تفسير سورة الزمر

التفسير المنير
تفسير سورة سورة الزمر من كتاب التفسير المنير .
لمؤلفه وهبة الزحيلي . المتوفي سنة 1436 هـ

مصدر القرآن والأمر بالعبادة الخالصة لله تعالى
[سورة الزمر (٣٩) : الآيات ١ الى ٤]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (١) إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ (٢) أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ ما نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي ما هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كاذِبٌ كَفَّارٌ (٣) لَوْ أَرادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً لاصْطَفى مِمَّا يَخْلُقُ ما يَشاءُ سُبْحانَهُ هُوَ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ (٤)
الإعراب:
تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ تَنْزِيلُ: مبتدأ، ومِنَ اللَّهِ: خبره، ويجوز كونه خبر مبتدأ محذوف، تقديره: هذا تنزيل. وقرئ تَنْزِيلُ بالنصب، على إضمار فعل نحو اقرأ أو الزم.
وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ.. وَالَّذِينَ: مبتدأ، وخبره محذوف، تقديره:
يقولون: ما نعبدهم، ويجوز جعل الخبر: إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ. ويكون «يقولون» المحذوف حال في ضمير اتَّخَذُوا تقديره: والذين اتخذوا من دونه أولياء قائلين: ما نعبدهم. وجملة ما نَعْبُدُهُمْ في موضع نصب ب «يقولون» المقدر، لأن الجمل تقع بعد القول محكية في موضع نصب.
المفردات اللغوية:
الْكِتابِ القرآن الْعَزِيزِ القوي في ملكه الْحَكِيمِ في صنعه، يضع الأشياء في موضعها المناسب إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ يا محمد الْكِتابَ بِالْحَقِّ بالحق متعلق ب أَنْزَلْنا أي ملتبسا بالحق، قائما عليه، أو بسبب إثبات الحق وإظهاره وتفصيله فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ ممحضا له الدين، خاليا من الشرك والرياء، أي موحدا الله.
241
أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخالِصُ أي لله وحده الدين صافيا نقيا، لا يستحقه غيره، لأنه المنفرد بصفات الألوهية والاطلاع على الأسرار والضمائر. وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ أي المتخذون من دون الله نصراء وهم كفار مكة الذين اتخذوا الأصنام آلهة. ما نَعْبُدُهُمْ يقولون: ما نعبدهم.
زُلْفى قربى، مصدر بمعنى التقريب. إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ وبين المسلمين. فِي ما هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ من أمر الدين، فيدخل المؤمنين الجنة، والكافرين النار.
لا يَهْدِي لا يوفق للاهتداء إلى الحق. مَنْ هُوَ كاذِبٌ في نسبة الولد إليه.
كَفَّارٌ شديد الكفر بعبادته غير الله.
لَوْ أَرادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً كما قال المشركون: اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً. لَاصْطَفى مِمَّا يَخْلُقُ ما يَشاءُ لاختار من خلقه ما يشاء غير ما قالوا: إن الملائكة بنات الله، وعزيز ابن الله، والمسيح ابن الله. سُبْحانَهُ تنزيها له عن اتخاذ الولد. الْقَهَّارُ القاهر كل شيء من خلقه.
سبب النزول: نزول الآية (٣) :
وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا: أخرج جويبر عن ابن عباس في هذه الآية قال:
أنزلت في ثلاثة أحياء: عامر وكنانة وبني سلمة، كانوا يعبدون الأوثان، ويقولون: الملائكة بناته، فقالوا: ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى.
التفسير والبيان:
تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ أي هذا الكتاب العظيم وهو القرآن تنزيل من الله تعالى، العزيز الذي لا يغلب ولا يعجزه شيء، الحكيم في صنعه، يضع الأشياء في مواضعها المناسبة، فهو الحق الذي لا مرية فيه ولا شك، كما قال عز وجل: وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ، نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ، عَلى قَلْبِكَ، لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ، بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ [الشعراء ٢٦/ ١٩٢- ١٩٥] وقال تبارك وتعالى: وَإِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ، لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ، تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ [فصلت ٤١/ ٤١- ٤٢].
242
إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ أي إنا أنزلنا إليك يا محمد القرآن مقترنا بالحق، أي إن كل ما فيه حق، من إثبات التوحيد والنبوة والمعاد وأنواع التكاليف الشرعية، ولم ننزله باطلا لغير شيء.
فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ فاعبد الله وحده لا شريك له وادع الخلق إلى ذلك، وأعلمهم أنه لا نصلح العبادة إلا لله وحده، وأنه ليس له شريك ولا عديل ولا نديد. والإخلاص: أن يقصد العبد بعمله وجه الله سبحانه، ولا يقصد شيئا آخر. والدين: العبادة والطاعة، ورأسها توحيد الله، واعتقاد أنه لا شريك له. ولهذا قال تعالى مؤكدا هذا المعنى:
أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخالِصُ أي ألا لله العبادة والطاعة الخالصة من شوائب الشرك والرياء وغيره. وأما ما سواه من الدين فليس بدين الله الخالص الذي أمر به، فإن الله لا يقبل من العمل إلا ما أخلص فيه العامل لله وحده لا شريك له.
وقوله: أَلا لِلَّهِ يفيد الحصر، أي أن يثبت الحكم في المذكور، وينتفي عن غيره.
وإذا كان رأس العبادة الإخلاص لله، فطريق المشركين مذموم، كما قال تعالى:
وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ، ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى أي وأما المشركون الذين والوا غير الله تعالى، وهي الأصنام التي عبدوها من دونه، فيقولون: ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله تقريبا، ويشفعوا لنا عنده في حوائجنا.
وهؤلاء عاقبتهم وخيمة كما قال تعالى مهددا لهم:
إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي ما هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ أي إن الله يحكم بين أهل الأديان
243
يوم القيامة، ويفصل في خلافاتهم، ويجزي كل عامل بعمله، فيدخل المخلصين الموحدين الجنة، ويدخل المشركين النار.
إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كاذِبٌ كَفَّارٌ أي إن الله لا يرشد لدينه، ولا يوفق للاهتداء إلى الحق، من هو كاذب مفتر على الله، في زعمه أن لله ولدا، وأن الآلهة تشفع له وتقربه إلى الله، مغال في كفره باتخاذ الأصنام آلهة، وجعلها شركاء لله، من غير دليل عقلي ولا نقلي مقبول.
ثم رد الله تعالى على زعمهم اتخاذ الله ولدا، فقال:
لَوْ أَرادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً لَاصْطَفى مِمَّا يَخْلُقُ ما يَشاءُ أي لو شاء الله اتخاذ ولد، وهو لا يحتاج لذلك، لاختار من جملة خلقه ما يشاء أن يختاره، ولكان الأمر على خلاف ما يزعمون، فيختار أكمل الأولاد وهم الأبناء، لا البنات كما زعموا، إذ لا موجود سواه إلا وهو مخلوق له، ولا يصح أن يكون المخلوق ولدا للخالق، فلم يبق إلا أن يختار ما يريد هو، لا ما يزعمون.
ثم نزّه الله تعالى نفسه عن اتخاذ الولد، فقال:
سُبْحانَهُ هُوَ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ أي تنزه الله وتقدس عن أن يكون له ولد، فإنه الواحد الأحد، الفرد الصمد، الذي يفتقر إليه كل شيء، وهو الغني عما سواه، قهر الأشياء فدانت له وخضعت وذلت، تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا.
فقه الحياة أو الأحكام:
أرشدت الآيات إلى الأحكام التالية:
١- إن القرآن العظيم تنزيل من رب العالمين، وكل ما فيه من إثبات التوحيد والنبوة والمعاد وأنواع التكاليف حق لا مرية فيه، وصدق يجب العمل
244
به. والدليل على نزوله من عند الله: أن الفصحاء عجزوا عن معارضته، ولو لم يكن معجزا، لأنه كلام الله الموحى به إلى رسوله ص، لما عجزوا عن معارضته.
٢- العبادة والطاعة لا تكون إلا لله وحده، فلله الدين الخالص الذي لا يشوبه شيء.
روى أبو هريرة رضي الله عنه: أن رجلا قال: يا رسول الله، إني أتصدق بالشيء، وأصنع الشيء، أريد به وجه الله، وثناء الناس، فقال رسول الله ص: «والذي نفس محمد بيده لا يقبل الله شيئا شورك فيه» ثم تلا رسول الله ص: أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخالِصُ.
وروى ابن جرير عن أبي هريرة حديثا قدسيا بلفظ: «من عمل عملا أشرك فيه غيري، فهو له كله، وأنا أغنى الشركاء عن الشرك».
٣- قال ابن العربي عن آية: إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ، فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ، أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخالِصُ: هي دليل على وجوب النية في كل عمل، وأعظمه الوضوء الذي هو شطر الإيمان، خلافا لأبي حنيفة والوليد بن مسلم عن مالك اللذين يقولان: إن الوضوء يكفي من غير نية، وما كان ليكون من الإيمان شطره، ولا ليخرج الخطايا من بين الأظافر والشعر، بغير نية «١».
٤- اعتمد المشركون في عبادتهم الأصنام واتخاذها شفعاء عند الله على وهم لا يعتمد أصلا على أساس مقبول من العقل والنقل، إذ كيف يعقل أن تكون الأصنام والجمادات وسيلة تقرب إلى الله؟ وكذلك لا يعقل أن تكون هذه الأصنام تماثيل الكواكب أو تماثيل الأرواح السماوية، أو تماثيل الأنبياء والصالحين الذين مضوا، ويكون المقصود من عبادتها توجيه تلك العبادات إلى من جعلت تماثيل لها، لأن هذه المخلوقات عاجزة عن جلب الخير لنفسها أو دفع الضر عنها، فكيف تحقق ذلك لغيرها؟!!
(١) أحكام القرآن: ٤/ ١٦٤٤
245
ويلاحظ أن ظاهرة الشرك قديمة، وجاءت الرسل لتفنيدها وإبطالها والنهي عنها، والدعوة إلى إفراد العبادة لله وحده لا شريك له، كما قال تعالى:
وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ، وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ [النحل ١٦/ ٣٦] والطاغوت: كل ما عبد من دون الله من الأوثان وغيرها، وقال سبحانه: وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا، فَاعْبُدُونِ [الأنبياء ٢١/ ٢٥].
٥- أجاب الله تعالى عن شبهة المشركين مقتصرا في الجواب على مجرد التهديد، فقال: إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي ما هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ أي إن الله يحكم بين أهل الأديان يوم القيامة، فيجازي كلا بما يستحق.
ثم قال الله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كاذِبٌ كَفَّارٌ أي إن الله لا يوفق للدين الذي ارتضاه، وهو دين الإسلام، ولا يرشد إلى الهداية من كذب على الله وافترى عليه، وقلبه كافر بآياته وحججه وبراهينه.
٦- أبان الله تعالى بعدئذ أنه لا ولد له كما يزعم جهلة المشركين في الملائكة، والمعاندون من اليهود والنصارى في العزير وعيسى، فلو أراد تعالى أن يسمي أحدا من خلقه بأنه ولد، ما جعله عز وجل إليهم، سبحانه، أي تنزه وتقدس ربنا عن الولد، فهو الله الواحد الأحد، القهار لكل شيء.
من أدلة التوحيد وكمال القدرة وكمال الاستغناء
[سورة الزمر (٣٩) : الآيات ٥ الى ٧]
خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهارِ وَيُكَوِّرُ النَّهارَ عَلَى اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى أَلا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ (٥) خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْها زَوْجَها وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُماتٍ ثَلاثٍ ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (٦) إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (٧)
246
الإعراب:
خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ متعلق ب خَلَقَ.
ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ، لَهُ الْمُلْكُ، لا إِلهَ إِلَّا هُوَ ذلِكُمُ: مبتدأ، ورَبُّكُمْ: خبره، ولَهُ الْمُلْكُ: خبر آخر، والْمُلْكُ: مرفوع بالجار والمجرور، وتقديره: ذلكم ربكم كائن له الملك. ولا إِلهَ إِلَّا هُوَ فيه وجهان: الرفع على أنه خبر آخر للمبتدأ، والنصب على أنه منصوب على الحال، وتقديره: منفردا بالوحدانية.
البلاغة:
تَكْفُرُوا تَشْكُرُوا بينهما طباق.
المفردات اللغوية:
يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهارِ يلقي هذا على هذا، والتكوير: اللف على الجسم المستدير، وهذا يدل على كروية الأرض، ومنه كوّر المتاع والعمامة: ألقى بعضه على بعض وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ ذلل وطوع، وجعلهما منقادين له يَجْرِي في فلكه لِأَجَلٍ مُسَمًّى لوقت معين محدود هو يوم القيامة الْعَزِيزُ القوي الغالب على كل شيء الْغَفَّارُ لذنوب عباده إذا شاء وإذا تابوا. والآية دليل على وجود الله ووحدانيته وقدرته.
خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ أي آدم ثُمَّ جَعَلَ مِنْها زَوْجَها فيه ثلاث دلالات على وجود الله وتوحيده وقدرته: خلق آدم عليه السلام أولا من غير أب وأم، ثم خلق حواء منه أو من جنسه، ثم شعّب الخلق منهما. وثُمَّ معطوف على محذوف تقديره: مثل خلقها، للدلالة على مباينتها لها في الفضل والمزية، فهو- كما قال الزمخشري- من التراخي في الحال والمنزلة، لا من
247
التراخي في الوجود «١» وَأَنْزَلَ لَكُمْ وقضى لكم وقسم، لأن قضاياه وقسمه موصوفة بالنزول من السماء، حيث كتب في اللوح: كل كائن يكون. أو أحدث لكم بأسباب نازلة كأشعة الكواكب والأمطار الْأَنْعامِ الإبل والبقر والغنم- الضأن والمعز ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ أي جعل من كل صنف من الإبل والبقر والضأن والمعز ذكرا وأنثى. وهي جمع أزواج، والزوج: اسم لكل واحد معه غيره، فإن انفرد فهو فرد خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ أي بالتدرج من نطفة إلى علقة إلى مضغة إلى عظام مكسوة لحما فِي ظُلُماتٍ ثَلاثٍ هي ظلمة البطن وظلمة الرحم، وظلمة المشيمة أو الصلب ذلِكُمُ الذي هذه أفعاله اللَّهُ رَبُّكُمْ هو المستحق للعبادة والمالك لَهُ الْمُلْكُ، لا إِلهَ إِلَّا هُوَ إذ لا يشاركه في الخلق غيره فَأَنَّى تُصْرَفُونَ أي يعدل بكم عن عبادته إلى عبادة غيره.
غَنِيٌّ عَنْكُمْ عن إيمانكم وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ رحمة عليهم وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ لأنه سبب فلا حكم، أي وإن تشكروا الله فتؤمنوا يرض الشكر لكم وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى لا تتحمل نفس آثمة ذنب نفس أخرى ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ، فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ بالمحاسبة والمجازاة إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ بحديث النفس، فلا تخفى عليه خافية من أعمالكم.
المناسبة:
بعد أن أبان الله تعالى في الآية المتقدمة كونه منزها عن الولد بكونه إلها واحدا قهارا غالبا، أي كامل القدرة، أعقبه ببيان الأدلة الدالة على الوحدانية وكمال القدرة وكمال الاستغناء عن أحد من خلقه، فذكر ثلاثة أدلة: خلق السموات والأرض وما فيهما من العوالم، وتذليل الشمس والقمر لقدرته، وتسييرهما في نظام ومسار دقيقين، وخلق الإنسان الأول وتشعيب الخلق منه، وخلق ثمانية أزواج من أنواع الأنعام ذكرا وأنثى، وفي كل دليل من هذه الأدلة أدلة ثلاثة أبينها بمشيئة الله هنا.
(١) يعني أن ثُمَّ كما تكون للترتيب في الزمن مع التراخي، تكون أيضا لمطلق الترتيب.
والمعطوف عليه هنا مقدر هو خلقها.
248
التفسير والبيان:
الدليل الأول وأقسامه من العالم العلوي:
أ- خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ أبدع وأوجد العالم العلوي من السموات والأرض إبداعا قائما على الحق والصواب، لأغراض ضرورية وحكم ومصالح، فلم يخلقهما باطلا وعبثا، وجعلهما في أبدع نظام. وهذا يدل على وجود الإله القادر، وعلى استحالة أن يكون له شريك أو صاحبة أو ولد، فهو واحد، كامل القدرة، كامل الاستغناء عن غيره.
ب- يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهارِ وَيُكَوِّرُ النَّهارَ عَلَى اللَّيْلِ أي يغشي كلا منهما الآخر، حتى يذهب ضوءه أو ظلمته، أو يجعلهما متتابعين متعاقبين، يطلب كل منهما الآخر طلبا حثيثا، كقوله تعالى: يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ، يَطْلُبُهُ حَثِيثاً [الأعراف ٧/ ٥٤] وقوله سبحانه: يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ [الحديد ٥٧/ ٦].
وهذا دليل على كروية الأرض أولا: لأن التكوير: اللف على الجسم المستدير، وعلى دورانها حول نفسها ثانيا، لأن تعاقب الليل والنهار والنور والظلمة لا يتم دون دوران.
ج- وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ، كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى أي وجعلهما منقادين لأمره بالطلوع والغروب لمنافع العباد ومصالحهم، وكل منهما يسير في فلكه إلى منتهى دورته، وإلى وقت معين محدود في علم الله، وهو انتهاء الدنيا، ومجيء القيامة، كما قال تعالى: يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ [الأنبياء ٢١/ ١٠٤].
وذيّل الآية بالدلالة على المراد وهو إثبات كمال القدرة الإلهية مع الترغيب في طلب المغفرة، فقال:
249
أَلا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ أَلا: تنبيه، أي تنبهوا، أي إن خلق هذا العالم العلوي وأجرامه العظيمة من غالب قادر على الانتقام ممن عاداه، ساتر لذنوب عباده بالمغفرة، ولا أحد مثله في ذلك، والجمع بين هاتين الصفتين للدلالة على أنه مع عزته وعظمته وكبريائه وكمال قدرته، هو غفار عظيم الرحمة والفضل والإحسان، يغفر لمن عصاه ثم تاب وأناب إليه، فإن الإخبار عن كونه عظيم القدرة يوجب الخوف والرهبة، فأتبعه بوصف الْغَفَّارُ الذي يوجب كثرة الرحمة، وكثرة الرحمة لا تعني الطمع من دون فعل، وإنما توجب الرجاء والرغبة في طلب المغفرة بالعبادة والإخلاص له. والخلاصة: إن هذا التذييل للترغيب في العمل الموجب للمغفرة، بعد الترهيب الموجب للحذر.
ثم أتبعه بدليل آخر:
الدليل الثاني وأقسامه من العالم السفلي:
أ- خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ، ثُمَّ جَعَلَ مِنْها زَوْجَها أي خلقكم أيها الناس على اختلاف أجناسكم وألسنتكم وألوانكم من نفس واحدة، هي آدم عليه السلام، ثم جعل من جنسها «١» زوجها، وهي حواء، ثم شعّب الخلق منهما، كما قال تعالى: يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ، وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها، وَبَثَّ مِنْهُما رِجالًا كَثِيراً وَنِساءً [النساء ٤/ ١] وهذا الجزء من الدليل في عالم الأرض مشتمل كما هو واضح على أدلة ثلاثة. والمشهور في قوله: مِنْها أنه خلق حواء من ضلع آدم، ولم يخلق سبحانه أنثى من ضلع رجل غيرها.
ب- وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ أي وقضى لكم وقسم وخلق وأعطاكم من ظهور الأنعام (وهي الإبل والبقر والضأن والمعز) ثمانية أزواج من كل صنف ذكرا وأنثى، كما قال تعالى:
(١) وهذا رأي الرازي. [.....]
250
ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ، وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ، وَمِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ، وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ [الأنعام ٦/ ١٤٣] أي ذكر وأنثى لكل منها.
ج- يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُماتٍ ثَلاثٍ أي يبتدئ خلقكم ويقدره في بطون أمهاتكم في مراحل متدرجة من الخلق، حيث يكون أحدكم أولا نطفة، ثم يكون علقة، ثم يكون مضغة، ثم يتكون العظام، ثم تكسى العظام باللحم والعروق والأعصاب، ثم تنفخ فيه الروح، فيصير إنسانا خلقا آخر في أحسن تقويم.
وتكون مراحل الخلق في ظلمات أغشية ثلاثة، هي ظلمة البطن، وظلمة الرحم، وظلمة المشيمة، والأغشية- كما يقول الأطباء-: هي الغشاء المنباري، والخربون، والغشاء اللفائفي.
ثم ذيّل هذه الآية كالآية السابقة بما يشير إلى الهدف وهو الإيمان بالموجد الخالق المنشئ، فقال تعالى:
ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ، لَهُ الْمُلْكُ، لا إِلهَ إِلَّا هُوَ، فَأَنَّى تُصْرَفُونَ أي هذا الذي خلق السموات والأرض وما بينهما، وخلق الإنسان هو الرب المربي لكم، الذي له الملك الحقيقي المطلق في الدنيا والآخرة، الواحد الأحد الذي لا إله إلا هو، ولا يشاركه أحد فيه، فلا تنبغي العبادة إلا له، فكيف تصرفون عن عبادته، مع ما يوجب استحقاقه لها، إلى عبادة غيره؟ أو كيف تعبدون معه غيره، وكيف تتقبل عقولكم ذلك؟
ثم أبان الله تعالى أن ثمرة هذه العبادة لكم، والله غني على الإطلاق، فقال:
إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ أي إن تكفروا بالله بعد توافر أدلة وجوده وتوحيده وقدرته، فإن الله هو الغني عما سواه من المخلوقات، كما قال
251
تعالى حكاية عن موسى عليه السلام: إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً، فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ [إبراهيم ١٤/ ٨].
وفي صحيح مسلم: «لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنّكم كانوا على أفجر قلب رجل منكم، ما نقص ذلك من ملكي شيئا».
ثم ذكر الله تعالى ما يأمر به ويرضاه وما ينهى عنه ولا يرضاه، فقال:
وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ، وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ أي لا يحب الله تعالى الكفر ولا يأمر به، لأنه مرتع الضلال والانحراف والذل لمعبودات لا ضرر منها ولا نفع فيها، وهو سبب الشقاوة في الدارين.
وإن تشكروا الله على نعمه، يرض لكم الشكر ويحبه ويزدكم من فضله، لأن الله عز وجل هو سبب السعادة في الدنيا والآخرة.
ثم أعلن الله تعالى مبدأ المسؤولية الفردية في الدنيا والآخرة الذي هو من مفاخر الإسلام، فقال:
وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى أي لا تحمل نفس عن نفس شيئا من الآثام والذنوب والجرائم، بل كل إنسان مطالب بأمر نفسه وعمله من خير أو شر. وقد وردت هذه الآية في القرآن الكريم خمس مرات. وهي كقوله تعالى: كُلُّ امْرِئٍ بِما كَسَبَ رَهِينٌ [الطور ٥٢/ ٢١] وقوله: كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ [المدثر ٧٤/ ٣٨].
والجزاء على قدر العمل، فقال تعالى:
ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ، إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ أي ثم مآلكم ومصيركم إلى ربكم يوم القيامة، فيخبركم بأعمالكم من خير وشر، إنه خبير بما تضمره القلوب وتستره أي مكنونات النفوس، فلا تخفى عليه خافية.
252
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآيات الكريمات على الآتي:
١- الأدلة على وجود الله وتوحيده وكمال قدرته واستغنائه عن الصاحبة والولد: هي خلق السموات والأرض وما بينهما، وتعاقب الليل والنهار، وتسخير الشمس والقمر لمصالح العباد والمخلوقات، وخلق الإنسان في أصله أو باتخاذ الأسباب الظاهرية، وخلق ثمانية أزواج أو أصناف من الأنعام، من الإبل اثنين ومن البقر اثنين ومن المعز اثنين، كل واحد زوج، والأزواج ثمانية تشمل الذكر والأنثى.
٢- دل تكوير الليل على النهار، وتكوير النهار على الليل على كروية الأرض ودورانها حول نفسها.
٣- ودل تسخير الشمس والقمر بالطلوع والغروب لمنافع العباد، وجريانهما في فلكهما إلى يوم القيامة، على كمال قدرة الله ودقة نظامه ومراعاته مصالح العباد.
٤- ينبه الله تعالى على أنه عزيز غالب، غفار ستّار لذنوب خلقه برحمته، وفي هذا جمع بين الرهبة والرغبة، رهبة من الله عز وجل، ورغبة في إخلاص العبادة والطاعة لله تعالى.
٥- مراحل خلق الإنسان تحدث متعاقبة متدرجة من نطفة إلى علقة إلى مضغة، إلى عظم ثم لحم. ويبدأ تكون الإنسان في داخل ظلمات ثلاث: ظلمة البطن وظلمة الرحم، وظلمة المشيمة.
٦- إن الله الذي خلق هذه الأشياء هو ربكم مربيكم، وهو المالك الواحد الأحد، كما قال تعالى: رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ، لا إِلهَ إِلَّا هُوَ.
253
فكيف تنصرفون عن عبادته إلى عبادة غيره؟
٧- إذا كفر جميع الناس فلا يضرّون الله، والله هو الغني عنهم، لكن لا يرضى الله الكفر لعباده ولا يحب ذلك منهم، وإن شكروه رضي بالشكر وأمر به، ومصير جميع الخلائق إلى ربهم، فيخبرهم بما قدموا من خير أو شر.
والآية دليل على أن الإرادة غير الرضا، وهو مذهب أهل السنة، فقد يريد الله شيئا، لكن لا يرضى به، فهو يريد كون ما لا يرضاه، وقد أراد الله عز وجل خلق إبليس، وهو لا يرضاه، والرضا: ترك اللوم والاعتراض، وليس هو الإرادة.
٨- من مفاخر الإسلام ومبادئه الكبرى تقرير مبدأ المسؤولية الشخصية:
وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى وذلك يدفع إلى العمل، ويمنع الخمول والكسل، ويخلّص الناس من فكرة النصارى بإرث الخطيئة، ويفتح باب الأمل لبناء الإنسان نفسه ومجده والاعتماد على نفسه، دون تأثر بأفعال الآخرين، وذلك غاية التكريم الإلهي للإنسان.
٩- دل قوله تعالى: ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ على إثبات البعث والقيامة، ودل قوله سبحانه: إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ على شمول علم الله بالكليات والجزئيات، وبالكبائر والصغائر، وبالفعل الحاصل والقول المقول، وبما يسبقه من نية وحديث نفس وعزم وهمّ وغير ذلك من مراحل تكوين الفعل والقول.
