تفسير سورة الصافات

النهر الماد من البحر المحيط
تفسير سورة سورة الصافات من كتاب النهر الماد من البحر المحيط .
لمؤلفه أبو حيان الأندلسي . المتوفي سنة 745 هـ

﴿ بِسمِ ٱلله الرَّحْمٰنِ الرَّحِيـمِ * وَٱلصَّافَّاتِ صَفَّا ﴾ الآية هذه السورة مكية ومناسبة أولها لآخر يس أنه تعالى لما ذكر المعاد وقدرته على إحياء الموتى وأنه هو منشئهم وإذا تعلقت إرادته بشىء كان ذكر تعالى وحدانيته إذ لا يتم ما تعلقت به الإِرادة وجوداً وعدماً إلا بكون المريد واحداً وأقسم تعالى بأشياء من مخلوقاته والصافات. قال ابن مسعود: هم الملائكة تصف في السماء في العبادة والذكر صفوفاً.﴿ فَٱلزَّاجِرَاتِ ﴾ قال مجاهد: الملائكة تزجر السحاب وغيرها من مخلوقات الله تعالى.﴿ فَٱلتَّٰلِيَٰتِ ﴾ القارئات قال مجاهد: الملائكة تتلو ذكره وذكر المشارق لأنها مطالع الأنوار والأبصار بها أللف وذكرها يغني عن ذكر المغارب إذ ذاك مفهوم من المشارق والمشارق ثلاثمائة وستون مشرقاً وكذلك المغارب تشرق الشمس كل يوم في مشرق منها وتغرب في مغرب ولا تطلع ولا تفرق في واحد يومين وقرأ الجمهور بزينة الكواكب بالإِضافة فاحتمل المصدر مضافاً للفاعل أي بأن زانت السماء الكواكب أو مضافاً للمفعول أي بأن زين الله الكواكب وقرىء: بزينة منوناً الكواكب بالخفض بدلاً من زينة وقرىء: بزينة منوناً الكواكب بالنصب فاحتمل أن تكون بزينة مصدراً والكواكب مفعولاً به واحتمل أن تكون الكواكب بدلاً من السماء أي زينا كواكب السماء.﴿ وَحِفْظاً ﴾ مصدر منصوب بإضمار فعل تقديره وحفظناها حفظاً.﴿ مَّارِدٍ ﴾ إسم فاعل وفي النساء مريداً للمبالغة وموافقة الفواصل هناك.﴿ لاَّ يَسَّمَّعُونَ إِلَىٰ ٱلْمَلإِ ٱلأَعْلَىٰ ﴾ كلام منقطع اقتصاصاً لما عليه حال المسترقة للسمع وأنهم لا يقدرون أن يتسمعوا أو يسمعون وهم مقذوفون بالشهب مبعدون عن ذلك إلا من أمهل حتى خطف الخطفة واسترق استراقة فعندها تعاجله الملائكة بالشهاب الثاقب وقرىء: لا يسمعون مضارع سمع وتعدى بإِلى ضمن معنى لا ينتهون بالسمع إلى الملأ وقرىء: يسمعون مضارع تسمع أرادوا إدغام التاء في السين وسكنوا التاء وأبدلوها سيناً كما أبدلوها في الناس فقالوا النات واجتلبوا همزة الوصل لأنه لا يمكن الإِدغام إلا بسكون التاء فصار إسمع وصار المضارع يسمع بإِدغام التاء في السين.﴿ وَيُقْذَفُونَ ﴾ يرجمون.﴿ مِن كُلِّ جَانِبٍ ﴾ جهة يصعدون إلى السماء منها والمرجوم بها هي التي يراها الناس تنقض وليست بالكواكب الجارية في السماء لأن تلك لا ترى حركتها وهذه الراجمة ترى حركتها لقربها ودحوراً مصدر في موضع الحال أي مطرودين والواصب الدائم والثاقب هو النافذ بضوئه وشعاعه المنير.﴿ فَٱسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً ﴾ الاستفتاء نوع من السؤال والهمزة في أهم وإن خرجت إلى معنى التقرير فهي في الأصل لمعنى الاستفهام أي فاستخبرهم والضمير لمشركي مكة وقيل نزلت في أبي الأشد بن كلدة وكني بذلك لشدة بطشه وقوته وعادل في هذا الاستفهام التقريري في الأشدية بينهم وبين ما خلق من غيرهم من الأمم من الجن والملائكة والأفلاك والأرضين.﴿ مِّن طِينٍ لاَّزِبٍ ﴾ اللازب اللازم ما جاوره واللاصق به.﴿ بَلْ عَجِبْتَ ﴾ خطاب للرسول عليه الصلاة والسلام وقرىء: عجبت وعجبت والظاهر أن ضمير المتكلم هو لله تعالى والعجب لا يجوز على الله تعالى.﴿ وَيَسْخَرُونَ ﴾" روي أن ركانة رجلاً من المشركين من أهل مكة لقيه رسول الله صلى الله عليه وسلم في جبل خال يرعى غنماً له وكان من أقوى الناس فقال له: يا ركانة أرأيت أن صرعتك أتؤمن بالله. قال: نعم فصرعه صلى الله عليه وسلم ثلاثاً ثم عرض عليه آيات من دعاء شجرة وإقبالها فلم يؤمن وجاء إلى أهل مكة فقال يا بني هاشم ساحروا بصاحبكم أهل الأرض فنزلت فيه وفي نظرائه ".