴾، وجملة ﴿إِنَّ﴾: في محل النصب مقول ﴿قال﴾ على كونها مسوقة لتعليل ما قبلها.
113
﴿قَالَ هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جَاهِلُونَ (٨٩)﴾.
﴿قَالَ﴾: فعل ماضٍ، وفاعله ضمير يعود على يوسف، والجملة مستأنفة. ﴿هَلْ عَلِمْتُمْ﴾ إلى آخر الآية: مقول محكي لـ ﴿قَالَ﴾، وإن شئت قلت: ﴿هَلْ﴾: حرف استفهام للاستفهام التوبيخي. ﴿عَلِمْتُمْ﴾: فعل وفاعل، والجملة في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾. ﴿مَا﴾: موصولة، أو موصوفة في محل النصب مفعول به؛ لأنه بمعنى عرف. ﴿فَعَلْتُمْ﴾: فعل وفاعل. ﴿بِيُوسُفَ﴾: متعلق به. ﴿وَأَخِيهِ﴾: معطوف على ﴿يوسف﴾، والجملة الفعلية صلة لـ ﴿مَا﴾، أو صفة لها، والعائد أو الرابط محذوف تقديره: ما فعلتموه. ﴿إِذْ﴾: ظرف لما مضى من الزمان. ﴿أَنْتُمْ جَاهِلُونَ﴾: مبتدأ وخبر، والجملة الاسمية في محل الجر مضاف إليه لـ ﴿إِذْ﴾، والظرف متعلق بـ ﴿فَعَلْتُمْ﴾.
﴿قَالُوا أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا﴾.
﴿قَالُوا﴾: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة. ﴿أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ﴾ مقول محكي، وإن شئت قلت ﴿أَإِنَّكَ﴾: (الهمزة): للاستفهام التقريري. ﴿إنك﴾: ناصب واسمه. ﴿لَأَنْتَ﴾: (اللام): حرف ابتداء. ﴿أنت يوسف﴾: مبتدأ وخبر، والجملة في محل الرفع خبر ﴿إن﴾، ويجوز أن يكون ﴿أنت﴾: ضمير فصل، ولا يجوز أن يكون توكيدًا لاسم ﴿إن﴾؛ لأن هذه اللام لا تدخل على التوكيد. اهـ. "سمين"، وجملة ﴿إن﴾ في محل النصب مقول ﴿قَالُوا﴾. ﴿قَالَ﴾: فعل ماضٍ، وفاعله ضمير يعود على ﴿يُوسُفُ﴾، والجملة مستأنفة. ﴿أَنَا يُوسُفُ﴾ إلى آخر الآية مقول محكي، وإن شئت قلت: ﴿أَنَا يُوسُفُ﴾: مبتدأ وخبر، والجملة في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾. ﴿وَهَذَا أَخِي﴾: مبتدأ وخبر معطوف على جملة قوله: ﴿أَنَا يُوسُفُ﴾. ﴿قَدْ مَنَّ اللَّهُ﴾: فعل وفاعل. ﴿عَلَيْنَا﴾: متعلق به، والجملة في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾.
﴿إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ﴾.
﴿إِنَّهُ﴾: ناصب واسمه. ﴿مَنْ﴾: اسم شرط جازم في محل الرفع مبتدأ، والخبر جملة الشرط أو الجواب. ﴿يَتَّقِ﴾: فعل مضارع مجزوم بـ ﴿مَنْ﴾ على
114
كونه فعل شرط لها، وفاعله ضمير يعود على ﴿مَنْ﴾. ﴿وَيَصْبِرْ﴾: معطوف عليه.
﴿فَإِنَّ﴾: (الفاء): رابطة لجواب ﴿مَنْ﴾ الشرطية وجوبًا. ﴿إن الله﴾: ناصب واسمه. ﴿لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ﴾: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر ﴿إن﴾، وجملة ﴿إن﴾: في محل الجزم بـ ﴿مَنْ﴾ الشرطية على كونها جوابًا لها، والرابط بين جملة الشرط وبين جوابها؛ إما العموم في ﴿الْمُحْسِنِينَ﴾، وإما الضمير المحذوف؛ أي: المحسنين منهم، وإما لقيام أل مقامه، والأصل محسنهم، فقامت أل مقام ذلك الضمير، وجملة ﴿مَنْ﴾ الشرطية: في محل الرفع خبر ﴿إن﴾ وجملة ﴿إن﴾: في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾، وهذا الإعراب على قراءة الجمهور في ﴿يَتَّقِ﴾. وأما قراءة قنبل فاختلف الناس فيها على قولين:
أجودهما: أن إثبات حرف العلة في الجزم لغة لبعض العرب.
والثاني: أنه مرفوع غير مجزوم، و ﴿مَنْ﴾ موصولة، والفعل صلتها، فلذلك لم تحذف لامه. اهـ. "سمين"، وحذفت الضمة في ﴿يصبر﴾ على هذه القراءة فرارًا من ثقل توالي الحركات، أو نوى الوقف عليه وأجرى الوصل مجرى الوقف.
﴿قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ (٩١)﴾.
﴿قَالُوا﴾: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة. ﴿تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ﴾ إلى آخر الآية: مقول محكي، وإن شئت قلت: ﴿تَاللَّهِ﴾: جار ومجرور متعلق بفعل قسم محذوف وجوبًا تقديره: أقسم والله، والجملة المحذوفة في محل النصب مقول ﴿قَالُوا﴾. ﴿لَقَدْ﴾: (اللام): موطئة للقسم. ﴿قد﴾: حرف تحقيق. ﴿آثَرَكَ اللَّهُ﴾: فعل ومفعول وفاعل. ﴿عَلَيْنَا﴾: متعلق به، والجملة الفعلية في محل النصب مقول ﴿قَالُوا﴾ على كونها جواب القسم. ﴿وَإِنْ﴾: (الواو): عاطفة. ﴿إن﴾: مخففة من الثقيلة، واسمها ضمير الشأن. ﴿كُنَّا لَخَاطِئِينَ﴾: فعل ناقص واسمه وخبره، واللام: حرف ابتداء، وجملة ﴿كان﴾: في محل الرفع خبر ﴿إن﴾ المخففة، وجملة ﴿إن﴾ المخففة معطوفة على جواب القسم.
115
﴿قَالَ لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (٩٢)﴾.
﴿قَالَ﴾: فعل ماضٍ، وفاعله ضمير يعود على يوسف، والجملة مستأنفة. ﴿لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ﴾ إلى قوله: ﴿أَجْمَعِينَ﴾: مقول محكي لـ ﴿قَالَ﴾، وإن شئت قلت: ﴿لَا﴾: نافية. ﴿تَثْرِيبَ﴾: في محل النصب اسمها. ﴿عَلَيْكُمُ﴾: خبر ﴿لَا﴾. ﴿الْيَوْمَ﴾: خبر ثان لها، أو متعلق باسم ﴿لَا﴾، وجملة ﴿لَا﴾: في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾. ﴿يَغْفِرُ اللَّهُ﴾: فعل وفاعل. ﴿لَكُمْ﴾: متعلق به، والجملة مستأنفة على كونها مقول ﴿قَالَ﴾. ﴿وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ﴾: مبتدأ وخبر ومضاف إليه، والجملة في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾.
﴿اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيرًا وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ (٩٣)﴾.
﴿اذْهَبُوا﴾: فعل وفاعل. ﴿بِقَمِيصِي﴾: متعلق به على أنه مفعول به، أو حال من واو ﴿اذهبوا﴾. ﴿هَذَا﴾. بدل من ﴿قميصي﴾، والجملة الفعلية في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾. ﴿فَأَلْقُوهُ﴾: فعل وفاعل ومفعول معطوف على ﴿اذْهَبُوا﴾. ﴿عَلَى وَجْهِ أَبِي﴾: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ ﴿ألقوه﴾. ﴿يَأْتِ﴾: فعل مضارع مجزوم بالطلب السابق، وفاعله ضمير يعود على يعقوب. ﴿بَصِيرًا﴾: حال من فاعل ﴿يَأْتِ﴾، والجملة في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾. ﴿وَأْتُونِي﴾: فعل وفاعل ومفعول ونون وقاية معطوف على ﴿ألقوه﴾. ﴿بِأَهْلِكُمْ﴾: متعلق به أو حال من واو الفاعل. ﴿أَجْمَعِينَ﴾: توكيد لـ ﴿أهلكم﴾.
﴿وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قَالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلَا أَنْ تُفَنِّدُونِ (٩٤) قَالُوا تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلَالِكَ الْقَدِيمِ (٩٥)﴾.
﴿وَلَمَّا﴾ (الواو): استئنافية. ﴿لما﴾: حرف شرط. ﴿فَصَلَتِ الْعِيرُ﴾: فعل وفاعل فعل شرط لـ ﴿لما﴾. ﴿قَالَ أَبُوهُمْ﴾: فعل وفاعل جواب ﴿لما﴾، وجملة ﴿لما﴾: مستأنفة. ﴿إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ﴾ إلى آخر الآية: مقول محكي، وإن شئت قلت: ﴿إِنِّي﴾: ناصب واسمه. ﴿لَأَجِدُ﴾: (اللام): حرف ابتداء. ﴿أجد ريح يوسف﴾: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على أبيهم، وجملة وجد في
116
محل الرفع خبر ﴿إن﴾، وجملة ﴿إن﴾: في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾. ﴿لَوْلَا﴾: حرف امتناع لوجود. ﴿أَنْ﴾: حرف نصب ومصدر. ﴿تُفَنِّدُونِ﴾: فعل مضارع منصوب بـ ﴿أَنْ﴾، وعلامة نصبه حذف النون؛ لأن أصله: تفندونني، والواو فاعل، والنون نون الوقاية، وياء المتكلم المحذوفة اجتزاء عنها بكسرة نون الوقاية في محل النصب مفعول به، والجملة الفعلية صلة أن المضمرة، أن مع صلتها في تأويل مصدر مرفوع على الابتداء، والخبر محذوف تقديره: لولا تفنيدكم موجود، وجواب ﴿لَوْلَا﴾ محذوف تقديره: لولا تفنيدكم لي موجود لصدقتموني؛ أي: امتنع تصديقكم لي لوجود تفنيدكم لي، وجملة ﴿لَوْلَا﴾: في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾. ﴿قَالُوا﴾: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة. ﴿تَاللَّهِ إِنَّكَ﴾ إلى آخر الآية: مقول محكي، وإن شئت قلت: ﴿تَاللَّهِ﴾: جار ومجرور متعلق بفعل قسم محذوف، والجملة المحذوفة في محل النصب مقول ﴿قَالُوا﴾. ﴿إِنَّكَ﴾: ناصب واسمه. ﴿لَفِي﴾: (اللام): حرف ابتداء. ﴿في ضلالك﴾: جار ومجرور خبر ﴿إن﴾. ﴿الْقَدِيمِ﴾: صفة لـ ﴿ضَلَالِكَ﴾، وجملة ﴿إن﴾ في محل النصب مقول ﴿قَالُوا﴾ على كونها جواب القسم.
﴿فَلَمَّا أَنْ جَاءَ الْبَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيرًا قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (٩٦)﴾.
﴿فَلَمَّا﴾: (الفاء): استئنافية. ﴿لما﴾: حرف شرط. ﴿أَنْ﴾: زائدة. ﴿جَاءَ الْبَشِيرُ﴾: فعل وفاعل، والجملة فعل شرط لـ ﴿لما﴾. ﴿أَلْقَاهُ﴾: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على ﴿الْبَشِيرُ﴾. ﴿عَلَى وَجْهِهِ﴾: متعلق به، والجملة جواب ﴿لما﴾، وجملة ﴿لما﴾: مستأنفة. ﴿فَارْتَدَّ﴾: (الفاء): عاطفة. ﴿ارتد﴾: فعل ماضٍ ناقص من أخوات صار، واسمه ضمير يعود على يعقوب. ﴿بَصِيرًا﴾: خبره، والجملة الفعلية معطوفة على جملة ﴿أَلْقَاهُ﴾. ﴿قَالَ﴾: فعل ماضٍ، وفاعله ضمير يعود على يعقوب، والجملة مستأنفة. ﴿أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ﴾: مقول محكي لـ ﴿قَالَ﴾، وإن شئت قلت: ﴿أَلَمْ﴾: (الهمزة): للاستفهام التقريري. ﴿لم﴾: حرف جزم. ﴿أَقُلْ﴾: فعل مضارع مجزوم بـ ﴿لم﴾ وفاعله ضمير يعود
117
على يعقوب. ﴿لَكُمْ﴾: متعلق به، والجملة في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾ ﴿إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ﴾ إلى آخر الآية: مقول محكي. لـ ﴿أَقُلْ﴾، وإن شئت قلت: ﴿إِنِّي﴾: ناصب واسمه. ﴿أَعْلَمُ﴾: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على يعقوب. ﴿مِنَ اللَّهِ﴾: متعلق به، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر ﴿إن﴾ وجملة ﴿إن﴾: في محل النصب مقول ﴿أَقُلْ﴾. ﴿مَا﴾: موصولة، أو موصوفة في محل النصب مفعول ﴿أَعْلَمُ﴾، وجملة ﴿لَا تَعْلَمُونَ﴾ صلة لـ ﴿مَا﴾، أو صفة لها، والعائد أو الرابط محذوف تقديره: ما لا تعلمونه.
﴿قَالُوا يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ (٩٧)﴾.
﴿قَالُوا﴾: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة. ﴿يَا أَبَانَا﴾ إلى آخر الآية: مقول محكي لـ ﴿قَالُوا﴾، وإن شئت قلت: ﴿يَا أَبَانَا﴾: منادى منصوب بالألف، وجملة النداء في محل النصب مقول ﴿قَالُوا﴾. ﴿اسْتَغْفِرْ﴾: فعل أمر، وفاعله ضمير يعود على يعقوب. ﴿لَنَا﴾: متعلق به ﴿ذُنُوبَنَا﴾: مفعول به، والجملة الفعلية في محل النصب مقول ﴿قالوا﴾ على كونها جواب النداء. ﴿إِنَّا﴾: ناصب واسمه. ﴿كُنَّا خَاطِئِينَ﴾: فعل ماض ناقص واسمه وخبره، وجملة كان في محل الرفع خبر ﴿إن﴾، وجملة ﴿إن﴾: في محل النصب مقول ﴿قَالُوا﴾ على كونها تعليلًا لما قبلها.