254
تناقض الكفار واستقامة المؤمنين
[سورة الزمر (٣٩) : الآيات ٨ الى ٩]
وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ ثُمَّ إِذا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ ما كانَ يَدْعُوا إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْداداً لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً إِنَّكَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ (٨) أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ ساجِداً وَقائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ (٩)
الإعراب:
أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ أَمَّنْ بالتشديد: بإدخال «أم» بمعنى بل والهمزة على «من» بمعنى الذي، وليس بمعنى الاستفهام، لأن «أم» للاستفهام، فلا يدخل على ما هو استفهام. وفي الكلام محذوف تقديره: العاصون ربهم خير أم من هو قانت، ودخل على هذا المحذوف أيضا: قُلْ: هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ. وقرئ بالتخفيف على أن تكون الهمزة للاستفهام بمعنى التنبيه، ويكون في الكلام محذوف تقديره: أمن هو قانت يفعل كذا كمن هو على خلاف ذلك.
ودخل على هذا المحذوف: قُلْ: هَلْ يَسْتَوِي.. أو أن تكون الهمزة للنداء، وتقديره: يا من هو قانت أبشر فإنك من أهل الجنة، لأن ما قبله يدل عليه، وهو قوله تعالى: إِنَّكَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ. ويَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ في موضع الحال، أو الاستئناف للتعليل.
البلاغة:
يَرْجُوا يَحْذَرُ بينهما طباق.
قُلْ: تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ أمر أريد به التهديد، مثل اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ [الأنعام ٦/ ١٣٥ ومواضع أخرى].
أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ إيجاز بالحذف، أي كمن هو كافر.
255
المفردات اللغوية:
وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ أي الكافر ضُرٌّ شدة دَعا رَبَّهُ تضرع مُنِيباً إِلَيْهِ راجعا إليه خَوَّلَهُ نِعْمَةً أعطاه إنعاما وملكه نَسِيَ ترك الضر ما كانَ يَدْعُوا الذي يتضرع إلى كشفه إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وهو الله، من قبل النعمة أَنْداداً شركاء، جمع ندّ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ عن سبيل دين الإسلام، وقرئ ليضل وكل من الضلال والإضلال نتيجة، وليسا غرضين.
قُلْ: تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا بقية أجلك، وهو أمر تهديد، فيه إشعار بأن الكفر نوع تشهي لا سند له، وإقناط للكافر من التمتع في الآخرة، ولذلك علله بقوله: إِنَّكَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ هذا استئناف على سبيل المبالغة.
قانِتٌ طائع خاشع آناءَ اللَّيْلِ ساعاته وَقائِماً للصلاة يَحْذَرُ الْآخِرَةَ يخاف عذابها وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ أي جنته، وفي الكلام محذوف تقديره: كمن هو عاص بالكفر أو غيره قُلْ: هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ نفي لاستواء الفريقين، أي لا يستويان، وكما لا يستوي العالمون والجاهلون لا يستوي القانتون والعاصون يَتَذَكَّرُ يتعظ أُولُوا الْأَلْبابِ أصحاب العقول.
سبب النزول: نزول الآية (٩) :
أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ؟: أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عمر في قوله: أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ الآية، قال: نزلت في عثمان بن عفان، وأخرج ابن سعد عن ابن عباس قال: نزلت في عمار بن ياسر. وأخرج جويبر عن ابن عباس قال: نزلت في ابن مسعود وعمار بن ياسر وسالم مولى أبي حذيفة.
المناسبة:
بعد بيان فساد مذهب المشركين في عبادة الأصنام، وأنه لا دليل لهم على عبادتها، وبيان أن الله تعالى هو الذي يجب أن يعبد، وأن الله غني عما سواه من المخلوقات لا يفتقر إلى عبادتهم، ذكر الله تعالى هنا تناقض الكفار بالرجوع إلى
256
الله وقت الشدة، وتركه وقت الرخاء. ثم أردفه ببيان مدى صلابة المؤمنين في دينهم، وتمسكهم بمبدئهم، فهم لا يرجعون إلا إلى الله، ولا يعتمدون إلا على فضل الله.
التفسير والبيان:
وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ، ثُمَّ إِذا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ، نَسِيَ ما كانَ يَدْعُوا إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ، وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْداداً لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ هذا موقف متناقض من الكفار، فإذا أصاب الكافر شدة من مرض أو فقر أو خوف، تضرع إلى ربه، راجعا إليه تائبا، مستغيثا به في تفريج كربته، وكشف ما نزل به، ثم إذا منحه نعمة أو أعطاه وملكه، وصار في حال رخاء ورفاهية، نسي ذلك الدعاء والتضرع، أو نسي ربه الذي كان يدعوه من قبل.
وجعل لله شركاء من الأصنام أو غيرها، يعبدها، ليصير وتكون نتيجته وعاقبته الضلال والإضلال، يضل بنفسه، ويضل الناس بعمله هذا ويمنعهم من توحيد الله والدخول في الإسلام، فسبيل الله: الإسلام والتوحيد، والأنداد الأوثان والأصنام، ولام لِيُضِلَّ لام العاقبة.
والمعنى الأول (وهو أنه عند الحاجة يتضرع ويستغيث بالله) مثل قوله تعالى: وَإِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ، ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ، فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ، وَكانَ الْإِنْسانُ كَفُوراً [الإسراء ١٧/ ٦٧].
والمعنى الثاني (وهو أنه في حال الرفاهية ينسى ذلك الدعاء والتضرع) مثل قوله تعالى:
وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ الضُّرُّ دَعانا لِجَنْبِهِ أَوْ قاعِداً أَوْ قائِماً، فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُ ضُرَّهُ، مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنا إِلى ضُرٍّ مَسَّهُ [يونس ١٠/ ١٢].
257
والمعنى الثالث (جعل الأنداد الشركاء لله) كما قال تعالى: إِنَّ الْإِنْسانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ [العاديات ١٠٠/ ٦].
لكل هذا هدد الله وأوعد ذلك الكافر المتناقض على ما فعل، فقال:
قُلْ: تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا إِنَّكَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ قل أيها الرسول لمن هذه حالته وطريقته ومسلكه: استمتع أيها الإنسان بكفرك تمتعا قليلا أو زمانا قليلا هو مدة أجلك، فمتاع الدنيا قليل، فإنك في الآخرة من أصحاب النار الخالدين فيها أبدا، ومصيرك إليها عن قريب، كقوله تعالى: قُلْ: تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ [إبراهيم ١٤/ ٣٠] وقوله سبحانه: نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلًا، ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلى عَذابٍ غَلِيظٍ [لقمان ٣١/ ٢٤].
ثم ذكر الله تعالى أحوال المؤمنين القانتين الذين لا يعتمدون دائما إلا على ربهم، فقال:
أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ ساجِداً وَقائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ أي أذلك الكافر أحسن حالا ومآلا، أم المؤمن بالله، الذي هو مطيع خاشع يصلي الله في ساعات الليل، وخشوعه مستمر حال سجوده وحال قيامه، يخاف الآخرة، ويرجو رحمة ربه، فيجمع بين الخوف والرجاء، وتلك هي العبادة الكاملة، التي يفوز بها صاحبها؟! الجواب واضح. قال أبو حيان: وفي الآية دليل على فضل قيام الليل وأنه أرجح من قيام النهار.
قُلْ: هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ أي هل يستوي العلماء والجهال؟ إنما يتعظ بآيات الله ويتدبرها أهل العقول السليمة، لا الجهلاء، وإنما يعرف الفرق بين الصنفين العاقل، لا الجاهل.
لا يستوي الفريقان، فإن العالم الذي يدرك الحق ويعرف منهج
258
الاستقامة، فيتبعه ويعمل به، لا يستوي أبدا مع الجاهل الذي يخبط خبط عشواء، ويسير في متاهة وضلال.
والمراد بالإتيان بهذه الآية لنفي استواء الفريقين بطريق الاستفهام: هو تأكيد نفي المساواة بين الفريقين الأولين: الكافر المتناقض والمؤمن المطيع الخاشع، فكما أنه لا يستوي العالم والجاهل، لا يستوي المؤمن والمشرك الذي جعل لله أندادا ليضل عن سبيل الله، الأول في قمة الخير والعلم، والآخر في أسفل دركات الشر والجهل.
قال أبو حيان: دلت الآية على أن كمال الإنسان محصور في هذين المقصودين: العلم والعمل، فكما لا يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون، كذلك لا يستوي المطيع والعاصي. والمراد بالعلم هنا: ما أدى إلى معرفة الله، ونجاة العبد من سخطه.
فقه الحياة أو الأحكام:
أرشدت الآيات إلى وجود موقفين متعارضين بين الناس، فريق الكافرين وفريق المؤمنين.
أما الكافر: فهو متناقض، تراه يستغيث بالله راجعا إليه مخبتا مطيعا له إذا أصابته شدة من مرض أو فقر أو خوف، لإزالة تلك الشدة عنه، فإن سلم ونجا وعوفي، وصار في حال اطمئنان واستقرار ورخاء ورفاهية، بفضل من الله وحده، نسي ربه الذي كان يدعوه من قبل في كشف الضر عنه.
ولا يقتصر أمره على مجرد النسيان والهجر أو الترك، وإنما يتجاوز ذلك إلى اعتقاد الشرك بالله، واتخاذ الأوثان والأصنام شركاء لله.
259
بل لا يقتصر في ذلك على أن يضل نفسه، بل يضل غيره بفعله أو قوله، ويدعوه إلى أن يشاركه في ذلك، فيزداد إثما على إثمه.
لهذا حق أن يوجّه له التهديد الشديد والوعيد الأكيد بأن يتمتع بكفره زمنا قليلا، فإن مصيره في النهاية إلى النار.
وأما المؤمن: فهو سوي غير متناقض، مستقيم غير مضطرب، صلب في دينه غير متزعزع، يثبت في جميع أحواله على حال واحدة، من الإيمان الراسخ بالله، والاستقامة على أمر الله، فهو إذن ليس كالكافر الذي مضى ذكره.
تراه مصليا خاشعا لربه في جنح الظلام، والناس نيام، يناجي ربه، جامعا بين الخوف والرجاء.
ثم أكد الله تعالى وجه الفرق بين المؤمن والكافر بالمقارنة بين العالم والجاهل، فكما لا يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون، كذلك لا يستوي المطيع والعاصي. ثم إن الذين يعلمون هم الذين ينتفعون بعلمهم ويعملون به، فأما من لم ينتفع بعلمه ولم يعمل به، فهو بمنزلة من لم يعلم، وفي هذا إشارة إلى أن الكافر أو المشرك أو العاصي جاهل وإن كان عالما بعلوم الدنيا، فإنما يتذكر ويعتبر ويتعظ بهذه المقارنات أصحاب العقول من المؤمنين.
ويلاحظ الترتيب في تعداد أوصاف المؤمن، بدأ فيها بذكر العمل في وصفه بكونه قانتا ساجدا قائما، ثم ختمها بذكر العلم في قوله: هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ وهذا يدل على أن كمال الإنسان محصور في العمل والعلم، فالعمل هو البداية، والعلم هو النهاية.
ثم إنه تعالى نبّه على أن الانتفاع بالعمل إنما يحصل بالمواظبة عليه، فإن القنوت عبارة عن كون الرجل قائما دائما بما يجب عليه من الطاعات.
260
وقوله تعالى: قُلْ: هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ.. تنبيه عظيم على فضيلة العلم وفضل العلماء.
وقوله سبحانه: إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ يدل على أن إدراك التفاوت بين العلماء والجهال ومعرفته لا يكون إلا من أولي الألباب، أي العقول السليمة.
قيل لبعض العلماء: إنكم تقولون: العلم أفضل من المال، ثم نرى العلماء يجتمعون عند أبواب الملوك، ولا نرى الملوك مجتمعين عند أبواب العلماء؟ فأجاب العالم بأن هذا أيضا يدل على فضيلة العلم، لأن العلماء علموا ما في المال من المنافع فطلبوه، والجهال لم يعرفوا ما في العلم من المنافع، فلا جرم تركوه «١».
نصائح للمؤمنين في العبادة ووعدهم ووعيد عبدة الأصنام
[سورة الزمر (٣٩) : الآيات ١٠ الى ٢٠]
قُلْ يا عِبادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ واسِعَةٌ إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ (١٠) قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ (١١) وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ (١٢) قُلْ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (١٣) قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَهُ دِينِي (١٤)
فَاعْبُدُوا ما شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ قُلْ إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَلا ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ (١٥) لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبادَهُ يا عِبادِ فَاتَّقُونِ (١٦) وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوها وَأَنابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرى فَبَشِّرْ عِبادِ (١٧) الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولئِكَ الَّذِينَ هَداهُمُ اللَّهُ وَأُولئِكَ هُمْ أُولُوا الْأَلْبابِ (١٨) أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ (١٩)
لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِها غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعادَ (٢٠)
(١) تفسير الرازي: ٢٦/ ٢٥١
261
الإعراب:
لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ حَسَنَةٌ: مبتدأ، وخبره: الجار والمجرور قبله، وفِي يتعلق ب أَحْسَنُوا إذا أريد بالحسنة: الجنة، وب حَسَنَةٌ إذا أريد بالحسنة ما يعطى للعبد في الدنيا، مما يستحب فيها، والوجه الأول أوجه، لأن الدنيا ليست بدار جزاء.
قُلِ: اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَهُ دِينِي اللَّهَ: منصوب ب أَعْبُدُ ومُخْلِصاً: حال من ضمير أَعْبُدُ أو من ضمير قُلِ ودِينِي مفعول مُخْلِصاً وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوها أَنْ: مصدرية في موضع نصب بدل من مفعول اجْتَنَبُوا تقديره: والذين اجتنبوا عبادة الطاغوت. ولَهُمُ الْبُشْرى لَهُمُ: في موضع رفع خبر المبتدأ الذي هو الَّذِينَ والْبُشْرى مرفوع ب لَهُمُ لوقوعه خبرا للمبتدأ.
البلاغة:
فَوْقِهِمْ وتَحْتِهِمْ بينهما طباق.
لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ جناس اشتقاق.
لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ أسلوب تهكمي، لأن إطلاق الظلة على النار المحرقة تهكم.
فَبَشِّرْ عِبادِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ.. وضع فيه الظاهر موضع ضمير الَّذِينَ اجْتَنَبُوا للدلالة على مبدأ اجتنابهم والتمييز بين الحق والباطل.
مَنْ فِي النَّارِ وضع فيه الظاهر موضع الضمير، للدلالة على أنه واقع في العذاب.
لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِها غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ مقابلة بين حال أهل النار وحال أهل الجنة.
أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ مجاز مرسل، أطلق المسبب (دخول جهنم) وأراد السبب (الكفر والضلال)، لأن الضلال سبب لدخول النار.
262
المفردات اللغوية:
الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ عذاب ربكم بلزوم طاعته. لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ أي للذين أحسنوا بالطاعات في الدنيا مثوبة حسنة في الآخرة، وقيل: حسنة في الدنيا هي الصحة والعافية. وَأَرْضُ اللَّهِ واسِعَةٌ فمن تعسر عليه الإحسان بالطاعة في وطنه، فليهاجر إلى مكان يتمكن فيه من الطاعة وترك المنكرات ومخالطة الكفار. إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ على مشاق الطاعة من احتمال البلاء ومهاجرة الأوطان لأجل الطاعة. أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ بغير مكيال ولا ميزان.
مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ أي أعبده عبادة خالصة من الشرك والرياء، موحدا له. وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ بأن أكون. أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ من هذه الأمة. إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي بترك الإخلاص والميل إلى ما أنتم عليه من الشرك والرياء. عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ لعظمة ما فيه. قُلِ: اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَهُ دِينِي من الشرك، وهو أمر بالإخبار عن إخلاصه وأن يكون مخلصا له دينه، بعد الأمر بالإخبار عن كونه مأمورا بالعبادة والإخلاص خائفا على المخالفة من العقاب، قطعا لأطماعهم، ولذا رتب عليه قوله:
فَاعْبُدُوا ما شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ غيره، وهذا تهديد لهم. الْخاسِرِينَ أي الكاملين في الخسران الذين خسروا أَنْفُسَهُمْ بالضلال وَأَهْلِيهِمْ بالإضلال، ونوع الخسارة: التخليد في النار وعدم الوصول إلى الجنة. الْمُبِينُ البيّن الواضح ظُلَلٌ طبقات من النار، جمع ظلّة.
ذلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبادَهُ ذلك العذاب هو الذي يخوف به عباده المؤمنين ليتقوه، بدليل نهاية الآية: يا عِبادِ فَاتَّقُونِ.
الطَّاغُوتَ البالغ غاية الطغيان، فهو مشتق من الطغيان للمبالغة، والتاء فيه مزيدة للتأكيد مثل رحموت وملكوت (واسع الرحمة والملك) والطاغوت: كل ما عبد من دون الله من الأوثان وغيرها. أَنْ يَعْبُدُوها بدل اشتمال من الطاغوت. وَأَنابُوا إِلَى اللَّهِ أقبلوا ورجعوا.
لَهُمُ الْبُشْرى بالجنة والثواب. هَداهُمُ اللَّهُ لدينه. أُولُوا الْأَلْبابِ أصحاب العقول.
أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ؟ حَقَّ ثبت ووجب، وتُنْقِذُ تخرج، والهمزة للإنكار، والكلام جملة شرطية معطوفة على محذوف، دل عليه الكلام تقديره: أأنت مالك أمرهم، فمن حق عليه العذاب، فأنت تنقذه. والمعنى: لا تقدر على هدايته، فتنقذه من النار.
اتَّقَوْا رَبَّهُمْ بأن أطاعوه. غُرَفٌ جمع غرفة وهي الحجرة. تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ أي من تحت تلك الغرف. وَعْدَ اللَّهِ مصدر مؤكد، منصوب بفعله المقدر، لأن
263
قوله: لَهُمْ غُرَفٌ في معنى الوعد. لا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعادَ الوعد، لأن الخلف نقص، وهو على الله تعالى محال.
سبب النزول:
نزول الآية (١٧- ١٨) :
فَبَشِّرْ عِبادِ:
أخرج جويبر عن جابر بن عبد الله قال: لما نزلت لَها سَبْعَةُ أَبْوابٍ الآية، أتى رجل من الأنصار النبي ص، فقال: يا رسول الله، إني لي سبعة مماليك، وإني قد أعتقت لكل باب منها مملوكا، فنزلت فيه الآية:
فَبَشِّرْ عِبادِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ، فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ.
نزول الآية (١٧) :
وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ: أخرج ابن أبي حاتم عن زيد بن أسلم أن هذه الآية نزلت في ثلاثة نفر، كانوا في الجاهلية يقولون: لا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ:
زيد بن عمرو بن نفيل، وأبي ذر الغفاري، وسلمان الفارسي.
المناسبة:
بعد نفي المساواة بين من يعلم وبين من لا يعلم، أمر الله تعالى رسوله ص بأن ينصح المؤمنين بجملة نصائح تتضمن الأمر بالتقوى والاستمرار بالطاعة، والأمر بإخلاص الدين لله في العبادة، حتى تكون خالية من الشرك والرياء، والتحذير من خسارة النفس والأهل لئلا يصلوا نار جهنم، ثم ذكر الله تعالى تهديده ووعيده لعبدة الأصنام، وأردفه بوعد المبتعدين عن عبادتها وعن كل ألوان الشرك، ليقترن الوعد بالوعيد، والترهيب بالترغيب، كما هي عادة القرآن.
التفسير والبيان:
قُلْ: يا عِبادِ الَّذِينَ آمَنُوا، اتَّقُوا رَبَّكُمْ قل أيها الرسول: يا عباد الله
264
الذين آمنوا بالله ربا وبالإسلام دينا، اتقوا عذاب ربكم باتباع أوامره واجتناب نواهيه، والاستمرار على طاعته وتقواه.
وعلة الأمر:
لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ لمن أحسن العمل في هذه الدنيا حسنة في الدنيا وهي الصحة والعافية والظفر والغنيمة والعزة والسلطان، وفي الآخرة وهي الجنة والمثوبة الطيبة الجزيلة. وتنكير حَسَنَةٌ للتعظيم للدلالة على كمالها.
ثم رغبهم في الهجرة للتمكن من التقوى والطاعة، فقال:
وَأَرْضُ اللَّهِ واسِعَةٌ أي إذا لم تتمكنوا من التقوى في بلد، فهاجروا إلى حيث تمكن طاعة الله، والعمل بما أمر به، والترك لما نهى عنه، وجاهدوا، واعتزلوا الأوثان ومستنقعات الكفر، أسوة بالأنبياء والصالحين، كما قال تعالى:
أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها [النساء ٤/ ٩٧].
ثم ذكر أجرهم على الهجرة والصبر على مفارقة الأوطان، فقال:
إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ أي إنما يوفيهم الله أجرهم في الجنة في مقابلة صبرهم على الهجرة وترك الأوطان بغير حساب، أي بغير كيل ولا وزن، وبما لا يقدر على حصره وحسبانه حاصر وحاسب.
وهذا دليل على أن مجرد الإيمان بالقلب أو إعلان الإسلام دون تقوى ولا عمل بأوامر الله واجتناب نواهيه لا يكفي إطلاقا.
ثم ضم تعالى إلى الأمر بالتقوى الأمر بالإخلاص في العبادة والطاعة، فقال:
قُلْ: إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ أي إنما أمرت بإخلاص العبادة لله وحده، إخلاصا خاليا من الشرك والرياء وغير ذلك. وهذا وإن كان
265
أمرا للرسول ص، فهو لوم على عبادة الأوثان، من قبيل «إياك أعني واسمعي يا جارة».
وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ أي وأمرت بأن أكون أول المسلمين من هذه الأمة في مخالفة دين الآباء الوثنيين، وتوحيد الله، وأول من انقاد لله تعالى من أهل العصر أو القوم، لأنه أول من خالف عبّاد الأصنام.
قُلْ: إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ أي قل لهؤلاء المشركين عبدة الأوثان: إني أخشى إن عصيت ربي بترك إخلاص العبادة له وتوحيده، وترك الدعوة المعادية للشرك وتضليل أهله عذاب يوم شديد الهول، وهو يوم القيامة. وهذا تعريض بهم بطريق الأولى والأحرى.
ثم أكد الأمر بالإخلاص في الطاعة للدلالة على أنه يعبد الله وحده، ولترسيخ المعنى في الأذهان، فقال: قُلِ: اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَهُ دِينِي قل أيها الرسول لهؤلاء المشركين مرة أخرى: أمرني ربي أن أعبده وحده لا شريك له «١»، وأن يكون تعبّدي خالصا لله غير مشوب بشرك ولا رياء ولا غيرهما، فلا أعبد غيره، لا استقلالا، ولا على جهة الشركة.
ثم هددهم وأوعدهم قائلا:
فَاعْبُدُوا ما شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ أي اعبدوا ما أردتم أن تعبدوه من غير الله، من الأوثان والأصنام، فسوف تجازون بعملكم، وهذا الأمر للتهديد والتقريع والتوبيخ والتبرؤ منهم.
(١) إن تقديم المفعول في الآية: اللَّهَ أَعْبُدُ على الفعل يفيد القصر، أي لا أعبد أحدا غير الله.
266
ثم حذرهم من عاقبة الخسران يوم القيامة قائلا:
قُلْ إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ، أَلا ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ أي قل لهم أيها الرسول: إنما الخاسرون كل الخسران هم الذين خسروا أنفسهم بالضلال والشرك والمعاصي، وخسروا أتباعهم من الأهل حيث أضلوهم وأوقعوهم في العذاب الدائم يوم القيامة، وهذا هو الخسران البيّن الظاهر الواضح، فلا خسران أعظم منه، إذ لا مجال لتعويض الخسارة.
ثم وصف حالهم في النار لبيان نوع الخسران فقال:
لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ، وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ أي لهم أطباق متراكمة من النار الملتهبة عليهم، من فوقهم ومن تحتهم، أي أن النار محيطة بهم من كل جانب، كما قال تعالى: لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهادٌ، وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَواشٍ، وَكَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ [الأعراف ٧/ ٤١] وقوله: يَوْمَ يَغْشاهُمُ الْعَذابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ، وَيَقُولُ: ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [العنكبوت ٢٩/ ٥٥].
وسمى ما تحتهم ظللا، لأنها تظلل من تحتها من أهل النار، ففي كل طبقة من طبقات النار طائفة من طوائف الكفار.
ذلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبادَهُ، يا عِبادِ فَاتَّقُونِ أي ذلك العذاب الشديد الذي يخبر به الله خبرا كائنا لا محالة ليرهب به عباده، لينزجروا عن المعاصي والمآثم والمحارم، فيا عبادي اخشوا بأسي وسطوتي، وعذابي ونقمتي. وهذا التحذير والتنبيه نعمة عظمي صادرة من فيض رحمة الله وفضله، حتى لا يفاجأ الناس بالعذاب، ومن أنذر فقد أعذر.
وبعد إيراد هذا الوعيد لعبدة الأصنام، ذكر الله تعالى وعده لمن اجتنب عبادتها، فقال:
267
وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوها وَأَنابُوا إِلَى اللَّهِ، لَهُمُ الْبُشْرى أي والذين أعرضوا عن عبادة الأصنام والشيطان، وأقبلوا على عبادة الله معرضين عما سواه، لهم البشارة العظمى بالثواب الجزيل، وهو الجنة، إما على ألسنة الرسل، أو حين الموت أو عند البعث. وهي بشارة شاملة لمن نزلت الآية في حقهم ولغيرهم ممن اجتنب عبادة الأوثان، لأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، والآية كقوله تعالى: هُمُ الْبُشْرى فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ
[يونس ١٠/ ٦٤].
والطاغوت «١» : يطلق على الواحد والجمع، ويشمل عبادة الأوثان والشيطان، لأن الشيطان هو الآمر بتلك العبادة والمزيّن لها، فهو سبب الكفر والعصيان.
فَبَشِّرْ عِبادِ، الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أي بشر بالجنة أيها الرسول عبادي المؤمنين الذين اجتنبوا عبادة الطاغوت، والذين يستمعون القول الحق، من كتاب الله وسنة رسوله، فيفهمونه، فيتبعون أحسن ما يؤمرون به، فيعملون بما فيه، كما قال تعالى لموسى عليه السلام: فَخُذْها بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِها [الأعراف ٧/ ١٤٥].
وهذا مدح لهم بأنهم نقّاد في الدين يميزون بين الحسن والأحسن، والفاضل والأفضل.
أُولئِكَ الَّذِينَ هَداهُمُ اللَّهُ وَأُولئِكَ هُمْ أُولُوا الْأَلْبابِ أي هؤلاء المتصفون بهذه الصفة هم الذين وفقهم للصواب في الدنيا والآخرة، وهم ذوو العقول الصحيحة والفطر المستقيمة.
(١) وقرئ: الطواغيت.
