تفسير سورة الحجر

تفسير ابن عطية
تفسير سورة سورة الحجر من كتاب المحرر الوجيز فى تفسير الكتاب العزيز المعروف بـتفسير ابن عطية .
لمؤلفه ابن عطية . المتوفي سنة 542 هـ
تفسير سورة الحجر. هذه السورة مكية١
١ قال الشوكاني: "وهي مكية بالاتفاق كما قال القرطبي"، وأخرج النحاس في ناسخه، وابن مردويه عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "نزلت سورة الحجر بمكة"، وأخرج ابن مردويه عن عبد الله بن الزبير مثله..

بسم الله الرّحمن الرّحيم

سورة الحجر
بسم الله الرحمن الرحيم، هذه السورة مكية.
قوله عز وجل:
[سورة الحجر (١٥) : الآيات ١ الى ٥]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ (١) رُبَما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ (٢) ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (٣) وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلاَّ وَلَها كِتابٌ مَعْلُومٌ (٤)
ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها وَما يَسْتَأْخِرُونَ (٥)
تقدم القول في الحروف المقطعة في أوائل السور. وتِلْكَ يمكن أن تكون إشارة إلى حروف المعجم- بحسب بعض الأقوال- ويمكن أن تكون إشارة إلى الحكم والعبر ونحوها التي تضمنتها آيات التوراة والإنجيل، وعطف القرآن عليه. قال مجاهد وقتادة: الْكِتابِ في الآية، ما نزل من الكتب قبل القرآن، ويحتمل أن يريد ب الْكِتابِ القرآن، ثم تعطف الصفة عليه.
وقرأ نافع وعاصم «ربما» بتخفيف الباء. وقرأ الباقون بشدها، إلا أن أبا عمرو قرأها على الوجهين، وهما لغتان، وروي عن عاصم «ربما» بضم الراء والباء مخففة، وقرأ طلحة بن مصرف «ربتما» بزيادة تاء، وهي لغة. ورُبَما للتقليل وقد تجيء شاذة للتكثير، وقال قوم: إن هذه من ذلك، ومنه: رب رفد هرقته. ومنه:
رب كأس هرقت يا ابن لؤي.
وأنكر الزجاج أن تجيء «رب» للتكثير. و «ما» التي تدخل عليها «رب» قد تكون اسما نكرة بمنزلة شيء، وذلك إذا كان في الضمير عائد عليه، كقول الشاعر: [الخفيف]
ربما تكره النفوس من الأم... ر له فرجة كحل العقال
التقدير: رب شيء، وقد تكون حرفا كافا لرب وموطئا لها لتدخل على الفعل إذ ليس من شأنها أن تدخل إلا على الأسماء، وذلك إذا لم يكن ثم ضمير عائد كقول الشاعر: [جذيمة الأبرش] [المديد]
ربما أوفيت في علم... ترفعن ثوبي شمالات
قال القاضي أبو محمد: وكذلك دخلت «ما» على «من» كافة، في نحو قوله: وكان الرسول ﷺ مما يحرك شفتيه. ونحو قول الشاعر: [الطويل]
وإنا لمما نضرب الكبش ضربة... على رأسه تلقي اللسان من الفم
349
قال الكسائي والفراء: الباب في «ربما» أن تدخل على الفعل الماضي، ودخلت هنا على المستقبل إذ هذه الأفعال المستقبلة من كلام الله تعالى لما كانت صادقة حاصلة ولا بد جرت مجرى الماضي الواقع.
قال القاضي أبو محمد: وقد تدخل رب على الماضي الذي يراد به الاستقبال، وتدخل على العكس. والظاهر في رُبَما في هذه الآية أن «ما» حرف كاف- هكذا قال أبو علي، قال: ويحتمل أن تكون اسما، ويكون في يَوَدُّ ضمير عائد عليه، التقدير: رب ود أو شيء يوده الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ.
قال القاضي أبو محمد: ويكون لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ بدلا من «ما».
وقالت فرقة: تقدير الآية: ربما كان يود الذين كفروا. قال أبو علي: وهذا لا يجيزه سيبويه، لأن كان لا تضمر عنده.
واختلف المتأولون في الوقت الذي يود فيه الكفار أن لو كانوا مسلمين، فقالت فرقة: هو عند معاينة الموت في الدنيا- حكى ذلك الضحاك- وفيه نظر، لأنه لا يقين للكافر حينئذ بحسن حال المسلمين، وقالت فرقة: هو عند معاينة أهوال يوم القيامة- قاله مجاهد- وهذا بين، لأن حسن حال المسلمين ظاهر، فتود، وقال ابن عباس وأنس بن مالك: هو عند دخولهم النار ومعرفتهم بدخول المؤمنين الجنة، واحتج لهذا القول بحديث روي في هذا من طريق أبي موسى الأشعري وهو: أن الله إذا أدخل عصاة المسلمين النار نظر إليهم الكفار فقالوا: ليس هؤلاء من المسلمين فماذا أغنت عنهم لا إله إلا الله؟ قال: فيغضب الله تعالى لقولهم، فيقول: أخرجوا من النار كل مسلم. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فحينئذ يود الذين كفروا أن لو كانوا مسلمين».
قال القاضي أبو محمد: ومن العبر في هذه الآية حديث الوابصي الذي في صدر ذيل الأمالي، ومقتضاه أنه ارتد ونسي القرآن إلا هذه الآية.
وقوله: ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا الآية وعيد وتهديد، وما فيه من المهادنة منسوخ بآية السيف. وقوله:
فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ وعيد ثان، وحكى الطبري عن بعض العلماء أنه قال: الأول في الدنيا، والثاني في الآخرة، فكيف تطيب حياة بين هذين الوعيدين؟
ومعنى قوله: وَيُلْهِهِمُ أي يشغلهم أملهم في الدنيا والتزيد منها عن النظر والإيمان بالله ورسوله.
ومعنى قوله: وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ الآية، أي لا تستبطئن هلاكهم فليس قرية مهلكة إلا بأجل وكتاب معلوم محدود. والواو في قوله: وَلَها هي واو الحال.
وقرأ ابن أبي عبلة «إلا لها» بغير واو. وقال منذر بن سعيد: هذه الواو هي التي تعطي أن الحالة التي بعدها في اللفظ هي في الزمن قبل الحالة التي قبل الواو، ومنه قوله: حَتَّى إِذا جاؤُها وَفُتِحَتْ أَبْوابُها [الزمر: ٧٣] وباقي الآية بين.
350
قوله عز وجل:
[سورة الحجر (١٥) : الآيات ٦ الى ١١]
وَقالُوا يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ (٦) لَوْ ما تَأْتِينا بِالْمَلائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٧) ما نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَما كانُوا إِذاً مُنْظَرِينَ (٨) إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ (٩) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الْأَوَّلِينَ (١٠)
وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (١١)
الضمير في قالُوا يراد به كفار قريش. ويروى أن القائلين كانوا: عبد الله بن أبي أمية، والنضر بن الحارث، وأشباههما.
وقرأ الأعمش: «يا أيها الذي ألقي إليه الذكر».
وقولهم: يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ كلام على جهة الاستخفاف، أي بزعمك ودعواك، وهذه المخاطبة كما تقول لرجل جاهل أراد أن يتكلم فيما لا يحسن: يا أيها العالم لا تحسن تتوضأ.
