تفسير سورة الحجر

تفسير ابن عرفة - النسخة الكاملة
تفسير سورة سورة الحجر من كتاب تفسير ابن عرفة المعروف بـتفسير ابن عرفة - النسخة الكاملة .
لمؤلفه ابن عرفة . المتوفي سنة 803 هـ

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

سُورَةُ الْحِجْرِ
مكية
قوله تعالى: ﴿ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا... (٣)﴾
ابن عرفة: انظر هل يؤخذ منها أن الزائد على الشبع حرام لأن الآية خرجت مخرج الذم لهم والذم على تحصيل القوت ليس يحسن قال: ويجاب بأن الذم على المجموع وهو أكل القوت والتمتع واللهو.
قوله تعالى: ﴿بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ (١٥)﴾
لا يستقل الكلام فالجواب: أنه أفاد الإخبار بكمال عبادتهم وأنهم جماعة كثيرون وتعدد الأشخاص مظنة التفطن والتفهم ومع هذا فكلهم يتعامون وتعمهم الضلالة ولا يصدق إلى الإيمان به بوجه.
قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ... (٢٦)﴾
قال بعضهم: هذا دليل على إبطال القول بحوادث لَا أول لها وهل هذا كقولك هذا [شراب من عسل من نحل*]، أو كقولك هذا من سكر من قصب، أو كقولك هذا عسل من تمر بمعنى أن العسل يستخرج من التمر قال هو من الثاني.
قوله تعالى: ﴿إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ صَلْصَالٍ... (٢٨)﴾
قوله تعالى: ﴿كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (١٢)﴾
الكاف في موضع رفع على أنها خبر مبتدأ أو في موضع نصب صلة لمصدر محذوف فعلى الأول.
قال الزمخشري: مثل ذلك (نَسْلُكُهُ) أبو حيان: الأمر كذلك ورد الخولاني بأنه لا رابط بينه وبين (نَسْلُكُهُ) والمقام مقام الوصل [فما قاله الزمخشري أصح*].
قوله تعالى: ﴿لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ... (١٣)﴾
قالوا حال، قال الخولاني: مما قيل له من المجرمين، فقال: لَا تأتي الحال من المضاف إليه حسبما قال ابن مالك: والحال لَا تأتي من المضاف إليه إلا إذا اقتضى المضاف إليه علمه أو كان بعض ما أضيف إليه كبعض من غيره من قدموا وكذلك تأنيث الفعل إذا كان فاعله المذكور مضافا لمؤنث هو جزء منه أو كالجزاء كقوله تعالى: (يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ) ومثال إتيان الحال من
المضاف إليه قوله تعالى: (مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا)، (إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُم جَمِيعًا) ورده أبو حيان: بأن ذلك كله منصوب على معنى أمدح قال وليس لإتيان الحال من المضاف إليه نظير، قيل للخولاني: كما صح تأنيث الفعل تنزيلا للمضاف منزلة المضاف إليه كذلك يصح إتيان الحال من المضاف إليه فقال لا نظير له قبل قد أنشد عليه ابن عصفور في شرح الإيضاح:
[تَرَى أرْمَاحَهُمْ مُتَقَلديها إذَا صَدِئَ الحَدِيدُ على الكُماةِ*]
ولا يصح تأويل هذا على المدح، قال الخولاني: ويمتنع كون لَا يؤمنون حالا لأنه منفي بلا ولو كان حالا لكان بالواو ونقل ذلك عن ابن عرفة قال: بابا في السماء لأن من الابتداء الغاية يستدعي على المنهي والباب مبتدأه ومنتهاه في السماء، فقال الظرفية: تصدق بأدنى شيء وبأدق الأحوال فتجعل من التبعيض.
قوله تعالى: ﴿بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ (١٥)﴾
ابن عرفة: هذا إضراب انتقال؛ لأنهم إنما أضربوا عن مفهوم قوله: (سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا) لأن مفهومه أن باقي جسدهم لَا ينكر، وما ذاك صحيحا فأضربوا عن هذا المفهوم وقالوا: [بل*] جميع ذواتنا مسحورة ولو كان إضراب إبطال للزم عليه أن تكون أبصارهم غير مسحورة وليس ذلك مرادهم وقوله تعالى: (إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا) ظاهرة وكالمناقض بقوله: (بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ).
قوله تعالى: ﴿وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ (٦)﴾.