268
ثم بيّن تعالى أضداد المذكورين قائلا:
أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذابِ، أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ أي أأنت مالك أمر الناس، فمن وجب عليه العذاب لإعراضه وعناده، فأنت تخلصه من النار؟
والمعنى: إنك لا تقدر على هدايته، فتنقذه من عذاب النار. والآية تسلية لرسول الله ص، لأنه كان حريصا على إيمان قومه، فأعلمه الله أن من كان من أهل الضلالة والهلاك، لا تستطيع هدايته.
ثم أعاد الله تعالى الإخبار عن جزاء المتقين السعداء للحض على التقوى، فقال:
لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِها غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ، تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ، وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعادَ أي لكن أولئك الذين اتقوا عذاب ربهم بأداء فرائضه واجتناب معاصيه، لهم في الجنة غرف مبنية محكمة البناء، وهي القصور الشاهقة ذات الطبقات المزخرفات العالية، لأن الجنة درجات بعضها فوق بعض، والنار دركات بعضها تحت بعض، والجنة تجري فيها من تحت تلك الغرف أنهار عذبة الماء، وفي ذلك كمال بهجتها وزيادة رونقها، ثم أكد تعالى حسن هذا الجزاء، فأخبر أنه وعد من الله وعده للمتقين المؤمنين، ووعد الله حق ثابت، لا ينقض ولا يخلف.
فقه الحياة أو الأحكام:
أرشدت الآيات إلى ما يأتي:
١- أمر الله المؤمنين بأن يضموا إلى الإيمان التقوى: وهي امتثال المأمورات واجتناب المنهيات، مما يدل على أن الإيمان وحده لا يكفي، كما يدل على أن الإيمان يبقى مع المعصية.
٢- للتقوى فوائد جلّى، فللمتقين حسنة في الدنيا من صحة وعافية ونصر
269
وسلطان وجاه وغنى، وحسنة في الآخرة بالثواب الجزيل والعطاء الكثير الدائم.
٣- لا عذر للمقصرين في الإحسان والطاعة، فمن صد عن طاعة الله في بلد، فعليه المهاجرة إلى بلد آخر يتمكن فيه من الاشتغال بالطاعات والعبادات، اقتداء بالأنبياء والصالحين في هجرتهم إلى غير بلادهم، ليزدادوا إحسانا إلى إحسانهم وطاعة إلى طاعتهم.
والمقصود من الآية وَأَرْضُ اللَّهِ واسِعَةٌ الترغيب في الهجرة من مكة حيث كانت واجبة في صدر الإسلام، والصبر على مفارقة الأوطان.
٤- الصبر: هو الرضا بمفارقة الأوطان والأهل، واحتمال البلايا وفجائع الدنيا في طاعة الله تعالى. وثواب الصبر مفتوح غير مقيد بحدود، فكل من رضي بما أصابه، وترك ما نهي عنه، فلا مقدار لأجره. وهذا يشابه ثواب الصوم،
لقوله ص عن ربه فيما رواه مسلم عن أبي هريرة: «الصوم لي وأنا أجزي به».
عن الحسين رضي الله عنهما قال: سمعت جدي رسول الله ص يقول: «أدّ الفرائض تكن من أعبد الناس، وعليك بالقنوع تكن من أغنى الناس، يا بني إن في الجنة شجرة يقال لها: شجرة البلوى، يؤتى بأهل البلاء، فلا ينصب لهم ميزان، ولا ينشر لهم ديوان، يصبّ عليهم الأجر صبّا» ثم تلا النبي ص:
إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ.
قال النحاس: لفظ صابر يمدح به، وإنما هو لمن صبر عن المعاصي، وإذا أردت أنه صبر على المصيبة قلت: صابر على كذا.
ثم إن الأجر على الصبر إنما هو بحسب الوعد من الله، لا بحسب الاستحقاق.
٥- أمر الله تعالى رسوله ص مرتين في هذه الآيات للتأكيد بإخلاص
270
العبادة والطاعة لله وحده لا شريك له، دون أن تكون مشوبة بشائبة الشرك أو الرياء أو غير ذلك. وأمة الرسول ص من بعده مأمورة بذلك، لأن أمر الرسول ص أمر للأمة، والبدء به تعليم وإرشاد وجعله قدوة لأمته.
كذلك أمر الله تعالى رسوله ص بأن يكون أول المسلمين من هذه الأمة، وكان ذلك فعلا، فإنه كان أول من خالف دين آبائه، وخلع الأصنام وحطمها، وأسلم لله وآمن به، ودعا إلى ذلك.
وأمر الرسول ص أيضا بأن يخاف عذاب يوم القيامة.
وكل هذه الأوامر تعريض بالمشركين وتعليم وإرشاد للمؤمنين.
٦- قوله تعالى: فَاعْبُدُوا ما شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ ليس إباحة ولا إذنا وإقرارا لعبادتهم الأصنام، وإنما هو أمر تهديد ووعيد وتقريع، كقوله تعالى: اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ [فصلت ٤١/ ٤٠] وقوله: اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ [الأنعام ٦/ ١٣٥].
٧- إن الخسارة الكبرى التي لا تعوض للمشركين والكافرين هي خسارة النفس والأهل يوم القيامة بسبب الضلال عن الدين الحق، والإضلال للأتباع عن دين الله. قال ابن عباس: ليس من أحد إلا وخلق الله له زوجة في الجنة، فإذا دخل النار خسر نفسه وأهله. ومن عمل بطاعة الله، كان له ذلك المنزل والأهل إلا ما كان له قبل ذلك، وهو قوله تعالى: أُولئِكَ هُمُ الْوارِثُونَ [المؤمنون ٢٣/ ١٠].
٨- للكفار عذاب يحيط بهم من كل جانب في نار جهنم يوم القيامة. وهو عذاب شديد، لذا خوّف الله به عباده المؤمنين وأولياءه المتقين، فيا أولياء الله، اتقوا الله ربّكم من هذا العذاب، بإخلاص التوحيد والطاعة. وهذا وعيد شديد لعبدة الأصنام.
271
٩- وعد الله بالجنة المؤمنين الذين اجتنبوا عبادة الأوثان والشياطين الذي زين لهم تلك العبادة، والذين أنابوا إلى الله، أي رجعوا بالكلية إلى عبادته وطاعته.
وهؤلاء فعلا هم الذين انتفعوا بعقولهم، وهم الذين ميّزوا بين الحق والباطل، وبين الحسن والقبيح، ففهموا أوامر الله، واتبعوا كتاب الله وسنة رسوله ص.
١٠- الهداية بيد الله تعالى وحده، لذا خاطب الله رسوله ص مسليا له:
أفأنت تنقذ من النار من حقت عليه كلمة العذاب؟ ويلاحظ أن الهداية والضلال من خلق الله تعالى وإيجاده، كخلق جميع أعمال الإنسان، أما تحصيلهما واكتسابهما واختيارهما فمن العبد، قال تعالى: مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِداً [الكهف ١٨/ ١٧].
١١- لما بيّن الله تعالى أن للكفار ظللا من النار من فوقهم ومن تحتهم، بيّن أن للمتقين غرفا فوقها غرف، أي علالي مرتفعة فوقها علالي مبنية كبناء منازل الأرض، لأن الجنة درجات يعلو بعضها بعضا، وللنار دركات بعضها أسفل من بعض.
والجنة مزدانة بأبهى أنواع الجمال، فهي تجري من تحت غرفها الأنهار، أي هي جامعة لأسباب النزهة، وقد وعد الله بها عباده الأتقياء وعدا محققا كائنا لا شك فيه، كما أوعد الكافرين بالنار، وإن الله لا يخلف الميعاد الذي وعد به الفريقين.
272
حال الدنيا
[سورة الزمر (٣٩) : آية ٢١]
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسَلَكَهُ يَنابِيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَراهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطاماً إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ (٢١)
الإعراب:
ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطاماً يَجْعَلُهُ: فعل مضارع مرفوع، وقرئ بالنصب، وهي قراءة ضعيفة.
المفردات اللغوية:
أَلَمْ تَرَ تعلم مِنَ السَّماءِ ماءً من السحاب مطرا فَسَلَكَهُ يَنابِيعَ أدخله عيونا وأمكنة نبع، والينابيع: جمع ينبوع: وهو عين الماء يَهِيجُ ييبس ويجف فَتَراهُ مُصْفَرًّا تشاهده بعد الخضرة مثلا مصفرا أَلْوانُهُ أنواعه وأصنافه حُطاماً فتاتا مكسرا لَذِكْرى تذكيرا بأنه لا بد من صانع حكيم دبره وسوّاه لِأُولِي الْأَلْبابِ لأصحاب العقول، فهم لا غيرهم الذين يتذكرون به للدلالة على وحدانية الله تعالى وقدرته.
المناسبة:
بعد أن وصف الله تعالى الآخرة بصفات تقتضي الرغبة فيها، وفي طاعة الله، وصف الدنيا بصفة تستوجب النفرة منها، وهي قصر مدتها وسرعة زوالها.
وإنما قدم وصف الآخرة، لأن الترغيب في الآخرة مقصود بالذات، والتنفير عن الدنيا مقصود عرضا.
التفسير والبيان:
ألم تشاهد أيها الرسول وكل مخاطب أن الله أنزل من السحاب مطرا، فأدخله
273
وأسكنه في الأرض، ثم أخرج منها عيونا متدفقة بالماء، ثم تسقى به الأرض، فيخرج بذلك الماء من الأرض زرعا مختلفا أنواعه، كبّر وشعير وخضار وغيرهما، ومختلفا ألوانه، من أصفر وأخضر وأبيض وأحمر وغيرها من الألوان البديعة الأخاذة.
ثم ييبس ويجف، فتراه مصفرا بعد خضرته ونضارته، ثم يصير متفتتا متكسرا، وإنّ فيما تقدم ذكره من إنزال المطر وإخراج الزرع به موعظة ينتفع بها أهل العقول الصحيحة، وتذكرة وتنبيها على حكمة فاعل ذلك وقدرته.
فهؤلاء يعلمون بأن حال الحياة الدنيا كحال هذا الزرع في سرعة الزوال والانقطاع، وذهاب بهجتها، وتلاشي رونقها ونضارتها، ولم يبق لديهم شك في أن الله قادر على البعث والحشر.
ونظير الآية قوله تعالى: وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ، فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ، فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّياحُ، وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِراً [الكهف ١٨/ ٤٥].
فقه الحياة أو الأحكام:
هذه الآية تدل على قدرة الله في إحياء الخلق، والتمييز بين المؤمن والكافر، فهو قادر على ذلك، كما أنه قادر على إنزال الماء من السماء، أي إنزال المطر من السحاب.
وهي أيضا ترغب في الآخرة لخلودها، وتنفر من الدنيا لتوقيتها وقصر مدتها وسرعة زوالها وانقضائها.
فهذه الدنيا الفانية متاعها زائل، وزخرفها باهت، وهي متحولة متغيرة لا تبقى على حال واحدة، ونهايتها محتومة، كما قال تعالى: كُلُّ مَنْ عَلَيْها
274
فانٍ، وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ
[الرحمن ٥٥/ ٢٦- ٢٧] وقال سبحانه: كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ [القصص ٢٨/ ٨٨].
والخلاصة: أن الآية مثل لحال الدنيا، يتعظ بها كل ذي عقل سليم، بعيد النظر، عميق الفكر والتأمل، ينظر إلى المستقبل الحتمي نظرة اليقظ الحذر، المستعدّ العامل.
الهداية للإسلام
[سورة الزمر (٣٩) : الآيات ٢٢ الى ٢٦]
أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٢٢) اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللَّهِ ذلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ (٢٣) أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذابِ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (٢٤) كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتاهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ (٢٥) فَأَذاقَهُمُ اللَّهُ الْخِزْيَ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (٢٦)
الإعراب:
اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً كتابا بدل من أحسن.
وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ الواو للحال، وقد: مقدّرة.
275
البلاغة:
أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ؟ إيجاز بالحذف لدلالة السياق عليه ل حذف خبره وتقديره:
كمن طبع الله على قلبه؟ ومثله: أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ وجوابه كمن أمن منه بدخول الجنة.
وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ أي وقيل لهم، وضع الظاهر موضع الضمير تسجيلا للظلم عليهم وإشعارا بما يوجب القول لهم، وهو: ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ.
يَهْدِي ويُضْلِلِ بينهما طباق.
المفردات اللغوية:
شَرَحَ فتح وبسط، والمراد: خلق نفسه شديدة الاستعداد لقبول الإسلام صَدْرَهُ أي قلبه، فاهتدى، من حيث إن الصدر محل القلب منبع الروح المتعلق بالنفس القابلة للإسلام، وجواب الاستفهام محذوف تقديره: كمن طبع الله على قلبه، بدليل ما بعده وهو: فَوَيْلٌ لِلْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ ويل: كلمة عذاب، والقاسية قلوبهم: المعرضة عن قبول القرآن، والقسوة: جمود القلب وصلابته. وقوله المتقدم: فَهُوَ عَلى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ يعني نور المعرفة والاهتداء إلى الحق، والنور:
البصيرة والهدى،
قال ص: «إذا دخل النور القلب انشرح وانفسح»
وسيأتي الحديث بتمامه مُبِينٍ بيّن واضح.
أَحْسَنَ الْحَدِيثِ أي القرآن كِتاباً قرآنا مُتَشابِهاً في النظم والمعنى، أي يشبه بعضه بعضا في الإعجاز، وحسن النظم، والدقة، وصحة المعنى والإحكام مَثانِيَ جمع مثنى، من التثنية: التكرار، أي ثنى فيه الوعد والوعيد وغيرهما تَقْشَعِرُّ مِنْهُ تضطرب وتتحرك وترتعد خوفا عند ذكر وعيده يَخْشَوْنَ يخافون تَلِينُ تطمئن وتسكن إِلى ذِكْرِ اللَّهِ عند ذكر وعده ذلِكَ الكتاب هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ هدايته وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ ومن يخذله فَما لَهُ مِنْ هادٍ يخرجه من الضلالة.
أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذابِ يجعله درقة (ترسا) يقي به نفسه أشد العذاب، بأن يلقى في النار مغلولة يداه إلى عنقه، والجواب محذوف تقديره: كمن أمن منه بدخول الجنة لِلظَّالِمِينَ كفار مكة وأمثالهم ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ أي ذوقوا وباله وجزاءه.
كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أي كذبوا رسلهم في إتيان العذاب فَأَتاهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ من الجهة التي لا يخطر ببالهم أن الشر يأتيهم منها الْخِزْيَ الذل والهوان فِي الْحَياةِ الدُّنْيا كالقتل والسبي والإجلاء والخسف والمسخ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ لو كان المكذبون يعلمون عذاب الآخرة ما كذبوا.
276
سبب النزول: نزول الآية (٢٣) :
اللَّهُ نَزَّلَ:
روى الحاكم وغيره عن سعد بن أبي وقاص قال: نزل على النبي ص القرآن، فتلاه عليهم زمانا، فقالوا: يا رسول الله، لو حدثتنا؟
فنزل: اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ.
وعن ابن عباس: أن قوما من الصحابة قالوا: يا رسول الله، حدّثنا بأحاديث حسان وبأخبار الدهر، فنزل: اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ.
المناسبة:
بعد أن بيّن الله تعالى ما يوجب الإقبال على الآخرة بطاعة الله تعالى، وما يوجب الإعراض عن الدنيا، أوضح أن الانتفاع بهذه البيانات لا يكمل إلا إذا شرح الله الصدور ونوّر القلوب، ثم أوضح أن من أضله الله فلا هادي له، وأن من يلقى في النار ليس كمن آمن وأمن، فدخل الجنة، وأن مكذبي الرسل لهم عذاب شديد في الدنيا والآخرة.
التفسير والبيان:
أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ؟ أي أفمن وسّع الله صدره للإسلام، فقبله واهتدى بهديه، فهو بسبب هذه الهداية على بصيرة ونور من ربه يفيض عليه، أي نور المعرفة والاهتداء إلى الحق، كمن قسا قلبه لسوء اختياره وغفلته وجهالته، فصار في ظلمات الضلالة وبليّات الجهالة؟!.
والمعنى: أنه لا يستوي المهتدي المهدي الموفق للإسلام والحق ومن هو قاسي القلب، البعيد عن الحق، كما قال تعالى: أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً، فَأَحْيَيْناهُ، وَجَعَلْنا
277
لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ، كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها
[الأنعام ٦/ ١٢٢] وقال تعالى: فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ [الأنعام ٦/ ١٢٥].
وأخرج ابن مردويه عن ابن مسعود قال: قلنا: يا رسول الله، قوله تعالى: أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ، فَهُوَ عَلى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ كيف انشرح صدره؟ قال: «إذا دخل النور القلب انشرح وانفتح، قلنا: يا رسول الله، وما علامة ذلك؟ قال: الإنابة إلى دار الخلود، والتجافي عن دار الغرور، والاستعداد للموت قبل نزوله».
وأخرج الحكيم الترمذي في نوادر الأصول عن ابن عمر: أن رجلا قال:
يا رسول الله، أي المؤمنين أكيس؟ قال: «أكثرهم للموت ذكرا، وأحسنهم له استعدادا، وإذا دخل النور في القلب انفسح واستوسع، قالوا: فما آية ذلك يا نبي الله؟ قال: الإنابة إلى دار الخلود، والتجافي عن دار الغرور، والاستعداد للموت قبل نزول الموت».
ثم ذكر عقاب قساة القلوب للدلالة على الكلام المحذوف الذي قدر، فقال:
فَوَيْلٌ لِلْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ، أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ أي فالعذاب الشديد لمن لا تلين قلوبهم عند ذكر الله، ولا تخشع ولا تعي ولا تفهم، أولئك قساة القلوب في ضلال واضح عن الحق، وغواية ظاهرة لكل الناس.
أخرج الترمذي عن ابن عمر قال: قال رسول الله ص: «لا تكثروا الكلام بغير ذكر الله، فإن كثرة الكلام بغير ذكر الله قسوة للقلب، وإن أبعد الناس من الله القلب القاسي».
وعن أبي سعيد الخدري أن رسول الله ص قال: «قال الله تعالى: اطلبوا
278
الحوائج من السّمحاء، فإني جعلت فيهم رحمتي، ولا تطلبوها من القاسية قلوبهم، فإني جعلت فيهم سخطي».
وقال مالك بن دينار: ما ضرب عبد بعقوبة أعظم من قسوة قلب، وما غضب الله على قوم إلا نزع الرحمة من قلوبهم.
ثم وصف الله القرآن الذي يشرح الصدر، فقال:
اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ، تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ، ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللَّهِ أي الله «١» نزل أحسن الأحاديث وهو القرآن، لما فيه من الخيرات والبركات والمنافع العامة والخاصة، وهو كتاب يشبه بعضه بعضا في جمال النظم وحسن الإحكام والإعجاز، وصحة المعاني، وقوة المباني، وبلوغه أعلى درجات البلاغة، وتثنى فيه القصص وتردد، وتتكرر فيه المواعظ والأحكام من أوامر ونواه ووعد ووعيد، ويثنى في التلاوة فلا يملّ سامعه، ولا يسأم قارئه.
إذا ذكرت آيات العذاب اقشعرت جلود الخائفين لله، كما قال الزجاج، وتضطرب النفس وترتعد بالخوف مما فيه من الوعيد. ثم تسكن وتطمئن الجلود والقلوب عند سماع آيات الرحمة، قال قتادة: هذا نعت أولياء الله، نعتهم بأنها تقشعر جلودهم، ثم تطمئن قلوبهم إلى ذكر الله، ولم ينعتهم بذهاب عقولهم والغشيان عليهم، إنما ذلك في أهل البدع، وهو من الشيطان.
عن أسماء بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنهما قالت: كان أصحاب النبي ص إذا قرئ عليهم القرآن، كما نعتهم الله، تدمع أعينهم وتقشعر جلودهم.
(١) الابتداء باسم الله وإسناد ضمير نَزَّلَ إليه: فيه تفخيم للمنزّل ورفع منه، كما تقول: الملك أكرم فلانا.
279
قيل لها: فإن أناسا اليوم إذا قرئ عليهم القرآن، خر أحدهم مغشيا عليه، فقالت: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم.
ذلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ أي ذلك الكتاب أو القرآن هو هداية الله يهدي به من يشاء هدايته ويوفقه للإيمان، وهذه صفة من هداه الله، ومن كان على خلاف ذلك، فهو ممن أضله الله.
وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ أي من يخذله الله عن الإيمان بالقرآن من الفساق والفجرة، فلا مرشد له.
ثم أبان الله تعالى سبب التفرقة بين المهتدي والضال، فقال:
أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذابِ يَوْمَ الْقِيامَةِ؟ هذا مثل قوله تعالى:
أَفَمَنْ يُلْقى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِناً يَوْمَ الْقِيامَةِ [فصلت ٤١/ ٤٠]. والمعنى:
أمن يتقحم نار جهنم، فلا يجد ما يتقي به سوى وجهه، ليتقي العذاب الشديد يوم القيامة، كمن هو آمن لا يعتريه شيء من المخاوف أو المكروه، ولا يحتاج إلى اتقاء المخاوف، بل هو سالم من كل سوء، مطمئن في جنة الله؟! أي لا يستوي هذا وذاك، كما قال عز وجل: أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلى وَجْهِهِ أَهْدى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ [الملك ٦٧/ ٢٢].
وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ: ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ أي: وحين يقال للكافرين:
ذوقوا جزاء كسبكم من المعاصي في الدنيا، كقوله تعالى: هذا ما كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ، فَذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ [التوبة ٩/ ٣٥].
ثم ذكر تعالى عذاب مكذبي الرسل من الأمم الماضية في الدنيا، فقال:
كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتاهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ، فَأَذاقَهُمُ اللَّهُ الْخِزْيَ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا، وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ أي إن بعض
280
الأمم الماضية الذين كذبوا الرسل، أهلكهم الله بذنوبهم، وأتاهم العذاب من جهة لا يترقبون إتيان العذاب منها، وذلك عند أمنهم وغفلتهم، فأذاقهم الله الذل والهوان بما أنزل بهم من العذاب والنكال، كالخسف والمسخ والقتل والسبي والأسر وغير ذلك.
ثم إن عذاب الآخرة أشد وأنكى وأعظم مما أصابهم في الدنيا، لكونه في غاية الشدة والدوام، لو كانوا ممن يعلم ويتفكر ويعمل بمقتضى علمه.
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآيات على ما يأتي:
١- لا يستوي المهتدي الذي شرح الله صدره للإسلام، فهو على هدى من ربه، ومن طبع على قلبه وحرم الهداية، فالويل ثم الويل لقساة القلوب المعرضين عن ذكر الله، فهم في ضلال واضح.
٢- القرآن الكريم هو أحسن الحديث، أي أن أحسن ما يسمع هو ما أنزله الله وهو القرآن، وهذه هي الصفة الأولى للقرآن.
ومن خصائصه وصفاته: أنه متشابه بعضه مع بعض في الحسن والحكمة والإحكام أي في النظم والمعنى، ويصدق بعضه بعضا، ليس فيه تناقض ولا اختلاف. وأنه مثاني أي تثنى فيه القصص والمواعظ والأحكام، وتثنى تلاوته فلا يملّ منه، وأنه يجمع بين الترهيب والترغيب، فالنفس المؤمنة به تضطرب وتخاف مما فيه من الوعيد، ثم تطمئن وتسكن عند سماع آيات الرحمة. وأنه هدى الله الذي يهدي به من يشاء هدايته، وأما من يضله ويخذله من الفساق والفجار المعرضين عنه، فلا مرشد له. فهذه صفات خمس للقرآن المجيد.
٣- لا يستوي عقلا وعدلا وواقعا رجلان: أحدهما يرمى به مكتوفا في
281
النار، فأول شيء تمس منه النار وجهه، ومن هو آمن من العذاب لا يتعرض لشيء من المكروه والمخاوف. ويقال للظالمين الكافرين تبكيتا وتوبيخا:
ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ.
٤- إن عقاب الأمم الماضية المكذبة بالرسل نوعان: عقاب في الدنيا بالمسخ والخسف والزلزلة والصيحة والريح الصرصر والغرق والقتل والأسر والتشريد والذل والهوان ونحو ذلك، مما أتاهم من جهة لا يحتسبون إتيان العذاب منها، وعقاب آخر أشد وأنكى وأكبر وأعظم مما أصابهم في الدنيا، لو علموا به وتفكروا وتأملوا، وعملوا بمقتضى علمهم.
والمقصود من كل ذلك التخويف والترهيب.
عربية القرآن وضرب الأمثال فيه
[سورة الزمر (٣٩) : الآيات ٢٧ الى ٣١]
وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (٢٧) قُرْآناً عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (٢٨) ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَجُلاً فِيهِ شُرَكاءُ مُتَشاكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَماً لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلاً الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٢٩) إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ (٣٠) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ (٣١)
الإعراب:
قُرْآناً عَرَبِيًّا قُرْآناً: توطئة للحال أو حال مؤكدة، وعَرَبِيًّا: حال من القرآن.
ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا.. بدل من مَثَلًا تقديره: ضرب الله مثلا مثل رجل، فحذف المضاف.
282
وفِيهِ شُرَكاءُ مرفوع بالظرف على المذهبين: البصري والكوفي، لأن الظرف وقع صفة لقوله: رَجُلًا. ورَجُلًا سَلَماً معطوف على قوله: رَجُلًا الأول، أي مثل رجل سالم.
هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلًا تمييز.
المفردات اللغوية:
ضَرَبْنا جعلنا مِنْ كُلِّ مَثَلٍ يحتاج إليه الناظر في أمر دينه يَتَذَكَّرُونَ يتعظون غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لا اختلال فيه بوجه من الوجوه، ولا لبس ولا اختلاف يَتَّقُونَ الكفر.
ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا للمشرك والموحد، وضرب المثل: تشبيه حال غريبة بحال أخرى مثلها مُتَشاكِسُونَ متنازعون مختلفون لسوء أخلاقهم وطباعهم سَلَماً سالما خالصا هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلًا أي لا يستوي العبد المملوك لجماعة، والعبد لواحد، فإن الأول يحتار فيمن يخدم من أسياده إذا طلبوه وهو مثل للمشرك، والثاني مثل للموحد.
الْحَمْدُ لِلَّهِ كل الحمد له وحده، لا يشاركه فيه على الحقيقة سواه، لأنه المنعم بالذات والمالك على الإطلاق بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ أكثر أهل مكة والكفار لا يعلمون ما ينتظرهم من العذاب، فيشركون بالله غيره، لفرط جهلهم.
إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ إنك يا محمد ميت، والكل سواء في الموت، ستموت ويموتون، فلا شماتة بالموت. نزلت الآية لما استبطؤوا موته ص. والميّت (بالتشديد) من سيموت، والميت (بالتخفيف) من مات ثُمَّ إِنَّكُمْ أيها الناس، فيه تغليب المخاطب على الغائب تَخْتَصِمُونَ تحتكمون للقضاء فيما حدث بينكم من المظالم.
