تفسير سورة سورة نوح من كتاب التفسير المظهري
.
لمؤلفه
المظهري
.
المتوفي سنة 1216 هـ
سورة نوح
مكية وهي ثمان وعشرون آية
ﰡ
بسم الله الرحمان الرحيم
﴿ إنا أرسلنا نوحا إلى قومه ﴾ جيء بأن في ابتداء الكلام لإظهار الاهتمام وتقييد إرساله إلى قومه على أنه عليه السلام لم يكن مبعوثا إلى الناس كافة كما يدل عليه حديث جابر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( أعطيت خمسا لم يعطهن أحد قبلي نصرت بالرعب مسيرة شهر وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي وأعطيت الشفاعة وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة ) متفق عليه، وحديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :( فضلت على الأنبياء بست ) فذكر نحوه غير أنه لم يذكر ( وأعطيت الشفاعة ) وذكر فيه ( وأرسلت إلى الخلق كافة وختم بي النبوة ) رواه مسلم ﴿ أن أنذر قومك ﴾ أن مفسره لتضمن الإرسال معنى القول ويحتمل أن يكون مصدرية بمعنى بأن قلنا أنذر لا بمعنى بأن أنذر قومك فإنه يختبط الكلام بضمير الغيبة والخطاب ﴿ من قبل أن يأتيهم عذاب أليم ﴾ في الآخرة والطوفان إن لم يؤمنوا.
﴿ قال يا قوم إني لكم نذير مبين ٢ ﴾ أنذركم وأبين لكم ﴿ أن اعبدوا الله واتقوه ﴾ فلا تشركوا به شيئا ﴿ وأطيعون ﴾.
﴿ أن اعبدوا الله واتقوه ﴾ فلا تشركوا به شيئا ﴿ وأطيعون ﴾فيما آمركم به من التوحيد والطاعة لله.
﴿ يغفر لكم ﴾ مجزوم على جواب الأمر فإن الإيمان والطاعة سبب للمغفرة، عن عمرو بن العاص قال : أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت ابسط يمينك فلأبايعك فبسط يمينه فقبضت يديه فقال :( مالك يا عمر ؟ قلت : أردت أن أشترط، قال : تشترط ماذا ؟ قلت : أن يغفر لي، قال : أما علمت يا عمرو أن الإسلام يهدم ما كان قبله وأن الهجرة تهدم ما كان قبلها وأن الحج يهدم ما كان قبله ) رواه مسلم، وعن معاذ قال كنت ردف رسول الله صلى الله عليه وسلم على حمار ليس بيني وبينه إلا مؤخرة الرحل فقال :( يا معاذ هل تدري ما حق الله على عباده وما حق العباد على الله ؟ قلت : الله ورسوله أعلم، قال : فإن حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا وحق العباد على الله أن لا يعذب من لا يشرك به شيئا، فقلت : يا رسول الله أفلا أبشر به الناس ؟ قال : لا تبشرهم فيتكلوا ) متفق عليه، وعن أنس هذه القصة نحوه وفيه فأخبر بها معاذ عند موته تاثما متفق عليه ﴿ من ذنوبكم ﴾ من زائدة أو للتبعيض أي بعض ذنوبكم يعني ما هو حق الله تعالى ﴿ ويؤخركم ﴾ أي يعافيكم فلا يعاقبكم ﴿ إلى أجل مسمى ﴾ هو أقصى ما قدر لكم بشرط الإيمان والطاعة.
