تفسير سورة فصّلت

أضواء البيان
تفسير سورة سورة فصلت من كتاب أضواء البيان المعروف بـأضواء البيان .
لمؤلفه محمد الأمين الشنقيطي . المتوفي سنة 1393 هـ

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

سُورَةُ فُصِّلَتْ
قَوْلُهُ تَعَالَى: حم تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. قَدْ قَدَّمَنَا الْكَلَامَ عَلَيْهِ وَعَلَى نَظَائِرِهِ مِنَ الْآيَاتِ، فِي أَوَّلِ سُورَةِ الزُّمَرِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ.
(كِتَابٌ) خَبَرُ مُبْتَدَإٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: هَذَا كِتَابٌ، وَالْكِتَابُ فِعَالٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ، أَيْ مَكْتُوبٌ.
وَإِنَّمَا قِيلَ لَهُ (كِتَابٌ) لِأَنَّهُ مَكْتُوبٌ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ، كَمَا قَالَ - تَعَالَى -: بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ [٨٥ ٢١ - ٢٢].
وَمَكْتُوبٌ أَيْضًا فِي صُحُفٍ عِنْدَ الْمَلَائِكَةِ ; كَمَا قَالَ - تَعَالَى -: كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ بِأَيْدِي سَفَرَةٍ كِرَامٍ بَرَرَةٍ [٨٠ ١١ - ١٦].
وَقَالَ - تَعَالَى - فِي قِرَاءَةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِمَا تَضَمَّنَتْهُ الصُّحُفُ الْمَكْتُوبُ فِيهَا الْقُرْآنُ: رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفًا مُطَهَّرَةً فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ) [٩٨ ٢ - ٣].
وَقَوْلُهُ - تَعَالَى - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: فُصِّلَتْ آيَاتُهُ التَّفْصِيلُ ضِدُّ الْإِجْمَالِ، أَيْ فَصَّلَ اللَّهُ آيَاتِ هَذَا الْقُرْآنِ، أَيْ بَيَّنَهَا وَأَوْضَحَ فِيهَا مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ الْخَلْقُ مِنْ أُمُورِ دِينِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ.
وَالْمُسَوِّغُ لِحَذْفِ الْفَاعِلِ فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى -: فُصِّلَتْ آيَاتُهُ هُوَ الْعِلْمُ بِأَنَّ تَفْصِيلَ آيَاتِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَكُونُ إِلَّا مِنَ اللَّهِ وَحْدَهُ.
وَمَا تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ مِنْ تَفْصِيلِ آيَاتِ هَذَا الْكِتَابِ، جَاءَ مُوَضَّحًا فِي آيَاتٍ أُخَرَ، مُبَيَّنًا فِيهَا أَنَّ اللَّهَ فَصَّلَهُ عَلَى عِلْمٍ مِنْهُ، وَأَنَّ الَّذِي فَصَّلَهُ حَكِيمٌ خَبِيرٌ، وَأَنَّهُ فَصَّلَهُ لِيَهْدِيَ
3
بِهِ النَّاسَ وَيَرْحَمَهُمْ، وَأَنَّ تَفْصِيلَهُ شَامِلٌ لِكُلِّ شَيْءٍ، وَأَنَّهُ لَا شَكَّ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنَ اللَّهِ، كَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ [٧ ٥٢] وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ [١١ ١]. وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ [١٠ ٣٧]، وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ [١١ ١١١]، وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا [٦ ١١٤]، وَالْآيَاتُ بِمِثْلِ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ.
قَوْلُهُ - تَعَالَى -: قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ
قَوْلُهُ: (قُرْآنًا عَرَبِيًّا) قَدْ تَكَلَّمْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى الْآيَاتِ الَّتِي بِمَعْنَاهُ فِي الْقُرْآنِ فِي سُورَةِ «الزُّمَرِ» فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى -: قُرْءَانًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ [٣٩ ٢٨].
وَقَوْلُهُ - تَعَالَى - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ [٤١ ٣] أَيْ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ فِي حَالِ كَوْنِهِ (قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ).
وَإِنَّمَا خَصَّهُمْ بِذَلِكَ لِأَنَّهُمْ هُمُ الْمُنْتَفِعُونَ بِتَفْصِيلِهِ، كَمَا خَصَّهُمْ بِتَفْصِيلِ الْآيَاتِ فِي سُورَةِ «يُونُسَ» فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى -: مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ [١٠ ٥] وَفِي سُورَةِ «الْأَنْعَامِ» فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى -: قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ [٦ ٩٧ - ٩٨] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.
وَقَدْ أَوْضَحْنَا وَجْهَ تَخْصِيصِ الْمُنْتَفِعِينَ بِالْأَمْرِ الْمُشْتَرَكِ دُونَ غَيْرِهِمْ فِي سُورَةِ «فَاطِرٍ» فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى -: إِنَّمَا تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ [٣٥ ١٨] وَبَيَّنَّا هُنَاكَ أَنَّ تَخْصِيصَهُمْ بِالْإِنْذَارِ دُونَ غَيْرِهِمْ فِي آيَةِ «فَاطِرٍ» هَذِهِ، وَفِي قَوْلِهِ - تَعَالَى - فِي «يس» : إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ [٣٦ ١١]، وَقَوْلِهِ فِي النَّازِعَاتِ: إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا [٧٩ ٤٥]، وَقَوْلِهِ فِي «الْأَنْعَامِ» وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ
4
الْآيَةَ [٦ ٥١]. مَعَ أَنَّ أَصْلَ الْإِنْذَارِ عَامٌّ شَامِلٌ لِلْمَذْكُورِينَ وَغَيْرِهِمْ، كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا [٢٥ ١].
وَإِنَّمَا خَصَّ الْمَذْكُورِينَ بِالْإِنْذَارِ، لِأَنَّهُمْ هُمُ الْمُنْتَفِعُونَ بِهِ ; لِأَنَّ مَنْ لَمْ يَنْتَفِعْ بِالْإِنْذَارِ، وَمَنْ لَمْ يُنْذَرْ أَصْلًا - سَوَاءٌ فِي عَدَمِ الِانْتِفَاعِ، كَمَا قَالَ اللَّهُ - تَعَالَى -: وَسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ [٣٦ ١٠].
وَقَوْلُهُ - تَعَالَى - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: بَشِيرًا وَنَذِيرًا [٤١ ٤] حَالٌ بَعْدَ حَالٍ. وَقَدْ قَدَّمَنَا الْكَلَامَ عَلَيْهِ وَبَعْضَ شَوَاهِدِهِ الْعَرَبِيَّةِ فِي أَوَّلِ سُورَةِ «الْكَهْفِ» فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى -: لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ [١٨ ٢]، وَبَسَطْنَا الْكَلَامَ عَلَيْهِ فِي أَوَّلِ سُورَةِ «الْأَعْرَافِ» فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى -: كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ [٧ ٢].
وَقَوْلُهُ - تَعَالَى - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ.
قَدْ قَدَّمَنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ فِي سُورَةِ «يس» فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى -: لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ [٣٦ ٧] وَفِي سُورَةِ «الْأَنْعَامِ» فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ [٦ ١١٦].
وَقَوْلُهُ - تَعَالَى - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ أَيْ لَا يَسْمَعُونَ سَمَاعَ قَبُولٍ وَانْتِفَاعٍ.
وَقَدْ أَوْضَحْنَا ذَلِكَ بِالْآيَاتِ الْقُرْآنِيَّةِ فِي سُورَةِ «النَّمْلِ» فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى -: إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ الْآيَةَ [٢٧ ٨٠].
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ.
ذَكَرَ اللَّهُ - جَلَّ وَعَلَا - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّ الْكُفَّارَ صَرَّحُوا لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِأَنَّهُمْ لَا يَسْتَجِيبُونَ لَهُ وَلَا يُؤْمِنُونَ بِهِ، وَلَا يَقْبَلُونَ مِنْهُ مَا جَاءَهُمْ بِهِ ; فَقَالُوا لَهُ: قُلُوبُنَا الَّتِي نَعْقِلُ بِهَا وَنَفْهَمُ (فِي أَكِنَّةٍ) أَيْ أَغْطِيَةٍ.
5
وَالْأَكِنَّةُ جَمْعُ كِنَانٍ، وَهُوَ الْغِطَاءُ وَالْغِلَافُ الَّذِي يُغَطِّي الشَّيْءَ وَيَمْنَعُهُ مِنَ الْوُصُولِ إِلَيْهِ.
وَيَعْنُونَ أَنَّ تِلْكَ الْأَغْطِيَةَ مَانِعَةٌ لَهُمْ مِنْ فَهْمِ مَا يَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَقَالُوا: إِنَّ فِي آذَانِهِمُ الَّتِي يَسْمَعُونَ بِهَا وَقْرًا، أَيْ ثِقَلًا، وَهُوَ الصَّمَمُ، وَإِنَّ ذَلِكَ الصَّمَمَ مَانِعٌ لَهُمْ مِنْ أَنْ يَسْمَعُوا مِنَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شَيْئًا وَمِمَّا يَقُولُ، كَمَا قَالَ - تَعَالَى - عَنْهُمْ: وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ [٤١ ٢٦].
وَأَنَّ مِنْ بَيْنِهِمْ وَبَيْنَهُ حِجَابًا مَانِعًا لَهُمْ مِنَ الِاتِّصَالِ وَالِاتِّفَاقِ ; لِأَنَّ ذَلِكَ الْحِجَابَ يَحْجُبُ كُلًّا مِنْهُمَا عَنِ الْآخَرِ، وَيَحُولُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ رُؤْيَةِ مَا يُبْدِيهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنَ الْحَقِّ.
وَاللَّهُ - جَلَّ وَعَلَا - ذَكَرَ عَنْهُمْ هَذَا الْكَلَامَ فِي مَعْرِضِ الذَّمِّ، مَعَ أَنَّهُ - تَعَالَى - صَرَّحَ بِأَنَّهُ جَعَلَ عَلَى قُلُوبِهِمُ الْأَكِنَّةَ، وَفِي آذَانِهِمُ الْوَقْرَ، وَجَعَلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ رَسُولِهِ حِجَابًا عِنْدَ قِرَاءَتِهِ الْقُرْآنَ، قَالَ - تَعَالَى - فِي سُورَةِ «بَنِي إِسْرَائِيلَ» : وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا [١٧ ٤٥ - ٤٦]. وَقَالَ - تَعَالَى - فِي «الْأَنْعَامِ» : وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا [٦ ٢٥]. وَقَالَ - تَعَالَى - «فِي الْكَهْفِ» : إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا [١٨ ٥٧].
وَهَذَا الْإِشْكَالُ الَّذِي أَشَرْنَا إِلَيْهِ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ قَوِيٌّ، وَوَجْهُ كَوْنِهِ مُشْكِلًا ظَاهِرٌ; لِأَنَّهُ - تَعَالَى - ذَمَّهُمْ عَلَى دَعْوَاهُمُ الْأَكِنَّةَ وَالْوَقْرَ وَالْحِجَابَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ مِنْ «فُصِّلَتْ»، وَبَيَّنَ فِي الْآيَاتِ الْأُخْرَى أَنَّ مَا ذَمَّهُمْ عَلَى ادِّعَائِهِ وَاقِعٌ بِهِمْ فِعْلًا، وَأَنَّهُ - تَعَالَى - هُوَ الَّذِي جَعَلَهُ فِيهِمْ.
فَيُقَالُ: فَكَيْفَ يُذَمُّونَ عَلَى قَوْلِ شَيْءٍ هُوَ حَقٌّ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ؟
وَالتَّحْقِيقُ فِي الْجَوَابِ عَنْ هَذَا الْإِشْكَالِ هُوَ مَا ذَكَرْنَاهُ مِرَارًا مِنْ أَنَّ اللَّهَ إِنَّمَا جَعَلَ عَلَى قُلُوبِهِمُ الْأَكِنَّةَ، وَطَبَعَ عَلَيْهَا وَخَتَمَ عَلَيْهَا، وَجَعَلَ الْوَقْرَ فِي آذَانِهِمْ، وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنَ الْمَوَانِعِ مِنَ الْهُدَى - بِسَبَبِ أَنَّهُمْ بَادَرُوا إِلَى الْكُفْرِ، وَتَكْذِيبِ الرُّسُلِ طَائِعِينَ مُخْتَارِينَ، فَجَزَاهُمُ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ الذَّنْبِ الْأَعْظَمِ طَمْسَ الْبَصِيرَةِ، وَالْعَمَى عَنِ الْهُدَى، جَزَاءً وِفَاقًا.
6
فَالْأَكِنَّةُ وَالْوَقْرُ وَالْحِجَابُ الْمَذْكُورَةُ إِنَّمَا جَعَلَهَا اللَّهُ عَلَيْهِمْ مُجَازَاةً لِكُفْرِهِمُ الْأَوَّلِ.
وَمِنْ جَزَاءِ السَّيِّئَةِ تَمَادِي صَاحِبِهَا فِي الضَّلَالِ، وَلِلَّهِ الْحِكْمَةُ الْبَالِغَةُ فِي ذَلِكَ.
وَالْآيَاتُ الْمُصَرِّحَةُ بِمَعْنَى هَذَا كَثِيرَةٌ فِي الْقُرْآنِ، كَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ [٤ ١٥٥].
فَقَوْلُ الْيَهُودِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: قُلُوبُنَا غُلْفٌ كَقَوْلِ كُفَّارِ مَكَّةَ: قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ ; لِأَنَّ الْغُلْفَ جَمْعُ أَغْلُفَ، وَهُوَ الَّذِي عَلَيْهِ غِلَافٌ، وَالْأَكِنَّةُ جَمْعُ كِنَانٍ، وَالْغِلَافُ وَالْكِنَانُ كِلَاهُمَا بِمَعْنَى الْغِطَاءِ السَّاتِرِ.
وَقَدْ رَدَّ اللَّهُ عَلَى الْيَهُودِ دَعْوَاهُمْ بِ (بَلِ) الَّتِي هِيَ لِلْإِضْرَابِ الْإِبْطَالِيِّ، فِي قَوْلِهِ: بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ [٤ ١٥٥].