المناسبة:
بعد بيان صفات القرآن الخمس المتقدمة والتي على رأسها أنه أَحْسَنَ الْحَدِيثِ ذكر تعالى خواص أخرى للقرآن: هي أنه يضرب فيه الأمثال للناس تخويفا وتحذيرا، وأنه قرآن متلو إلى يوم القيامة، وأنه عربي اللسان، وغير ذي عوج، أي بريء من التناقض.
283
ثم ذكر فيه مثلا عجيبا للمؤمن الموحد والمشرك، يدل على فساد مذهب المشركين، بعد أن أفاض تعالى في شرح وعيد الكفار في هذه السورة.
التفسير والبيان:
وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ، لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ، قُرْآناً عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ، لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أي لقد بيّنا للناس المطلوب فيه بضرب الأمثال، من كل مثل يحتاجون إليه في أمر دينهم، ومن أمثال القرون الخالية تخويفا لهم وتحذيرا، والمثل يقرّب المعنى إلى الذهن، لعلهم يتعظون، فيعتبرون. قال تعالى: وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ، وَما يَعْقِلُها إِلَّا الْعالِمُونَ [العنكبوت ٢٩/ ٤٣]. والخلاصة: أن الحكمة في ضرب الأمثال للناس هي أن تكون عظة وذكرى لهم ليتقوا ربهم، ويرتدعوا عن غيهم.
ووصف القران بصفات ثلاث: هي كونه قرآنا أي كونه متلوا في المحاريب إلى قيام القيامة، كما قال تعالى: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ، وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ [الحجر ١٥/ ٩]. وكونه عربيا بلسان عربي مبين، أي أعجز الفصحاء والبلغاء عن معارضته، كما قال سبحانه: قُلْ: لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ، وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً [الإسراء ١٧/ ٨٨].
وكونه غير ذي عوج، أي براءته من التناقض، كما قال تعالى: وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ، لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً [النساء ٤/ ٨٢]. وذلك لعلهم يتقون ما حذرناهم منه من بأس الله وسطوته.
وإنما قدم لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ على لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ لأن التذكر متقدم على الاتقاء، لأنه إذا اتعظ به وفهم معناه، حصل الاتقاء والاحتراز.
ثم ذكر تعالى مثلا للمؤمن الموحد والكافر المشرك، فقال:
ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا، فِيهِ شُرَكاءُ مُتَشاكِسُونَ، وَرَجُلًا سَلَماً لِرَجُلٍ، هَلْ
284
يَسْتَوِيانِ مَثَلًا
؟ أي ضرب الله مثلا للمشرك في صنعه لا في معبوده، الذي يعبد أكثر من إله، بحالة رجل عبد مملوك يملكه عدد من الرجال، مختلفون فيما بينهم، متنازعون في ذلك العبد المشترك بينهم، متعاسرون، لسوء أخلاقهم وطباعهم، كل له رأي وحاجة، فإذا طلب كل واحد من السادة من هذا العبد شيئا أو حاجة، فماذا يفعل، وكيف يرضي جميع الشركاء؟ كذلك المشرك في عبادته آلهة متعددة لا يتمكن من إرضاء جميع تلك الآلهة.
وضرب الله مثلا آخر للمؤمن الموحد بحالة رجل آخر مملوك لشخص واحد، لا يشاركه فيه غيره، فإذا طلب منه شيئا لبّاه دون ارتباك ولا حيرة، وهذا كالمسلم الذي لا يعبد إلا الله، ولا يسعى لإرضاء غير ربه، فهل يكون في طمأنينة أم في حيرة؟
هذان المملوكان هل يستويان صفة وحالا؟ أي لا يستوي هذا وهذا، فكذلك لا يستوي المشرك الذي يعبد آلهة مع الله، والمؤمن المخلص الذي لا يعبد إلا الله وحده لا شريك له، فأين هذا من هذا؟
ولما كان هذا المثل ظاهرا بيّنا جليا، قال تعالى:
الْحَمْدُ لِلَّهِ، بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ أي الحمد لله على إقامة الحجة عليهم، وعلى أن الحمد لله لا لغيره، وعلى التوفيق للإسلام والحق، بل أكثر الناس لا يعلمون هذا الفرق، فيشركوا مع الله غيره.
ونظرا لجهل أكثر الناس بالحق وعدم انتفاعهم بهذا المثل، أخبر تعالى تهديدا بالموت بأن مصير الخلائق كلهم إلى الله، وهناك يتقاضون في المظالم بين يدي الله، فقال:
إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ، ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ أي إنك أيها الرسول ستموت، وهم سيموتون، ثم يحصل التقاضي عند الله، فيما اختلفتم
285
فيه في الدنيا من التوحيد والشرك، وسيحكم الله بينكم يوم القيامة، فينجي المؤمنين المخلصين الموحدين، ويعذب الكافرين الجاحدين المشركين المكذبين.
وقوله: إِنَّكَ مَيِّتٌ.. نعي أجل رسول ص وإعلام الصحابة بأنه يموت ولا يخلد في الدنيا، فقد كان بعضهم يعتقد أنه لا يموت، وهو أيضا حث لكفار قريش على انتهاز الفرصة، والمسارعة إلى الإيمان، وتلقي الوحي عن النبي ص، لأن إقامته فيهم قليلة، وليس خالدا بينهم.
وقوله: ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ ليس خاصا بالمؤمنين والكافرين في التخاصم بينهم في الدار الآخرة، وإنما هي شاملة لكل متنازعين في الدنيا، فإنه تعاد عليهم الخصومة في الآخرة. وهو دليل على أن محمدا ص سيخاصم قومه ويحتج عليهم بأنه قد بلغهم الرسالة وأنذرهم، وهم يخاصمونه، ويعتذرون بما لا معنى له.
روى الترمذي- وقال: حسن صحيح- عن الزبير بن العوام رضي الله عنه قال: لما نزلت هذه السورة على رسول الله ص: إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ، ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ قال الزبير رضي الله عنه: أي، رسول الله، أيكرر علينا ما كان بيننا في الدنيا، مع خواص الذنوب؟ قال ص:
«نعم ليكررن عليكم حتى يؤدى إلى كل ذي حق حقه».
وروى الإمام أحمد عن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال: قال رسول الله ص: «أول الخصمين يوم القيامة جاران».
وروى الإمام أحمد أيضا عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله ص: «والذي نفسي بيده، إنه ليختصم حتى الشاتان فيما انتطحتا».
وروى الحافظ أبو بكر البزار عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله
286
ص: «يجاء بالإمام الجائر الخائن يوم القيامة، فتخاصمه الرعية، فيفلحون عليه، فيقال له: سدّ ركنا من أركان جهنم».
فقه الحياة أو الأحكام:
أرشدت الآيات إلى الآتي:
١- القرآن الكريم كتاب شامل كامل لم يترك شيئا من أمر الدنيا والآخرة إلا بينه وأجلاه، حتى بالأمثال الموضحة للناس معانيه ومراميه، قال تعالى:
ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ [الأنعام ٦/ ٣٨].
والقرآن الكريم عظة وتذكير، وسبب اتقاء الكفر وتكذيب الرسل.
وخواصه: أنه قرآن متلو في المحاريب وغيرها إلى يوم القيامة، ونزل بلسان عربي مبين، ولا تناقض ولا اختلاف فيه.
٢- إن مذهب المشركين في عبادة الأوثان وتعدد الآلهة فاسد باطل لا يقبله عاقل صحيح العقل، ومن عوامل بطلانه وتهافته أنه لا يحقق لذويه غاياتهم، وأبسط دليل على ذلك هو هذا المثل الذي ضربه القرآن هنا للمؤمن الموحد والكافر المشرك.
مثل الأول الذي يعبد الله وحده: مثل رجل عبد مملوك لسيد واحد، يستطيع إرضاءه وتحقيق مراده. ومثل الثاني الذي يعبد آلهة متعددة: مثل رجل عبد مملوك لعدة شركاء، يطلبون منه في الخدمة مطالب متعارضة، فكيف يستطيع إرضاء الكل؟ وأخلاقهم متباينة، ونياتهم متغايرة، لا يلقاه أحد إلا استخدمه في حوائجه الخاصة، فتراه يلقى منهم العناء والنصّب والتعب الشديد، وهو مع ذلك لا يرضي واحدا منهم بخدمته، لكثرة الحقوق والواجبات الملقاة على عاتقه، مما يجعله ينفر ويأبق ويهرب ولا يستمر على هذا النحو من العذاب.
287
أما الذي يخدم واحدا لا ينازعه فيه أحد، إذا أطاعه وحده، عرف ذلك له، وإن أخطأ صفح عن خطئه، فأيهما أقل تعبا أو على هدى مستقيم؟! لذا ختم الله تعالى بيانه بتعليمنا فضله علينا، وإرشادنا إلى حمده وشكره والثناء عليه على أن هدانا للإسلام، ووفقنا للحق، بعد ظهور الحجة على الكافرين، ولكن أكثر الناس لا يعلمون الحق، فيتبعونه.
٣- إن مصير جميع الخلائق إلى الله لحسابهم وتصفية منازعاتهم والقضاء العدل فيهم، سواء المؤمنون والكافرون، فيتخاصم الكافر والمؤمن والظالم والمظلوم،
وورد في خبر عن ابن منده عن ابن عباس: «إن الخصومة تبلغ يوم القيامة إلى أن يحاجّ الروح الجسد».
وأخرج البخاري عن أبي هريرة أن النبي ص قال: «من كان عنده مظلمة لأخيه من عرض أو مال، فليتحلله اليوم قبل ألا يكون دينار ولا درهم، إن كان له عمل صالح، أخذ منه بقدر مظلمته، وإن لم يكن له حسنات أخذ من سيئات صاحبه، فحملت عليه».
وأخرج مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أيضا أن رسول الله ص قال: «أتدرون من المفلس؟ قالوا: المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع، فقال رسول الله ص: إن المفلس من يأتي يوم القيامة بصلاة وزكاة وصيام، ويأتي قد شتم هذا، وقذف هذا، وأكل مال هذا، وسفك دم هذا، وضرب هذا، فيعطى هذا من حسناته وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته قبل أن يقضى ما عليه، أخذ من خطاياهم، فطرحت عليه، ثم طرح في النار».
وقال أبو سعيد الخدري: كنا نقول: ربنا واحد، وديننا واحد، ونبينا واحد، فما هذه الخصومة؟ فلما كان يوم صفّين، وشد بعضنا على بعض بالسيوف، قلنا: نعم هو هذا.
288

[الجزء الرابع والعشرون]

[تتمة سورة الصافات]
وعيد المكذبين ووعد المصدقين
[سورة الزمر (٣٩) : الآيات ٣٢ الى ٣٧]
فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكافِرِينَ (٣٢) وَالَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (٣٣) لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذلِكَ جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ (٣٤) لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ (٣٥) أَلَيْسَ اللَّهُ بِكافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ (٣٦)
وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ مُضِلٍّ أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقامٍ (٣٧)
الإعراب:
وَالَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ: الَّذِي: مبتدأ، وخبره:
أُولئِكَ. وإنما جاز أن يقع أُولئِكَ خبرا للذي، وأُولئِكَ جمع، والَّذِي واحد، لأن الَّذِي يراد به الجنس، فلهذا جاز أن يقع خبره جمعا.
البلاغة:
مَثْوىً لِلْكافِرِينَ فيه إقامة الظاهر مقام المضمر، أي مثوى لهم.
يُضْلِلِ وهادٍ ويَهْدِ ومُضِلٍّ بينهما طباق.
أَلَيْسَ اللَّهُ بِكافٍ عَبْدَهُ؟ استفهام إنكار للنفي، مبالغة في الإثبات، والعبد: رسول الله ص، ويحتمل إرادة الجنس، وفسر بالأنبياء. وهكذا كل استفهام إنكاري مثل: أَلَمْ نَشْرَحْ [الشرح ٩٤/ ١]، أَلَمْ أَعْهَدْ [يس ٣٦/ ٦٠] دخل على نفي، يفيد معنى التقرير والتثبيت بالدليل، إذ نفي النفي إثبات.
5
المفردات اللغوية:
فَمَنْ أَظْلَمُ.. أي لا أحد أظلم مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ بنسبة الشريك والولد إليه وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ وهو القرآن الذي جاء به محمد ص مَثْوىً مقاما ومأوى لِلْكافِرِينَ اللام تحتمل العهد (أي كفار قريش) والجنس: جميع الكفار، وذلك يكفيهم جزاء لأعمالهم.
وَالَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ هو النبي ص وَصَدَّقَ بِهِ هم أتباعه المؤمنون، كأبي بكر الصديق، فالذي: بمعنى الذين، لذا قال: أُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ الشرك جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ على إحسانهم أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا، وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ.. أسوأ وأحسن بمعنى السيء والحسن، كقولهم: الناقص والأشج أعدلا بني مروان. وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ: ويعطيهم ثوابهم على الطاعات في الدنيا. والَّذِي عَمِلُوا: ما عملوه من المعاصي. وخص الأسوأ للمبالغة، فإنه إذا كفّر كان غيره أولى بذلك. ويقابلهم بالأحسن في زيادة الأجر وعظمه لفرط إخلاصهم في أعمالهم.
بِكافٍ عَبْدَهُ أي يكفي عبده النبي ص وعيد المشركين وكيدهم وَيُخَوِّفُونَكَ الخطاب للنبي ص، والتخويف من قريش بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ أي الأصنام، بأن تقتله أو تخبله وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ تركه في الضلال والاعتقاد بما لا ينفع ولا يضر فَما لَهُ مِنْ هادٍ يهديهم إلى الرشاد وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ يوفقه للإيمان بِعَزِيزٍ غالب منيع قوي قاهر ذِي انْتِقامٍ أي ينتقم ممن عاداه وعادى رسوله ص.
ويقال: «بلى» بعد كل من الاستفهامات الثلاثة في الآيات: أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكافِرِينَ أَلَيْسَ اللَّهُ بِكافٍ عَبْدَهُ أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقامٍ؟
سبب النزول: نزول الآية (٣٦) :
وَيُخَوِّفُونَكَ: أخرج عبد الرزاق عن معمر: قال لي رجل: قالوا للنبي ص: لتكفّنّ عن شتم آلهتنا أو لنأمرنها فلتخبّلنّك، فنزلت:
وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ.
6
المناسبة:
بعد أن بالغ واستقصى الله تعالى في بيان وعيد الكفار، وأردفه بذكر مثل يدل على فساد مذهبهم وقبح طريقتهم في قوله: ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا.. أتى هنا بأسوأ اعتقادهم وهو تكذيب الله بإثبات ولد له أو شريك، وتكذيب الرسول ص بعد إثبات صدقه بالأدلة القاطعة، وختمه بوعيدهم في جهنم.
ثم أتبعه بوعد الصادق المصدوق ووعد أتباعه المصدقين المؤمنين من تكفير السيئات ومنحهم أفضل الثواب، ليكون الوعد مقرونا بالوعيد.
التفسير والبيان:
فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جاءَهُ هذا نوع آخر من قبائح أفعال الكفار المشركين، وهو أنهم يكذبون الله، ويكذبون القائل المحق وهو رسوله الكريم ص، والمعنى: لا أحد أظلم ممن كذب على الله، فزعم أن له ولدا أو شريكا أو صاحبة وحرّم وحلل من غير أمر الله، وكذب بما جاء به رسول الله ص من دعوة الناس إلى التوحيد، وأمرهم بالقيام بفرائض الشرع، ونهيهم عن محرّماته، وإخبارهم بالبعث والنشور.
فهم جمعوا بين طرفي الباطل: كذب على الله تعالى، وتكذيب رسول الله ص بعد قيام الأدلة القاطعة على كونه صادقا في ادعاء النبوة.
وقوله: إِذْ جاءَهُ أي وقت مجيئه فاجأه بالتكذيب من غير فكر ولا ترو ولا نظر، بل وقت مجيئه كذب به.
ثم أردفه بوعيدهم فقال:
أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكافِرِينَ؟ بلى، أي أليس في نار جهنم الواسعة
7
العريضة مقام ومأوى وسكنى لهؤلاء الكافرين. وفيه تنبيه على علة كذبهم وتكذيبهم، وهو الكفر. والمراد: ألا يكفيهم العذاب في جهنم جزاء على أعمالهم؟ وهو استفهام تقرير وإثبات، لا نفي.
ثم أتبع الوعيد السابق بوعد الصادقين المصدقين، فقال:
وَالَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ، أُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ أي أما الذي جاء بالصدق والقول الحق وهو رسول الله ص وخاتم الأنبياء وإمام الرسل، والذين صدقوا به وآمنوا بأنه رسول من عند الله وهم أتباعه المؤمنون، وأيقنوا أن القرآن كلام الله تبيان كل شيء وخير وسعادة للبشرية جمعاء، فأولئك هم الذين اتقوا الله، وتجنبوا الشرك، وتبرؤوا من الأصنام والأوثان.
وثواب هؤلاء ما قال تعالى:
لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ، ذلِكَ جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ أي لهم ما يطلبون عند ربهم في الجنان، من رفع الدرجات، ودفع المضرّات، وتكفير السيئات، فضلا عن أن في الجنة ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، وذلك جزاء الذين أحسنوا في أعمالهم. والإحسان كما
ثبت في الصحيح لدى الشيخين عن عمر عن رسول الله ص، قال: «الإحسان: أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه، فإنه يراك».
وعلة هذا الجزاء:
لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا، وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ وعدهم الله بما سبق ليكفر عنهم سيء ما عملوا، ويجزيهم أجرهم كاملا بالمحاسن من أعمالهم، ولا يجزيهم بالمساوئ. وإذا غفر لهم ما هو الأسوأ من أعمالهم، غفر لهم ما دونه بطريق أولى. والحسن الذي يعملونه هو الأحسن عند الله تعالى.
8
وقوله: لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ يدل على سقوط العقاب عنهم على أكمل الوجوه.
ثم ذكر تعالى أنه يكفي المؤمنين في الدنيا ما أهمهم ويمنع عنهم ما يخوفونهم به، فقال:
أَلَيْسَ اللَّهُ بِكافٍ عَبْدَهُ أي أن الله سبحانه يكفي من عبده وتوكّل عليه، فيدفع عنه الويلات والمصائب، ويعطيه جميع المرغوبات، كقوله:
فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ [البقرة ٢/ ١٣٧].
وعبر بلفظ الاستفهام لإنكار النفي، مبالغة في الإثبات، والمراد تقرير ذلك في النفوس، والإشارة إلى كفايته تعالى على أبلغ وجه وأظهره بحيث لا ينكره أحد، لأنه ثبت أنه تعالى عالم بجميع المعلومات، قادر على كل الممكنات، غني عن كل الحاجات، فهو تعالى عالم بحاجات العباد، وقادر على توفيرها، وهو ليس بخيلا ولا محتاجا حتى يمنعه بخله وحاجته عن إعطاء عبده ما يريد.
والمراد بعبده: النبي ص وجميع عباد الله، بدليل قراءة «عباده».
روى الترمذي والنسائي وابن أبي حاتم عن فضالة بن عبيد الأنصاري رضي الله عنه أنه سمع رسول الله ص يقول: «أفلح من هدي إلى الإسلام، وكان عيشه كفافا وقنع به».
وبعد أن ذكر الله تعالى المقدمة وهي كفاية العباد، رتب عليها النتيجة المطلوبة فقال:
وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ أي ويخوفك أيها الرسول المشركون ويتوعدونك بأصنامهم وآلهتهم التي يدعونها من دون الله جهلا منهم وضلالا، فلا تخف مما يخوفونك به من آلهتهم وجنودهم، فإن الله يحميك مما يضرك، وليس عند آلهتهم نفع ولا ضرر. وقد عرفنا في سبب النزول أن المشركين خوفوا
9
النبي ص مضرّة الأوثان، فقالوا: أتسبّ آلهتنا؟ لئن لم تكفّ عن ذكرها لتخبلنّك أو تصيبنك بسوء. ولما بعث النبي خالدا إلى كسر العزّى قال له سادنها: إني أخاف عليك منها، فلها قوة لا يقدم لها شيء، فأخذ خالد الفأس، فهشم به وجهها ثم انصرف.
والآية دليل على أن الله يحمي نبيه ص من السوء، ويكفيه وأتباعه الدين والدنيا، إذ لما كان تعالى كافي عبده، كان التخويف بغيره عبثا باطلا.
ثم أبان الله تعالى مدى قدرته وسلطانه ليبطل توعد المشركين ويبين جهلهم، فقال:
وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ، وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ مُضِلٍّ أي من حق عليه القضاء بضلالة، لسوئه وفسقه وعصيانه، فما له من هاد يهديه إلى الرشد ويخرجه من الضلالة، ومن يوفقه الله إلى السعادة والإيمان لاستعداده لهما.
فلا مضل له أبدا.
والمراد أن خلق المهتدين والضالين بيد الله، فهو الفاعل، وليس لمن عداه أي تأثير في ذلك، فلا راد لفضله، ولا مانع لمراده، لذا هدد كفار قريش قائلا:
أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقامٍ؟ أي أليس الله بغالب لكل شيء قاهر له، ينتقم من عصاته بعذاب شديد؟ فهو منيع الجناب، لا يضام من استند إلى جنابه، ولجأ إلى بابه، فإنه القوي الذي لا أقوى منه، ولا أشد انتقاما منه، ممن كفر به وأشرك وعاند رسوله ص.
والخلاصة: إن الآية وعد للمؤمنين، وعيد لكفار قريش وأمثالهم.
10
فقه الحياة أو الأحكام:
أرشدت الآيات إلى ما يلي:
١- لا أحد عند الله أظلم ممن كذب عليه، فزعم أن له ولدا وشريكا، وكذّب بالقرآن الذي جاء به النبي المصطفى ص.
٢- يكفي هؤلاء الجاحدين مقرا ومقاما جهنم، وساءت مصيرا.
٣- إن النبي ص الذي جاء بالصدق والحق، وأتباعه الذين صدقوا به كأبي بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم، هم المتقون الله حق التقوى، الذي وحّدوه فلم يشركوا به شيئا، وتجنبوا عذابه وعقابه ومعاصيه.
٤- قد أثبت الله تعالى للذي جاء بالصدق وصدق به أربعة أحكام:
الأول- أنهم هم المتقون، كما تقدم.
الثاني- أن لهم ما يشاءون عند ربهم من الكرامة والنعيم في الجنة، ذلك جزاء المحسنين وهو الثناء في الدنيا، والثواب في الآخرة. وهذا الوعد يدخل فيه كل ما يرغب الإنسان فيه، ويدل على حصول الثواب على أكمل الوجوه.
الثالث- أن الله يكرمهم ولا يؤاخذهم بسيئاتهم، ويثيبهم على الطاعات في الدنيا بأحسن أعمالهم وهي الجنة. وهذا يدل على سقوط العقاب عنهم على أكمل الوجوه.
الرابع- بدد الله كل تخويفات المبطلين التي يرددونها ويشيعونها كثيرا، بإثبات كفايته عباده وحمايته لهم من كل سوء أو شر، سواء أكان مصدر الجن أو الإنس الأشرار، أو الأصنام في زعم عبدتها مع أنها لا تضر ولا تنفع. قال إبراهيم عليه السلام فيما حكى القرآن عنه: وَكَيْفَ أَخافُ ما أَشْرَكْتُمْ، وَلا تَخافُونَ أَنَّكُمْ
11
أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً
[الأنعام: ٦/ ٨١].
٥- قوله تعالى: وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ دليل على خلق الأعمال وإرادة الكائنات من الله الذي ينتقم ممن عاداه أو عادى رسله. ودليل أيضا على أن من يضله الله بتركه في غيه وضلالته، فما له من هاد يهديه إلى الخير أبدا، ومن يهديه الله إلى الحق والصواب، فما له من مضل أبدا.
تزييف طريقة عبدة الأصنام وتهديدهم
[سورة الزمر (٣٩) : الآيات ٣٨ الى ٤٠]
وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كاشِفاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ (٣٨) قُلْ يا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (٣٩) مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذابٌ مُقِيمٌ (٤٠)
الإعراب:
أَفَرَأَيْتُمْ ما تَدْعُونَ.. ما تَدْعُونَ هو المفعول الأول، وجاء المفعول الثاني جملة استفهامية. وفيها العائد على ما وهو لفظ «هن».
كاشِفاتُ.. مُمْسِكاتُ كل منهما خبر المبتدأ، ويقرأ كل منهما بالتنوين وترك التنوين، فمن نوّن نصب «ضرّه» و «رحمته» باسم الفاعل، ومن ترك التنوين جرهما بالإضافة، وهي لا تفيد هنا تعريفا، لأنها في نية الانفصال، لأن اسم الفاعل ليس بمعنى الماضي، والأصل هو التنوين، وإنما يحذف للتخفيف.
البلاغة:
ضُرِّهِ ورَحْمَتِهِ بينهما طباق.
12
المفردات اللغوية:
وَلَئِنْ اللام لام القسم. لَيَقُولُنَّ اللَّهُ لوضوح البرهان على تفرده بالخالقية. قُلْ: أَفَرَأَيْتُمْ ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كاشِفاتُ ضُرِّهِ.. أي أرأيتم بعد ما تحققتم أن خالق العالم هو الله وليست آلهتكم، إن أراد الله أن يصيبني بضر هل يكشفنه، أو أرادني بنفع هل يمسكنه عني؟ لا، وتَدْعُونَ تعبدون، ومِنْ دُونِ اللَّهِ الأصنام. والضر: الشدة والبلاء، والرحمة: النعمة والرخاء. وقال: كاشِفاتُ ومُمْسِكاتُ: لما يصفونها به من الأنوثة، تنبيها على ضعفها.
حَسْبِيَ اللَّهُ كافيا في إصابة الخير ودفع الضر، وتقرر بهذا أن الله هو القادر الذي لا مانع لما يريده من خير أو شر عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ يثق الواثقون لعلمهم بأن الكل منه تعالى.
عَلى مَكانَتِكُمْ على حالكم، وهو اسم للمكان أستعير للحال. إِنِّي عامِلٌ على مكانتي أي على حالتي، فحذف للاختصار والمبالغة في الوعيد. فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ فإن خزي أعدائه دليل غلبته، وقد أخزاهم الله يوم بدر وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذابٌ مُقِيمٌ عذاب دائم، وهو عذاب النار.
سبب النزول: نزول الآية (٣٨) :
وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ:
روي عن مقاتل أن النبي ص سألهم، فسكتوا، فنزل ذلك.
وقال غيره: قالوا: لا تدفع شيئا قدّره الله، ولكنها تشفع، فنزلت.
المناسبة:
بعد أن أوضح الله تعالى وعيد المشركين ووعد الموحدين، عاد إلى إقامة الدليل على تزييف طريقة عبدة الأصنام، معتمدا على أصلين:
الأول- أن هؤلاء المشركين مقرّون بوجود الإله الخالق القادر العالم.