ولَوْ ما بمعنى لولا، فتكون تحضيضا- كما في هذه الآية- وقد تكون دالة على امتناع الشيء لوجود غيره، كما قال ابن مقبل: [البسيط]
لو ما الحياء ولو ما الدين عبتكما ببعض ما فيكما إذ عبتما عوري
وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر: «ما تنزل الملائكة» بفتح التاء والرفع وقرأ عاصم- في رواية أبي بكر- «ما تنزل» بضم التاء والرفع، وهي قراءة يحيى بن وثاب، وقرأ حمزة والكسائي وحفص «ما ننزل» بنون العظمة- «الملائكة» بالنصب، وهي قراءة طلحة بن مصرف.
وقوله: إِلَّا بِالْحَقِّ قال مجاهد: المعنى: بالرسالة والعذاب.
قال القاضي أبو محمد: والظاهر أن معناه: كما يجب ويحق من الوحي والمنافع التي رآها الله لعباده، لا على اقتراح كافر، ولا باختيار معترض.
ثم ذكر عادة الله في الأمم من أنه لم يأتهم بآية اقتراح إلا ومعها العذاب في إثرها إن لم يؤمنوا. فكأن الكلام: ما تنزل الملائكة إلا بحق وواجب، لا باقتراحكم وأيضا فلو نزلت لم تنظروا بعد ذلك بالعذاب، أي تؤخروا، و «النظرة» : التأخير، المعنى: فهذا لا يكون، إذ كان في علم الله أن منهم من يؤمن أو يلد من يؤمن.
وقوله تعالى: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ رد على المستخفين في قولهم: يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ. وهذا كما يقول لك رجل على جهة الاستخفاف: يا عظيم القدر، فتقول له- على جهة الرد والنجه: نعم أنا عظيم القدر. ثم تأخذ في قولك- فتأمله.
وقوله: إِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ قالت فرقة: الضمير في لَهُ عائد على محمد صلى الله عليه وسلم،
أي يحفظه من أذاكم ويحوطه من مكركم وغيره، ذكر الطبري هذا القول ولم ينسبه وفي ضمن هذه العدة كان رسول الله ﷺ حتى أظهر الله به الشرع وحان أجله. وقالت فرقة- وهي الأكثر- الضمير في لَهُ عائد على القرآن وقاله مجاهد وقتادة، والمعنى: لَحافِظُونَ من أن يبدل أو يغير، كما جرى في سائر الكتب المنزلة، وفي آخر ورقة من البخاري عن ابن عباس: أن التبديل فيها إنما كان في التأويل وأما في اللفظ فلا وظاهر آيات القرآن أنهم بدلوا اللفظ، ووضع اليد في آية الرجم هو في معنى تبديل الألفاظ. وقيل: لَحافِظُونَ باختزانه في صدور الرجال.
قال القاضي أبو محمد: والمعنى متقارب، وقال قتادة: هذه الآية نحو قوله تعالى: لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ [فصلت: ٤٢].
قال القاضي أبو محمد: وقوله تعالى: وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ الآية، تسلية للنبي عليه السلام وعرض أسوة، أي لا يضيق صدرك يا محمد بما يفعله قومك من الاستهزاء في قولهم: يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ وغير ذلك، فقد تقدم منا إرسال الرسل في شيع الأولين، وكانت تلك سيرتهم في الاستهزاء بالرسل. وشِيَعِ جمع شيعة، وهي الفرقة التابعة لرأس ما: مذهب أو رجل أو نحوه وهي مأخوذة من قولهم: شيعت النار: إذا استدمت وقدها بحطب أو غيره، فكأن الشيعة تصل أمر رأسها وتظهره وتمده بمعونة. وقوله: أَرْسَلْنا يقتضي رسلا، ثم أوجز باختصار ذكرهم لدلالة الظاهر من القول على ذلك.
قوله عز وجل:
[سورة الحجر (١٥) : الآيات ١٢ الى ١٥]
كَذلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (١٢) لا يُؤْمِنُونَ بِهِ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ (١٣) وَلَوْ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً مِنَ السَّماءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ (١٤) لَقالُوا إِنَّما سُكِّرَتْ أَبْصارُنا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ (١٥)
يحتمل أن يكون الضمير في نَسْلُكُهُ يعود على الاستهزاء والشرك ونحوه- وهو قول الحسن وقتادة وابن جرير وابن زيد- ويكون الضمير في بِهِ يعود أيضا على ذلك بعينه، وتكون باء السبب، أي لا يؤمنون بسبب شركهم واستهزائهم، ويكون قوله: لا يُؤْمِنُونَ بِهِ في موضع الحال.
ويحتمل أن يكون الضمير في نَسْلُكُهُ عائدا على الذكر المحفوظ المتقدم الذكر وهو القرآن، أي مكذبا به مردودا مستهزأ به ندخله في قلوب المجرمين، ويكون الضمير في بِهِ عائدا عليه أيضا أي لا يصدقون به.
ويحتمل أن يكون الضمير في نَسْلُكُهُ عائدا على الاستهزاء والشرك، والضمير في بِهِ يعود على القرآن، فيختلف- على هذا- عود الضميرين.
والمعنى في ذلك كله ينظر بعضه إلى بعض.
ونَسْلُكُهُ معناه: ندخله، يقال: سلكت الرجل في الأمر، أي أدخلته فيه، ومن هذا قول الشاعر [عدي بن زيد] :[الوافر]
352
وكنت لزاز خصمك لم أعرد وقد سلكوك في يوم عصيب
ومنه قول الآخر [عبد مناف بن ربع الهذلي] :[البسيط]
حتى إذا سلكوهم في قتايدة شلاكما تطرد الجمالة الشردا
ومنه قول أبي وجزة يصف حمر وحش؟؟؟: [البسيط]
حتى سلكن الشوى منهن في مسك من نسل جوابة الآفاق مهداج
قال الزجاج: ويقرأ: «نسلكه» بضم النون وكسر اللام، والْمُجْرِمِينَ في هذه الآية يراد بهم كفار قريش ومعاصري محمد صلى الله عليه وسلم.
وقوله: لا يُؤْمِنُونَ بِهِ عموم معناه الخصوص فيمن حتم عليه. وقوله وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ أي على هذه الوتيرة.
وتقول: سلكت الرجل في الأمر، وأسلكته، بمعنى واحد. ويروى: حتى إذا أسلكوهم في قتايدة البيت.
وقوله: وَلَوْ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ، الضمير في عَلَيْهِمْ عائد على قريش وكفرة العصر المحتوم عليهم.
والضمير في قوله: فَظَلُّوا يحتمل أن يعود عليهم- وهو أبلغ في إصرارهم- وهذا تأويل الحسن:
ويَعْرُجُونَ معناه: يصعدون.
وقرأ الأعمش وأبو حيوة «يعرجون» بكسر الراء، والمعارج الأدراج، ومنه: المعراج، ومنه قول كثير:
[الطويل].
إلى حسب عود بنى المرء قبله أبوه له فيه معارج سلم
ويحتمل أن يعود على الملائكة [الحجر: ٧] لقولهم: لَوْ ما تَأْتِينا بِالْمَلائِكَةِ [الحجر: ٧]، فقال الله تعالى: «ولو رأوا الملائكة يصعدون ويتصرفون في باب مفتوح في السماء، لما آمنوا» : وهذا تأويل ابن عباس.
وقرأ السبعة سوى ابن كثير: «سكّرت» بضم السين وشد الكاف، وقرأ ابن كثير وحده بتخفيف الكاف، وهي قراءة مجاهد. وقرأ ابن الزهري بفتح السين وتخفيف الكاف، على بناء الفعل لفاعل. وقرأ أبان بن تغلب «سحرت أبصارنا»، ويجيء قوله: بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ انتقالا إلى درجة عظمى من سحر العقل والجملة. وتقول العرب: سكرت الريح تسكر سكورا: إذا ركدت ولم تنفذ لما كانت بسبيله أولا، وتقول سكر الرجل من الشراب سكرا: إذا تغيرت حاله وركد ولم ينفذ فيما للإنسان أن ينفذ فيه، ومن هذا المعنى: سكران لا يبت- أي لا يقطع أمرا، وتقول العرب: سكرت الفتق في مجاري الماء سكرا: إذا طمسته وصرفت الماء عنه، فلم ينفذ لوجهه.