مسألة :
اعلم أن القضاء على نوعين قضاء مبرم ومعلق فالمعلق ما كتب في اللوح المحفوظ أن فلانا إن أطاع الله تعالى عوفي إلى مدة كذا مثلا وإن عصى الله يرسل عليه الطوفان مثلا أو غير ذلك وهذا النوع من القضاء يجوز تبديله بفقدان الشرط وهو معنى قوله تعالى :﴿ يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب ٣٩ ﴾ وعن سلمان الفارسي قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( لا يرد القضاء إلا الدعاء ولا يزيد في العمر إلا البر ) رواه الترمذي، والمبرم وهو المراد بقوله تعالى :﴿ لا تبديل لكلمات الله ﴾. ﴿ إن أجل الله ﴾ أي الأجل الذي قدره الله تعالى ﴿ إذا جاء ﴾ على الوجه المقدر به ﴿ لا يؤخر ﴾ فأما المبرم فلا يؤخر قط أما المعلق فلا يؤخر إن جاء على ما علق به فبادروا بالطاعات في أوقات الإمهال والتأخير قبل الأجل المبرم ولا ترتكبوا المعاصي الموجبة للتعذيب المفضية إلى الأجل المعلق. فإن قيل مذهب أهل السنة أن الأجل واحد لا يزيد ولا ينقص حتى قالوا المقتول ميت بأجله وما ورد في الحديث ( لا يزيد في العمر إلا البر ) تأويله عندهم أن البر يزيد بركات العمر بكثرة الثواب وما ذكرت يشبه مذهب المعتزلة ؟ قلنا : ليس كذلك بل المعتزلة ينكرون القدر ويجعلون القاتلون خالقا لموت المقتول ما ذكرت هو مذهب أهل السنة فإن معنى قولهم الأجل واحد لا يزيد ولا ينقص هو الأجل الثابت بالقضاء المبرم لا تبديل فيه لا يستقدمون ساعة ولا يستأخرون والمقتول ميت بأجله المبرم وإن كان التعليق في اللوح المحفوظ أنه إن قتله فلان مات وإلا لم يمت لكنه المبرم في القضاء أنه يقتله فلان البتة وأنه يموت في ذلك الوقت بقتله البتة ولا يوجد شرط بقاءه بعد ذلك الوقت البتة لا حاجة إلى تأويل الحديث، عن أبي خزامة عن أبيه قال : قلت : يا رسول الله صلى الله عليه وسلم أرأيت رقى نسترقيها ودواء نتداوى بها وتقاة نتقيها هل ترد من قدر الله شيئا ؟ قال :( هي من قدر الله ) رواه أحمد والترمذي وابن ماجه يعني أن الله تعالى قدر أنه يتداوى فيحصل له الشفاء بالدواء ﴿ لو كنتم تعلمون ﴾ يعني لو كنتم من أهل العلم والنظر لمصلحتهم وفيه أنهم لانهماكهم في الشهوات كأنهم كانوا شاكين في الموت، قال ابن عباس بعث نوح وهو ابن أربعين وعاش بعد الطوفان ستين سنة، وقال مقاتل : بعث وهو ابن مائة سنة وقيل : ابن خمسين سنة وقيل : مائتين وخمسين سنة وكان عمره ألفا وأربعمائة وخمسين سنة ولا شك في أنه لبث يدعو قومه ألف سنة إلا خمسين عاما.
وروى الضحاك عن ابن عباس أن قوم نوح كانوا يضربون نوحا حتى يسقط فيلقونه في بلد ويلقونه في بيت أنه قد مات فيخرج في اليوم الثاني ويدعوهم إلى الله سبحانه وتعالى، وحكى محمد بن إسحاق عن عبيد بن عمر الليثي أنه بلغه أنهم كانوا يبطشون بنوح عليه السلام فيخنقونه حتى تغشى عليه فإذا أفاق قال رب اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون. حتى إذا عادوا في المعصية واشتد عليه منهم البلاء انتظر النجل فلا يأتي قرن إلا كان أخبث من الذين قبلهم حتى كان الآخرون منهم ليقولن قد كان هذا مع آبائنا وأجدادنا هكذا مجنونا لا يقبلون منه شيئا فشكى إلى الله عز وجل ﴿ وقال ﴾ وفي الكلام حذف اختصارا تقديره قال نوح كذا فكذبوه فلم يزل نوح على دعوتهم والقوم على إنكاره حتى قال نوح ﴿ رب إني دعوت قومي ليلا ونهارا ﴾ أي دائما.
