تفسير سورة المدّثر

كشف التنزيل في تحقيق المباحث والتأويل
تفسير سورة سورة المدثر من كتاب كشف التنزيل في تحقيق المباحث والتأويل .
لمؤلفه أبو بكر الحداد اليمني . المتوفي سنة 800 هـ

﴿ ياأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنذِرْ ﴾ ؛ قال مقاتلُ :" ذلِكَ أنَّ النَّبيَّ ﷺ كَانَ يَسِيرُ إلَى جَبَلِ حِرَاءَ، إذْ سَمِعَ مُنَادِياً يُنَادِي مِنْ فَوْقِ رَأسِهِ يَقُولُ : يَا مُحَمَّدُ، فَنَظَرَ مِنْ خَلْفِهِ يَمِيناً وَشِمَالاً فَلَمْ يَرَ شَيْئاً، فَمَضَى عَلَى وَجْهِهِ، ثُمَّ نُودِيَ الثَّانِيَةَ، فَنَظَرَ كَذلِكَ فَلَمْ يَرَ شَيْئاً فَفَزِعَ، فَمَضَى عَلَى وَجْهِهِ، فَنُودِيَ الثَّالِثَةَ فَنَظَرَ إلَى خَلْفِهِ يَمِيناً وَشِمَالاً، ثُمَّ نَظَرَ إلَى السَّمَاءِ فَنَظَرَ مِثْلَ السَّرِيرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ عَلَيْهِ جِبْرِيل مِثْل النُّور المتوقِّد يتلأْلأُ، فَفَزِعَ فَوَقَعَ مَغْشِيّاً عَلَيْهِ، ثُمَّ أفَاقَ فَقَامَ يَمْشِي وَرجْلاَهُ تصْطَكَّانِ.
فَرَجَعَ حَتَّى دَخَلَ عَلَى خَدِيجَةَ، فَصَبَّ عَلَيْهِ مَاءً بَارداً، فَقَالَ :" دَثِّرُونِي دَثِّرُونِي " فَدَثَّرُوهُ بقَطِيفَةٍ حَتَّى اسْتَدْفَأَ ؛ فَلَمَّا أفَاقَ، قَالَ :" لَقَدْ أشْفَقْتُ عَلَى نَفْسِي " فَقَالَتْ خَدِيجَةُ : أبْشِرْ فَلاَ يُخْزِيكَ اللهُ أبَداً، إنَّكَ لَتَصْدُقُ الْحَدِيثَ، وَتَصِلُ الرَّحِمَ، وَتَحْمِلُ الْكَلَّ، وَتُقَوِّي الضَّعِيفَ، وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِب الْحَقِّ.
فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ عليه السلام وَهُوَ مُدَّثِّرٌ بثِيَابهِ عَلَى فِرَاشِهِ لَيْلاً، فَقَالَ : يَا أيُّهَا الْمُدَّثِّرُ بثِيَابهِ مُضْطَجِعاً عَلَى فِرَاشِهِ قُمْ فَأَنْذِرْ كُفَّارَ مَكَّةَ الْعَذابَ أنْ يُوَحِّدُوا رَبَّكَ، وَادْعُهُمْ إلى الصَّلاَةِ وَالتَّوْحِيدِ " والدِّثَارُ : ما تَدَثَّرْتَ به من الثَّوب الخارجِ. والشِّعَارُ : الثَّوبُ الذي يَلِي الجسدَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ ﴾ ؛ أي صِفْهُ بالتَّعظيمِ، وعَظِّمْهُ مما يقولهُ عبَدَةُ الأوثانِ، ويقالُ : أرادَ به التكبيرَ لافتتاحِ الصَّلاة. قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ ﴾ أي طهِّرْ ثيابَكَ من النَّجاسة لإقامةِ الصَّلاة. وَقِيْلَ : معناهُ : طهِّرْ نفسَكَ وخُلُقَكَ عمَّا لا يجمل بكَ. وَقِيْلَ : معناهُ : وقلبَكَ فطَهِّرْ، وقد يعبَّرُ بالثوب عن القلب. وَقِيْلَ : معناهُ : وعمَلَك فأَصلِحْهُ، قال السديُّ :(يُقَالُ لِلرَّجُلِ إذا كَانَ صَالِحاً أنَّهُ طَاهِرُ الثِّيَاب، وإذا كَانَ فَاجراً أنه خبيثُ الثياب).