فَالْبَاءُ فِي قَوْلِهِ: (بِكُفْرِهِمْ) سَبَبِيَّةٌ، وَهِيَ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ سَبَبَ الطَّبْعِ عَلَى قُلُوبِهِمْ هُوَ كَفْرُهُمْ، وَالْأَكِنَّةُ وَالْوَقْرُ وَالطَّبْعُ كُلُّهَا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ.
وَكَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ [٦٣ ٣]، وَالْفَاءُ فِي قَوْلِهِ: (فَطُبِعَ) سَبَبِيَّةٌ، أَيْ ثُمَّ كَفَرُوا، فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ بِسَبَبِ ذَلِكَ الْكُفْرِ.
وَقَدْ قَدَّمْنَا مِرَارًا أَنَّهُ تَقَرَّرَ فِي الْأُصُولِ أَنَّ الْفَاءَ مِنْ حُرُوفِ التَّعْلِيلِ، وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ الْعِلَّةَ الشَّرْعِيَّةَ سَبَبٌ شَرْعِيٌّ.
وَكَذَلِكَ الْفَاءُ فِي قَوْلِهِ: فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ فَهِيَ سَبَبِيَّةٌ أَيْضًا، أَيْ فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ، فَهُمْ بِسَبَبِ ذَلِكَ الطَّبْعِ (لَا يَفْقَهُونَ) أَيْ لَا يَفْهَمُونَ مِنْ بَرَاهِينِ اللَّهِ وَحُجَجِهِ شَيْئًا.
وَذَلِكَ مِمَّا يُبَيِّنُ أَنَّ الطَّبْعَ وَالْأَكِنَّةَ يَئُولُ مَعْنَاهُمَا إِلَى شَيْءٍ وَاحِدٍ، وَهُوَ مَا يَنْشَأُ عَنْ كُلٍّ مِنْهُمَا مِنْ عَدَمِ الْفَهْمِ.
لِأَنَّهُ قَالَ فِي الطَّبْعِ فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ.
وَقَالَ فِي الْأَكِنَّةِ: وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ [٦ ٢٥] أَيْ كَرَاهَةَ أَنْ يَفْقَهُوهُ، أَوْ لِأَجْلِ أَلَّا يَفْقَهُوهُ، كَمَا قَدَّمْنَا إِيضَاحَهُ.
7
وَكَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ [٦١ ٥] فَبَيَّنَ أَنَّ زَيْغَهُمُ الْأَوَّلَ كَانَ سَبَبًا لِإِزَاغَةِ اللَّهِ قُلُوبَهُمْ، وَتِلْكَ الْإِزَاغَةُ قَدْ تَكُونُ بِالْأَكِنَّةِ وَالطَّبْعِ وَالْخَتْمِ عَلَى الْقُلُوبِ.
وَكَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا [٢ ١٠] وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ الْآيَةَ [٦ ١١٠] وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ [٩ ١٢٥].
وَإِيضَاحُ هَذَا الْجَوَابِ أَنَّ الْكُفَّارَ قَالُوا لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ يَقْصِدُونَ بِذَلِكَ إِخْبَارَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِأَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ بِوَجْهٍ، وَلَا يَتَّبِعُونَهُ بِحَالٍ، وَلَا يُقِرُّونَ بِالْحَقِّ الَّذِي هُوَ كَوْنُ كُفْرِهِمْ هَذَا هُوَ الْجَرِيمَةُ وَالذَّنْبُ الَّذِي كَانَ سَبَبًا فِي الْأَكِنَّةِ وَالْوَقْرِ وَالْحِجَابِ.
فَدَعْوَاهُمْ كَاذِبَةٌ ; لِأَنَّ اللَّهَ جَعَلَ لَهُمْ قُلُوبًا يَفْهَمُونَ بِهَا، وَآذَانًا يَسْمَعُونَ بِهَا، خِلَافًا لِمَا زَعَمُوا، وَلَكِنَّهُ سَبَّبَ لَهُمُ الْأَكِنَّةَ وَالْوَقْرَ وَالْحِجَابَ بِسَبَبِ مُبَادَرَتِهِمْ إِلَى الْكُفْرِ، وَتَكْذِيبِ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وَهَذَا الْمَعْنَى أَوْضَحَهُ رَدُّهُ - تَعَالَى - عَلَى الْيَهُودِ فِي قَوْلِهِ عَنْهُمْ: وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ.
وَقَدْ حَاوَلَ الْفَخْرُ الرَّازِيُّ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ الْجَوَابَ عَلَى الْإِشْكَالِ الْمَذْكُورِ، فَقَالَ: فَإِنْ قِيلَ إِنَّهُ - تَعَالَى - حَكَى هَذَا الْمَعْنَى عَنِ الْكُفَّارِ فِي مَعْرِضِ الذَّمِّ، وَذَكَرَ أَيْضًا مَا يَقْرُبُ مِنْهُ فِي مَعْرِضِ الذَّمِّ، فَقَالَ: وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ [٢ ٨٨] ثُمَّ إِنَّهُ - تَعَالَى - ذَكَرَ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ الثَّلَاثَةَ بِعَيْنِهَا فِي مَعْنَى التَّقْرِيرِ وَالْإِثْبَاتِ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ، فَقَالَ: وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا [٦ ٢٥] فَكَيْفَ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا؟
قُلْنَا: إِنَّهُ لَمْ يَقُلْ هَا هُنَا إِنَّهُمْ كَذَبُوا فِي ذَلِكَ، إِنَّمَا الَّذِي ذَمَّهُمْ عَلَيْهِ أَنَّهُمْ قَالُوا: إِنَّا إِذَا كُنَّا كَذَلِكَ لَمْ يَجُزْ تَكْلِيفُنَا وَتَوْجِيهُ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ عَلَيْنَا، وَهَذَا الثَّانِي بَاطِلٌ.
أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِأَنَّهُ لَيْسَ فِي الْآيَةِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ كَذَبُوا فِيهِ. اهـ مِنْهُ. وَالْأَظْهَرُ هُوَ مَا ذَكَرْنَا.
8
قَالَ صَاحِبُ الْكَشَّافِ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ.
فَإِنْ قُلْتَ: هَلْ لِزِيَادَةِ (مِنْ) فِي قَوْلِهِ: (وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ) - فَائِدَةٌ؟ قُلْتُ: نَعَمْ ; لِأَنَّهُ لَوْ قِيلَ: وَبَيْنَنَا وَبَيْنَكَ حِجَابٌ، لَكَانَ الْمَعْنَى أَنْ حِجَابًا حَاصِلٌ وَسَطَ الْجِهَتَيْنِ.
وَأَمَّا بِزِيَادَةِ (مِنْ) فَالْمَعْنَى أَنَّ حِجَابًا ابْتَدَأَ مِنَّا وَابْتَدَأَ مِنْكَ، فَالْمَسَافَةُ الْمُتَوَسِّطَةُ لِجِهَتِنَا وَجِهَتِكَ مُسْتَوْعَبَةٌ بِالْحِجَابِ، لَا فَرَاغَ فِيهَا. انْتَهَى مِنْهُ.
وَاسْتَحْسَنَ كَلَامَهُ هَذَا الْفَخْرُ الرَّازِيُّ، وَتَعَقَّبَهُ ابْنُ الْمُنِيرِ عَلَى الزَّمَخْشَرِيِّ، فَأَوْضَحَ سُقُوطَهُ، وَالْحَقُّ مَعَهُ فِي تَعَقُّبِهِ عَلَيْهِ.
وَقَوْلُهُ - تَعَالَى - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ، وَقَدْ قَدَّمْنَا تَفْسِيرَهُ وَإِيضَاحَهُ بِالْآيَاتِ الْقُرْآنِيَّةِ فِي سُورَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا [١٧ ٤٥].
قَوْلُهُ - تَعَالَى -: قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ.
أَمَرَ اللَّهُ - جَلَّ وَعَلَا - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ نَبِيَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يَقُولَ لِلنَّاسِ: إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ.
وَالْقَصْرُ فِي قَوْلِهِ: إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ إِضَافِيٌّ، أَيْ لَا أَقُولُ لَكُمْ: إِنِّي مَلَكٌ، وَإِنَّمَا أَنَا رَجُلٌ مِنَ الْبَشَرِ.
وَقَوْلُهُ: مِثْلُكُمْ فِي الصِّفَاتِ الْبَشَرِيَّةِ، وَلَكِنَّ اللَّهَ فَضَّلَنِي بِمَا أَوْحَى إِلَيَّ مِنْ تَوْحِيدِهِ.
كَمَا قَالَ - تَعَالَى - عَنِ الرُّسُلِ فِي سُورَةِ إِبْرَاهِيمَ: قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ [١٤ ١١] أَيْ كَمَا مَنَّ عَلَيْنَا بِالْوَحْيِ وَالرِّسَالَةِ.
وَمَا ذَكَرَهُ اللَّهُ - جَلَّ وَعَلَا - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ ذَكَرَهُ فِي آخِرِ سُورَةِ الْكَهْفِ فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى -: قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا الْآيَةَ [١٨ ١١٠].
9
وَقَدْ أَوْضَحْنَا وَجْهَ حَصْرِ مَا أُوحِيَ إِلَيْهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي مَضْمُونِ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى - قُلْ إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ فِي سُورَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى - إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ [١٧ ٩].
وَبَيَّنَّا فِي مَوَاضِعَ مُتَعَدِّدَةٍ مِنْ هَذَا الْكِتَابِ الْمُبَارَكِ إِنْكَارَ الْمُشْرِكِينَ كَوْنَ الرُّسُلِ مِنَ الْبَشَرِ، وَأَنَّهُمْ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمَلَائِكَةِ، وَمَا رَدَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ بِهِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ الْقُرْآنِيَّةِ، أَوْضَحْنَا ذَلِكَ فِي سُورَةِ ص، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ [٣٨ ٤] وَفِي سُورَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِلَى قَوْلِهِ: لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكًا رَسُولًا [١٧ ٩٤ - ٩٥].
قَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ.
قَدِ اسْتَدَلَّ بَعْضُ عُلَمَاءِ الْأُصُولِ بِهَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ عَلَى أَنَّ الْكُفَّارَ مُخَاطَبُونَ بِفُرُوعِ الشَّرِيعَةِ ; لِأَنَّهُ - تَعَالَى - صَرَّحَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ بِأَنَّهُمْ مُشْرِكُونَ، وَأَنَّهُمْ كَافِرُونَ بِالْآخِرَةِ، وَقَدْ تَوَعَّدَهُمْ بِالْوَيْلِ عَلَى شِرْكِهِمْ وَكُفْرِهِمْ بِالْآخِرَةِ، وَعَدَمِ إِيتَائِهِمُ الزَّكَاةَ، سَوَاءٌ قُلْنَا: إِنَّ الزَّكَاةَ فِي الْآيَةِ هِيَ زَكَاةُ الْمَالِ الْمَعْرُوفَةُ، أَوْ زَكَاةُ الْأَبْدَانِ بِفِعْلِ الطَّاعَاتِ وَاجْتِنَابِ الْمَعَاصِي.
وَرَجَّحَ بَعْضُهُمُ الْقَوْلَ الْأَخِيرَ ; لِأَنَّ سُورَةَ فُصِّلَتْ هَذِهِ مِنَ الْقُرْآنِ النَّازِلِ بِمَكَّةَ قَبْلَ الْهِجْرَةِ، وَزَكَاةُ الْمَالِ الْمَعْرُوفَةُ إِنَّمَا فُرِضَتْ بَعْدَ الْهِجْرَةِ سَنَةَ اثْنَتَيْنِ، كَمَا قَدَّمْنَاهُ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ [٦ ١٤١].
وَعَلَى كُلِّ حَالٍ، فَالْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى خِطَابِ الْكُفَّارِ بِفُرُوعِ الْإِسْلَامِ.
أَعْنِي امْتِثَالَ أَوَامِرِهِ وَاجْتِنَابَ نَوَاهِيهِ. وَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ مِنْ كَوْنِهِمْ مُخَاطَبِينَ بِذَلِكَ، وَأَنَّهُمْ يُعَذَّبُونَ عَلَى الْكُفْرِ، وَيُعَذَّبُونَ عَلَى الْمَعَاصِي - جَاءَ مُوَضَّحًا فِي آيَاتٍ أُخَرَ، كَقَوْلِهِ - تَعَالَى - عَنْهُمْ مُقَرِّرًا لَهُ: مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ [٧٤ ٤٢ - ٤٧].
10
فَصَرَّحَ - تَعَالَى - عَنْهُمْ مُقَرِّرًا لَهُ أَنَّ مِنَ الْأَسْبَابِ الَّتِي سَلَكَتْهُمْ فِي سَقَرَ - أَيْ أَدْخَلَتْهُمُ النَّارَ - عَدَمُ الصَّلَاةِ، وَعَدَمُ إِطْعَامِ الْمِسْكِينِ، وَعْدَّ ذَلِكَ مَعَ الْكُفْرِ بِسَبَبِ التَّكْذِيبِ بِيَوْمِ الدِّينِ.
وَنَظِيرُ ذَلِكَ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: خُذُوهُ فَغُلُّوهُ ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ [٦٩ - ٣٢] ثُمَّ بَيَّنَ سَبَبَ ذَلِكَ فَقَالَ: إِنَّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ وَلَا وَلَا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ [٦٩ ٣٣ - ٣٦] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.
قَوْلُهُ - تَعَالَى -: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ.