﴿قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (٩٨)﴾.
﴿قَالَ﴾: فعل ماضٍ، وفاعله ضمير يعود على يعقوب، والجملة مستأنفة. ﴿سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ﴾ إلى آخر الآية: مقول محكي، وإن شئت قلت: ﴿سَوْفَ﴾: حرف تنفيس. ﴿أَسْتَغْفِرُ﴾: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على يعقوب. ﴿لَكُمْ﴾: متعلق به. ﴿رَبِّي﴾: مفعول به، والجملة في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾. ﴿إِنَّهُ﴾: ناصب واسمه. ﴿هُوَ﴾: ضمير فصل. ﴿الْغَفُورُ﴾: خبر أول لـ ﴿إن﴾. ﴿الرَّحِيمُ﴾: خبر ثان لها، وجملة ﴿إن﴾ في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾ على كونها مسوقة لتعليل ما قبلها.
﴿فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقَالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ﴾.
﴿فَلَمَّا﴾: (الفاء): عاطفة على محذوف تقديره: فرحل يعقوب وأولاده إلى
118
مصر. ﴿فلما دخلوا﴾: ﴿لما﴾: حرف شرط غير جازم. ﴿ادْخُلُوا﴾: فعل وفاعل فعل شرط لـ ﴿لما﴾. ﴿عَلَى يُوسُفَ﴾: متعلق به. ﴿آوَى﴾: فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على ﴿يُوسُفَ﴾. ﴿إِلَيْهِ﴾: متعلق به. ﴿أَبَوَيْهِ﴾: مفعول به، والجملة جواب ﴿لما﴾، وجملة ﴿لما﴾: معطوفة على الجملة المحذوفة. ﴿وَقَالَ﴾: فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على ﴿يُوسُفَ﴾، والجملة معطوفة على جملة ﴿آوَى﴾. ﴿ادْخُلُوا مِصْرَ﴾ إلى آخر الآية: مقول محكي، وإن شئت قلت: ﴿ادْخُلُوا﴾: فعل وفاعل. ﴿مِصْرَ﴾: منصوب على الظرفية المكانية متعلق به، والجملة في محل النصب مقول ﴿قال﴾. ﴿إن﴾: حرف شرط جازم. ﴿شَاءَ﴾: فعل ماض في محل الجزم بـ ﴿إِنْ﴾ على كونه فعل شرط لها. ﴿اللَّهُ﴾: فاعل، وجواب ﴿إن﴾ الشرطية معلوم مما قبلها تقديره: إن شاء الله ادخلوا مصر، والجملة في محل النصب مقول ﴿قال﴾. ﴿آمِنِينَ﴾: حال من فاعل ﴿ادْخُلُوا﴾.
﴿وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا﴾.
﴿وَرَفَعَ﴾ (الواو): عاطفة. ﴿رفع أبويه﴾: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على ﴿يُوسُفَ﴾. ﴿عَلَى الْعَرْشِ﴾: متعلق به، والجملة معطوفة على جملة ﴿آوَى﴾. ﴿وَخَرُّوا﴾: فعل وفاعل. ﴿لَهُ﴾: متعلق به. ﴿سُجَّدًا﴾: حال مقدرة من فاعل ﴿وَخَرُّوا﴾، والجملة معطوفة على جملة ﴿آوَى﴾. ﴿وَقَالَ﴾: فعل ماضٍ، وفاعله ضمير يعود على ﴿يُوسُفَ﴾، والجملة معطوفة على جملة ﴿خروا﴾. ﴿يَا أَبَتِ﴾ إلى آخر الآية: مقول محكي، وإن شئت قلت: ﴿يَا أَبَتِ﴾: منادى مضاف، وجملة النداء في محل النصب مقول ﴿قال﴾. ﴿هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ﴾: مبتدأ وخبر ومضاف إليه، والجملة في محل النصب مقول القول على كونها جواب النداء. ﴿مِنْ قَبْلُ﴾: جار ومجرور حال من ﴿رُؤْيَايَ﴾. ﴿قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا﴾: فعل ومفعول أول وفاعل ومفعول ثان؛ لأن جعل هنا بمعنى صير، والجملة في محل النصب حال مقدرة من ﴿رُؤْيَايَ﴾.
{وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ
119
الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ}.
﴿وَقَدْ﴾ (الواو): حالية، أو عاطفة. ﴿قد﴾: حرف تحقيق. ﴿أَحْسَنَ﴾: فعل ماضٍ، وفاعله ضمير يعود على الرب. ﴿بِي﴾: جار ومجرور بمعنى إليّ متعلق بـ ﴿أَحْسَنَ﴾، والجملة الفعلية في محل النصب حال من ﴿رَبِّي﴾، أو معطوفة على جواب النداء. ﴿إِذْ﴾: ظرف لما مضى متعلق بـ ﴿أَحْسَنَ﴾. ﴿أَخْرَجَنِي﴾: فعل ومفعول ونون وقاية. ﴿مِنَ السِّجْنِ﴾: متعلق به، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة في محل الجر مضاف إليه لـ ﴿إِذْ﴾. ﴿وَجَاءَ﴾: فعل ماضٍ معطوف على ﴿أَخْرَجَنِي﴾، وفاعله ضمير يعود على الله. ﴿بِكُمْ﴾: متعلق به. ﴿مِنَ الْبَدْوِ﴾: متعلق به أيضًا. ﴿مِنْ بَعْدِ﴾: جار ومجرور بدل من الجار والمجرور قبله. ﴿أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ﴾: ناصب وفعل وفاعل، والجملة في تأويل مصدر مجرور بإضافة الظرف إليه. ﴿بَيْنِي﴾: ظرف ومضاف إليه متعلق بـ ﴿نَزَغَ﴾. ﴿وَبَيْنَ إِخْوَتِي﴾: ظرف ومضاف إليه معطوف على الظرف قبله. ﴿إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ﴾: ناصب واسمه وخبره، وجملة ﴿إِنَّ﴾: في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾ على كونها معللة لما قبلها. ﴿لِمَا﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿لَطِيفٌ﴾؛ لأنه بمعنى مدبر. ﴿يَشَاءُ﴾: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة صلة لـ ﴿ما﴾، أو صفة لها، والعائد أو الرابط محذوف تقديره: لما يشاءه. ﴿إِنَّهُ﴾: ناصب واسمه. ﴿هُوَ﴾: ضمير فصل. ﴿الْعَلِيمُ﴾: خبر أول. ﴿الْحَكِيمُ﴾: خبر ثان، وجملة ﴿إن﴾: في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾ على كونها مسوقة لتعليل ما قبلها.
التصريف ومفردات اللغة
﴿تَاللَّهِ تَفْتَأُ﴾ (١) مضارع فتىء من أخوات كان الناقص، قال أوس بن حجر:
فَمَا فَتِئَتْ حَتَّى كَأنَّ غُبَارَهَا سُرَادِقُ يَوْمٍ ذِيْ رِيَاحٍ تُرْفَعُ
وقال أيضًا:
فَمَا فَتِئَتْ خَيْلٌ تَثُوْبُ وَتَدَّعِيْ وَيَلْحَقُ مِنْهَا لاَحِقٌ وَتَقَطَّعُ
(١) البحر المحيط.
120
ويقال فيها: فتأ على وزن ضرب، وأفتأ على وزن أكرم، وزعم ابن مالك أنها تكون بمعنى سكن وأطفأ، فتكون تامة، ورددنا عليه ذلك في "شرح التسهيل". ذكره أبو حيان، فتفتأ هنا بمعنى لا تزال.
﴿حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا﴾ والحرض (١): المشفي على الهلاك: يقال: حرض فهو حرض - بكسر الراء - حرضًا - بفتحها - وهو المصدر، ولذلك يستوي فيه المذكر والمؤنث، والمفرد والجمع، وأحرضه المرض فهو محرض.
قال الشاعر:
أَرَى الْمَرْءَ كَالأَزْوَادِ يُصْبِحُ مُحْرَضًا كَإِحْرَاضِ بَكْرٍ فِيْ الدِّيَارِ مَرِيْضُ
ويقال: رجل حُرُض - بضمتين - كجنب وشلل. وفي "المصباح": حرض حرضًا - من باب تعب - أشرف على الهلاك، فهو حرض. اهـ. وقولهم: يستوي فيه المفرد وغيره؛ أي: المثنى والمجموع والمذكر والمؤنث، تقول: هو حرض وهما حرض وهم حرض وهي حرض. اهـ. "كرخي". وفي "الشوكاني": الحَرَض - بفتحتين - مصدر يستوي فيه المفرد وغيره، والصفة المشبهة حَرِض - بكسر الراء - كدنف ودنف. قال النحاس: وحكى أهل اللغة: أحرضه الهم إذا أسقمه، ورجل حارض؛ أي: أحمق. وقال الأخفش: الحارض الذاهب. وقال ابن الأنباري: هو الهالك. والأولى تفسير الحرض هنا بغير الموت والهلاك من هذه المعاني المذكورة حتى يكون لقوله: ﴿أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ﴾ معنى غير معنى الحرض، فالتأسيس أولى من التأكيد، ومعنى ﴿مِنَ الْهَالِكِينَ﴾ من الميتين. اهـ.
﴿قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي﴾ البث في (٢) الأصل: إثارة الشيء وتفريقه كبث الريح التراب، ثم استعمل في إظهار ما انطوت عليه النفس من الغم والشر. والبث (٣): ما يرد على الإنسان من الأشياء التي يعظم حزن صاحبها بها حتى لا يقدر على إخفائها كذا قال أهل اللغة، وهو مأخوذ من بثثته؛ أي: فرقته، فسميت
(١) البحر المحيط.
(٢) المراغي.
(٣) الشوكاني.
121
المصيبة بثًّا مجازًا.
قال ذو الرمة:
وَقَفْتُ عَلَى رَبْع لِمَيَّةَ يَا فَتَى فَمَا زِلْتُ أَبْكِيْ عِنْدَهُ وَأُخَاطِبُهْ
وَأَسْقِيْهِ حَتَّى كَادَ مِمَّا أَبُثُّهُ تُكَلَّمُنِيْ أَحْجَارُهُ وَمَلاَعِبُهْ
﴿فَتَحَسَّسُوا﴾؛ أي: تعرفوا أخبار يوسف بحواسكم من سمع وبصر. والتحسس (١): طلب الخبر بالحاسة، وهو قريب من التجسس - بالجيم -، وقيل: إن التحسس - بالحاء - يكون في الخير، وبالجيم يكون في الشر، ومنه الجاسوس، وهو الذي يطلب الكشف عن عورات الناس.
﴿وَلَا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ﴾؛ أي: لا تقنطوا من فرجه وتنفيسه. قال الأصمعي: الروح ما يجده الإنسان من نسيم الهواء، فيسكن إليه، والتركيب يدل على الحركة والهزة، فكل ما يهتز الإنسان بوجوده ويلتف به، فهو روح. وحكى الواحدي عن الأصمعي أيضًا أنه قال: الروح الاستراحة من غم القلب. وقال أبو عمرو: الروح الفرج، وقيل: الرحمة، ويقال: أراح الإنسان إذا تنفس، ثم استعمل للفرج والتنفيس من الكرب.
﴿بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ﴾ البضاعة: هي القطعة من المال يقصد بها شراء شيء، يقال: أبضعت الشيء واستبضعته إذا جعلته بضاعة. وفي ماهية تلك البضاعة سبعة أقوال (٢):
أحدها: كانت دراهم.
والثاني: كانت متاعًا رثًّا كالحبل والغرارة.
والثالث: كانت أقطا.
والرابع: كانت نعالًا وأدمًا.
(١) الفتوحات.
(٢) زاد المسير.
122
والخامس: كانت سويق المقل.
والسادس: كانت حبة الخضراء وصنوبرًا.
والسابع: كانت صوفًا وشيئًا من سمن.
﴿مُزْجَاةٍ﴾؛ أي: مردودة يردها كل بائع على المشتري لردائتها. وفي "القاموس": زجاه إذا ساقه ودفعه كزجاة وأزجاه، وبضاعة مزجاة: قليلة، أو لا يتم صلاحها. اهـ. وفي "المصباح": زجيته بالتثقيل دفعته برفق، والريح تزجي السحاب: تسوقه رفيقًا، يقال: أزجاه بوزن أرضاه، وزجاه بالتثقيل كزكّاه. اهـ.
﴿وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ﴾ جمع خاطئ، والخاطىء: هو الذي يأتي بالخطيئة عمدًا، والمخطىء من إذا أراد الصواب صار إلى غيره، والخطء: الذنب، وخطأته: قلت له: أخطأت. وفي "الخازن": يقال: خطىء إذا كان عن عمد، وأخطأ إذا لم يكن عن عمد، ولهذا قيل هنا: خاطئين، ولم يقل: مخطئين. اهـ.
﴿لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ﴾؛ أي: لا تعيير ولا توبيخ؛ أي: لا أوبخكم ولا أقرعكم اليوم. اهـ. "خازن". وفي "المصباح": ثرب عليه يثرب - من باب ضرب -؛ إذا عتب ولام عليه، وبمضارعه الذي بياء الغيبة سمي رجل من العمالقة وهو الذي بنى مدينة الرسول - ﷺ -، فسميت المدينة باسمه. قال السهيلي: وَثرَّب - بالتشديد - مبالغة وتكثير، ومنه قوله تعالى: ﴿لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ﴾. والثَرْبُ - وزان قلس - شحم رقيق على الكرش والأمعاء. اهـ. وفي "المختار": عتب عليه وجد، وبابه ضرب ونصر. اهـ. وقال الرازي: التثريب التعيير والاستقصاء في اللوم، والمعنى: أي: لا تعداد للذنوب ولا توبيخ عليكم، يقال: ثرب فلان على فلان إذا بكته بفعله، وعدد عليه ذنوبه. اهـ. "كرخي".
