تفسير سورة الحشر

الفواتح الإلهية والمفاتح الغيبية
تفسير سورة سورة الحشر من كتاب الفواتح الإلهية والمفاتح الغيبية المعروف بـالفواتح الإلهية والمفاتح الغيبية .
لمؤلفه النخجواني . المتوفي سنة 920 هـ

والهوى وإياك إياك ان تتلطخ بقاذورات الدنيا ومزخرفاتها الملهية عن اللذات الاخروية المستتبعة للسلاسل والأغلال الامكانية المبعدة عن الوصول الى فضاء الوجوب وصفاء الوحدة الذاتية التي عبر عنها لسان الشرع بالنعيم الموعود والحوض المورود والمقام المحمود. جعلنا الله ممن وصل اليه وتمكن دونه بمنه وجوده
[سورة الحشر]
فاتحة سورة الحشر
لا يخفى على من تحقق بحيطة الحق وشموله على عموم ما ظهر وبطن في الآفاق والأنفس علما وعينا غيبا وشهادة دنيا وعقبا ان عموم المظاهر والمجالى متوجهة الى المبدأ الحقيقي منجذبة نحوه طوعا عابدة إياه رغبة ساجدة له على وجه الخضوع والخشوع والانكسار التام والتذلل المفرط منزهة مسبحة له عن شوب النقص وسمة الحدوث والزوال كما أخبر به سبحانه حبيبه صلّى الله عليه وسلم تنبيها وتأييدا لأمره ليكون هو ومن تبعه من المؤمنين على ذكر من ربهم الذي رباهم على فطرة الدراية والشعور بمطلق المراتب الواقعة في الوجود الإلهي ومظاهر وحدته الذاتية المتجلية حسب الشئون والتطورات الغير المتناهية المترتبة على الأسماء والصفات الذاتية الغير المحصورة فقال بعد ما تيمن بِسْمِ اللَّهِ الذي ظهر على عموم ما ظهر وبطن بالحكمة المتقنة العلية الرَّحْمنِ لعموم مظاهره بإضافة الوجود المتجلى على الصور البديعة الرَّحِيمِ لهم بالإعادة والإرجاع الى الفطرة الاصلية والمبدأ الحقيقي
[الآيات]
سَبَّحَ لِلَّهِ ونزهه تنزيها لائقا بجنابه سبحانه مظاهر ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ طوعا ورغبة وَكيف لا هُوَ الْعَزِيزُ بذاته المتعزز برداء العظمة والكبرياء والمجد والبهاء الْحَكِيمُ المتقن في أفعاله المدبر لمصالح عباده كيف يشاء بالإرادة والاختيار وبالجملة
هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ بمقتضى عزته وحكمته المفسدين المسرفين الَّذِينَ كَفَرُوا بالله وبرسوله ألا وهو اجلاء بنى النضير واضرابهم مع انهم مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ دِيارِهِمْ المألوفة وأوطانهم المأنوسة زجرا وتذليلا لهم واقعا عليهم لِأَوَّلِ الْحَشْرِ اى في أول حشرهم واجلائهم الطاري عليهم بظهور دين الإسلام وغلبة المسلمين إذ اجلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بنى النضير أولا من المدينة الى الشأم ثم اجلى بقية الكفرة عمر رضى الله عنه في خلافته انظروا كيف أخرجهم بكمال قدرته وعزته مع انكم ما ظَنَنْتُمْ وزعمتم ايها المؤمنون أَنْ يَخْرُجُوا اى خروجهم وجلاءهم لشدتهم وشوكتهم واستحكام أماكنهم وقلاعهم وَهم ايضا قد ظَنُّوا أَنَّهُمْ مانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ اى ظنهم لأنفسهم ان حصونهم تمنعهم مِنْ بأس اللَّهِ المنتقم الغيور وبطشه وان اشتد لكن لم ينفعهم الحصون والقلاع حين حلول العذاب ونزوله بل فَأَتاهُمُ اللَّهُ بالقهر الهائل من لدنه مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا اى من صوب وجهة لم يتوقعوها وَذلك انه قَذَفَ والقى سبحانه فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ الشديد والخوف العظيم من غير قتال وبسبب ذلك الرعب الهائل أخذوا يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ ضنا على المسلمين وإخراج ما فيها من الامتعة وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ ايضا فإنهم كانوا يخربون بيوتهم إذلالا لهم وتوسيعا لمضمار الحرب والقتال وبالجملة فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ واتعظوا مما جرى على هؤلاء الغواة الطغاة يثقون بحصونهم ويشيدونها ليتحصنوا بها من بأس الله ثم لما اضطروا أخذوا يخربون بأيديهم ما يعتمدون عليه ويستحفظون به وذلك من كمال قدرة الله ومتانة حكمه
وحكمته
وَبالجملة لَوْلا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ المصلح لأمور دنياهم وافترض عَلَيْهِمُ الْجَلاءَ ولم يخرجهم من أوطانهم أذلاء لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيا بالقتل والأسر وانواع الإذلال والصغار كما جرى على الكفرة المتمكنين في أماكنهم بعدهم وَمع ذلك الإصلاح والكرامة لَهُمْ في الدنيا لهم فِي الْآخِرَةِ عَذابُ النَّارِ بواسطة إصرارهم على الكفر وانكارهم على الإسلام
ذلِكَ الإذلال والصغار لهم في الدنيا والآخرة بِأَنَّهُمْ اى بسبب انهم قد شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ بمخالفة أمرهما والخروج عن حكمهما وَمَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ المنعم المتفضل يعاقبه البتة فَإِنَّ اللَّهَ المنتقم الغيور شَدِيدُ الْعِقابِ صعب الانتقام اليم العذاب على عصاة عباده ارادة واختيارا. ثم لما توجه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الى بنى النضير حين نقضوا العهد الذي عهدوا مع الله ورسوله تحصنوا بحصونهم وامتنعوا عن الإسلام فأمر صلّى الله عليه وسلّم بقطع نخلهم وحرق بساتينهم قالوا يا محمد قد كنت تنهى عن الفساد في الأرض فما بال قطع النخل وحرقها فسمع المؤمنون منهم ذلك القول واوجسوا في نفوسهم الكراهة وعدم اللياقة فنزلت
ما قَطَعْتُمْ ايها المؤمنون مِنْ لِينَةٍ اى بعض نخلة من النخلات أَوْ تَرَكْتُمُوها بلا قطع شيء منها قائِمَةً عَلى أُصُولِها على ما كانت فَبِإِذْنِ اللَّهِ العليم الحكيم اى القطع والترك كلاهما بأمر الله وحكمه وَانما أمركم بالقطع والحرق لِيُخْزِيَ الْفاسِقِينَ اى يرديهم ويذلهم بما يغيظهم ويضيق صدرهم
وَاعلموا ايها المؤمنون ان ما أَفاءَ اللَّهُ اى رد الله وأعطاه عَلى رَسُولِهِ مِنْهُمْ اى من يهود بنى النضير من الأموال والعقار فهو لرسول الله خاصة خالصة له ان يفعل به حيث شاء بلا حق لكم فيها ليس مثل سائر الغنائم فَما أَوْجَفْتُمْ وما أجريتم عَلَيْهِ اى على تحصيله وجمعه لا مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكابٍ نجائب الإبل إذ هم قد مشوا الى بنى النضير رجالا لا فرسانا وقد كانت المسافة ميلين من المدينة ومع ذلك لا يقاتلون معهم مقاتلتهم مع سائر الكفرة وَلكِنَّ اللَّهَ المنتقم الغيور يُسَلِّطُ رُسُلَهُ أحيانا عَلى مَنْ يَشاءُ من المستوجبين الطرد والمقت بلا وسائل القتال والحرب بل يقذف الرعب ويلحق الخوف في قلوبهم وغير ذلك من الأمور الخارقة للعادة الموجبة للهزيمة لا عن شيء وَاللَّهُ القادر المقتدر عَلى كُلِّ شَيْءٍ موجب لقهر أعدائه ونصر أوليائه قَدِيرٌ سواء وافق العادة أولا وبالجملة