الْأَجْرُ جَزَاءُ الْعَمَلِ، وَجَزَاءُ عَمَلِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ هُوَ نَعِيمُ الْجَنَّةِ، وَذَلِكَ الْجَزَاءُ (غَيْرُ مَمْنُونٍ) أَيْ غَيْرُ مَقْطُوعٍ، فَالْمَمْنُونُ اسْمُ مَفْعُولٍ مِنْهُ بِمَعْنَى قَطَعَهُ، وَمِنْهُ قَوْلُ لَبِيدِ بْنِ رَبِيعَةَ فِي مُعَلَّقَتِهِ:
لِمُعَفَّرٍ قَهْدٍ تَنَازَعَ شِلْوَهُ غُبْسٌ كَوَاسِبُ مَا يُمَنُّ طَعَامُهَا
فَقَوْلُهُ: مَا يُمَنُّ طَعَامُهَا، أَيْ مَا يُقْطَعُ. وَقَوْلُ ذِي الْأُصْبُعِ:
إِنِّي لَعَمْرُكَ مَا بَابِي بِذِي غَلَقٍ عَلَى الصَّدِيقِ وَلَا خَيْرِي بِمَمْنُونِ
وَمَا تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ مِنْ أَنَّ أَجَرَهُمْ غَيْرُ مَمْنُونٍ - نَصَّ اللَّهُ - تَعَالَى - عَلَيْهِ فِي آيَاتٍ أُخَرَ مِنْ كِتَابِهِ، كَقَوْلِهِ - تَعَالَى - فِي آخِرِ سُورَةِ الِانْشِقَاقِ: إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ [٨٤ ٢٥]. وَقَوْلِهِ - تَعَالَى - فِي سُورَةِ التِّينِ: إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ [٩٥ ٦]. وَقَوْلِهِ - تَعَالَى - فِي سُورَةِ هُودٍ: وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ [١١ ١٠٨].
فَقَوْلُهُ: (غَيْرَ مَجْذُوذٍ) أَيْ غَيْرَ مَقْطُوعٍ، وَبِهِ تَعْلَمُ أَنَّ (غَيْرَ مَجْذُوذٍ) وَ (غَيْرَ مَمْنُونٍ) - مَعْنَاهُمَا وَاحِدٌ.
وَقَوْلِهِ - تَعَالَى - فِي «ص» : إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِنْ نَفَادٍ [٣٨ ٥٤] أَيْ مَا لَهُ مِنِ انْتِهَاءٍ وَلَا انْقِطَاعٍ. وَقَوْلِهِ فِي «النَّحْلِ» : مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ [١٦ ٩٦].
وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا هُوَ الَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ خِلَافًا لِمَنْ قَالَ: إِنَّ مَعْنَى (غَيْرُ مَمْنُونٍ) غَيْرُ مَمْنُونٍ عَلَيْهِمْ بِهِ.
وَعَلَيْهِ ; فَالْمَنُّ فِي الْآيَةِ مِنْ جِنْسِ الْمَنِّ الْمَذْكُورِ فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى -: لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى [٢ ٢٦٤].
وَمَنْ قَالَ: إِنَّ مَعْنَى (غَيْرُ مَمْنُونٍ) غَيْرُ مَنْقُوصٍ، مُحْتَجًّا بِأَنَّ الْعَرَبَ تُطْلِقُ الْمَمْنُونَ عَلَى الْمَنْقُوصِ، قَالُوا: وَمِنْهُ قَوْلُ زُهَيْرٍ:
فَضْلُ الْجِيَادِ عَلَى الْخَيْلِ الْبِطَاءِ فَلَا يُعْطَى بِذَلِكَ مَمْنونًا وَلَا نَزَقَا
فَقَوْلُهُ: مَمْنُونًا، أَيْ مَنْقُوصًا.
وَهَذَا وَإِنْ صَحَّ لُغَةً، فَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ لَيْسَ مَعْنَى الْآيَةِ.
بَلْ مَعْنَاهَا هُوَ مَا قَدَّمْنَا. وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ - تَعَالَى -.
قَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ.
الظَّاهِرُ أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ هُنَا (فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ) أَيْ فِي تَتِمَّةِ أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ.
وَتَتِمَّةُ الْأَرْبَعَةِ حَاصِلَةٌ بِيَوْمَيْنِ فَقَطْ ; لِأَنَّهُ - تَعَالَى - قَالَ: قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ ثُمَّ قَالَ: (فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ) أَيْ فِي تَتِمَّةِ أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ.
ثُمَّ قَالَ: فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ [٤١ ١٢] فَتَضُمُّ الْيَوْمَيْنِ إِلَى الْأَرْبَعَةِ السَّابِقَةِ، فَيَكُونُ مَجْمُوعُ الْأَيَّامِ الَّتِي خَلَقَ فِيهَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا - سِتَّةَ أَيَّامٍ.
وَهَذَا التَّفْسِيرُ الَّذِي ذَكَرْنَا فِي الْآيَةِ لَا يَصِحُّ غَيْرُهُ بِحَالٍ ; لِأَنَّ اللَّهَ - تَعَالَى - صَرَّحَ فِي آيَاتٍ مُتَعَدِّدَةٍ مِنْ كِتَابِهِ بِأَنَّهُ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ، كَقَوْلِهِ فِي «الْفُرْقَانِ» : الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا [٢٥ ٥٩]. وَقَوْلِهِ - تَعَالَى - فِي السَّجْدَةِ: اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ [٣٢ ٤]. وَقَوْلِهِ - تَعَالَى - فِي «ق» : وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ [٥٠ ٣٨]. وَقَوْلِهِ - تَعَالَى - فِي «الْأَعْرَافِ» : إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ
12
[٧ ٥٤]. إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.
فَلَوْ لَمْ يُفَسَّرْ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ بِأَنَّ مَعْنَاهُ فِي تَتِمَّةِ أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ - لَكَانَ الْمَعْنَى أَنَّهُ - تَعَالَى - خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي ثَمَانِيَةِ أَيَّامٍ; لِأَنَّ قَوْلَهُ - تَعَالَى -: فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ إِذَا فُسِّرَ بِأَنَّهَا أَرْبَعَةٌ كَامِلَةٌ ثُمَّ جُمِعَتْ مَعَ الْيَوْمَيْنِ اللَّذَيْنِ خُلِقَتْ فِيهِمَا الْأَرْضُ الْمَذْكُورِينَ فِي قَوْلِهِ: قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ [٤١ ٩]، وَالْيَوْمَيْنِ اللَّذَيْنِ خُلِقَتْ فِيهِمَا السَّمَاوَاتُ الْمَذْكُورَيْنَ فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى -: فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ [٤١ ١٢]- لَكَانَ الْمَجْمُوعُ ثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ.
وَذَلِكَ لَمْ يَقُلْ بِهِ أَحَدٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ.
وَالنُّصُوصُ الْقُرْآنِيَّةُ مُصَرِّحَةٌ بِأَنَّهَا سِتَّةُ أَيَّامٍ، فَعُلِمَ بِذَلِكَ صِحَّةُ التَّفْسِيرِ الَّذِي ذَكَرْنَا، وَصِحَّةُ دَلَالَةِ الْآيَاتِ الْقُرْآنِيَّةِ عَلَيْهِ.
وَقَوْلُهُ - تَعَالَى - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا قَدْ قَدَّمَنَا الْكَلَامَ عَلَى أَمْثَالِهِ مِنَ الْآيَاتِ فِي سُورَةِ «النَّحْلِ» فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ [١٦ ١٥]، وَقَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَبَارَكَ فِيهَا أَيْ أَكْثَرَ فِيهَا الْبَرَكَاتِ، وَالْبَرَكَةُ الْخَيْرُ، وَقَوْلُهُ - تَعَالَى - وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا.
التَّقْدِيرُ وَالْخَلْقُ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ مَعْنَاهُمَا وَاحِدٌ.
وَالْأَقْوَاتُ جَمْعُ قُوتٍ، وَالْمُرَادُ بِالْأَقْوَاتِ أَرْزَاقُ أَهْلِ الْأَرْضِ وَمَعَايِشُهُمْ وَمَا يُصْلِحُهُمْ.
وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي كِتَابِنَا «دَفْعُ إِيهَامِ الِاضْطِرَابِ عَنْ آيَاتِ الْكِتَابِ» أَنَّ آيَةَ «فُصِّلَتْ» هَذِهِ، أَعْنِي قَوْلَهُ - تَعَالَى -: وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا يُفْهَمُ مِنْهَا الْجَمْعُ بَيْنَ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّ الْأَرْضَ خُلِقَتْ قَبْلَ السَّمَاءِ، كَقَوْلِهِ هُنَا: قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ ثُمَّ رَتَّبَ عَلَى ذَلِكَ بِـ (ثُمَّ) قَوْلَهُ: ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ إِلَى قَوْلِهِ فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ مَعَ بَعْضِ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّ السَّمَاءَ خُلِقَتْ قَبْلَ الْأَرْضِ، كَقَوْلِهِ - تَعَالَى - فِي «النَّازِعَاتِ» : أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا إِلَى قَوْلِهِ: وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا [٧٩ ٢٧ - ٣٠].
فَقُلْنَا فِي كِتَابِنَا الْمَذْكُورِ مَا نَصُّهُ: قَوْلُهُ - تَعَالَى -:
13
هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ [٢ ٢٩]، الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ خَلْقَ الْأَرْضِ قَبْلَ خَلْقِ السَّمَاءِ، بِدَلِيلِ لَفْظَةِ (ثُمَّ) الَّتِي هِيَ لِلتَّرْتِيبِ وَالِانْفِصَالِ.
وَكَذَلِكَ آيَةِ «حم السَّجْدَةِ» تَدُلُّ أَيْضًا عَلَى خَلْقِ الْأَرْضِ قَبْلَ السَّمَاءِ ; لِأَنَّهُ قَالَ فِيهَا: قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ إِلَى أَنْ قَالَ ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ الْآيَةَ.
مَعَ أَنَّ آيَةَ «النَّازِعَاتِ» تَدُلُّ عَلَى أَنَّ دَحْوَ الْأَرْضِ بَعْدَ خَلْقِ السَّمَاءِ ; لِأَنَّهُ قَالَ فِيهَا أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا، ثُمَّ قَالَ: وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا.
اعْلَمْ أَوَّلًا أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - سُئِلَ عَنِ الْجَمْعِ بَيْنَ آيَةِ «السَّجْدَةِ» وَآيَةِ «النَّازِعَاتِ» فَأَجَابَ بِأَنَّ اللَّهَ - تَعَالَى - خَلَقَ الْأَرْضَ أَوَّلًا قَبْلَ السَّمَاءِ غَيْرَ مَدْحُوَّةٍ، ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعًا فِي يَوْمَيْنِ، ثُمَّ دَحَا الْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ، وَجَعَلَ فِيهَا الرَّوَاسِيَ وَالْأَنْهَارَ وَغَيْرَ ذَلِكَ.
فَأَصْلُ خَلْقِ الْأَرْضِ قَبْلَ خَلْقِ السَّمَاءِ، وَدَحْوُهَا بِجِبَالِهَا وَأَشْجَارِهَا وَنَحْوُ ذَلِكَ بَعْدَ خَلْقِ السَّمَاءِ.
وَيَدُلُّ لِهَذَا أَنَّهُ قَالَ: وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا وَلَمْ يَقُلْ: خَلَقَهَا، ثُمَّ فَسَّرَ دَحْوَهُ إِيَّاهَا بِقَوْلِهِ: أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا [٧٩ ٣١]، وَهَذَا الْجَمْعُ الَّذِي جَمَعَ بِهِ ابْنُ عَبَّاسٍ بَيْنَ هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ وَاضِحٌ لَا إِشْكَالَ فِيهِ، مَفْهُومٌ مِنْ ظَاهِرِ الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ إِلَّا أَنَّهُ يُرَدُّ عَلَيْهِ إِشْكَالٌ مِنْ آيَةِ «الْبَقَرَةِ» هَذِهِ.
وَإِيضَاحُهُ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ جَمَعَ بِأَنَّ خَلْقَ الْأَرْضِ قَبْلَ خَلْقِ السَّمَاءِ، وَدَحْوَهَا بِمَا فِيهَا بَعْدَ خَلْقِ السَّمَاءِ.
وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ التَّصْرِيحُ بِأَنَّ جَمِيعَ مَا فِي الْأَرْضِ مَخْلُوقٌ قَبْلَ خَلْقِ السَّمَاءِ ; لِأَنَّهُ قَالَ فِيهَا هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ الْآيَةَ.
وَقَدْ مَكَثْتُ زَمَنًا طَوِيلًا أُفَكِّرُ فِي حَلِّ هَذَا الْإِشْكَالِ حَتَّى هَدَانِي اللَّهُ إِلَيْهِ ذَاتَ يَوْمٍ، فَفَهِمْتُهُ مِنَ الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ.
وَإِيضَاحُهُ: أَنَّ هَذَا الْإِشْكَالَ مَرْفُوعٌ مِنْ وَجْهَيْنِ، كُلٌّ مِنْهُمَا تَدُلُّ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنَ الْقُرْآنِ.
14
الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمُرَادَ بِخَلْقِ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا قَبْلَ خَلْقِ السَّمَاءِ - الْخَلْقُ اللُّغَوِيُّ الَّذِي هُوَ التَّقْدِيرُ، لَا الْخَلْقُ بِالْفِعْلِ، الَّذِي هُوَ الْإِبْرَازُ مِنَ الْعَدَمِ إِلَى الْوُجُودِ، وَالْعَرَبُ تُسَمِّي التَّقْدِيرَ خَلْقًا. وَمِنْهُ قَوْلُ زُهَيْرٍ:
وَلَأَنْتَ تَفْرِي مَا خَلَقْتَ وَبَعْضُ الْقَوْمِ يَخْلُقُ ثُمَّ لَا يَفْرِي
وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهَذَا الْخَلْقِ التَّقْدِيرُ أَنَّهُ - تَعَالَى - نَصَّ عَلَى ذَلِكَ فِي سُورَةِ «فُصِّلَتْ» ; حَيْثُ قَالَ: وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا ثُمَّ قَالَ: ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ الْآيَةَ.
الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ لَمَّا خَلَقَ الْأَرْضَ غَيْرَ مَدْحُوَّةٍ وَهِيَ أَصْلٌ لِكُلِّ مَا فِيهَا كَانَ كُلَّ مَا فِيهَا كَأَنَّهُ خُلِقَ بِالْفِعْلِ لِوُجُودِ أَصْلِهِ فِعْلًا.