﴿وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ﴾ يقال: فصل عن البلد إذا انفصل وجاوز حيطانه ﴿لَوْلَا أَنْ تُفَنِّدُونِ﴾؛ أي: تنسبوني إلى الفند، وهو فساد الرأي وضعف العقل والخرف من الكبر. وفي "السمين": التفنيد الإفساد يقال: فندت فلانًا؛ أي: أفسدت رأيه ورددته. وفي "المختار": الفَنَد - بالتحريك الكذب وهو أيضًا ضعفُ الرأي من
123
الهرم، والفعل منه أفند، والتفنيد: اللوم وتضعيف الرأي. اهـ. وفي "القاموس": الفَنَد - بالتحريك - الخرف وإنكار العقل لهرم أو مرض، والخطأ في القول والرأي، والكذب كالإفناد، ولا تقل: عجوز مفندة؛ لأنها لم تكن ذات رأي أبدًا، وفنده تفنيدًا كذبه وعجزه، وخطأ رأيه كأفنده. اهـ. وقال في "الكشاف": التفنيد النسبة إلى الفند؛ وهو الخرف وإنكار العقل من الهرم، يقال: شيخ مفند، ولا يقال: عجوز مفندة؛ لأنها لم تكن في شبيبتها ذات رأي، فتفند في كبرها؛ لأن نقصان عقلها ذاتي لا حادث من عارض الهرم كما مر.
﴿آوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ﴾؛ أي: ضمهما إليه واعتنقهما أصله: أأوى من باب أفعل الرباعي، فقلبت الهمزة الثانية ألفًا، فصار أوى. ﴿وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ﴾؛ أي: أصعدهما عليه، والعرش، كرسي تدبير الملك، لا كل سرير يجلس عليه الملك. ﴿وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا﴾؛ أي: أهوى أبواه وإخوته إلى الأرض، وسقطوا له ساجدين.
﴿وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ﴾؛ أي: من البادية، والبدو: هو البسيط من الأرض يبدو الشخص فيه من بعد يعني: يظهر، والبدو خلاف الحضر، والبادية خلاف الحاضرة، وكان يعقوب وأولاده أصحاب ماشية، فسكنوا البادية. اهـ. "خازن". وفي "القرطبي": وقيل: كان يعقوب تحول إلى البادية وسكنها، وإن الله تعالى لم يبعث نبيًّا عن أهل البادية. اهـ.
﴿مِنْ بَعْدِ﴾. ﴿أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ﴾ في "المختار": نزغ الشيطان بين القوم: أفسد، وبابه قطع. اهـ. وفي "الخازن": وأصل النزغ: الدخول في أمر لإفساده، اهـ.
﴿إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ﴾ وفي "البيضاوي": لطيف لما يشاء؛ أي: من أحوال خلقه؛ أي: لطيف التدبير له؛ إذ ما من صعب إلا وتنفذ فيه مشيئته، ويتسهل دونها. اهـ. يعني: إن اللطيف هنا بمعنى العالم بخفايا الأمور المدبر لها والمسهل لصعابها، ولنفوذ مشيئته إذا أراد شيئًا سهل أسبابه، فيطلق عليه اللطيف؛ لأن ما يلطف يسهل نفوذه. اهـ. "شهاب".
124
البلاغة
وقد تضمنت هذه الآيات ضروبًا من الفصاحة، وأنواعًا من البلاغة والبيان والبديع:
فمنها: الإيجاز بالحذف في قوله: ﴿قَالُوا تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ﴾؛ لأنه في تقدير: لا تفتأ وهو من قبيل التورية كما في "الصاوي".
ومنها: الجناس المماثل في قوله: ﴿وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾ وفي قوله: ﴿وَلَا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ﴾، وفيه أيضًا الإظهار في مقام الإضمار؛ لأن حق العبارة: إنه لا ييأس منه.
ومنها: الاستعارة في قوله: ﴿مِنْ رَوْحِ اللَّهِ﴾ استعير الروح؛ وهو تنسيم الريح الذي يلذ شميمها، ويطيب نسيمها للفرج الذي يأتي بعد الكرية واليسر الذي يأتي بعد الشدة.
ومنها: وضع الظاهر موضع الضمير في قوله: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ﴾ حق العبارة: إن الله يجزيك، عدلوا إلى الظاهر لشكهم في إيمانه، فعبروا بهذه العبارة المحتملة.
ومنها: الجناس المغاير بين ﴿تصدق﴾ و ﴿الْمُتَصَدِّقِينَ﴾.
ومنها: الاستفهام التوبيخي في قوله: ﴿هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ﴾ والاستفهام التقريرى في قوله: ﴿أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ﴾.
ومنها: الإتيان بالاسم الظاهر بدل الضمير في قوله: ﴿أَنَا يُوسُفُ﴾ لم يقل: أنا هو، بل عدل إلى هذ الظاهر تعظيمًا لما نزل به من ظلم إخوته، وما عوضه الله من النصر والظفر والملك، فكأنه قال: أنا يوسف المظلوم الذي ظلمتموني وقصدتم قتلي.
ومنها: الإظهار في موضع الإضمار في قوله: ﴿فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ﴾ وحق العبارة: فإن الله لا يضيع أجرهم.
125
ومنها: جمع المؤكدات في قوله: ﴿تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلَالِكَ﴾ أكدوا كلامهم بالقسم وبإن وباللام وبإسمية الجملة، وهذا الضرب من الخبر يسمى إنكاريًّا لتتابع أنواع المؤكدات.
ومنها: الاعتراض بالجملة الشرطية بين الحال وصاحبها في قوله: ﴿ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ﴾ لغرض التبرك، وفي الكلام تقديم وتأخير، والأصل: ادخلوا مصر آمنين إن شاء الله.
ومنها: التغليب في قوله: ﴿وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ﴾؛ لأن المراد بهما الأب والأم، فهو من باب التغليب.
ومنها: الحذف والزيادة في عدة مواضع.
والله سبحانه وتعالى أعلم
* * *
126
قال الله سبحانه جلَّ وعلا:
﴿رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (١٠١) ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ (١٠٢) وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ (١٠٣) وَمَا تَسْأَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (١٠٤) وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ (١٠٥) وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ (١٠٦) أَفَأَمِنُوا أَنْ تَأْتِيَهُمْ غَاشِيَةٌ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (١٠٧) قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٠٨) وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلَا تَعْقِلُونَ (١٠٩) حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (١١٠) لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (١١١)﴾.
التفسير وأوجه القراءة
١٠١ - ولمّا أتمّ الله (١) سبحانه نعمته على يوسف عليه السلام بما خلصه منه من المحن العظيمة، وبما خوله من الملك وعلمه من العلم.. تاقت نفسه إلى الخير الأخروي الدائم الذي لا ينقطع، فقال: ﴿رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ﴾؛ أي: قال يوسف بعد ما جمع الله له أبويه وإخوته وبسط له من الدنيا ما بسط من الكرامة، ومكن له في الأرض: ﴿رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي﴾؛ أي: (٢) أعطيتني بعض الملك؛ أي: بعضًا منه عظيمًا، وهو ملك مصر، إذ لم يكن له ملك كل الدنيا، وجعلتني متصرفًا فيها بالفعل، وإن كان لغيري بالاسم، ولم يكن لي فيها حاسد ولا باغٍ؛
(١) الشوكاني.
(٢) روح البيان.
127
إذ أجريت الأمور على سنن العدل ووفق الحكمة والسداد والملك. ضابطها هي عبارة (١) عن الاتساع في المقدور لمن له السياسة والتدبير.
روي (٢): أن يعقوب أقام مع يوسف في مصر أربعًا وعشرين سنة، وأوصى أن يدفنه بالشام إلى جنب أبيه إسحاق، فنقله يوسف بنفسه في تابوت من ساج، فوافق يوم وفاة عيص، فدفنا في قبر واحد، وكانا ولدا في بطن واحد، وكان عمرهما مئة وسبعًا وأربعين كما في تفسير أبي الليث، فلما دفن يوسف أباه وعمه رجع إلى مصر، وعاش بعد أبيه ثلاثًا وعشرين سنة، وكان عمره مئة وعشرين سنة، فلما جمع الله شمله وانتظمت أسبابه، واطردت أحواله، ورأى أمره على الكمال.. علم أنه أشرف على الزوال، وأن نعيم الدنيا لا يدوم على كل حال، قال قائلهم:
إِذَا تَمَّ أَمْرٌ دَنَا نَقْصُهُ تَوَقَّعْ زَوَالًا إِذَا قِيْلَ تَمّ
فسأل الله تعالى الموت على الإسلام وحسن العاقبة، والخاتمة الصالحة، فقال: يا رب قد أعطيتني ملك مصر ﴿وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ﴾؛ أي: بعضًا من تعبير الرؤيا؛ لأنه لم يؤت جميع علم التأويل على التفصيل؛ سواء أريد به مطلق العلم والفهم، أو مجرد تأويل الرؤيا. وقيل: ﴿مِنْ﴾ (٣) للجنس كما في قوله تعالى: ﴿فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ﴾. وقيل: زائدة؛ أي: آتيتني الملك، وعلمتني تأويل الأحاديث؛ أي: ويا رب قد علمتني ما أعبر عن مآل الحوادث ومصداق الرؤيا الصحيحة، فتقع كما قلت وأخبرت.
قال ابن الكمال (٤): الأحاديث مبني على واحده المستعمل، وهو الحديث كأنهم جمعوا حديثًا على أحدثة، ثم جمعوا الجمع على أحاديث كقطيع وأقطعة وأقاطيع. والمراد بالأحاديث: الرؤى جمع الرؤيا، وتأويلها بيان ما تؤول هي إليه في الخارج، وعلم التعبير من العلوم الجليلة، لكنه ليس من لوازم النبوة والولاية، فقد يعطيه الله تعالى بعض خواصه على التفصيل، وبعضهم على الإجمال. {فَاطِرَ
(١) الخازن.
(٢) روح البيان.
(٣) الشوكاني.
(٤) روح البيان.
128
السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}؛ أي: يا خالق السموات والأرض وموجدهما ومبدعهما على غير مثال سبق، وأصل الفطر: الشق، يقال: فطر ناب البعير، إذا شق وظهر، وفطر الله الخلق أوجده وأبدعه كما سيأتي في مبحث التصريف. ﴿أَنْتَ وَلِيِّي﴾؛ أي: أنت متولي أموري ومصلح جميع مهماتي، أو ناصري على من عاداني وأرادني بسوء، أو أنت سيدي وأنا عبدك، وإن نعمك لتغمرني وتشملني ﴿في الدنيا﴾ سأتمتع بها بفضلك ورحمتك في ﴿الآخرة﴾ ولا حول لي في شيءٍ منهما ولا قوة ﴿تَوَفَّنِي مُسْلِمًا﴾؛ أي: توفني على الإسلام لا يفارقني حتى أموت، واقبضني إليك مسلمًا؛ لأنه من إتمام النعمة، وأتم لي وصية آبائي وأجدادي ﴿وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (١٣٢)﴾. واختلف العلماء (١): هل هو طلب الوفاة في الحال، أم لا؟ على قولين:
أحدهما: أنه سأل الله الوفاة في الحال. قال قتادة: لم يسأل نبي من الأنبياء الموت إلا يوسف. قال أصحاب هذا القول: إنه لم يأت عليه أسبوع بعد هذا الدعاء حتى توفاه الله.
والقول الثاني: - وعليه الجماهير -: أنه سأل الوفاة على الإسلام، ولم يتمن الموت في الحال. قال الحسن: إنه عاش بعد هذه الدعوة سنين كثيرة. وعلى هذا القول يكون معنى الآية: توفني إذا توفيتني على الإسلام، فهو طلب لأن يجعل الله وفاته على الإسلام، وليس في اللفظ ما يدل على أنه طلب الوفاة في الحال. قال بعض العلماء: وكلا القولين محتمل؛ لأن اللفظ صالح للأمرين، ولا يبعد من الرجل العاقل الكامل أن يتمنى الموت لعلمه أن الدنيا ولذاتها فانية زائلة سريعة الذهاب، وأن نعيم الآخرة باق دائم لا نفاد له ولا زوال. ﴿وَأَلْحِقْنِي﴾ يا رب ﴿بِالصَّالِحِينَ﴾؛ أي: بآبائي المرسلين إبراهيم وإسحاق ويعقوب ومن قبلهم من أنبيائك ورسلك في النعمة والكرامة، فأظفر بثوابهم منك ودرجاتهم عندك، وهذا الدعاء بمعنى ما جاء في سورة الفاتحة: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (٦) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ
(١) الخازن.
129
عَلَيْهِمْ}؛ أي: من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين.
فإن قلت: (١) كيف قال يوسف ذلك مع علمه بأن كل نبي لا يموت إلا مسلمًا؟.
فالجواب: إما أنه حصل له حالة غلب عليه الخوف فيها، فذهل عن ذلك العلم، أو أنه دعا بذلك مع علمه إظهارًا للعبودية، والافتقار وشدة الرغبة في طلب سعادة الخاتمة، وتعليمًا لغيره، وهذه حالة زائدة على الإسلام الذي هو ضد الكفر، والمطلوب ههنا هو الإسلام بهذا المعنى. اهـ. "كرخي".
١٠٢ - ﴿ذَلِكَ﴾ المذكور من نبأ يوسف يا محمد ﴿مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ﴾؛ أي: من الأخبار التي غاب عنك علمها ﴿نُوحِيهِ إِلَيْكَ﴾ على لسان جبريل، وهو خبر ثان لقوله: ﴿ذَلِكَ﴾ ﴿وَمَا كُنْتَ﴾ يا محمد ﴿لَدَيْهِمْ﴾؛ أي: عند إخوة يوسف ﴿إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ﴾؛ أي: حين عزموا على إلقاءهم يوسف في غيابة الجبّ، فإن الإجماع العزم على الأمر، يقال: أجمعت الأمر وعليه ﴿وَهُمْ يَمْكُرُونَ﴾؛ أي: والحال أنهم يحتالون بيوسف ليقتلوه وبأبيه يعقوب ليرسله معهم؛ أي: ذلك (٢) الخبر لا سبيل إلى معرفتك إياه إلا بالوحي. وأما ما ينقله أهل الكتاب فليس على ما هو عليه. ومثل هذا التحقيق بلا وحي لا يتصور إلا بالحضور، فيكون معجزًا؛ لأن محمدًا - ﷺ - لم يطالع الكتب، ولم يأخذ عن أحد من البشر، وما كانت بلده بلد العلماء، فإتيانه بهذه القصة على وجه لم يقع فيه غلط كيف لا يكون معجزًا.
وإنما نفي الحضور وانتفاؤه معلوم بغير شبهة تهكمًا بالمنكرين للوحي من قريش وغيرهم (٣)؛ لأنه كان معلومًا عند المكذبين علمًا يقينًا أنه عليه السلام ليس من حملة هذا الحديث وأشباهه، ولا قرأ على أحد، ولا سمع منه، وليس من علم قومه، فإذا أخبر به لم يبق شبهة في أنه من جهة الوحي لا من عنده، فإذا أنكروه تهكم بهم، وقيل لهم: قد علمتم يا مكابرين أنه لا سماع له من أحد ولا قراءة، ولا حضور ولا مشاهدة لمن مضى من القرون الخالية.
