تفسير سورة الأحزاب

صفوة البيان لمعاني القرآن
تفسير سورة سورة الأحزاب من كتاب صفوة البيان لمعاني القرآن .
لمؤلفه حسنين مخلوف . المتوفي سنة 1410 هـ
مدنية، وآياتها ثلاث وسبعون

بسم الله الرحمان الرحيم
﴿ اتق الله ﴾ دم على التقوى. أو ازدد منها ؛ وهو صلى الله عليه وسلم أتقى المتقين. ﴿ ولا تطع الكافرين والمنافقين ﴾ ودم على عدم إطاعتهم فيما يطلبونه منك من رفض ذكر آلهتهم، وأن تقول إنها تشفع وتنفع. وهو تخصيص بعد تعميم ؛ لاقتضاء المقام الاهتمام به.
﴿ وكفى بالله وكيلا ﴾ حافظا متوليا كل أمورك.
﴿ ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه ﴾ مثل ضربه الله للمظاهر من امرأته، والمتبني ولد غيره تمهيدا لما بعده. أي كما لم يخلق الله للإنسان قلبين في جوفه، لم يجعل المرأة الواحدة زوجا للرجل وأما له، والمرء دعيا لرجل وابنا له. ﴿ وما جعل أزواجكم اللائي تظاهرون منهن أمهاتكم ﴾ بتحريمهن على أنفسكم تحريما مؤبدا. يقال : ظاهر من امرأته وتظهّر وظهّر، إذا قال أنت علي كظهر أمي ؛ يريد به تحريمها عليه كأمه. وقد رد الله تعالى عليهم في سورة المجادلة بقوله : " الذين يظاهرون منكم من نسائهم ما هن أمهاتهم إن أمهاتهم إلا اللائي ولدنهم ليقولون منكرا من القول وزروا ".
﴿ وما جعل أدعياءكم أبناءكم ﴾ جمع دعي، وهو الذي يدعى ابنا لغير أبيه. وكان الرجل يتبنى
ولد غيره، ويجرى عليه أحكام البنوة النسبية ؛ ومنها حرمة تزوجه بمطلقته، كما تحرم زوجة الابن النسبي على أبيه. فأبطل الله بذلك حكم هذا الظهار وأبطل التبني. ﴿ ذلكم ﴾ أي ما ذكر منهما﴿ قولكم بأفواهكم ﴾ أي مجرد قول باللسان لا يحكي الواقع. ﴿ والله يقول الحق ﴾ أي القول الثابت المحقق﴿ وهو يهدي السبيل ﴾ يرشد إلى سبيل الحق.
﴿ ادعوهم لآبائهم ﴾ انسبوهم لآبائهم النسبيين دون غيرهم. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد تبنى قبل البعثة زيد بن حارثة بعد أن أعتقه ؛ فما كان يدعى إلا زيد بن محمد. فلما نزلت الآية قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( أنت زيد بن حارثة ابن شراحيل ). ﴿ هو أقسط ﴾ أعدل. ﴿ فإن لم تعلموا آباءهم ﴾ لتنسبوهم إليه. ﴿ فإخوانكم ﴾ فهم إخوانكم﴿ في الدين ومواليكم ﴾ أي أولياؤكم فيه ؛ فادعوهم بالأخوة والمولوية، وقولوا للواحد منهم : أخى ومولاي. ولذا قبل لسالم بعد نزول الآية : سالم مولى أبي حذيفة، وكان قد تبناه قبل.
﴿ النبي أولى بالمؤمنين ﴾ أي أحق بهم من أنفسهم في الطاعة ؛ فإذا دعاهم إلى أمر، ودعتهم نفوسهم إلى خلافة وجب أن يؤثروا وما دعاهم إليه على ما دعتهم أنفسهم إليه ؛ لأنه لمزيد شفقته عليهم ونصحه لهم لا يدعوهم إلا إلى ما فيه نجاتهم. ونفوسهم كثيرا ما تدعوهم إلى ما فيه هلاكهم. ﴿ وأزواجه أمهاتهم ﴾ أي كأمهاتهم في وجوب تعظيمهن، وحرمة نكاحهن بعده صلى الله عليه وسلم حرمة مؤبدة.
وأما فيما عدا ذلك من النظر إليهن والخلوة بهن وإرثهن ونحو ذلك فهن فيه كالأجنبيات ؛ ولذا لم يتعد التحريم إلى بناتهن. ﴿ وأولو الأرحام ﴾ أي ذوو القرابات مطلقا : عصبة وغير عصبة﴿ بعضهم أولى ببعض ﴾ في الإرث﴿ في كتاب الله ﴾ أي فيما أنزله الله في كتابه، وهو آية المواريث في سورة
النساء ١. ﴿ من المؤمنين والمهاجرين ﴾ بيان لأولى الأرحام. وكان بالمدينة توارث بين المهاجرين والأنصار بالهجرة والمؤاخاة – كما تقدم في آية ٧٢ من الأنفال – ثم نسخ بآية ٧٥ منها وأكد النسخ بهذه الآية، وجعل التوارث بحق القرابة. ﴿ إلا أن تفعلوا إلى أوليائكم معروفا ﴾ أي لكم إذا أوصيتم إلى من توادونهم من هؤلاء بشيء من أموالكم كان ذلك جائزا ؛ فيكون لهم بحكم الوصية لا الميراث.