والثاني- أن هذه الأصنام لا قدرة لها على الخير والشر.
13
التفسير والبيان:
أقام الله تعالى الدليل على وحدانيته بإقرار المشركين أنفسهم بذلك، فقال:
وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ، لَيَقُولُنَّ: اللَّهُ أي إذا سألت المشركين عن خالق السموات والأرض، اعترفوا بأنه هو الله سبحانه، مع عبادتهم للأوثان. وإذا اعترفوا، فكيف قبلت عقولهم عبادة غير الخالق، وتشريك مخلوق مع خالقه في العبادة؟ مع أن هذه المعبودات لا تملك لأنفسها نفعا ولا ضرا، كما قال موبخا لهم:
قُلْ: أَفَرَأَيْتُمْ ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ، هَلْ هُنَّ كاشِفاتُ ضُرِّهِ، أَوْ أَرادَنِي بِرَحْمَةٍ، هَلْ هُنَّ مُمْسِكاتُ رَحْمَتِهِ؟ أي إذا أقررتم بأن الله تعالى خلق الأشياء كلها، فأخبروني عن آلهتكم هذه، هل تقدر على كشف ما أراده الله بي من الشدة والضرر، أو هل تستطيع أن تمنع عني ما أراده الله لي من الخير والنعمة والرخاء؟ وإذا كانت في الواقع لا تملك شيئا ولا قدرة لها على شيء، فكيف تجوز عبادتها؟! وأنث قوله: هُنَّ كاشِفاتُ وهُنَّ مُمْسِكاتُ وهي الأصنام للتنبيه على كمال ضعفها وتحقيرها وتعجيزها، فإن الأنوثة مظنة الضعف، ولأنهم كانوا يصفونها بالتأنيث ويسمونها: اللات والعزى ومناة.
قُلْ: حَسْبِيَ اللَّهُ، عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ قل أيها النبي: الله كافيني أو كافيّ في جميع أموري من جلب النفع ودفع الضر، فلا أخاف تلك الأصنام التي تخوفونني بها، وإنما أخاف الله الذي عليه لا على غيره يتوكل المؤمنون، ويعتمد المعتمدون.
وذلك كما قال هود عليه السلام: إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَراكَ بَعْضُ آلِهَتِنا بِسُوءٍ، قالَ: إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ. مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعاً، ثُمَّ
14
لا تُنْظِرُونِ. إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ، ما مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها، إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ
[هود ١١/ ٥٤- ٥٦].
أخرج الإمام أحمد والترمذي والحاكم وابن أبي حاتم عن عبد الله بن عباس قال: كنت خلف النبي ص فقال: «يا غلام، إني أعلّمك كلمات: احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، وإن اجتمعوا على أن يضرّوك بشيء، لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام، وجفّت الصحف.
واعمل لله بالشكر في اليقين. واعلم أن في الصبر على ما تكره خيرا كثيرا، وأن النصر مع الصبر، وأن الفرج مع الكرب، وأن مع العسر يسرا»
.
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس أيضا، رفع الحديث إلى رسول الله ص قال: «من أحبّ أن يكون أقوى الناس فليتوكل على الله تعالى، ومن أحبّ أن يكون أغنى الناس، فليكن بما في يد الله عز وجل أوثق منه بما في يديه، ومن أحب أن يكون أكرم الناس فليتق الله عز وجل».
ثم هدد الله المشركين وأوعدهم بقوله:
قُلْ: يا قَوْمِ، اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ، إِنِّي عامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ، مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ، وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذابٌ مُقِيمٌ أي قل أيها النبي: يا قومي، اعملوا ما شئتم، اعملوا على حالتكم وطريقتكم التي أنتم عليها من عداوة رسالتي، واعتداد بالقوة والشدة، واجتهدوا في أنواع المكر، فإني على حالتي ومنهجي وطريقتي التي أنا عليها في الدعوة إلى توحيد الله ونشر دينه بين الناس، فسوف تعلمون وبال ذلك، ومن سيأتيه عذاب يهينه ويذله في الدنيا بعد افتخاره واستكباره، فيظهر
15
عندئذ أنه المبطل وخصمه المحقّ، ويحل عليه عذاب دائم مستمر لا محيد له عنه يوم القيامة، وهو عذاب النار.
فقه الحياة أو الأحكام:
هذه الآيات تدرجت في الإثبات من وجوب الاعتقاد بوحدانية الله إلى ضرورة عبادته وحده، إلى معرفة علمه وقدرته وتمكنه من إنفاذ تهديده ووعيده في الوقت المناسب.
ولكن ما أغبى المشركين وأجهلهم وأحمقهم وأسخفهم!! إنهم مع عبادتهم الأوثان مقرّون بأن الخالق هو الله، وإذا كان الله هو الخالق القادر العالم الحكيم الرحيم، فكيف يعبدون سواه؟ وكيف يخوفون رسول الله ص بآلهتهم الخرقاء العاجزة التي هي مخلوقة لله تعالى، وهو رسول من عند الله الذي خلقها وخلق السموات والأرض؟! وبعد اعترافهم بهذا، ألا يدركون أن هذه الأصنام جمادات صماء، لا تسمع ولا تبصر ولا تنفع ولا تضر؟ فإن أراد الله عبده بشدة وبلاء، فلا تستطيع هذه الأصنام دفعه ورفعه وإزالته، وإذا أراد الله إمداد عبده بنعمة ورخاء، فلا تتمكن من حجب رحمته وإمساكها ومنعها، وترك الجواب لدلالة الكلام عليه، يعني فسيقولون: لا تكشف ولا تمسك.
وأما المؤمن أو العاقل، فإنه لا يلتفت إلى تخويف المشركين بالأصنام الصماء كما في الآية السابقة: وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ، ويعلن أنه معتمد على الله، متوكل عليه، ويجب أن يعتمد عليه المعتمدون.
كذلك يصر المؤمن بالبقاء على منهجه وطريقته في عبادة الله وحده ويهزأ بكل من ضل عن هذا المنهج، وسوف تنجلي الحقائق، وتتبين ما تتمخض عنه
16
الأحداث والأيام، ويدرك الكفار أنهم مهزومون، واقعون في عذاب مهين مذل في الدنيا، وعذاب شديد دائم في الآخرة.
والخلاصة: كما يقول المثل: «من فمك أدينك يا إسرائيل» : إنه تعالى انتزع منهم الإقرار بأن خالق العالم هو الله، ثم سألهم أو استخبرهم عن أصنامهم:
هل تدفع شرا وتجلب خيرا؟ لبيان عدم صلاحيتها للألوهية والربوبية، وللتنبيه على الجواب عن قوله تعالى المتقدم: وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ فهي معدومة الهيبة والإخافة.
مظاهر القدرة التامة والعلم الكامل لله عز وجل
[سورة الزمر (٣٩) : الآيات ٤١ الى ٤٨]
إِنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ فَمَنِ اهْتَدى فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (٤١) اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرى إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (٤٢) أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعاءَ قُلْ أَوَلَوْ كانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلا يَعْقِلُونَ (٤٣) قُلْ لِلَّهِ الشَّفاعَةُ جَمِيعاً لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٤٤) وَإِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (٤٥)
قُلِ اللَّهُمَّ فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ عالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبادِكَ فِي ما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (٤٦) وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لافْتَدَوْا بِهِ مِنْ سُوءِ الْعَذابِ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَبَدا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ ما لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ (٤٧) وَبَدا لَهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٤٨)
17
الإعراب:
اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها: الَّتِي معطوف بالنصب على الْأَنْفُسَ أي ويتوفى التي لم تمت في منامها. وَيُرْسِلُ الْأُخْرى أي الأنفس الأخرى: وهي التي لم يقض عليها الموت، فحذف الموصوف وأقيمت الصفة مقامه، وإِلى أَجَلٍ مُسَمًّى منصوب ب يُرْسِلُ.
.. الشَّفاعَةُ جَمِيعاً جَمِيعاً حال من الشَّفاعَةُ. وإنما قال جَمِيعاً والشَّفاعَةُ واحد في لفظه، لأنه مصدر، والمصدر يدل على الجمع، كما يدل على الواحد، فحمل جميع على المعنى، والحمل على المعنى كثير في كلامهم.
وَإِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ وَحْدَهُ إما منصوب على المصدر، بحذف الزيادة، لأن أصله «أوحد إيحادا» أو على الحال أو على الظرف، والوجه الأول أوجه الوجوه. وإِذا الأولى والثانية شرطيتان، والثانية فجائية كالفاء التي تربط الجواب بالشرط.
البلاغة:
أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعاءَ استفهام إنكار.
الْغَيْبِ والشَّهادَةِ بينهما طباق، وكذا بين اهْتَدى وضَلَّ وَإِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ.. فيها مقابلة بين الله تعالى والأصنام، وبين الاستبشار والاشمئزاز. والمقابلة: أن يؤتى بمعنيين أو أكثر، ثم يؤتى بما يقابل ذلك على الترتيب، وهو من المحسنات البديعية.
المفردات اللغوية:
إِنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ لِلنَّاسِ نزلنا عليك القرآن لأجل الناس، ليحقق مصالحهم الدنيوية والأخروية. بِالْحَقِّ متعلق بانزلنا أي ملتبسا بالحق ملازما له.
18
فَمَنِ اهْتَدى فَلِنَفْسِهِ أي فاهتداؤه نفع به نفسه. فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها على نفسه، أي فإن وباله لا يتخطاها. وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ أي بموكّل عليهم لتجبرهم على الهدى، بل عليك البلاغ فحسب.
اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ يقبضها عند انتهاء آجالها. وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها أي ويتوفى غير الميتة وقت النوم، وهي التي لم يحضر أجلها، يتوفاها في منامها. فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضى عَلَيْهَا الْمَوْتَ ولا يردها إلى البدن الذي خرجت منه. وَيُرْسِلُ الْأُخْرى أي النائمة. إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى أي إلى وقت موتها. إِنَّ فِي ذلِكَ المذكور من التوفي والإمساك والإرسال.
لَآياتٍ دلالات على كمال قدرة الله وحكمته. لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ في الحياة والموت، فيعلمون أن القادر على ذلك قادر على البعث، وقريش لم يتفكروا في ذلك.
أَمِ اتَّخَذُوا بل اتخذت قريش. مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعاءَ أي اتخذوا الأصنام آلهة عند الله بزعمهم، تشفع لهم عند الله. قُلْ: أَوَلَوْ كانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئاً قل لهم: أيشفعون، ولو لم يملكوا الشفاعة وغيرها؟ لا وَلا يَعْقِلُونَ أنكم تعبدونهم، ولا يعقلون غير ذلك.
قُلْ: لِلَّهِ الشَّفاعَةُ جَمِيعاً أي هو مختص بها ومالك الشفاعة كلها، فلا يشفع أحد إلا بإذنه، ولا يستقل بها أحد. لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ مالك الملك كله، لا يملك أحد أن يتكلم في أمره دون إذنه ورضاه. ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ فيكون الملك له أيضا حينئذ. وَإِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ أي دون آلهتهم. اشْمَأَزَّتْ نفرت وانقبضت، والاشمئزاز: أن يمتلئ غما، فيحدث انقباض في القلب، وضيق في النفس، يظهر أثره في الوجه وَإِذا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ أي الأصنام. يَسْتَبْشِرُونَ الاستبشار: امتلاء القلب سرورا، حتى تنبسط له بشرة الوجه.
ويستبشرون هنا لفرط افتتانهم بالأصنام ونسيانهم حق الله تعالى.
اللَّهُمَّ أي يا الله. فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ مبدعها. عالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ ما غاب وما شوهد. أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبادِكَ فِي ما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ أي فأنت وحدك تقدر أن تحكم بيني وبينهم، في أمر الدين، اهدني لما اختلفوا فيه من الحق. وَبَدا لَهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا سيئات أعمالهم أو كسبهم حين تعرض صحائفهم. وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ وأحاط بهم جزاؤه.
19
سبب النزول: نزول الآية (٤٥) :
وَإِذا ذُكِرَ اللَّهُ: أخرج ابن المنذر عن مجاهد أنها نزلت في قراءة النبي ص النجم عند الكعبة وفرحهم عند ذكره الآلهة. أي قوله تعالى: أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى، وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى.. الآيات من سورة النجم [١٩- ٢٣].
المناسبة:
بعد بيان أدلة وحدانية الله وقدرته، وتوضيح فساد مذاهب المشركين بالأدلة والبراهين، وإتباعه بالوعد والوعيد، سرّى الله عن قلب نبيه ص ضيقه وانزعاجه لإصرارهم على الكفر، وأزال عنه الخوف، فأعلمه بإنزال القرآن العظيم عليه بالحق لنفع الناس واهتدائهم به، وهذا أول مظاهر قدرته. ثم أتبعه بمظهرين آخرين للقدرة هما قبضه الأرواح بانتهاء آجالها، وكونه مالك الشفاعة، ثم ذكر بعدهما بعض قبائح المشركين وعيوبهم واشمئزازهم من ذكر الله.
ثم أردف كل ذلك بأمور ثلاثة:
الأول- ذكر الدعاء العظيم المتضمن وصف الله بالقدرة التامة في قوله:
قُلِ اللَّهُمَّ فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ثم وصفه بالعلم الكامل في قوله عالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ.
الثاني- ظهور أنواع من العقاب لم تكن في حسابهم في قوله: وَبَدا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ ما لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ.
الثالث- ظهور آثار تلك السيئات التي اكتسبوها في قوله: وَبَدا لَهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا.
20
التفسير والبيان:
يخاطب الله رسوله محمدا ص بقوله:
إِنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ أي إنا نحن رب العزة وإله الكون نزّلنا عليك يا محمد القرآن العظيم، لأجل الناس، أي والجن، ولبيان ما كلّفوا به، وإنذارهم به، أنزله ربك مقرونا مصحوبا بالحق ملتبسا به، وهو دين الإسلام. قال الزمخشري: لِلنَّاسِ لأجلهم ولأجل حاجتهم إليه، ليبشّروا وينذروا، فتقوى دواعيهم إلى اختيار الطاعة على المعصية، ولا حاجة لي إلى ذلك فأنا الغني، فمن اختار الهدى فقد نفع نفسه، ومن اختار الضلالة فقد ضرها «١»، قال تعالى:
فَمَنِ اهْتَدى فَلِنَفْسِهِ، وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها، وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ أي فمن عرف طريق الحق وسلكها، فاهتداؤه لنفسه، ويعود نفع ذلك إلى نفسه، ومن حاد عن طريق الحق، فضلاله على نفسه، ويرجع وبال ذلك على نفسه، وما أنت أيها الرسول بموكل أن يهتدوا، ولا بمكلف في حملهم على الهداية، بل عليك البلاغ، وقد فعلت، كقوله تعالى: إِنَّما أَنْتَ نَذِيرٌ، وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ [هود ١١/ ١٢] وقوله سبحانه: فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسابُ [الرعد ١٣/ ٤٠] وقوله عز وجل: فَذَكِّرْ إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ، لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ [الغاشية ٨٨/ ٢١- ٢٢].
ثم ذكر الله تعالى نوعا آخر من أنواع قدرته وتصرفه في الوجود، بعد إنزال القرآن، فقال:
اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها، وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها أي إن الله هو
(١) الكشاف: ٣/ ٣٣
21
الذي يقبض الأنفس أو الأرواح حين انقضاء آجالها بالموت، الوفاة الكبرى، بما يرسل من الملائكة الذين يقبضونها من الأبدان، ويقطع تعلقها بالأجساد.
وكذلك يتوفى الأنفس التي لم يأت أجلها الوفاة الصغرى عند المنام، تشبيها للنائمين بالموتى، حيث يمنعهم من التمييز والتصرف كالموتى بالفعل، مع بقاء الأرواح في أبدانهم.
فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضى عَلَيْهَا الْمَوْتَ، وَيُرْسِلُ الْأُخْرى إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى، إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ أي يمسك الأنفس والأرواح التي قضى عليها الموت الحقيقي، أي لا يردها إلى الجسد الذي كانت فيه، ويرسل النفس النائمة إلى الأجساد حين اليقظة، بأن يعيد إليها إحساسها، إلى أجل مسمى، هو وقت الموت.
إن في ذلك المذكور من التوفي التام والإمساك لنفوس، والإرسال لنفوس أخرى لعلامات عجيبة دالة على كمال قدرة الله الباهرة، وحكمته البديعة.
ونظير الآية قوله تعالى: وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ، وَيَعْلَمُ ما جَرَحْتُمْ بِالنَّهارِ، ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضى أَجَلٌ مُسَمًّى، ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ، ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ. وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ، وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً، حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا، وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ [الأنعام ٦/ ٦٠- ٦١] فذكر الوفاتين الصغرى ثم الكبرى، وفي هذه الآية هنا ذكر الكبرى ثم الصغرى،
وقال النبي ص: «لتموتن كما تنامون، ولتبعثن كما تصحون».
واختلف العلماء في النفس والروح
هل هما شيء واحد أو شيئان؟ قال ابن عباس: إن في ابن آدم نفسا وروحا، بينهما مثل شعاع الشمس، فالنفس: التي بها العقل والتمييز، والروح:
22
هي التي بها النفس والتحريك، فيتوفيان عند الموت، وتتوفى النفس وحدها حين النوم. والأظهر أنهما شيء واحد، كما تدل الآثار الصحاح الآتية في استنباط الأحكام.
وقال الرازي: النفس الإنسانية: عبارة عن جوهر مشرق روحاني إذا تعلق بالبدن حصل ضوؤه في جميع الأعضاء، وهو الحياة. ففي وقت الموت: ينقطع تعلقه عن ظاهر البدن وباطنه، وذلك هو الموت. وأما في وقت النوم فإنه ينقطع ضوؤه عن ظاهر البدن دون باطنه، فثبت أن الموت والنوم من جنس واحد، إلا أن الموت انقطاع تام كامل، والنوم انقطاع ناقص من بعض الوجوه «١».
ونظرا لشبه النوم بالموت في بعض الأوجه، إذ النوم موت أصغر، والموت نوم أكبر، يسنّ عند النوم الدعاء التالي،
ورد في صحيحي البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله ص: «إذا أوى أحدكم إلى فراشه، فلينفضه بداخلة إزاره، فإنه لا يدري ما خلفه عليه، ثم ليقل: باسمك ربي وضعت جنبي، وبك أرفعه، إن أمسكت نفسي فارحمها، وإن أرسلتها فاحفظها بما تحفظ به عبادك الصالحين».
وخرج البخاري عن حذيفة قال: كان رسول الله ص إذا أخذ مضجعه من الليل وضع يده تحت خده، ثم يقول:
«اللهم باسمك أموت وأحيا» وإذا استيقظ قال: «الحمد لله الذي أحيانا بعد ما أماتنا وإليه النشور».
ثم ذم الله تعالى اتخاذ المشركين شفعاء من دون الله، وهم الأصنام والأنداد التي اتخذوها من تلقاء أنفسهم بلا دليل ولا برهان، وهي لا تملك شيئا من الأمر، إذ هي جمادات لا تعقل ولا تسمع ولا تبصر، فقال:
(١) تفسير الرازي: ٢٦/ ٢٨٦
23
أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعاءَ أي بل هل اتخذوا من دون الله آلهة شفعاء تشفع لهم عند الله؟ أي لا ينبغي لهم ذلك، وردّ الله عليهم بقوله:
قُلْ: أَوَلَوْ كانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلا يَعْقِلُونَ أي قل لهم أيها النبي وأخبرهم: كيف تتخذون تلك الأصنام شفعاء لكم، وهم لا يملكون شفاعة ولا غيرها، ولا يعقلون شيئا من شفاعة أو غيرها، ولا يدركون أنكم تعبدونهم؟
ثم أعلمهم الله تعالى بصفة جازمة عن ملكه بنفسه جميع أنواع الشفاعات قائلا: قُلْ: لِلَّهِ الشَّفاعَةُ جَمِيعاً، لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ، ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ أي إن الله تعالى هو مالك جميع أنواع الشفاعة، وليس لأحد منها شيء، ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن ارتضاه وأذن له، كما قال: مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ [البقرة ٢/ ٢٥٥] وقال: وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى [الأنبياء ٢١/ ٢٨].
والسبب أن الله تعالى هو مالك السموات والأرض، وهو المتصرف في جميع شؤونها، وإليه مصيركم بعد البعث. وعليه، تجب العبادة لمالك النفع والضر في الدنيا، ومالك الجزاء والحساب في الآخرة على جميع الأعمال. وفي هذا تهديد ووعيد بالاعتماد على من دون الله في أي شيء.
ثم ذكر الله تعالى بعض قبائح المشركين وغرائبهم، فقال:
وَإِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ، وَإِذا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ أي إن من سيئات المشركين الكبرى أنه إذا قيل لهم: لا إله إلا الله، انقبضوا ونفروا واغتاظوا، لأنهم لا يؤمنون بالله ولا بالبعث بعد الموت، وإذا ذكر الذين من دونه، أي الأصنام والأنداد، أو الآلهة المزعومة، كاللات والعزّى ومناة، كما ورد في سورة النجم، إذا هم يفرحون ويسرّون. ومدار المعنى على قوله: وَحْدَهُ أي إذا أفرد الله بالذكر، ولم
24
يذكر معه آلهتهم، اشمأزوا، أي نفروا وانقبضوا، وإذا ذكرت آلهتهم مع الله سروا وفرحوا.
وذلك يدل على الجهل والحماقة، لأن ذكر الله أساس السعادة وعنوان الخير، وأما ذكر الأصنام وهي الجمادات، فهو رأس الجهالة والحماقة.
قال الزمخشري: ولقد تقابل الاستبشار والاشمئزاز، إذ كل واحد منهما غاية في بابه، لأن الاستبشار: أن يمتلئ قلبه سرورا حتى تنبسط له بشرة وجهه ويتهلل. والاشمئزاز: أن يمتلئ غما وغيظا حتى يظهر الانقباض في أديم وجهه.
وبعد بيان مذمة المشركين وفساد عقولهم في حبهم للشرك ونفرتهم من التوحيد، أمر الله نبيه بالالتجاء إليه والدعاء المنجي من لوثاتهم، فقال:
قُلِ: اللَّهُمَّ فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ، عالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ، أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبادِكَ فِي ما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ أي ادع الله قائلا: يا الله خالق السموات والأرض، ويا عالم السر والعلانية، أنت تفصل بين عبادك، يوم المعاد، فتجازي المحسن بإحسانه، وتعاقب المسيء بإساءته، حتى يظهر المحق من المبطل، وترتفع خلافاتهم التي كانت بينهم في الدنيا. وفطر السموات والأرض:
جعلها على غير مثال سابق.
وقوله: فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ دليل على صفة الله بالقدرة التامة، وقوله: أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبادِكَ دليل على وصف الله بالعلم الكامل، وإنما قدم ذكر القدرة على ذكر العلم، لأن العلم بكونه تعالى قادرا متقدم على العلم بكونه عالما.
أخرج مسلم وأبو داود وغيرهما عن عائشة رضي الله عنها قالت: «كان رسول الله ص إذا قام من الليل، افتتح صلاته: اللهم ربّ جبريل وميكائيل وإسرافيل، فاطر السموات والأرض، عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين
25
عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم».
وأخرج الإمام أحمد الحديث المتقدم عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: إن رسول الله ص قال: «من قال: اللهم فاطر السموات والأرض، عالم الغيب والشهادة، إني أعهد إليك في هذه الدنيا أني أشهد أن لا إله إلا أنت وحدك لا شريك لك، وأن محمدا عبدك ورسولك، فإنك إن تكلني إلى نفسي تقربني من الشر، وتباعدني من الخير، وإني لا أثق إلا برحمتك، فاجعل لي عندك عهدا توفينيه يوم القيامة، إنك لا تخلف الميعاد، إلا قال الله عز وجل لملائكته يوم القيامة: إن عبدي قد عهد إلي عهدا، فأوفوه إياه، فيدخله الله الجنة».
وأخرج أحمد أيضا والترمذي عن مجاهد قال: قال أبو بكر الصديق: «أمرني رسول الله ص أن أقول إذا أصبحت وإذا أمسيت، وإذا أخذت مضجعي من الليل: اللهم فاطر السموات والأرض، عالم الغيب والشهادة، لا إله إلا أنت، ربّ كل شيء ومليكه، أعوذ بك من شر نفسي وشر الشيطان وشركه، أو أقترف على نفسي سوءا أو أجرّه على نفسي».
ثم ذكر الله تعالى ثلاثة أشياء في وعيد هؤلاء المشركين، فقال:
١- وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ، مِنْ سُوءِ الْعَذابِ يَوْمَ الْقِيامَةِ أي ولو أن هؤلاء الكفار المشركين ملكوا كل ما في الأرض من الأموال والذخائر، وملكوا مثله معه أي منضما إليه، لجعلوا الكل فدية لأنفسهم من ذلك العذاب الشديد يوم القيامة، جزاء ظلمهم. وهذا وعيد شديد وإقناط نهائي من الخلاص.
٢- وَبَدا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ ما لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ أي وظهر لهم من أنواع العقاب والسخط والعذاب المعد لهم، ما لم يكن في حسابهم ولا خطر في بالهم.
26
وهذا يقابل صفة الثواب في الجنة:
«فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر».
وهو مأخوذ من الآية: فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ [السجدة ٣٢/ ١٧].
٣- وَبَدا لَهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا، وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ أي وظهر لهم جزاء وآثار تلك السيئات والمآثم التي اكتسبوها في الدنيا، وأحاط بهم من العذاب والنكال ما كانوا يستهزئون به في الدار الدنيا، من إنذار الرسول ص الذي كان ينذرهم به.
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآيات على ما يأتي:
١- سلّى الله نبيه عما كان يعظم عليه ويحربه من عدم إيمان قومه، وأخبره أنه أنزل عليه النعمة العظمى، وهو القرآن المجيد مصحوبا بالحق، وهو دين الإسلام، لينتفع به الناس، ويحققوا حاجاتهم.
فمن اهتدى، فثواب هدايته إنما هو له، ومن ضل عن الحق، فعقاب ضلاله إنما هو عليه.
وليس النبي ص بموكل عليهم ولا ذا سلطان قاهر، حتى يجبرهم على الإيمان.
٢- من مظاهر قدرة الله تعالى العظيمة أنه يقبض الأنفس والأرواح عند انتهاء آجالها، ويقبض الأنفس عن التصرف في الأجسام، ويمسك أرواح الموتى في الملأ الأعلى، ويرد الأنفس إلى الأجساد بعد النوم، فيطلقها بالتصرف إلى أجل موتها. قال ابن عباس وغيره من المفسرين: إن أرواح الأحياء والأموات تلتقي
27
في المنام، فتتعارف ما شاء الله منها، فإذا أراد جميعها الرجوع إلى الأجساد، أمسك الله أرواح الأموات عنده، وأرسل أرواح الأحياء إلى أجسادها.