﴿ وَإِذَا رَأَوْاْ آيَةً ﴾ الآية، قال الزمخشري: أو آباؤنا معطوف على محل ان واسمها أو على الضمير في مبعوثون والذي جوز العطف عليه الفصل بهمزة الاستفهام والمعنى أيبعث أيضاً آباؤنا على زيادة الاستبعاد يعنون أنهم أقدم فبعثهم أبعد وأبطل " انتهى ". أما قوله معطوف على محل ان واسمها فمذهب سيبويه خلافه لأن قولك أن زيداً قائم وعمرو مرفوع على الابتداء وخبره محذوف وأما قوله أو على الضمير في مبعوثون الخ فلا يجوز عطفه على الضمير لأن همزة الاستفهام لا تدخل إلا على الجمل لا على المفرد لأنه إذا عطف على المفرد كان الفعل عاملاً في المفرد بوساطة حرف العطف وهمزة الاستفهام لا يعمل ما قبلها فيما بعدها وقوله أو آباؤنا مبتدأ خبره محذوف تقديره مبعوثون ويدل عليه ما قبله فإِذا قلت أقام زيد أو عمر وفعمر ومبتدأ محذوف الخبر واستفهامهم تضمن إنكاراً واستبعاداً فأمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يجيبهم بنعم.﴿ وَأَنتُمْ دَاخِرُونَ ﴾ أي صاغرون وهي جملة حالية العامل فيها محذوف تقديره نعم تبعثون وزادهم في الجواب ان بعثهم وهم ملتبسون بالصغار والذل وهي كناية عن البعثة أي فإِنما بعثتهم زجرة أي صيحة وهي النفخة الثانية لما كانت بعثتهم ناشئة عن الزجرة جعلت إياها مجازاً.﴿ فَإِذَا هُمْ يَنظُرُونَ ﴾ أي ينظرون ما يفعل بهم وما يؤمرون به والظاهر أن قوله وقالوا: يا ويلنا من كلام بعض الكفار لبعض إلى آخر الجملتين أقروا بأنه يوم الجزاء وأنه يوم الفصل وخاطب به بعضهم بعضاً ويوم الدين يوم الجزاء والمعاوضة ويوم الفصل يوم الفرق بين فرق الهدى وفرق الضلال.﴿ ٱلَّذِي كُنتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ ﴾ توبيخ لهم وتقريع.﴿ ٱحْشُرُواْ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ وَأَزْوَاجَهُمْ ﴾ الآية، هو خطاب من الله للملائكة أو خطاب الملائكة بعضهم لبعض أي اجمعوا الظالمين ونساءهم الكافرات قاله ابن عباس: فاهدوهم أي عرفوهم وقودوهم إلى طريق النار حتى يسلكوها والجحيم طبقة من طبقات جهنم.﴿ وَقِفُوهُمْ ﴾ وقوف توبيخ لهم.﴿ إِنَّهُمْ مَّسْئُولُونَ ﴾ قال الجمهور عن أعمالهم وفي الحديث" لا تزول قدما عبد حتى يسأل عن خمس شبابه فيما أبلاه وعمره فيما أفناه وعن ماله كيف اكتسبه وفيما أنفقه وعن ما عمل فيما علم ".﴿ مَا لَكُمْ لاَ تَنَاصَرُونَ ﴾ جواب أبي جهل حين قال في بدر نحن جميع منتصر.﴿ بَلْ هُمُ ٱلْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ ﴾ أي قد أسلم بعضهم بعضاً وخذله عن عجز فكل واحد مستسلم غير منتصر.﴿ وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ ﴾ هم جن وإنس وتساؤلهم على معنى التقريع والندم والسخط.﴿ قَالُوۤاْ ﴾ أي قالت الإِنس للجن أو ضعفة الإِنس الكفرة لكبرائهم وقادتهم واليمين الجارحة وليست مرادة هنا فقيل استعيرت لجهة الخير أو للشدة والقوة.﴿ فَحَقَّ عَلَيْنَا قَوْلُ رَبِّنَآ ﴾ أي لزمنا قول ربنا أي وعيده لنا بالعذاب والظاهر أن قوله: إنا لذائقون اخبار منهم انهم ذائقون العذاب جميعهم الرؤساء والأتباع.﴿ فَأَغْوَيْنَاكُمْ ﴾ دعوناكم إلى الغي وكانت فيكم قابلية له فغويتم.﴿ إِنَّا كُنَّا غَاوِينَ ﴾ فأردنا أن تشاركونا في الغي.﴿ فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ ﴾ أي يوم إذ يتساءلون ويتراجعون في القول وهذا اخبار منه تعالى أنهم كما اشتركوا في الغي اشتركوا فيما ترتب عليه من العذاب.﴿ إِنَّا كَذَلِكَ ﴾ أي مثل هذا الفعل بهؤلاء نفعل بكل مجرم فيترتب على إجرامه عذابه ثم أخبر عنهم بأكبر إجرامهم وهو الشرك بالله تعالى واستكبارهم عن توحيده وإفراده بالألوهية ثم ذكر عنهم ما قدحوا به في الرسول صلى الله عليه وسلم وهو نسبته إلى الشعر وغير ذلك ثم أضرب تعالى عن كلامهم وأخبر بأنه عليه السلام جاء بالحق وهو الثابت الذي لا يلحقه إضمحلال فليس ما جاء به شعراً بل هو الحق الذي لا شك فيه ثم أخبر أنه صدق من تقدمه من المرسلين إذ هو عليه السلام وهم على طريقة واحدة في دعوى الأمم الضالة إلى التوحيد وترك عبادة غير الله تعالى.
