ﰡ
إذا قامت القيامة فلا يستطيع أحدٌ أن يكذِّب بها، لأن قيامها حقٌّ لا شُبهة فيه. وهي خافضةٌ للاشقياء، رافعة للمؤمنين السّعداء. ويومئذ تُزلزل الأرضُ، ويضطرب الكون، وتحِلّ بالعالم أهوالٌ وكوارث، وتتفت الجبال، وتصير كالهَباء المتطاير في غير أماكنها.
والناس في ذلك اليوم ثلاثة اصناف، اصحاب الميمنة الذين يأخذون كتبَهم بأيمانهم ويكونون في أسعدِ حال؛ وأصحابُ المشأمة وهم الذين كفروا ويأخذون كتبهم بشِمالهم.
والطبقة الثالثة، وهم السابقون الى الخيرات في الدنيا، يرتقون إلى الدرجات العليا في الآخرة. وأولئك هم المقرّبون عند الله، وهم في جنّات النعيم يتمتعون فيها عند أكرم الأكرمين في أحسن مقام.
وهؤلاء المقرّبون جماعة كثيرة من الأمم السابقة وأنبيائهم، وقليلٌ من أمة محمد ﷺ بالنسبة اليهم، يجلسون على سُرر منسوجة بالجواهر النفيسة، متكئين عليها متقابلين، يتحدّثون بذكرياتهم وبكل ما يسرّهم.
ويدور عليهم للخدمة وِلدانٌ مخلَّدون بأكوابٍ وأباريقَ مملوءة مما لذّ وطاب من شراب الجنة، وبكأس مملوءة خمراً من عيونٍ جارية، لا يصيبهم من شُربها صداعٌ يصرفهم عنها، ولا تذهب بعقولهم.
ثم لهم طعامٌ فاخر يشتمل على ما يشتهون من لحم طيرٍ وفاكهة منوعة، يختارون منها ما يحبون، وعندهم نساءٌ حورٌ عين في منتهى الجمال كأمثال اللؤلؤ المصون في صَدفِهِ.. كل هذا يعطَوْنه جزاء بما كانوا يعملون في الدنيا من أعمال الخيرات.
وهم يعيشون في الجنّة في أحسن حالٍ لا يسمعون فيها كلاماً لا ينفع، ولا حديثا يأثم سامعه، إلا سلاماً، لأنهم في دار السلام.
قراءات:
قرأ حمزة والكسائي: وحورٍ عين بالجر. والباقون: بالرفع.
يبيّن الله تعالى هنا حالَ أصحابِ اليمين بعد أن بين مراتبَ المقرَّبين السابقين، ويذكر أنهم في جنات الخلد حيث يوجد شجر السِدر الذي يحمل النبق وهو بلا شوك، وفيها شجر الموز المنسق ﴿وَطَلْحٍ مَّنضُودٍ﴾. وفيها ظلٌّ ممدود لا يَغيب، وماءٌ مسكوبٌ في آنيتهم حيث شاءوه، وفاكهة كثيرةُ الأنواع والأصناف، دائمة لا تنقطع، وغير ممنوعة على من يريدها في اي وقت، وفُرُشٌ منضّدة مرتفعة ناعمة مريحة.
وقد أعد الله لأصحاب اليمين مع كلّ هذه النعم الحورَ العِين، فجعلهن أبكاراً، محبَّبات الى أزواجهن، لطيفاتٍ مطيعات، متقاربات في السن.
واصحاب اليمين جماعاتٌ كثيرة من الأمم السابقة، ومن أمة محمد ﷺ.
قراءات:
قرأ حمزة وابو بكر: عربا بضم العين واسكان الراء. والباقون: عربا: بضم العين والراء وهما لغتان.
بعد ان بيّن الله مقام الصِنفين: السابِقين واصحاب اليمين، وما يلقاه كل منهم من عز ونعيم مقيم وشرف عظيم - بين هنا الصنف الثالث المقابل وهم الجاحِدون المعاندون، اصحاب الشمال. ولا يدري أحدٌ ما ينال أصحابَ الشمال من العذاب، فهم في ريح حارة تشوي الوجوه، وماءٍ متناهٍ في الحرارة، وفي ظلٍ من دخانٍ حارّ شديد السواد، لا بارد يخفّف حرارةَ الجو، ولا كريمٍ يعود عليهم بالنفع إذا استنشقوه.
والسبب في ذلك: ﴿إِنَّهُمْ كَانُواْ قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ﴾ مسرِفين في الاستمتاع بنعيم الدنيا. وكانوا يصرّون على الشِرك بالله، ويحلفون بأنه لن يُبعث من يموت. كما جاء في سورة النحل الآية ٣٨ ﴿وَأَقْسَمُواْ بالله جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لاَ يَبْعَثُ الله مَن يَمُوتُ﴾ وكانوا يزيدون في الانكار فيقولون: أنُبعث إذا متنا، وصارت أجسامُنا تراباً وعظاما بالية؟ هل نعود الى حياة ثانية، ونُبعث نحن وآباؤنا الأقدمون الذين ماتوا من زمن قديم!؟.