(١) الفتوحات.
(٢) المراح.
(٣) روح البيان.
ومعنى الآية: ﴿ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ﴾؛ أي: إن نبأ (١) يوسف وأبيه يعقوب وإخوته، وكيف مكن ليوسف في الأرض، وجعل له العاقبة والنصر، وآتاه الملك والحكمة، فساس ملكًا عظيمًا، وأحسن إدارته وتنظيمه، وكان خير قدوة للناس في جميع ما دخل فيه من أطوار الحياة بعد أن أرادوا به السوء والهلاك حين عزموا أن يجعلوه في غيابة الجبّ، كل ذلك من أخبار الغيب الذي لم تشاهده ولم تره، ولكنا نوحيه إليك لنثبت به فؤادك، فتصبر على ما نالك من الأذى من قومك، ولتعلم أن من قبلك من الرسل لما صبروا على ما نالهم في سبيل الله، وأعرضوا عن الجاهلين.. فازوا بالظفر وأيدوا بالنصر وغلبوا أعداءهم. ثم أقام الدليل على كونه من الغيب بقوله: ﴿وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ﴾؛ أي: وما كنت (٢) حاضرًا عندهم ولا مشاهدًا حين صحت عزائمهم على أن يلقوا يوسف في غيابة الجبّ يبغون بذلك هلاكه والخلاص منه، وهذا كقوله تعالى بعد سياق قصة موسى: ﴿وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا﴾ الآية، وقوله في هذه القصة: ﴿وَمَا كُنْتَ ثَاوِيًا فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا...﴾ الآية. وفي "الخازن": وفي هذه الآية دليل قاطع على صحة نبوته - ﷺ -؛ لأنه كان أميًّا لم يقرأ الكتب، ولم يلق العلماء، ولم يسافر إلى غير بلده الذي نشأ فيه، ومع ذلك أتى بهذه القصة الطويلة على أحسن تركيب وأفصح عبارة، فعلم أن إتيانه - ﷺ - بها بوحي من الله تعالى. اهـ.
١٠٣ - وخلاصة هذا: أن الله تعالى أطلع رسوله على أنباء ما سبق؛ ليكون فيها عبرة للناس في دينهم ودنياهم، ومع هذا ما آمن أكثرهم، ومن ثم قال: ﴿وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ﴾ عام لأهل مكة وغيرهم ﴿وَلَوْ حَرَصْتَ﴾ على إيمانهم، وبالغت في إظهار الآيات الدالة على صدقك لهم. والحرص: طلب الشيء باجتهاد في إصابته ﴿بِمُؤْمِنِينَ﴾ لعنادهم وتصميمهم على الكفر؛ أي: وما أكثر الناس من مشركي مكة وغيرهم ولو حرصت على أن يؤمنوا بك، ويتبعوا ما جئتهم به من
(١) المراغي.
(٢) المراغي.
عند ربك بمصدقيك ولا متبعيك. قال الرازي: إن كفار قريش وجماعة من اليهود سألوا رسول الله - ﷺ - عن قصة يوسف على سبيل التعنت، فلما أخبرهم على وفق ما في التوراة.. أصروا على كفرهم، ولم يسلموا، فتأسف النبي - ﷺ -، وحزن على عدم إيمانهم، فعزاه الله سبحانه وتعالى بهذه الآية: ﴿وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ (١٠٣)﴾ وكأنها إشارة إلى ما ذكر الله تعالى بقوله: ﴿إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ﴾.
فإن قلت (١): فما فائدة التكليف والأمر بما يعلم عدم وقوعه؟
قلتُ: فائدته تمييز من له استعداد ذلك؛ لتظهر السعادة والشقاوة وأهلهما. فإن قلت: لم كان الكفرة أكثر مع أن الله تعالى خلق الخلق للعبادة؟.. قلت: المقصود ظهور الإنسان الكامل، وهو واحد كألف.
١٠٤ - ﴿وَمَا تَسْأَلُهُمْ﴾ يا محمد ﴿عَلَيْهِ﴾؛ أي: على تبليغ الأنباء التي أوحينا إليك وعلى تبليغ القرآن ﴿مِنْ أَجْرٍ﴾؛ أي: من مال يعطونك كما يفعله حملة الأخبار ونقال الآثار. والمراد: إنا أرخينا العلة في التكذيب حيث بعثناك مبلغًا بلا أجر. وقرأ بشر بن عبيد: ﴿وما نسألهم﴾ - بالنون -؛ أي: وما (٢) تسأل يا محمد هؤلاء الذين ينكرون نبوتك على ما تدعوهم إليه من إخلاص العبادة لربك وطاعته، وترك عبادة الأصنام والأوثان من أجر وجزاء منهم، بل ثوابك وأجر عملك على الله سبحانه وتعالى.
والخلاصة: أنك لا تسألهم على ذلك مالًا ولا منفعة، فيقولوا: إنما تريد بدعائك إيانا إلى اتباعك أن ننزل لك من أموالنا إذا سألتنا عن ذلك، فحالك حاله من سبقك من الرسل، فهم لم يسألوا أقوامهم أجرًا على التبليغ والهدى. والقرآن مليء بنحو هذا كما في سورتي هود والشعراء وغيرهما.
وإذا كنت لا تسألهم على ذلك أجرًا، فقد كان حقًّا عليهم أن يعلموا أنك
(١) روح البيان.
(٢) المراغي.
إنما تدعوهم إليه اتباعًا لأمر ربك ونصيحة منك لهم ﴿إِنْ هُوَ﴾؛ أي: ما هذا القرآن الذي أرسلك به ربك ﴿إِلَّا ذِكْرٌ﴾؛ أي: إلا تذكير وموعظة وإرشاد ﴿لِلْعَالَمِينَ﴾ كافة لا لهم خاصة، وبه يهتدون وينجون في الدنيا والآخرة. وفي الآية إيماء إلى عموم رسالته - ﷺ -.
١٠٥ - ﴿وَكَأَيِّنْ﴾ في قوله: ﴿وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ بمعنى: كم الخبرية مبتدأ، خبره جملة ﴿يَمُرُّونَ﴾ الآتي؛ أي: وكثير من آيات وعلامات دالة على توحيد الله تعالى، وكمال علمه وقدرته من شمس وقمر، ونجوم وجبال وبحار ونباتات وأشجار كائنة في السموات والأرض. وجملة قوله: ﴿يَمُرُّونَ عَلَيْهَا﴾ خبر ﴿وَكَأَيِّنْ﴾ أي: يمر أكثر الناس على تلك الآيات ويشاهدونها ﴿وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ﴾؛ أي: والحال أنهم عن الاعتبار بتلك الآيات معرضون ولا يتفكرون فيها، ولا يعتبرون بها، وهم غافلون عما فيها من عبرة ودلالة على توحيد ربها، وأن الألوهية لا تكون إلا للواحد القهار الذي خلقها وخلق كل شيء، فأحسن تدبيره. وبالجملة (١) فما في السموات والأرض من عجائب وأسرار، وإتقان وإبداع؛ ليدل أتم الدلالة على العلم المحيط، والحكمة البالغة، والقدرة التامة.
والذين يشتغلون بعلم ما في السموات والأرض وهم غافلون عن خالقهما ذاهلون عن ذكره، يمتعون عقولهم بلذة العلم، ولكن أرواحهم تبقى محرومة في لذة الذكر ومعرفة الله عز وجل؛ إذ الفكر وحده، وإن كان مفيدًا لا تكون فائدته نافعة في الآخرة إلا بالذكر، والذكر وإن أفاد في الدنيا والآخرة لا تكمل فائدته إلا بالفكر، فطوبى لمن جمع بين الأمرين، فكان من الذين أوتوا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة، ونجوا من عذاب النار في الآخرة.
والمشهور في ﴿كأين﴾ عندهم أنه (٢) مركب، من كاف التشبيه ومن أي،
(١) المراغي.
(٢) البحر المحيط.
وتلاعبت العرب به، وجاءت فيه لغات كثيرة كما مر. وذكر صاحب "اللوامح" أن الحسن قرأ في الشاذ: ﴿وَكَأَيِّنْ﴾ - بياء مكسورة من غير همز ولا ألف ولا تشديد - وجاء كذلك عن ابن محيصن في الشاذ فهي لغة انتهى. وقرأ عكرمة وعمرو بن فائد: ﴿وَالْأَرْضِ﴾ - بالرفع على الابتداء - وما بعده خبر. وقرأ السدي: ﴿وَالْأَرْضِ﴾ - بالنصب وهو من باب الاشتغال -؛ أي: ويطوون الأرض يمرون عليها؛ أي على آياتها وما أودع فيها من الدلالات ومع ذلك لا يعتبرون. وقرأ عبد الله: ﴿وَالْأَرْضِ﴾ - برفع الضاد - ومكان ﴿يَمُرُّونَ﴾ ﴿يمشون﴾، والمراد ما يرون من آثار الأمم الهالكة وغير ذلك، وما عدا قراءة الجمهور شاذ.
١٠٦ - ﴿وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ﴾؛ أي: وما يصدق ويقرُّ أكثر الناس بوحدانية الله تعالى وبألوهيته، وبكونه الخالق الرازق المحيي المميت في حال من الأحوال ﴿إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ﴾ بالله تعالى؛ أي: إلا في حال إشراكهم بالله تعالى في عبادتهم سواه من الأصنام والأوثان والملائكة والبشر، فالكافرون مقرون بوجود الله تعالى، لكنهم يثبتون له شريكًا في المعبودية.
قال ابن عباس (١): فأهل مكة قالوا: ربنا الله وحده لا شريك له والملائكة بناته. وقال عبدة الأوثان والأصنام: ربنا الله وحده والأصنام شفعاؤنا عنده. وقالت اليهود: ربنا الله وحده وعزير ابن الله. وقالت النصارى: ربنا الله وحده لا شريك له والمسيح ابن الله. وقال عبدة الشمس والقمر: ربنا الله وحده وهؤلاء أربابنا. وكل من هؤلاء لم يوحدوا بل أشركوا. وقال المهاجرون والأنصار: ربنا الله وحده لا شريك معه.
وقال ابن عباس أيضًا (٢): وأهل مكة كانوا يقولون في تلبيتهم: لبيك اللهم لبيك لبيك لا شريك لك إلا شريكًا هو لك تملكه وما ملك؛ وهذا هو الشرك الأعظم إذ يعبد مع الله غيره. وفي "صحيح مسلم" أنهم كانوا إذا قالوا: لبيك لا
(١) المراح.
(٢) المراغي.
شريك لك.. قال رسول الله - ﷺ -: "قد قد"؛ أي: حسب حسب لا تزيدوا على هذا. وفي "الصحيحين" عن ابن مسعود. قلت يا رسول الله: أيّ الذنب أعظم؟ قال: "أن تجعل لله ندًّا وهو خلقك". ومن درس تاريخ الأمم الماضية والحاضرة.. عرف كيف طرأ الشرك على الأمم وسرى في عبادتهم سريان السم في الدسم.
١٠٧ - والهمزة في قوله: ﴿أَفَأَمِنُوا﴾ للاستفهام التوبيخي الإنكاري داخلة على محذوف، والفاء عاطفة على ذلك المحذوف؛ أي: أغفل هؤلاء المشركون عن مكر الله تعالى فأمنوه ولم يخافوا ﴿أَنْ تَأْتِيَهُمْ﴾ في الدنيا ﴿غَاشِيَةٌ﴾؛ أي: عقوبة تغشاهم وتشملهم ﴿مِنْ عَذَابِ اللَّهِ﴾ تعالى ﴿أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ﴾ والقيامة ﴿بَغْتَةً﴾؛ أي: فجأة من غير سبق علامة ﴿وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ﴾ بإتيانها غير مستعدين لها؛ أي: أفأمن هؤلاء الذين لا يؤمنون بالله ربهم، ويشركون به في عبادتهم غيره تعالى أن تأتيهم عقوبة تغشاهم وتغمرهم، أو تأتيهم الساعة فجأة من حيث لا يتوقعون، وهم مقيمون على شركهم وكفرهم بربهم، فيخلّدهم في نار جهنم. والآية كقوله تعالى: ﴿أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ (٤٥) أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ (٤٦) أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (٤٧)﴾. وقوله: ﴿أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ (٩٨) أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ (٩٩)﴾.
وجاء في "الصحيحين" عن أبي هريرة أن النبي - ﷺ - قال: "ولتقومن الساعة وقد نشر الرجلان ثوبهما، فلا يتبايعانه ولا يطويانه، ولتقومن الساعة وقد انصرف الرجل بلبن لَقِحَتِهِ - الناقة ذات الدر - فلا يطعمه، ولتقومن الساعة وقد رفع أحدكم أكلته - لقمته - إلى فيه فلا يطعمها". والمراد من كل هذا أنها تبغت الناس وهم منهمكون في أمور معايشهم، فلا يشعرون إلا وقد أتتهم. والحكمة في إبهام وقتها أن الفائدة لا تتم إلا بذلك، ليخشى أهل كل زمان إتيانها في هذا الوقت، فيحملهم الخوف على مراقبة الله تعالى في أعمالهم، فيلتزموا الحق ويتحروا الخير، ويتقوا الشرور والمعاصي.