١ الآيات ١١، ١٢، ١٢٦..
﴿ وإذا أخذنا من النبيين ميثاقهم... ﴾ أي واذكر وقت أخذنا من جميع النبيين العهد الوثيق بتبليغ الرسالات وإقامة الدين الحق. أو بتصديق بعضهم بعضا في أصول الشرائع. وخص خمسة منهم بالذكر، وهم أولو العزم من الرسل لفضلهم على سائرهم ؛ وقدم ذكر نبينا صلى الله عليه وسلم لمزيد فضله عليهم وعلى سائر النبيين. صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.
﴿ يأيها الذين آمنوا... ﴾ بيان لمزيد فضله تعالى على المؤمنين في صرفه أعداءهم عنهم وهزمه إياهم حين تحزبوا عليهم ؛ وذلك في شوال سنة خمس أو أربع من الهجرة. وتسمى غزوة الأحزاب وغزوة الخندق.
﴿ إذ جاءتكم جنود ﴾ وهم قريش وبنو أسد وغطفان وبنو عامر وبنو سليم وقريظة والنضير، وكانوا زهاء اثني عشر ألفا. ولما سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بإقبالهم أمر بحفر خندق حول المدينة بإشارة سلمان الفارسي. ﴿ فأرسلنا عليهم ريحا ﴾ هي ريح الصبا وكانت شديدة البرودة. ﴿ وجنودا لم تروها ﴾ هم الملائكة، ولم يقاتلوا في هذه الغزوة ؛ وإنما ألقوا الرعب في قلوب المشركين.
﴿ وإذ زاغت الأبصار ﴾ مالت عن سننها حيرة ودهشة، شاخصة لا تلتفت إلى شيء إلا إلى عدوها.
يقال : زاغ يزيغ زيغا وزيغانا. مال. وزاغ البصر : كل ؛ وكلالة من استدامة شخوصه من شدة الهول. ﴿ وبلغت القلوب الحناجر ﴾ نبت عن أماكنها من الصدور، حتى بلغت الحلاقيم. وهو كناية عن شدة اضطراب القلوب ووجيبها من عظم الفزع والخوف.
﴿ وتظنون بالله الظنونا ﴾ أي الظنون المختلفة. ظن المنافقون أن المسلمين يستأصلون، وأيقن المؤمنون حقا أن وعد الله حق وأنهم هم المنصورون.
﴿ هنالك ابتلى المؤمنون ﴾ أي في ذلك المكان الدحض اختبر الله المؤمنين بالخوف والجوع وشدة الحصار ؛ ليتبين المخلصون من المنافقين.
﴿ والذين في قلوبهم مرض ﴾ هم المنافقون. والعطف لتغاير الصفات.
﴿ غرورا ﴾ باطلا من القول. يقال : غره غرا وغرورا وغرة، خدعه وأطمعه بالباطل، فاغتر هو. وكان القائلون بهذه المقالة نحو سبعين رجلا من المنافقين.
﴿ لا مقام لكم ﴾ أي لا إقامة ولا مكان إقامة لكم ههنا﴿ فارجعوا ﴾ إلى بيوتكم بالمدين.
﴿ ويستأذن فريق منهم النبي ﴾ هم بنو حارثة بن الحارث وبنو سلمة. ﴿ إن بيوتنا عورة ﴾ خالية ضائعة غير حصينة. يقال : دار ذات عورة، ودار معورة : إذا كان يسهل دخولها وكل مكان ليس بممنوع ولا مستور فهو عورة. والعورة في الأصل : الخلل في البناء ونحوه.
﴿ من أقطارها ﴾ جوانبها ونواحيها. ﴿ سئلوا الفتنة ﴾ أي طلب منهم مقاتلة المسلمين. ﴿ لآتوها ﴾ أي لأعطوها وفعلوها. ﴿ وما تلبثوا بها إلا يسيرا ﴾ أي ما تأخروا بالفتنة إلا زمانا يسيرا قدر ما يأخذون أسلحتهم. والتلبث : الإبطاء والتأخر ؛ وهو تمثيل لإسراعهم إلى القتال وهم في أشد حال إذا ما دعوا إلى مقاتلة المسلمين، لفرط كراهتهم لهم، فضلا عن تعللهم باختلال البيوت مع سلامتها.
﴿ لا يولون الأدبار ﴾ لا يفرون ولا ينهزمون ؛ كنى عن ذلك بتولي الأدبار، لأن المنهزم الفار يولي ظهره من فر منه.
﴿ قد يعلم الله المعوقين منكم ﴾ المثبطين عن القتال، الصارفين الناس عن نصرة الرسول صلى الله عليه وسلم. وهم طائفة من المنافقين كانوا يخذلون المسلمين ؛ من العوق وهو المنع والصرف والتثبيط ؛ كالتعويق والاعتياق. يقال : عاقه يعوقه عوقا، وعوقه واعتاقه : صرفه عن الوجه الذي يريده.