﴿ إِلاَّ عِبَادَ ٱللَّهِ ٱلْمُخْلَصِينَ ﴾ إستثناء منقطع لما ذكر شيئاً من أحوال الكفار وعذابهم ذكر شيئاً من أحوال المؤمنين ونعيمهم والمخلصين صفة مدح ووصف رزق بمعلوم أي عندهم.﴿ فَوَاكِهُ ﴾ بدل من رزق وهو ما يتلذذ به ولا يتقوت لحفظ الصحة ذكر أولاً الرزق وهو ما تتلذذ به الأجسام وثانياً الاكرام وهو ما تتلذذ به النفوس ثم ذكر المحل الذي هم فيه وهو جنات النعيم ثم أشرف المحل وهو السرر ثم لذة التآنس بأن بعضهم يقابل بعضاً وهو أتم السرور وآنسه ثم المشروب وانهم لا يتناولون ذلك بأنفسهم.﴿ يُطَافُ عَلَيْهِمْ ﴾ بالكؤوس ثم وصف ما يطاف عليهم به من الطيب وانتفاء المفاسد ثم ذكر تمام اللذة الجسمانية وختم بها كما بدأ باللذة الجسمانية من الرزق وهي أبلغ الملاذ وهو التآنس بالنساء والتقابل ان لا ينظر بعضهم إلى قفا بعض وفي الحديث" أنه في أحيان ترفع عنهم الستور فينظر بعضهم إلى بعض "والكأس ما كان من الزجاج فيه خمر أو نحوه من الأنبذة ولا يسمى كاسا إلا وفيه خمر وقد يسمى الخمر كأساً تسمية للشىء بمحله قال الشاعر: وكأس شربت على لذة   وأخرى تداويت منها بهاوقال ابن عباس: كل كأس في القرآن فهو خمر.﴿ مِّن مَّعِينٍ ﴾ من شراب معين أي من نهر معين وهو الجاري على وجه الأرض كما يجري الماء ومعين إسم فاعل من معن بضم العين كشريف من شرف.﴿ بَيْضَآءَ ﴾ للكاس أو للخمر وقال الحسن: خمر الجنة أشد بياضاً من اللبن ولذة صفة بالمصدر على سبيل المبالغة أو على حذف أي ذات لذة أو على تأنيث لذ بمعنى لذيذ.﴿ لاَ فِيهَا غَوْلٌ ﴾ قال ابن عباس وغيره: هو صداع الرأس.﴿ وَلاَ هُمْ عَنْهَا يُنزَفُونَ ﴾ يقال نزفت الشارب الخمر وأنزف هو أي ذهب عقله من السكر فهو نزيف ومنزوف وقرىء: ينزفون بفتح الزاي من نزفته الخمر وبكسر الزاي وضم الياء مضارع أنزف. قال أبو حيان: قال سيدي ووالدي: قرأت على الأستاذ أبي جعفر بن الزبير رحمه الله في قصيدة علقمة بن عبدة قوله: تشفى الصداع ولا يؤذيك طالبها   ولا يخالطها في الرأس تدويمفقال لي هذه صفة خمر الجنة لا خمر الدنيا.﴿ قَاصِرَاتُ ٱلطَّرْفِ ﴾ قصرن الطرف على أزواجهن لا يمتد طرفهن إلى أجنبي كقوله تعالى﴿ عُرُباً أَتْرَاباً ﴾[الواقعة: ٣٧] وقال الشاعر: من القاصرات الطرف لو دب محول   من الذر فوق الاتب منها لأثراوالمحول النملة التي مضى عليها من السنين حول والأتب القميص والعين جمع عيناء وهي الواسعة العين في جمال:﴿ كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَّكْنُونٌ ﴾ شبههن ببيض النعام المكنون في عشه وهو الأدحية ولونها بياض به صفرة حسنة وبها تشبه النساء فيقال فيهن بيضات الخدور. ومنه قول امرىء القيس: وبيضة خدر لا يرام خباؤها   تمتعت من لهو بها غير معجلكبكر مغاناة البياض بصفرة   غذاها نمير الماء غير المحللوتساؤلهم في الجنة تساؤل راحة وتنعم يتذاكرون نعيمهم وحال الدنيا والإِيمان وثمرته.﴿ فَأَقْبَلَ ﴾ معطوف على يطاف عليهم والمعنى يشربون فيتحدثون على الشراب كعادة الشرب في الدنيا قال الشاعر: وما بقيت من اللذات إلا   أحاديث الكرام على المداموجيء به ماضياً لصدق الاخبار به فكأنه قد وقع ثم حكى تعالى عن بعضهم ما حكى يتذكر بذلك نعمه عليهم حيث هداه إلى الإِيمان واعتقاد وقوع البعث والثواب والعقاب وهو مثال للتحفظ من قرناء السوء والبعد عنهم قال ابن عباس: هذا القائل وقرينه من البشر قال فراث بن ثعلبة البهراني كانا شريكين بثمانية آلاف درهم أحدهما يعبد الله ويقصر من التجارة والنظر والآخر كافر مقبل على ماله فانفصل من شريكه لتقصيره فكلما اشترى داراً أو جارية أو بستاناً عرضه على المؤمن وفخر به عليه فيتصدق المؤمن بنحو ذلك ليشتري به في الجنة فكان من أمرهما في الآخرة ما قصه لله تعالى.