قال القاضي أبو محمد: فهذه اللفظة «سكّرت» - بشد الكاف- إذا كانت من سكر الشراب أو من
353
سكور الريح فهي فعل عدي بالتضعيف، وإن كانت من سكر مجاري الماء فتضعيفها للمبالغة، لا للتعدية، لأن المخفف من فعله متعد. ورجح أبو حاتم هذه القراءة، لأن «الأبصار» جمع، والتثقيل مع الجمع أمثل، كما قال: مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوابُ [ص: ٥٠] ومن قرأ «سكرت» - بضم السين وتخفيف الكاف، فإن كانت اللفظة من سكر الماء فهو فعل متعد وإن كانت من سكر الشراب أو من سكور الريح، فيضمنا أن الفعل بني للمفعول إلى أن ننزله متعديا، ويكون هذا الفعل من قبيل: رجح زيد ورجحه غيره، وغارت العين وغارها الرجل: فتقول- على هذا- سكر الرجل، وسكره غيره، وسكرت الريح، وسكرها شيء غيرها.
ومعنى هذه المقالة منهم: أي غيرت أبصارنا عما كانت عليه، فهي لا تنفذ وتعطينا حقائق الأشياء كما كانت تفعل.
قال القاضي أبو محمد: وعبر بعض المفسرين عن هذه اللفظة بقوله: غشي على أبصارنا وقال بعضهم عميت أبصارنا، وهذا ونحوه تفسير بالمعنى لا يرتبط باللفظ.
ولقال أيضا هؤلاء المبصرون عروج الملائكة، أو عروج أنفسهم، بعد قولهم: سُكِّرَتْ أَبْصارُنا بل سحرنا حتى ما نعقل الأشياء كما يجب، أي صرف فينا السحر.
قوله عز وجل:
[سورة الحجر (١٥) : الآيات ١٦ الى ٢١]
وَلَقَدْ جَعَلْنا فِي السَّماءِ بُرُوجاً وَزَيَّنَّاها لِلنَّاظِرِينَ (١٦) وَحَفِظْناها مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ رَجِيمٍ (١٧) إِلاَّ مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ مُبِينٌ (١٨) وَالْأَرْضَ مَدَدْناها وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ (١٩) وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرازِقِينَ (٢٠)
وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ عِنْدَنا خَزائِنُهُ وَما نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ (٢١)
لما ذكر تعالى أنهم لو رأوا الآية المذكورة في السماء لعاندوا فيها- عقب ذلك بهذه الآية- فكأنه قال: وإن في السماء لعبرا منصوبة غير هذه المذكورة، وكفرهم بها، وإعراضهم عنها إصرار منهم وعتو.
«والبروج» : المنازل، واحدها برج، وسمي بذلك لظهوره ووضوحه، ومنه تبرج المرأة: ظهورها وبدوها، والعرب تقول: برج الشيء: إذا ظهر وارتفع.
و «حفظ السماء» هو بالرجم بالشهب- على ما تضمنته الأحاديث الصحاح. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الشياطين تقرب من السماء أفواجا»، قال: فينفرد المارد منها، فيعلو فيسمع، فيرمى بالشهاب. فيقول لأصحابه- وهو يلتهب- إنه من الأمر كذا وكذا- فيزيد الشياطين في ذلك ويلقون إلى الكهنة، فيزيدون مع الكلمة مائة ونحو هذا... الحديث. وقال ابن عباس: إن الشهب تجرح وتؤذي ولا تقتل، وقال الحسن: تقتل.
قال القاضي أبو محمد: وفي الأحاديث ما يدل على أن الرجم كان في الجاهلية ولكنه اشتد في وقت
354
الإسلام وحفظ السماء حفظا تاما. وقال الزجاج: لم يكن إلا بعد النبي عليه السلام، بدليل أن الشعراء لم يشبهوا به في السرعة إلا بعد الإسلام. وذكر الزهراوي عن أبي رجاء العطاردي أنه قال: كنا لا نرى الرجم بالنجوم قبل الإسلام.
ورَجِيمٍ فعيل بمعنى مفعول. فإما من رجم الشهب، وإما من الرجم الذي هو الشتم والذم.
ويقال: تبعت الرجل واتبعته بمعنى واحد. وإِلَّا بمعنى: لكن.
قال القاضي أبو محمد: هذا قول، والظاهر أن الاستثناء من الحفظ، وقال محمد بن يحيى عن أبيه: إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ، فإنها لم تحفظ منه- ذكره الزهراوي.
وقوله تعالى: وَالْأَرْضَ مَدَدْناها روي في الحديث: «أن الأرض كانت تتكفأ بأهلها كما تتكفأ السفينة، فثبتها الله بالجبال». يقال: رسا الشيء يرسو: إذا رسخ وثبت.
وقوله: مَوْزُونٍ قال الجمهور: معناه مقدر محرر بقصد وإرادة، فالوزن- على هذا- مستعار.
وقال ابن زيد: المراد ما يوزن حقيقة كالذهب والفضة والفلز كله وغير ذلك مما يوزن.
قال القاضي أبو محمد: الأول أعم وأحسن.
ومَعايِشَ جمع معيشة. وقرأها الأعمش بالهمز وكذلك روى خارجة عن نافع. والوجه ترك الهمز لأن أصل ياء معيشة الحركة. فيردها إلى الأصل الجمع، بخلاف: مدينة ومدائن.
وقوله: وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرازِقِينَ يحتمل أن تكون مَنْ في موضع نصب وذلك على ثلاثة أوجه.
أحدها: أن يكون عطفا على مَعايِشَ، كأن الله تعالى عدد النعم في المعايش، وهي ما يؤكل ويلبس، ثم عدد النعم في الحيوان والعبيد والصناع وغير ذلك مما ينتفع به الناس وليس عليهم رزقهم.
والوجه الثاني: أن تكون مَنْ معطوفة على موضع الضمير في لَكُمْ وذلك أن التقدير:
وأنعشناكم وأنعشنا أمما غيركم من الحيوان. فكأن الآية- على هذا- فيها اعتبار وعرض آية.
والوجه الثالث: أن تكون مَنْ منصوبة بفعل مضمر يقتضيه الظاهر، تقديره: وأنعشنا من لستم له برازقين.
ويحتمل أن تكون مَنْ في موضع خفض عطفا على الضمير في لَكُمْ وهذا قلق في النحو لأن العطف على الضمير المجرور، وفيه قبح، فكأنه قال: ولمن لستم له برازقين، وأنتم تنتفعون به.
وقوله: وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ قال ابن جريج: وهو المطر خاصة.
قال القاضي أبو محمد: وينبغي أن تكون أعم من هذا في كثير من المخلوقات.
و «الخزائن» المواضع الحاوية، وظاهر هذا أن الماء والريح ونحو ذلك موجود مخلوق، وهو ظاهر في قولهم في الريح: عتت على الخزان وانفتح منها قدر حلقة الخاتم، ولو كان قدر منخر الثور لأهلك الأرض إلى غير هذا من الشواهد. وذهب قوم إلى أن كونها في القدرة هو خزنها، فإذا شاء الله أوجدها.
355
قال القاضي أبو محمد: وهذا أيضا ظاهر في أشياء كثيرة. وهو لازم في الاعراض إذا عممنا لفظة شَيْءٍ وكيفما كان الأمر فالقدرة تسعه وتتقنه.