﴿ والقائلين لإخوانهم هلم إلينا ﴾ تعالوا إلى ما نحن فيه من الإقامة والأمن والدعة، ولا تشهدوا مع محمد قتالا ؛ فإنا نخاف عليكم الهلاك. اسم فعل أمر [ آية ١٥٠ الأنعام ص ٢٤٧ ]. ﴿ ولا يأتون البأس ﴾ الحرب والقتال﴿ إلا قليلا ﴾ أي إلا إتيانا قليلا حين لا يجدون منه بدا ؛ فيأتون رياء وسمعة لا احتسابا عند الله تعالى.
﴿ أشحة عليكم ﴾ بخلاء عليكم بالنصرة والنفقة في سبيل الله والمعاونة في حفر الخندق، وبكل ما فيه منفعة لكم. جمع شحيح ؛ من الشح وهو البخل مع الحرص. منصوب على الحال من ضمير " يأتون ". ﴿ فإذا جاء الخوف ﴾ من جهة العدو أو منه صلى الله عليه وسلم﴿ رأيتهم ينظرون إليك ﴾ خوفا من القتال أو منك﴿ تدور أعينهم ﴾ بأحداقهم يمينا وشمالا دون أن تطرف. ﴿ كالذي يغشى عليه من الموت ﴾ أي كدوران عيني الذي تغشاه سكرات الموت ؛ لذهوله وشدة خوفه.
﴿ سلقوكم بألسنة حداد ﴾ أي بسطوا فيكم ألسنتهم الذرية بالأذى والسب والتنقيص. يقال : سلق البيض وغيره يسلقه، أغلاه بالنار إغلاءة خفيفة. وسلقه بالكلام : آذاه به. وأصل السلق :
بسط العضو ومده للقهر، يدا كان أو لسانا. و " حداد " : أي ماضية صارمة تؤثر تأثير الحديد. يقال : حد السكين وأحدها وحددها، مسحها بحجر أو مبرد ؛ فهي حديد. ﴿ أشحة على الخير ﴾ بخلاء حريصين على الغنيمة، يشاحون المؤمنين عند قسمتها.
﴿ يودوا لو أنهم بادون في الأعراب ﴾ يتمنى المنافقون إذا فرض رجوع الأحزاب للقتال مرة أخرى، أن يكونوا غيبا عنكم في البادية مع الأعراب حضرا من القتل ؛ لشدة خوفهم وجبنهم. قال : بدا القوم بدا، خرجوا إلى البادية. وقوم بدى وبدا : بادون. والأعراب : جمع أعرابي وهم أهل البادية ؛ كما أن العرب جمع عربي وهم أهل الحاضرة.
﴿ لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة ﴾ أي خصلة حسنة من حقها أن يؤتسى ويقتدى بها، وهي الثقة بالله والثبات في الشدائد، والصبر على المكاره والقتال بنفسه. أو قدوة صالحة ؛ بمعنى المؤتسى به أي المقتدى به. وقرئ بكسر الهمزة. والخطاب للمؤمنين الخلّص.
﴿ فمنهم من قضى نحبه ﴾ أدى نذره، ووفى بعهده مع الله حتى استشهد في سبيله. والنحب : النذر. وقضاؤه : الوفاء به. يقال : نحب – كنصر – إذا نذر. وقيل " قضى نحبه " : أي مات على ما هو عليه من الصدق والوفاء.
﴿ ليجزي الله... ﴾ أي ابتلاهم الله برؤية ذلك الخطب ليجزى﴿ ويعذب المنافقين ﴾ أي في الآخرة﴿ إن شاء ﴾ أن يموتوا على نفاقهم﴿ أو يتوب عليهم ﴾ أي يوفقهم للتوبة، أو يقبل توبتهم إذا تابوا فلا يعذبهم فيها.
﴿ وأنزل الذين ظاهروهم... ﴾ وأنزل يهود قريظة الذين عاونوا الأحزاب على قتال المسلمين، ونقضوا العهد الذي كان بينهم وبين الرسول صلى الله عليه وسلم غدرا وخيانة. ﴿ من صياصيهم ﴾ أي من حصونهم جمع صيصية وهي كل ما يتحصن به ؛ ومنه قيل لقرن الثور والظبي وشوكة الديك التي في رجله : صيصية ؛ لتحصّنها بها. وكان ذلك إثر غزوة الخندق في آخر ذي القعدة، وقد حاصرهم الرسول صلى الله عليه وسلم خمسا وعشرين ليلة، ثم طلبوا حين اشتد البلاء عليهم أن ينزلوا على حكم سعد بن معاذ ورضي بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فحكم فيهم أن تقتل الرجال، وتقسم الأموال، وتسبى الذراري والنساء ؛ فكبّر النبي صلى الله عليه وسلم وقال :( لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبعة أرقعة ). فكان القتلى منهم على ما قيل ستمائة أو سبعمائة مقاتل.
﴿ وأرضا لم تطئوها ﴾ أي وأورثكم أرضا لم تطئوها بعد بقصد القتال وهي خيبر، وهي مدينة كبيرة محصنة، بينها وبين المدينة أربع مراحل، وكان فتحها في شهر المحرم من السنة السابعة. وتفصيل هذه الغزوات في السيرة.