١٠٨ - ﴿قُلْ﴾ يا محمد لهؤلاء المشركين: ﴿هَذِهِ﴾ الطريقة والملة التي أنا عليها من توحيد الله، وإخلاص العبادة له دون الأوثان والأصنام، مبتدأ خبره: ﴿سَبِيلِي﴾؛ أي: ملتي وسنتي ومنهاجي وطريقتي، وجملة قوله: ﴿أَدْعُو إِلَى اللَّهِ﴾؛ أي: أدعو الناس بهذه الملة إلى توحيد الله والإيمان به حالة كوني ﴿عَلَى بَصِيرَةٍ﴾ وحجة واضحة، وبرهان قاطع. وضمير ﴿أَنَا﴾ تأكيد لفاعل ﴿أَدْعُو﴾، ولذلك عطف عليه قوله: ﴿وَمَنِ اتَّبَعَنِي﴾؛ أي: أدعو إلى توحيد الله بهذه الملة، ويدعو إليه من اتبعني وآمن بي وصدقني، وهذا (١) قول الكلبي وابن زيد قالا: حق على من اتبعه وآمن به أن يدعو إلى ما دعا إليه، ويذكِّر بالقرآن، وقيل: تم الكلام عند قوله: ﴿أَدْعُو إِلَى اللَّهِ﴾ ثم استأنف ﴿عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي﴾ يعني: أنا على بصيرة وحجة واضحة ومن اتبعني أيضًا على بصيرة. قال ابن عباس: إن محمدًا - ﷺ - وأصحابه كانوا على أحسن طريقة وأفضل هداية، وهم معدن العلم وكنز الإيمان وجند الرحمن. وقال ابن مسعود: ومن كان مستنا فليستن بمن قد مات، أولئك أصحاب محمد - ﷺ -، كانوا خير هذه الأمة، وأبرها قلوبًا، وأعمقها علمًا، وأقلها تكلفًا، قوم اختارهم الله لصحبة نبيه - ﷺ -، ونقل دينه فتشبهوا بأخلاقهم وطريقهم، فهؤلاء كانوا على الصراط المستقيم. والآية كقوله: ﴿ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ﴾. وقرأ عبد الله شذوذًا: ﴿قل هذا سبيلي﴾ - على التذكير - والسبيل: يذكر ويؤنث.
﴿و﴾ قل يا محمد: ﴿سبحان الله﴾؛ أي: أسبح الله سبحانه وتعالى تسبيحًا، وأنزهه تنزيهًا عما لا يليق بجلاله من جميع العيوب والنقائص والشركاء والأضداد والأنداد، ومن أن يكون معبود سواه، وتعالى الله عن ذلك علوًا كبيرًا ﴿تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا (٤٤)﴾. وقل يا محمد: ﴿وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ الذين أشركوا بالله غيره تعالى، والمعنى: أنا بريء من أهل الشرك به لست منهم، ولا هم مني. وهذا معطوف على: ﴿وَسُبْحَانَ اللَّهِ﴾ عطف جملة على جملة.
(١) الخازن.
١٠٩ - ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ﴾ يا محمد ﴿إِلَّا رِجَالًا﴾ مثلك لا ملائكة، فهذا رد لقولهم: ﴿لَوْ شَاءَ رَبُّنَا لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً﴾ قالوا ذلك تعجبًا وإنكارًا لنبوته - ﷺ -، فقال تعالى: كيف يتعججون من إرسالنا إياك، والحال أن من قبلك من الرسل كانوا على مثل حالك ولم يتعجبوا منهم، فكيف تعجبوا من إرسالك؛ لأن الاستفادة منوطة بالجنسية، وبين البشر والملك مباينة من جهة اللطافة والكثافة، ولو أرسل ملك.. لكان في صورة البشر كما قال تعالى: ﴿وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا﴾. وقس عليه الجن؛ فلا يكون من الجن رسول إلى البشر. وفي عبارة الرجال دلالة على أنَّ الله تعالى ما بعث رسولًا إلى الخلق من النسوان؛ لأن مبنى حالهن على التستر، ومنتهى كمالهن هي الصديقية لا النبوة، فمنها آسية ومريم وخديجة وفاطمة وعائشة رضي الله عنهن.
وجملة قوله: ﴿نُوحِي إِلَيْهِمْ﴾ صفة أولى لـ ﴿رَجُلًا﴾؛ أي: نوحي إليهم على لسان الملك كما نوحي إليك. وقوله: ﴿مِنْ أَهْلِ الْقُرَى﴾ صفة ثانية له، وكأن (١) تقديم هذه الصفة على ما قبلها أكثر استعمالًا؛ لأنها أقرب إلى المفرد؛ أي: من أهل الأمصار دون أهل البوادي؛ لغلبة الجهل والقسوة والجفاء عليهم. والمراد بالقرية: الحضر خلاف البادية، فتشمل المصر الجامع وغيره؛ لأن أهل الأمصار أفضل وأعلم وأكمل عقلًا من أهل البوادي. قال الحسن: لم يبعث نبيٌّ من بدو ولا من الجن ولا من النساء. والمعنى: كيف تعجَّبوا من إرسالنا إياك يا محمد وسائر الرسل الذين كانوا من قبلك بشر مثلك حالهم كحالك!.
فإن قلت: (٢) إن قوله: ﴿مِنْ أَهْلِ الْقُرَى﴾ يعارضه قوله: ﴿وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ﴾؛ لأنه يقتضي أن يعقوب وأولاده كانوا من أهل البادية.
قلت: لم يكن يعقوب وأولاده من أهل البادية، بل خرجوا إليها لمواشيهم. وقرأ أبو (٣) عبد الرحمن وطلحة وحفص: ﴿نُوحِي﴾ - بالنون وكسر الحاء - مبنيًّا
(١) الفتوحات.
(٢) روح البيان.
(٣) البحر المحيط.
137
للفاعل موافقًا لقوله: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا﴾. وقرأ الجمهور بالياء وفتح الحاء مبنيًّا للمفعول.
والهمزة في قوله: ﴿أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ﴾ للاستفهام التوبيخي الإنكاري داخلة على محذوف، والفاء عاطفة على ذلك المحذوف وتقديره: أغفلوا عن مكرنا، فلم يسيروا في الأرض؛ أي: أفلم يسر هؤلاء المشركون من أهل مكة ممن يكذبونك ويجحدون نبوتك وينكرون ما جئتهم به من توحيد الله وإخلاص العبادة له ﴿فَيَنْظُرُوا﴾ فيما وطئوا من البلاد ﴿كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ﴾؛ أي: كيف صار آخر أمر المكذبين للرسل والآيات ممن كانوا قبلهم من الأمم الماضية كقوم لوط وصالح وسائر من عذبهم الله من الأمم، فيعتبروا بما حل بهم من عذابنا حتى ينزجروا عما هم فيه من التكذيب، وإلا يحيق بهم مثل ما حاق بهم؛ لأن التماثل في الأسباب يوجب التماثل في المسببات، ثم رغب في العمل للآخرة، فقال: ﴿وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا﴾ وهو من إضافة الموصوف إلى صفته كمسجد الجامع، وصلاة الأولى؛ أي: إن الدار الآخرة للذين آمنوا بالله ورسله، واتقوا الشرك به، وارتكاب الآثام والمعاصي خير من هذه الدار للمشركين المنكرين للبعث المكذبين بالرسل، والذين لا حظ لهم من هذه الحياة إلا التمتع بلذاتها. فإن نعيمها (١) البدني أكمل من نعيم الدنيا لدوامه وثباته، ولخلوه من المنغصات والآلام، فما بالك بنعيمها الروحي من لقاء الله ورضوانه وكمال معرفته.
ويحتمل أن يكون قوله: ﴿وَلَدَارُ الْآخِرَةِ﴾ من حذف الموصوف وإقامة صفته مقامه، وأصله: ولدار المدة الآخرة أو النشأة الآخرة، والذي قدمنا تخريج كوفي، وهذا الأخير تخريج بصري. وقرىء شاذًا: ﴿وللدار الآخرة﴾. وإنما (٢) أضاف الدار إلى الآخرة مع أن المراد بالدار هي الجنة؛ وهي نفس الآخرة؛ لأن العرب قد تضيف الشيء إلى نفسه كقولهم: حق اليقين، والحق: هو اليقين نفسه. اهـ. "خازن".
(١) المراغي.
(٢) الخازن.
138
والهمزة في قوله: ﴿أفلا تعقلون﴾ للاستفهام التوبيخي داخلة على محذوف، والفاء عاطفة على ذلك المحذوف تقديره: أتعرضون يا أهل مكة عن إعمال فكركم في هذا، فلا تعقلون أنها خير لهم من الحياة الدنيا، فتتوسلوا إليها بالإيمان؛ أما إنكم لو عقلتم ذلك لآمنتم. وقرأ الجمهور (١): ﴿أفلا يعقلون﴾ - بالياء - مراعاة لقوله: ﴿أَفَلَمْ يَسِيرُوا﴾. وقرأ الحسن وعلقمة والأعرج وعاصم وابن عامر ونافع: ﴿تعقلون﴾ بالتاء على خطاب هذه الأمة تحذيرًا لهم مما وقع فيه أولئك، فيصيبهم ما أصابهم.
١١٠ - ثم ذكر سبحانه وتعالى تثبيتًا لفؤاده عليه السلام أن العاقبة لرسله، وأن نصره تعالى ينزل عليهم حين ضيق وانتظار الفرج كما قال: ﴿كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي﴾ وقال: ﴿إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا﴾ وأن نصره يأتيهم إذا تمادى المبطلون في تكذيبهم، فقال: ﴿حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ﴾ ﴿حَتَّى﴾: غاية لمحذوف دل عليه السياق تقديره: لا يغررهم (٢) تماديهم فيما هم فيه من الراحة والرخاء، فإن من قبلهم أمهلوا حتى إذا استيأس الرسل عن النصر عليهم في الدنيا، أو من إيمانهم لانهماكهم في الكفر مترفهين متمادين فيه من غير رادع ﴿وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا﴾ قرأ عاصم وحمزة والكسائي بتخفيف الدال المكسورة، والمعنى عليه: وظن القوم أن الرسل قد أخلفوا في وعدهم بالنصر؛ أي: أخلف الله وعده لرسلهم بالنصر، وهذا المعنى منقول عن عائشة رضي الله عنها. وقال الواحدي معناه: وظن الأمم أن الرسل قد كذبوهم فيما أخبروهم به من نصر الله إياهم، وإهلاك أعدائهم، وهذا المعنى منقول عن ابن عباس وابن مسعود وسعيد بن جبير ومجاهد. وقرأ الباقون: بالتشديد.
والمعنى عليه: وظن الرسل وأيقنوا أنهم قد كذبتهم الأمم الذين آمنوا بهم بما جاؤوا به من الله تعالى، وارتدوا عن الإيمان بهم، وهذا المعنى منقول عن عائشة رضي الله عنها، وهو أحسن الوجوه، وقالت: إن البلاء لم يزل من الأنبياء حتى
(١) البحر المحيط.
(٢) المراح وروح البيان.
139
خافوا من أن يكذبهم الذين قد آمنوا بهم. وحاصل المعنى على قراءة التخفيف؛ أي: وما (١) أرسلنا قبلك إلا رجالًا نوحي من أهل القرى فدعوا من أرسلوا إليهم إلى توحيد الله وإخلاص العبادة له، فكذبوا بما جاءوهم به، وردوا ما أتوا به من عند ربهم، حتى إذا يئس الرسل من إيمانهم؛ لانهماكهم في الكفر وتماديهم في الطغيان من غير وازع، وظنت الأمم أن الرسل الذين أرسلوا إليهم قد كذبوهم فيما كانوا أخبروهم عن الله من وعده لهم النصر عليهم ﴿جَاءَهُمْ نَصْرُنَا﴾ لهم بهلاك أعدائهم فجأة، وهذه الجملة جواب ﴿إِذَا﴾ في قوله: ﴿حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ﴾. والمعنى: إن (٢) زمان الإمهال قد تطاول عليهم حتى توهموا أن لا نصر لهم في الدنيا، فجاءهم نصرنا بغتة بغير سبق علامة.
وهذه سنة الله تعالى في الأمم يرسل إليهم الرسل بالبينات (٣)، ويؤيدهم بالمعجزات حتى إذا أعرضوا عن الهداية، وعاندوا رسل ربهم، وامتدت مدة كيدهم وعدوانهم، واشتد البلاء على الرسل، واستشعروا بالقنوط من تمادي التكذيب وتراخي النصر.. جاءهم نصر الله فجأة، وأخذ المكذبين العذابُ بغتة كالطوفان الذي أغرق قوم نوح، والريح التي أهلكت عادًا قوم هود، والصيحة التي أخذت ثمود، والخسف الذي نزل بقرى قوم لوط وهم فيها، كما قال تعالى: ﴿أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْرَاهِيمَ وَأَصْحَابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكَاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (٧٠)﴾. وفي هذا تذكير لكفار قريش بأن سنته تعالى في عباده واحدة لا ظلم فيها ولا محاباة، وأنهم إن لم ينيبوا إلى ربهم.. حل بهم من العذاب ما حل بأمثالهم من أقوام الرسل، كما قال في سورة القمر ﴿أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولَئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَرَاءَةٌ فِي الزُّبُرِ (٤٣)﴾. وقد نصر الله نبيه - ﷺ - في غزوة بدر وما بعدها من الغزوات، وأهلك الجاحدين المعاندين من قومه.
(١) المراغي.
(٢) روح البيان.
(٣) المراغي.
140
روى البخاري بسنده عن عائشة رضي الله عنها قالت لابن أختها عروة بن الزبير وهو يسألها عن قول الله تعالى: ﴿حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ...﴾ الآية: هم أتباعُ الرسل الذين آمنوا بربهم وصدقوهم، فطال عليهم البلاء، واستأخر عليهم النصر حتى إذا استيأس الرسل ممن كذبهم من قومهم، وظنت الرسل أن أتباعهم قد كذبوهم.. جاءهم نصر الله عند ذلك. وعن عائشة أن النبي - ﷺ - قرأ: ﴿وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا﴾ مخففة أخرجه ابن مردويه من طريق عكرمة ونحوه عن ابن عباس قال: يئس الرسل أن يستجيبوا لهم، وظن قومهم أنَّ الرسل كذبوهم بما جاؤوهم به جاءهم نصرنا. ونحوه عن ابن مسعود قال: حفظت عن رسول الله - ﷺ - في "سورة يوسف": ﴿أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا﴾ مخففة، اهـ.
﴿فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ﴾ نجاتهم؛ وهم الرسل والمؤمنون التابعون لهم، وإنما لم يعينهم؛ للدلالة على أنهم هم الذين يستحقون النجاة لا يشاركهم فيها غيرهم. وقرأ عاصم وابن عامر ويعقوب (١): ﴿فَنُجِّيَ﴾ - بنون واحدة وجيم مشددة مكسورة وفتح الياء - فعلًا ماضيًا مبنيًّا للمفعول، و ﴿مَنْ﴾ الموصولة نائب فاعله. وقرأ مجاهد والحسن والجحدري وطلحة وابن هرمز كذلك، إلا أنهم سكنوا الياء شذوذًا، وخرج على أنه ماض مبني للمجهول، ولكن سكنت الياء على لغة من يستثقل الحركة على الياء كقراءة من قرأ: ﴿ما تطعمون أهاليكم﴾ - بسكون الياء - ورويت هذه القراءة عن الكسائي ونافع في الشاذ، والمعنى على هذه: فنجي الرسل ومن آمن معهم من أقوامهم؛ لأنهم بحسب ما وضع الله من تأثير الأعمال في طهارة النفوس وزكائها هم الذين يستحقون النجاة دون غيرهم، كما قال: ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (٩) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا (١٠)﴾.