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ ﴾ ؛ أي والإثمَ فاتركْهُ ولا تقرَبه. وَقِيْلَ : معناهُ : والأصنامَ فتباعَدْ عنها، والرُّجْزُ في اللغة : العذابُ، والمعنى في هذا : فاهجُرْ ما يُؤذيكَ إلى عذاب الله. قرأ الحسنُ وعكرمة ومجاهد وشيبة ويعقوب (وَالرُّجْزَ) بمضمِّ الراء ومثلهُ رُوي عن عاصمٍ، وقرأ الباقون بكسرِها، وهما لُغتان.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَلاَ تَمْنُن تَسْتَكْثِرُ ﴾ ؛ معناه : لا تُعْطِ شيئاً من مالِكَ لتأخُذ أكثرَ منه، والمعنى : لا تُعْطِ مالَكَ مُصانعةً لتُعطى أكثرَ منه في الدُّنيا، أعطِ لربكَ. أدَّبَ اللهُ نبيَّهُ ﷺ بأشرفِ الآداب. وَقِيْلَ : معناه : لا تَمْنُنْ بالنبوَّةِ على الناسِ تستكثِرُ عملَكَ. وَقِيْلَ : معناهُ : لا تُعْطِ شيئاً وتعطِي أكثر من ذلك، وهذا للنبيِّ ﷺ خاصَّة لأنه كان في أعلَى مكارمِ الأخلاق، كما حَرُمَتْ عليه الصدقةُ، وأمَّا غيرهُ فليس عليه إثْمٌ في أنْ يُهدِي هديَّةً يتوقَّعُ بها الكثيرَ منها. قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ ﴾ ؛ على طاعتهِ وفرائضه، والمعنى : لأجل ثواب ربكَ. وقِيْلَ : معناهُ : فاصبرْ على الأذى والتكذيب. وَقِيْلَ : فاصبرْ على البلوَى والامتحانِ، فإنَّ اللهَ يمتحنُ أحبَّاءَهُ وأصفياءَهُ.
وقولهُ تعالى :﴿ فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ ﴾ ؛ أي فإذا نُفِخَ في الصُّور النفخةَ الثانية، ﴿ فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ ﴾ ؛ يعني يومَ النفخِ في الصُّور يومٌ عسير، ﴿ عَلَى الْكَافِرِينَ ﴾، منه الأمرُ على الكفَّار، وقوله :﴿ غَيْرُ يَسِيرٍ ﴾ ؛ بدلٌ من يومٍ عسير ؛ أي لا يكون هَيِّناً عليهم.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً ﴾ ؛ يعني الوليدَ بن المغيرةِ المخزومي خلَقتهُ في بطنِ أُمِّه وَحيداً فَريداً لا مالَ له ولا ولدَ ؛ أي كِلْ إلَيَّ أمرَ مَن خلقتهُ فَريداً بلا مالٍ ولا ولدٍ، ﴿ وَجَعَلْتُ لَهُ ﴾ ؛ ثم أعطيتهُ بعد ذلك، ﴿ مَالاً مَّمْدُوداً ﴾ ؛ أي كثيراً يُمَدُّ بالنَّماء كالزرعِ والضَّرع والتجارةِ، قال عطاءُ :(مَا بَيْنَ مَكَّةَ إلَى الطَّائِفِ مِنَ الإبلِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَعَبيدٍ وَجَوَارٍ). وَقِيٍل : معنى قولهِ ﴿ مَالاً مَّمْدُوداً ﴾ يأتِي شَيئاً بعدَ شيءٍ غيرُ منقطعٍ.
وقد اختلَفُوا في مبلغِ ماله، قال مجاهدُ وسعيد بن جبير :((مِائَةُ ألْفِ مِثْقَالٍ))، وقال سفيانُ الثوري :((ألْفُ ألْفُ مِثْقَالٍ))، وقال مقاتلُ :((كَانَ لَهُ بُسْتَانٌ فِي الطَّائِفِ لا َتَنْقَطِعُ ثِمَارُهَا شِتَاءً وَلاَ صَيْفاً)).
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَبَنِينَ شُهُوداً ﴾ ؛ أي حُضوراً معه بمكَّة لا يغِيبون عنه، قال سعيدُ بن جبير :((كَانُوا ثَلاَثَةَ عَشَرَ وَلَداً))، وقال مجاهدُ :((كَانُوا عَشْرَةً كُلُّهُمْ ذُكُورٌ، مِنْهُمُ الْوَلِيدُ بْنُ الْوَلِيدِ، وَخَالِدُ بْنُ الوَلِيدِ ؛ وَعُمَارَةُ وَهَاشِمُ بْنُ الْوَلِيدِ ؛ وَالْعَاصِي وَقَيْسُ بْنُ الْوَلِيدِ ؛ وَعَبْدُ شَمْسِ بْنِ الْوَلِيدِ، فَأَسْلَمَ مِنْهُمْ ثَلاَثَةٌ خَالِدُ وَهَاشِمُ وَعُمَارَةُ). وقالوا : فما زالَ الوليدُ بعد نزولِ هذه الآية في نُقصان من مالهِ وولده حتى هلكَ.