﴿ قل لأزواجك... ﴾ طلب أزواج النبي صلى الله عليه وسلم – وهن تسع – السعة في النفقة وثيابا للزينة. فأمر أن يخيرهن بين التسريح بإحسان لينلن الدنيا، وبين الصبر على ضيق الحال ليظفرن في
الآخرة بالحسنى ؛ فاخترن – رضي الله عنهن – الله ورسوله والدار الآخرة. وقد كافأهن الله على ذلك بحرمة الزيادة عليهن، وحرمة استبدالهن بقوله : " لا يحل لك النساء من بعد ولا أن تبدل بهن من أزواج ولو أعجبك حسنهن ". ﴿ أمتعكن ﴾ أعطكن متعة الطلاق، وهي مستحبة للمطلقات الدخول بهن اللاتي سمي لهن مهر ؛ وهي حق على المتقين [ آية ٢٣٦ البقرة ص ٧٨ ]. ﴿ وأسرحكن سراحا جميلا ﴾ أطلقنكن طلاقا خاليا من الضرار أو من الخصومة، وهو التسريح بإحسان.
﴿ يا نساء النبي من يأت منكن بفاحشة... ﴾ وعظ لنسائه صلى الله عليه وسلم مع عصمة الله لهن وطهارتهن من كل سوء. أي من يأت منكن بمعصية ظاهرة القبح يضاعف عقابها ؛ فإن المعصية من رفيع الشأن أشد قبحا ؛ فناسب أن يضاعف جزاؤها. والجملة الشرطية لا تقتضي وقوع الشرط ؛ كما في قوله تعالى : " لئن أشركت ليحبطن عملك " ١.
١ آية ٦٥ الزمر..
﴿ ومن يقنت منكم ﴾ أي تخضع وتطع.
﴿ يا نساء النبي لستن كأحد من النساء... ﴾ أدب أدّب الله به نساء نبيه صلى الله عيه وسلم، وهن في مكان القدوة لسائر النساء، ومن حملة هدي النبوة للأمة. أي لستن كجماعة واحدة من جماعات النساء ؛ فإذا تقصيت أمة كما أمركن. أي إن دمتن على ما أنتن عليه من التقوى ؛ وهو شرط لنفي المثلية.
﴿ فلا تخضعن بالقول ﴾ لا ترققن الكلام ولا تلنه إذا خاطبتن الرجال. والعرب تعد من محاسن خصال النساء – جاهلية وإسلاما – تنزيه خطابهن عن ذلك لغير الزوج من الرجال. ﴿ وقلن قولا معروفا ﴾
حسنا محمودا بعيدا عن الريبة والأطماع.
﴿ وقرن في بيوتكن ﴾ الزمنها، فلا تخرجن لغير حاجة مشروعة. ومثلن في ذلك سائر نساء المسلمين.
والحكمة فيه : أن ينصرفن إلى رعاية شئون بيوتهن. وتوفير وسائل الحياة المنزلية التي هي من خصائصهن ولا يحسنها الرجال، وإلى تربية الأولاد في عهد الطفولة وهي من شأنهن. وقد جرت السنة الإلهية بأن أمر الزوجين قسمة بينهما ؛ فللرجال أعمال من خصائصهم لا يحسنها النساء، وللنساء أعمال من خصائصهن لا يحسنها الرجال ؛ فإذا تعدى فريق عمله اختل النظام في البيت والمعيشة. ومما يباح خروجهن لأجله : الحج، والصلاة في المسجد، وزيارة الوالدين، وعيادة المريض، وتعزية الأقارب، والعلاج ونحو ذلك ؛ بشروطه التي منها التستر وعدم التبذل. و " قرن " وقرئ " قرن " بكسر القاف ؛ كلاهما من القرار بمعنى السكون يقال : قر بالمكان يقر – بالفتح والكسر – إذا أقام فيه وثبت.
والأمر من الأول قرن، وأصله : اقررن – بفتح الراء الأولى – ومن الثاني قرن، وأصله : اقررن – بكسر الراء الأولى. ﴿ ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى ﴾ أي إذا خرجتن لحاجة فيحرم أن تبدي إحداكن من زينتها ما أوجب الله عليها ستره ؛ كالشعر والعنق والصدر والذراعين والساقين، مما شأنه أن يثير النظر إليه شهوة الرجال. ومن التبرج في بعض الروايات : المشية بتكسر وحركات مثيرة ؛ كما كان يفعل نساء الجاهلية الأولى. مأخوذ من البرج وهو سعة العين وحسنها. و " الأولى " بمعنى المقدمة. يقال لكل متقدم ومتقدمة : أول وأولى. أو هي بمثابة قولهم : الجاهلية الجهلاء.
﴿ إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس ﴾ تعليل لما تقدم من الأوامر والنواهي. والرجس : الإثم والذنب، والقذر والنقائض. والمراد هنا : ذهاب كل ذلك عنهم. و " آل " فيه للاستغراق، ويحتمل أن تكون للجنس. ﴿ أهل البيت ﴾ هم نساؤه صلى الله عليه وسلم بقرينة السياق.