وقرأ باقي العشرة: ﴿فَنُنْجِي﴾ - بنونين أولاهما مضمومة وثانيتهما ساكنة وبياء ساكنة - مضارع أنجى الرباعي، وفاعله ضمير يعود على الله، والموصول مفعول به؛ أي: فننجي نحن من نشاء نجاتهم؛ وهم الرسل والمؤمنون بهم. وقرأ
(١) البحر المحيط.
141
نصر بن عاصم والحسن وأبو حيوة وابن السميقع ومجاهد وعيسى وابن محيصن: ﴿فنجا﴾ جعلوه مخفف الجيم فعلًا ماضيًا مبنيًّا للفاعل، وفاعله ﴿مَنْ﴾ الموصولة. وقال أبو عمرو الداني: وقرأت لابن محيصن: ﴿فنَجَّى﴾ - بشد الجيم - فعلًا ماضيًا مبنيًّا للفاعل على معنى: فنَجَّى النصر من نشاء، وفاعله النصر المعلوم من السياق وهي قراءة شاذة. وذكر الداني أن المصاحف متفقة على كتابتها بنون واحدة. وفي "التحبير" أن الحسن قرأ شذوذًا: ﴿فَنُنَجّي﴾ - بنونين الثانية مفتوحة والجيم مشددة والياء ساكنة - مضارع نجى المضعف. وقرأ أبو حيوة شاذًا: ﴿من يشاء﴾ - بالياء -؛ أي: فنجي من يشاء الله نجاته، ومن يشاء نجاتهم هم المؤمنون لقوله تعالى: ﴿وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ﴾؛ أي: ولا يرد عذابنا عن القوم المشركين إذا نزل بهم. وقرأ الحسن شذوذًا: ﴿بأسه﴾ بضمير الغائب؛ أي: بأس الله. وهذه الجملة فيها وعيد وتهديد لمعاصري الرسول - ﷺ -؛ أي: ولا يُمنع عقابنا وبطشنا عن القوم الذين أجرموا، فكفروا باللهِ وكذبوا رسله، وما أتوهم به من عند ربهم.
وقد جرت سنة الله أن يبلغ الرسل أقوامهم، ويقيموا عليهم الحجة، وينذروهم سوء عاقبة الكفر والتكذيب، فيؤمن المهتدون ويصر المعاندون، فينجي الله الرسل ومن آمن من أقوامهم، ويهلك المكذبين، ولا يخفى ما في الآية من التهديد والوعيد لكفار قريش ومن على شاكلتهم من المعاصرين للنبي - ﷺ -.
١١١ - واللامُ في قوله تعالى: ﴿لَقَدْ كَانَ﴾: موطئة للقسم. ﴿فِي قَصَصِهِمْ﴾ - بفتح القاف -: مصدرُ قصَّ الخبر؛ إذا حدث به؛ أي: قصص يوسف وإخوته وأبيه عليهم السلام وخبرهم. وقرىء شاذًا بكسر القات جمع قصة؛ أي: قصص الأنبياء وأممهم؛ أي: وعزتي وجلالي لقد كان في قصص يوسف مع أبيه وإخوته وخبرهم ﴿عِبْرَةٌ﴾ أي: عظة عظيمة ﴿لِأُولِي الْأَلْبَابِ﴾؛ أي: لأصحاب العقول الكاملة الراجحة والأفكار الثاقبة؛ لأنهم هم الذين يعتبرون بعواقب الأمور التي تدل عليها أوائلها ومقدماتها، أما الأغرار الغافلون فلا يستعملون عقولهم في النظر والاستدلالات، ومن ثم لا يفيدهم النصح.
142
وجهة الاعتبار بهذه القصة أن الذي قدر على إنجاء يوسف عليه السلام بعد إلقائه في غيابة الجبّ، وإعلاء أمره بعد وضعه في السجن، وتمليكه مصر بعد أن بيع بالثمن البخس، والتمكين له في الأرض من بعد الإسار والحبس الطويل، وإعزازه على من قصده بالسوء من إخوته، وجمع شمله بأبويه وبهم بعد المدة الطويلة المدى، والمجيء بهم من الشقة البعيدة النائية؛ أي: إن الذي قدر على ذلك كله لقادر على إعزاز محمد - ﷺ - وإعلاء كلمته وإظهار دينه، فيخرجه من بين أظهركم، ثم يظهره عليكم، ويمكن له في البلاد، ويؤيده بالجند والرجال والأتباع والأعوان، وإن مرت به الشدائد وأتت دونه الأيام والحوادث، وإن الإخبار بهذه القصة جارٍ مجرى الإخبار عن الغيوب، فكانت معجزة لمحمد - ﷺ -. وقيل: إن الله تعالى قال في أول هذه السورة: ﴿نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ﴾ وقال في آخرها: ﴿لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ﴾ فدل على أن هذه القصة من أحسن القصص، وأن فيها عبرة لمن اعتبرها وتأملها، وكان في أول السورة وآخرها مناسبة.
﴿مَا كَانَ﴾ هذا القرآن المشتمل على هذا المقصوص ﴿حَدِيثًا يُفْتَرَى﴾ ويختلق من عند البشر؛ لأن الذي جاء به من عند الله تعالى؛ وهو محمد - ﷺ - لا يصح منه أن يفتريه ويختلقه من عند نفسه؛ لأنه لم يقرأ الكتب ولم يخالط العلماء، ثم إنه جاء بهذا القرآن المعجز، فدل ذلك على صدقه، وأنه ليس بمفتر، فهو دليل ظاهر وبرهان قاهر على أنه جاء بطريق الوحي والتنزيل، ومن ثم قال: ﴿وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ﴾؛ أي: ولكن كان هذا القرآن مصدق الذي كان قبله من الكتب السماوية التي أنزلها الله تعالى من السماء على أنبيائه كالتوراة والإنجيل والزبور؛ أي: تصديق ما عندهم من الحق فيها لا كل الذي عندهم، فهو ليس بمصدق لما عندهم من خرافات فاسدة وأوهام باطلة؛ لأنه جاء لمحوها وإزالتها، لا لإثباتها وتصديقها ﴿وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ﴾ يحتاج إليه في الدين والدنيا؛ أي: إن في هذا القرآن المنزل عليك يا محمد تفصيل كل شيء تحتاج إليه من الحلال والحرام، والحدود والأحكام، والقصص والمواعظ والأمثال، وغير ذلك مما يحتاج إليه العباد في أمر دينهم ودنياهم ﴿و﴾ كان ﴿هدى﴾ إلى
143
كل خير لمن تدبره وأمعن في النظر فيه، وتلاه حق تلاوته، فهو مرشد إلى الحق، وهادٍ إلى سبيل الرشاد وعمل الخير والصلاح في الدين والدنيا ﴿و﴾ كان ﴿رحمة﴾ خاصة ﴿لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾ به في دينهم ودنياهم؛ لأنهم هم الذين ينتفعون به. وقيل المعنى: ﴿وَهُدًى﴾؛ أي: سبب هداية في الدنيا ﴿وَرَحْمَةً﴾؛ أي: سببًا لحصول الرحمة في الآخرة، والخاضعون لها من غير المؤمنين يكونون في ظلها آمنين على أنفسهم وأموالهم وأعراضهم، أحرارًا في عقائدهم وعباداتهم، مساوين للمؤمنين في حقوقهم ومعاملاتهم، يعيشون في بيئة خالية من الفواحش والمنكرات التي تفسد الأخلاق وتعبث بالفضائل. وانتصاب الأربعة بعد ﴿لكن﴾ للعطف على خبر ﴿كَانَ﴾. وقرأ حمران ابن أعين وعيسى الكوفي فيما ذكر صاحب "اللوامح" وعيسى الثقفي فيما ذكر ابن عطية: ﴿تصديق وتفصيلُ وهدى ورحمةٌ﴾ - برفع الأربعة -؛ أي: ولكن هو تصديق وهذه القراءة شاذة. والجمهور بالنصب على إضمار كان؛ أي: ولكن كان تصديق الخ.
الإعراب
﴿رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (١٠١)﴾.
﴿رَبِّ﴾: منادى مضاف حذف منه حرف النداء للتخفيف منصوب، وعلامة نصبه فتحة مقدرة على ما قبل ياء المتكلم المحذوفة اجتزاء عنها بالكسرة، وهو مضاف، وياء المتكلم المحذوفة في محل الجر مضاف إليه، وجملة النداء في محل النصب مقول ﴿قاَلَ﴾. ﴿قَدْ﴾ حرف تحقيق. ﴿آتَيْتَنِي﴾ فعل وفاعل ومفعول أول ونون وقاية. ﴿مِنَ﴾: حرف جر وتبعيض. ﴿الْمُلْكِ﴾: مجرور بـ ﴿مِنَ﴾: الجار والمجرور متعلق بـ ﴿آتَيْتَنِي﴾ على كونه مفعولًا ثانيًا له؛ لأنه بمعنى أعطى، وقيل: ﴿مِنَ﴾ زائدة، وقيل المفعول الثاني محذوف تقديره: عظيمًا من الملك كما ذكره أبو البقاء. والجملة الفعلية في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾ على كونها جواب النداء. ﴿وَعَلَّمْتَنِي﴾: فعل وفاعل ومفعول أول، والجملة معطوفة على جملة ﴿آتَيْتَنِي﴾. ﴿مِنْ﴾: زائدة. ﴿تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ﴾: مفعول ثان
144
ومضاف إليه. وفي "السمين": و ﴿مِنَ﴾ في ﴿مِنَ الْمُلْكِ﴾، وفي ﴿مِنْ تَأْوِيلِ﴾ للتبعيض، والمفعول الثاني محذوف؛ أي: شيئًا عظيمًا من الملك، فهي صفة لذلك المحذوف، وقيل: زائدة، وقيل: لبيان الجنس. ﴿فَاطِرَ﴾: نعت لـ ﴿رَبِّ﴾، أو بدل، أو عطف بيان منه، أو منصوب بإضمار أعني، أو على كونه منادى ثانيًا. ﴿السَّمَاوَاتِ﴾: مضاف إليه. ﴿وَالْأَرْضِ﴾: معطوف عليه. ﴿أَنْتَ وَلِيِّي﴾: مبتدأ وخبر، والجملة في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾. ﴿فِي الدُّنْيَا﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿وَلِيِّي﴾. ﴿وَالْآخِرَةِ﴾: معطوف على ﴿الدُّنْيَا﴾. ﴿تَوَفَّنِي﴾: فعل ومفعول ونون وقاية، وفاعله ضمير يعود على الله. ﴿مُسْلِمًا﴾: حال من المفعول، والجملة في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾. ﴿وَأَلْحِقْنِي﴾: فعل ومفعول ونون وقاية. ﴿بِالصَّالِحِينَ﴾: متعلق به، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة معطوفة على جملة ﴿تَوَفَّنِي﴾.
﴿ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ﴾.
﴿ذَلِكَ﴾: مبتدأ. ﴿مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ﴾: جار ومجرور ومضاف إليه خبر المبتدأ، والجملة مستأنفة. ﴿نُوحِيهِ﴾: فعل ومفعول. ﴿إِلَيْكَ﴾: متعلق به، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة في محل النصب حال من المبتدأ، أو من الضمير في الخبر، ويجوز أن تكون خبرًا ثانيًا لذلك كما في "السمين". ﴿وَمَا﴾ (الواو): عاطفة. ﴿ما﴾: نافية. ﴿كُنْتَ﴾: فعل ناقص واسمه. ﴿لَدَيْهِمْ﴾: ظرف ومضاف إليه خبر كان، والجملة معطوفة على جملة قوله: ﴿ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ﴾ على كونها معللة للخبرين. ﴿إِذْ﴾: ظرف لما مضى من الزمان متعلق بكان. ﴿أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ﴾: فعل وفاعل ومفعول، والجملة في محل الجر مضاف إليه لـ ﴿إِذْ﴾. ﴿وَهُمْ﴾: (الواو): واو الحال. ﴿هم﴾: مبتدأ، وجملة ﴿يَمْكُرُونَ﴾: خبره، والجملة الاسمية في محل النصب حال من واو ﴿أَجْمَعُوا﴾.
﴿وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ (١٠٣) وَمَا تَسْأَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (١٠٤)﴾.
﴿وَمَا﴾ (الواو): استئنافية. ﴿ما﴾: حجازية أو تميمية. ﴿أَكْثَرُ النَّاسِ﴾:
145
اسمها أو مبتدأ ﴿بِمُؤْمِنِينَ﴾: خبرها، أو خبر المبتدأ والباء زائدة، والجملة مستأنفة. ﴿وَلَوْ﴾: (الواو): اعتراضية. ﴿لو﴾: حرف شرط. ﴿حَرَصْتَ﴾: فعل وفاعل، والجملة فعل شرط لـ ﴿لو﴾، وجواب ﴿لو﴾ محذوف لدلالة ما قبله عليه تقديره: ولو حرصت على هدايتهم وبالغت في دعوتهم لا يؤمنون، وجملة ﴿لو﴾: معترضة لا محل لها من الإعراب لاعتراضها بين ﴿ما﴾ وخبرها. ﴿وَمَا﴾: (الواو): عاطفة. ﴿ما﴾ نافية ﴿تَسْأَلُهُمْ﴾: فعل ومفعول أول، وفاعله ضمير يعود على محمد. ﴿عَلَيْهِ﴾: متعلق به. ﴿مِنْ أَجْرٍ﴾: مفعول ثان لسأل، و ﴿مِنْ﴾: زائدة، والجملة معطوفة على جملة قوله: ﴿وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ﴾. ﴿إِنْ﴾: نافية. ﴿هُوَ﴾: مبتدأ. ﴿إِلَّا﴾: أداة استثناء مفرغ. ﴿ذِكْرٌ﴾: خبر المبتدأ. ﴿لِلْعَالَمِينَ﴾: متعلق به، والجملة الاسمية مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها.