وقوله: نُنَزِّلُهُ ما كان من المطر ونحوه. فالإنزال فيه متمكن، وما كان من غير ذلك فإيجاده والتمكين من الانتفاع به، إنزال على تجوز.
وقرأ الأعمش: «وما نرسله».
وقوله: بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ روي فيه عن ابن مسعود وغيره: أنه ليس عام أكثر مطرا من عام، ولكن الله تعالى ينزله في مواضع دون مواضع.
قوله عز وجل:
[سورة الحجر (١٥) : الآيات ٢٢ الى ٢٧]
وَأَرْسَلْنَا الرِّياحَ لَواقِحَ فَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَسْقَيْناكُمُوهُ وَما أَنْتُمْ لَهُ بِخازِنِينَ (٢٢) وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوارِثُونَ (٢٣) وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ (٢٤) وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (٢٥) وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (٢٦)
وَالْجَانَّ خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نارِ السَّمُومِ (٢٧)
يقال: لقحت الناقة والشجرة فهي لاقحة: إذا حملت، والرياح تلقح الشجر والسحاب، فالوجه في الريح أنها ملقحة لا لاقحة، وتتجه صفة الرِّياحَ ب لَواقِحَ على أربعة أوجه:
أولها وأولاها: أن نجعلها لاقحة حقيقة، وذلك أن الرياح منها ما فيها عذاب أو حر ونار، ومنها ما فيه رحمة ومطر أو نصر أو غير ذلك، فإذا بها تحمل ما حملتها القدرة، أو ما علقته من الهواء أو التراب أو الماء الذي مرت عليه، فهي لاقحة بهذا الوجه، وإن كانت أيضا تلقح غيرها وتصير إليه نفعها. والعرب تسمي الجنوب الحامل واللاقحة، وتسمي الشمال الحائل والعقيم ومحوة، لأنها تمحو السحاب. وروى أبو هريرة أن رسول الله ﷺ قال: «الريح الجنوب من الجنة، وهي اللواقح التي ذكر الله، وفيها منافع للناس» ومن هذا قول الطرماح:
قلق لا فبان الريا... ح للاقح منها وحائل
ومن قول أبي وجزة:
من نسل جوابة الآفاق فجعلها حاملا تنسل.
قال القاضي أبو محمد: ويخرج هذا على أنها ملقحة فلا حجة فيه.
والثاني: أن يكون وصفها ب لَواقِحَ من باب قولهم: ليل نائم، أي فيه نوم ومعه، ويوم عاصف ونحوه: فهذا على طريق المجاز.
356
والثالث: أن توصف الرياح ب لَواقِحَ على جهة النسب، أي ذات لقح، كقول النابغة:
كليني لهم يا أميمة ناصب أي ذي نصب.
والرابع: أن تكون لَواقِحَ جمع ملقحة على حذف زوائده، فكأنه لقحة، فجمعها كما تجمع لاقحة، ومثله قول الشاعر [سيبويه] :[الطويل]
ليبك يزيد ضارع لخصومة وأشعث ممن طوحته الطوائح
وإنما طوحته المطاوح، وعلى هذا النحو فسرها أبو عبيدة في قوله: لَواقِحَ ملاقح، وكذلك العبارة عنها في كتاب البخاري: لواقح ملاقح ملقحة.
وقرأ الجمهور «الرياح» بالجمع، وقرأ الكوفيون- حمزة وطلحة بن مصرف والأعمش ويحيى بن وثاب- «الريح» بالإفراد، وهي للجنس، فهي في معنى الجمع، ومثلها الطبري بقولهم: «قميص أخلاق وأرض أغفال».
قال القاضي أبو محمد: وهذا كله من حيث هو أجزاء كثيرة تجمع صفته، فكذلك ريح لواقح لأنها متفرقة الهبوب، وكذلك: دار بلاقع، أي كل موضع منها بلقع.
وقال الأعمش: إن في قراءة عبد الله «وأرسلنا الرياح يلقحن»، وروي عن النبي ﷺ أنه قال: «الريح من نفس الرحمن»، ومعنى الإضافة هنا هي من إضافة خلق إلى خالق، كما قال: مِنْ رُوحِي [الحجر: ٢٩] ومعنى نفس الرحمن: أي من تنفيسه وإزالته الكرائب والشدائد. فمن التنفس بالريح النصر بالصبا وذرو الأرزاق بها، وما لها من الخدمة في الأرزاق وجلب الأمطار وغير ذلك مما يكثر عده. ولقد حدثت أن ابن أبي قحافة رحمه الله فسر هذا الحديث بنحو هذا وأنشد في تفسيره: [الطويل]
فإن الصبا ريح إذا ما تنسمت على نفس محزون تجلت همومها
وهذا من جملة التنفيس والعرب تقول: أسقى وسقى بمعنى واحد، وقال لبيد: [الوافر]
سقى قومي بني مجد وأسقى نميرا، والقبائل من هلال
فجاء باللغتين، وقال أبو عبيدة: أما إذا كان من سقي الشفة خاصة فلا يقال إلا سقى، وأما إذا كان لسقي الأرض والثمار وجملة الأشياء فيقال: أسقى، وأما الداعي لأرض أو غيرها بالسقي، فإنما يقال فيه:
أسقى، ومنه قول ذي الرمة: [الطويل]
وقفت على رسم لمية ناقتي فما زلت أبكي عنده وأخاطبه
وأسقيه حتى كاد مما أبثه تكلمني أحجاره وملاعبه
قال القاضي أبو محمد: على أن بيت لبيد دعاء، وفيه اللغتان.
وقوله تعالى: وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ الآيات، هذه الآيات مع الآيات التي قبلها تضمنت العبرة والدلالة على قدرة الله تعالى وما يوجب توحيده وعبادته، فمعنى هذه: وإنا لنحن نحيي من نشاء بإخراجه
357
من العدم إلى وجود الحياة، وبرده عند البعث من مرقده ميتا، ونميت بإزالة الحياة عمن كان حيا، وَنَحْنُ الْوارِثُونَ، أي لا يبقى شيء سوانا، وكل شيء هالك إلا وجهه لا رب غيره.
ثم أخبر تعالى بإحاطة علمه بمن تقدم من الأمم، وبمن تأخر في الزمن من لدن أهبط آدم إلى الأرض إلى يوم القيامة، وأعلم أنه هو الحاشر لهم الجامع لعرض القيامة على تباعدهم في الأزمان والأقطار، وأن حكمته وعلمه يأتيان بهذا كله على أتم غاياته التي قدرها وأرادها.
وقرأ الأعرج «يحشرهم» بكسر الشين.
قال القاضي أبو محمد: بهذا سياق معنى الآية، وهو قول جمهور المفسرين. وقال الحسن: معنى قوله: وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ أي في الطاعة، والبدار إلى الإيمان والخيرات، والْمُسْتَأْخِرِينَ بالمعاصي.
قال القاضي أبو محمد: وإن كان اللفظ يتناول كل تقدم وتأخر على جميع وجوهه فليس يطرد سياق معنى الآية إلا كما قدمنا، وقال ابن عباس ومروان بن الحكم وأبو الجوزاء: نزل قوله: وَلَقَدْ عَلِمْنَا الآية، في قوم كانوا يصلون مع النبي ﷺ وكانت تصلي وراءه امرأة جميلة، فكان بعض القوم يتقدم في الصفوف لئلا تفتنه، وكان بعضهم يتأخر ليسرق النظر إليها في الصلاة، فنزلت الآية فيهم.
قال القاضي أبو محمد: وما تقدم الآية من قوله: وَنَحْنُ الْوارِثُونَ وما تأخر من قوله: وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ، يضعف هذه التأويلات، لأنها تذهب اتصال المعنى، وقد ذكر ذلك محمد بن كعب القرظي لعون بن عبد الله.