﴿ واذكرن ما يتلى في بيوتكن من آيات الله والحكمة ﴾ أي اعملن بما ينزل في بيوتكن من القرآن الجامع بين كونه آيات بينات دالة على صدق النبوة، وكونه حكمة مشتملة على فنون العلوم والشرائع، والحكم والمواعظ، والآداب والفضائل. وفي الآية إشارة إلى أنهن – وقد خصصن بنزول الوحي في بيوتهن دون سائر الناس – أحق بهذه الذكرى من سواهن.
﴿ وما كان ﴾ أي ما صح﴿ لمؤمن ولا مؤمنة ﴾. والمراد : أنه لا يحل لأي مؤمن ولا لأي مؤمنة﴿ إذا قضى ﴾ أي أراد﴿ الله ورسوله أمرا ﴾ أي أراده رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وذكر " الله " للإشعار بأن ما يفعله صلى الله عليه وسلم إنما يفعله بأمر الله تعالى ؛ لأنه لا ينطق عن الهوى. ﴿ أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ﴾ أي أن يختاروا من أمورهم ما شاءوا ؛ بل يجب عليهم أن يذعنوا لأمره صلى الله عليه وسلم ويجعلوا رأيهم تابعا لرأيه في كل شيء. نزلت في زينب بنت جحش الأسدية ابنة أميمة بنت عبد المطلب عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم. ذلك أنه خطبها صلى الله عليه وسلم لمولاه وحبه زيد بن حارثة، وقال لها :( إني أريد أن أزوجك زيد بن حارثة وقد رضيته لك ) فأبت واستنكفت منه وقالت : يا رسول الله، أنا خير منه حسبا ! ووافقها أخوها عبد الله ؛ فلما نزلت الآية رضيا وسلما. فأنكحها رسول الله صلى الله عليه وسلم زيدا ودخل بها ومكثت عنده نحو سنة.
وكانت حديدة الطبع، تخشن له القول وتسمعه ما يكره، وتفخر عليه بحسبها ؛ فشكاها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورغب في فراقها فقال له :﴿ أمسك عليك زوجك واتق الله ﴾
﴿ أمسك عليك زوجك واتق الله ﴾ في أمرها، ولا تطلقها ضرارا وتعللا بحدتها وتكبرها. ﴿ وتخفي في نفسك ما الله مبديه ﴾ وهو ما أوحى الله إليك أن زيدا سيطلقها وتكون إحدى نسائك بتزويج الله إياها لك ؛ لكيلا يكون على المؤمنين حرج في التزوج
بمطلقات أدعيائهم بعد انقضاء عدتهن. فلم يخبره صلى الله عليه وسلم بذلك استحياء من أن يقول : إن التي معك ستكون زوجتي، ومن أن يقول الناس : إنه يتزوج مطلقة ابنه ؛ فعاتبه الله على إخفاء ذلك﴿ وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه ﴾ أي تستحي من قولهم، والله وحده أحق أن تخشاه. أي تستحي منه في كل أمر ؛ فتفعل ما أباحه لك وأذن لك فيه، وتبديه ولا تخفيه. فهو عتاب على ترك الأولى به صلى الله عليه وسلم. ﴿ فلما قضى زيد منها وطرا ﴾ أي حاجة، وطابت عنها نفسه، وطلقها وانقضت عدتها﴿ زوجناكها ﴾ جعلناها لك بلا عقد ومهر وشهود ؛ لكي لا يكون... وهو من خصوصياته صلى الله عليه وسلم. وكان ذلك في سنة خمس من الهجرة، وكانت سنها خمسا وثلاثين سنة، وكانت صوّامة قوّامة محسنة.
﴿ ما كان على النبي من حرج يما فرض الله له ﴾ أي قسم له وقدّر ؛ من قولهم : فرض له في الديوان كذا. أو فيما أحل الله له وأمره به من تزوج زينب التي طلقها دعية زيد بن حارثة رضي الله عنه. ﴿ سنة الله ﴾ أي سن الله ذلك سنة. ﴿ قدرا مقدورا ﴾ واقعا لا محالة. والقدر : إيجاد الأشياء على قدر مخصوص من الوجوه التي تقتضيها الحكمة والمصلحة. ويقابله القضاء، وهو الإرادة الأزلية المتعلقة بالأشياء على ما هي عليه ؛ وقد يستعمل كل منهما بمعنى الآخر. والأظهر أنه هنا بمعنى القضاء. و " مقدورا " وصف مؤكد ؛ كما في قولهم : ظل ظليل، ويوم أيوم.
﴿ حسيبا ﴾ محاسبا على عزائم القلوب وأفعال الجوارح ؛ فلا ينبغي أن يخشى غيره.
﴿ ما كان محمدا أبا أحد من رجالكم ﴾ أبوة حقيقية تترتب عليها أحكامها من الإرث والنفقة
وحرمت المصاهرة. وزيد من رجالهم، فليس النبي أبا له ؛ فلا يحرم عليه التزوج بمطلقته. ﴿ وخاتم النبيين ﴾ أي أنهم به ختموا ؛ فهو كالخاتم والطابع لهم. ختم الله به النبوة فطبع عليها ؛ فلا تفتح لأحد بعده إلى قيام الساعة. وقرئ بكسر التاء، بمعنى أنه ختمهم أي جاء آخرهم. وقيل : الخاتم – بكسر التاء وفتحها – بمعنى واحد ؛ مثل طابع وطابع. والمراد على القراءتين : أنه صلى الله عليه وسلم آخر أنبياء الله ورسله ؛ فلا نبي ولا رسول بعده إلى قيام الساعة ؛ فمن زعم النبوة بعده فهو كذاب أفّاك، وكفر بكتاب الله وسنة رسوله.