﴿وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ (١٠٥)﴾.
﴿وَكَأَيِّنْ﴾ (الواو): استئنافية. ﴿كأين﴾: اسم بمعنى كم الخبرية؛ أي: بمعنى عدد كثير في محل الرفع مبتدأ مبني على السكون لشبهه بالحرف شبهًا معنويًّا. ﴿مِنْ﴾: زائدة. ﴿آيَةٍ﴾: تمييز ﴿كأين﴾ منصوب. ﴿فِي السَّمَاوَاتِ﴾: جار ومجرور صفة لـ ﴿آيَةٍ﴾. ﴿وَالْأَرْضِ﴾: معطوف على ﴿السَّمَاوَاتِ﴾. ﴿يَمُرُّونَ﴾: فعل وفاعل. ﴿عَلَيْهَا﴾: متعلق به، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية مستأنفة. ﴿وَهُمْ﴾: (الواو): حالية. ﴿هم﴾: مبتدأ. ﴿عَنْهَا﴾: متعلق بـ ﴿مُعْرِضُونَ﴾. ﴿مُعْرِضُونَ﴾: خبر المبتدأ، والجملة الاسمية في محل النصب حال من فاعل ﴿يَمُرُّونَ﴾، والمعنى: وآيات كثيرة كائنة في السموات والأرض مارون عليها حالة كونهم معرضين عنها.
﴿وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ (١٠٦) أَفَأَمِنُوا أَنْ تَأْتِيَهُمْ غَاشِيَةٌ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (١٠٧)﴾.
﴿وَمَا﴾ (الواو): استئنافية. ﴿ما﴾: نافية. ﴿يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ﴾: فعل وفاعل. ﴿بِاللَّهِ﴾: متعلق بـ ﴿يُؤْمِنُ﴾، والجملة مستأنفة. ﴿إِلَّا﴾: أداة استثناء مفرغ. ﴿وَهُمْ مُشْرِكُونَ﴾: مبتدأ وخبر، والجملة في محل النصب حال من فاعل ﴿يُؤْمِنُ﴾.
146
﴿أَفَأَمِنُوا﴾: (الهمزة): للاستفهام التوبيخي الإنكاري داخلة على محذوف. (والفاء): عاطفة على ذلك المحذوف تقديره: أغفل هؤلاء المشركون عن مكر الله تعالى فأمنوا. ﴿أمنوا﴾: فعل وفاعل معطوف على ذلك المحذوف، والجملة المحذوفة مستأنفة. ﴿أَنْ تَأْتِيَهُمْ غَاشِيَةٌ﴾: ناصب وفعل ومفعول وفاعل. ﴿مِنْ عَذَابِ اللَّهِ﴾: جار ومجرور صفة لـ ﴿غَاشِيَةٌ﴾، والجملة الفعلية في تأويل مصدر منصوب على المفعولية تقديره: أفأمنوا إتيان غاشية من عذاب الله إياهم. ﴿أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ﴾: فعل ومفعول وفاعل معطوف على ﴿أَنْ تَأْتِيَهُمْ غَاشِيَةٌ﴾ على كونها في تأويل مصدر منصوب على المفعولية تقديره: أو إتيان الساعة إياهم. ﴿بَغْتَةً﴾: حال من ﴿السَّاعَةُ﴾؛ أي: باغتة. ﴿وَهُمْ﴾: مبتدأ، وجملة ﴿لَا يشعُرُونَ﴾: خبره، والجملة الاسمية في محل النصب حال من مفعول ﴿تَأْتِيَهُمُ﴾.
﴿قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٠٨)﴾.
﴿قُلْ﴾: فعل أمر، وفاعله ضمير يعود على محمد والجملة مستأنفة. ﴿هَذِهِ سَبِيلِي﴾ إلى آخر الآية: مقول محكي، وإن شئت قلت: ﴿هَذِهِ سَبِيلِي﴾: مبتدأ وخبر، والجملة في محل النصب مقول ﴿قُلْ﴾. ﴿أَدْعُو﴾: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على محمد. ﴿إِلَى اللَّهِ﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿أَدْعُوا﴾، والجملة في محل النصب مقول ﴿قُلْ﴾. ﴿عَلَى بَصِيرَةٍ﴾: جار ومجرور خبر مقدم. ﴿أَنَا﴾: مبتدأ مؤخر. ﴿وَمَنِ﴾: الموصولة معطوفة على المبتدأ، وجملة ﴿اَتَّبَعَنِي﴾: صلة ﴿من﴾ الموصولة، والجملة الاسمية في محل النصب مقول ﴿قُلْ﴾. وفي "السمين": قوله: ﴿أَدْعُو إِلَى اللَّهِ﴾ يجوز أن يكون مستأنفًا؛ وهو الظاهر، وأن يكون حالًا من الياء، و ﴿عَلَى بَصِيرَةٍ﴾: حال من فاعل ﴿أَدْعُوا﴾؛ أي: أدعو إلى الله حالة كوني كائنًا على بصيرة، وقوله: ﴿وَمَنِ اَتبَعَنِي﴾: عطف على فاعل ﴿أَدْعُوا﴾، ولذلك أكد بالضمير المنفصل، ويجوز أن يكون مبتدأ، والخبر محذوف؛ أي: ﴿وَمَنِ اَتبَعَنِي﴾ يدعو أيضًا، ويجوز أن يكون ﴿عَلَى بَصِيرَةٍ﴾ وحده حالًا، و ﴿أَنَا﴾: فاعل به، ﴿وَمَنِ اَتَّبَعَنِي﴾: عطف عليه، ومفعول ﴿أَدْعُوا﴾ يجوز
147
أن لا يراد، ويجوز أن يقدر؛ أي: أدعو الناس. اهـ. ﴿وَسُبْحَانَ اللَّهِ﴾ (الواو): عاطفة. ﴿سُبْحَانَ اللَّهِ﴾: منصوب على المفعولية المطلقة بفعل محذوف وجوبًا تقديره: وأسبح سبحان الله، والجملة في محل النصب معطوفة على جملة قوله: ﴿هَذِهِ سَبِيلِي﴾ على كونها مفسرة لها. ﴿وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾: مبتدأ وخبر، والجملة في محل النصب معطوفة على جملة ﴿هَذِهِ سَبِيلِي﴾.
﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى﴾.
﴿وَمَا﴾ (الواو): استئنافية. ﴿ما﴾: نافية. ﴿أَرْسَلْنَا﴾: فعل وفاعل. ﴿مِنْ قَبْلِكَ﴾: متعلق به، والجملة مستأنفة. ﴿إِلَّا﴾: أداة استثناء مفرغ. ﴿رِجَالًا﴾: مفعول به. ﴿نُوحِي﴾: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على الله. ﴿إِلَيْهِمْ﴾: متعلق به، والجملة في محل النصب صفة أولى لـ ﴿رجال﴾. ﴿مِنْ أَهْلِ الْقُرَى﴾: جار ومجرور صفة ثانية لـ ﴿رِجَالًا﴾، والأكثر استعمالًا عندهم تقديم هذه الصفة الثانية على الأولى؛ لأنها أقرب إلى المفرد منها كما تقدم تحريره في المائدة.
﴿أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلَا تَعْقِلُونَ﴾.
﴿أَفَلَمْ﴾ (الهمزة): للاستفهام التوبيخي الإنكاري داخلة على محذوف. (الفاء): عاطفة على ذلك المحذوف تقديره: أغفلوا عن مكرنا فلم يسيروا. ﴿لم يسيروا﴾: جازم وفعل وفاعل. ﴿فِي الْأَرْضِ﴾: متعلق به، والجملة معطوفة على ذلك المحذوف، والجملة المحذوفة مستأنفة. ﴿فَيَنْظُرُوا﴾: (الفاء): عاطفة. ﴿ينظروا﴾: فعل وفاعل معطوف على ﴿يَسِيرُوا﴾. ﴿كَيْفَ﴾: اسم استفهام في محل النصب خبر ﴿كَانَ﴾ مقدّم عليه وجوبًا. ﴿كَانَ﴾: فعل ماض ناقص. ﴿عَاقِبَةُ الَّذِينَ﴾: اسمها ومضاف إليه، وجملة ﴿كَانَ﴾: في محل النصب مفعول لـ ﴿ينظروا﴾ معلق عنها باسم الاستفهام. ﴿مِنْ قَبْلِهِمْ﴾: جار ومجرور صلة الموصول. ﴿وَلَدَارُ الْآخِرَةِ﴾: (الواو): استئنافية. (اللام): حرف ابتداء، ﴿دار الآخرة﴾: مبتدأ ومضاف إليه. ﴿خَيْرٌ﴾: خبر المبتدأ. ﴿لِلَّذِينَ﴾: جار ومجرور
148
متعلق به، والجملة الاسمية مستأنفة. ﴿اتَّقَوْا﴾: فعل وفاعل صلة الموصول. ﴿أَفَلَا تَعْقِلُونَ﴾: (الهمزة): للاستفهام التوبيخي داخلة على محذوف، و (الفاء): عاطفة على ذلك المحذوف تقديره: أتعرضون يا أهل مكة عن إعمال فكركم في خيرية الآخرة على الدنيا. ﴿لا﴾: نافية ﴿تَعْقِلُونَ﴾: فعل وفاعل، والجملة معطوفة على ذلك المحذوف.
﴿حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (١١٠)﴾.
﴿حَتَّى﴾: حرف ابتداء لدخولها على الجملة، وغاية لكونها غاية لمحذوف وتقديره: لا يغررهم تماديهم فيما هم من الراحة والرخاء، فإن من قبلهم أمهلوا حتى إذا استيأس الرسل. ﴿إِذَا﴾: ظرف لما يستقبل من الزمان. ﴿اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ﴾: فعل وفاعل، والجملة في محل الخفض بإضافة إذا إليها على كونها فعل شرط لها، والظرف متعلق بالجواب الآتي. ﴿وَظَنُّوا﴾: فعل وفاعل معطوف على ﴿اسْتَيْأَسَ﴾. ﴿أَنَّهُمْ﴾: ناصب واسمه. ﴿قَدْ كُذِبُوا﴾: فعل ونائب فاعل، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر ﴿أن﴾، وجملة ﴿أن﴾: في تأويل مصدر ساد مسد مفعولي ظن تقديره: وظنوا تكذيبهم. ﴿جَاءَهُمْ نَصْرُنَا﴾: فعل ومفعول وفاعل، والجملة جواب ﴿إذا﴾، وجملة ﴿إذا﴾: من فعل شرطها وجوابها في محل الجر بـ ﴿حَتَّى﴾ متعلقة بمحذوف تقديره: فإن من قبلهم أمهلوا إلى مجيء نصرنا وقت يأس الرسل عن نصرهم، وظن الأتباع كونهم مكذوبين. ﴿فَنُجِّيَ﴾: (الفاء): عاطفة. ﴿نُجِّيَ﴾: فعل ماضٍ مغير الصيغة. ﴿مَنْ﴾: اسم موصول في محل الرفع نائب فاعل، والجملة معطوفة على جملة ﴿جاء﴾. ﴿نَشَاءُ﴾: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة صلة الموصول، والعائد محذوف تقديره: من نشاء نجاته من عبادنا. ﴿وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا﴾: فعل ونائب فاعل، والجملة مستأنفة. ﴿عَنِ الْقَوْمِ﴾: متعلق به. ﴿الْمُجْرِمِينَ﴾: صفة لـ ﴿الْقَوْمِ﴾.
﴿لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (١١١)﴾.
149
﴿لَقَدْ﴾: (اللام): موطئة للقسم. ﴿قد﴾: حرف تحقيق. ﴿كَانَ﴾: فعل ماضٍ ناقص. ﴿فِي قَصَصِهِمْ﴾: جار ومجرور خبر مقدم لـ ﴿كَانَ﴾: ﴿عِبْرَةٌ﴾ اسم ﴿كَانَ﴾ مؤخر، وجملة ﴿كَانَ﴾: جواب القسم لا محل لها من الإعراب. ﴿لِأُولِي الْأَلْبَابِ﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿عِبْرَةٌ﴾؛ لأنه اسم مصدر من اعتبر الخماسي. ﴿مَا﴾: نافية. ﴿كَانَ﴾: فعل ماض ناقص، واسمها ضمير يعود على القرآن المتقدم ذكره في قوله: ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا﴾ أو على هذا القصص المذكور في يوسف وإخوته. ﴿حَدِيثًا﴾: خبر ﴿كَانَ﴾، وجملة ﴿يُفْتَرَى﴾: صفة لـ ﴿حَدِيثًا﴾، وجملة ﴿كَانَ﴾: مستأنفة. ﴿وَلَكِنْ﴾: (الواو): عاطفة. ﴿لكن﴾: حرف استدراك. ﴿تَصْدِيقَ الَّذِي﴾: خبر لـ ﴿كَانَ﴾ المحذوفة مع اسمها، ومضاف إليه؛ أي: ولكن كان هذا القرآن تصديق الذي بين يديه، والجملة الاستدراكية معطوفة على الجملة التي قبلها. ﴿بَيْنَ يَدَيْهِ﴾: ظرف ومضاف إليه صلة الموصول. ﴿وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ﴾: معطوف على ﴿تَصْدِيقَ﴾ على كونه خبرًا لـ ﴿كَانَ﴾ المحذوفة. ﴿وَهُدًى وَرَحْمَةً﴾: معطوفان عليه أيضًا. ﴿لِقَوْمٍ﴾: جار ومجرور تنازع فيه كل من ﴿هدى﴾ و ﴿رحمة﴾ على كونه صفة لهما، وجملة ﴿يُؤْمِنُونَ﴾ صفة لـ ﴿قوم﴾، أو صفة لـ ﴿رحمة﴾ فقط.
التصريف ومفردات اللغة
﴿رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ﴾؛ أي: بعض الملك، والمراد بذلك البعض: ملك مصر؛ إذ لم يملك جميع أقطار الأرض إلا أربعة: إثنان مسلمان: إسكندر، وسليمان بن داود واثنان كافران: بختنصر وشداد بن عاد، ولقد توارثت الفراعنة من العمالقة بعد يوسف مصر، ولم يزل بنو إسرائيل تحت أيديهم على بقايا من دين يوسف وآبائه إلى أن بعث الله تعالى موسى عليه السلام. اهـ. "أبو السعود". والملك عبارة عن الاتساع في الشيء المقدور لمن له السياسة التدبير كما مر.