﴿ فلم يزدهم دعاءي ﴾ قرأ الكوفيون دعائي بإسكان الياء والباقون بالفتح ﴿ إلا فرارا ﴾ عن الإيمان والطاعة وإسناد الزيادة إلى الدعاء على السببية كقوله تعالى :﴿ فزادتهم إيمانا ﴾ ﴿ فزادتهم رجسا ﴾.
﴿ وإني كلما دعوتهم ﴾ إلى الإيمان ﴿ لتغفر لهم ﴾ بسبب الإيمان ﴿ جعلوا أصابعهم في آذانهم ﴾ سدوا مسامعهم عن استماع الدعوة ﴿ واستغشوا ثيابهم ﴾ يغطوا بها لئلا يروا ﴿ وأصروا ﴾ على الكفر والمعاصي ﴿ واستكبروا استكبارا ﴾ عظيما.
﴿ ثم إني دعوتهم جهارا ٨ ﴾ منصوب على المصدرية لأنه أحد نوعي الدعاء أو صفة مصدر محذوف أي دعاء جهارا أي مجاهرا به أو عن الحال بمعنى مجاهرا.
﴿ ثم إني ﴾ قرأ الكوفيون وابن عامر بإسكان الياء والباقون بالفتح ﴿ أعلنت لهم وأسررت لهم إسرارا ﴾ وكلمة ثم لتفاوت الوجوه فإن الجهار أغلظ من الإسرار والجمع بينهما أغلظ من الإفراد والتراخي بعضها عن بعض.
﴿ فقلت ﴾ بيان لقوله دعوتهم، وقال البغوي إن قوم نوح لما كذبوه زمانا طويلا حبس الله عنهم المطر وأعقم أرحام نسائهم أربعين سنة فهلكت أولادهم وأموالهم ومواشيهم فحينئذ قال لهم نوح عليه السلام ﴿ استغفروا ربكم ﴾ بالتوبة عن الكفر والندم عن المعاصي وتركها فيما يستقبل ﴿ إنه كان غفارا ﴾ للتائبين تعليل لقوله استغفروا.
﴿ يرسل السماء ﴾ أي المطر تسمية الحال باسم المحل ﴿ عليكم مدرارا ﴾ حال من السماء أي كثير دره ويستوي في هذا البيان المذكر والمؤنث ويرسل مع ما عطف عليه مجزوم في جواب الأمر بالاستغفار فدل على أن الاستغفار سبب للمطر وغير ذلك من النعم الدنيوية ودفع البلاء إما عموما أو في مادة مخصوصة حيث كان نزول البلاء نقمة الشؤم المعاصي كما كان في قوم نوح عليه السلام وكما يدل عليه قوله تعالى :﴿ وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ﴾ أما إذا كان ذلك نعمة لرفع الدرجات فلا كما كان بأيوب عليه السلام وغيره من الأنبياء، وعن سعيد قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( أشد الناس بلاؤه الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل يبتلى الرجل على حسب دينه فإن كان في دينه صلبا اشتد بلائه وإن كان في دينه دقة ابتلي حسب دينه فما يبرح البلاء بالعبد حتى يتركه يمشي على الأرض وما عليه خطيئة ) رواه أحمد والبخاري والترمذي وابن ماجه، ورواه البخاري في التاريخ عن بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم بلفظ ( أشد الناس بلاء في الدنيا نبي أو صفي ) روى الحاكم في المستدرك وابن ماجه وعبد الرزاق عن أبي سعيد نحوه وفيه ( ولأحدهم كان أشد فرحا بالبلاء من أحدكم بالعطاء ) ويمكن أن يقال : قحط المطر بلاء عام لا يتصور إلا بشؤم المعاصي من العوام فالاستغفار سبب للمطر عموما ومن ثم شرع الاستغفار في الاستسقاء، روى مطرف عن الشعبي أن عمر خرج يستسقي بالناس فلم يزد على الاستغفار حتى رجع فقيل له سمعناك استسقيت فقال : طلبت الغيث مجاري السماء الذي يستنزل بها القطر ثم قرأ :﴿ استغفروا ربكم إنه كان غفارا يرسل السماء عليكم مدرارا ١١ ويمددكم بأموال وبنين ﴾.