ولذا أفتينا بكفر طائفة القاديانية، أتباع المفتون علام أحمد القادياني الزاعم هو وأتباعه أنه نبي يوحى إليه، وأنه لا تجوز مناكحتهم ولا دفنهم في مقابر المسلمين. وكذلك أفتى الآلوسي بكفر البابية، وهم عصابة من غلاة الشيعة لهم عقائد مكفرة.
﴿ وسبحوه بكرة وأصيلا ﴾ نزهوه عما لا يليق به في وقت البكرة والأصيل ؛ أي أول النهار وآخره. وتخصيصهما بالذكر ليس لقصر التسبيح عليهما دون سائر الأوقات ؛ بل لإنافة فضلهما على سائرها. وقيل : المراد من التسبيح فيهما صلاة الغداة وصلاة العصر.
﴿ تحيتهم يوم يلقونه سلام ﴾ أي تحية المؤمنين من الله تعالى يوم لقائهم له عند الموت أو عند البعث أو عند دخول الجنة : هي التسليم عليهم على لسان ملائكته الدال على السلامة من كل مكروه وآفة.
﴿ فمتعوهن ﴾ فأعطوهن المتعة المعروفة وجوبا إن لم يكن لهن مهر مسمى، واستحبابا إن كان قد سمي لهن مهر مع نصفه. ويجوز أن يراد بالمتعة العطاء ؛ فيعم نصف المهر المسمى الواجب للمطلقة قبل المسيس، والمتعة الواجبة للمطلقة قبل المسيس التي لم يسم لها مهر، ويكون الأمر للوجوب لا غير [ راجع آيات ٢٨ من هذه السورة، ٢٣٦، ٢٣٧ من البقرة ص ٧٨ ]. ﴿ وسرحوهن ﴾ أخرجوهن من منازلكم لعدم وجوب العدة عليهن، إخراجا عاريا عن أذى ومنع واجب.
﴿ أحللنا لك أزواجك التي آتيت أجورهن ﴾ أعطيت مهورهن، وهن نساؤه اللاتي في عصمته ؛ كعائشة وحفصة رضي الله عنهما. وأطلق على المهر أجر لمقابلته الاستمتاع الدائم بالبضع وغيره مما يحل الانتفاع به من الزوجة ؛ كما يقابل الأجر المنفعة. ﴿ وما ملكت يمينك مما أفاء الله عليك ﴾ أي من السبي ؛ كصفية بنت حيي بن أخطب، من سبي خيبر. وجويرية بنت الحارث، من سبي بني المصطلق. ﴿ وبنات عمك... ﴾ أي قراباتك من جهة الأب، وقراباتك من جهة الأم، وهن نساء قريش ونساء بني زهرة. ﴿ اللاتي هاجرن معك ﴾ أي حصلت منهن الهجرة وإن لم تقترن بهجرته صلى الله عليه وسلم. وتقييد إحلال الأرواح بإيتاء المهور، والمملوكات بكونهن مما أفاء الله عليه، والقرابات بكونهن مهاجرات – للإرشاد إلى ما هو الأفضل له صلى الله عليه وسلم ؛ لا لتوقف الحل عليه. ﴿ وامرأة مؤمنة إن وهبت نفسها... ﴾ أي وأحللنا لك امرأة مؤمنة إن ملكتك المتعة بها بأي عبارة كانت بلا مهر وأنت تريد ذلك ؛ فتكون إرادتك قبولا. وممن وهبن أنفسهن له صلى الله عليه وسلم خولة بنت حكيم. وقيل : لم تكن عنده صلى الله عليه وسلم امرأة إلا بعقد نكاح أو ملك يمين. وحل الواهبة نفسها له بلا مهر من خصائصه صلى الله عليه وسلم، فلا تحل لغيره إلا بمهر ؛ كما قال تعالى :﴿ خالصة لك ﴾ أي خلص لك إحلال الواهبة خالصة، أي خلوصا
بلا مهر ؛ فهي مصدر كالعافية. ﴿ من دون المؤمنين ﴾ فلا بد في الإحلال لهم من مهر المثل. ﴿ قد علمنا ما فرضنا عليهم في أزواجهم ﴾ أي في حق أزواجهم من شرائط العقد وحقوقه ؛ فلا يجوز لهم الإخلال به، ولا الإقتداء بالرسول صلى الله عليه وسلم فيما خصه الله به توسعة عليه وتكريما له. فلا يجوز لهم التزوج إلا بعقد ومهر وشهود، ولا تجوز لهم الزيادة على أربع.