والأظهر أن النفس والروح شيء واحد كما تقدم، لما دلت عليه الآثار الصحاح، منها
حديث مسلم عن أم سلمة قالت: دخل رسول الله ص على أبي سلمة، وقد شقّ بصره «١» فأغمضه، ثم قال: «إن الروح إذا قبض تبعه البصر»
وحديث مسلم أيضا عن أبي هريرة قال: قال رسول الله ص: «ألم تروا الإنسان إذا مات شخص بصره، فذلك حين يتبع بصره نفسه».
وحديث ابن ماجه عن النبي ص قال: «تحضر الملائكة، فإذا كان الرجل صالحا، قالوا: اخرجي أيتها النفس الطيبة، كانت في الجسد الطيب، اخرجي حميدة، وابشري بروح وريحان وربّ راض غير غضبان، فلا يزال يقال لها ذلك حتى تخرج، ثم يعرج بها إلى السماء».
وفي صحيح مسلم عند أبي هريرة قال: «إذا خرجت روح المؤمن تلقّاها ملكان يصعدان بها».
وقال بلال في حديث الوادي: «أخذ بنفسي يا رسول الله الذي أخذ بنفسك».
والصحيح أن الروح: جسم لطيف مشابك للأجسام المحسوسة.
٣- إن في قبض الله نفس الميت والنائم، وإرساله نفس النائم وحبسه نفس الميت لدلالات على قدرة الله لقوم يتفكرون في خلق الله.
٤- لم يتفكر الكفار بنحو صحيح، بل اتخذوا الأصنام شفعاء، مع أنها لا تملك شيئا من الشفاعة ولا تعقل، لأنها جمادات.
٥- الله تعالى هو مالك الشفاعة كلها، ومالك السموات والأرض، وإليه مصير الخلائق وحسابهم يوم البعث والمعاد.
(١) أي انفتح.
28
٦- تميز المشركون بالجهل والحماقة، فإذا ذكر الله وحده دون أصنامهم انقبضوا ونفروا، وإذا ذكرت الأوثان ظهر في وجوههم البشر والسرور.
٧- الله تعالى مبدع السموات والأرض على غير مثال سبق، وعالم الغيب والشهادة، أي السر والعلانية، والحاكم الفصل بين العباد في خلافاتهم الدنيوية.
٨- لو ملك المكذبون المشركون جميع ما في الأرض من أموال وثروات لقدموه فداء رخيصا لافتداء أنفسهم من سوء عذاب يوم القيامة.
٩- يفاجأ الكفار بأنواع من العقاب لم تخطر ببالهم، ولا جرى تقديرها في حسابهم.
١٠- يظهر للكفار يوم القيامة آثار المحارم والآثار والكفر والمعاصي، من ألوان العقاب، ويحيط بهم وينزل جزاء ما كانوا به يستهزئون في الدنيا من الإنذارات والبعث والعذاب والحساب الشديد.
دعاء الإنسان عند الضر وجحوده عند النعمة وإعلامه بأن الرزق بيد الله
[سورة الزمر (٣٩) : الآيات ٤٩ الى ٥٢]
فَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعانا ثُمَّ إِذا خَوَّلْناهُ نِعْمَةً مِنَّا قالَ إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٤٩) قَدْ قالَهَا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ (٥٠) فَأَصابَهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هؤُلاءِ سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا وَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ (٥١) أَوَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٥٢)
29
البلاغة:
يَبْسُطُ وَيَقْدِرُ بينهما طباق.
المفردات اللغوية:
فَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ أي أصاب جنس الإنسان، وهو معطوف على قوله: وَإِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ لبيان تناقضهم، بمعنى أنهم يشمئزون عن ذكر الله وحده، ويستبشرون بذكر الآلهة، فإذا مسهم ضرّ، دعوا من اشمأزوا من ذكره، دون من استبشروا بذكره، وما بينهما اعتراض مؤكد لإنكار ذلك عليهم.
خَوَّلْناهُ أعطيناه وملكناه تفضلا نِعْمَةً إنعاما عَلى عِلْمٍ على علم مني بوجوه كسبه، أو علم من الله بأني له أهل ومستحق، وضمير أُوتِيتُهُ عائد على النعمة، وذكّر الضمير، لأن المراد شيء من النعمة بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ أي بل النعمة امتحان له، أيشكر أم يكفر، وتأنيث هي مراعاة للفظ النعمة وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ أن تخويل النعمة استدراج وامتحان. وهو دليل على أن المراد بالإنسان الجنس.
قَدْ قالَهَا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ من الأمم كقارون وقومه الراضين بها، وأنث ضمير قالَهَا لأن المراد هو الجملة أو الكلمة التي هي: إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ. فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ من متاع الدنيا فَأَصابَهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا جزاء سيئات أعمالهم وجزاء أعمالهم، وسماه سيئة، لأنه في مقابلة أعمالهم السيئة، رمزا إلى أن جميع أعمالهم كذلك وَالَّذِينَ ظَلَمُوا بالعتو مِنْ هؤُلاءِ المشركين، ومِنْ للبيان، أو للتبعيض سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا جزاء كسبهم كما أصاب أولئك، وقد أصابهم، فإنهم قحطوا سبع سنين، وقتل صناديدهم في بدر وَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ بفائتين عذابنا.
يَبْسُطُ الرِّزْقَ يوسعه لِمَنْ يَشاءُ امتحانا وَيَقْدِرُ يضيقه لمن يشاء ابتلاء إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ بأن الحوادث كلها من الله، سواء بالبسط أو بالتضييق.
المناسبة:
بعد أن حكى الله تعالى بعض قبائح المشركين، أتبعه بحكاية نوع آخر من القبائح، وهو أنهم عند الوقوع في الضر الذي هو الفقر والمرض يفزعون إلى الله تعالى، وفي حال النعمة وهي السعة في المال أو العافية في النفس، يزعمون أن
30
حصول ذلك بكسبهم وجهدهم وجدّهم، وهذا تناقض قبيح صارخ. والحقيقة أن ما أوتوه من النعمة فتنة واختبار ليعرف شكرهم أو كفرهم، وأما مقالتهم فهي قديمة قالها كثير قبلهم كقارون وغيره.
ثم أبان تعالى أن الله وحده مصدر الرزق، يوسعه لمن يشاء، ويضيقه على من يشاء، بدليل اختلاف الناس في سعة الرزق وضيقه، سواء من المؤمنين والكافرين، وليس جمع الثروة أو ضعفها بعقل الرجل وجهله، أو كياسته وخبرته وغباوته، وإنما بتوفيق الله وتيسيره.
التفسير والبيان:
يخبر الله تعالى عن سوء طبع الإنسان وحاله، فيقول:
فَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعانا، ثُمَّ إِذا خَوَّلْناهُ نِعْمَةً مِنَّا، قالَ: إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ، بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ، وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ أي إذا أصاب الإنسان المشرك وغيره ضر من فقر أو مرض أو غيرهما، تضرع إلى الله عز وجل، واستعان به لكشف الضر عنه، وإذا أعطاه الله نعمة من مال أو جاه أو غيرهما، بغى وطغى، وقال: إنما أعطيته على علم ومهارة مني بوجوه المكاسب، أو لما يعلم الله تعالى من استحقاقي وتأهلي له. قيل: نزلت في حذيفة بن المغيرة.
والحقيقة: ليس الإعطاء لما ذكرت، وليس الأمر كما زعمت، بل هو محنة لك، واختبار لحالك، وقد أنعمنا عليك بهذه النعمة لنختبرك فيما أنعمنا عليك، أتشكر أم تكفر؟ أتطيع أم تعصي؟ مع علمنا المتقدم بذلك، ولكن أكثر الناس لا يعلمون أن ذلك استدراج لهم من الله، وامتحان لما عندهم من الشكر أو الكفر، فلهذا يقولون ما يقولون، ويدّعون ما يدّعون.
ويلاحظ أن لفظ النعمة مؤنث، ومعناه مذكر، لذا حينما قال: بَلْ
31
هِيَ فِتْنَةٌ
راعى التأنيث، وحينما قال: إِنَّما أُوتِيتُهُ راعى التذكير، وكلا الأمرين جائز.
ثم أوضح الله تعالى قدم مقالتهم وسبقهم بها، فقال:
قَدْ قالَهَا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ، فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ أي قد قال هذه المقالة أو الكلمة، وهي قولهم: إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ وزعم هذا الزعم، وادعى هذه الدعوى كثير ممن سلف من الأمم، كقارون وغيره، فما صح قولهم، ولم يغن عنهم ما كسبوا من متاع الدنيا شيئا، ولا نفعهم جمعهم المال الكثير، لذا قال تعالى:
فَأَصابَهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا أي فحلّ بهم جزاء سيئات ما كسبوا من الأعمال، فعوقبوا في الدنيا كالخسف بقارون وبداره الأرض، وسيعاقبون أشد العذاب في الآخرة. ونظير الآية قوله تعالى عن قارون: قالَ: إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ عِنْدِي، أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً، وَلا يُسْئَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ [القصص ٢٨/ ٧٨].
وقوله سبحانه: وَقالُوا: نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوالًا وَأَوْلاداً، وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ [سبأ ٣٤/ ٣٥].
ثم هدد الله تعالى وأوعد مشركي مكة بعقاب مماثل، فقال:
وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هؤُلاءِ سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا، وَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ أي والذين ظلموا من هؤلاء الموجودين من الكفار، ومنهم مشركو مكة، سيصيبهم أيضا وبال كسبهم الأعمال المنكرة، كما أصاب من قبلهم، من القحط والقتل والأسر والقهر، وما هم بفائتين على الله، هربا يوم القيامة، بل مرجعهم إليه، يصنع بهم ما يشاء من العقوبة، ودليل قدرته العظمى ما قال:
32
أَوَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ، إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ أي أو لم ير هؤلاء المشركون أن الله يوسع الرزق لمن يشاء توسعته له، ويقبضه لمن يشاء قبضه وتضييقه عليه، إن في ذلك لدلالات عظيمة وعلامات مؤثّرة لقوم يؤمنون بالله وحده وبسلطانه وبقدرته. وقد خص المؤمنين، لأنهم المنتفعون بالآيات.
فقه الحياة أو الأحكام:
يستفاد من الآيات ما يأتي:
١- إن حال الإنسان قلق مضطرب، لا وفاء عنده، ولا ثبات لديه على المبدأ، فتراه عند الشدة يستجير بالله ويستغيث به لينجو من محنته، وعند النعمة يبغي ويطغى ويبطر ويزعم أن النعمة بجهده ومهارته واستحقاقه وأهليته لها.
٢- الحق أن الثروة والغنى والفقر ليست ميزان قربى العبد من ربه، فقد يمنح الله المؤمن ويمنع الكافر، وقد يفعل العكس، لحكمة بالغة له في ذلك، والنعمة مع الكفر والمعصية استدراج وابتلاء واختبار، ليعرف كون العبد شاكرا أم جاحدا، ولكن أكثر الناس لا يعلمون أن إعطاءهم المال اختبار.
٣- لقد زعم كثير من الناس قديما وحديثا أن إعطاءهم المال لعلم ومهارة لديهم، وعلم من الله باستحقاقهم، فلم تغن عنهم أموالهم ولا أولادهم من عذاب الله شيئا، وأصابهم جزاء سيئات أعمالهم، وسيصيب الذين أشركوا من أمة النبي ص وهم كل الأمم جزاء كسبهم في الدنيا بالجوع والقتل مثلا، وفي الآخرة بعذاب جهنم، وما هم فائتين الله ولا سابقيه.
٤- إن الله تعالى وحده هو مصدر الرزق، يمنح منه ما يشاء، ويمنعه عمن يشاء، وفي ذلك عبرة للمؤمنين، وخص المؤمن بالذكر، لأنه هو الذي يتدبر
33
الآيات وينتفع بها، ويعلم أن سعة الرزق قد تكون استدراجا، وتقتيره رفعة وإعظاما.
مغفرة الذنوب بالتوبة وإخلاص العمل
[سورة الزمر (٣٩) : الآيات ٥٣ الى ٥٩]
قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (٥٣) وَأَنِيبُوا إِلى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ (٥٤) وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ (٥٥) أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يا حَسْرَتى عَلى ما فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ (٥٦) أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (٥٧)
أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (٥٨) بَلى قَدْ جاءَتْكَ آياتِي فَكَذَّبْتَ بِها وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ (٥٩)
الإعراب:
أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ: يا حَسْرَتى: أَنَّ وصلتها: في موضع نصب، مفعول لأجله.
بَلى قَدْ جاءَتْكَ آياتِي جواب قوله تعالى: لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ والجواب ببلى لأنها تأتي في جواب النفي، لأن المعنى: ما هداني الله وما كنت من المتقين، فقيل له: بَلى قَدْ جاءَتْكَ آياتِي، فَكَذَّبْتَ بِها وَاسْتَكْبَرْتَ، فلولا أن معنى الكلام النفي، وإلا لما وقعت بَلى في جوابه. وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ أَنْ: مخففة من الثقيلة.
34
البلاغة:
آية قُلْ: يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا.. فيها: إقباله تعالى على خلقه ونداؤه لهم، وإضافة عباد إليه للتشريف، والتفات من التكلم إلى الغيبة، إذ الأصل: تسرفوا، ولا تقنطوا من رحمتي، وإضافة الرحمة في قوله مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إلى الله باعتبار لفظ الجلالة جامعا لجميع الأسماء والصفات، وقوله: إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ جملة معرّفة الطرفين، مؤكدة بإن وضمير الفصل، وقوله: إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ وضع فيه الاسم الظاهر موضع الضمير، لدلالته على أنه المستغني والمنعم على الإطلاق.
أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ: يا حَسْرَتى عَلى ما فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ قوله: جَنْبِ اللَّهِ: كناية عن حق الله وطاعته.
المفردات اللغوية:
عِبادِيَ هذه الإضافة مخصوصة بالمؤمنين في عرف القرآن.
أَسْرَفُوا أي تجاوزوا الحد في أفعالهم، بالإسراف أو الإفراط في المعاصي لا تَقْنَطُوا لا تيأسوا من مغفرته وتفضله إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً عفوا منه، ولو بعد تعذيب، وتقييد المغفرة بالتوبة خلاف الظاهر، كما قال البيضاوي، ويدل على إطلاقها فيما عدا الشرك قوله تعالى:
إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ [النساء ٤/ ٤٨] والتعليل بقوله هنا: إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ على المبالغة وإفادة الحصر، والوعد بالرحمة بعد المغفرة. لكن هذا متروك لمشيئة الله وتفضله، وليس هو القانون العام.
وَأَنِيبُوا ارجعوا وتوبوا إِلى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا أخلصوا العمل لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ بمنعه، إن لم تتوبوا، وذكر الإنابة بعد المغفرة لئلا يطمع طامع في حصولها بغير توبة، وللدلالة على أنها شرط فيها لازم، لا تحصل بدونه، كما قال الزمخشري، أي إن المغفرة لا تحصل لكل أحد من غير توبة وإخلاص في العمل، وهو القانون العام.
وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وهو القرآن بَغْتَةً فجأة وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ بمجيئه، فتتداركون التقصير في الأعمال أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ كراهة أن تقول نفس، وتنكير نفس لأن القائل بعض الأنفس، أو للتكثير يا حَسْرَتى أي يا حسرتي وندامتي فَرَّطْتُ قصرت فِي جَنْبِ اللَّهِ جانبه أي طاعته وعبادته وطلب مرضاته وَإِنْ وإني السَّاخِرِينَ المستهزئين بدينه وكتابه وأهله.
35
لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدانِي بالطاعة والإرشاد إلى الحق فاهتديت الْمُتَّقِينَ عذابه، باتقاء الشرك والمعاصي كَرَّةً رجعة إلى الدنيا فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ المؤمنين الذين أحسنوا العقيدة والعمل بَلى، قَدْ جاءَتْكَ آياتِي القرآن، وهو سبب الهداية، وهو رد من الله على القائل:
لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدانِي الذي في قوله معنى النفي أي أن بَلى حرف لا يجاب به إلا بعد النفي.
وَاسْتَكْبَرْتَ تكبرت عن الإيمان بها. وتذكير الخطاب على المعنى، وقرئ بالتأنيث عودا للنفس.
سبب النزول: نزول الآية (٥٣) :
قُلْ: يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا: أخرج الشيخان: البخاري ومسلم، وأبو داود والنسائي عن ابن عباس: أن ناسا من أهل الشرك قتلوا فأكثروا، وزنوا فأكثروا، ثم أتوا محمدا ص، فقالوا: إن الذي تقول وتدعو إليه لحسن، أو تخبرنا أن لنا توبة- أو أن لما عملنا كفارة-؟ فنزلت: وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ.. إلى قوله: وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً [الفرقان ٢٥/ ٦٨- ٧٠] ونزل: قُلْ: يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا الآية.
والمراد من آيات الفرقان: إِلَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صالِحاً الآية.
وأخرج الإمام أحمد عن ثوبان مولى رسول الله ص قال: سمعت رسول الله ص يقول: «ما أحب أن لي الدنيا وما فيها بهذه الآية: قُلْ: يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ الآية، فقال رجل: يا رسول الله، فمن أشرك؟
فسكت النبي ص، ثم قال: «ألا، ومن أشرك- ثلاث مرات»
.
وأخرج أحمد أيضا عن عمرو بن عنبسة رضي الله عنه قال: جاء رجل إلى النبي ص شيخ كبير، يدعم على عصا له، فقال: يا رسول الله، إن لي غدرات
36
وفجرات، فهل يغفر لي؟ فقال ص: ألست تشهد أن لا إله إلا الله؟ قال:
بلى، وأشهد أنك رسول الله، فقال ص: قد غفر لك غدراتك وفجراتك.
وأخرج الحاكم والطبراني عن ابن عمر قال: كنا نقول: ما لمفتتن توبة، إذا ترك دينه بعد إسلامه ومعرفته، فلما قدم رسول الله ص المدينة، أنزل فيهم:
قُلْ: يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا الآية.
وأخرج ابن جرير وابن مردويه عن ابن عباس قال: إن أهل مكة قالوا:
يزعم محمد أن من عبد الأوثان، ودعا مع الله إلها آخر، وقتل النفس التي حرم الله، لم يغفر له، فكيف نهاجر ونسلم، وقد عبدنا الآلهة، وقتلنا النفس، ونحن أهل شرك؟ فأنزل الله: قُلْ: يا عِبادِيَ.. الآية.
المناسبة:
بعد أن أوعد الله تعالى الكافرين بشتى أنواع الوعيد، أردفه ببيان كمال رحمته وفضله وإحسانه في حق عباده المؤمنين، بغفران ذنوبهم إذا تابوا وأنابوا إليه وأخلصوا العمل له، لترغيب الكفار في الإيمان بالله تعالى وترك الضلال، وكثيرا ما تأتي آيات الرحمة مع آيات النقمة ليرجو العبد ويخاف. قال أبو حيان: وهذه الآية: قُلْ: يا عِبادِيَ عامة في كل كافر يتوب ومؤمن عاص يتوب، تمحو الذنب توبته.
التفسير والبيان:
قُلْ: يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ، لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً، إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ أي قل أيها الرسول: يا عباد الله الذين أفرطوا في المعاصي واستكثروا منها، لا تيأسوا من مغفرة الله تعالى، فإن الله يغفر كل ذنب إلا الشرك الذي لم يتب منه صاحبه، لقوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ، وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ [النساء ٤/ ٤٨] إن الله كثير
37
المغفرة والرحمة، فلا يعاقب بعد التوبة. قال ابن كثير: هذه الآية الكريمة دعوة لجميع العصاة من الكفرة وغيرهم إلى التوبة والإنابة، وإخبار بأن الله تبارك وتعالى يغفر الذنوب جميعا لمن تاب منها، ورجع عنها، وإن كانت مهما كانت، وإن كثرت وكانت مثل زبد البحر، ولا يصح حمل هذه على غير توبة، لأن الشرك لا يغفر لمن لم يتب منه «١».
وقال الشوكاني: وهذه الآية أرجى آية في كتاب الله، لاشتمالها على أعظم بشارة، فإنه أولا أضاف العباد إلى نفسه، لقصد تشريفهم ومزيد تبشيرهم، ثم وصفهم بالإسراف في المعاصي والاستكثار من الذنوب، ثم عقّب ذلك بالنهي عن القنوط من الرحمة لهؤلاء المستكثرين من الذنوب، فالنهي عن القنوط للمذنبين غير المسرفين من باب الأولى وبفحوى الخطاب، ثم جاء بما لا يبقى بعده شك:
إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ...
وتقييد المغفرة بالتوبة والإنابة وإخلاص العمل مأخوذ من الآية التالية:
وَأَنِيبُوا إِلى رَبِّكُمْ.. الآية ومن الأحاديث المتقدمة في سبب النزول، فباب الرحمة واسع، كما قال تعالى: أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ [التوبة ٩/ ١٠٤] وقال سبحانه: وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ، ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ، يَجِدِ اللَّهَ غَفُوراً رَحِيماً
[النساء ٤/ ١١٠].
أخرج الطبراني عن سنيد بن شكل قال: سمعت ابن مسعود يقول: إن أعظم آية في كتاب الله: اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ [البقرة ٢/ ٢٥٥ وآل عمران ٣/ ٢]. وإن أجمع آية في القرآن بخير وشر: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ [النحل ١٦/ ٩٠]. وإن أكثر آية في القرآن فرجا في سورة الغرف (أي الزمر) : قُلْ: يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ.
(١) تفسير ابن كثير: ٤/ ٥٨
38
وإن أشد آية في كتاب الله تفويضا: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً، وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ [الطلاق ٦٥/ ٢- ٣] فقال له مسروق:
صدقت «١».
وروى ابن أبي حاتم عن أبي الكنود قال: مرّ عبد الله- يعني ابن مسعود- رضي الله عنه على قاض، وهو يذكّر الناس، فقال: يا مذكّر، لم تقنط الناس من رحمة الله؟ ثم قرأ: قُلْ: يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ، لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ.
ثم ذكر الله تعالى تقييد المغفرة بشرطين، فقال:
١- الإنابة والتوبة: وَأَنِيبُوا إِلى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ أي ارجعوا إلى الله بالتوبة والطاعة، واجتناب المعاصي، والاستسلام لأمره، والخضوع لحكمه، من قبل مجيء عذاب الدنيا بالموت، ثم لا تجدوا نصيرا ولا معينا يمنع عذابه عنكم، أي قبل حلول النقمة.
٢- اتباع القرآن: وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ أي واتبعوا القرآن، أحلوا حلاله، وحرموا حرامه، والتزموا طاعته واجتنبوا معاصيه، أي اتبعوا أوامر الله واجتنبوا نواهيه، والقرآن كله حسن.
وذلك من قبل مجيء العذاب فجأة، وأنتم غافلون عنه، لا تشعرون به.
وهذا تهديد ووعيد شديد واضح.
ثم حذر الله تعالى من التعلل بالأماني والتحسر على الماضي في وقت لا ينفع فيه ذلك، فقال:
(١) تفسير ابن كثير: ٤/ ٥٩
39
١- أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ: يا حَسْرَتى عَلى ما فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ، وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ أي بادروا إلى التوبة والعمل الصالح، واحذروا أن تقول نفس مجرمة مفرطة في التوبة والإنابة: يا ندامتي وحسرتي على تقصيري في الإيمان بالله، وطاعته، وبالقرآن والعمل به، وإنما كان عملي في الدنيا عمل ساخر مستهزئ بدين الله وكتابه وبرسوله وبالمؤمنين، غير موقن ولا مصدّق بشيء من ذلك.
٢- أَوْ تَقُولَ: لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ أي أو أن تقول: لو أن الله أرشدني إلى دينه، لكنت ممن يتقي الله، ويجتنب الشرك والمعاصي.
٣- أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذابَ: لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً، فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ أي أو أن تقول حين معاينة العذاب: ليت لي رجعة أخرى إلى الدنيا، فأكون من المؤمنين بالله، الموحّدين له، المحسنين في أعمالهم، وبإيجاز: تود لو أعيدت إلى الدنيا لتحسن العمل.
فرد الله تعالى بقوله:
بَلى، قَدْ جاءَتْكَ آياتِي، فَكَذَّبْتَ بِها، وَاسْتَكْبَرْتَ، وَكُنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ أي نعم، لقد جاءتك أيها العبد النادم على ما كان منه آياتي المنزلة في القرآن في الدار الدنيا، وقامت حججي عليك، فكذبت بها، واستكبرت عن اتباعها، وكنت من الجاحدين لها، والمعنى: قد كنت متمكنا من التصديق والمتابعة، فلماذا تطلب الرجعة إلى الدنيا الآن؟! ولن تنفعك الرجعة ولا فائدة منها لقوله سبحانه: وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ [الأنعام ٦/ ٢٨].
فقه الحياة أو الأحكام:
يستنبط من الآيات الأحكام التالية:
40
١- إن لله تعالى أن يغفر جميع الذنوب الصادرة من المؤمنين، ويعفو عن الكبائر منها أيضا. وهذا متروك لمشيئة الله وفضله.
٢- يغفر الله تعالى الذنوب بالتوبة من الشرك والكفر والمعاصي، والإنابة والرجوع إلى الله بالإخلاص والعمل الصالح، والخضوع له والطاعة لأوامره واجتناب نواهيه.
ومحل ذلك كله في الدنيا قبل مجيء العذاب بالموت، وتعذر التخلص منه، أو المنع منه بناصر أو معين.
٣- العمل: هو اتباع القرآن العظيم، بإحلال حلاله، وتحريم حرامه، والتزام أوامره وطاعته، واجتناب نواهيه ومعصيته. ويلاحظ أنه تعالى لما وعد بالمغفرة أمر بعد هذا الوعد بشيئين:
الأول: الإنابة والتوبة.
الثاني: متابعة الأحسن، وهو القرآن، كما قال: اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ [الزمر ٣٩/ ٢٣] والقرآن كله حسن، واتباعه: العمل بما أمر الله في كتابه، واجتناب معصيته.
٤- يأتي المقصر يوم القيامة بثلاثة أشياء:
أولها- الحسرة على التفريط في الطاعة، وأنه ما كان إلا من المستهزئين بالقرآن وبالرسول وبأولياء الله المؤمنين في الدنيا.
ثانيها- التعلل بفقد الهداية، وهذا قريب من احتجاج المشركين فيما أخبر الله عنه: سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا: لَوْ شاءَ اللَّهُ ما أَشْرَكْنا، وَلا آباؤُنا، وَلا حَرَّمْنا مِنْ شَيْءٍ [الأنعام ٦/ ١٤٨] فهي كلمة حق أريد بها باطل.