﴿ أَءِنَّا لَمَدِينُونَ ﴾ قال ابن عباس: لمجازون محاسبون والضمير في:﴿ قَالَ هَلْ أَنتُمْ ﴾ عائد على قائل في قوله: قال قائل والخطاب في هل أنتم لرفقائه في الجنة الذين كان هو وإياهم يتساءلون وهذا هو الظاهر لما كان قرينه ينكر البعث علم أنه في النار.﴿ فَٱطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَآءِ ٱلْجَحِيمِ ﴾ أي وسطها. و ﴿ تَٱللَّهِ ﴾ قسم فيه التعجب من سلامته منه.﴿ لَتُرْدِينِ ﴾ أي لتهلكين بإِغوائك.﴿ وَلَوْلاَ نِعْمَةُ رَبِّي ﴾ وهي توثيقه للإِيمان والبعد من قرين السوء.﴿ لَكُنتُ مِنَ ٱلْمُحْضَرِينَ ﴾ للعذاب كما أحضرته أنت.﴿ أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ ﴾ الظاهر أنه من كلام القائل يسمع قرينه على جهة التوبيخ أي لسنا أهل الجنة بميتين لكن الموتة الأولى كانت لنا في الدنيا بخلاف أهل النار فإِنهم في كل ساعة يتمنون الموت.﴿ وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ ﴾ كحال أهل النار بل نحن منعمون دائماً ويكون خطابه في ذلك منكلاً به مقرعاً له بما أنعم الله عليه من دخول الجنة.﴿ إِنَّ هَـٰذَا ﴾ أي الأمر الذي نحن فيه من النعم والنجاة من النار.﴿ أَذَلِكَ خَيْرٌ نُّزُلاً أَمْ شَجَرَةُ ٱلزَّقُّومِ ﴾ لما انقضت قصة المؤمن وقرينه وكان ذلك على سبيل الاستطراد من شيء عاد إلى ذكر الجنة والرزق الذي أعدّ الله تعالى فيها لأهلها فقال أذلك خير نزلاً وعادل بين ذلك الرزق وبين شجرة الزقوم ولاستواء الرزق المعلوم تحصل به اللذة والسرور وشجرة الزقوم يحصل بها الألم والغم.﴿ إِنَّا جَعَلْنَاهَا ﴾ أي الشجرة.﴿ فِتْنَةً ﴾ قال قتادة: قال أبو جهل ونظراؤه: لما نزلت للكفار محمد يخبر عن النار أنها تنبت الأشجار وهي تأكلها وتذهبها ففتنوا بذلك أنفسهم وقال أبو جهل: إنما الزقوم الثمر بالزبد ونحن نتزقمه واستعير الطلع وهو للنخلة لما تحمل هذه الشجرة وشبه طلعها بثمر شجرة معروفة يقال لثمرها رؤوس الشياطين وهي بناحية اليمين يقال لها الاستن ذكرها النابغة في قوله: تحيد من أستن سود أسافله   مشي الاماء الغوادي تحمل الحزماوهو شجر مر منكر الصورة سمت العرب ثمره بذلك تشبيهاً برؤوس الشياطين ثم صار أصلاً يشبه به والضمير في منها عائد على الشجرة.﴿ ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لإِلَى ٱلْجَحِيمِ ﴾ أي لإِلى النار ثم ذكر تعالى حالهم في تقليد آبائهم والضمير لقريش أي وجدوا آباءهم ضالين فاتبعوهم على ضلالتهم أكثر من تقدم من الأمم وفي قوله فانظر ما يقتضي إهلاكهم وسوء عاقبتهم واستثني المخلصين من عباده وهم الأقل المقابل لقوله أكثر الأولين والمعنى إلا عباد الله فإِنهم نجوا ولما ذكر ضلال الأولين ذكر أولهم شهرة وهم قوم نوح عليه السلام ونداؤه عليه السلام تضمن أشياء منها الدعاء على قومه وسؤاله النجاة وطلب النصرة واللام في فلنعم جواب القسم كقول الشاعر: يميناً النعم السيدان وجدتما   والمخصوص بالمدح محذوف تقديره فلنعم المجيبون نحن والكرب العظيم الغرق وركوب الماء وهوله.