﴿ ترجى من تشاء منهن... ﴾ بيان للتوسعة عليه صلى الله عليه وسلم في ترك القسم بين نسائه، وأنه لم يفرض عليه كما فرض على أمته ؛ فبخص بجعل الأمر إليه : إن شاء أن يقسم بينهن قسم، وإن شاء أن يترك القسم ترك. ولكنه مع هذا كان يقسم بينهن إلى أن مات – عدا سودة التي وهبت ليلتها لعائشة – تطييبا لنفوسهن، وصونا لهن عما تؤدى إليه الغيرة مما لا ينبغي من القول. وقيل : كان القسم واجبا عليه ثم نسخ وجوبه بهذه الآية. و " ترجى " تؤخر المضاجعة أي تتركها. و " تؤوى " أي تضم وتضاجع. وقيل الآية في الطلاق ؛ أي تطلق من تشاء منهن وتمسك من تشاء. وقيل في الأمرين ؛ لإطلاق الإرجاء والإيواء. ﴿ ومن ابتغيت ممن عزلت ﴾ أي طلبت إيواء من اجتنبتها. ﴿ فلا جناح عليك ﴾ في ذلك. ﴿ ذلك ﴾ أي تفويض الأمر من الله تعالى إلى مشيئتك. ﴿ أدنى ﴾ أقرب إلى﴿ أن تقر أعينهن ﴾ ويرضين عن طيّب نفس بما تصنع معهن ؛ فإذا سويت بينهن وجدن ذلك تفضلا منك، وإذا رجحت بعضهن علمن أنه بحكم الله تعالى وإذنه لك فيه، ولا حق لهن قبلك ؛ فتطمئن نفوسهن به.
﴿ لا يحل لك النساء من بعد ﴾ أي من بعد التسع اللاتي في عصمتك اليوم، وهن اللاتي اخترنك. ﴿ ولا أن تبدل بهن من أزواج ﴾ بأن تطلق واحدة منهن وتنكح بدلها أخرى ؛
فحرم عليه الزيادة عليهن والاستبدال بهن ؛ مكافأة لهن على اختياره صلى الله عليه وسلم. والآية محكمة. وقيل : منسوخة بآية " ترجى من تشاء " ؛ بناء على أن معناها : تطلّق من تشاء وتمسك من تشاء ؛ وأنها متأخرة في النزول عن هذه الآية وإن كانت متقدمة في التلاوة. وقيل : بآية " إنا أحللنا ". وعن عائشة وأم سلمة : ما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أحل له أن يتوج من النساء ما شاء. ولكن لم يقع منه صلى الله عليه وسلم زيادة ولا استبدال ؛ لتكون المنة له عليهن.
﴿ لا تدخلوا بيوت النبي... ﴾ نزلت في أناس كانوا يتحينون طعام رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ فيدخلون بيته قبل الطعام، ويمكثون منتظرين نضجه، ثم يأكلون ولا يخرجون، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتأذى بهم. أي لا تدخلوا بيوت النبي إلا وقت أن يؤذن لكم إلى طعام – أي تدعوا إليه – ولا تدخلوها غير منتظرين نضجه وإدراكه. فالنهي مخصوص بمن دخل من غير دعوة، ومكث منتظرا للطعام من غير حاجة ؛ فلا تفيد الآية النهي عن الدخول بإذن لغير طعام، ولا عن المكث بعد الطعام لمهم آخر. و " غير ناظرين " حال من ضمير " تدخلوا ". و " إناه " أي نضجه وبلوغه. يقال : أنى الطعام يأنى أنيا وإنى – كقلى يقلى – إذا نضج وبلغ. ﴿ ولكن إذا دعيتم ﴾ أي إلى الطعام ؛ وهو يتضمن الإذن بالدخول. ﴿ فادخلوا فإذا طعمتم ﴾ أي أكلتم الطعام.
يقال : طعم يطعم طعما، ذاق وأكل. ﴿ فانتشروا ﴾ فتفرقوا ولا تمكثوا في البيت. ﴿ ولا مستأنسين لحديث ﴾ أي ولا تدخلوها مستأنسين لحديث بعضكم بعضا. والظاهر – كما قال الآلوسي – حرمة المكث على المدعو للطعام بعد أن يطعم إذا كان في ذلك أذى لرب البيت. وليس ما ذكر مختصا بالمخاطبين، ولا بالمكث في بيت النبي صلى الله عليه وسلم ؛ بل هو حكم وأدب عام.
﴿ وإذا سألتموهن ﴾ إذا طلبتم من نسائه صلى الله عليه وسلم﴿ متاعا ﴾ شيئا يتمتع به من الماعون ونحوه. ومثله العلم والفتيا. ﴿ فسألوهن من وراء حجاب ﴾ أي ستر بينكم وبينهن. ﴿ ذلكم ﴾ أي
السؤال من وراء الحجاب﴿ أطهر لقلوبكم وقلوبهن ﴾ من الريب وخواطر السوء. وكان نزول آية الحجاب في شهر رمضان من السنة الخامسة من الهجرة. وحكم نساء المؤمنين في ذلك حكم نسائه صلى الله عليه وسلم. ﴿ وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله ﴾ أي تفعلوا فعلا يؤذيه نحو اللبث في بيته، والاستئناس فيه بالحديث الذي كنتم تفعلونه، ومكالمة نسائه من دون حجاب. ﴿ ولا أن تنكحوا أزواجه من بعده أبدا ﴾ أي من بعد وفاته أو فراقه، لأنهن أمهات المؤمنين، ولا يحل للأولاد نكاح الأمهات. ﴿ إن ذلكم ﴾ أي إيذاءه ونكاح أزواجه من بعده. ﴿ كان عند الله ﴾ ذنبا.