قال ابن عرفة: الوصف بالأخص هو القرآن، والذكر وصف أعم، فلم عبروا بالأعم دون الأخص؟ قال: والجواب أن في التفسير بالأخص تنبيه [لتلك*] المعجزات [التي*] ورد بها القرآن وهم متعبدهم ذلك] [**وأخذاه وانظر إلى المثل السائر ذكر بني الظعن وكنت غافلا]. قوله: (إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ) قال [ابن زيتون*]: أرادوا أن اتصافه بما جاء به من الوحي مستفاد من الجن الذي يسترقون السمع، فرده ابن عرفة وقال: إنهما أرادوا به جنون.
قوله تعالى: ﴿مَا نُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَا كَانُوا إِذًا مُنْظَرِينَ (٨)﴾
يحتمل وجهين أحدهما: لأن حكمة الله تعالى جارية في أن نزل الملائكة لغير النبي إنما هو للانتقام منه أو لبعض روحه، الثاني: أن حكمة الله تعالى جرت في إيمان خلاقه إنما يكون نظر ما بالدليل والبرهان ولو نزلت الملائكة لاضطر خلقه إلى الإيمان؛ لأنهم رأوا الحق عيانا والمعجزات التي أمر بها أصحابه ولم يروها ورأيناها نحن عيانا
[لأنَّا*] في القرن الثامن وقد شاهدنا القرآن محفوظا عن المخالفة باقيا على حاله لم يتبدل فيه شيء بوجه، ولما عرف القاضي عياض في المدارك وإسماعيل القاضي قال: حدثنا عمرو المغربي عن أبي المساني القاضي قال: كنت عند إسماعيل يوما فسئل في إجازة التبديل على أهل التوراة ولم يجز على أهل القرآن، فقال قال تعالى: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) فلم [يجز*] التبديل عليه فذكر ذلك للمحاملي، فقال: ما سمعت كلاما أحسن من هذا، وقال عياض: وبمثله أجاب محمد بن وضاح لنصراني سأله عن هذا [فبينه*].
قوله تعالى: ﴿إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ... (٢٨)﴾
نقل ابن عطية هنا خلافا في إبليس هل هو من الملائكة قال: والظاهر من هذه ومن كثير من الأحاديث أنه من الملائكة واستبعده ابن عرفة: لأن الملائكة معصومون قاله الأصوليون، وحكى الطبراني عن ابن عباس: إن الله تعالى خلق ملائكة وأمرهم بالسجود لآدم فأبوا فأرسل عليهم نارا، ورده ابن عرفة بثبوت العصمة للملائكة.
قوله تعالى: ﴿رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي... (٣٩)﴾
الزمخشري: قسم هنا بالإغواء وفي (ص) (قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ
أَجْمَعِينَ) أقسم هنا بالفعل وهناك بالصفة قال فعَادتهم يقولون هذا مناقض لأصل الزمخشري ولأنه ينفي الصفات جملة يقولون إن الله سميع لَا يسمع ولا يبصر عالم لَا يعلم مريد لَا بإرادة قادر لَا بقدرة بل سميع بذاته بصير بذاته.
قوله تعالى: ﴿الْمُخْلَصِينَ (٤٠)﴾
قلت لابن عرفة: (الْمُخْلَصِينَ) يغويهم ولا يسمعون منه، فقال: بل لَا يقدر على إغوائهم بوجه لكن زين لهم فقط لأن التزيين هو تحسين القبائح والإغواء هو الحمل على الوقوع فيها فالإغواء يستلزم الفعل والتزيين لَا يستلزم فقوله: (إِلا عِبَادَكَ) مستثنى من الإغواء لَا من التزيين فالمخلصون يزين لهم ولا يغويهم.
قوله تعالى: ﴿وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ (٤٣) لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ... (٤٤)﴾
ابن عطية: الطبقة الأولى جهنم، الثانية: الحطمة وهي طبقة اليهود، والثالثة: السعير وهي طبقة النصارى، وقال القونوي عكس هذا إن النصارى في الثانية، واليهود في الثالثة، وضعفه ابن عرفة قال: لأنهم مهما كثرت الرسل [كثرت*] عقوبة مكذبها، وقوم موسى كفروا بموسى فقط، والنصارى كفروا بعيسى وهو بعد موسى فعذابهم أشد لأنه سبقه من الأنبياء كثير دعوا إلى مثل ما دعا هو قومه.