وقوله تعالى: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ الآية، الْإِنْسانَ هنا للجنس، والمراد آدم، قال ابن عباس سمي بذلك لأنه عهد إليه فنسي، ودخل من بعده في ذلك إذ هو من نسله. و «الصلصال» : الطين الذي إذا جف صلصل، هذا قول فرقة، منها من قال: هو طين الخزف، ومنها قول الفراء: هو الطين الحر يخالطه رمل دقيق. وقال ابن عباس: خلق من ثلاثة: من طين لازب وهو اللازق والجيد، ومن صَلْصالٍ وهو الأرض الطيبة يقع عليها الماء ثم ينحسر فتشقق وتصير مثل الخزف، ومن حَمَإٍ مَسْنُونٍ وهو الطين في الحمأة.
قال القاضي أبو محمد: وكان الوجه أن يقال- على هذا المعنى- صلال، ولكن ضوعف الفعل من فائه وأبدلت إحدى اللامين من صلاص صادا. وهذا مذهب الكوفيين، وقاله ابن جني والزبيدي ونحوهما على البصرة، ومذهب جمهور البصريين: إنهما فعلان متباينان، وكذلك قالوا في ثرة وثرثارة. قال بعضهم:
تقول: صل الخزف ونحوه: إذا صوت بتمديد: فإذا كان في صوته ترجيع كالجرس ونحوه قلت: صلصل، ومنه قول الكميت: [البسيط]
فينا العناجيج تردي في أعنتها شعثا تصلصل في أشداقها اللجم
وقال مجاهد وغيره: صَلْصالٍ هنا إنما هو مأخوذ من صل اللحم وغيره: إذا أنتن.
358
قال القاضي أبو محمد: فجعلوا معنى صَلْصالٍ ومعنى حَمَإٍ في لزوم أنتن شيئا واحدا.
قال القاضي أبو محمد: و «الحمأ» جمع حمأة وهو الطين الأسود المنتن يخالطه ماء. و «المسنون» قال معمر: هو المنتن، وهو من أسن الماء إذا تغير.
قال القاضي أبو محمد: والتصريف يرد هذا القول. وقال ابن عباس: «المسنون» : الرطب.
قال القاضي أبو محمد: وهذا تفسير لا يخص اللفظة. وقال الحسن: المعنى: سن ذريته على خلقه. والذي يترتب في مَسْنُونٍ إما أن يكون بمعنى محكوك محكم العمل أملس السطح، فيكون من معنى المسن والسنان، وقولهم: سننت السكين وسننت الحجر: إذا أحكمت تمليسه، ومن ذلك قول الشاعر: [الخفيف]
ثم دافعتها إلى القبة الخضرا ء وتمشي في مرمر مسنون
أي محكم الإملاس بالسن، وإما أن يكون بمعنى المصبوب، تقول: سننت التراب والماء إذا صببته شيئا بعد شيء، ومنه قول عمرو بن العاصي لمن حضر دفنه: إذا أدخلتموني في قبري فسنوا علي التراب سنا، ومن هذا: هو سن الغارة. وقال الزجاج: هو مأخوذ من كونه على سنة الطريق، لأنه إنما يتغير إذا فارق الماء، فمعنى الآية- على هذا- من حمأ مصبوب موضوع بعضه فوق بعض على مثال وصورة.
الْجَانَّ يراد به جنس الشياطين، ويسمون: جنة وجانا لاستتارهم عن العين. وسئل وهب بن منبه عنهم فقال: هم أجناب، فأما خالص الجن فهم ريح لا يأكلون ولا يشربون ولا يموتون ولا يتوالدون، ومنهم أجناس تفعل هذا كله، منها السعالي والغول وأشباه ذلك.
وقرأ الحسن بن أبي الحسن: «والجأن» بالهمز.
قال القاضي أبو محمد: والمراد بهذه الحلقة إبليس أبو الجن، وفي الحديث: «أن الله تعالى خلق آدم من جميع أنواع التراب الطيب والخبيث والأسود والأحمر». وفي سورة البقرة إيعاب هذا وقوله مِنْ قَبْلُ لأن إبليس خلق قبل آدم بمدة، وخلق آدم آخر الخلق. والسَّمُومِ- في كلام العرب- إفراط الحر حتى يقتل من نار أو شمس أو ريح. وقالت فرقة: السموم بالليل، والحرور بالنهار.
قال القاضي أبو محمد: وأما إضافة نارِ إلى السَّمُومِ في هذه الآية فيحتمل أن تكون النار أنواعا، ويكون السَّمُومِ أمرا يختص بنوع منها فتصح الإضافة حينئذ وإن لم يكن هذا فيخرج هذا على قولهم: مسجد الجامع، ودار الآخرة، على حذف مضاف.
قوله عز وجل:
[سورة الحجر (١٥) : الآيات ٢٨ الى ٣٣]
وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (٢٨) فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ (٢٩) فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (٣٠) إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (٣١) قالَ يا إِبْلِيسُ ما لَكَ أَلاَّ تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (٣٢)
قالَ لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (٣٣)
359
إِذْ نصب بإضمار فعل تقديره: اذكر إذ قال ربك، و «البشر» هنا آدم، وهو مأخوذ من البشرة، وهي وجه الجلد، في الأشهر من القول. ومنه قول النبي عليه السلام: «وافقوا البشر». وقيل: البشرة ما يلي اللحم، ومنه قولهم في المثل: إنما يعاتب الأديم ذو البشرة لأن تلك الجهة هي التي تبشر.
وأخبر الله تعالى الملائكة بعجب عندهم، وذلك أنهم كانوا مخلوقين من نور- فهي مخلوقات لطاف- فأخبرهم: أنه لا يخلق جسما حيا ذا بشرة وأنه يخلقه مِنْ صَلْصالٍ.
قال القاضي أبو محمد: «والبشر» والبشارة أيضا أصلهما البشرة لأنهما فيها يظهران.
وسَوَّيْتُهُ معناه: كملته وأتقنته حتى استوت أجزاؤه على ما يجب، وقوله: مِنْ رُوحِي إضافة خلق وملك إلى خالق مالك، أي من الروح الذي هو لي ولفظة الروح هنا للجنس.
وقوله: فَقَعُوا من وقع يقع، وفتحت القاف لأجل حرف الحلق، وهذه اللفظة تقوي أن سجود الملائكة إنما كان على المعهود عندنا، لا أنه خضوع وتسليم، وإشارة، كما قال بعض الناس، وشبهوه بقول الشاعر [أبي الأخزر الحماني] :[الطويل]
فكلتاهما خرّت وأسجد رأسها كما سجدت نصرانة لم تحنف
وهذا البيت يشبه أن يكون السجود فيه كالمعهود عندنا.
وحكى الطبري في تفسير هذه الآية عن ابن عباس: أنه قال: خلق الله ملائكة أمرهم بالسجود لآدم فأبوا، فأرسل عليهم نارا فأحرقتهم، ثم خلق آخرين فأمرهم بالسجود فأطاعوا إلا إبليس فإنه كان من الأولين.
قال القاضي أبو محمد: وقول ابن عباس- من الأولين- يحتمل أن يريد في حالهم وكفرهم، ويحتمل أن يريد: في أنه بقي منهم.