وانتصبَ قوله ﴿ وَحِيداً ﴾ على الحالِ. ويجوزُ أن يكون صفةَ المخلوق على معنى خلقتهُ وحده، ويجوز أنْ يكون من صفةِ الخالقِ على معنى خلقتهُ وَحدِي لم يُشرِكني في خلقهِ أحدٌ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَمَهَّدتُّ لَهُ تَمْهِيداً ﴾ ؛ أي بسَطتُ له في العيشِ وطولِ العمر بَسطاً، ﴿ ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ ﴾ ؛ معناهُ : ثم يطمعُ أن أزيدَ له في المالِ والولد، وقد كفَرَ بي وبرسولِي، ﴿ كَلاَّ ﴾، لا أزيدهُ، لم يزَلِ الوليدُ بعد هذا في نُقصانٍ من المالِ والحال حتى صارَ يسألُ الناسَ وماتَ فقيراً. وقوله تعالى :﴿ إِنَّهُ كان لآيَاتِنَا عَنِيداً ﴾ ؛ معناهُ : إنه كان لكِتابنا ورَسُولنا مُعانِداً، والعنيدُ : الذاهبُ عن الشيءِ على طريقِ العدَاوة، والْجَمَلُ العنودُ : هو الذي يَمُرُّ على جانبٍ من القطار.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً ﴾ ؛ أي سأُكَلِّفهُ في النار ارتقاءَ الصَّعود، وهو جبلٌ من صخرةٍ ملساءَ في النَّار، يُكلَّفُ الكافرُ أن يَرتَقِيَهُ حتى إذا بلغَ أعلاهُ في أربعين عَاماً، كُلَّما وضعَ يده عيه ذابَتْ، وإذا رفَعها عادَتْ. وعن أبي سعيدٍ الخدري قال : قالَ رسولُ اللهِ ﷺ :" الصَّعُودُ جَبَلٌ مِنْ نَارٍ، يُصْعَدُ فِيْهِ سَبْعِينَ خَرِيفاً ثمَّ يَهْوِي كَذلِكَ مِنْهُ أبَداً، كُلَّمَا وَضَعَ يَدَهُ عَلَيْهَا ذابَتْ وَإذا رَفَعَهَا عَادَتْ، وَإذا وَضَعَ رجْلَهُ ذابَتْ وَإذا رَفَعَهَا عَادَتْ، وَكُلَّمَا بَلَغَ أعْلَى ذلِكَ الْجَبَلِ انْحَدَرَ إلَى أسْفَلِهِ، ثُمَّ يُكَلَّفُ أيْضاً أنْ يَصْعَدَ، فَذلِكَ دَأبُهُ أبَداً يُجْذبُ مِنْ أمَامِهِ بسَلاَسِلِ الْحَدِيدِ، وَيُضْرَبُ مِنْ خَلْفِهِ بمَقَامِعِ الْحَدِيدِ مَسَافَةَ كُلِّ صُعُودٍ أرْبَعُونَ سَنَةً ".
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ ﴾ ؛ معناهُ : إنه فكَّرَ في أمرِ النبيِّ ﷺ في احتيالهِ للباطلِ، وقدَّرَ القولَ فيه، وَقِيْلَ : معناهُ : تفكر ماذا تقولُ في القرآنِ ؟ وقدَّرَ القولَ في نفسهِ، وذلك أنه لَمَّا نَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ حـم * تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ * غَافِرِ الذَّنبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ ﴾[غافر : ١-٣] قَامَ رَسُولُ اللهِ ﷺ وَالْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ قَرِيباً مِنْهُ يَسْتَمِعُ قِرَاءَتَهُ، فَلَمَّا نَظَرَ النَّبِيُّ ﷺ اسْتِمَاعَهُ إلَى قِرَاءَتِهِ عَادَ إلَى قِرَاءَةِ الآيَةِ، فَانْطَلَقَ الْوَلِيدُ حَتَّى أتَى مَجْلِسَ قَوْمِهِ بَنِي مَخْزُومَ وَقَالَ : وَاللهِ لَقَدْ سَمِعْتُ مِنْ مُحَمَّدٍ الآنَ كَلاَماً مَا هُوَ مِنْ كَلاَمِ الإنْسِ وَلاَ مِنْ كَلاَمِ الْجِنِّ، إنَّ لَهُ لََحَلاَوَةً وَلَطَلاَوَةً، وَإنَّ أعْلاَهُ لَمُثْمِرٌ وَإنَّ أسْفَلَهُ لِمُغْدِقٌ، وَإنَّهُ يَعْلُو وَلاَ يُعْلَى.