ما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ اموال أَهْلِ الْقُرى الهالكة بالغلبة والاستيلاء بلا مقاتلة وحرب فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ سهم وَلِذِي الْقُرْبى من بنى هاشم وبنى المطلب سهم وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ سهام وانما قسم سبحانه مال الفيء بنفسه كَيْ لا يَكُونَ الفيء الذي حقه ان يصل الى الفقراء دُولَةً متداولة بَيْنَ الْأَغْنِياءِ مِنْكُمْ ورؤسائكم كما هو عادة الجاهلية الاولى وَبعد ما قسم سبحانه في كتابه لزمكم ان تأخذوا ما آتاكُمُ واعطاكم الرَّسُولُ المستخلف منه سبحانه فَخُذُوهُ بلا مراء ومجادلة معه وَما نَهاكُمْ عَنْهُ باذن الله فَانْتَهُوا ايضا عنه بلا مكابرة وإصرار وَبالجملة اتَّقُوا اللَّهَ عن مخالفة امره وامر رسوله النائب عنه واحذروا عن بطشه وانتقامه إِنَّ اللَّهَ القادر المقتدر على وجوه الانعام والانتقام شَدِيدُ الْعِقابِ على من خرج عن ربقة عبوديته ومقتضى ألوهيته. ثم بين سبحانه مصارف الفيء بعد إخراج سهم الله ورسوله وقدم منهم فقراء المهاجرين اهتماما بشأنهم فقال
لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوالِهِمْ اى أخرجهم المشركون ونهبوا أموالهم
وسبوا أولادهم والحال انهم في مصائبهم هذه يَبْتَغُونَ ويطلبون فَضْلًا تفضلا وإحسانا مِنَ اللَّهِ وَرِضْواناً من لدنه سبحانه لكمال تمكنهم ورسوخهم في مقام الرضا والتسليم وَمع ذلك يَنْصُرُونَ اللَّهَ بترويج دينه وإعلاء كلمة توحيده وَرَسُولَهُ بالمعاونة والمظاهرة وبذل المال والنفس في تقوية دينه أُولئِكَ السعداء المقبولون عند الله الباذلون مهجهم في طريق الحق وصراطه المستقيم ونصرة رسوله الكريم هُمُ الصَّادِقُونَ المقصورون على الصدق والإخلاص ظاهرا وباطنا
وَبعد أولئك لفقراء الأنصار وهم الَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ اى قد توطنوا وتمكنوا في المدنية ورسخوا على الايمان والإسلام بالعزيمة الصادقة الخالصة مِنْ قَبْلِهِمْ اى قبل هجرة المهاجرين إليها ومع رسوخهم وتمكنهم في الايمان يُحِبُّونَ محبة خالصة مَنْ هاجَرَ إِلَيْهِمْ من المؤمنين وَمن كمال محبتهم وإخلاصهم لإخوانهم المهاجرين لا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ ووجدانهم حاجَةً باعثة لهم الى ان يحسدوا مِمَّا أُوتُوا واعطوا اى المهاجرون من سهام الفيء وسائر الغنائم والصدقات وَذلك من كمال محبتهم ومودتهم بالنسبة إليهم بل يُؤْثِرُونَ اى هم يختارون ويقدمون المهاجرين عَلى أَنْفُسِهِمْ حتى ان من كان له امرأتان نزل عن واحدة وزوجها من أحدهم وبالجملة يختارون ويقدمون المهاجرين على أنفسهم في أعز ما آثروا لنفوسهم وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ اى حاجة شديدة ومحبة بليغة بالنسبة الى ذلك الشيء وما هو الا من فرط محبتهم وإخلاصهم بالنسبة الى إخوانهم المهاجرين وَبالجملة مَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ ويخالفها حتى يمنعها عن مقتضاها الذي هو حب المال فأنفق المال في سبيل الله طلبا لمرضاة الله ورعاية بجانب أخيه المسلم فَأُولئِكَ السعداء المنفقون المحافظون على آداب الأخوة والمروءة هُمُ الْمُفْلِحُونَ المقصورون على الفوز العظيم من عنده سبحانه عاجلا وآجلا في العاجل بالذكر الجميل وفي الآجل بالجزاء الجزيل