وَالدَّلِيلُ مِنَ الْقُرْآنِ عَلَى أَنَّ وُجُودَ الْأَصْلِ يُمْكِنُ بِهِ إِطْلَاقُ الْخَلْقِ عَلَى الْفَرْعِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَوْجُودًا بِالْفِعْلِ - قَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ الْآيَةَ [٧ ١١]، فَقَوْلُهُ: خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ أَيْ بِخَلْقِنَا وَتَصْوِيرِنَا لِأَبِيكُمْ آدَمَ الَّذِي هُوَ أَصْلُكُمْ.
وَجَمَعَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ بِأَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا أَيْ مَعَ ذَلِكَ، فَلَفْظَةُ (بَعْدَ) بِمَعْنَى مَعَ.
وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ وَعَلَيْهِ ; فَلَا إِشْكَالَ فِي الْآيَةِ.
وَيُسْتَأْنَسُ لِهَذَا الْقَوْلِ بِالْقِرَاءَةِ الشَّاذَّةِ - وَبِهَا قَرَأَ مُجَاهِدٌ -: (وَالْأَرْضَ مَعَ ذَلِكَ دَحَاهَا).
وَجَمَعَ بَعْضُهُمْ بِأَوْجُهٍ ضَعِيفَةٍ ; لِأَنَّهَا مَبْنِيَّةٌ عَلَى أَنَّ خَلْقَ السَّمَاءِ قَبْلَ الْأَرْضِ، وَهُوَ خِلَافُ التَّحْقِيقِ.
مِنْهَا: أَنَّ (ثُمَّ) بِمَعْنَى الْوَاوِ.
وَمِنْهَا: أَنَّهَا لِلتَّرْتِيبِ الذِّكْرِيِّ، كَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا الْآيَةَ [٩٠ ١٧].
15
قَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا.
الْمَصَابِيحُ: النُّجُومُ.
وَمَا تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الْآيَةُ مِنْ تَزْيِينِ السَّمَاءِ الدُّنْيَا بِالنُّجُومِ، قَدْ قَدَّمْنَا إِيضَاحَهُ بِالْآيَاتِ الْقُرْآنِيَّةِ، فِي سُورَةِ «الْأَنْعَامِ» فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا [٦ ٩٧].
وَقَوْلُهُ - تَعَالَى - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: وَحِفْظًا قَدْ قَدَّمْنَا إِيضَاحَهُ بِالْآيَاتِ الْقُرْآنِيَّةِ فِي سُورَةِ «الْحِجْرِ» فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَحَفِظْنَاهَا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ الْآيَةَ [١٥ ١٧].
قَوْلُهُ - تَعَالَى -: قَالُوا لَوْ شَاءَ رَبُّنَا لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً فَإِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ.
قَدْ قَدَّمْنَا إِيضَاحَهُ بِالْآيَاتِ الْقُرْآنِيَّةِ فِي سُورَةِ «ص» فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ [٣٨ ٤].
قَوْلُهُ - تَعَالَى -: فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ. الصَّرْصَرُ: وَزْنُهُ بِالْمِيزَانِ الصَّرْفِيِّ «فَعَفَلُ»، وَفِي مَعْنَى الصَّرْصَرِ لِعُلَمَاءِ التَّفْسِيرِ وَجْهَانِ مَعْرُوفَانِ.
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الرِّيحَ الصَّرْصَرَ هِيَ الرِّيحُ الْعَاصِفَةُ الشَّدِيدَةُ الْهُبُوبِ الَّتِي يُسْمَعُ لِهُبُوبِهَا صَوْتٌ شَدِيدٌ، وَعَلَى هَذَا ; فَالصَّرْصَرُ مِنَ الصَّرَّةِ الَّتِي هِيَ الصَّيْحَةُ الْمُزْعِجَةُ.
وَمِنْهُ قَوْلُهُ - تَعَالَى - فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ أَيْ فِي صَيْحَةٍ، وَمِنْ هَذَا الْمَعْنَى صَرِيرُ الْبَابِ وَالْقَلَمِ، أَيْ صَوْتُهُمَا.
الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الصَّرْصَرَ مِنَ الصَّرِّ الَّذِي هُوَ الْبَرْدُ الشَّدِيدُ الْمُحْرِقُ، وَمِنْهُ عَلَى أَصَحِّ التَّفْسِيرَيْنِ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ الْآيَةَ [٣ ١١٧]، أَيْ فِيهَا بَرْدٌ شَدِيدٌ مُحْرِقٌ، وَمِنْهُ قَوْلُ حَاتِمٍ الطَّائِيِّ:
16
فَقَوْلُهُ: رِيحٌ صِرٌّ، أَيْ بَارِدَةٌ شَدِيدَةُ الْبَرْدِ.
وَالْأَظْهَرُ أَنَّ كِلَا الْقَوْلَيْنِ صَحِيحٌ، وَأَنَّ الرِّيحَ الْمَذْكُورَةَ جَامِعَةٌ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ، فَهِيَ عَاصِفَةٌ شَدِيدَةُ الْهُبُوبِ، بَارِدَةٌ شَدِيدةُ الْبَرْدِ.
وَمَا ذَكَرَهُ - جَلَّ وَعَلَا - مِنْ إِهْلَاكِهِ عَادًا بِهَذِهِ الرِّيحِ الصَّرْصَرِ، فِي تِلْكَ الْأَيَّامِ النَّحِسَاتِ - أَيِ الْمَشْئُومَاتِ النَّكِدَاتِ; لِأَنَّ النَّحْسَ ضِدُّ السَّعْدِ، وَهُوَ الشُّؤْمُ - جَاءَ مُوَضَّحًا فِي آيَاتٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ.
وَقَدْ بَيَّنَ - تَعَالَى - فِي بَعْضِهَا عَدَدَ الْأَيَّامِ وَاللَّيَالِي الَّتِي أَرْسَلَ عَلَيْهِمُ الرِّيحَ فِيهَا، كَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ [٦٩ ٦ - ٨]، وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ [٥١ ٤١ - ٤٢]، وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ تَنْزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ [٥٤ ١٩ - ٢٠]، وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا الْآيَةَ [٤٦ ٢٤ - ٢٥].
وَهَذِهِ الرِّيحُ الصَّرْصَرُ هِيَ الْمُرَادُ بِصَاعِقَةِ عَادٍ فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى -: فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ الْآيَةَ [٤١ ١٣].
وَقَرَأَ هَذَا الْحَرْفَ نَافِعٌ، وَابْنُ كَثِيرٍ، وَأَبُو عُمَرَ (نَحْسَاتٍ) بِسُكُونِ الْحَاءِ; وَعَلَيْهِ فَالنَّحْسُ وَصْفٌ أَوْ مَصْدَرٌ، نَزَلَ مَنْزِلَةَ الْوَصْفِ.
وَقَرَأَهُ ابْنُ عَامِرٍ، وَعَاصِمٌ، وَحَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ (نَحِسَاتٍ) بِكَسْرِ الْحَاءِ، وَوَجْهُهُ ظَاهِرٌ.
قَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ مَعْنَى النَّحِسَاتِ الْمَشْئُومَاتُ النَّكِدَاتُ.
وَقَالَ صَاحِبُ الدُّرِّ الْمَنْثُورِ: وَأَخْرَجَ الطَّسْتِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّ نَافِعَ بْنَ الْأَزْرَقِ قَالَ لَهُ: أَخْبِرْنِي عَنْ قَوْلِهِ - عَزَّ وَجَلَّ -: فِي يَوْمِ نَحْسٍ [٥٤ ١٩]. قَالَ:
17
النَّحْسُ الْبَلَاءُ وَالشِّدَّةُ. قَالَ: وَهَلْ تَعْرِفُ الْعَرَبُ ذَلِكَ؟ قَالَ: نَعَمْ، أَمَا سَمِعْتَ زُهَيْرَ بْنَ أَبِي سُلْمَى يَقُولُ:
أَوْقِدْ فَإِنَّ اللَّيْلَ لَيْلٌ قَرُّ وَالرِّيحَ يَا وَاقِدُ رِيحٌ صِرُّ
عَلَّ يَرَى نَارَكَ مَنْ يَمُرُّ إِنْ جَلَبَتْ ضَيْفًا فَأَنْتَ حُرّ
سَوَاءٌ عَلَيْهِ أَيَّ يَوْمٍ أَتَيْتُهُ أَسَاعَةَ نَحْسٍ تَتَّقِي أَمْ بِأَسْعَدِ
وَتَفْسِيرُ النَّحْسِ بِالْبَلَاءِ وَالشِّدَّةِ تَفْسِيرٌ بِالْمَعْنَى ; لِأَنَّ الشُّؤْمَ بَلَاءٌ وَشِدَّةٌ، وَمُقَابَلَةُ زُهَيْرٍ النَّحْسَ بِالْأَسْعَدِ فِي بَيْتِهِ يُوَضِّحُ ذَلِكَ، وَهُوَ مَعْلُومٌ.
وَيَزْعُمُ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّهَا مِنْ آخَرِ شَوَّالٍ، وَأَنَّ أَوَّلَهَا يَوْمُ الْأَرْبِعَاءِ، وَآخِرَهَا يَوْمُ الْأَرْبِعَاءِ، وَلَا دَلِيلَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ.
وَمَا يَذْكُرُهُ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْ أَنَّ يَوْمَ النَّحْسِ الْمُسْتَمِرِّ هُوَ يَوْمُ الْأَرْبِعَاءِ الْأَخِيرُ مِنَ الشَّهْرِ، أَوْ يَوْمُ الْأَرْبِعَاءِ مُطْلَقًا، حَتَّى إِنَّ بَعْضَ الْمُنْتَسِبِينَ لِطَلَبِ الْعِلْمِ وَكَثِيرًا مِنَ الْعَوَامِّ صَارُوا يَتَشَاءَمُونَ بِيَوْمِ الْأَرْبِعَاءِ الْأَخِيرِ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ، حَتَّى إِنَّهُمْ لَا يُقْدِمُونَ عَلَى السَّفَرِ وَالتَّزَوُّجِ وَنَحْوِ ذَلِكَ فِيهِ، ظَانِّينَ أَنَّهُ يَوْمُ نَحْسٍ وَشُؤْمٍ، وَأَنَّ نَحْسَهُ مُسْتَمِرٌّ عَلَى جَمِيعِ الْخَلْقِ فِي جَمِيعِ الزَّمَنِ - لَا أَصْلَ لَهُ وَلَا مُعَوِّلَ عَلَيْهِ، وَلَا يَلْتَفِتُ إِلَيْهِ مَنْ عِنْدَهُ عِلْمٌ; لِأَنَّ نَحْسَ ذَلِكَ الْيَوْمِ مُسْتَمِرٌّ عَلَى عَادٍ فَقَطِ الَّذِينَ أَهْلَكَهُمُ اللَّهُ فِيهِ، فَاتَّصَلَ لَهُمْ عَذَابُ الْبَرْزَخِ وَالْآخِرَةِ بِعَذَابِ الدُّنْيَا، فَصَارَ ذَلِكَ الشُّؤْمُ مُسْتَمِرًّا عَلَيْهِمُ اسْتِمْرَارًا لَا انْقِطَاعَ لَهُ.
أَمَّا غَيْرُ عَادٍ فَلَيْسَ مُؤَاخَذًا بِذَنْبِ عَادٍ ; لِأَنَّهُ لَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى.
وَقَدْ أَرَدْنَا هُنَا أَنْ نَذْكُرَ بَعْضَ الرِّوَايَاتِ الَّتِي اغْتَرَّ بِهَا مَنْ ظَنَّ اسْتِمْرَارَ نَحْسَ ذَلِكَ الْيَوْمِ ; لِنُبَيِّنَ أَنَّهَا لَا مُعَوِّلَ عَلَيْهَا.
قَالَ صَاحِبُ الدُّرِّ الْمَنْثُورِ: وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ زِرِّ بْنِ حُبَيْشٍ فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ قَالَ: يَوْمَ الْأَرْبِعَاءِ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «قَالَ لِي جِبْرِيلُ: اقْضِ بِالْيَمِينِ مَعَ الشَّاهِدِ. وَقَالَ: يَوْمُ الْأَرْبِعَاءِ يَوْمُ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ».
وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: «نَزَلَ جِبْرِيلُ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْيَمِينِ مَعَ الشَّاهِدِ، وَالْحِجَامَةِ، وَيَوْمُ الْأَرْبِعَاءِ يَوْمُ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ». ُُ
18
وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: «يَوْمُ نَحْسٍ يَوْمُ الْأَرْبِعَاءِ».
وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: «سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنِ الْأَيَّامِ، وَسُئِلَ عَنْ يَوْمِ الْأَرْبِعَاءِ قَالَ: يَوْمُ نَحْسٍ. قَالُوا كَيْفَ ذَاكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: أَغْرَقَ فِيهِ اللَّهُ فِرْعَوْنَ وَقَوْمَهُ، وَأَهْلَكَ عَادًا وَثَمُودَ».
وَأَخْرَجَ وَكِيعٌ فِي الْغَرَرِ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَالْخَطِيبُ بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «آخِرُ أَرْبِعَاءَ فِي الشَّهْرِ يَوْمُ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ».
فَهَذِهِ الرِّوَايَاتُ وَأَمْثَالُهَا لَا تَدُلُّ عَلَى شُؤْمِ يَوْمِ الْأَرْبِعَاءِ عَلَى مَنْ لَمْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَلَمْ يَعْصِهِ; لِأَنَّ أَغْلَبَهَا ضَعِيفٌ، وَمَا صَحَّ مَعْنَاهُ مِنْهَا فَالْمُرَادُ بِنَحْسِهِ شُؤْمُهُ عَلَى أُولَئِكَ الْكَفَرَةِ الْعُصَاةِ الَّذِينَ أَهْلَكَهُمُ اللَّهُ فِيهِ بِسَبَبِ كُفْرِهِمْ وَمَعَاصِيهِمْ.
فَالْحَاصِلُ أَنَّ النَّحْسَ وَالشُّؤْمَ إِنَّمَا مَنْشَؤُهُ وَسَبَبُهُ الْكُفْرُ وَالْمَعَاصِي.