وقوله: كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ هو- عند سيبويه- تأكيد بعد تأكيد، يتضمن الآخر ما تضمن الأول. وقال غيره: كُلُّهُمْ لو وقف عليه- لصلحت للاستيفاء، وصلحت على معنى المبالغة مع أن يكون البعض لم يسجد، وهذا كما يقول القائل: كل الناس يعرف كذا، وهو يريد أن المذكور أمر مشتهر، فلما قال:
أَجْمَعُونَ رفع الاحتمال في أن يبقى منهم أحد، واقتضى الكلام أن جميعهم سجد. وقال ابن المبرد:
لو وقف على كُلُّهُمْ لاحتمل أن يكون سجودهم في مواطن كثيرة، فلما قال: أَجْمَعُونَ دل على أنهم سجدوا في موطن واحد.
قال القاضي أبو محمد: واعترض قول المبرد بأنه جعل قوله: أَجْمَعُونَ حالا. بمعنى مجتمعين،
360
يلزمه- على هذا- أن يكون أجمعين، يقرب من التنكير إذ هو معرفة لكونه يلزم اتباع المعارف، والقراءة بالرفع تأبى قوله.
وقوله: إِلَّا إِبْلِيسَ قيل: إنه استثناء من الأول، وقيل: إنه ليس من الأول. وهذا متركب على الخلاف في إِبْلِيسَ، هل هو من الملائكة أم لا؟ والظاهر- من كثير من الأحاديث ومن هذه الآية- أنه من الملائكة وذلك أن الله تعالى أمر الملائكة بالسجود، ولو لم يكن إبليس من الملائكة لم يذنب في ترك السجود. وقد روي عن الحسن بن أبي الحسن: أن إبليس إنما كان من قبيل الجن ولم يكن قط ملكا ونسب ابن فورك القول إلى المعتزلة، وتعلق من قال هذا بقوله في صفته: كانَ مِنَ الْجِنِّ [الكهف: ٥٠] وقالت الفرقة الأخرى: لا حجة في هذا لأن الملائكة قد تسمى جنا لاستتارها وقد قال تعالى: وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً [الصافات: ١٥٨].
وقوله تعالى: قالَ: يا إِبْلِيسُ، قيل: إنه- حينئذ- سما «إبليس»، وإنما كان اسمه- قبل- عزازيل، وهو من الإبلاس وهو الإبعاد، أي يا مبعد، وقالت طائفة: «إبليس» كان اسمه، وليس باسم مشتق، بل هو أعجمي، ويقضي بذلك أنه لا ينصرف، ولو كان عربيا مشتقا لكان كإجفيل- من أجفل- وغيره، ولكان منصرفا، قاله أبو علي الفارسي.
وقوله: أَلَّا تَكُونَ «أن» في موضع نصب، وقيل: في موضع خفض، والأصل: مالك ألا تكون؟
وقول إبليس لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ ليس هذا موضع كفره عند الحذاق، لأن إبايته إنما هي معصية فقط، وأما قوله وتعليله فإنما يقتضي أن الله خلق خلقا مفضولا وكلف أفضل منه أن يذل له، فكأنه قال: وهذا جور، وذلك أن إبليس لما ظن أن النار أفضل من الطين ظن أن نفسه أفضل من آدم من النار يأكل الطين، فقاس وأخطأ في قياسه، وجهل أن الفضائل إنما هي حيث جعلها الله المالك للجميع لا رب غيره.
قوله عز وجل:
[سورة الحجر (١٥) : الآيات ٣٤ الى ٤٤]
قالَ فَاخْرُجْ مِنْها فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (٣٤) وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلى يَوْمِ الدِّينِ (٣٥) قالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (٣٦) قالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (٣٧) إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (٣٨)
قالَ رَبِّ بِما أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (٣٩) إِلاَّ عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (٤٠) قالَ هذا صِراطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ (٤١) إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إِلاَّ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ (٤٢) وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ (٤٣)
لَها سَبْعَةُ أَبْوابٍ لِكُلِّ بابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ (٤٤)
الضمير في مِنْها للجنة، وإن لم يجر ذكرها في القصة تتضمنها، ويحتمل أن يعود الضمير على ضيفة الملائكة، وال رَجِيمٌ المشتوم أي المرجوم بالقول والشتم، ويَوْمِ الدِّينِ يوم الجزاء، ومنه قول الشاعر:
361
ولم يبق سوى العدوا... ن دناهم كما دانوا
وسأل إبليس «النظرة إلى يوم البعث» فأعطاه الله إياها إلى «وقت معلوم»، واختلف فيه فقيل إلى يوم القيامة أي يكون آخر من يموت من الخلق، قاله الطبري وغيره وقيل إلى وقت غير معين ولا مرسوم بقيامة ولا غيرها، بل علمه عند الله وحده، وقيل بل أمره كان إلى يوم بدر وأنه قتل يوم بدر.
قال القاضي أبو محمد: وهذا وإن كان روي فهو ضعيف، والمنظر المؤخر، وقوله رَبِّ مع كفره يخرج على أنه يقر بالربوبية والخلق، وهو الظاهر من حاله وما تقتضيه فيه الآيات والأحاديث، وهذا لا يدفع في صدر كفره، وقوله بِما أَغْوَيْتَنِي قال أبو عبيدة وغيره أقسم بالإغواء.
قال القاضي أبو محمد: كأنه جعله بمنزلة قوله «رب» بقدرتك علي وقضائك ويحتمل أن تكون باء سبب، كأنه قال «رب» والله لأغوينهم بسبب إغوائك لي ومن أجله وكفاء له. ويحتمل أن يكون المعنى تجلدا منه ومبالغة في الجد أي بحالي هذه وبعدي عن الخير والله لأفعلن ولأغوين، ومعنى لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ أي الشهوات والمعاصي، والضمير في لَهُمْ لذرية آدم وإن كان لم يجر لهم ذكر، فالقصة بجملتها حيث وقعت كاملة تتضمنهم، و «الإغواء» : الإضلال، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر والحسن والأعرج «المخلصين» بفتح اللام، أي الذين أخلصتهم أنت لعبادتك وتقواك، وقرأ الجمهور «المخلصين» بكسر اللام، أي الذين أخلصوا الإيمان بك وبرسلك، وقوله تعالى: قالَ هذا صِراطٌ الآية: القائل هو الله تعالى، ويحتمل أن يكون ذلك بواسطة، وقرأ الضحاك وحميد والنخعي وأبو رجاء وابن سيرين وقتادة وقيس بن عباد ومجاهد وغيرهم «علي مستقيم» من العلو والرفعة، والإشارة بهذا على هذه القراءة إلى الإخلاص لما استثني إبليس من أخلص. قال الله له هذا الإخلاص طريق رفيع مستقيم لا تنال أنت بإغوائك أهله، وقرأ جمهور الناس «علي مستقيم»، والإشارة بهذا على هذه القراءة إلى انقسام الناس إلى غاو ومخلص، لما قسم إبليس الناس هذين القسمين، قال الله هذا طريق علي، أي هذا أمر إلى مصيره، والعرب تقول طريقك في هذا الأمر على فلان أي إليه يصير النظر في أمرك، وهذا نحو قوله تعالى إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ [الفجر: ١٤].
قال القاضي أبو محمد: الآية على هذه القراءة تتضمن وعيدا، ثم ابتدأ الإخبار عن سلامة عباده المتقين من إبليس وخاطبه بأنه لا حجة له عليهم ولا ملكه.
قال القاضي أبو محمد: والظاهر من قوله عِبادِي: الخصوص في أهل الإيمان والتقوى لا عموم الخلق، وبحسب هذا يكون إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مستثنى من غير الأول، التقدير لكن من اتبعك من الغاوين لك عليهم سلطان، وإن أخذنا العباد عاما في عباد الناس إذ لم يقرر الله لإبليس سلطانا على أحد فإنا نقدر الاستثناء في الأقل في القدر من حيث لا قدر للكفار، والنظر الأول أصوب، وإنما الغرض أن لا تقع في استثناء الأكثر من الأقل، وإن كان الفقهاء قد جوزوه، قال أبو المعالي ليس معروفا في استعمال العرب، وهذه الآية أمثل ما احتج به مجوزوه.