وَبعد فقراء الأنصار أنفقوا للفقراء التابعين لهم وهم الَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ مهاجرين عن بقعة الإمكان أمثالهم نحو فضاء الوجوب مقتفين اثر أولئك الكرام مريدين لهم بإحسان مذكرين لهم بغفران حيث يَقُولُونَ في مناجاتهم مع ربهم في خلواتهم وأعقاب صلواتهم رَبَّنَا يا من ربانا على فطرة الإسلام اغْفِرْ لَنا ذنوبنا التي صدرت عنا وَكذا لِإِخْوانِنَا في الدين سيما الَّذِينَ سَبَقُونا بِالْإِيمانِ وسلوك طريق العرفان وَبالجملة لا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنا وقلوبهم يا مولانا غِلًّا حقدا وحسدا لِلَّذِينَ آمَنُوا مطلقا لا للسابقين ولا للاحقين رَبَّنَا يا من ربانا على الإخلاص والتوفيق تقبل منا مناجاتنا واقض لنا حاجاتنا إِنَّكَ رَؤُفٌ عطوف على عموم عبادك سيما المخلصين منهم رَحِيمٌ تقبل منهم توبتهم وتغفر زلتهم ان استغفروا نحوك نادمين عما صدر عنهم. ثم قال سبحانه على سبيل التوبيخ والتقريع
أَلَمْ تَرَ ايها الرائي إِلَى الَّذِينَ نافَقُوا مع المؤمنين حيث يَقُولُونَ في خلواتهم لِإِخْوانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وقد كان بينهم صداقة الشرك واخوة الكفر وموالاة البغض مع الرسول ومع المؤمنين لا تخالطوا مع هؤلاء المدعين يعنون المؤمنين وانا معكم والله لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ من دياركم عنوة لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ البتة وَلا نُطِيعُ ولا نتبع فِيكُمْ اى في قتالكم وحرابكم أَحَداً أَبَداً سيما مع هؤلاء الأعادي وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ ونعاوننكم البتة بلا خلف منا وَاللَّهُ المطلع على عموم أفعالهم وأقوالهم ونياتهم فيها يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ في قولهم
وعهدهم هذا مع إخوانهم حيث قال سبحانه مقسما والله
لَئِنْ أُخْرِجُوا لا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ البتة وَلَئِنْ قُوتِلُوا لا يَنْصُرُونَهُمْ جزما ووقع ذلك مثل ما قال سبحانه فان ابن ابى وأصحابه عهدوا مع بنى النضير على هذا ثم اخلفوهم وهم قد اخرجوا من ديارهم وهؤلاء لم يخرجوا وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ بالفرض والتقدير ويقاتلوا معكم ايها المؤمنون من جانب عدوكم والله لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبارَ وقت كركم عليهم ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ بعد ذلك لشدة خوفكم ورعبكم في قلوبهم وبالجملة
لَأَنْتُمْ ايها المؤمنون أَشَدُّ رَهْبَةً مرهوبية مرعوبية راسخة فِي صُدُورِهِمْ متمكنة في نفوسهم ناشئة من قبلكم والحال ان تلك الرهبة الشديدة الحاصلة منكم ناشئة مِنَ اللَّهِ إذ هو سبحانه قد قذفها في صدورهم من جانبكم وأقدركم عليهم وهم من خباثة كفرهم ونفاقهم لا يتفطنون بها ذلِكَ اى عدم تفطنهم بمنشأها ومبدأها بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ ولا يعلمون عظمة الله وحق قدره حتى يخشون منه حق خشيته وبالجملة لا تبالوا ايها المؤمنون بوداد المنافقين مع اليهود واتفاقهم معهم إذ