﴿ عظيما ﴾ جسيما.
﴿ لا جناح عليهن... ﴾ استئناف لبيان من لا يجب عليهن – وكذا على غيرهن من النساء – الاحتجاب عنهن ؛ ولم يذكر العم والخال لأنهما بمنزلة الوالدين.
﴿ إن الله وملائكته يصلون على النبي ﴾ المراد بالصلاة هنا العطف، وهو من الله الرحمة، ومن الملائكة الاستغفار، ومن الناس الدعاء. ﴿ وسلموا تسليما ﴾ قولوا : السلام عليك أيها النبي ونحوه. والسلام : مصدر بمعنى السلامة ؛ أي السلامة من النقائص والآفات لك، أي ملازم لك. ولتضمنه معنى الثناء عدي بعلى.
﴿ يدنين عليهن من جلابيبهن ﴾ يسدلن الجلابيب عليهن حتى يسترن أجسامهن من رؤوسهن إلى أقدامهن. والإدناء : التقريب، ولتضمنه معنى السدل أو الإرخاء عدي بعلى. والجلابيب : جمع جلباب، وهو ثوب يستر البدن يعرف بالملاءة أو الملحفة.
﴿ لئن لم ينته المنافقون ﴾ عن نفاقهم. ﴿ والذين في قلوبهم مرض ﴾ هم المنافقون ؛ والعطف لتغاير الصفات مع اتحاد الذات. ﴿ والمرجفون في المدينة ﴾ هم المنافقون ؛ والعطف لما ذكر. وقيل : هم من حول المدينة من اليهود وكانوا ينشرون أخبار السوء عن سرايا المسلمين، ويلفّقون الأكاذيب الضارة بالمسلمين ويذيعونها ؛ من الإرجاف وهو إشاعة الكذب والباطل للاغتمام به. وأصله التحريك الشديد ؛ مأخوذ من الرجفة التي هي الزلزلة، وصفت به الأخبار الكاذبة لكونها في نفسها متزلزلة غير ثابتة. أو لإحداثها الاضطراب في قلوب المصدقين.
﴿ أينما ثقفوا ﴾ أينما وجدوا وظفر بهم﴿ أخذوا وقتلوا تقتيلا ﴾ وقد انتهى المنافقون عما هو المقصود بالنهي وهو الإيذاء فلم يقتلوا. أما اليهود فلم ينتهوا ووقع القتل والإجلاء لهم.
﴿ عرضنا الأمانة... ﴾ هي التكاليف والفرائض. أو كل ما يؤتمن عيه من أمر ونهي، وشأن دين ودنيا. وسميت أمانة لأنها حقوق أردعها المكلفين وائتمنهم عليها، وأوجب عليهم مراعاتها والمحافظة عليها، وأدائها من غير إخلال بشيء منها. ونقل القرطبي عن القفال وغيره : أن العرض في الآية ضرب مثل، أي أن هذه الأجرام على عظمها لو كانت بحيث يجوز تكليفها لثقل عليها تقلد الشرائع ؛ لما فيها من العقاب والثواب. أي أن التكليف أمر حقه أن تعجز عنه السموات والأرض والجبال، وقد حمله الإنسان وهو ظلوم جهول لو عقل. وفي القرآن من ضرب الأمثال كثير.
قيل : الآية من المجاز ؛ أي أنا إذا قايسنا ثقل الأمانة بقوة السموات والأرض والجبال، رأينا أنها لا تطيقها، وأنها لو تكلمت لأبت وأشفقت ؛ فعبّر عن هذا بعرض الأمانة. كما تقول : عرضت الحمل على البعير فأباه ؛ وأنت تريد قايست قوته بثقل الحمل فرأيت أنها تقصر عنه.
﴿ ليعذب الله المنافقين... ﴾ اللام للعاقبة ؛ أي لتكون عاقبة الحمل أن يعذب الله من لم يرع الأمانة ولم يقم بحقها، ويقبل توبة من أطاعه وراعى حقها، وأناب إليه تعالى في أموره. والله من لم يرع الأمانة ولم يهم بحقها، ويقبل توبة من أطاعه وراعى حقها، وأناب إليه تعالى في أموره. والله أعلم.
﴿ آتهم ضعفين من العذاب ﴾ عذابين يضاعف كل واحد منهما الآخر : عذابا على ضلالهم في أنفسهم، وعذابا على إضلالهم لنا.
﴿ وقولوا قولا سديدا ﴾ صوابا أو صدقا، أو قاصدا إلى الحق ؛ من سدد سهمه يسدده، إذا وجهه للغرض المرمي ولم يعدل عن سمته. والمراد من الأمر به : النهي عن ضده ؛ ومنهم ما قاله المنافقون في شانه صلى الله عليه وسلم وزيد وزينب.
Icon