ثُمَّ انْصَرَفَ إلَى مَنْزِلِهِ، فَقَالَتْ قُرَيْشُ : صَبَأَ وَاللهِ الْوَلِيدُ، وَاللهِ لَتَصْبَأَنَّ قُرَيْشٌ كُلُّهَا، وَكَانَ يُقَالُ لِلْوَلِيدِ رَيْحَانَةُ قُرَيْشٍ، فَقَالَ أبُو جَهْلٍ : أنَا أكْفِيكُمُوهُ، ثُمَّ انْطَلَقَ فَقَعَدَ إلَى جَنْبهِ حَزِيناً، فَقَالَ لَهُ الْوَلِيدُ : مَا لِي أرَاكَ حَزِيناً يَا ابْنَ أخِي ؟ قَالَ : وَمَا لِي لاَ أحْزَنُ وَهَذِهِ قُرَيْشُ يَجْمَعُونَ لَكَ نَفَقَةً يُعِينُونَكَ عَلَى كِبَرِ سِنِّكَ، يَزْعُمُونَ أنَّكَ زَيَّنْتَ كَلاَمَ مُحَمَّدٍ وَتَدْخُلُ إلَيْهِ وَإلَى أبْنِ أبي قُحَافَةَ لِتَنَالَ مِنْ فَضْلِ طَعَامِهِمْ. فَغَضِبَ الْوَلِيدُ وَقَالَ : ألَمْ تَعْلَمْ قُرَيْشٌ أنِّي مِنْ أكْثَرِهِمْ مَالاً وَوَلَداً ؟ وَهَلْ يَشْبَعُ مُحَمَّدٌ وَأصْحَابُهُ مِنَ الطَّعَامِ حَتَّى يَكُونَ لَهُمْ فَضْلٌ؟
ثُمَّ قَامَ مَعَ أبي جَهْلٍ حَتَّى أتَى مَجْلِسَ قَوْمِهِ، فَقَالَ لَهُمْ : إنَّ الْمَوْسِمَ قَدْ دَنَا، وَقَدْ فَشَا أمْرُ هَذا الرَّجُلِ فِي النَّاسِ، فَمَا أنْتُمْ قَائِلُونَ لِمَنْ سَأَلَكُمْ عَنْهُ ؟ قَالُواْ : نَقُولُ إنَّهُ مَجْنُونٌ ؛ قَالَ : إذاً يُخَاطِبُونَهُ فَيَعْلَمُونَ أنَّهُ غَيْرُ مَجْنُونٍ. فَقَالُواْ : نَقُولُ إنَّهُ شَاعِرٌ ؛ قَالَ : الْعَرَبُ يَعْلَمُونَ الشِّعْرَ وَيَعْلَمُونَ أنَّ الَّذِي جَاءَ بهِ غَيْرُ الشِّعْرِ. فَقَالُواْ : نَقُولُ إنَّهُ كَاهِنٌ ؛ فَقَالَ : إنَّ الْكَاهِنَ يُصِيبُ وَيُخْطِئُ وَلاَ يَقُولُ فِي كِهَانَتِهِ : إنْ شَاءَ اللهُ، وَهَذا يَقُولُ فِي كَلاَمِهِ : إنْ شَاءَ اللهُ، وَقَوْلُهُ لاَ يُشْبهُ قَوْلَ الْكَهَنَةِ. فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ : قَدْ صَبَأَ الْوَلِيدُ، فَإنْ صَبَأَ فَلَمْ يَبْقَ وَاحِدٌ مِنْ قُرَيْشٍ إلاَّ صَبَأَ.
فَقِيلَ لَهُ : كَيْفَ تَقُولُ أنْتَ يَا أبَا الْمُغِيرَةَ فِي مُحَمَّدٍ، فَتَفَكَّرَ فِي نَفْسِهِ ثُمّ نَظَرَ، ثُمَّ عَبَسَ وَقَالَ : مَا هُوَ إلاَّ سَاحِرٌ مَا رَأيْتُمُوهُ يُفَرِّقُ بَيْنَ الرَّجُلِ وَأهْلِهِ وَوَلَدِهِ وَمَوَالِيهِ بسِحْرِهِ، ألاَ تَرَوْنَ أنَّهُ يُفَرِّقُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ، فَإنَّ الْمَرْأةَ تَكُونُ مَعَنَا وَيَكُونُ زَوْجُهَا مَعَهُ! فَتَفَرَّقُوا عَلَى هَذا الْقَوْلِ.
ومعنى الآية : إنه فكَّرَ لِمُحَمَّدٍ بتُهْمَةٍ يتعلَّقُ بها في تكذيبهِ، وقدَّرَ لينظُرَ فيما قدَّرهُ أستُقِيمَ له أنْ يقولَهُ أم لا ؟ قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ ﴾ ؛ أي لُعِنَ وعُذِّبَ على أيِّ حالٍ قدَّرَ من الكلامِ، كما يقالُ : لأَعرِفَنَّهُ كيفَ صَنَعَ إلَيَّ على أيِّ حالةٍ كانت منهُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ ﴾ ؛ أي ثُمَّ لُعِنَ وعُوقِبَ بعقابٍ آخر، كيف ذهبَ إلى هذا التقديرِ، ﴿ ثُمَّ نَظَرَ ﴾ ؛ معناهُ : نظرَ إلى أصحاب النبيِّ ﷺ نظرَ العداوةِ بكراهةٍ شديدة ليتَّخذ طَعناً فيهم. وَقِيْلَ : ثم نظرَ في طلب ما يدفعُ به القرآن ويرده.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ ﴾ ؛ أي ثُمَّ كَلَحَ في وجوهِ أصحابهِ وقبضَ جَبهتَهُ، والبُسُورُ أشدُّ من العُبُوسِ، والمعنى : ثم كَلَحَ بوجههِ ونظرَ بكراهةٍ شديدة.
وقَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ ﴾ ؛ أي ثُمَّ أعرضَ عن قَبولِ القرآنِ واتِّباع الرسولِ وتَعَظَّمَ من الإيمانِ، ﴿ فَقَالَ إِنْ هَـاذَآ إِلاَّ سِحْرٌ يُؤْثَرُ ﴾ ؛ أي قالَ ما هذا القرآنُ إلاَّ سحر يُروَى عن السَّحَرةِ ؛ أي يَأْثُرُهُ مُحَمَّدٌ عن غيرهِ، وذلك أنه كَرِهَ أن يقولَ إنَّ مُحَمَّداً ساحرٌ، فيَغْضَبُ بنو هاشمٍ، فقالَ : إنما السِّحْرُ في الأعاجمِ، وهذا إنما يَأْثُرُ السحرَ عن غيرهِ، وكان يقولُ في القرآنِ : ما هو سحرٌ ولا كهانة ولكنَّهُ سِحرٌ يُؤثَرُ عن قولِ البشرِ ؛ أي يُحكَى بينهم. ومعنى قولهِ تعالى :﴿ إِنْ هَـاذَآ إِلاَّ قَوْلُ الْبَشَرِ ﴾ ؛ يعني أنه كلامُ الإنسِ وليس من عند اللهِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ سَأُصْلِيهِ سَقَرَ ﴾ ؛ أي سأُدخِلهُ وألزِمهُ في الآخرةِ سَقَرَ بما فعلَ، واستكبرَ عن قبولِ الحقِّ، وسَقَرَ اسمٌ من أسماءِ النار، وهي مَعرِفَةٌ مُؤنَّثة، فلذلك لَمْ تَنصَرِفْ. قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَمَآ أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ ﴾ ؛ تعظيمٌ لأمرِها، وإنما سُميت بهذا الاسمِ لشدَّة إيلامِها من قولِهم : سَقَرَتْهُ الشمسُ إذا آلَمَتْ دِمَاغَهُ. قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ لاَ تُبْقِي وَلاَ تَذَرُ ﴾ ؛ أي لا تُبقِي لَحماً ولا تذرُ عَظماً، وعن مجاهدٍ :((لاَ تُبْقِي مَنْ فِيهَا حَيّاً وَلاَ تَذرُهُ مَيْتاً)).
وقولهُ تعالى :﴿ لَوَّاحَةٌ لِّلْبَشَرِ ﴾ ؛ أي مُغيِّرَةٌ للجلدِ حتى تجعله أسْوَدَ، يقالُ : لوَّحَتْهُ الشمسُ، وَلاَحَهُ السَّقَمُ والْحُزْنُ إذا غيَّرهُ. قِيْلَ : إنَّها تغيِّرُ الجلدَ حتى تدعَهُ أسودَ سوَاداً من الليلِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ ﴾ ؛ أي تسعةَ عشرَ من الزَّبانيةِ الموكَّلين بتعذيب أهلها، جاءَ في الحديثِ :" إنَّ أعْيُنَهُمْ كَالْبَرْقِ الْخَاطِفِ، وَأنْيَابَهُمْ كَصَيَاصِيِّ الْبَقَرِ، يَخْرُجُ لَهَبُ النَّار مِنْ أفْوَاهِهِمْ، مَا بَيْنَ مَنْكِبَي أحَدِهِمْ مَسِيرَةُ سَنَةٍ، يَسَعُ كَفُّ أحَدِهِمْ مِثْلَ رَبيعَةَ وَمُضَرَ، نُزِعَتِ الرَّحْمَةُ مِنْ قُلُوبهِمْ، يُسَرُّونَ بتَعْذِيب أهْلِ النَّار، يَدْفَعُ أحَدُهُمْ سَبْعِينَ ألْفاً فَيَرْمِيَهُمْ حَيْثُ أرَادَ مِنْ جَهَنَّمَ " وقال ﷺ :" لأَحَدِهِمْ مِثْلُ قُوَّةِ الثَّقَلَيْنِ " وقال عمرُو بن دينارٍ :((يَدْفَعُ أحَدُهُمْ بالدَّفْعَةِ الْوَاحِدَةِ فِي جَهَنَّمَ مِثْلَ رَبيعَةَ وَمُضَرَ)).