قال القاضي أبو محمد: ولا حجة لهم في الآية على ما بينته، وقوله جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أي موضع
362
اجتماعهم، والموعد يتعلق بزمان ومكان، وقد يذكر المكان ولا يحد زمان الموعد، وأَجْمَعِينَ تأكيد وفيه معنى الحال، وقوله لَها سَبْعَةُ أَبْوابٍ، قيل إن النار بجملتها سبعة أطباق أعلاها جهنم ثم لظى ثم الحطمة ثم السعير، ثم سقر، ثم الجحيم وفيه أبو جهل، ثم الهاوية، وإن في كل طبق منها بابا، فالأبواب على هذا بعضها فوق بعض، وعبر في هذه الآية عن النار جملة ب جَهَنَّمَ إذ هي أشهر منازلها وأولها وهي موضع عصاة المؤمنين الذين لا يخلدون، ولهذا روي أن جهنم تخرب وتبلى، وقيل إن النار أطباق كما ذكرنا لكن «الأبواب السبعة» كلها في جهنم على خط استواء، ثم ينزل من كل باب إلى طبقة الذي يفضى إليه.
قال القاضي أبو محمد: واختصرت ما ذكر المفسرون في المسافات التي بين الأبواب وفي هواء النار، وفي كيفية الحال إذ هي أقوال أكثرها لا يستند، وهي في حيز الجائز، والقدرة أعظم منها، عافانا الله من ناره وتغمدنا برحمته بمنه. وقرأ الجمهور «جزء» بهمز، وقرأ ابن شهاب «جزء» بضم الزاي، وقرأت فرقة «جزّ» بشد الزاي دون همز وهي قراءة ابن القعقاع.
قوله عز وجل:
[سورة الحجر (١٥) : الآيات ٤٥ الى ٥٠]
إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (٤٥) ادْخُلُوها بِسَلامٍ آمِنِينَ (٤٦) وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْواناً عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ (٤٧) لا يَمَسُّهُمْ فِيها نَصَبٌ وَما هُمْ مِنْها بِمُخْرَجِينَ (٤٨) نَبِّئْ عِبادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (٤٩)
وَأَنَّ عَذابِي هُوَ الْعَذابُ الْأَلِيمُ (٥٠)
ذكر الله تعالى ما أعد لأهل الجنة عقب ذكره ما أعد لأهل النار ليظهر التباين، وقرأ الجمهور و «عيون» بضم العين، وقرأ نبيح والجراح وأبو واقد ويعقوب في رواية رويس «وعيون» بكسر العين مثل بيوت وشيوخ، وقرأ الجمهور «ادخلوها» على الأمر بمعنى يقال لهم «ادخلوها»، وقرأ رويس عن يعقوب «أدخلوها» على بناء الفعل للمفعول وضم التنوين في «عيون»، ألقى عليه حركة الهمزة، و «السلام» هاهنا يحتمل أن يكون السلامة، ويحتمل أن يكون التحية، و «الغل» الحقد، وذكر الله تعالى في هذه الآية أن ينزع الغل من قلوب أهل الجنة، ولم يذكر لذلك موطنا، وجاء في بعض الحديث أن ذلك على الصراط، وجاء في بعضها أن ذلك على أبواب الجنة، وفي لفظ بعضها أن الغل ليبقى على أبواب الجنة كمعاطن الإبل.
قال القاضي أبو محمد: وهذا على أن الله تعالى يجعل ذلك تمثيلا بلون يخلقه هناك ونحوه، وهذا كحديث ذبح الموت، وقد يمكن أيضا أن يسل من الصدور، ولذلك جواهر سود فيكون كمبارك الإبل، وجاء في بعض الأحاديث أن نزع الغل إنما يكون بعد استقرارهم في الجنة.
قال القاضي أبو محمد: والذي يقال في هذا أن الله ينزعه في موطن من قوم وفي موطن من آخرين، وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: إني لأرجو أن أكون أنا وطلحة والزبير ممن قال الله تعالى فيهم:
وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْواناً عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ.. وذكر أن ابنا لطلحة كان عنده فاستأذن الأشتر فحبسه مدة ثم أذن له فدخل، فقال ألهذا حبستني وكذلك لو كان ابن عثمان حبستني له فقال علي نعم إني وعثمان وطلحة والزبير ممن قال الله فيهم وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ الآية.
قال القاضي أبو محمد: وقد روي أن المستأذن غير الأشتر وإِخْواناً نصب على الحال، وهذه أخوة الدين والود، والأخ من ذلك يجمع على إخوان وإخوة أيضا، والأخ من النسب يجمع أخوة وإخاء، ومنه قول الشاعر:
وأي بني الإخاء تصفو مذاهبه ويجمع أيضا إخوانا وسُرُرٍ جمع سرير، ومُتَقابِلِينَ الظاهر أن معناه في الوجوه، إذ الأسرة متقابلة فهي أحسن في الرتبة، قال مجاهد لا ينظر أحدهم في قفا صاحبه، وقيل مُتَقابِلِينَ في المودة، وقيل غير هذا مما لا يعطيه اللفظ، و «النصب» التعب، يقع على القليل والكثير، ومن الكثير قول موسى عليه السلام لَقَدْ لَقِينا مِنْ سَفَرِنا هذا نَصَباً [الكهف: ٦٢] ومن ذلك قول الشاعر: [الطويل] كليني لهم يا أمية ناصب ونَبِّئْ معناه أعلم، وعِبادِي مفعول ب نَبِّئْ، وهي تتعدى إلى ثلاثة مفاعيل، ف عِبادِي مفعول و «أن» تسد مسد المفعولين الباقيين واتصف ذلك وهي وما عملت فيه بمنزلة اسم واحد، ألا ترى أنك إذا قلت أعجبني أن زيدا منطلق إنما المعنى أعجبني انطلاق زيد لأن دخولها إنما هو على جملة ابتداء وخبر فسدت لذلك مسد المفعولين.
قال القاضي أبو محمد: وقد تتعدى نَبِّئْ إلى مفعولين فقط ومنه قوله تعالى مَنْ أَنْبَأَكَ هذا [التحريم: ٣]، وتكون في هذا الموضع بمعنى أخبر وعرف، وفي هذا كله نظر، وهذه آية ترجية وتخويف، وروي في هذا المعنى عن رسول الله ﷺ أنه قال «لو يعلم العبد قدر عفو الله لما تورع من حرام ولو يعلم قدر عذابه لبخع نفسه». وروي في هذه الآية أن سببها أن رسول الله ﷺ جاء إلى جماعة من أصحابه عند باب بني شيبة في الحرم، فوجدهم يضحكون، فزجرهم ووعظهم ثم ولى فجاءه جبريل عن الله، فقال: يا محمد أتقنط عبادي؟ وتلا عليه الآية، فرجع بها رسول الله ﷺ إليهم وأعلمهم.
قال القاضي أبو محمد: ولو لم يكن هذا السبب لكان ما قبلها يقتضيها، إذ تقدم ذكر ما في النار وذكر ما في الجنة فأكد تعالى تنبيه الناس بهذه الآية.