أَمَّا مَنْ كَانَ مُتَّقِيًا لِلَّهِ مُطِيعًا لَهُ فِي يَوْمِ الْأَرْبِعَاءِ الْمَذْكُورِ - فَلَا نَحْسَ وَلَا شُؤْمَ فِيهِ عَلَيْهِ. فَمَنْ أَرَادَ أَنْ يَعْرِفَ النَّحْسَ وَالشُّؤْمَ وَالنَّكَدَ وَالْبَلَاءَ وَالشَّقَاءَ عَلَى الْحَقِيقَةِ، فَلْيَتَحَقَّقْ أَنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ وَعَدَمِ امْتِثَالِ أَمْرِهِ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ - تَعَالَى -.
قَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى.
قَوْلُهُ - تَعَالَى - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: فَهَدَيْنَاهُمْ الْمُرَادُ بِالْهُدَى فِيهِ هُدَى الدَّلَالَةِ وَالْبَيَانِ وَالْإِرْشَادِ، لَا هُدَى التَّوْفِيقِ وَالِاصْطِفَاءِ.
وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ - تَعَالَى - بَعْدَهُ: فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى ; لِأَنَّهَا لَوْ كَانَتْ هِدَايَةَ تَوْفِيقٍ لَمَا انْتَقَلَ صَاحِبُهَا عَنِ الْهُدَى إِلَى الْعَمَى.
وَقَوْلُهُ - تَعَالَى - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى أَيِ اخْتَارُوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمَانِ وَآثَرُوهُ عَلَيْهِ، وَتَعَوَّضُوهُ مِنْهُ.
وَهَذَا الْمَعْنَى الَّذِي ذَكَرْنَا يُوَضِّحُهُ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمَانِ [٩ ٢٣] فَقَوْلُهُ فِي آيَةِ «التَّوْبَةِ» هَذِهِ:
19
إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمَانِ مُوَافِقٌ فِي الْمَعْنَى لِقَوْلِهِ هُنَا: فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى.
وَنَظِيرُ ذَلِكَ فِي الْمَعْنَى قَوْلُهُ - تَعَالَى -: الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ [١٤ ٣].
فَلَفْظَةُ اسْتَحَبَّ فِي الْقُرْآنِ كَثِيرًا مَا تَتَعَدَّى بِعَلَى; لِأَنَّهَا فِي مَعْنَى اخْتَارَ وَآثَرَ.
وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي سُورَةِ «هُودٍ» فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى -: مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمَى - أَنَّ الْعَمَى الْكُفْرُ، وَأَنَّ الْمُرَادَ بِالْأَعْمَى فِي آيَاتٍ عَدِيدَةٍ الْكَافِرُ.
وَمَا تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ مِنْ أَنَّ الْهُدَى يَأْتِي فِي الْقُرْآنِ بِمَعْنَاهُ الْعَامِّ، الَّذِي هُوَ الْبَيَانُ وَالدَّلَالَةُ وَالْإِرْشَادُ - لَا يُنَافِي أَنَّ الْهُدَى قَدْ يُطْلَقُ فِي الْقُرْآنِ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ عَلَى الْهُدَى الْخَاصِّ الَّذِي هُوَ التَّوْفِيقُ وَالِاصْطِفَاءُ، كَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ [٦ ٩٠].
فَمِنْ إِطْلَاقِ الْقُرْآنِ الْهُدَى عَلَى مَعْنَاهُ الْعَامِّ قَوْلُهُ هُنَا: وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ أَيْ بَيَّنَّا لَهُمْ طَرِيقَ الْحَقِّ وَأَمَرْنَاهُمْ بِسُلُوكِهَا، وَطُرُقِ الشَّرِّ وَنَهَيْنَاهُمْ عَنْ سُلُوكِهَا عَلَى لِسَانِ نَبِيِّنَا صَالِحٍ - عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى أَيِ اخْتَارُوا الْكَفْرَ عَلَى الْإِيمَانِ بَعْدَ إِيضَاحِ الْحَقِّ لَهُمْ.
وَمِنْ إِطْلَاقِهِ عَلَى مَعْنَاهُ الْعَامِّ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ [٧٦ ٣] بِدَلِيلِ قَوْلِهِ بَعْدَهُ: إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا ; لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ هُدَى تَوْفِيقٍ لَمَا قَالَ: وَإِمَّا كَفُورًا.
وَمِنْ إِطْلَاقِهِ عَلَى مَعْنَاهُ الْخَاصِّ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ [٦ ٩٠]. وَقَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى [٤٧ ١٧]. وَقَوْلُهُ: مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي [١٨ ١٧].
وَبِمَعْرِفَةِ هَذَيْنِ الْإِطْلَاقَيْنِ تَتَيَسَّرُ إِزَالَةُ إِشْكَالٍ قُرْآنِيٍّ وَهُوَ أَنَّهُ - تَعَالَى -: أَثْبَتَ الْهُدَى لِنَبِيِّنَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي آيَةٍ، وَهِيَ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [٤٢ ٥٢] وَنَفَاهُ عَنْهُ فِي آيَةٍ أُخْرَى، وَهِيَ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ [٢٨ ٥٦].
20
فَيُعْلَمُ مِمَّا ذَكَرْنَا أَنَّ الْهُدَى الْمُثْبَتَ لَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هُوَ الْهُدَى الْعَامُّ، الَّذِي هُوَ الْبَيَانُ وَالدَّلَالَةُ وَالْإِرْشَادُ، وَقَدْ فَعَلَ ذَلِكَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَبَيَّنَ الْمَحَجَّةَ الْبَيْضَاءَ، حَتَّى تَرَكَهَا لَيْلُهَا كَنَهَارِهَا، لَا يَزِيغُ عَنْهَا هَالِكٌ.
وَالْهُدَى الْمَنْفِيُّ عَنْهُ فِي آيَةِ: إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ [٢٨ ٥٦]- هُوَ الْهُدَى الْخَاصُّ، الَّذِي هُوَ التَّفَضُّلُ بِالتَّوْفِيقِ ; لِأَنَّ ذَلِكَ بِيَدِ اللَّهِ وَحْدَهُ، وَلَيْسَ بِيَدِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَمَا قَالَ - تَعَالَى -: وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ الْآيَةَ [٥ ٤١]. وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: إِنْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ [١٦ ٣٧]. وَالْآيَاتُ بِمِثْلِ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ مَعْلُومَةٌ.
وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ الْآيَةَ [٢ ١٨٥]- لَا مُنَافَاةَ فِيهِ بَيْنَ عُمُومِ النَّاسِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَخُصُوصِ الْمُتَّقِينَ فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى -: ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ لِأَنَّ الْهُدَى الْعَامَّ لِلنَّاسِ هُوَ الْهُدَى الْعَامُّ، وَالْهُدَى الْخَاصُّ بِالْمُتَّقِينَ هُوَ الْهُدَى الْخَاصُّ، كَمَا لَا يَخْفَى.
وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ - تَعَالَى -.
قَوْلُهُ - تَعَالَى -: فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ.
الْفَاءُ فِي قَوْلِهِ: (فَأَخَذَتْهُمْ) سَبَبِيَّةٌ، أَيْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى، وَبِسَبَبِ ذَلِكَ أَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ - جَلَّ وَعَلَا - عَبَّرَ عَنِ الْهَلَاكِ الَّذِي أَهْلَكَ بِهِ ثَمُودَ بِعِبَارَاتٍ مُخْتَلِفَةٍ، فَذَكَرَهُ هَنَا بَاسِمِ الصَّاعِقَةِ فِي قَوْلِهِ: فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ، وَقَوْلِهِ: فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ [٤١ ٣١].
وَعَبَّرَ عَنْهُ أَيْضًا بِالصَّاعِقَةِ فِي سُورَةِ «الذَّارِيَاتِ» فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَفِي ثَمُودَ إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ وَهُمْ يَنْظُرُونَ [٥١ ٤٣ - ٤٤].
وَعَبَّرَ عَنْهُ بِالصَّيْحَةِ فِي آيَاتٍ مِنْ كِتَابِهِ، كَقَوْلِهِ - تَعَالَى - فِي سُورَةِ «هُودٍ» فِي إِهْلَاكِهِ ثَمُودَ: وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلَا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلَا بُعْدًا لِثَمُودَ
21
[١١ ٦٧ - ٦٨] وَقَوْلِهِ - تَعَالَى - فِي «الْحِجْرِ» : وَكَانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا آمِنِينَ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ [١٥ ٨٢ - ٨٣] وَقَوْلِهِ - تَعَالَى - فِي الْقَمَرِ: إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَكَانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ [٥٤ ٣١] وَقَوْلِهِ - تَعَالَى - فِي «الْعَنْكَبُوتِ» وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ يَعْنِي بِهِ ثَمُودَ الْمَذْكُورِينَ فِي قَوْلِهِ قَبْلَهُ: وَعَادًا وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَسَاكِنِهِمْ الْآيَةَ [٢٩ ٣٨].
وَعَبَّرَ عَنْهُ بِالرَّجْفَةِ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى -: فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقَالُوا يَاصَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ الْآيَةَ [٧ ٧٧ - ٥١].
وَعَبَّرَ عَنْهُ بِالتَّدْمِيرِ فِي سُورَةِ «النَّمْلِ» فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى -: فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ [٢٧ ٥١].
وَعَبَّرَ عَنْهُ بِالطَّاغِيَةِ فِي «الْحَاقَّةِ» فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى -: فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ [٦٩ ٥].
وَعَبَّرَ عَنْهُ بِالدَّمْدَمَةِ فِي «الشَّمْسِ» فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى -: فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاهَا [٩١ ١٤].
وَعَبَّرَ عَنْهُ بِالْعَذَابِ فِي سُورَةِ «الشُّعَرَاءِ» فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى -: فَعَقَرُوهَا فَأَصْبَحُوا نَادِمِينَ فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً [٢٦ ١٥٧ - ١٥٨].
وَمَعْنَى هَذِهِ الْعِبَارَاتِ كُلِّهَا رَاجِعٌ إِلَى شَيْءٍ وَاحِدٍ، وَهُوَ أَنَّ اللَّهَ أَرْسَلَ عَلَيْهِمْ صَيْحَةً أَهْلَكَتْهُمْ، وَالصَّيْحَةُ الصَّوْتُ الْمُزْعِجُ الْمُهْلِكُ.
وَالصَّاعِقَةُ تُطْلَقُ أَيْضًا عَلَى الصَّوْتِ الْمُزْعِجِ الْمُهْلِكِ، وَعَلَى النَّارِ الْمُحْرِقَةِ، وَعَلَيْهِمَا مَعًا، وَلِشِدَّةِ عِظَمِ الصَّيْحَةِ وَهَوْلِهَا مِنْ فَوْقِهِمْ رَجَفَتْ بِهِمُ الْأَرْضُ مِنْ تَحْتِهِمْ، أَيْ تَحَرَّكَتْ حَرَكَةً قَوِيَّةً، فَاجْتَمَعَ فِيهَا أَنَّهَا صَيْحَةٌ وَصَاعِقَةٌ وَرَجْفَةٌ، وَكَوْنُ ذَلِكَ تَدْمِيرًا وَاضِحٌ. وَقِيلَ لَهَا طَاغِيَةٌ ; لِأَنَّهَا وَاقِعَةٌ مُجَاوَزَةٌ لِلْحَدِّ فِي الْقُوَّةِ وَشِدَّةِ الْإِهْلَاكِ.
وَالطُّغْيَانُ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ مُجَاوَزَةُ الْحَدِّ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ الْآيَةَ [٦٩ ١١] أَيْ جَاوَزَ الْحُدُودَ الَّتِي يَبْلُغُهَا الْمَاءُ عَادَةً.
22
وَاعْلَمْ أَنَّ التَّحْقِيقَ أَنَّ الْمُرَادَ بِالطَّاغِيَةِ فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى -: فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ [٦٩ ٥] أَنَّهَا الصَّيْحَةُ الَّتِي أَهْلَكَهُمُ اللَّهُ بِهَا، كَمَا يُوَضِّحُهُ قَوْلُهُ بَعْدَهُ: وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ [٦٩ ٦].
خِلَافًا لِمَنْ زَعَمَ أَنَّ الطَّاغِيَةَ مَصْدَرٌ كَالْعَاقِبَةِ وَالْعَافِيَةِ، وَأَنَّ الْمَعْنَى أَنَّهُمْ أُهْلِكُوا بِطُغْيَانِهِمْ، أَيْ بِكُفْرِهِمْ وَتَكْذِيبِهِمْ نَبِيَّهُمْ، كَقَوْلِهِ: كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا [٩١ ١١].
وَخِلَافًا لِمَنْ زَعَمَ أَنَّ الطَّاغِيَةَ هِيَ أَشْقَاهُمُ الَّذِي انْبَعَثَ فَعَقَرَ النَّاقَةَ، وَأَنَّهُمْ أُهْلِكُوا بِسَبَبِ فِعْلِهِ، وَهُوَ عَقْرُهُ النَّاقَةَ، وَكُلُّ هَذَا خِلَافُ التَّحْقِيقِ.
وَالصَّوَابُ - إِنْ شَاءَ اللَّهُ - هُوَ مَا ذَكَرْنَا، وَالسِّيَاقُ يَدُلُّ عَلَيْهِ، وَاخْتَارَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ - تَعَالَى -: فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ [٩١ ١٤] فَإِنَّهُ لَا يُخَالِفُ مَا ذَكَرْنَا ; لِأَنَّ مَعْنَى دَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ، أَيْ أَطْلَقَ عَلَيْهِمُ الْعَذَابَ وَأَلْبَسَهُمْ إِيَّاهُ، بِسَبَبِ ذَنْبِهِمْ.
قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي مَعْنَى دَمْدَمَ: وَهُوَ مِنْ تَكْرِيرِ قَوْلِهِمْ: نَاقَةٌ مَدْمُومَةٌ، إِذَا أُلْبِسَهَا الشَّحْمُ.