لا يُقاتِلُونَكُمْ جَمِيعاً مجتمعين متفقين إِلَّا فِي قُرىً مُحَصَّنَةٍ محصورة ممهدة بالدروب والخنادق أَوْ مِنْ وَراءِ جُدُرٍ يستحصنون به وذلك من فرط رعبتهم وشدة رهبتهم من المؤمنين والا بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ اى حين حارب بعضهم بعضا او مع غير المؤمنين قتالهم شديد وحرابهم عظيم وإذا حاربوا مع المؤمنين تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً مجتمعين ظاهرا في بادى النظر وَلكن قُلُوبُهُمْ شَتَّى متفرقة مختلفة حقيقة لافتراق عقائدهم واختلاف مقاصدهم ذلِكَ الافتراق والاختلاف بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ ولا يفهمون ما هو صلاحهم في الدارين وفلاحهم في النشأتين
كَمَثَلِ الَّذِينَ اى مثلهم كمثل اليهود الذين مضوا مِنْ قَبْلِهِمْ قَرِيباً بزمانهم قد ذاقُوا وَبالَ أَمْرِهِمْ في الدنيا من انواع الهوان والخسار وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ في الآخرة التي هي دار البوار بل مثلهم في وخامة العاقبة وقبح المآل
كَمَثَلِ الشَّيْطانِ اى مثل المنافقين في إغراء اليهود على قتال المؤمنين كمثل الشيطان وقت إِذْ قالَ لِلْإِنْسانِ اى كل فرد من افراد الكفرة اكْفُرْ حتى أعينك على عموم مقاصدك ومرامك وأنصرك على عموم اعاديك فَلَمَّا كَفَرَ الإنسان والعياذ بالله بتغريره قالَ له الشيطان بعد ما كفر إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ لا أعينك على شيء لأنك قد كفرت بالله وصرت عدو الله إِنِّي أَخافُ اللَّهَ القادر المقتدر القاهر الغيور ان ينتقم منى بسبب معاونتك ومظاهرتك لكونه رَبَّ الْعالَمِينَ فلا يجرى التصرف في ملكه بلا اذن منه سبحانه وبعد ما كفر الإنسان بتغرير الشيطان وتلبيسه
فَكانَ عاقِبَتَهُما اى صار عاقبة الشيطان والإنسان الذي قد كفر بتغريره أَنَّهُما فِي النَّارِ تابعا ومتبوعا لا زمانا دون زمان بل كانا خالِدَيْنِ فِيها مستمرين ابدا مخلدين وَذلِكَ اى الخلود في النار جَزاءُ الظَّالِمِينَ الخارجين عن ربقة الرقية الإلهية وعروة عبوديته بتلبيس الشيطان وتغريره
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مقتضى ايمانكم التقوى عن محارم الله والاجتناب عن منهياته اتَّقُوا اللَّهَ المنتقم الغيور واحذروا عن بطشه وقهره وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ اى كل نفس من النفوس المجبولة على فطرة الدراية والشعور على وجه العبرة والاستبصار ما قَدَّمَتْ وما ادخرت لِغَدٍ اى ليوم القيامة وما تزودت للطامة الكبرى والدفعة العظمى بعد ما كلفت بأنواع التكاليف وأمرت من لدن حكيم عليم باعداد زاد المعاد على سبيل المبالغة والتأكيد وَبالجملة اتَّقُوا اللَّهَ واحذروا عن مخالفة امره وحكمه إِنَّ اللَّهَ المطلع على عموم ما في ضمائر عباده
خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ من خير وشر ونفع وضر يجازيكم على مقتضى خبرته وَبالجملة
لا تَكُونُوا ايها المؤمنون ك الغافلين الذين نَسُوا اللَّهَ اى ذكره المستلزم المقتضى للايمان والمحبة والعرفان فَأَنْساهُمْ سبحانه أَنْفُسَهُمْ اى ذكرها المستلزم لمعرفة الحق إذ من عرف نفسه فقد عرف ربه وكذا من نسيها نسيه وبالجملة أُولئِكَ البعداء المطرودون عن ساحة عز الحضور هُمُ الْفاسِقُونَ المقصورون على الخروج عن مقتضى الحدود الإلهية ولوازم العبودية الجاهلون بقدر الألوهية مطلقا واعلموا ايها المكلفون انه