﴿ ويمددكم بأموال وبنين ﴾ قال عطاء يكثر أموالكم وأولادكم ﴿ ويجعل لكم جنات ﴾ بساتين ﴿ ويجعل لكم أنهارا ﴾ يعني كما كانت من قبل تكذيب نوح عليه السلام.
﴿ ما لكم لا ترجون لله وقارا ١٣ ﴾ ما استفهامية مبتدأ ولكم خبره وجملة لا ترجون حال من ضمير المخاطب والعامل معنى الفعل أي ما تصنعون لا ترجون ولله حال من وقارا قدم على ذي الحال لنكارته والوقار بمعنى العظمة اسم من التوقير بمعنى العظيم، قال ابن عباس ومجاهد لا ترون لله عظمة في الرجاء بمعنى الاعتقاد عر عن الاعتقاد بالرجاء الذي يتبع أدنى الظن مبالغة، وقال الكلبي معناه لا تخافون لله عظمة فالرجاء على هذا بمعنى الخوف وقال الحسن لا تعرفون لله حقا ولا تشكرون له نعمة، وقال ابن كيسان ما لكم لا ترجون في عبادة أن يثيبكم على توقيركم إياه جزاء ويحتمل أن يكون المعنى ما لكم لا ترجون في عبادة الله تعظيم إياكم ولله بيان للموقر.
﴿ وقد خلقكم أطوارا ١٤ ﴾ أي تارات حالا بعد حال خلقكم عناصر ثم مركبات أغذية للإنسان ثم أخلاطا ثم نطفا ثم علقا ثم مضغا ثم عظاما ولحوما ثم أنشأكم خلقا آخر أي خلقا إنسانا بنفخ الروح فتبارك الله أحسن الخالقين ثم يميتكم ويقبركم ثم يعيدكم أحياء تارة أخرى فيعظم المطيع منكم بالثواب ويعاقب العاصي، والجملة حال من فاعل ترجون أو من الله.
ثم أتبع ذكر آيات في الأنفس بآيات في الآفاق فقال ﴿ ألم تروا ﴾ مجاز عن التعجيب ﴿ كيف ﴾ استفهام للاستعظام حال عن الفاعل أو المفعول من الجملة التالية قدم لاقتضاء صدر الكلام ﴿ خلق الله سبع سماوات طباقا ﴾ بعضهن فوق بعض وبين كل من السافل والعالي مسيرة خمسمائة سنة كما دل عليه الأحاديث وذكر فيما قبل.
﴿ وجعل القمر فيهن نورا ﴾ أي في بعضهن وهي السماء الدنيا كما يقال نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم في دور بني النجار، قال البغوي قال عبد الله بن عمرو إن الشمس والقمر وجوههما إلى السموات وضوء الشمس والقمر فيهن يعني كليهن وأشعتهما إلى الأرض ويروى هذا عن ابن عباس ﴿ وجعل الشمس سراجا ﴾ مثلها به لأنها تزيل الظلمة عما تقابله كما يريلها السراج عما حوله وإنما مثل الشمس بالسراج مع كون السراج أدنى منها ضياء لظهور أمر السراج في أذهان السامعين وفقد ما يمثل به غيره ولعله في قوله تعالى :﴿ وجعل القمر فيهن نورا وجعل الشمس سراجا ١٦ ﴾ إشعار بأن نور القمر مستفاد من الشمس فإن النور إنما يستفاد من السراج.