قل لهم أيها الرسول الكريم: سوف يجمع الله الأولين والآخرين في صعيد واحد في ذلك اليوم العلوم، ثم إنكم أيها الجاحدون المكذّبون بالبعث، ستأكلون في جهنّم من شجرةِ الزقّوم التي وصفها الله تعالى في سورة الصافّات بقوله: ﴿إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ في أَصْلِ الجحيم طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشياطين﴾ [الصافات: ٦٤، ٦٥]، فمالئون من هذا الشجرِ الخبيثِ بطونَكم، فشاربون ماءً شديدَ الحرارة لا يروي ظمأكم، كما تشرب الابلُ المصابةُ بمرض العطَش فلا تروى أبدا.
وكل ما ذكر فهو ضيافتهم يوم الدِّين على سبيل التهكّم بهم، لأن قوله تعالى ﴿هذا نُزُلُهُمْ﴾، معناه: هذا ما يهيّأ لضيافتهم. وفي هذا توبيخٌ لهم وتهكم بهم.
قراءات:
قرأ عاصم ونافع وابن عامر وحمزة: شُرب الهيم بضم الشين. والباقون: شَرب الهيم بفتح الشين. وهما لغتان.
بعد ان بين الله تعالى لنا الأزواج الثلاثة، ومآل كل منهم ذكَرَ هنا الأدلّةَ على الألوهية من خلْقٍ وزرق للخلق، وأقام الدليلَ على البعث والجزاء، وأثبتَ النبوةَ، فقال:
نحنُ خَلقناكم من عَدَمٍ، فهلاّ تصدّقون وتقرّون بقدرتنا على إعادتكم ثانية يوم القيامة!؟.
أفرأيتم هذا المَنِيَّ الذي تقذِفونه في الأرحام، أأنتم تخلُقونه وتجعلونه بَشَراً بهذه الصورة ﴿أَم نَحْنُ الخالقون﴾ !؟.
نحن قضَيْنا بينكم بالموت، وجعلْنا لِموتكم وقتاً معيّناً، وما نحنُ بمسبوقين ولا عاجزين عن ان نُذْهِبكم ونأتيَ بأشباهكم من الخلق، ﴿وَنُنشِئَكُمْ فِي مَا لاَ تَعْلَمُونَ﴾ في الأطوار والأحوال.
ثم ذكر دليلاً آخر على البعث فقال:
﴿وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النشأة الأولى فَلَوْلاَ تَذَكَّرُونَ﴾
لقد علمتم أن الله أنشأكم النشأةَ الأولى من العَدَم، فهلاّ تتذكّرون انّ مَن قَدَرَ على خلْقكم من البداية لهو أقدَر على ان يأتيَ النشأةَ الأخرى لكم!
أفرأيتم ما تبذُرونه من الحَبّ في الأرض، أأنتم تُنبتونه أم نحنُ نفعل ذلك! ان في قُدرَتنا لو نشاء لصيَّرنا هذا النباتَ هشيماً يابساً متكسرا.
﴿فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ﴾
لظللتم تتعجّبون من سوءِ ما أصابه وما نزل بكم، وتقولون إنا لمعذَّبون، لا بل نحنُ محرومون من الخيرِ والرِزق لِنحسِ طالعنا وسوءِ حظنا.
أفرأيتم الماءَ العذبَ الذي تشربونه والذي هو أصلُ الحياة، أأنتم أنزلتموه من السحاب ام نحن المنزلون له رحمةً بكم؟
وهذا من اكبر الادلة على قدرة الاله وعظمته، فقد حاول الانسان استمطار السّحُب صناعياً إلا ان هذه المحاولاتِ لا تزال مجردَ تجاربَ، وعلى نطاق ضيق جدا، مع وجوب توافر بعض الظروف الملائكة طبيعيا.
إننا لو نشاءُ لجعلْنا هذا الماءَ العذبَ مالحاً لا يمكن شربه، فهلاّ تشكرون الله على هذه النعمة وعلى ان جعله عذباً سائغا!؟.
أفرأيتم النارَ التي توقدونها، أأنتم أنبتُّم شجرتها وأودَعتم فيها النار، أم نحن المنشئون لها؟ والنارُ نعمة كالماء، وعندما عرف الانسانُ كيف يستعمل النارَ كان ذلك في حياته خطوةً كبيرة الى التقدم، وبدْء الحضارة الانسانية.
نحن جعلنا هذه النار تذكرةً وتبصِرة لكم تذكّركم بالبعث لتعلموا أن من أخرجَ من الشجر الأخضر ناراً قادرٌ على إعادة الحياة مرة أخرى. ولقد جعلنا في النار منفعةً لمن ينزلون في المفاوز والصحارى من المسافرين، ولمن يحتاج إليها في كل مكان.. فاذكروا ذلك واعتبروا منه.