لا يَسْتَوِي أَصْحابُ النَّارِ منكم وملازموها وهم الذين اقترفوا طول اعمارهم لسيئات الأعمال وذمائم الأخلاق والأوصاف والأطوار مما يستحقون بها دخول النار وَأَصْحابُ الْجَنَّةِ وهم الذين اتصفوا بمحاسن الأعمال والأحوال ومحامد الأخلاق والأطوار المنتجة لهم انواع المعارف والحقائق والمكاشفات والمشاهدات الفائضة عليهم حسب استنشاقهم من نسائم عالم اللاهوت واسترواحهم بفوائح حضرة الرحموت وبالجملة أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفائِزُونَ المفلحون المقصورون بالدرجات العلية والمقامات السنية مما لا عين رأت ولا اذن سمعت ولا خطر على قلب بشر ثم وبخ سبحانه نوع الإنسان المجبول على فطرة الايمان والعرفان وقرعهم بغفلتهم عن القرآن المرشد لهم الى طريق التوحيد والعرفان بقوله
لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ المنزل عليكم ايها التائهون في تيه الغفلة والنسيان عَلى جَبَلٍ من الجبال العظام والله لَرَأَيْتَهُ اى الجبل ايها المعتبر الرائي خاشِعاً خاضعا مُتَصَدِّعاً متشققا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ القادر الغيور يعنى قد تأثر من الوعيدات القرآنية والإنذارات الشديدة الواقعة فيه على المكلفين مع عدم قابليته للتأثر وأنتم ايها الهلكى الحمقى التائهون الهالكون في تيه الجهل والضلال وبيداء الوهم والخيال مع كمال قابليتكم واستعدادكم للتأثر لا تتأثرون من وعيداته البليغة وانذاراته الشديدة ثم قال سبحانه على سبيل التنبيه والتذكير وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ الناسين مرتبة العبودية من كمال البطر والغفلة لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ويتفطنون منها الى فطرتهم الاصلية المجبولة على التذلل والخشوع والانكسار والخضوع فيشتغلون بما جبلوا لأجله من العبودية والإتيان بالطاعات والعبادات اللائقة لمرتبة الألوهية والربوبية وكيف لا تتذللون له سبحانه ايها الحمقى الهالكون مع انه سبحانه
هُوَ اللَّهُ اى الموجود الحق الحقيق الَّذِي لا إِلهَ ولا موجود في الوجود إِلَّا هُوَ الواحد الأحد الفرد الصمد المستقل بالالوهية والربوبية عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ على التفصيل الواقع في الواقع بحيث لا يعزب عن حيطة علمه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء ومع ذلك هُوَ الرَّحْمنُ على عموم الأكوان بافاضة الوجود عليهم وتربيتهم وتدبير مصالحهم في النشأة الاولى الرَّحِيمُ على خواصهم يوصلهم الى فضاء وحدته وسعة جنته ورحمته في النشأة الاخرى وكيف لا
وهُوَ اللَّهُ المستقل بالالوهية والربوبية في ذاته المتوحد بالقيومية المتفرد بالديمومية الفرد الوحدانى الَّذِي لا إِلهَ يعبد بالحق ويرجع اليه في الخطوب والملمات إِلَّا هُوَ باستقلاله واستحقاقه وصمديته وقيوميته في ملكه وملكوته حسب مقتضيات أسمائه وصفاته إذ هو الْمَلِكُ المتفرد بالحكمة والاستيلاء التام والسلطنة الغالبة والبسطة القاهرة الْقُدُّوسُ البالغ في النزاهة الى أقصى الغاية والنهاية السَّلامُ السليم السالم عن مطلق النقائص ولوازم الاستكمال التي هي من لواحق الإمكان الْمُؤْمِنُ ذو الأمن والامان على عموم الأعيان والأكوان الْمُهَيْمِنُ المراقب المحافظ على مقتضيات استعدادات عموم البرايا بكمال