﴿ والله أنبتكم ﴾ كرر اسم الله تعالى ولم يكتف بالضمير التذاذا باسم المحبوب وإظهارا لمقصوده أي أنشأكم فاستعير الإنبات للإنشاء لأنه أدل على الحدوث ﴿ من الأرض ﴾ بأن خلق أباكم آدم منها أو بأنه خلقكم من النطف والنطف من الغذاء المنبت من الأرض ﴿ نباتا ﴾ مصدر من غير ما به نحو ﴿ تبتل إليه ﴾ وقيل اسم جعل موضع المصدر أو هو مفعول مطلق لفعل محذوف تقديره والله أنبتكم فنبتم نباتا فاقتصر اكتفاء بالدلالة الالتزامية.
﴿ ثم يعيدكم فيها ﴾ مقبورين بعد الموت ﴿ ويخرجكم ﴾ بالحشر ﴿ إخراجا ﴾ أكده بالمصدر كما أكد به الأول للدلالة على تحقيق البعث كالبدأ.
﴿ والله جعل لكم الأرض بساطا ١٩ ﴾ تنقلبون عليها.
﴿ لتسلكوا منها سبلا فجاجا ٢٠ ﴾ واسعة جمع فج ومن لتضمن الفعل معنى الاتخاذ.
﴿ قال نوح رب إنهم عصوني ﴾ فيما أمرتهم وهذه الجملة بمنزلة التأكيد لما سبق من قوله تعالى :﴿ قال رب إني دعوت قومي ليلا ونهارا ٥ فلم يزدهم دعاءي إلا فرارا ٦ ﴾ الخ قال مآل الجملتين واحد إذ الفرار عن الدعاء وسد المسامع وتغطية الأبصار هو عين العصيان أو من موجباته ولذا لم يذكر العاطف بين قال وقال وإنما كرر القول بالعصيان مع ذكره فيما سبق لأن سوق الكلام الأول لبيان أدائه فريضة التبليغ على أبلغ الوجوه وسوق هذا الكلام ليكون تمهيدا للدعاء عليهم ﴿ واتبعوا ﴾ أي السفلة منهم ﴿ من لم يزده ماله وولده إلا خسارا ﴾ أي رؤساؤهم البطرين بأموالهم المغترين بأولادهم بحيث صار ذلك سببا لزيادة خسارهم في الآخرة، قرأ نافع وعاصم وابن عامر ولده بفتح الواو واللام والباقون بضم الواو وسكون اللام على أنه لغة كالحزن أو جمع كالأسد.
﴿ ومكروا ﴾ عطف على من لم يزده والضمير لمن وجمعه المعنى أو على اتبعوا ﴿ مكرا كبارا ﴾ هو أشد مبالغة في الكبر من الكبار بلا تشديد وهو من الكبير يعني مكروا مكرا كبيرا في غاية الكبر وذلك احتيالهم في الدين، والمكر من الرؤساء تحريش الناس على أذى نوح والكفر بالله ومن السفلة القيام على أنواع إيذائه.