﴿ وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي ٱلآخِرِينَ ﴾ أي في الباقين غابر الدهر ومفعول تركنا محذوف تقديره ثناء حسناً جميلاً إلى آخر الدهر قاله ابن عباس وسلام رفع بالابتداء مستأنف سلم الله تعالى عليه ليقتدي بذلك البشر فلا يذكره أحد من العالمين بسوء وقيل جملة في موضع نصب بتركنا وهذا هو المتروك عليه فكأنه قال: وتركنا على نوح تسليماً يسلم به عليه إلى يوم القيامة.﴿ وَإِنَّ مِن شِيعَتِهِ لإِبْرَاهِيمَ ﴾ الظاهر عود الضمير في من شيعته على نوح عليه السلام أي ممن شايعه في أصول الدين والتوحيد وإن اختلفت شرائعها إذا اتفق أكثرها قال الزمخشري: فإِن قلت: بم تعلق الظرف قلت: بما في الشيعة من معنى المشايعة يعني وإن ممن شايعه على دينه وتقواه حين جاء ربه بقلب سليم لإِبراهيم أو بمحذوف وهو أذكر " انتهى ". أما التخريج الأول فلا يجوز لأن فيه الفصل بين العامل والمعمول بأجنبي وهو قوله لإِبراهيم لأنه أجنبي من شيعته ومن إذ وزاد المنع إذ قدرته ممن شايعه حين جاء ربه لإِبراهيم لأنه يقدر ممن شايعه فجعل العامل صلة الموصول وفصل بينه وبين إذ بأجنبي وهو قوله لإِبراهيم وأيضاً فلام التأكيد تمنع أن يعمل ما قبلها فيما بعدها لو قلت أن ضارباً لقادم علينا زيداً لم يجز وأما تقديره أذكر فهو المعهود عند المعربين وأجازوا في نصف أئفكا وجوهاً. أحدهما أن يكون مفعولاً بتريدون وآلهة بدلاً منه هو استفهام تقرير ولم يذكر ابن عطية غير هذا الوجه وذكر الزمخشري فقال فسر الإِفك بقوله: آلهة من دون الله على أنها أفك في أنفسها والثاني أن يكون مفعولاً من أجله أي أتريدون آلهة من دون الله إفكاً وآلهة مفعول به وقدّمه عناية وقدم المفعول له على المفعول به لأنه كان الأهم عنده أن يكافحهم بأنهم على إفك وباطل في شركهم وبدأ بهذا الوجه الزمخشري والثالث: أن يكون حالاً أي أتريدون آلهة من دون الله أفكين قاله الزمخشري وجعل المصدر حالاً لا يطرد إلا مع اما نحو اما علماً فعالم.﴿ فَمَا ظَنُّكُم ﴾ استفهام توبيخ وتحذير وتوعد أي أي شىء ظنكم بمن هو مستحق لأن تعبدون إذ هو رب العالمين حتى تركتم عابدته وعدلتم به الأصنام.﴿ فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي ٱلنُّجُومِ ﴾ الظاهر أنه أراد علم الكواكب وما يعزي إليها من التأثيرات التي جعلها الله تعالى لها والظاهر أن نظره كان فيها أي في علمها قيل وكانوا يعانون ذلك فأتاهم من الجهة التي يعانونها وأوهمهم به لأنه استدل بإِمارات في علم النجوم أنه سقيم وقيل وهو الطاعون قيل وكان أغلب الاسقام عليهم إذ ذاك وخافوا العدوى فهربوا منه إلى عيدهم ولذلك قال:﴿ فَتَوَلَّوْاْ عَنْهُ مُدْبِرِينَ * فَرَاغَ إِلَىٰ آلِهَتِهِمْ ﴾ أي أصنامهم التي هي في زعمهم آلهة وعرض الأكل عليها واستفهامها عن النطق هو على سبيل الهزء لأنها منحطة عن رتبة عابديها إذ هم يأكلون وينطقون وروي أنهم كانوا يضعون عندها طعاماً ويعتقدون أنها تصيب منه شيئاً وإنما يأكله خدمتها.﴿ فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْباً بِٱلْيَمِينِ ﴾ أي أقبل عليهم مستخفياً ضارباً باليمين وقرىء يزفون من زف أي أسرع وقرىء: يزفون بضم الياء وبين قوله فراغ عليهم وبين قوله: فأقبلوا إليه جمل محذوفة مذكورة في سورة الأنبياء.﴿ قَالَ أَتَعْبُدُونَ ﴾ إستفهام توبيخ وإنكار عليهم كيف هم يعبدون صوراً صوروها بأيديهم وشكلوها على ما يريدون من الأشكال.﴿ وَٱللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ ﴾ الظاهر أن ما موصولة بمعنى الذي معطوفة على الضمير في خلقكم أي أنشأ ذواتكم وذوات ما تعملون من الأصنام والعمل هنا التصوير والتشكيل كما تقول عمل الصائغ الخلخال وقيل ما مصدرية أي خلقكم وعملكم.﴿ قَالُواْ ٱبْنُواْ لَهُ بُنْيَاناً ﴾ أي في موضع إيقاد النار.﴿ فَأَرَادُواْ بِهِ كَيْداً ﴾ فأبطل الله مكرهم وجعلهم الأذلين الأسفلين.﴿ وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَىٰ رَبِّي سَيَهْدِينِ ﴾ الآية، لما سلمه الله تعالى منهم ومن النار التي ألقوه فيها عزم على ما مفارقتهم وعبر بالذهاب عن هجرته إلى أرض الشام فهاجر من أرض بابل من مملكة نمروذ إلى أرض الشام سيهدين يوفقني إلى ما فيه صلاحي هب لي أي ولداً يكون من عداد الصالحين ولفظ الهبة غلب في الولد.