﴿فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾؛ أي: خالقهما ومبدعهما على غير مثال سبق، وأصل الفطر: الشق، يقال: فطر ناب البعير إذا شق وظهر، وفطر الله الخلق:
150
أوجده وأبدعه.
﴿أَنْتَ وَلِيِّ﴾؛ أي: معيني ومتولي أمري ﴿تَوَفَّنِي مُسْلِمًا﴾؛ أي: اقبضني إليك مسلمًا.
﴿وَلَوْ حَرَصْتَ﴾ وفي "المصباح": حرص عليه حرصًا - من باب ضرب - إذا اجتهد، والاسم الحِرص - بكسر الحاء - وحرص على الدنيا من باب ضرب أيضًا، وحَرِص حرصًا - من باب تعب لغة -، إذا رغب رغبة مذمومة. اهـ.
﴿وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ﴾ و ﴿كَأَيِّنْ﴾ هنا بمعنى كم الخبرية التي بمعنى عدد كثير وإن وردت للاستفهام، والآية هنا بمعنى الدليل الذي يرشد إلى وجود الصانع ووحدته، وكمال علمه وقدرته.
﴿يَمُرُّونَ عَلَيْهَا﴾؛ أي: يشاهدونها ولا يعبئون بها. ﴿مُعْرِضُونَ﴾؛ أي: لا يعتبرون بها. ﴿غَاشِيَةٌ﴾ والغاشية: العقوبة تغشاهم وتعمهم ﴿بَغْتَةً﴾ فجأة ﴿عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا﴾ البصيرة: الحجة الواضحة، وقيل: هي المعرفة التي يميز بها بين الحق والباطل. اهـ. "خازن". ﴿وَظَنُّوا﴾ الظن هنا: إما بمعنى اليقين، وإما معنى الحسبان والتقدير. ﴿بَأْسُنَا﴾ والبأس العقاب.
﴿لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ﴾ والقَصَص - بفتح القاف -: مصدر قَصَّ إذا تتبع الأثر والخبر، والمراد هنا المقصوص المحكي بدليل القراءة الشاذة: ﴿قِصصهم﴾ - بكسر القاف - كما في "الجمل".
﴿عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ﴾ المراد بالعبرة: التأمل والتفكر. وفي "الخازن": معنى الاعتبار والعبرة: الحالة التي يتوصل بها الإنسان من معرفة المشاهد إلى ما ليس بمشاهد، والمراد منه التأمل والتفكر.
﴿لِأُولِي الْأَلْبَابِ﴾ والألباب: العقول واحدها لبّ، وسمي بذلك؛ لكونه خالص ما في الإنسان من قواه. وقال الشوكاني: والعبرة: الفكرة والبصيرة المخلصة من الجهل والحيرة، وقيل: هي نوع من الاعتبار، وهي العبور من الطريق المعلوم إلى الطريق المجهول، وأولوا الألباب: هم ذووا العقول السليمة
151
الذين يعتبرون بعقولهم، فيدرون ما فيه مصالح دينهم، وإنما كان هذا القصص عبرة لما اشتمل عليه من الإخبارات المطابقة للواقع من بعد المدة التي بين النبي - ﷺ - وبين الرسل الذين قص حديثهم، ومنهم يوسف وإخوته وأبوه مع كونه لم يطلع على أخبارهم ولا اتصل بأحبارهم.
البلاغة
وقد تضمنت هذه الآيات ضروبًا من الفصاحة وأنواعًا من البلاغة والبيان والبديع:
فمنها: إطلاق الكل وإرادة البعض في قوله: ﴿رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ﴾ فإنه إنما أعطي ملك مصر فقط، لا ملك الأرض كلها كما مر.
ومنها: في قوله: ﴿ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ﴾ ما يسمى في علم البيان بالاحتجاج النظري، وبعضهم يسميه المذهب الكلامي؛ وهو أن يلزم الخصم ما هو لازم لهذا الاحتجاج، وتقدم نظير ذلك في آل عمران، وفي هود، وهذا تهكم بقريش وبمن كذبه؛ لأنه لا يخفى على أحد أنه لم يكن من حملة هذا الحديث وأشباهه، ولا لقي فيها أحدًا ولا سمع منه، ولم يكن من علم قومه، فإذا أخبر به وقصه هذا القصص الذي أعجز حملته ورواته.. لم تقع شبهة في أنه ليس منه، بل من وحي الله تعالى إليه، ذكره أبو حيان.
ومنها: حكاية الحال الماضية في قوله: ﴿نُوحِيهِ إِلَيْكَ﴾؛ لأنه بمعنى الماضي.
ومنها: الجملة الاعتراضية في قوله: ﴿وَلَوْ حَرَصْتَ﴾ لاعتراضها بين ﴿مَا﴾ الحجازية وخبرها، وجيء بهذا الاعتراض؛ لإفادة أن الهداية بيد الله سبحانه وتعالى وحده.
ومنها: حكاية الحال الماضية أيضًا في: ﴿إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ﴾؛ لأنه بمعنى الماضي.
ومنها: الاستفهام التوبيخي في قوله: ﴿أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ﴾.
152
ومنها: إضافة الشيء إلى نفسه في قوله: ﴿وَلَدَارُ الْآخِرَةِ﴾؛ لأنه أضاف الدار إلى الآخرة مع أن المراد بالدار هي الجنة، وهي نفس الآخرة؛ لأن العرب تفعل ذلك لإفادة التأكيد، كما في قولهم: حق اليقين، مع أن المراد بالحق هو اليقين نفسه كما مر.
ومنها: الزيادة والحذف في عدة مواضع.
والله سبحانه وتعالى أعلم
* * *
153
موضوعات هذه السورة
جملة ما في هذه السورة من الموضوعات تسعة وثلاثون موضوعًا:
١ - قص يوسف رؤياه على أبيه يعقوب.
٢ - نهي يعقوب لولده عن قصه قصصه على إخوته.
٣ - تدبيرهم المكيدة ليوسف وإلقائه في غيابة الجبّ.
٤ - ادعاؤهم أنَّ الذئب قد أكله.
٥ - عثور قافلة ذاهبة إلى مصر عليه والتقاطها له.
٦ - بيعها إياه في مصر بثمن بخس لعزيز مصر.
٧ - وصية العزيز لامرأته بإكرام مثواه.
٨ - مراودة المرأة له عن نفسه، وإعداد الوسائل لذلك.
٩ - تمنعه من ذلك إكرامًا لسيده الذي أكرم مثواه.
١٠ - قدها لقميصه وادعاؤها عليه أنه هو الذي أراد الفاحشة.
١١ - شهادة شاهد من أهلها بما يجلي الحقيقة.
١٢ - افتضاح أمرها في المدينة لدى النسوة.
١٣ - تدبيرها المكيدة لأولئك النسوة وإحكام أمرها.
١٤ - إدخاله السجن اتباعًا لمشيئتها.
١٥ - تعبيره رؤيا فتيين دخلا معه السجن.
١٦ - رؤيا الملك وطلبه تعبيرها.
١٧ - إرشاد أحد الفتيين للملك عن يوسف، وأنه نعم المعبر لها.
١٨ - طلب الملك إحضاره من السجن، واستخلاصه لنفسه.
١٩ - توليته رئيسًا للحكومة ومهيمنًا على ماليتها.
٢٠ - مجيء إخوة يوسف إليه، وطلبه منهم أن يحضروا أخاهم لأبيهم.
154
٢١ - إرجاع البضاعة التي جاؤوا بها.
٢٢ - إحضارهم أخاه إليه بعد إعطائهم الموقف لأبيهم.
٢٣ - طلب أبيهم أن يدخلوا المدينة من أبواب متعددة.
٢٤ - إخبار يوسف لأخيه عن ذات نفسه.
٢٥ - أذان المؤذن أن العير قد سرقوا.
٢٦ - قول الإخوة: إن أخاه قد سرق من قبل.
٢٧ - طلبُ الإخوة من يوسف أن يأخذ أحدهم مكانه.
٢٨ - وجود غشاوة على عيني يعقوب من الحزن.
٢٩ - تعريف يوسف بنفسه لإخوته.
٣٠ - حين جاء البشير بقميص يوسف ارتد يعقوب بصيرًا.
٣١ - طلب الإخوة من أبيهم أن يستغفر لهم.
٣٢ - رفع يوسف أبويه على العرش.
٣٣ - قول يوسف لأبيه: هذا تأويل رؤياي من قبل.
٣٤ - دعاؤه بحسن الخاتمة.
٣٥ - في هذا القصص إثبات لنبوة محمَّد - ﷺ -.
٣٦ - تحذير المشركين من نزول العذاب بهم كما حَدَث لمن قبلهم.
٣٧ - لم يرسل الله تعالى إلا رجالًا وما أرسَل ملائكة.
٣٨ - نصر الرسل بعد الاستيئاس.
٣٩ - في قصص الرسل أو يوسف وإخوته عبرة لأولي الألباب.
والله أعلم
* * *
155
سورة الرعد
سورة الرعد مكية (١) إلا آيتين فهما مدنيتان، وهما قوله تعالى: ﴿وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ﴾ الآية، وقوله تعالى: ﴿وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ إلى ﴿وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ﴾. وقيل: مدنية سوى قوله تعالى: ﴿وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ﴾ الآيتين.
وآياتها ثلاث - أو خمس - وأربعون آية، وكلماتها ثمان مئة وخمس وخمسون كلمة، وحروفها ثلاثة آلاف وخمس مئة وستة أحرف. وسميت بالرعد؛ لذكره فيها.
فضلها: ومن فضائلها أن قراءتها عند المحتضر تسهل خروج الروح.
وقد أخرج (٢) ابن أبي شيبة والمروزي في "الجنائز" عن جابر بن زيد قال: كان يُستحب إذا حضر الميت أن يقرأ عنده سورة الرعد؛ فإن ذلك يخفف عن الميت، وإنه أهون لقبضه، وأيسر لشأنه.
المناسبة: ومناسبةُ هذه السورة لما قبلها من وجوه (٣):
١ - أنه سبحانه وتعالى أجمل في السورة السابقة الآيات السماوية والأرضية في قوله: ﴿وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ (١٠٥)﴾، ثم فصلها هنا أتم تفصيل في مواضع منها.
٢ - أنه أشار في سورة يوسف إلى أدلة التوحيد بقوله: ﴿أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ﴾، ثم فصل الأدلة هنا بإسهاب لم يذكر في سالفتها.
(١) المراح.
(٢) الشوكاني.
(٣) المراغي.
156
٣ - أنه ذكر في كلتا السورتين أخبار الماضين مع رسلهم، وأنهم لاقوا منهم ما لاقوا، وأخذهم الله أخذ عزيز مقتدر، وكتب الخزي على الكافرين، والنصر لرسله والمؤمنين، وفي ذلك تسلية لرسوله - ﷺ - وتثبيت لقلبه.
٤ - جاء في آخر السورة السابقة وصف القرآن بقوله: ﴿مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾، وفي أول هذه السورة قوله: ﴿تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ﴾.
الناسخ والمنسوخ: قال أبو عبد الله محمَّد بن حزم رحمه الله تعالى (١): في سورة الرعد من المنسوخ آيتان فقط؛ آيةٌ مُجمع على نسخها، وآيةٌ مختلف في نسخها. فالمجمع على نسخها قوله تعالى: ﴿فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَعَلَيْنَا﴾ الآية (٤٠) منسوخة بآية السيف. الآية الثانية قوله تعالى: ﴿وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ﴾ الآية (٦) منسوخة بقوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ﴾ الآية (٤٨، ١١٦) النساء. والظلم هاهنا: الشرك.
والله أعلم
* * *
(١) الناسخ والمنسوخ.
157

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

﴿المر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ (١) اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ (٢) وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَارًا وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (٣) وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (٤) وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَإِذَا كُنَّا تُرَابًا أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (٥) وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلَاتُ وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ (٦) وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ (٧) اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ (٨) عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ (٩) سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ (١٠) لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ (١١)﴾.
المناسبة
قوله تعالى: ﴿تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ...﴾ الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها: أنه قد مر لك في آخر السورة السابقة وصف القرآن بقوله: ﴿مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ﴾، ووصفه في هذه الآية بقوله: ﴿تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ...﴾ الآية، كما مرّ آنفًا.
158
قوله تعالى: ﴿اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ...﴾ الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما ذكر (١) في الآية السالفة أن أكثر الناس لا يؤمنون.. أعقبه بذكر البراهين على التوحيد والمعاد، فاستدل بأحوال السموات وأحوال الشمس والقمر، وأحوال الأرض جبالها وأنهارها، وأزهارها ونخيلها وأعنابها، واختلاف ثمراتها، وتنوع غلاتها على وجود الإله القادر القاهر الذي بيده الخلق والأمر، وبيده الضر والنفع، وبيده الإحياء والإماتة، وهو على كل شيء قدير.
وعبارة أبي حيان هنا: ولما ذكر انتفاء الإيمان عن أكثر الناس.. ذكر عقيبه ما يدل على صحة التوحيد والمعاد، وما يجذبهم إلى الإيمان فيما يفكر فيه العاقل، ويشاهده من عظيم القدرة وبديع الصنع والحكمة انتهت.
قوله تعالى: ﴿وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَإِذَا كُنَّا تُرَابًا...﴾ الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما ذكر (٢) إنكارهم لوحدانيته تعالى مع وضوح الأدلة على ذلك من خلق السموات بلا عمد، وتسخير الشمس والقمر يجريان إلى أجل مسمى، ومن مد الأرض وإلقاء الجبال الرواسي فيها إلى آخر ما ذكر من الآيات الدالة على عظيم قدرته وبديع صنعه لمن يتأمل ويتفكر في ذلك الملكوت العظيم.. ذكر هنا إنكارهم للبعث والنشور على وضوح طريقه وسطوع دليله قياسًا على ما يرون ويشاهدون، فإن من قدر على خلق السماوات والأرض وسائر العوالم على هذا النحو الذي يحار الإنسان في الوصول إلى معرفة كنهه.. لا يعجز عن إعادته في خلق جديد، كما قال تعالى: ﴿أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ﴾.
قوله تعالى: ﴿اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ...﴾ الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما ذكر إنكار المشركين للبعث واستبعادهم له كما حكى عنهم بقوله: {أَإِذَا كُنَّا تُرَابًا أَإِنَّا لَفِي
(١) المراغي.
(٢) المراغي.
159
Icon