قوله تعالى: (لِكُلِّ بَابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ).
الضمير عائد على الغاوين.
قوله تعالى: ﴿إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (٤٥)﴾
ابن عرفة: قالوا إما كونهم مظروفين في الجنة فظاهر وإما حلولهم في العيون فلا يتصور فلا بد من حذف مضاف أي في نعيم جنات وعيون، قال: وهذا إما مجاز تسمية الشيء بما يؤول إليه أو من مجاز التقليب لأن المتقين ليس لهم حين نزول الآية في الجنان إذ هم أحياء لم يمت منهم إلا القليل أو غلب من مات على ممن لم يمت، كما قال: [(وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ) *].
قوله تعالى: ﴿ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ آمِنِينَ (٤٦)﴾
قال بعضهم: (بِسَلامٍ) متعلق بمحذوف (آمِنِينَ) منصوب بادخلوا فالسلام صفة للقائلين والأمر صفة للداخلين معناه يقال لهم بسلام ادخلوها آمِنِينَ أي يقال لهم: سلام عليكم.
قوله تعالى: ﴿وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ... (٤٧)﴾
قال بعضهم: هذا دال على أن الغل لنا في التقوى، قيل لابن عرفة: لعل الغل في قلوبهم وهم يجاهدونه، فقال هذه صفة ممدوحة وهذا إن كان النزع في الآخرة وإن كان في الدنيا فلا كلام، وقال ابن عرفة مرة أخرى: هذه الآية تدل على أن التقوى مساوية للإيمان وليست أخص قسمة بخلاف غيرها من الآيات إذ لو كانت أخص منه لما كان في قلوبهم غل.
قال الزمخشري: وعن الحارث الأعور كنت جالسا عند علي بن أبي طالب إذ جاءه ابن طلحة، فقال له علي: مرحبا بكم يا ابن أخي أما أنا والله لأرجو أن أكون أنا وأبوك ممن قال الله تعالى في حقه: (وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِنْ غِلٍّ) فقال له قائل: كلام الله أعدل من أن يجمعك وطلحة في مكان واحد، فقال: لمن هذه الآية لَا أم لك.
قال ابن عرفة: لأن طلحة كان يقاتل عليا مع معاوية.
قوله تعالى: ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ (٧٥)﴾
قال القاضي عياض في المدارك: لما عرف بعيسى ابن سعادة من مشاهير العرب قال، قال أبو الحسن القابسي: لما أتينا مرة ابن محمد الحافظ أنا وعيسى بن سعادة
والأصيل واقعناه نازلا من درج مسجد، وقال من هؤلاء قول معاوية فوقف فسلمنا عليه ثم رجع فقعد ونظر في وجوهنا فقال ما أدري إلا خيرا حدثونا عن محمد بن كثير عن سفيان الثوري عن [عمرو بن قيس الملائي*] عن عطية العوفي عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله ﷺ قال: "احذروا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله تعالى"، وتلا (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ).
قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ (٨٧)﴾
قال ابن عرفة: كان بعض البغداديين يقول إنما خصص لفظ السبع هنا لأن العدد الكامل الزائد على العدد التام إلا جزعا لأن الستة عدم تام الأجزاء قال: وعادتهم يجيبون إيتاء النعم والسكوت وتناسبها وهو أكمل من إتيانها والمد بها حسبما نبه عليه الزمخشري في سورة البقرة، وأنشد عليه:
وإن امرءا أسدى إلي بنعمة وذكر فيها مرة لبخيل
ولا شك أن المقام شريف فلما ذكر رسول الله ﷺ بهذه النعمة، قال: [وأجيب*] بوجهين أحدهما: أن التذكير بالنعمة الماضية إن كان إشعارا بورود نعمة أخرى في المستقبل فلا شيء فيه، وإنما يكون امتنانا إذا لم يشعر بوروده نعمة أخرى في المستقبل وعليه قوله تعالى: (أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى (٦) وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى (٧). الثاني: إنه ذكرها ليرتب عليها أمرا تكليفيا فيكون داخل في مقام الامتثال.
ابن عرفة: فإن قلت: الجملة الثانية كانت مسببة من الأولى فهلا عطفت بالفاء فكان يقال: فلا تمدن عينيك، فالجواب: إنه لما كانت السببية ظاهرة أغنت عن الإتيان بالفاء [والله المستعان والموفق*].
Icon