﴿ فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ ٱلسَّعْيَ ﴾ بين هذه الجملة والتي قبلها محذوف تقديره ولد له وشب.﴿ فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ ﴾ أي بلغ أن يسعى مع أبيه في أشغاله وحوائجه وكان إذ ذاك ابن ثلاث عشرة سنة.﴿ قَالَ يٰبُنَيَّ ﴾ نداء شفقة وترحم.﴿ إِنِّيۤ أَرَىٰ فِي ٱلْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ ﴾ أي بأمر من الله تعالى ويدل عليه افعل ما تؤمر ورؤيا الأنبياء عليهم السلام وحي كاليقظة وذكره له الرؤيا تجسيراً على احتمال تلك البلية العظيمة وشاوره بقوله: فانظر ماذا ترى وإن كان حتماً من الله تعالى ليعلم ما عنده من تلقي هذا الامتحان العظيم ويصبره إن جزع قيل حين بشرته الملائكة بغلام حليم قال: هو إذن ذبيح الله تعالى فلما بلغ حد السعي معه قيل له أوف بنذرك وقيل رأى ليلة التروية قائلاً يقول له: إن الله يأمرك بذبح ابنك هذا فلما أصبح روي في ذلك من الصباح إلى الرواح أمن الله تعالى هذا الحلم فمن ثم سمي يوم التروية فلما أمسى رأى مثل ذلك فعرف أنه من الله فمن ثم سمى يوم عرفة ثم رأى مثله في الليلة الثالثة فهم بنحره فمن ثم سمى يوم النحر وانظر معلقة وماذا استفهام فإِن كانت ذا موصولة بمعنى الذي فما مبتدأ والفعل بعد ذا صلة وإن كانت ماذا مركبة ففي موضع نصب بالفعل بعدها والجملة واسم الاستفهام الذي هو معمول للفعل بعده في موضع نصب لا نظر ولما كان خطاب الأب يا بني على سبيل الترحم قال هو:﴿ يٰأَبَتِ ﴾ على سبيل التعظيم والتوقير.﴿ ٱفْعَلْ مَا تُؤمَرُ ﴾ أي ما تؤمره حذفه وهو منصوب وأصله ما تؤمر به فحذف الحرف واتصل الضمير منصوباً فجاز حذفه لوجود شرائط الحذف فيه.﴿ سَتَجِدُنِيۤ إِن شَآءَ ٱللَّهُ مِنَ ٱلصَّابِرِينَ ﴾ كلام من أوتي الحلم والصبر والامتثال لأمر الله تعالى والرضا بما أمر.﴿ فَلَمَّا أَسْلَمَا ﴾ أي لأمر الله تعالى انقادا له وخضعا.﴿ وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ ﴾ يقال تل الرجل الرجل إذا صرعه على شقه وقيل وضعه بقوة أوقعه على أحد جنبيه في الأرض تواضعاً مباشراً الأمر بصبر وذلك عند الصخرة التي بمنى وعن الحسن في الموضع المشرف على مسجد منى وعن الضحاك في المنحر الذي ينحر فيه اليوم وجواب لما محذوف مقدر بعد وتله للجبين أي أجز لنا أجرهما.﴿ وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ ﴾ قال الجمهور كبش أبيض أقرن أعين ووصف بالعظم لأنه متقبل يقيناً وقال عمرو بن عبيد لأنه جرت به السنة وصار ديناً باقياً إلى آخر الدهر والذبح بمعنى المذبوح كالطحن بمعنى المطحون. قال ابن عباس وابن جبير عظمه كونه من كباش الجنة رعى فيها أربعين خريفاً وفي قوله: وفديناه دليل على أن إبراهيم عليه السلام لم يذبح ابنه إذ قد فدى.﴿ وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ ﴾ الظاهر أن هذه بشارة غير تلك البشارة وأن الغلام الحليم المبشر به إبراهيم هو إسماعيل وانه هو الذبيح لا إسحۤق واستدل بظاهر هذه الآية وبقوله صلى الله عليه وسلم:" أنا ابن الذبيحين "وقول الأعرابي له يا ابن الذبيحين فتبسم عليه السلام يعني إسماعيل وأباه عبد الله وكان عبد المطلب نذر ذبح أحد ولده فخرج السهم على عبد الله فمنعه أخواله وقالوا: أفد ولدك بمائة من الإِبل فداه بها قيل وكان قرنا الكبش منوطين في الكعبة في أيدي بني إسماعيل إلى أن احترق البيت قال الشعبي: رأيتهما معلقين في الكعبة.﴿ وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَىٰ مُوسَىٰ وَهَارُونَ ﴾ الآية، الكرب العظيم تعبد القبط لهم ثم خوفهم من جيش فرعون ثم البحر وبعد ذلك والضمير في ونصرناهم عائد على موسى وهۤرون وقومهما وهم يجوز أن يكون فصلاً وتوكيداً وبدلاً والكتاب المستبين التوراة والصراط المستقيم هو الإِسلام وشرع الله تعالى.﴿ وَآتَيْنَاهُمَا ﴾ الضمير عائد على موسى وهۤرون والكتاب وإن كان نازلاً على موسى وحده فهۤرون كان مقتدياً به إذ كان قومهما قد عبدوا العجل فجمع مع موسى عليه السلام في الضمير لأجل الاقتداء به.