العدل والإحسان الْعَزِيزُ الغالب القادر المقتدر على عموم مراداته ومقدوراته على سبيل الفضل والامتنان الْجَبَّارُ على عموم من خرج عن ربقة رقيته وعروة عبوديته بالإنكار والطغيان الْمُتَكَبِّرُ المتنزه المتعالي عن كل امر يشينه من العجز والنقصان وبالجملة سُبْحانَ اللَّهِ اى تنزه وتعالى شأنه عن مطلق الشين والنقصان سيما عَمَّا يُشْرِكُونَ ويثبتون له المشركون المفرطون علوا كبيرا وكيف يشركون له غيره أولئك المفسدون المسرفون مع انه سبحانه
هُوَ اللَّهُ الْخالِقُ المتوحد المستقل بخلق الأشياء وتقديرها وإظهارها من كتم العدم ثم حسب حكمته المتقنة البالغة بالإرادة والاختيار الْبارِئُ الموجد لها بمقتضى اسمه الرحمن بلا تفاوت ونقصان الْمُصَوِّرُ الذي يصور الأشياء وأشكالها وأشباحها وهياكلها على أبدع شأن وابلغ نظام وبالجملة لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى التي لا تعد ولا تحصى يتجلى سبحانه على مقتضاها في كل آن لا يسبقها شأن مثله ولا يلحقها شأن كذلك وبالجملة لا يشغله شأن عن شأن لذلك يُسَبِّحُ لَهُ مظاهر ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وينزهه على الدوام عن كل ما لا يليق بشأنه وَبالجملة هُوَ الْعَزِيزُ الغالب القادر على عموم ما أحاط به حضرة علمه المحيط الْحَكِيمُ المدبر المتقن عموم أفعاله وآثاره على مقتضى علمه وإراداته بلا مدافعة احد ومظاهرته. جعلنا الله وإياكم ممن تحقق بوحدة ذاته سبحانه وانكشف بكمالات أسمائه وصفاته بمنه وجوده
خاتمة سورة الحشر
عليك ايها السالك المتحقق بمقر التوحيد المنكشف بوحدة الذات وبكمالات الأسماء والصفات الذاتية الإلهية مكنك الله في مقر عزك بلا تذبذب وتلوين ان تطالع آثار أسمائه الحسنى وصفاته العليا على صفائح الكائنات الغيبية والشهادية وتعتبر منها حسب استعدادك وقابليتك المودعة فيك من قبل الحق وإياك إياك ان تنحرف عن جادة العدالة الشرعية التي هي منتخبة عن العدالة الإلهية الواقعة بين مقتضيات أسمائه الذاتية وصفاته الفعلية ولك ان تطابق وتوافق عموم أعمالك واخلاقك واطوارك عليها بحيث لا تهمل شيأ من دقائقها ورقائقها إذ بقدر إهمالك من حدودها وأحكامها قد أحطت عن درجة التوحيد ومرتبة ارباب الوحدة الذاتية التي هي مرتبة الإنسان الكامل إذ الشريعة انما هي الوقاية الموضوعة بالوضع الإلهي بين الأنام ليوفقهم الحق بها الى دار السلام التي هي مقعد صدق الرضا والتسليم الذي هو أعلى مقامات العارفين وأقصى حالات الموحدين المكاشفين. هدانا الله وعموم عباده الى سواء السبيل وأعاذنا الله وإياهم عن الانحراف والتحويل بلطفه الجميل وكرمه الجزيل وهو حسبنا ونعم الوكيل
[سورة الممتحنة]
فاتحة سورة الممتحنة
لا يخفى على من تمكن بمقام التوحيد وانكشف بسرائر الوحدة الذاتية مقدار ما يسر الله له ووفقه عليه فضلا منه سبحانه وطولا ان من تقرر في مقر عز الوحدة لا بد ان يجتنب عن اصحاب الغفلة والكثرة المترددين في اودية الضلال بأنواع الحيرة والحسرة ويعيشون في بقعة الإمكان بأنواع الخيبة والخذلان فلا بد لأرباب التمكن والرسوخ من الموحدين المخلصين ان لا يصاحبوا معهم ولا يوالوهم موالاتهم مع الموحدين ولا يلتفتوا إليهم والى عموم أطوارهم وأحوالهم إذ عدوى البليد الى الجليد
Icon