قال ابنُ عبَّاس والضحاك :((لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ قَالَ أبُو جَهْلٍ : أمَا لِمُحَمَّدٍ مِنَ الأَعْوَانِ إلاَّ تِسْعَةَ عَشَرَ يُخَوِّفُكُمْ بهِمْ وَأنْتُمُ الدَّهْمُ - يَعْنِي الْعَدَدَ الْكَثِيرَ - فَتَعْجَزُ كُلُّ مِائَةِ رَجُلٍ مِنْكُمْ أنْ تَبْطِشَ بَواحِدٍ مِنْهُمْ، ثُمَّ تَخْرُجُونَ مِنَ النَّار؟!)).
ورُوي : أنَّ أبَا جَهْلٍ قَالَ لِقُرَيْشٍ : ثَكِلَتْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ! أنْتُمُ الدَّهْمُ الشُّجْعَانُ فَتَعْجَزُ كُلُّ عَشْرَةٍ مِنْكُمْ أنْ يَبْطُشُوا بخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ؟ فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي جُمْحٍ يُقَالُ لَهُ كَلَدَةُ بْنُ أسَدٍ : أنَا أكْفِيكُمْ يَا أهْلَ مَكَّةَ سَبْعَةَ عَشَرَ ؛ أحْمِلُ عَشْرَةً مِنْهُمْ عَلَى ظَهْرِي، وَسَبْعَةً عَلَى صَدْري، فَاكْفُونِي أنْتُمُ اثْنَيْن!
ورُوي : أنَّهُ قَالَ : يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ إذا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ فَأَنَا أمْشِي بَيْنَ أيْدِيكُمْ عَلَى الصِّرَاطِ فَأَدْفَعُ عَشْرَةً بمَنْكِبي الأَيْمِنِ، وَتِسْعَةً بمَنْكِبي الأَيْسَرِ فِي النَّار، فَنَمْضِي نَدْخُلُ الْجَنَّةَ! فَأَنْزَلَ اللهُ تعالى قولَهُ :﴿ وَمَا جَعَلْنَآ أَصْحَابَ النَّارِ إِلاَّ مَلَائِكَةً ﴾ ؛ أي ما جعَلنا خُزَّانَها إلاَّ ملائكةً، ومن المعلومِ أنَّ الْمَلَكَ الواحدَ إذا كان كافِياً لقبضِ أرواحِهم، كان تسعةَ عشرَ مَلكاً أكفَى، ألاَ ترى أنَّ مَلكاً واحداً وهو ملَكُ الموتِ يقبضُ أرواحَ الخلق كلِّهم ؟ فكيف يعجزُ تسعةَ عشرَ مَلكاً عن تعذيب الناس؟!.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلاَّ فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ ﴾ ؛ أي ما جعَلنا عدَدَهم في القلَّة إلاّ محنةً لكفَّار مكة لِجَهلِهم بالملائكةِ وتوَهُّمهم أنَّهم كالبشرِ، والمعنى : وما جعَلنا عدَّة هؤلاءِ الملائكة مع قِلَّتهم في العددِ إلاَّ ضلالةً للَّذين كفَرُوا حتى قالوا ما قالوهُ من التكذيب، وقالَ كَلَدَةُ بن أسدٍ : أنا أكفيكُم سبعةَ عشر فَاكفُونِي أنتمُ اثنين.
وقولهُ تعالى :﴿ لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ ﴾ ؛ أي ليعلمَ اليهودُ والنصارَى بذلك صحَّة نبوَّةِ النبيِّ ﷺ حين يَجِدُونَ ما أتَى به مُوافقاً لِمَا في التَّوراةِ والإنجيل، فإنَّ عددَ هؤلاءِ الْخََزَنَةِ في كُتبهم تسعةَ عشرَ، فيعلمون أنَّ ما أتَى به مُحَمَّدٌ ﷺ موافقٌ لِمَا عندَهم. قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ ءَامَنُواْ إِيمَاناً ﴾ ؛ أي ولكي يزدادَ المؤمنون تَصدِيقاً على تَصدِيقهم لتصديقِ أهلِ الكتاب لذلكَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَلاَ يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ ﴾ ؛ أي ؛ ولئَلاَّ يَشُكَّ الذين أُوتوا الكتابَ في أمرِ القرآن، ولا يشكَّ المؤمنون بالتدبُّر والتفكُّر فيه.
وقوله تعالى :﴿ كَلاَّ وَالْقَمَرِ * وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ * وَالصُّبْحِ إِذَآ أَسْفَرَ ﴾ ؛ هذا قسَمٌ على عِظَمِ نار سقرَ، معناه : حَقّاً والقمرِ ؛ والليلِ إذا جاءَ بعدَ النهار ؛ والصبُّحِ إذا أضاءَ، إنَّ سَقَرَ لإحدَى العظائمِ التي هي درَكاتُ النار. والعربُ تؤكِّدُ القسَمَ بلفظِ كَلاَّ كما تؤكِّدهُ بـ (حَقّاً). ويقالُ : معناهُ : ورب القمرِ. قرأ نافعُ وحمزة وخلف ويعقوب وحفص :(إذ أدْبَرَ) على لفظ الإدبار ؛ أي إذا انقضَى وذهبَ، ويقالُ : كلاهما لُغتان : دَبَرَ النهارُ وأدبَرَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ إِنَّهَا لإِحْدَى الْكُبَرِ ﴾ ؛ أي سَقَرَ لإحدَى الكُبَرِ، قال مقاتلُ والكلبي :((أرَادَ بالْكُبَرِ دَرَكَاتُ جَهَنَّمَ ؛ وَهِيَ سَبْعَةٌ : جَهَنَّمُ ؛ وَلَظَّى ؛ وَالْحُطَمَةُ ؛ وَالسَّعِيرُ ؛ وَسَقَرَ ؛ وَالْجَحِيمُ ؛ وَالْهَاويَةُ)).
وقَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ نَذِيراً لِّلْبَشَرِ ﴾ ؛ قال الزجَّاجُ :((هُوَ حَالٌ مِنْ قَوْلِهِ (قُمْ) فِي أوَّلِ السُّورَةِ ؛ أي قُمْ نَذيراً للبشرِ)) وهكذا رُوي عن عطاءٍ عن ابنِ عبَّاس، وَقِيْلَ :﴿ نَذِيراً ﴾ نُصِبَ على الحالِ ؛ يعني أنَّها لكبيرةٌ في حالِ الإنذار، وذكرَ النذيرَ بلفظِ التذكيرِ فإن معنى النار العذابُ، يعني أن النارَ نذيراً للبشرِ، قال الحسنُ :((وَاللهِ مَا أنْذرَ اللهُ بشَيْءٍ أدْهَى مِنْهَا)).
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ لِمَن شَآءَ مِنكُمْ أَن يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ ﴾ ؛ بدلٌ من قولهِ ﴿ لِّلْبَشَرِ ﴾، والمعنى أنَّها نذيرٌ لِمَن شاءَ أن يتقدَّمَ في العبادةِ والإيمانِ والخيرِ فينجُوا منهما، أو يتأخَّرَ عن الإيمانِ والطاعة فيقعُ فيهما، والمعنى : أنَّ الإنذارَ قد حصلَ لكلِّ أحدٍ ممن آمَن أو كفرَ، قال الحَسنُ :((هَذا وَعِيدٌ لَهُمْ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى :﴿ فَمَن شَآءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَآءَ فَلْيَكْفُرْ ﴾[الكهف : ٢٩])).
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ ﴾ ؛ أي كلُّ نفسٍ مأخوذةٌ يعملِها مرهونةٌ به، وعن ابنِ عبَّاس رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا :((مُرْتَهَنَةٌ فِي جَهَنَّمَ)) ﴿ إِلاَّ أَصْحَابَ الْيَمِينِ ﴾ ؛ وهم المؤمنون الَّذين يُعطَون كُتبَهم بأَيمانِهم، فإنَّ اللهَ تعالى أعتقَ رقابَهم من الرَّهنِ وأدخلَهم الجنَّةَ.
ويقالُ : هم الأطفالُ الذين لا ذُنوبَ لهم فإنَّهم غيرُ مُرتَهنين. وعن عائشةََ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ :" سَأَلْتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ عَنْ أطْفَالِ الْمُسْلِمِينَ أيْنَ هُمْ ؟ قَالَ :" فِي الْجَنَّةِ " وَسَأَلْتُهُ عَنْ أطْفَالِ الْمُشْرِكِينَ فَقَالَ :" إنْ شِئْتِ أسْمَعْتُكَ تَضَاغِيهِمْ فِي النَّار " ".
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ فِي جَنَّاتٍ يَتَسَآءَلُونَ * عَنِ الْمُجْرِمِينَ ﴾ ؛ معناهُ : في بساتين يتساءَلون عن أهلِ النار، يقولون لَهم :﴿ مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ ﴾ ؛ أيُّ شيءٍ أدخلَكم النارَ وحبسَكم فيها؟
فيقولون لَهم :﴿ قَالُواْ لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ ﴾ ؛ في دار الدُّنيا ؛ ﴿ وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ ﴾ ؛ في اللهِ ؛ ﴿ وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الُخَآئِضِينَ ﴾ ؛ وكنا نخوضُ مع أهلِ الباطلِ والتكذيب، ﴿ وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ ﴾ أي بيومِ الحساب ؛ ﴿ حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ ﴾ ؛ فشاهدناهُ، ويجوز أن يكون اليقينُ ها هنا الموتَ الذي يعرِفُ المرءُ عنده أمرَ الآخرةِ.