﴿ أَتَدْعُونَ بَعْلاً ﴾ أي أتعبدون بعلاً وثم محذوف تقديره إلهاً وبعل علم لصنم لهم قيل وكان من ذهب طوله عشرون ذراعاً وله أربعة أوجه فتنوا به وعظموه حتى أخدموه أربعمائة سادن وكان الشيطان يدخل في جوف بعل ويتكلم بشريعة الضلال والسدنة يحفظونها ويعلمونها الناس وهم أهل بعلبك من بلاد الشام وبه سميت مدينتهم بعلبك. وقرىء: الله ربكم بالرفع ورفع ما بعده وهو خبر مبتدأ محذوف تقديره هو الله وقرىء بالنصب ونصب ما بعده وهو بدل من قوله: أحسن الخالقين أو عطف بيان وقرىء: آل ياسين مفصولة اللام فيكون ياسين والياس اسمين لهذا النبي وقرىء: الياسين بهمزة مكسورة أي إلياسين جمع المنسوبين إلى إلياس معه كما قالوا في جمع أشعري الأشعرين بحذف ياء النسب.﴿ مُّصْبِحِينَ ﴾ حال أي داخلين في الصباح والخطاب في وإنكم لقريش وكانت متاجرهم إلى الشام على موانىء قوم لوط.﴿ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ ﴾ فتعتبرون بما جرى على من كذب الرسل.﴿ وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ ٱلْمُرْسَلِينَ ﴾ هو يونس بن متى من بني إسرائيل روي أنه نبىء وهو ابن ثمان وعشرين سنة بعثه الله قومه فدعاهم مرة فخالفوه فوعدهم بالعذاب وأعلمه الله تعالى بيومه فحدده يونس لهم ثم ان قدمه لما رأوا مخايل العذاب قبل أن يباشرهم تابوا وآمنوا فتاب الله عليهم وصرف العذاب عنهم قيل ولحقت يونس غضبة فابق إلى ركوب السفينة فراراً من قومه وعبر عن الهرب إذ هو عبد الله تعالى خرج فاراً من قومه وروي أنه لما بعدت السفينة في البحر ويونس فيها ركدت فقال أهلها إن فيها لمن يحبس الله السفينة بسببه فلنقترع فأخذوا لكل سهماً على أن من طفا سهمه فهو الذي يرمى به ومن عزت سهمه فليس إياه فطفا سهم يونس ففعلوا ذلك مرات تقع ثلاث القرعة فيها عليه فأزمعوا على أن يطرحوه في الماء فجاء إلى ركن منها ليقع منه فإِذا بدابة من دواب البحر ترقبه وترصد له فانتقل إلى الركن الآخر فوجدها حتى استدار بالمركب كلها وهي لا تفارقه فعلم أن ذلك من عند الله تعالى فترامى إليها فالتقمته وفي قصة يونس عليه السلام هنا جمل محذوفة مقدرة قبل ذكر فراره إلى الفلك كما في الأنبياء وبمجموع القصص يتبين ما حذف في كل قصة منها.﴿ فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ ٱلْمُدْحَضِينَ ﴾ أي من المغلوبين وحقيقته من المزلقين عن مقام الظفر في الاستفهام.﴿ وَهُوَ مُلِيمٌ ﴾ أتى بما يلام عليه واللوم العتب.﴿ مِنَ ٱلْمُسَبِّحِينَ ﴾ من الذاكرين الله بالتسبيح والتقديس.﴿ لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ ﴾ أي بطن الحوت روي أنه كان يرفع لحم الحوت بيديه ويقول لأبنين لك مسجداً حيث لم يبنه أحد قبلي وروي أن الحوت مشى به البحار كلها حتى قذفه في نصيبين من ناحية الموصل. وروي أن الحوت سائر مع السفينة رافعاً رأسه يتنفس ويونس يسبح ولم يفارقهم حتى انتهوا إلى البر فلفظه سالماً لم يتغير منه شىء فأسلموا والظاهر أن قوله للبث في بطنه يريد حياً إلى يوم البعث.﴿ بِٱلْعَرَآءِ ﴾ المكان الخالي.﴿ وَهُوَ سَقِيمٌ ﴾ روي أنه عاد بدنه كبدن الصبي حين يولد واليقطين القرع خاصة قيل وهي التي كانت انبتها الله تعالى عليه وتجمع خصالاً هي برد الظل ونعومة الملمس وغطم الورق وإن الذباب لا يقربها وماء ورقه إذا رش به مكان لم يقربه ذباب أصلاً.﴿ وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَىٰ مِئَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ ﴾ قال الجمهور رسالته هذه هي الأولى التي أبق بعدها ذكرها في آخر القصة تنبيهاً على رسالته ويدل عليه فآمنوا فمتعناهم إلى حين وتمتيع تلك الأمة هو الذي أغضب يونس عليه السلام واو للإِبهام على المخاطب لا للشك والضمير في فاستفهم لقريش كما في قوله أول السورة فاستفهم والاستفتاء هنا سؤال على جهة التوبيخ والتقريع على قولهم البهتان على الله حيث جعلوا الله الإِناث في قولهم الملائكة بنات الله بالأجسام وتفضيل أنفسهم حيث جعلوا أرفع الجنسين لهم وغيره لله تعالى واستهانتهم بمن هو مكرم عند الله تعالى حيث انثوهم وهم الملائكة بدأوا أولاً بتوبيخهم على تفضيل أنفسهم بقوله:﴿ أَلِرَبِّكَ ٱلْبَنَاتُ ﴾ وعدل عن قولهم الربكم لما في ترك الإِضافة إليهم من تخسيسهم وشرب نبيه عليه السلام بالإِضافة إليه وثنى بأن نسبة الأنوثة إلى الملائكة تقتضي المشاهدة فأنكر عليهم بقوله:﴿ أَمْ خَلَقْنَا ٱلْمَلاَئِكَةَ إِنَاثاً وَهُمْ شَاهِدُونَ ﴾ أي خلقناهم وهم لا يشهدون شيئاً من حالهم ثم أخبر عنهم ثالثاً بأعظم الكفر وهو إدعاؤهم أنه تعالى قد ولد فبلغ افكهم إلى نسبة الوليد إليه تعالى وتقدس ولما كان هذا أفحش قال:﴿ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ﴾ واحتمل أن تخص هذه الجملة بقولهم: ولد الله ويكون تأكيداً لقوله: من إفكهم وقرىء: اصطفى بهمزة الإِستفهام على طريقة الإِنكار والاستبعاد وسقطت همزة الوصل ولا تمد.﴿ مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ ﴾ تقرير وتوبيخ واستفهام عن البرهان والحجة.﴿ أَمْ لَكُمْ سُلْطَانٌ ﴾ أي حجة نزلت عليكم من السماء وخبر بأن الملائكة بنات الله.﴿ فَأْتُواْ بِكِتَابِكُمْ ﴾ الذي أنزل عليكم.﴿ وَجَعَلُواْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ ٱلْجِنَّةِ نَسَباً ﴾ الجنة الظاهر أنهم الشياطين وعن الكفار في ذلك مقالات شنيعة منها أنه تعالى صاهر سروات الجن فولد منهم الملائكة وهم فرقة من بني مدلج وشافه بذلك بعضهم أبا بكر الصديق.﴿ وَلَقَدْ عَلِمَتِ ٱلجِنَّةُ ﴾ أي الشياطين أنها محصرة أمر الله تعالى من ثواب وعقاب ثم نزه تعالى نفسه عن الوصف الذي لا يليق به.