41
ثالثها- تمني الرجعة إلى الدنيا، كما قال: حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ: رَبِّ ارْجِعُونِ، لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ، كَلَّا، إِنَّها كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها [المؤمنون ٢٣/ ٩٩- ١٠٠].
٥- أجاب الله تعالى عن كلامهم بأن قال: التعلل بفقد الهداية باطل، لأن الهداية كانت حاضرة، والأعذار زائلة، ولكن العبد كذب بالقرآن، وتكبر عن اتباع آياته، وكان من الكافرين بها، الجاحدين لها.
حال المشركين المكذبين وحال المتقين يوم القيامة
[سورة الزمر (٣٩) : الآيات ٦٠ الى ٦١]
وَيَوْمَ الْقِيامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْمُتَكَبِّرِينَ (٦٠) وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفازَتِهِمْ لا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٦١)
الإعراب:
تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ الَّذِينَ: مفعول تَرَى ووُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ: جملة اسمية في موضع نصب على الحال، واستغني عن الواو لمكان الضمير في قوله: وُجُوهُهُمْ. ولو نصب وُجُوهُهُمْ على البدل من الَّذِينَ لكان جائزا حسنا.
لا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ حال، أو استئناف لبيان المفازة.
المفردات اللغوية:
كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ بنسبة الولد والشريك إليه وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ لما ينالهم من الشدة، ويعتريهم من الذل والحسرة مَثْوىً مقام أو مأوى لِلْمُتَكَبِّرِينَ عن الإيمان والطاعة.
والاستفهام: أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْمُتَكَبِّرِينَ تقرير وإثبات لأنهم يرون كذلك.
42
وَيُنَجِّي اللَّهُ من جهنم الَّذِينَ اتَّقَوْا الشرك الذي هو الكذب على الله بِمَفازَتِهِمْ بفوزهم بالجنة وفلاحهم، بأن يجعلوا في الجنة، وتفسيرها بالسعادة والعمل الصالح إطلاق لها على السبب، فإن سبب منجاتهم العمل الصالح، ويجوز أن يسمى العمل الصالح بنفسه مفازة، لأنه سببها.
المناسبة:
بعد وعيد المشركين بما سبق من أهوال القيامة، ووعد المتقين بالعفو والمغفرة والنعيم، ذكر الله تعالى نوعا آخر من الوعيد والوعد، وهو حال الفريقين يوم القيامة، حال المكذبين، وحال المتقين، فتسودّ وجوه الفريق الأول، وتبيضّ وجوه الفريق الثاني.
التفسير والبيان:
وَيَوْمَ الْقِيامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ، أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْمُتَكَبِّرِينَ أي واذكر أيها الرسول خبرا مهما هو حين ترى يوم القيامة الذين كذبوا على الله في دعواهم له شريكا وصاحبة وولدا، وجوههم مسودة بكذبهم وافترائهم، لما أحدق بهم من شدة وحزن وكآبة، ولما شاهدوه من العذاب وغضب الله ونقمته.
إن في جهنم مسكنا ومقاما للمتكبرين عن طاعة الله، الذين أبوا الانقياد للحق. والكبر: هو بطر الحق وغمط الناس، كما في الحديث الصحيح. وفي
حديث آخر أخرجه أحمد والترمذي عن عبد الله بن عمرو عن النبي ص: «يحشر المتكبرون يوم القيامة كأمثال الذّرّ في صور الرجال يغشاهم الذل من كل مكان يساقون إلى سجن في جهنم..».
وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفازَتِهِمْ، لا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ، وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ هذا حال الفريق الآخر في مواجهة فريق المشركين المكذبين، وهو أن الله ينجي الذين اتقوا الشرك ومعاصي الله من عذاب جهنم، ينجيهم بفوزهم، أي بنجاتهم
43
من النار، وفوزهم بالجنة، وينفي السوء والحزن عنهم يوم القيامة، بل هم آمنون من كل فزع.
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآيتان على شيئين:
الأول- اسوداد وجوه الكفار المشركين الذين كذبوا على الله بنسبة الشريك والولد إليه، مما أحاط بهم من غضب الله ونقمته، والزج بهم في نار جهنم، في أشد حالات الذل والمهانة والصغار.
الثاني- نجاة المتقين الشرك والمعاصي من النار، وفوزهم بالجنة. والآية الثانية في شأنهم تدل على أن المؤمنين لا ينالهم الخوف والرعب يوم القيامة، وتأكد هذا بقولهم: لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ [الأنبياء: ٢١/ ١٠٣].
وقد فسر النبي ص هذه الآية في حديث أبي هريرة، قال: «يحشر الله مع كل امرئ عمله، فيكون عمل المؤمن معه في أحسن صورة، وأطيب ريح، فكلما كان رعب أو خوف، قال له: لا ترع، فما أنت بالمراد به، ولا أنت بالمعنيّ به، فإذا كثر ذلك عليه قال: فما أحسنك! فمن أنت؟ فيقول: أما تعرفني؟ أنا عملك الصالح، حملتني على ثقلي، فو الله لأحملنك، ولأدفعنّ عنك، فهي التي قال الله: وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفازَتِهِمْ، لا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ، وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ.
44
دلائل الألوهية والتوحيد
[سورة الزمر (٣٩) : الآيات ٦٢ الى ٦٧]
اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (٦٢) لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (٦٣) قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجاهِلُونَ (٦٤) وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ (٦٥) بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (٦٦)
وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (٦٧)
الإعراب:
أَفَغَيْرَ اللَّهِ؟ «غير» : إما منصوب ب أَعْبُدُ أي أعبد غير الله فيما تأمروني به، وإمّا منصوب ب تَأْمُرُونِّي لأنه يقتضي مفعولين: الثاني منهما بحرف جر، كقولك: أمرتك الخير، أي بالخير. فالياء: هي المفعول الأول، وغير: مفعول ثان. وأعبد: في موضع البدل من «غير» تقديره: أتأمروني بغير الله أن أعبد.
بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ اللَّهَ: منصوب باعبد أو منصوب بتقدير فعل، أي بل اعبد الله فاعبد. والفاء: زائدة عند الأخفش، وغير زائدة عند غيره.
وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ.. الْأَرْضُ: مبتدأ، وقَبْضَتُهُ: خبره، وجَمِيعاً:
حال.
البلاغة:
لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ استعارة، شبه الخيرات والبركات والأرزاق بخزائن، واستعار لها لفظ المقاليد أي المفاتيح، والمعنى: خزائن رحمته وفضله بيده تعالى.
45
وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ استعارة تمثيلية، مثّل لعظمته وكمال قدرته وحقارة السموات والأرض بالنسبة للقدرة بمن قبض شيئا عظيما بكفه، وطوى السموات بيمينه بطريق الاستعارة التمثيلية.
المفردات اللغوية:
اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ من خير وشر وإيمان وكفر وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ قيّم يتولى التصرف فيه لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ مفاتيح خزائنها من المطر والنبات وغيرهما، لا يملك أمرها ولا يتمكن من التصرف فيها غيره، وهو كناية عن قدرته وحفظه لها وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ القرآن ودلائل قدرة الله أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ أنفسهم، وهذا عائد على فريق المكذبين الذين نسبوا لله ولدا وشريكا، وما قبله اعتراض للدلالة على أنه مهيمن على العباد، مطلع على أفعالهم، مجاز عليها.
قُلْ: أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجاهِلُونَ أي أفغير الله أعبد بعد هذه الدلائل والمواعيد، وتَأْمُرُونِّي اعتراض للدلالة على أنهم أمروه به عقيب ذلك. وقرئ تَأْمُرُونِّي بتخفيف النون، مثل: فَبِمَ تُبَشِّرُونَ أي تبشرونني.
وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ. كلام على سبيل الفرض، والمراد به تهييج الرسل، وإقناط الكفرة، وتنبيه الأمة. وأفرد الخطاب: باعتبار كل واحد. واللام الأولى: موطئة للقسم، والأخيرتان للجواب. وعطف الخسران على إحباط: الأعمال:
من عطف المسبب على السبب. ولَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ ليذهبن هباء منثورا. والإحباط: الإبطال.
بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ.. رد لما أمروه به وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ إنعامه عليك وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ ما عظّموه حق التعظيم اللائق به، حيث جعلوا له شريكا ووصفوه بما لا يليق به وَالْأَرْضُ جَمِيعاً أي الأراضي السبع قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ مقبوضة له في ملكه وتصرفه، والقبضة: المرة من القبض وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ مجموعات بقدرته. وهذه الآية تنبيه على عظمة الله وكمال قدرته وحقارة الأجرام العظام بالنسبة لقدرته، وفيها دلالة على أن تخريب العالم أهون شيء عليه. والآية على طريقة التمثيل والتخييل من غير اعتبار القبضة واليمين حقيقة ولا مجازا، كما ذكر الزمخشري والبيضاوي. سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ أي تنزه وتقدس وتعاظم الله عما يشركون معه، فما أبعد ما ينسب إلى الله من الولد والشريك عن قدرته وعظمته.
هذا واليمين تطلق على اليد، وعلى القدرة والملك، وعلى القوة: لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ [الحاقة ٦٩/ ٤٥] أي بالقوة والقدرة، والمعنى لأخذنا قوته وقدرته. قال الشاعر:
46
سبب النزول:
نزول الآية (٦٤) :
قُلْ: أَفَغَيْرَ اللَّهِ.. ؟: أخرج البيهقي في الدلائل عن الحسن البصري قال: قال المشركون للنبي ص: أتضلل آباءك وأجدادك يا محمد؟ فأنزل الله:
قُلْ: أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ إلى قوله: مِنَ الشَّاكِرِينَ. وروى ابن أبي حاتم عن ابن عباس أن المشركين من جهلهم دعوا رسول الله ص إلى عبادة آلهتهم، ويعبدوا معه إلهه، فنزلت: قُلْ: أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ..
الآية.
نزول الآية (٦٧) :
وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ:
أخرج الترمذي وصححه عن ابن عباس قال: مرّ يهودي بالنبي ص فقال: كيف تقول يا أبا القاسم إذا وضع الله السموات على ذه- أي على إصبع-، والأرضين على ذه- أي على إصبع-، والماء على ذه- أي على إصبع-، والجبال على ذه- أي على إصبع-، فأنزل الله: وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ الآية.
وأخرج ابن أبي حاتم عن الحسن قال: غدت اليهود، فنظروا في خلق السموات والأرض والملائكة، فلما فزعوا أخذوا يقدرونه، فأنزل الله:
وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ.
وأخرج ابن المنذر عن الربيع بن أنس قال: لما نزلت: وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ قالوا: يا رسول الله، هذا الكرسي، فكيف العرش؟ فأنزل الله: وَما قَدَرُوا اللَّهَ.. الآية.
المناسبة:
بعد أن أبان الله تعالى الوعد والوعيد يوم القيامة لأهل التوحيد وأهل
47
الشرك، عاد إلى تبيان دلائل الألوهية والتوحيد. ثم نعى على الكافرين أمرهم رسول الله ص بعبادة الأصنام، وأنهم لم يعرفوا الله حق المعرفة، إذ لو عرفوه لما جعلوا الجمادات شركاء له في العبودية.
التفسير والبيان:
اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ، وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ أي إن الله تعالى هو مبدع الأشياء كلها وخالقها جميعها، الموجودة في الدنيا والآخرة، لا فرق بين شيء وآخر، وهو ربها ومالكها والمتصرف فيها والقائم بحفظها وتدبيرها، فهي محتاجة إليه في وجودها وبقائها معا. وهذا دليل على أن أعمال العباد مخلوقة لله.
لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي هو مالك أمرها وحافظها، وهذا استعارة لملكه خيراتها وأرزاقها، أو كناية عن انفراده تعالى بحفظها وتدبيرها وملك مفاتيحها، لأن حافظ الخزائن ومدبر أمرها هو الذي يملك مقاليدها، أي مفاتيحها. وهذه الجملة تأكيد للجملة السابقة: وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ أو عطف بيان، أو تعليل لها، ورأى بعضهم أنها جملة مستأنفة.
والمعنى الجامع للجملتين: أن السلطان والملك، والتصرف في كل شيء، والتدبير والحفظ هو لله تعالى.
وروى ابن أبي حاتم عن عثمان بن عفان رضي الله عنه «أنه سأل رسول الله ص عن تفسير قوله تعالى: لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فقال:
ما سألني عنها أحد قبلك يا عثمان، تفسيرها: لا إله إلا الله، والله أكبر، وسبحان الله، وبحمده، أستغفر الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله، هو الأول والآخر، والظاهر والباطن، بيده الخير، يحيي ويميت، وهو على كل شيء قدير..»

يعني أن قائل ذلك تفتح له خزائن السموات والأرض، ويصيبه خير كثير، وأجر كبير.
48
وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ أي والذين جحدوا آيات الله في القرآن وبراهينه في الأكوان الدالة على وحدانية الله وعظيم قدرته وأنه مالك السموات والأرض ومدبرهما، أولئك هم الذين خسروا أنفسهم، وخلدوا في نار جهنم، جزاء كفرهم.
ثم أمر الله رسوله بتوبيخ المشركين على الدعوة لعبادة الأصنام، فقال:
قُلْ: أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجاهِلُونَ أي قل أيها الرسول لكفار قومك الذين دعوك إلى عبادة الأصنام قائلين: هو دين آبائك: أتأمروني أيها الجهلة بعبادة غير الله بعد أن قامت الأدلة القطعية على تفرده بالألوهية، فهو خالق الأشياء كلها وربها ومدبرها، فلا تصلح العبادة إلا له سبحانه.
وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ، وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ أي إن أمركم لعجيب، فلقد أوحي إلي وإلى من قبلي من الرسل أن الإله المعبود هو الله وحده لا شريك له، وأنه إذا أشرك نبي- على سبيل الفرض والتقدير- ليحبطن ويبطلن عمله، وليكونن من الذين خسروا أنفسهم، وضيعوا دنياهم وآخرتهم.
وإذا كان الشرك موجبا إحباط عمل الأنبياء فرضا، فهو محبط عمل غيرهم بطريق الأولى، كما قال تعالى: وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ ما كانُوا يَعْمَلُونَ [الأنعام ٦/ ٨٨].
ثم انتقل من النهي عن الشرك إلى الأمر بعبادة الله وحده، فقال تعالى:
بَلِ، اللَّهَ فَاعْبُدْ، وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ أي أخلص العبادة لله وحده لا شريك له أنت ومن اتبعك وصدّقك، واعبده وحده، ولا تعبد معه أحدا سواه، وكن من الشاكرين إنعامه عليك بالتوفيق والهداية للإيمان بالله وحده، وتشريفك بالرسالة والدعوة إلى دين الله تعالى.
49
وبعد أن نعى الله تعالى ما أمر به المشركون نبيّ الله من عبادة الأوثان، نعى عليهم أنهم لم يعرفوا الله حق المعرفة، فقال:
وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ أي ما عظموا الله حق تعظيمه، وما قدر المشركون الله حق قدره حين عبدوا معه إلها غيره، وهو الذي لا أعظم ولا أقدر منه.
روى البخاري عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: جاء حبر من الأحبار إلى رسول الله ص، فقال: يا محمد، إنا نجد أن الله عز وجل يجعل السموات على أصبع، والأرضين على أصبع، والشجر على أصبع، والماء والثرى على أصبع، وسائر الخلق على أصبع، فيقول: أنا الملك، فضحك رسول الله ص حتى بدت نواجذه، تصديقا لقول الحبر، ثم قرأ رسول الله ص: وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ، وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ... الآية.
وروى أحمد ومسلم عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: إن رسول الله ص قرأ هذه الآية ذات يوم على المنبر: وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ، وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ، وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ، سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ ورسول الله ص يقول هكذا بيده، يحركها يقبل بها ويدبر: يمجّد الرب نفسه، أنا الجبار، أنا المتكبر، أنا الملك، أنا العزيز، أنا الكريم. فرجف برسول الله ص المنبر حتى قلنا: ليخرّنّ به».
وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ، سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ أي والحال أن الأرض تحت تصرف الله وملكه، والسموات خاضعة لقدرته وسلطانه ومشيئته وإرادته، تنزه وتقدس الله عما يشركون به من المعبودات التي جعلوها شركاء لله، فالمراد باليمين: القدرة.
وهذه الجملة في رأي الخلف تمثيل لحال عظمة الله تعالى وكمال تصرفه ونفاذ
50
قدرته بحال القابض على الأرض كلها والسموات جميعها. ويرى السلف وجوب الإيمان بهذه الظواهر، والاعتقاد بالقبضة واليمين، لأن الأصل في الكلام حمله على الحقيقة، ويقولون: رأي السلف أسلم، ورأي الخلف أحكم. وإني أميل إلى الأسلم.
أخرج البخاري ومسلم وغيرهما من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، سمعت رسول الله يقول: «يقبض الله الأرض يوم القيامة، ويطوي السماء بيمينه، ثم يقول: أنا الملك، أين ملوك الأرض؟».
فقه الحياة أو الأحكام:
يستنبط من الآيات ما يأتي:
١- إن الله تعالى خالق الأشياء كلها، ومنها أعمال العباد.
٢- إن الله سبحانه هو القائم بحفظ الأشياء وتدبيرها من غير مشارك، وهو سبحانه مالك أمر السموات والأرض وحافظها، وهذا التعبير من باب الكناية، لأن حافظ الخزائن ومدبر أمرها هو الذي بيده مقاليدها.
٣- إن الذين كفروا بالقرآن والحجج والدلالات الدالة على وجود الله ووحدانيته وكمال عظمته وقدرته هم الخاسرون أنفسهم في الدنيا والآخرة. وصريح الآية يقتضي أنه لا خاسر إلا كافر.
٤- من العجب العجاب صدور أمرين من المشركين: أولهما- أن يطلبوا من النبي ص عبادة أصنامهم، ليعبدوا معها إلهه. وثانيهما- أنهم لم يعرفوا الله حق المعرفة، ولم يعظموه حق التعظيم، إذ عبدوا معه غيره، وهو خالق الأشياء ومالكها.
٥- وصف الله تعالى المشركين بالجهل، لأنهم لم يتفكروا بخالق الأشياء
51
ولا بكونه مالكا لمقاليد السموات والأرض، وعبدوا أصناما جمادات لا تضر ولا تنفع، ومن فعل مثل ذلك فهو في غاية الجهل.
٦- إن الشرك والكفر محبط مبطل لجميع أعمال الكفار والمشركين، ولو كانت صالحة، فلا ثواب لهم عليها في الآخرة، بسبب أرضية الكفر التي قامت عليها.
ومن ارتد أيضا ومات على الكفر، لم تنفعه طاعاته السابقة، وحبطت أعماله كلها، لقوله تعالى: وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ، فَيَمُتْ وَهُوَ كافِرٌ، فَأُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ [البقرة ٢/ ٢١٧]. وعليه من حج ثم ارتد ثم عاد إلى الإسلام لا يجب عليه إعادة الحج.
٧- السموات والأرض كلها تحت ملك الله وقدرته وتصرفه، وليس ذلك بجارحة لأنه نزه نفسه عنها فقال: سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ أي تنزه وتقدس عن أن تجعل الأصنام شركاء له في المعبودية.
نفختا الصور والفصل في الخصومات وإيفاء كل واحد حقه
[سورة الزمر (٣٩) : الآيات ٦٨ الى ٧٠]
وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلاَّ مَنْ شاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ (٦٨) وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّها وَوُضِعَ الْكِتابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَداءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (٦٩) وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِما يَفْعَلُونَ (٧٠)
52
الإعراب:
يَنْظُرُونَ حال من ضميره.
البلاغة:
يَنْظُرُونَ يُظْلَمُونَ يَفْعَلُونَ بينها توافق الفواصل في الحرف الأخير، مما يوحي بروعة البيان وكمال الجمال.
المفردات اللغوية:
وَنُفِخَ فِي الصُّورِ النفخة الأولى التي يموت بها الخلائق كلهم، والصُّورِ بوق أو قرن ينفخ فيه فَصَعِقَ مات أو غشي عليه إِلَّا مَنْ شاءَ اللَّهُ قيل: جبرائيل وميكائيل وإسرافيل، فإنهم يموتون بعد ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى النفخة الثانية للبعث من القبور فَإِذا هُمْ جميع الخلائق الموتى قِيامٌ قائمون من قبورهم يَنْظُرُونَ ينتظرون ما يفعل بهم.
وَأَشْرَقَتِ أضاءت بِنُورِ رَبِّها بما أقام فيها من العدل، وما قضى به من الحق وَوُضِعَ الْكِتابُ وضع كتاب الأعمال أو صحائف الأعمال للحساب وَالشُّهَداءِ الذين يشهدون للأمم وعليهم من الملائكة والمؤمنين وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وقضي بين العباد بالعدل وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ شيئا وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ وصلت كل نفس إلى حقها، وحصلت على الجزاء وَهُوَ أَعْلَمُ عالم بِما يَفْعَلُونَ فلا يحتاج إلى شاهد.
المناسبة:
بعد بيان أدلة عظمة الله وكمال قدرته بتصرفه في الكون وتدبيره، وخلقه كل شيء، ذكر الله تعالى مقدمات يوم القيامة الدالة أيضا على تمام القدرة وعظمة السلطان، وهي نفختا الصور مرتين، الأولى للإماتة، والثانية للبعث من القبور، ثم الفصل بالحق والعدل بين الخلائق للحساب والجزاء، وإيصال الحق إلى كل واحد.
53
التفسير والبيان:
يخبر الله تعالى عن هول يوم القيامة وما فيه من الآيات العظيمة الباهرة الدالة على كمال القدرة وتمام العظمة الإلهية، فيقول:
وَنُفِخَ فِي الصُّورِ، فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللَّهُ، ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى، فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ أي هذه هي النفخة الأولى للموت، حيث ينفخ إسرافيل في الصور الذي هو بوق أو قرن، فيموت من الفزع وشدة الصوت أهل السموات والأرض، والصعق: الموت في الحال.
إلا من شاء الله ألا يموت حينئذ كجبرائيل وميكائيل وإسرافيل نفسه الذين يموتون بعد ذلك. قال قتادة: لا ندري من هم؟.
ثم ينفخ فيه نفخة أخرى للبعث من القبور، فيقوم الخلق كلهم أحياء على أرجلهم ينظرون أهوال القيامة وما يقال لهم أو ينتظرون ما يفعل بهم، بعد أن كانوا عظاما ورفاتا، كما قال تعالى: فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ، فَإِذا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ [النازعات ٧٩/ ١٣- ١٤] وقال سبحانه: يَوْمَ يَدْعُوكُمْ، فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ، وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا [الإسراء ١٧/ ٥٢] وقال جل وعلا: وَمِنْ آياتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّماءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ، ثُمَّ إِذا دَعاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ، إِذا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ [الروم ٣٠/ ٢٥].
ثم ذكر الله تعالى بعض أحوال يوم القيامة:
١- وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّها أي أضاءت أرض المحشر وأنارت بتجلي الحق جل وعلا للخلائق لفصل القضاء، وبما أقامه الله من العدل بين أهلها، وما قضى به من الحق بين عباده.
٢- وَوُضِعَ الْكِتابُ أي وضعت كتب وصحائف أعمال بني آدم بين
54
يدي أصحابها، إما باليمين وإما بالشمال، كما قال تعالى: وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ، وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً يَلْقاهُ مَنْشُوراً [الإسراء ١٧/ ١٣] وقال سبحانه: مالِ هذَا الْكِتابِ لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصاها [الكهف ١٨/ ٤٩].
٣- ٤: وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَداءِ أي وجيء بالأنبياء إلى الموقف، ليسألوا عما أجابتهم به أممهم، كما قال تعالى: فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ، وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً [النساء ٤/ ٤١] وجيء أيضا بالشهود الذين يشهدون على الأمم من الملائكة الحفظة التي تقيد أعمال العباد كما قال تعالى:
وَجاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَها سائِقٌ وَشَهِيدٌ [ق ٥٠/ ٢١] والسائق: يسوق للحساب، والشهيد يشهد عليها، وكذا من أمة محمد ص الذين يشهدون على الأمم بما بلغتهم به رسلهم، كما قال تعالى: وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ [البقرة ٢/ ١٤٣].
وكذلك يجاء بالشهداء المؤمنين الذين استشهدوا في سبيل الله، فيشهدون يوم القيامة بالبلاغ على من بلّغوه، فكذّب بالحق.
وبعد فصل الخصومات، بيّن تعالى أنه يوصل إلى كل شخص حقه، فقال معبرا عن هذا المعنى بأربع عبارات:
١- وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ أي وقضي بين العباد بالعدل والصدق.
٢- وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ أي لا ينقصون من ثوابهم، ولا يزاد في عقابهم، ويكون جزاؤهم على قدر أعمالهم، كما قال تعالى: وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ، فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً، وَإِنْ كانَ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ، أَتَيْنا بِها، وَكَفى بِنا حاسِبِينَ [الأنبياء ٢١/ ٤٧] وقال سبحانه: إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ، وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضاعِفْها، وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً [النساء ٤/ ٤٠]
55
٣- وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ أي وفيت وأعطيت كل نفس جزاء ما عملت من خير أو شر.
٤- وَهُوَ أَعْلَمُ بِما يَفْعَلُونَ أي والله عالم بما يفعل العباد في الدنيا، من غير حاجة إلى كاتب ولا حاسب ولا شاهد، وإنما وضع الكتاب، وجيء بالنبيين والشهداء لتكميل الحجة، وقطع المعذرة. وأتى بهذا الحكم للدلالة على أنه تعالى يقضي بالحق عن علم تام، فلا يحتمل وجود أي خطأ في ذلك الحكم. والمقصود:
بيان أن كل مكلف يصل إلى حقه.
فقه الحياة أو الأحكام:
أرشدت الآيات إلى ما يأتي:
١- يكون يوم القيامة نفختان: النفخة الأولى منهما يموت بها الخلق، ويحيون في الثانية. والذي ينفخ في الصور هو إسرافيل عليه السلام. وقد قيل:
إنه يكون معه جبريل،
لحديث ابن ماجه في السنن عن أبي سعيد الخدري قال:
قال رسول الله ص: «إن صاحبي الصور بأيديهما قرنان يلاحظان النظر، متى يؤمران»
وحديث أبي داود عن أبي سعيد الخدري أيضا قال: «ذكر رسول الله ص صاحب الصور، وقال: عن يمينه جبرائيل، وعن يساره ميكائيل».
٢- اختلف في المستثنى من هم؟ فقيل: هم الشهداء متقلّدين أسيافهم حول العرش، لحديث مرفوع عن أبي هريرة ذكره القشيري، وحديث عبد الله بن عمر الذي ذكره الثعلبي. وقيل: إنهم جبريل وميكائيل وإسرافيل وملك الموت عليهم السلام،
لحديث أنس الذي ذكره الثعلبي والنحاس أن النبي ص تلا: وَنُفِخَ فِي الصُّورِ، فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللَّهُ فقالوا: يا نبيّ الله من هم الذين استثنى الله تعالى؟ قال: «هم جبريل وميكائيل
56
وإسرافيل وملك الموت»
ثم ذكر أنه يؤمر جبريل بإماتة نفس إسرافيل وميكائيل وملك الموت، ثم يميت الله جبريل، ففي هذا الحديث: «إن آخرهم موتا جبريل عليه وعليهم السلام».