فسبّح باسم ربك العظيم أيها الرسول على هذه النعم الجليلة التي لا تُعد ولا تحصى.
قراءات:
قرأ ابن كثير: نحن قدَرنا بينكم الموت، بفتح الدال من غير تشديد. والباقون: قدرنا بالتشديد. وقرأ ابو بكر: أإنا لمغرمون على الاستفهام. والباقون: إنا لمغرمون على الخبر.
بعد ذِكر الأدلة على الألوهية والخلْق والبعث والجزاء جاء بذِكر الأدلة على النبوة وصدق القرآن الكريم. وقد أقسم الله تعالى على هذا بما يشاهدونه من مواقع النجوم، وإن هذا القسَم لعظيم حقا، لأن هذا الكون وما فيه شيء كبير لا نعلم عنه الا القليل القليل. ويقول الفلكيون: ان من هذه النجوم والكواكب التي تزيد على عدة بلايين، ما يمكن رؤيته بالعين المجردة، ومنها ما لا يرى الا بالمكبّرات، وقد يكون اكبر من شمسنا بآلاف المرات ولكننا لبعده الشاسع لا نراه. وهي تسبح في هذا الفلك الواسع الذي لا نعلم عنه شيئا. والبحث في هذا واسع جدا، ولذلك فان هذا القسَم عظيم حقا.
﴿إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ﴾
هو قرآن جامع لكل المحامد، وفيه الخير والسعادة لبني الانسان اجمعين.
﴿فِي كِتَابٍ مَّكْنُونٍ﴾
وهو مصون في اللوح المحفوظ، لا يمسّ هذا اللوح ولا يطلع عليه غير المقربين من الملائكة.
لقد فسر بعضُهم هذه الآية بأنه لا يَمَسُّ القرآن من كان مُحْدِثا، واختلف العلماء في ذلك، فقال جمهور العلماء لا يجوز ان يمسّ احدٌ القرآن الا اذا كان متطهّرا، وقال عدد من العلماء بالجواز.
﴿تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ العالمين﴾
ان هذا القرآن نزله الله على سيدنا محمد خات مالأنبياء والمرسلين.
وبعد ان ذكر مزاياه، وانه من لدن عليم خبير ذكر انه لا ينبغي التهاون في أوامره ونواهيه، ويجب التمسك به فقال: ﴿أفبهذا الحديث أَنتُمْ مُّدْهِنُونَ﴾.
اتتهاونون بالقرآن وتُعرضون عنه، وتمالئون من بتكلّم فيه بما لا يليق به، وتكذّبون ما يقصه عليكم من شأن الآخرة، وما يقرره لكم من امور العقيدة! أتجعلون بدل الشكر على رِزقكم انكم تكذّبونه، فتضعون الكذب مكان الشكر!
﴿فَلَوْلاَ إِذَا بَلَغَتِ الحلقوم وَأَنتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنكُمْ ولكن لاَّ تُبْصِرُونَ﴾.
فماذا انتم فاعلون إذا بلغت روحُ أحدكم الحلقوم في حال النزاع عند الموت، وانتم حوله تنظرون اليه، ونحن بالواقع أقربُ اليه وأعلمُ بحاله منكم، ولكن لا تدركون ذلك ولا تبصرون.
﴿فَلَوْلاَ إِن كُنتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ تَرْجِعُونَهَآ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ﴾
فلو كان الأمر كما تقولون: إنه لا بعثٌ ولا حسابٌ ولا جزاء، وأنكم غيرُ مدينين لا تحاسَبون ولا تجزون - هلاّ تُرجعون النفسَ التي بلغتِ الحلقومَ الى مكانها، وتردون الموت عمن يُحتضر امامكم!.
ثم بين الله تعالى ان حال بعد الوفاة ثلاثة اصناف فقال:
١- {فَأَمَّآ إِن كَانَ مِنَ المقربين فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّاتُ نَعِيمٍ.
١- وأما إن كان من أصحاب اليمين الذين يؤتون كتبهم بأيمانهم، فيقال له تحيةً وتكريما: سلامٌ لك من إخوانك اصحابِ اليمين.
٣- واما ان كان من المكذِّبين الذين كذّبوا الرسول والقرآن الكريم، الضالِّين سواءَ السبيل- فله مكانٌ في جهنم يُسقَى من ماءٍ شديد الحرارة، ومآله دخول الجحيم.
﴿إِنَّ هذا لَهُوَ حَقُّ اليقين فَسَبِّحْ باسم رَبِّكَ العظيم﴾.
ان هذا الذي ذُكر في هذه السورة الكريمة لهو الحقُّ الصادق الثابت الذي لا شكَّ فيه فسبِّح ايها الرسول بذِكر اسم ربّك العظيم تنزيهاً له وشكرا على آلائه.