﴿ إِلاَّ عِبَادَ ٱللَّهِ ﴾ إستثناء منقطع قالوا: إما من يصفون أي إلا عباد الله فإِنهم ناجون من العذاب وتكون جملة التنزيه اعتراضاً وعلى كلا القولين فالاستثناء منقطع والظاهر أن الواو وما تعبدون للعطف عطفت ما تعبدون على الضمير في إنكم وإن الضمير في عليه عائد على ما والمعنى قل لهم يا محمد إنكم وما تعبدون من الأصنام ما أنتم وهم غلب الخطاب كما تقول أنت وزيد تخرجان عليه أي على عبادة معبودكم بفاتنين أي بحاملين بالفتنة على عبادته إلا من قدر الله تعالى في سابق علمه أنه من أهل النار وقرىء: صال بغير واو فمن أثبت الواو فهو جمع سلامة سقطت النون للإِضافة حمل أولاً على لفظ من فأفرد ثم ثانياً على معناها فجمع.﴿ وَمَا مِنَّآ إِلاَّ لَهُ مَقَامٌ مَّعْلُومٌ ﴾ هو من قول الملائكة قال الزمخشري: وما منا أحد إلا له مقام معلوم حذف الموصوف وأقام الصفة مقامه كقوله: أنا ابن جلا وطلاع الثنايا   بكفي كان من أرمى البشرانتهى وليس هذا من حذف الموصوف وإقامة الصفة مقامه لأنه أحدا المحذوف مبتدأ وإلا له مقام معلوم خبره ولأنه لا ينعقد كلام من قوله: وما منا أحد فقوله: إلا له مقام معلوم هو محط الفائدة وإن تخيل أن الاله مقام في موضع الصفة فقد نصوا على أن إلا لا تكون صفة إذا حذف موصوفها وأنها فارقت غيراً إذا كانت صفة في ذلك لتمكن غير في الوصف وقلة تمكن إلا فيه وجعل نظير ذلك قوله: أنا ابن رجلاً أي أنا ابن رجل جلا ويكفي كان أي يكفي رجل كان وهذا عند النحويين من أقبح الضرورات حيث حذفت الموصوف وأقام الجملة مقامه ولم يتقدمه من:﴿ وَإِنَّا لَنَحْنُ ٱلصَّآفُّونَ ﴾ أي أقدامنا في الصلاة أو أجنحتنا في الهواء.﴿ وَإِنَّا لَنَحْنُ ٱلْمُسَبِّحُونَ ﴾ أي المنزهون الله تعالى عما نسبت إليه الكفرة والضمير في ليقولن لكفار قريش.﴿ لَوْ أَنَّ عِندَنَا ذِكْراً ﴾ أي كتاباً من كتب الأولين الذي نزل عليهم التوراة والإِنجيل لأخلصنا العبادة لله تعالى ولم نكذب كما كذبوا.﴿ فَكَفَرُواْ بِهِ ﴾ أي بما جاءهم من الذكر الذي كانوا يتمنونه وهو أشرف الأذكار لإِعجازه من بين الكتب.﴿ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ ﴾ عاقبة كفرهم وما يحل بهم من الانتقام وأكدوا قولهم بأن المخففة وباللام لكونهم كانوا جادين في ذلك ثم ظهر منهم التكذيب والنفور البليغ.﴿ فَتَوَلَّ عَنْهُمْ ﴾ أي أعرض عنهم.﴿ حَتَّىٰ حِينٍ ﴾ أي إلى مدة يسيرة وهي مدة الكف عن القتال.﴿ وَأَبْصِرْهُمْ ﴾ أي أنظر إلى عاقبة أمرهم.﴿ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ ﴾ ما يحل بهم من العذاب والأسر والقتل وأمره بابصارهم إشارة إلى الحالة المنتظرة الكائنة لا محالة وأنها قريبة كأنها بين ناظريه هو يبصرها وفي ذلك تسلية وتنفيس عنه عليه السلام.﴿ أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ ﴾ إستفهام توبيخ.﴿ فَإِذَا نَزَلَ ﴾ هو أي العذاب مثل العذاب النازل بهم.﴿ فَسَآءَ صَبَاحُ ٱلْمُنْذَرِينَ ﴾ المخصوص بالذم محذوف تقديره فساء صباح المنذرين صباحهم.﴿ وَتَوَلَّ عَنْهُمْ ﴾ كرر الأمر بالتولي تأنيساً له عليه السلام وتأكيداً الوقوع الميعاد ولم يقيد أمره بالابصار كما قيده في الأول إما لاكتفاءه في الأول فحذفه اختصاراً وإما لما في ترك التقييد من جولان الذهن فيما يتعلق به الأبصار من صنوف المسرات والابصار منهم من صنوف المساءآت. وختم تعالى هذه السورة بتنزيهه عما يصفه به المشركون وأضاف الرب إلى نبيه عليه السلام تشريفاً له بإِضافته وخطابه ثم إلى العزة وهي العزة المخلوقة الكائنة للأنبياء عليهم السلام وللمؤمنين.
Icon