قال القرطبي: وحديث أبي هريرة في الشهداء أصح. وقال قتادة: الله أعلم بثنياه، أي استثنائه.
٣- يكون البعث: بأن يبعث الأموات من أهل الأرض والسماء أحياء من قبورهم، وتعاد إليهم أبدانهم وأرواحهم، فيقومون ينظرون، ماذا يؤمرون، أو ينتظرون ما يفعل بهم.
٤- تستنير أرض المحشر وتضيء بعدل الله وقضائه بالحق بين عباده، والظلم ظلمات، والعدل نور. أو إنها تستنير بنور خلقه الله تعالى، فيضيء به الأرض.
وقال أبو جعفر النحاس: وقوله عز وجل: وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّها يبين هذا الحديث المرفوع من طرق كثيرة صحاح:
«تنظرون إلى الله عز وجل، لا تضامّون في رؤيته» «١»
أي لا يلحقكم ضيم كما يلحقكم في الدنيا في النظر إلى الملوك.
٥- إن أحوال الحكم والقضاء سبع: أن يوضع كتاب الأعمال بين آخذ بيمينه وآخذ بشماله، ويجاء بالنبيين والشهداء، فيسألون عما أجابت الأمم أنبياءها، ويقضى بين الناس بالصدق والعدل، ولا يظلمون، فلا ينقص من حسناتهم ولا يزاد على سيئاتهم، وتوفى كل نفس ما عملت من خير أو شر، والله أعلم بما فعلت كل نفس في الدنيا.
(١) وهو يروى على أربعة أوجه: لا تضامون، ولا تضارون، ولا تضامّون، ولا تضارّون. أي لا يلحقكم ضير.
57
أحوال أهل العقاب وأهل الثواب
[سورة الزمر (٣٩) : الآيات ٧١ الى ٧٥]
وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ زُمَراً حَتَّى إِذا جاؤُها فُتِحَتْ أَبْوابُها وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آياتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا قالُوا بَلى وَلكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذابِ عَلَى الْكافِرِينَ (٧١) قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (٧٢) وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً حَتَّى إِذا جاؤُها وَفُتِحَتْ أَبْوابُها وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوها خالِدِينَ (٧٣) وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ (٧٤) وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (٧٥)
الإعراب:
حَتَّى إِذا جاؤُها فُتِحَتْ (٧٣) جواب إِذا: إما محذوف تقديره: حتى إذا جاءوها فازوا أو نعموا، والواو فيه للحال بتقدير: قد، أو قوله تعالى: وَفُتِحَتْ أَبْوابُها والواو زائدة، تقديره: حتى إذا جاءوها فتحت أبوابها، أو قوله: وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها والواو زائدة، تقديره: حتى إذا جاءوها قال لهم خزنتها. والوجه الأول أوجه.
طِبْتُمْ حال.
حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ حَافِّينَ: حال، لأن المراد ب تَرَى رؤية البصر لا رؤية القلب. وواحد حافين: حاف. وقال الفراء: هذا لا واحد له، لأن هذا الاسم لا يقع لهم إلا مجتمعين.
58
يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ الجملة حال ثانية.
البلاغة:
وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ زُمَراً وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً مقابلة بينهما، قابل بين حال السعداء وحال الأشقياء. والمقابلة كما تقدم: أن يؤتى بمعنيين أو أكثر، ثم يؤتى بما يقابل ذلك على الترتيب.
حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذابِ عَلَى الْكافِرِينَ وضع الظاهر فيه موضع الضمير للدلالة على اختصاص ذلك بالكفرة.
وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ استعارة، تشبيها بحال الوارث وتصرفه في إرثه.
المفردات اللغوية:
وَسِيقَ من السوق: وهو الحث على السير بعنف وشدة وإزعاج، بقصد الإهانة والاحتقار زُمَراً الزمر: جماعات أو أفواجا متفرقة مرتبة، بعضها إثر بعض، بمقدار تفاوتهم في الضلالة والشر فُتِحَتْ أَبْوابُها ليدخلوها، وهو جواب إذا، وفتح أبواب جهنم عند مجيئهم ليبقى حرها إليهم، إهانة لهم. وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها تقريعا وتوبيخا رُسُلٌ مِنْكُمْ من جنسكم آياتِ رَبِّكُمْ القرآن وغيره وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا ويخوفونكم وقتكم هذا، وهو وقت دخولهم النار، قال البيضاوي: وفيه دليل على أنه لا تكليف قبل الشرع، من حيث إنهم عللوا توبيخهم بإتيان الرسل وتبليغ الكتب. وَلكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذابِ عَلَى الْكافِرِينَ وجبت عليهم كلمة الله بالعذاب، وهو الحكم عليهم بالشقاوة بسبب أعمالهم، وأنهم من أهل النار، وقيل: هو قوله تعالى: لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ [هود ١١/ ١١٩].
قِيلَ: ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ أبهم القائل لتهويل ما يقال لهم خالِدِينَ فِيها ماكثين فيها على الدوام فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ اللام فيه للجنس، والمخصوص بالذم محذوف سبق ذكره، أي بئس المأوى جهنم، وهذا دليل على أن تكبرهم عن الحق سبب لدخول النار.
وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً أي أسرع بهم بلطف إلى دار الكرامة جماعات، على تفاوت مراتبهم في الشرف وعلو الطبقة وَفُتِحَتْ أَبْوابُها أي والحال أنه قد فتحت لهم الأبواب قبل مجيئهم تكريما وتعظيما، وحذف جواب إِذا للدلالة على أن لهم حينئذ من الكرامة والتعظيم ما لا يحيط به الوصف، وأن أبواب الجنة تفتح لهم قبل مجيئهم منتظرين استقبالهم، والجواب المقدر: دخلوها سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا يعتريكم بعد مكروه طِبْتُمْ طهرتم من دنس المعاصي
59
فَادْخُلُوها خالِدِينَ أي مخلدين فيها على الدوام أو مقدّرين الخلود، والفاء للدلالة على ان طِبْتُمْ سبب لدخولهم وخلودهم، وهو لا يمنع دخول العاصي بعفوه تعالى، لأنه يطهره.
وَقالُوا: الْحَمْدُ لِلَّهِ عطف على الفعل المقدر جوابا ل إِذا وهو: دخلوها صَدَقَنا وَعْدَهُ بالبعث والثواب والجنة وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ أي أرض الجنة، يريدون المكان الذي استقروا فيه، وقد أورثوها، أي ملكوها وجعلوا ملاكها، وأطلق تصرفهم فيها كما يشاءون، تشبيها بحال الوارث وتصرفه فيما يرثه، على سبيل الاستعارة نَتَبَوَّأُ ننزل مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشاءُ ننزل في أي مقام أردنا من الجنة الواسعة، مع أن في الجنة مقامات معنوية لا يتمانع واردوها فَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ الجنة.
حَافِّينَ محدقين من حول العرش ومحيطين حوله. مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ من كل جانب. ومِنْ مزيدة يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ ينزهون ربهم من كل نقص، ملتبسين بحمده، قائلين: سبحان الله وبحمده، والجملة حال ثانية أو مقيدة للأولى، والمعنى: ذاكرين له بوصفي جلاله وإكرامه تلذذا به. وفيه إشعار بأن منتهى درجات العليين وأعلى لذائذهم هو الاستغراق في صفات الحق.
وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ حكم بين جميع الخلائق بالعدل، فيدخل المؤمنون الجنة، والكافرون النار وَقِيلَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ أي على ما قضى بيننا من الحق، والقائلون هم المؤمنون المقضي بينهم، أو الملائكة، وقد طوي ذكرهم لتعينهم وتعظيمهم. والخلاصة: لقد ختم استقرار الفريقين بالحمد لله.
المناسبة:
بعد بيان أحوال أهل القيامة مجملا، بقوله تعالى: وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ أبان الله تعالى بالتفصيل أحوال أهل العقاب وأحوال أهل الثواب، ثم وصف ذلك الموكب المهيب موكب الملائكة المحدقين الحافين حول العرش، الذين يسبحون بحمد ربهم، ينزهونه عن النقائص، ويشكرونه، ويقولون بعد استقرار الفريقين في الجنة والنار: الحمد لله رب العالمين على ما أنعم به، وقضى بالحق بين الخلائق.
60
التفسير والبيان:
يخبر الله تعالى عن حال الأشقياء الكفار، كيف يساقون إلى النار، فيقول:
وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ زُمَراً أي يساق الكافرون بربهم إلى النار، سوقا عنيفا بزجر وتهديد ووعيد، جماعات متفرقة مرتبة، بعضها إثر بعض، لكل جماعة قائد: هو رأسهم في الكفر وداعيتهم إليه. ونظير الآية:
يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلى نارِ جَهَنَّمَ دَعًّا [الطور ٥٢/ ١٣] أي يدفعون إليها دفعا.
حَتَّى إِذا جاؤُها فُتِحَتْ أَبْوابُها أي حتى إذا وصلوا إليها، فتحت لهم أبوابها السبعة سريعا ليدخلوها ولتعجل لهم العقوبة، ويختصوا بنارها.
وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها: أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آياتِ رَبِّكُمْ، وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا؟ أي وقال لهم خزنتها من الملائكة الزبانية الأشداء القوى حفظة النار والقائمين عليها، على وجه التقريع والتوبيخ والتنكيل: ألم يأتكم رسل من جنسكم وأنفسكم تتمكنون من مخاطبتهم والأخذ عنهم، يتلون عليكم آيات ربكم التي أنزلها لإقامة الحجج والبراهين على صحة ما دعوكم إليه، ويحذرونكم من شر هذا اليوم، ويخوفونكم لقاء هذا اليوم الذي صرتم إليه.
قالُوا: بَلى، وَلكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذابِ عَلَى الْكافِرِينَ أي أجابهم الكفار معترفين قائلين لهم: بلى، قد جاءونا وأنذرونا وأقاموا علينا الحجج والبراهين، ولكن كذبناهم وخالفناهم، ووجبت كلمة العذاب على من كفر بالله وأشرك، وهي قوله تعالى: لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ [هود ١١/ ١١٩].
ونظير الآية: كُلَّما أُلْقِيَ فِيها فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُها: أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ، قالُوا: بَلى قَدْ جاءَنا نَذِيرٌ، فَكَذَّبْنا وَقُلْنا: ما نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ، إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي
61
ضَلالٍ كَبِيرٍ، وَقالُوا: لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ ما كُنَّا فِي أَصْحابِ السَّعِيرِ
[الملك ٦٧/ ٨- ١٠].
وبعد هذا الإقرار أجيبوا بإصدار حكم الجزاء، فقال تعالى:
قِيلَ: ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها، فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ أي تقول لهم الملائكة الحفظة على النار: ادخلوا في أبواب جهنم التي فتحت لكم، مقدّرا لكم فيها من قبل الله الخلود والبقاء، ماكثين فيها إلى الأبد، لا خروج لكم منها، ولا زوال لكم عنها، فبئس المسكن الدائم جهنم، بسبب تكبركم في الدنيا عن اتباع الحق، فهو الذي صيركم إلى ما أنتم فيه.
وإنما أبهم القائل وأطلق، ولم ينسب إلى قائل معين، ليدل على أن الكون شاهد عليهم بأنهم يستحقون ما هم فيه، بما حكم العدل الخبير عليهم به.
ثم يخبر الله تعالى عن حال السعداء المؤمنين حين يساقون إلى الجنة مكرّمين، فيقول:
وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً أي وتسوق الملائكة المؤمنين بإعزاز وتشريف وتكريم وفدا إلى الجنة، جماعة بعد جماعة: المقربون، فالأبرار، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، كل طائفة مع أمثالهم: الأنبياء مع الأنبياء، والصديقون مع الصديقين، والشهداء مع بعضهم، والعلماء مع أقرانهم.
حَتَّى إِذا جاؤُها وَفُتِحَتْ أَبْوابُها أي حتى إذا وصلوا إلى أبواب الجنة الثمانية، بعد مجاوزة الصراط، واقتص لهم من مظالم الدنيا، وكانت قد فتحت أبوابها لاستقبالهم بالحراس.
ثبت في صحيح مسلم عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله ص: «أنا أول شفيع في الجنة» وفي لفظ: «وأنا أول من يقرع باب الجنة».
62
وأخرج البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله ص قال: «يدخل الجنة من أمتي زمرة هم سبعون ألفا تضيء وجوههم إضاءة القمر ليلة البدر، فقام عكاشة بن محصن، فقال: يا رسول الله، ادع الله أن يجعلني منهم، فقال: اللهم اجعله منهم، ثم قام رجل من الأنصار، فقال:
يا رسول الله، ادع الله تعالى أن يجعلني منهم، فقال ص: سبقك بها عكاشة»
.
وفي صحيح مسلم عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: قال رسول الله ص: «ما منكم من أحد يتوضأ فيبلغ، أو فيسبغ الوضوء، ثم يقول:
أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله، إلا فتحت له أبواب الجنة الثمانية، يدخل من أيها شاء»
.
وأخرج البخاري ومسلم عن سهل بن سعد رضي الله عنه أن رسول الله ص قال: «إن في الجنة ثمانية أبواب، باب منها يسمّى الريان، لا يدخله إلا الصائمون».
وروى أحمد عن الحسن عن معاذ رضي الله عنه قال: قال رسول الله ص: «مفاتيح الجنة: شهادة أن لا إله إلا الله».
وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها: سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ، فَادْخُلُوها خالِدِينَ أي وقال خزنة الجنة للمؤمنين: سلامة لكم من كل آفة ومكروه، طابت أعمالكم وأقوالكم وطاب سعيكم في الدنيا، فلم تتدنسوا بالشرك والمعاصي، وطاب جزاؤكم في الآخرة،
كما أمر رسول الله ص أن ينادى بين المسلمين في بعض الغزوات فيما رواه أحمد والترمذي والحاكم عن علي: «لا يدخل الجنة إلا نفس مسلمة- أو مؤمنة»
فادخلوا الجنة ماكثين فيها أبدا، لا زوال ولا تحول عنها، ولا موت ولا فناء فيها.
وَقالُوا: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ، وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ، نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشاءُ، فَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ أي وقال المؤمنون الأتقياء الذين عملوا
63
الصالحات إذا عاينوا الجنة وما فيها من نعيم مقيم وثواب وافر: الحمد والشكر لله العظيم الذي أنجزنا وعده بالبعث والثواب بالجنة، والذي وعدنا به على ألسنة رسله الكرام، كما دعوا في الدنيا: رَبَّنا وَآتِنا ما وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ، وَلا تُخْزِنا يَوْمَ الْقِيامَةِ، إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعادَ [آل عمران ٣/ ١٩٤]، وَقالُوا: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ، إِنَّ رَبَّنا لَغَفُورٌ شَكُورٌ، الَّذِي أَحَلَّنا دارَ الْمُقامَةِ مِنْ فَضْلِهِ، لا يَمَسُّنا فِيها نَصَبٌ وَلا يَمَسُّنا فِيها لُغُوبٌ [فاطر ٣٥/ ٣٤- ٣٥].
وجعلنا ملاك الجنة المتصرفين فيها، نرث أرض الجنة، كأنها صارت من غيرهم إليهم، فملكوها وتصرفوا فيها، كما قال تعالى: وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ [الأنبياء ٢١/ ١٠٥].
وأين شئنا حللنا، نتخذ في الجنة من المنازل ما نشاء حيث نشاء، فنعم الأجر أجرنا على عملنا، ونعم أجر العاملين: الجنة.
جاء في الصحيحين عن أنس رضي الله عنه في قصة المعراج، قال النبي ص: «أدخلت الجنة، فإذا فيها جنابذ اللؤلؤ «١»، وإذا ترابها المسك».
ثم أخبر الله تعالى عن حال الملائكة المحدقين حول العرش، فقال:
وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ، يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ، وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ، وَقِيلَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ أي وترى أيها السعيد المؤمن جماعات الملائكة محيطين محدقين بالعرش المجيد، يسبّحون الله (ينزهون الله عن كل نقص وجور) ويمجدونه ويعظمونه ويقدسونه، ويحمدونه ويشكرونه على أفضاله ونعمه، قائلين: سبحان الله وبحمده.
(١) أي قباب اللؤلؤ، مفرده جنبذة: وهي ما ارتفع من الشيء واستدار كالقبة، يقال: مكان مجنبذ: مرتفع (لسان العرب).
64
والحال أيضا أنه قد قضي بين العباد بالعدل، فأدخل بعضهم الجنة، وبعضهم النار، ونطق المؤمنون والملائكة والكون أجمعه بالحمد والشكر لله ربّ العالمين من الإنس والجن، في حكمه وعدله وقضائه بين المؤمنين وبين أهل النار بالحق المطلق الذي لا خطأ فيه.
وأبهم القائل وأطلق هنا كالسابق للدلالة على أن جميع المخلوقات شهدت له بالحمد. قال قتادة: افتتح الخلق بالحمد في قوله: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ [الأنعام ٦/ ١]، واختتم بالحمد في قوله تبارك وتعالى: وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ، وَقِيلَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ.
ويلاحظ أن المؤمنين حمدوا ربّهم أولا على إنجاز وعده ووراثتهم أرض الجنة، يتبوّءون منها حيث يشاءون، وحمدوه ثانيا على القضاء بالحق، والحكم بالعدل بين الناس جميعا.
فقه الحياة أو الأحكام:
أبانت الآيات ما يأتي:
١- توفى كل نفس عملها، فيساق الكافر إلى النار، والمؤمن إلى الجنة.
٢- يساق أهل النار إليها بسرعة وعنف، إهانة لهم واحتقارا، وهم حينذاك جماعات متفرقة بعضها إثر بعض، وتفتح أبواب جهنم عند وصولهم إليها، وتقول لهم سدنتها تقريعا وتوبيخا: ألم تأتكم الرسل من جنسكم لتبليغكم الكتب المنزلة عليكم، وإنذاركم وتخويفكم لقاء وقتكم هذا؟
٣- يجيب أهل النار: نقر ونعترف بقيام الحجة علينا بمجيء الرسل، ولكن وجب العذاب على الكفار، لقوله تعالى: لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ [هود ١١/ ١١٩].
65
٤- دلّت هذه الآية: أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ.. على أنه لا تكليف ولا إيجاب لشيء من الشرائع والأحكام قبل مجيء الشرع، لأن الملائكة بيّنوا أنه ما بقي للكفار علّة ولا عذر بعد مجيء الأنبياء عليهم السلام، ولو لم يكن مجيء الأنبياء شرطا في استحقاق العذاب، لما بقي في هذا الكلام فائدة.
٥- تقول الملائكة بعد سماع جواب الكافرين: ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ، خالِدِينَ فِيها فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ.
٦- يقاد الأتقياء بلطف وإعزاز وإكرام، من الشهداء والزهاد والعلماء والقرّاء وغيرهم، ممن اتقى الله تعالى وعمل بطاعته، ويؤتى بهم إلى الجنة، فيجدون أبوابها مفتحة لهم: جَنَّاتِ عَدْنٍ، مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوابُ [ص ٣٨/ ٥٠] ويذكر خزنة الجنة لأهل الثواب هذه الكلمات الثلاث:
الأولى- قولهم: سَلامٌ عَلَيْكُمْ يبشّرونهم بالسلامة من كل الآفات.
الثانية- قولهم: طِبْتُمْ من دنس المعاصي وطهرتم من خبث الخطايا.
الثالثة- قولهم: فَادْخُلُوها خالِدِينَ والتعليل بالفاء يدلّ على كون ذلك الدخول معللا بالطيب والطهارة.
٧- سبب التفرقة بين أهل النار وأهل الجنة في فتح الأبواب، حيث فتحت أبواب النار بغير الواو، وفتحت أبواب الجنة بالواو: هو احتقار الفريق الأول وتخصيصهم بالنار، وإعزاز الفريق الثاني وإكرامهم بالاستقبال والاستعداد، فلا تفتح أبواب النار إلا عند دخول أهلها فيها، وتفتح أبواب الجنة قبل وصول أهلها إليها، ولذلك جيء بالواو، كأنه قيل: حتى إذا جاءوها وقد فتحت أبوابها.
٨- إذا خاطبت الملائكة المتقين بالكلمات الثلاث السابقة، قال المتقون عند
66
ذلك وبعد دخول الجنة: الحمد لله الذي صدقنا وعده بنعيم الجنة، وأورثنا أرض الجنة، فنعم ثواب المحسنين هذا الذي أعطيتنا.
٩- يكون الملائكة في جوانب العرش وأطرافه، قائلين: سبحان الله وبحمده، متلذذين بذلك لا متعبدين به، أي يصلون حول العرش شكرا لربهم، بعد أن قضي بين أهل الجنة والنار بالعدل، ويقول المؤمنون والملائكة ونحوهم:
الحمد لله على ما أثابنا من نعمه وإحسانه، ونصرنا على من ظلمنا. ويرى الرازي أن قوله: وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ أي بين الملائكة، وهو دليل على أنهم على درجات مختلفة ومراتب متفاوتة، فلكل واحد منهم في درجات المعرفة والطاعة حدّ محدود لا يتجاوزه ولا يتعداه «١».
(١) تفسير الرازي: ٢٧/ ٢٤
67

بسم الله الرحمن الرحيم

سورة غافر أو: المؤمن
مكيّة، وهي خمس وثمانون آية.
تسميتها:
تسمى هذه السورة سورة غافر، لافتتاحها بتنزيل القرآن من الله غافر الذنب وقابل التوب، والغافر من صفات الله وأسمائه الحسنى. وتسمى أيضا سورة (المؤمن)، لاشتمالها على قصة مؤمن آل فرعون.
مناسبتها لما قبلها:
تظهر مناسبه هذه السورة لما قبلها من ناحيتين:
الأولى- التشابه في الموضوع: فقد ذكر في كل من السورتين أحوال يوم القيامة وأحوال الكفار في يوم المحشر.
الثانية- الترابط بين خاتمة السورة السابقة ومطلع هذه السورة، فقد ذكر في نهاية سورة الزمر أحوال الكفار الأشقياء والمتقين السعداء، وافتتحت سورة غافر بأن الله غافر الذنب لحث الكافر على الإيمان وترك الكفر.
ومناسبة الحواميم السبع لسورة الزمر: تشابه الافتتاح بتنزيل الكتاب ورتبت الحواميم إثر بعضها، لاشتراكها بفاتحة حم وبذكر الْكِتابِ بعد حم وأنها مكية، بل ورد في حديث أنها نزلت جملة واحدة، وفيها شبه من ترتيب ذوات (الراء) الست. ذكر السيوطي عن
68
ابن عباس وجابر بن زيد في ترتيب السور: أن الحواميم نزلت عقب الزمر، وأنها نزلت متتاليات كترتيبها في المصحف: المؤمن، ثم السجدة، ثم الشورى، ثم الزخرف، ثم الدخان، ثم الجاثية، ثم الأحقاف، ولم يتخللها نزول غيرها، وذلك مناسبة واضحة لوضعها هكذا.
ويقال لها أيضا: آل حم، قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: آل حم ديباج القرآن. وقال ابن عباس رضي الله عنهما: إن لكل شيء لبابا، ولباب القرآن آل حم، أو قال: الحواميم.
وقال النبي ص: «لكل شيء ثمرة، وإن ثمرة القرآن ذوات حم، هنّ روضات حسان مخصبات متجاورات، فمن أحبّ أن يرتع في رياض الجنة فليقرأ الحواميم».
وقال رسول الله ص لأصحابه في بعض الغزوات- فيما رواه أبو عبيد-: «إن بيّتم الليلة، فقولوا: حم لا ينصرون- أو لا تنصرون».
وروى الحافظ أبو بكر البزار والترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال:
قال رسول الله ص: «من قرأ آية الكرسي، وأول حم المؤمن، عصم ذلك اليوم من كل سوء».
مشتملاتها:
سورة غافر والحواميم السبع مكية، فهي تعنى بأصول العقيدة كسائر السور المكية، لذا جاءت آياتها عنيفة شديدة التأثير لإثبات وحدانية الله وتنزيل القرآن والبعث، ووصف ملائكة العرش، وإنهاء الصراع بين أهل الحق وبين أهل الباطل أو فريق الهدى وفريق الضلال.
وقد ابتدأت بإعلان تنزيل الكتاب الكريم من الله المتصف بالصفات الحسنى، وهاجمت الكفار الذين يجادلون بالباطل، ثم وصفت مهام ملائكة العرش.
69
وأخبرت عن طلب أهل النار الخروج منها لشدة العذاب، ورفض هذا الطلب، وأقامت الأدلة على وجود الله القادر، وخوّفت من أهوال القيامة، وأنذرت الكفار من شدائد ذلك اليوم.
ثم لفتت الأنظار لموضع العبرة من إهلاك الأمم الغابرة وهو كفرهم بالآيات البيّنات التي جاؤوا بها، وخصّت بالذكر قصة موسى عليه السلام مع فرعون وهامان وقارون، وما دار من حوار بين فرعون وقومه وبين رجل من آل فرعون يكتم إيمانه، وما فعله فرعون الطاغية من قتل أبناء بني إسرائيل واستحياء نسائهم، خشية انتشار الإيمان في قومه، وانتهاء القصة بهلاك فرعون بالغرق في البحر مع جنوده، ونجاة موسى وقومه جند الإيمان في ذلك العصر.
وتلك هي قصة الإيمان والطغيان.
وقد أردف ذلك بإعلان خذلان الكافرين، ونصر الرسل والمؤمنين نصرا مؤزرا في الدنيا والآخرة.
وختمت القصة بأمر النبي ص بالصبر على أذى قومه كما صبر موسى وغيره من أولي العزم.
ثم أوردت السورة الأدلة الكونية الدالة على وحدانية الله وقدرته، وضربت المثل للمؤمن بالبصير، وللكافر بالأعمى، فالمؤمن نيّر القلب والبصيرة بنور الله، والكافر مظلم النفس يعيش في ظلمة الكفر.
وأتبعت ذلك ببيان نعم الله على عباده من الأنعام والفلك وغيرها.
وختمت السورة بما يؤكد الغرض المهم منها: وهو الاعتبار بمصرع الظالمين المكذبين، وما يلقونه من أصناف العذاب، ومبادرتهم إلى الإيمان حين رؤية العذاب، ولكن لا ينفعهم ذلك، فإن سنّة الله الثابتة ألا يقبل إيمان اليأس أو حال رؤية البأس.
70
الموسوعة القرآنية Quranpedia.net - © 2024
Icon
إذا ما راية رفعت لمجد تلقاها عرابة باليمين