وَأَمَّا إِطْلَاقُ الْعَذَابِ عَلَيْهِ فِي سُورَةِ «الشُّعَرَاءِ» فَوَاضِحٌ، فَاتَّضَحَ رُجُوعُ مَعْنَى الْآيَاتِ الْمَذْكُورَةِ إِلَى شَيْءٍ وَاحِدٍ.
وَقَوْلُهُ - تَعَالَى - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ - مِنَ النَّعْتِ بِالْمَصْدَرِ ; لِأَنَّ الْهُونِ مَصْدَرٌ بِمَعْنَى الْهَوَانِ، وَالنَّعْتُ بِالْمَصْدَرِ أُسْلُوبٌ عَرَبِيٌّ مَعْرُوفٌ، أَشَارَ إِلَيْهِ فِي الْخُلَاصَةِ بِقَوْلِهِ:
وَنَعَتُوا بِمَصْدَرٍ كَثِيرًا فَالْتَزَمُوا الْإِفْرَادَ وَالتَّذْكِيرَا
وَهُوَ مُوَجَّهٌ بِأَحَدِ أَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، أَيِ الْعَذَابِ ذِي الْهُونِ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ عَلَى سَبِيلِ الْمُبَالَغَةِ، فَكَأَنَّ الْعَذَابَ لِشِدَّةِ اتِّصَافِهِ بِالْهَوَانِ اللَّاحِقِ بِمَنْ وَقَعَ عَلَيْهِ - صَارَ كَأَنَّهُ نَفْسُ الْهَوَانِ، كَمَا هُوَ مَعْرُوفٌ فِي مَحَلِّهِ. ُُ
23
وَقَوْلُهُ - تَعَالَى -: بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ كَالتَّوْكِيدِ فِي الْمَعْنَى ; لِقَوْلِهِ: فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى ; لِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا سَبَبٌ لِأَخْذِ الصَّاعِقَةِ إِيَّاهُمْ، فَالْفَاءُ فِي قَوْلِهِ: (فَأَخَذَتْهُمْ) سَبَبِيَّةٌ، وَالْبَاءُ فِي قَوْلِهِ: (بِمَا كَانُوا) سَبَبِيَّةٌ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ - تَعَالَى -.
قَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ.
ذَكَرَ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّهُ أَهْلَكَ ثَمُودَ بِالصَّاعِقَةِ، وَنَجَّى مِنْ ذَلِكَ الْإِهْلَاكِ الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ اللَّهَ، وَالْمُرَادُ بِهِمْ صَالِحٌ وَمَنْ آمَنَ مَعَهُ مِنْ قَوْمِهِ.
وَهَذَا الْمَعْنَى الَّذِي دَلَّتْ عَلَيْهِ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ جَاءَ مُبَيَّنًا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ، كَقَوْلِهِ - تَعَالَى - فِي سُورَةِ «هُودٍ» فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا صَالِحًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ الْآيَةَ [١١ ٦٦]، وَقَوْلِهِ - تَعَالَى - فِي «النَّمْلِ» : وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ يَخْتَصِمُونَ [٢٧ ٤٥] إِلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى - فِي «ثَمُودَ» فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ وَأَنْجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ [٢٧ ٥٢ - ٥٣] أَيْ وَهُمْ صَالِحٌ وَمَنْ آمَنَ مَعَهُ.
قَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ.
قَرَأَ هَذَا الْحَرْفَ عَامَّةُ الْقُرَّاءِ غَيْرَ نَافِعٍ (يُحْشَرُ) بِضَمِّ الْيَاءِ وَفَتْحِ الشِّينِ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ، (أَعْدَاءُ اللَّهِ) بِالرَّفْعِ عَلَى أَنَّهُ نَائِبُ الْفَاعِلِ.
وَقَرَأَهُ نَافِعٌ وَحَمْزَةُ، مِنَ السَّبْعَةِ (نَحْشُرُ أَعْدَاءَ اللَّهِ) بِالنُّونِ الْمَفْتُوحَةِ الدَّالَّةِ عَلَى الْعَظَمَةِ، وَضَمِّ الشِّينِ مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ، (أَعْدَاءَ اللَّهِ) بِالنَّصْبِ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ بِهِ، أَيْ وَاذْكُرْ وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ أَيْ يُجْمَعُونَ إِلَى النَّارِ.
وَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ هَذِهِ الْآيَةُ مِنْ أَنَّ لِلَّهِ أَعْدَاءً، وَأَنَّهُمْ يُحْشَرُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلَى النَّارِ - جَاءَ مَذْكُورًا فِي آيَاتٍ أُخَرَ; فَبَيَّنَ فِي بَعْضِهَا أَنَّ لَهُ أَعْدَاءً، وَأَنَّ أَعْدَاءَهُ هُمْ أَعْدَاءُ الْمُؤْمِنِينَ، وَأَنَّ جَزَاءَهُمُ النَّارُ، كَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ [٢ ٩٨]. وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ [٨ ٦٠]. وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ الْآيَةَ
[٦٠ ١]. وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ [٢٠ ٣٩]. وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: ذَلِكَ جَزَاءُ أَعْدَاءِ اللَّهِ النَّارُ لَهُمْ فِيهَا دَارُ الْخُلْدِ الْآيَةَ [٤١ ٢٨]. إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.
وَقَوْلُهُ - تَعَالَى - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ فَهُمْ يُوزَعُونَ أَيْ يُرَدُّ أَوَّلُهُمْ إِلَى آخِرِهِمْ، وَيَلْحَقُ آخِرُهُمْ بِأَوَّلِهِمْ، حَتَّى يَجْتَمِعُوا جَمْيعًا، ثُمَّ يُدْفَعُونَ فِي النَّارِ، وَهُوَ مِنْ قَوْلِ الْعَرَبِ: وَزَّعْتُ الْجَيْشَ، إِذَا حَبَسْتَ أَوَّلَهُ عَلَى آخِرِهِ حَتَّى يَجْتَمِعَ.
وَأَصْلُ الْوَزَعِ الْكَفُّ، تَقُولُ الْعَرَبُ وَزَعَهُ يَزَعُهُ وَزَعًا فَهُوَ وَازِعٌ لَهُ، إِذَا كَفَّهُ عَنِ الْأَمْرِ، وَمِنْهُ قَوْلُ نَابِغَةِ ذُبْيَانَ:
عَلَى حِينَ عَاتَبْتُ الْمَشِيبَ عَلَى الصِّبَا فَقُلْتُ أَلَمَّا أَصْحَ وَالشَّيْبُ وَازِعُ
وَقَوْلُ الْآخَرِ:
وَلَنْ يَزَعَ النَّفْسَ اللَّجُوجَ عَنِ الْهَوَى مِنَ النَّاسِ إِلَّا وَافِرُ الْعَقْلِ كَامِلُهُ
وَبِمَا ذَكَرْنَا تَعْلَمُ أَنَّ أَصْلَ مَعْنَى (يُوزَعُونَ) أَيْ يَكُفُّ أَوَّلَهُمْ عَنِ التَّقَدُّمِ وَآخِرَهُمْ عَنِ التَّأَخُّرِ، حَتَّى يَجْتَمِعُوا جَمِيعًا.
وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ يُسَاقُونَ سَوْقًا عَنِيفًا، يُجْمَعُ بِهِ أَوَّلُهُمْ مَعَ آخِرِهِمْ.
وَقَدْ بَيَّنَ - تَعَالَى - أَنَّهُمْ يُسَاقُونَ إِلَى النَّارِ فِي حَالِ كَوْنِهِمْ عِطَاشًا فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا [١٩ ٨٦]. وَلَعَلَّ الْوَزَعَ الْمَذْكُورَ فِي الْآيَةِ يَكُونُ فِي الزُّمْرَةِ الْوَاحِدَةِ مِنْ زُمَرِ أَهْلِ النَّارِ ; لِأَنَّهُمْ يُسَاقُونَ إِلَى النَّارِ زُمَرًا زُمَرًا، كَمَا قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ فِي سُورَةِ «الزُّمَرِ» فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا الْآيَةَ [٣٩ ٧١].
قَوْلُهُ - تَعَالَى -: حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ.
قَدْ قَدَّمَنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ فِي سُورَةِ «يس» فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى -: الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ الْآيَةَ [٣٦ ٦٥]. وَفِي سُورَةِ النِّسَاءِ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا [٤ ٤٢]. ُُ
وَبَيَّنَّا هُنَاكَ وَجْهَ الْجَمْعِ بَيْنَ قَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا مَعَ قَوْلِهِ ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ [٦ ٢٣].
قَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ.
قَدْ قَدَّمَنَا الْكَلَامَ عَلَيْهِ فِي سُورَةِ «ص» فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى -: ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ [٣٨ ٢٧].
قَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَمَا هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ.
قَدْ بَيَّنَّا مَعْنَاهُ مَعَ شَوَاهِدِهِ الْعَرَبِيَّةِ فِي سُورَةِ «النَّحْلِ» فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى -: ثُمَّ لَا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ [١٦ ٨٤].
قَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ.
لِعُلَمَاءِ التَّفْسِيرِ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ: قَيَّضْنَا عِبَارَاتٌ يَرْجِعُ بَعْضُهَا فِي الْمَعْنَى إِلَى بَعْضٍ.
كَقَوْلِ بَعْضِهِمْ: وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ أَيْ جِئْنَاهُمْ بِهِمْ، وَأَتَحْنَاهُمْ لَهُمْ.
وَكَقَوْلِ بَعْضِهِمْ: قَيَّضْنَا أَيْ هَيَّأْنَا.
وَقَوْلِ بَعْضِهِمْ: قَيَّضْنَا أَيْ سَلَّطْنَا.
وَقَوْلِ بَعْضِهِمْ: أَيْ بَعَثْنَا وَوَكَلْنَا.
وَقَوْلِ بَعْضِهِمْ: قَيَّضْنَا أَيْ سَبَّبْنَا.
وَقَوْلِ بَعْضِهِمْ: قَدَرْنَا. وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنَ الْعِبَارَاتِ; فَإِنَّ جَمِيعَ تِلْكَ الْعِبَارَاتِ رَاجِعٌ إِلَى شَيْءٍ وَاحِدٍ، وَهُوَ أَنَّ اللَّهَ - تَبَارَكَ وَتَعَالَى - هَيَّأَ لِلْكَافِرِينَ قُرَنَاءَ مِنَ الشَّيَاطِينِ يُضِلُّونَهُمْ عَنِ الْهُدَى، وَيُزَيِّنُونَ لَهُمُ الْكُفْرَ وَالْمَعَاصِيَ، وَقَدَّرَهُمْ عَلَيْهِمْ.
وَالْقُرَنَاءُ: جَمْعُ قَرِينٍ، وَهُمْ قُرَنَاؤُهُمْ مِنَ الشَّيَاطِينِ عَلَى التَّحْقِيقِ.
وَقَوْلُهُ فَزَيَّنُوا لَهُمْ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ - أَيْ مِنْ أَمْرِ الدُّنْيَا حَتَّى آثَرُوهُ عَلَى الْآخِرَةِ -
26
وَمَا خَلْفَهُمْ أَيْ مِنْ أَمْرِ الْآخِرَةِ، فَدَعَوْهُمْ إِلَى التَّكْذِيبِ بِهِ، وَإِنْكَارِ الْبَعْثِ.
وَمَا تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ أَنَّهُ - تَعَالَى - قَيَّضَ لِلْكُفَّارِ قُرَنَاءَ مِنَ الشَّيَاطِينِ، يُضِلُّونَهُمْ عَنِ الْهُدَى - بَيَّنَهُ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ مِنْ كِتَابِهِ.
وَزَادَ فِي بَعْضِهَا سَبَبَ تَقْيِيضِهِمْ لَهُمْ، وَأَنَّهُمْ مَعَ إِضْلَالِهِمْ لَهُمْ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ، وَأَنَّ الْكَافِرَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَتَمَنَّى أَنْ يَكُونَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ قَرِينِهِ مِنَ الشَّيَاطِينِ بُعْدٌ عَظِيمٌ، وَأَنَّهُ يَذُمُّهُ ذَلِكَ الْيَوْمَ، كَمَا قَالَ - تَعَالَى -: وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ حَتَّى إِذَا جَاءَنَا قَالَ يَالَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ [٤٣ ٣٦ - ٣٨].
فَتَرْتِيبُهُ قَوْلَهُ: (نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا) عَلَى قَوْلِهِ: (وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ) - تَرْتِيبُ الْجَزَاءِ عَلَى الشَّرْطِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ سَبَبَ تَقْيِيضِهِ لَهُ هُوَ غَفْلَتُهُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ.
وَنَظِيرُ ذَلِكَ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ [١١٤ ٤] لِأَنَّ الْوَسْوَاسَ هُوَ كَثِيرُ الْوَسْوَسَةِ لِيُضِلَّ بِهَا النَّاسَ، وَالْخَنَّاسَ هُوَ كَثِيرُ التَّأَخُّرِ وَالرُّجُوعِ عَنْ إِضْلَالِ النَّاسِ، مِنْ قَوْلِهِمْ: خَنَسَ - بِالْفَتْحِ - يَخْنُسُ - بِالضَّمِّ - إِذَا تَأَخَّرَ.
فَهُوَ وَسْوَاسٌ عِنْدَ الْغَفْلَةِ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ، خَنَّاسٌ عِنْدَ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ، كَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ آيَةُ «الزُّخْرُفِ» الْمَذْكُورَةُ، وَدَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ [١٦ ٩٩ - ١٠٠] لِأَنَّ الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ - غَافِلُونَ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ، وَبِسَبَبِ ذَلِكَ قَيَّضَهُ اللَّهُ لَهُمْ فَأَضَلَّهُمْ.
وَمِنَ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى تَقْيِيضِ الشَّيَاطِينِ لِلْكُفَّارِ لِيُضِلُّوهُمْ، قَوْلُهُ - تَعَالَى -: أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا [١٩ ٨٣] وَقَدْ أَوْضَحْنَا الْآيَاتِ الدَّالَّةَ عَلَى ذَلِكَ فِي سُورَةِ «مَرْيَمَ» فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى -: أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ الْآيَةَ. وَبَيَّنَّا هُنَاكَ أَقْوَالَ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي مَعْنَى تَؤُزُّهُمْ أَزًّا.