﴿ وقالوا ﴾ أي قال بعضهم لبعض عطف على مكروا على الوجهين ﴿ لا تذرن آلهتكم ﴾ أي عبادتها ﴿ ولا تذرن ودا ﴾ قرأ نافع ودا بضم الواو والباقون بفتحها ﴿ ولا سواعا ولا يغوث ويعوق ونسرا ﴾ تخصيص بعد التعمم لزيادة الاهتمام، قال البغوي قال محمد بن كعب هذه أسماء قوم صالحين كانوا بين آدم ونوح فلما ماتوا كان لهم أتباع يقتدون لهم ويأخذون بعدهم مأخذهم في العبادة فجاءهم إبليس وقال لهم لو صورتم صورهم كان أنشط لكم وأشوق إلى العبادة ففعلوه ثم نشأ قوم بعدهم فقال لهم إبليس إن الذين من قبلكم كانوا يعبدونهم فعبدوهم فابتدأ عبادة الأوثان كان من ذلك وسميت تلك الصور بهذه الأسماء. وقال عطاء عن ابن عباس صارت الأوثان التي كانت تعبد في قوم نوح في العرب بعد أما ود فكانت لكلب بدومة الجندل وأما سواع فكانت لهذيل وأما يغوث فكانت لمرو ثم لبني غطيف بالجرف عند سبأ وأما يعوق فكانت لهمدان وأما نسر فكانت لحمير لآل ذي الكلاع فهذه أسماء رجال صالحين من إسلام قوم نوح فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون أنصابا وسموها بأسمائهم ففعلوا فلم تعبد حتى إذا هلك أولئك عبدت، وروي عن ابن عباس أن تلك الأوثان رفنها الطوفان وطمها التراب فلم تزل مدفونة حتى أخرجها الشيطان لمشركي مكة.
﴿ وقد أضلوا ﴾ أي الأوثان أو رؤساء قوم نوح ﴿ كثيرا ﴾ من الناس والإسناد إلى الأوثان مجاز كما في قوله تعالى :﴿ رب إنهن أضللن كثيرا من الناس ﴾ حيث أضلهم الشيطان بسببها والجملة إما حال من فاعل قالوا أو من مفعول لا تذرن وإما معترضة ﴿ ولا تزد الظالمين ﴾ أي الكافرين ﴿ إلا ضلالا ﴾ أي هلاكا وضياعا كقوله تعالى :﴿ إن المجرمين في ضلال وسعر ٤٧ ﴾ أو المراد بالضلال عدم اهتدائهم إلى ما أرادوا بمكرهم أو إلى مصالح دنياهم والجملة معطوفة على مقولة ﴿ قال رب إنهم عصوني ﴾ يعني قال نوح هذا القول فهو في المعنى من قبيل عطف المفرد على المفرد لا عطف إلا نشاء على الخير.
﴿ مما خطيئاتهم ﴾ على قراءة الجمهور وقرأ أبو عمر وخطاياهم ما مزيدة للتأكيد والتفخيم ومن للسببية متعلق بأغرقوا أي من أجل خطاياهم ﴿ أغرقوا ﴾ بالطوفان ﴿ فأدخلوا نارا ﴾ في عالم البرزخ المسمى بالقبر فإنه روضة من رياض الجنة أي حفرة من حفرات النيران فهذه الآية دليل على إثبات عذاب القبر لأن الفاء للتعقيب وصيغة أدخلوا للماضي خلافا للمعتزلة وغيرهم من أهل الهواء قالوا في تأويل هذه الآية أنه أورد بفاء التعقيب لعدم اعتداد لما بين الإغراق والإدخال أو لأن المسبب كالمتعقب للسبب وصيغة الماضي لأن المتيقن كالواقع، قلنا : الأصل في الكلام الحقيقة وهذه التأويلات على المجاز فلا يجوز بلا دليل كيف وقد دلت من الأحاديث ما لا يحصى على عذاب القبر على عذاب القبر وانعقد عليه إجماع السلف. عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( إن العبد إذا وضع في قبره وتولى عنه أصحابه إنه ليسمع قرع نعالهم أتاه ملكان فيقعدانه فيقولان ما كنت تقول في هذا الرجل ؟ لمحمد صلى الله عليه وسلم فأما المؤمن فيقول : أشهد أنه عبد الله ورسوله فيقال له انظر إلى مقعدك من النار قد أبدلك الله به مقعدا من الجنة فيراهما جميعا، وأما المنافق والكافر فيقال له ما كنت تقول في هذا الرجل ؟ فيقول : لا أدري كنت أقول ما يقول الناس فيقال : لا دريت ولا تليت ويضرب بمطارق من حديد ضربة فيصيح صيحة يسمعها من يليه غير الثقلين ) متفق عليه، وعن عائشة قالت : ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا تعوذ بالله من عذاب القبر متفق عليه، وعن عثمان أنه كان إذا وقف على قبر بكى حتى يبل لحيته فقيل له تذكر الجنة فلا تبكي وتبكي من هذا ؟ فقال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :( إن القبر أول منزلة من منازل الآخرة فإن نجا منه فما بعده أيسر منه وإن لم ينج منه فما بعده أشد منه ) وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( ما رأيت منظرا قط إلا والقبر أفظع منه ) رواه الترمذي وابن ماجه، وعن أبي سعيد قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( يسلط على الكافر في قبره تسع وتسعين تنينا تنهشه وتلدغه حتى تقوم الساعة ولو أن تنينا منها نفخ في الأرض ما أنبتت خضراء ) رواه الدارمي، وروى الترمذي نحوه وقال :( سبعون ) بدل تسعة وتسعون، وتنكير نارا للتعظيم أو لأن المراد نوع من النيران غير نار جهنم وجملة أغرقوا مع ما عطف عليه استئناف كأنه في جواب ما فعل لهم إذا اشتكى نوح إلى الله عصيانهم ﴿ فلم يجدوا لهم من دون الله أنصارا ﴾ أي لا يجد أحد منهم أحدا ينصرهم فإن مقابلة الجمع بالجمع يقتضي انقسام الآحاد على الآحاد واحد نكرة في حيز النفي يعم والجملة تعريض لهم باتخاذ آلهة من دون الله لا يقدر على نصرهم.
﴿ وقال نوح ﴾ عطف على قال نوح رب إنهم عصوني ﴿ رب لا تذر على الأرض ﴾ أي أرض قومه واللام للعهد ﴿ من الكافرين ديارا ﴾ أحدا يسكن دارا وهو نكرة في حيز النفي فيعم فيقال أصله ديوار أدغم الياء بالواو بعد قلبه ياء على طريقة سيد لإفعال وإلا فكان دوارا.
﴿ إنك إن تذرهم ﴾ تعليل للدعاء عليهم ﴿ يضلوا ﴾ أي يريدوا إضلال ﴿ عبادك ﴾ المؤمنين ﴿ ولا يلدوا إلا فاجرا كفارا ﴾ قال محمد بن كعب ومقاتل والربيع إنما قال نوح هذا الدعاء على قومه حين أخرج كل مؤمن من أصلابهم وأرحام نسائهم ويأس أصلاب رجالهم قبل العذاب بأربعين سنة وقيل : تسعين سنة فأخبر الله نوحا أنهم لا يؤمنون ولا يلدون مؤمنا ولم يكن فيهم صبر وقت العذاب لأن الله تعالى قال :﴿ وقوم نوح لما كذبوا الرسل أغرقناهم ﴾ ولا يوجد التكذيب من الأطفال وبهذا يستدل على أن الطوفان لم يستغرق الأرض كلها بل قومه فقط كيلا يلزم التعذيب من غير تكذيب.
﴿ رب اغفر لي ولوالدي ﴾ كان اسم أبيه ملك بن متوشخ واسم أمه سمجار بنت أتوش وكانا مؤمنين ﴿ ولمن دخل بيتي ﴾ قرأ بفتح الياء حفص وهشام والباقون بالإسكان أي منزلي وقال الضحاك مسجدي وقيل : سفينتي ﴿ مؤمنا ﴾ قبل خرج بهذا إبليس فإنه كان دخل في سفينة ﴿ وللمؤمنين والمؤمنات ﴾ إلى يوم القيامة ﴿ ولا تزد الظالمين ﴾ أي الكافرين ﴿ إلا تبارا ﴾ أي هلاكا واستجاب الله تعالى دعاءه.