يقولُ اللهُ تعالَى :﴿ فَمَا تَنفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ ﴾ ؛ أي ما تنفَعُهم شفاعةُ الملائكةِ والنبيِّين كما ينفعُ الموحِّدين، قال الحسنُ :((فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ مَلَكٍ وَلاَ شَهِيدٍ وَلاَ مُؤْمِنٍ، يَشْفَعُ يَوْمِئِذٍ النَّبيُّونَ ؛ ثُمَّ الصِّدِّيقُونَ ؛ ثُمَّ الشُّهَدَاءُ، وَيَبْقَى قَوْمٌ فِي جَهَنَّمَ فَيَقُولُ لَهُمْ :﴿ مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ * قَالُواْ لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ * وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ.. ﴾[المدثر : ٤٢-٤٤] إلَى قَوْلِهِ تَعَالَى :﴿ فَمَا تَنفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ ﴾ ))، قال ابنُ مسعودٍ :((فَهَؤُلاَءِ الَّذِينَ يَبْقُونَ فِي جَهَنَّمَ)).
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ ﴾ ؛ معناهُ : ما لأهلِ مكَّة عن القرآنِ الذي يقرَأُ عليهم مُعرِضِينَ ؛ أيْ أيُّ شيءٍ لكفَّار مكَّة في الآخرةِ إذا أعرَضُوا عن القرآنِ، ولم يُؤمِنوا به مع هذه الدَّلالة.
ثم شبَّههم بالْحُمُرِ الوحشيَّة في إعراضِهم عمَّا يُقرَأُ عليهم فقال تعالى :﴿ كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُّسْتَنفِرَةٌ ﴾ ؛ قرأ نافعُ وابن عامر بفتح الفاءِ ؛ أي مُنَفَّرَةٌ مذعورةٌ، وقرأ الآخرون بكسرِ الفاء ؛ أي نافرةٌ.
وقولهُ تعالى :﴿ فَرَّتْ مِن قَسْوَرَةٍ ﴾ ؛ يعني فرَّت من الأسدِ، قال ابنُ عباس :((الْحُمُرُ الْوَحْشِيَّةُ إذا عَايَنَتِ الأَسَدَ هَرَبَتْ مِنْهُ)) كذلك هؤلاءِ المشركون إذا سَمعوا النبيَّ ﷺ يقرأُ القرآنَ هرَبُوا منه، وقال الضحَّاك ومقاتلُ :((الْقَسْوَرَةُ : الرُّمَاةُ الَّذِينَ يَرْصُدُونَهَا، لاَ وَاحِدَ لَهُ مِنْ لَفْظِهِ)).
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِىءٍ مِّنْهُمْ أَن يُؤْتَى صُحُفاً مُّنَشَّرَةً ﴾ ؛ قال المفسِّرون : إن كفَّار مكة قالوا للنبيِّ ﷺ : لتصيحَ قريشٌ عند رأسِ كلِّ رجُلٍ هذا كتابٌ منشور من اللهِ يأتيكَ رسولهُ يؤمر فيه باتِّباعِكَ.
والصُّحف جمعُ صحيفةٍ : و(مُنَشَّرَةً) معناهُ : مَنشُورةً، وَقِيْلَ : معناهُ : بل يريدون بإفراطِ جهلهم أنْ يُعطَى كلُّ واحد منهم كِتَاباً من السَّماء مفتوحاً : هذا كتابٌ من فلانٍ إلى فلان بأنَّ مُحَمَّداً رسولُ اللهِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ كَلاَّ بَل لاَّ يَخَافُونَ الآخِرَةَ ﴾ ؛ معناهُ : كلاَّ لا يُؤتَون الصُّحف ولا يكون لَهم ذلك، بل هم لا يَخافون الآخرةَ حين لم يُؤمنوا بها، ولو خَافوا ذلك لما اقترَحُوا الآياتِ بعد قيام الدَّلالة.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ كَلاَّ إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ ﴾ ؛ أي حَقّاً إنَّ القرآن عِظَةٌ من اللهِ تعالى، ﴿ فَمَن شَآءَ ذَكَرَهُ ﴾ ؛ أي اتَّعظَ به، ﴿ وَمَا يَذْكُرُونَ إِلاَّ أَن يَشَآءَ اللَّهُ ﴾ ؛ وما يتَّعظون إلاّ أن يشاءَ اللهُ ذلك لهم، وَقِيْلَ : لهم المشيئة. وَقِيْلَ : إلاَّ أنْ يشَاءَ اللهُ لهم الْهُدَى.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى ﴾ ؛ أي هو أهلٌ أن يُتَّقَى فلا يُعصَى، ولا يُجعَلَ معه إلهٌ آخر، ﴿ وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ ﴾ ؛ يَغفِرُ لِمَن اتَّقَى، قَالَ اللهُ تَعَالَى : أنا أهلٌ أنْ أتَّقى فلا يُجعلَ معي إلهٌ، فمَن اتَّقى أن يجعلَ معي إلهاً فإنِّي أهلٌ أن أغفرَ له، وقال قتادة :((هُوَ أهْلٌ أنْ تَتَّقِي مَحَارمَهُ، وَأهْلٌ أنْ يَغْفِرَ الذُّنُوبَ)).
Icon