وَبَيَّنَّا أَيْضًا هُنَاكَ أَنَّ مِنَ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى ذَلِكَ. قَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يَامَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ [٦ ١٢٨] أَيِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنْ إِضْلَالِ الْإِنْسِ فِي دَارِ الدُّنْيَا، وَقَوْلُهُ: وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لَا يُقْصِرُونَ [٧ ٢٠٢].
27
وَمِنْهَا أَيضًا قَوْلُهُ - تَعَالَى -: أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَابَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِلَى قَوْلِهِ: وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا كَثِيرًا [٣٦ ٦٠ - ٦٢] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.
وَقَدْ دَلَّ قَوْلُهُ فِي آيَةِ «الزُّخْرُفِ» : فَبِئْسَ الْقَرِينُ [٤٣ ٣٨] عَلَى أَنَّ قُرَنَاءَ الشَّيَاطِينِ الْمَذْكُورِينَ فِي آيَةِ «فُصِّلَتْ» وَآيَةِ «الزُّخْرُفِ» وَغَيْرِهِمَا - جَدِيرِينَ بِالذَّمِّ الشَّدِيدِ، وَقَدْ صَرَّحَ - تَعَالَى - بِذَلِكَ فِي سُورَةِ «النِّسَاءِ» فِي قَوْلِهِ: وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا فَسَاءَ قَرِينًا [٤ ٣٨] لِأَنَّ قَوْلَهُ: فَسَاءَ قَرِينًا بِمَعْنَى فَبِئْسَ الْقَرِينُ ; لِأَنَّ كُلًّا مِنْ «سَاءَ» وَ «بِئْسَ» فِعْلٌ جَامِدٌ لِإِنْشَاءِ الذَّمِّ، كَمَا ذَكَرَهُ فِي الْخُلَاصَةِ بِقَوْلِهِ:
وَاجْعَلْ كَبِئْسَ سَاءَ وَاجْعَلْ فِعْلًا مِنْ ذِي ثَلَاثَةٍ كَنِعْمَ مُسْجَلَا
وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ - تَعَالَى - بَيَّنَ أَنَّ الْكُفَّارَ الَّذِي أَضَلَّهُمْ قُرَنَاؤُهُمْ مِنَ الشَّيَاطِينِ - يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ عَلَى هُدًى، فَهُمْ يَحْسَبُونَ أَشَدَّ الضَّلَالِ أَحْسَنَ الْهُدَى، كَمَا قَالَ - تَعَالَى - عَنْهُمْ: وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ [٤٣ ٣٧] وَقَالَ - تَعَالَى -: إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ [٧].
وَبَيَّنَ - تَعَالَى - أَنَّهُمْ بِسَبَبِ ذَلِكَ الظَّنِّ الْفَاسِدِ هُمْ أَخْسَرُ النَّاسِ أَعْمَالًا، فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى -: قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا [١٨ ١٠٣ - ١٠٤].
وَقَوْلُهُ - تَعَالَى - فِي آيَةِ «الزُّخْرُفِ» : وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ [٤٣ ٣٦] مِنْ قَوْلِهِمْ: عَشَا - بِالْفَتْحِ - عَنِ الشَّيْءِ يَعْشُو - بِالضَّمِّ - إِذَا ضَعُفَ بَصَرُهُ عَنْ إِدْرَاكِهِ ; لِأَنَّ الْكَافِرَ أَعْمَى الْقَلْبِ، فَبَصِيرَتُهُ تَضْعُفُ عَنِ الِاسْتِنَارَةِ بِذِكْرِ الرَّحْمَنِ، وَبِسَبَبِ ذَلِكَ يُقَيِّضُ اللَّهُ لَهُ قُرَنَاءَ الشَّيَاطِينِ.
قَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ.
قَدْ قَدَّمَنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ فِي سُورَةِ «يس» فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى -: لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ الْآيَةَ [٣٦ ٧].
قَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ. ُُ
وَقَدْ قَدَّمَنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ فِي سُورَةِ «الْبَقَرَةِ» فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى - خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا [٢ ٩٣].
قَوْلُهُ - تَعَالَى -: إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ.
مَا تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ مِمَّا أَعَدَّهُ اللَّهُ فِي الْآخِرَةِ لِلَّذِينِ قَالُوا: (رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا) - ذَكَرَهُ اللَّهُ - تَعَالَى - فِي الْجُمْلَةِ فِي قَوْلِهِ فِي «الْأَحْقَافِ» : إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [٤٦ ١٣ - ١٤] لِأَنَّ انْتِفَاءَ الْخَوْفِ وَالْحُزْنِ وَالْوَعْدِ الصَّادِقِ بِالْخُلُودِ فِي الْجَنَّةِ الْمَذْكُورِ فِي آيَةِ «الْأَحْقَافِ» هَذِهِ - يَسْتَلْزِمُ جَمِيعَ مَا ذَكَرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ مِنْ سُورَةِ «فُصِّلَتْ».
قَوْلُهُ - تَعَالَى -: ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ.
قَدْ أَوْضَحْنَاهُ مَعَ الْآيَاتِ الَّتِي بِمَعْنَاهُ فِي آخِرِ سُورَةِ «الْأَعْرَافِ» فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى -: خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ إِلَى قَوْلِهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [٧ ١٩٩ - ٢٠٠].
قَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ.
وَقَدْ قَدَّمَنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ فِي سُورَةِ «بَنِي إِسْرَائِيلَ» فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ الْآيَةَ [١٧ ١٢] وَفِي غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْمَوَاضِعِ.
قَوْلُهُ - تَعَالَى -: لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ الْآيَةَ [٤١ ٣٧].
قَدْ قَدَّمَنَا الْكَلَامَ عَلَيْهِ فِي سُورَةِ «النَّمْلِ» فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى -: أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْآيَةَ [٢٧ ٢٥].
قَوْلُهُ - تَعَالَى -: فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ.
قَوْلُهُ - تَعَالَى -: فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا، أَيْ فَإِنْ تَكَبَّرَ الْكُفَّارُ عَنْ تَوْحِيدِ اللَّهِ وَالسُّجُودِ لَهُ وَحْدَهُ، وَإِخْلَاصِ الْعِبَادَةِ لَهُ (فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ) وَهُمُ الْمَلَائِكَةُ (يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ) أَيْ يَعْبُدُونَهُ وَيُنَزِّهُونَهُ دَائِمًا لَيْلًا وَنَهَارًا (وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ) أَيْ لَا يَمَلُّونَ مِنْ عِبَادَةِ رَبِّهِمْ ; لِاسْتِلْذَاذِهِمْ لَهَا وَحَلَاوَتِهَا عِنْدَهُمْ، مَعَ خَوْفِهِمْ مِنْهُ - جَلَّ وَعَلَا - كَمَا قَالَ - تَعَالَى -: وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلَائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ [١٣ ١٣].
وَقَدْ دَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ مِنْ سُورَةِ «فُصِّلَتْ» عَلَى أَمْرَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ اللَّهَ - جَلَّ وَعَلَا - إِنْ كَفَرَ بِهِ بَعْضُ خَلْقِهِ، فَإِنَّ بَعْضًا آخَرَ مِنْ خَلْقِهِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَيُطِيعُونَهُ كَمَا يَنْبَغِي، وَيُلَازِمُونَ طَاعَتَهُ دَائِمًا بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ.
وَالثَّانِي مِنْهُمَا: أَنَّ الْمَلَائِكَةَ يُسَبِّحُونَ اللَّهَ وَيُطِيعُونَهُ دَائِمًا لَا يَفْتُرُونَ عَنْ ذَلِكَ.
وَهَذَانِ الْأَمْرَانِ اللَّذَانِ دَلَّتْ عَلَيْهِمَا هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ - قَدْ جَاءَ كُلٌّ مِنْهُمَا مُوَضَّحًا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ.
أَمَّا الْأَوَّلُ مِنْهُمَا: فَقَدْ ذَكَرَهُ - جَلَّ وَعَلَا - فِي قَوْلِهِ: فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلَاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ [٦ ٨٩].
وَأَمَّا الثَّانِي مِنْهُمَا: فَقَدْ أَوْضَحَهُ - تَعَالَى - فِي آيَاتٍ مِنْ كِتَابِهِ، كَقَوْلِهِ - تَعَالَى - فِي «الْأَنْبِيَاءِ» : وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ [٢١ ١٩ - ٢٠] وَقَوْلِهِ - تَعَالَى - فِي آخِرِ «الْأَعْرَافِ» إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ [٧ ٢٠٦] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.
وَقَوْلُهُ - تَعَالَى - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ أَيْ لَا يَمَلُّونَ، وَالسَّآمَةُ: الْمَلَلُ، وَمِنْهُ قَوْلُ زُهَيْرٍ:
سَئِمْتُ تَكَالِيفَ الْحَيَاةِ وَمَنْ يَعِشْ ثَمَانِينَ حَوْلًا لَا أَبَا لَكَ يَسْأَمُ
قَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ.
هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ قَدْ أَوْضَحْنَا الْكَلَامَ عَلَيْهَا مَعَ مَا فِي مَعْنَاهَا مِنَ الْآيَاتِ، وَبَيَّنَّا أَنَُُّ
تِلْكَ الْآيَاتِ فِيهَا الْبُرْهَانُ الْقَاطِعُ عَلَى الْبَعْثِ بَعْدَ الْمَوْتِ، وَذَكَرْنَا مَعَهَا الْآيَاتِ الَّتِي يَكْثُرُ الِاسْتِدْلَالُ بِهَا فِي الْقُرْآنِ عَلَى الْبَعْثِ بَعْدَ الْمَوْتِ، وَهِيَ أَرْبَعَةُ بَرَاهِينَ قُرْآنِيَّةٍ.
ذَكَرْنَا ذَلِكَ فِي سُورَةِ «الْبَقَرَةِ» وَفِي سُورَةِ «النَّحْلِ» وَغَيْرِهِمَا، وَأَحَلْنَا عَلَيْهِ مِرَارًا.
قَوْلُهُ - تَعَالَى -: أَفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ.
قَدْ قَدَّمَنَا الْكَلَامَ عَلَيْهِ مَعَ مَا يُمَاثِلُهُ مِنَ الْآيَاتِ فِي سُورَةِ «الْفُرْقَانِ» فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى -: قُلْ أَذَلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الْآيَةَ [١٥ ١٥].
قَوْلُهُ - تَعَالَى -: قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ.
قَدْ قَدَّمَنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ فِي أَوَّلِ سُورَةِ «الْبَقَرَةِ» فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى -: هُدًى لِلْمُتَّقِينَ [٢ ٢] وَفِي سُورَةِ «بَنِي إِسْرَائِيلَ» فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ الْآيَةَ [١٧ ٨٢].
قَوْلُهُ - تَعَالَى -: مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا.
قَدْ قَدَّمَنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ فِي سُورَةِ «بَنِي إِسْرَائِيلَ» فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى -: إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا [٤١ ٧] وَفِي سُورَةِ «النَّمْلِ» فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ [٢٧ ٤٠].
قَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ.
مَا ذَكَرَهُ - جَلَّ وَعَلَا - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ مِنْ كَوْنِهِ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ - ذَكَرَهُ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ، كَقَوْلِهِ - تَعَالَى - فِي سُورَةِ «آلِ عِمْرَانَ» : ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا [٣ ١٨٢]. وَقَوْلِهِ فِي «الْأَنْفَالِ» ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ [٨ ٥١ - ٥٢]. وَقَوْلِهِ فِي «الْحَجِّ» : ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ الْآيَةَ [٢٢ ١٠ - ١١]. وَقَوْلِهِ فِي سُورَةِ «ق» : مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ [٥٠ ٢٩].
وَفِي هَذِهِ الْآيَاتِ سُؤَالٌ مَعْرُوفٌ، وَهُوَ أَنَّ لَفْظَةَ (ظَلَّامٍ) فِيهَا صِيغَةُ مُبَالِغَةٍ، وَمَعْلُومٌ
31
أَنَّ نَفْيَ الْمُبَالِغَةِ لَا يَسْتَلْزِمُ نَفْيَ الْفِعْلِ مِنْ أَصْلِهِ.
فَقَوْلُكُ مَثَلًا: زِيدٌ لَيْسَ بِقَتَّالٍ لِلرِّجَالِ - لَا يَنْفِي إِلَّا مُبَالَغَتَهُ فِي قَتْلِهِمْ، فَلَا يُنَافِي أَنَّهُ رُبَّمَا قَتَلَ بَعْضَ الرِّجَالِ.
وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْمُرَادَ بِنَفْيِ الْمُبَالِغَةِ فِي الْآيَاتِ الْمَذْكُورَةِ - هُوَ نَفْيُ الظُّلْمِ مِنْ أَصْلِهِ.
وَالْجَوَابُ عَنْ هَذَا الْإِشْكَالِ مِنْ أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ نَفْيَ صِيغَةِ الْمُبَالَغَةِ فِي الْآيَاتِ الْمَذْكُورَةِ قَدْ بَيَّنَتْ آيَاتٌ كَثِيرَةٌ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ نَفْيُ الظُّلْمِ مِنْ أَصْلِهِ.
وَنَفْيُ صِيغَةِ الْمُبَالَغَةِ إِذَا دَلَّتْ أَدِلَّةٌ مُنْفَصِلَةٌ عَلَى أَنْ يُرَادَ بِهِ نَفْيُ أَصْلِ الْفِعْلِ، فَلَا إِشْكَالَ لِقِيَامِ الدَّلِيلِ عَلَى الْمُرَادِ.
وَالْآيَاتُ الدَّالَّةُ عَلَى ذَلِكَ كَثِيرَةٌ مَعْرُوفَةٌ، كَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا الْآيَةَ [٤ ٤٠]. وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ [١٠ ٤٤]. وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا [١٨ ٤٩]. وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا الْآيَةَ [٢١ ٤٧]. إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ، كَمَا قَدَّمْنَا إِيضَاحَهُ فِي سُورَةِ «الْكَهْفِ» وَ «الْأَنْبِيَاءِ».
الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ اللَّهَ - جَلَّ وَعَلَا - نَفَى ظُلْمَهُ لِلْعَبِيدِ، وَالْعَبِيدُ فِي غَايَةِ الْكَثْرَةِ، وَالظُّلْمُ الْمَنْفِيُّ عَنْهُمْ تَسْتَلْزِمُ كَثْرَتُهُمْ كَثْرَتَهُ، فَنَاسَبَ ذَلِكَ الْإِتْيَانُ بِصِيغَةِ الْمُبَالَغَةِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى كَثْرَةِ الْمَنْفِيِّ التَّابِعَةِ لِكَثْرَةِ الْعَبِيدِ الْمَنْفِيِّ عَنْهُمُ الظُّلْمُ، إِذْ لَوْ وَقَعَ عَلَى كُلِّ عَبْدٍ ظُلْمٌ، وَلَوْ قَلِيلًا، كَانَ مَجْمُوعُ ذَلِكَ الظُّلْمِ فِي غَايَةِ الْكَثْرَةِ، كَمَا تَرَى.
وَبِذَلِكَ تَعْلَمُ اتِّجَاهَ التَّعْبِيرِ بِصِيغَةِ الْمُبَالَغَةِ، وَأَنَّ الْمُرَادَ بِذَلِكَ نَفْيُ أَصْلِ الظُّلْمِ عَنْ كُلِّ عَبْدٍ مِنْ أُولَئِكَ الْعَبِيدِ، الَّذِينَ هُمْ فِي غَايَةِ الْكَثْرَةِ، سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَنْ أَنْ يَظْلِمَ أَحَدًا شَيْئًا، كَمَا بَيَّنَتْهُ الْآيَاتُ الْقُرْآنِيَّةُ الْمَذْكُورَةُ، وَفِي الْحَدِيثِ: «يَا عِبَادِي، إِنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي» الْحَدِيثَ.
الْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّ الْمُسَوِّغَ لِصِيغَةِ الْمُبَالَغَةِ أَنَّ عَذَابَهُ - تَعَالَى - بَالِغٌ مِنَ الْعِظَمِ وَالشِّدَّةِ أَنَّهُ لَوْلَا اسْتِحْقَاقُ الْمُعَذَّبِينَ لِذَلِكَ الْعَذَابِ بِكُفْرِهِمْ وَمَعَاصِيهِمْ - لَكَانَ مُعَذِّبُهُمْ بِهِ ظَلَّامًا بَلِيغَ
32
الظُّلْمِ مُتَفَاقِمَهُ، سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَنْ ذَلِكَ عُلُوًّا كَبِيرًا.
وَهَذَا الْوَجْهُ وَالَّذِي قَبْلَهُ أَشَارَ لَهُمَا الزَّمَخْشَرِيُّ فِي سُورَةِ «الْأَنْفَالِ».
الْوَجْهُ الرَّابِعُ: مَا ذَكَرَهُ بَعْضُ عُلَمَاءِ الْعَرَبِيَّةِ وَبَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ مِنْ أَنَّ الْمُرَادَ بِالنَّفْيِ فِي قَوْلِهِ: وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ نَفْيُ نِسْبَةِ الظُّلْمِ إِلَيْهِ ; لِأَنَّ صِيغَةَ فَعَّالٍ تُسْتَعْمَلُ مُرَادًا بِهَا النِّسْبَةُ، فَتُغْنِي عَنْ يَاءِ النَّسَبِ، كَمَا أَشَارَ لَهُ فِي الْخُلَاصَةِ بِقَوْلِهِ:
وَمَعَ فَاعِلٍ وَفَعَّالٍ فَعِلَ فِي نَسَبٍ أَغْنَى عَنِ الْيَا فَقُبِلْ
وَمَعْنَى الْبَيْتِ الْمَذْكُورِ أَنَّ الصِّيَغَ الثَّلَاثَةَ الْمَذْكُورَةَ فِيهِ الَّتِي هِيَ فَاعِلٌ كَظَالِمٍ وَفَعَّالٌ كَظَلَّامٍ وَفَعِلٌ كَفَرِحٍ - كُلٌّ مِنْهَا قَدْ تُسْتَعْمَلُ مُرَادًا بِهَا النِّسْبَةُ، فَيُسْتَغْنَى بِهَا عَنْ يَاءِ النَّسَبِ، وَمِثَالُهُ فِي فَاعِلٍ قَوْلُ الْحُطَيْئَةِ فِي هَجْوِهِ الزِّبْرِقَانِ بْنِ بَدْرٍ التَّمِيمِيِّ:
دَعِ الْمَكَارِمَ لَا تَرْحَلْ لِبُغْيَتِهَا وَاقْعُدْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الطَّاعِمُ الْكَاسِ
فَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: الطَّاعِمُ الْكَاسِي - النِّسْبَةُ، أَيْ ذُو طَعَامٍ وَكُسْوَةٍ. وَقَوْلُ الْآخَرِ - وَهُوَ مِنْ شَوَاهِدِ سِيبَوَيْهِ -:
وَغَرَرْتَنِي وَزَعَمْتَ أَنَّكَ لَابِنٌ فِي الصَّيْفِ تَامِرْ
أَيْ ذُو لَبَنٍ وَذُو تَمْرٍ. وَقَوْلُ نَابِغَةِ ذُبْيَانَ:
كِلِينِي لَهُمْ يَا أُمَيْمَةُ نَاصِبِ وَلَيْلٍ أُقَاسِيهِ بَطِيءِ الْكَوَاكِبِ
فَقَوْلُهُ: «نَاصِبِ»، أَيْ ذُو نَصَبٍ. وَمِثَالُهُ فِي فَعَّالٍ قَوْلُ امْرِئِ الْقَيْسِ:
وَلَيْسَ بِذِي رُمْحٍ فَيَطْعَنُنِي بِهِ وَلَيْسَ بِذِي سَيْفٍ وَلَيْسَ بِنَبَّالِ
فَقَوْلُهُ: وَلَيْسَ بِنَبَّالٍ، أَيْ لَيْسَ بِذِي نَبْلٍ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ قَبْلَهُ: وَلَيْسَ بِذِي رُمْحٍ، وَلَيْسَ بِذِي سَيْفٍ.
وَقَالَ الْأُشْمُونِيُّ بَعْدَ الِاسْتِشْهَادِ بِالْبَيْتِ الْمَذْكُورِ: قَالَ الْمُصَنَّفُ - يَعْنِي ابْنَ مَالِكٍ -: وَعَلَى هَذَا حَمَلَ الْمُحَقِّقُونَ قَوْلَهُ - تَعَالَى -: وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ أَيْ بِذِي ظُلْمٍ. اهـ. ُُ
33
وَمَا عَزَاهُ لِابْنِ مَالِكٍ جَزَمَ بِهِ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ النَّحْوِيِّينَ وَالْمُفَسِّرِينَ، وَمِثَالُهُ فِي فَعِلٍ قَوْلُ الرَّاجِزِ - وَهُوَ مِنْ شَوَاهِدِ سِيبَوَيْهِ -:
لَيْسَ بِلَيْلِي وَلَكِنِّي نَهِرٌ لَا أَدْلُجُ اللَّيْلَ وَلَكِنْ أَبْتَكِرْ
فَقَوْلُهُ: نَهِرٌ بِمَعْنَى نَهَارِيٍّ، وَقَدْ قَدَّمْنَا إِيضَاحَهُ مَعْنَى الظُّلْمِ بِشَوَاهِدِهِ الْعَرَبِيَّةِ، فِي مَوَاضِعَ مُتَعَدِّدَةٍ مِنْ هَذَا الْكِتَابِ الْمُبَارَكِ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ - تَعَالَى -.
قَوْلُهُ - تَعَالَى -: إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ.
تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى نَحْوِهِ فِي سُورَةِ «الْأَعْرَافِ» فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى -: قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ [٧ ١٨٧]. وَفِي «الْأَنْعَامِ» عِنْدَ قَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ [٦ ٥٩].
قَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ.
قَدْ قَدَّمَنَا الْكَلَامَ عَلَيْهِ فِي سُورَةِ «الرَّعْدِ» فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى -: اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ الْآيَةَ [١٣ ٨].
قَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَظَنُّوا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ.
الظَّنُّ هُنَا بِمَعْنَى الْيَقِينِ ; لِأَنَّ الْكُفَّارَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِذَا عَايَنُوا الْعَذَابَ، وَشَاهَدُوا الْحَقَائِقَ - عَلِمُوا فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ أَنَّهُمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ، أَيْ لَيْسَ لَهُمْ مَفَرٌّ وَلَا مَلْجَأٌ.
وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمَحِيصَ مَصْدَرٌ مِيمِيٌّ، مِنْ حَاصَ يَحِيصُ بِمَعْنَى حَادَ وَعَدَلَ وَهَرَبَ.
وَمَا ذَكَرْنَا مِنْ أَنَّ الظَّنَّ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ بِمَعْنَى الْيَقِينِ وَالْعِلْمِ - هُوَ التَّحْقِيقُ - إِنْ شَاءَ اللَّهُ - ; لِأَنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تَنْكَشِفُ فِيهِ الْحَقَائِقُ، فَيَحْصُلُ لِلْكُفَّارِ الْعِلْمُ بِهَا لَا يُخَالِجُهُمْ فِي ذَلِكَ شَكٌّ، كَمَا قَالَ - تَعَالَى - عَنْهُمْ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ [٣٢ ١٢]. وَقَالَ - تَعَالَى -: أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا [١٩ ٣٨]. وَقَالَ - تَعَالَى -: فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ [٥٠ ٢٢]. وَقَالَ - تَعَالَى -: وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى رَبِّهِمْ قَالَ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا [٦]. وَقَدُُْ
قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لِهَذَا فِي سُورَةِ «النَّمْلِ» فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى -: بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ [٢٧ ٦٦].
وَمَعْلُومٌ أَنَّ الظَّنَّ يُطْلَقُ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ الَّتِي نَزَلَ بِهَا الْقُرْآنُ عَلَى مَعْنَيَيْنِ: أَحَدُهُمَا: الشَّكُّ، كَقَوْلِهِ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا [٥٣ ٢٨]. وَقَوْلِهِ - تَعَالَى - عَنِ الْكُفَّارِ: إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ [٤٥ ٣٢].
وَالثَّانِي: هُوَ إِطْلَاقُ الظَّنِّ مُرَادًا بِهِ الْعِلْمُ وَالْيَقِينُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ - تَعَالَى - هُنَا: وَظَنُّوا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ [٤١ ٤٨] أَيْ أَيْقَنُوا أَنَّهُمْ لَيْسَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَحِيصٌ، أَيْ لَا مَفَرَّ وَلَا مَهْرَبَ لَهُمْ مِنْ عَذَابِ رَبِّهِمْ، وَمِنْهُ بِهَذَا الْمَعْنَى قَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا [١٨ ٥٣] أَيْ أَيْقَنُوا ذَلِكَ وَعَلِمُوهُ، وَقَوْلُهُ - تَعَالَى -: الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ [٢ ٤٦]. وَقَوْلُهُ - تَعَالَى -: قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ [٢ ٢٤٩]. وَقَوْلُهُ - تَعَالَى -: فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ [٦٩ ١٩ - ٢٠]. فَالظَّنُّ فِي الْآيَاتِ الْمَذْكُورَةِ كُلِّهَا بِمَعْنَى الْيَقِينِ.
وَنَظِيرُ ذَلِكَ مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ قَوْلُ دُرَيْدِ بْنِ الصِّمَّةِ:
فَقُلْتُ لَهُمْ ظُنُّوا بِأَلْفَيْ مُدَجَّجٍ سُرَاتُهُمُ فِي الْفَارِسِيِّ الْمُسَرَّدِ
وَقَوْلُ عَمِيرَةَ بْنِ طَارِقٍ:
بِأَنْ تَغْتَزُوا قَوْمِي وَأَقْعُدَ فِيكُمُ وَأَجْعَلَ مِنِّي الظَّنَّ غَيْبًا مُرَجَّمَا
وَالظَّنُّ فِي الْبَيْتَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ بِمَعْنَى الْيَقِينِ، وَالْفِعْلُ الْقَلْبِيُّ فِي الْآيَةِ الْمَذْكُورَةِ الَّتِي هِيَ قَوْلُهُ: وَظَنُّوا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ مُعَلِّقٌ عَنِ الْعَمَلِ فِي الْمَفْعُولَيْنِ بِسَبَبِ النَّفْيِ بِلَفْظَةِ (مَا) فِي قَوْلِهِ: مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ كَمَا أَشَارَ لَهُ فِي الْخُلَاصَةِ بِقَوْلِهِ:
وَالْتَزِمِ التَّعْلِيقَ قَبْلَ نَفْيِ «مَا
»

قَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى. ُُ
قَدْ قَدَّمَنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ فِي سُورَةِ «الْكَهْفِ» فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا [١٨ ٣٦].
قَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ.
قَدْ قَدَّمَنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ وَبَعْضَ الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةَ الْمُوَافِقَةِ لَهَا فِي سُورَةِ «يُونُسَ» فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ [١٠ ١٢].
قَوْلُهُ - تَعَالَى -: سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ الْآيَةَ.
قَدْ قَدَّمَنَا الْكَلَامَ عَلَيْهِ فِي سُورَةِ «الْمُؤْمِنِ» فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى -: هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آيَاتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ رِزْقًا الْآيَةَ [٤٠ ١٣].
قَوْلُهُ - تَعَالَى -: أَلَا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَاءِ رَبِّهِمْ.
الْمِرْيَةُ: الشَّكُّ. وَمَا تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ مِنْ شَكِّ الْكُفَّارِ فِي الْبَعْثِ وَالْجَزَاءِ - قَدْ قَدَّمَنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ، وَلِمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِنَ الْخُلُودِ فِي النَّارِ فِي سُورَةِ «الْفُرْقَانِ» فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى -: بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ وَأَعْتَدْنَا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيرًا [٢٥ ١١].
Icon