قوله عز وجل:
[سورة الحجر (١٥) : الآيات ٥١ الى ٥٦]
وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ (٥١) إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقالُوا سَلاماً قالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ (٥٢) قالُوا لا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ (٥٣) قالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ (٥٤) قالُوا بَشَّرْناكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُنْ مِنَ الْقانِطِينَ (٥٥)
قالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّالُّونَ (٥٦)
364
قرأ أبو حيوة «ونبهم» بضم الهاء من غير همز، وهذا ابتداء قصص بعد انصرام الغرض الأول، وضَيْفِ مصدر وصف به فهو للواحد والاثنين والجمع والمذكر والمؤنث بلفظ واحد كعدل وغيره، قال النحاس وغيره: التقدير عن أصحاب ضيف.
قال القاضي أبو محمد: ويغني عن هذا أن هذا المصدر عومل معاملة الأسماء كما فعل في رهن ونحوه، والمراد ب «الضيف» هنا الملائكة الذين جاؤوا لإهلاك قوم لوط وبشروا إبراهيم، وقد تقدم قصصهم. وقوله سَلاماً مصدر منصوب بفعل مضمر تقديره سلمنا أو نسلم سلاما، والسلام هنا التحية، وقوله سَلاماً حكاية قولهم فلا يعمل القول فيه، وإنما يعمل إذا كان ما بعده ترجمة عن كلام ليس يحكى بعينه كما تقول لمن قال لا إله إلا الله قلت حقا ونحو هذا وقوله إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ أي فزعون، وإنما وجل إبراهيم عليه السلام منهم لما قدم إليهم العجل الحنيذ فلم يرهم يأكلون، وكانت عندهم العلامة المؤمنة أكل الطعام، وكذلك هو في غابر الدهر أمنة للنازل والمنزول به، وقرأ الجمهور «لا توجل» مستقبل وجل، وقرأ الحسن «لا تؤجل» بضم التاء على بناء الفعل للمفعول من أوجل، لأن وجل لا يتعدى، وكانت هذه البشارة بإسحاق، وذلك بعد مولد إسماعيل بمدة، وقول إبراهيم الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ [إبراهيم: ٣٩] وليس يقتضي أنهما حينئذ وهبهما بل قبل الحمد بكثير. وقرأ الجمهور «أبشرتموني» بألف الاستفهام، وقرأ الأعرج «بشرتموني» بغير ألف. وقوله: عَلى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ، أي في حالة قد مسني فيها الكبر، وقرأ ابن محيصن «الكبر» بضم الكاف وسكون الباء، وقرأ أبو عمرو وعاصم وابن عامر وحمزة والكسائي «تبشرون» بفتح النون التي هي علامة الرفع، والفعل على هذه القراءة غير معدى، وقرأ الحسن البصري «تبشروني» بنون مشددة وياء، وقرأ ابن كثير بشد النون دون ياء، وهذه القراءة أدغمت فيها نون العلامة في النون التي هي للمتكلم موطئة للياء، وقرأ نافع «تبشرون» بكسر النون، وغلط أبو حاتم نافعا في هذه القراءة، وقال إن شاهد الشعر في هذا اضطرار.
قال القاضي أبو محمد: وهذا حمل منه، وتقدير هذه القراءة أنه حذفت النون التي للمتكلم وكسرت النون التي هي علامة الرفع بحسب الياء، ثم حذفت الياء لدلالة الكسرة عليها، ونحو هذا قول الشاعر أنشده سيبويه: [الوافر]
تراه كالثغام يعل مسكا يسوء الفاليات إذا فليني
ومنه قول الآخر:
أبالموت الذي لا بد أني ملاق لا أباك تخوفيني
ومن حذف هذه النون قول الشاعر:
قدني من نصر الخبيبين قدي يريد عبد الله ومصعبا ابني الزبير، وكان عبد الله يكنى أبا خبيب، وقرأ الحسن «فبم تبشرون» بفتح
365
التاء وضم الشين، وقول إبراهيم عليه السلام فَبِمَ تُبَشِّرُونَ تقرير على جهة التعجب والاستبعاد لكبرهما، أو على جهة الاحتقار وقلة المبالاة بالمسرة الدنيوية لمضي العمر واستيلاء الكبر. قال مجاهد:
عجب من كبره ومن كبر امرأته، وقد تقدم ذكر سنه وقت البشارة. وقولهم بَشَّرْناكَ بِالْحَقِّ فيه شدة ما، أي بشر بما بشرت به ودع غير ذلك، وقرأ جمهور الناس «القانطين»، والقنوط: أتم اليأس، وقرأ يحيى بن وثاب والأعمش وابن مصرف ورويت عن عمرو «القنطين»، وقرأ ابن كثير ونافع وعاصم وابن عامر وحمزة، «ومن يقنط» بفتح النون في كل القرآن، وقرأ أبو عمرو والكسائي «ومن يقنط» بكسر النون، وكلهم قرأ من بَعْدِ ما قَنَطُوا [الشورى: ٢٨] بفتح النون، ورد أبو عبيد قراءة أهل الحرمين وأنكر أن يقال قنط بكسر النون، وليس كما قال لأنهم لا يجمعون إلا على قوي في اللغة مروي عندهم، وهي قراءة فصيحة إذ يقال قنط يقنط وقنط يقنط مثل نقم ونقم، وقرأ الأعمش هنا «يقنط» بكسر النون، وقرأ مِنْ بَعْدِ ما قَنَطُوا [الشورى: ٢٨] بكسر النون أيضا، فقرأ باللغتين، وقرأ الأشهب «يقنط» بضم النون وهي قراءة الحسن والأعمش أيضا وهي لغة تميم.
قوله عز وجل:
[سورة الحجر (١٥) : الآيات ٥٧ الى ٦٥]
قالَ فَما خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (٥٧) قالُوا إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (٥٨) إِلاَّ آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ (٥٩) إِلاَّ امْرَأَتَهُ قَدَّرْنا إِنَّها لَمِنَ الْغابِرِينَ (٦٠) فَلَمَّا جاءَ آلَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ (٦١)
قالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (٦٢) قالُوا بَلْ جِئْناكَ بِما كانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ (٦٣) وَأَتَيْناكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّا لَصادِقُونَ (٦٤) فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَاتَّبِعْ أَدْبارَهُمْ وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ (٦٥)
القائل هنا إبراهيم عليه السلام، وقوله: فَما خَطْبُكُمْ سؤال فيه عنف، كما تقول لمن تنكر حاله:
ما دهاك وما مصيبتك؟ وأنت إنما تريد استفهاما عن حاله فقط. لأن «الخطب» لفظة إنما تستعمل في الأمور الشداد، على أن قول إبراهيم عليه السلام أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ وكونهم أيضا قد بشروه يقتضي أنه قد كان عرف أنهم ملائكة حين قال فَما خَطْبُكُمْ، فيحتمل قوله فَما خَطْبُكُمْ مع هذا أنه أضاف الخطب إليهم من حيث هم حملته إلى القوم المعذبين أي ما هذا الخطب الذي تتحملونه وإلى أي أمة. ول قَوْمٍ مُجْرِمِينَ يراد به أهل مدينة سدوم الذين بعث فيهم لوط عليه السلام، والمجرم الذي يجر الجرائر ويرتكب المحظورات، وأصل جرم وأجرم كسب، ومنه قول الشاعر: [الوافر] جريمة ناهض في رأس نيق أي كسب عقاب في قنة شامخ، ولكن اللفظة خصّت في عرفها بالشر، لا يقال لكاسب الأجر مجرم، وقولهم إِلَّا آلَ استثناء منقطع، والأول القوم الذين يؤول أمرهم إلى المضاف إليه، كذا قال سيبويه، وهذا نص في أن لفظة آلَ ليست لفظة أهل كما قال النحاس، ويجوز على هذا إضافة آلَ إلى الضمير، وأما أهيل فتصغير أهل، واجتزوا به عن تصغير «آل»، فرفضوا «أويلا» وقرأ جمهور السبعة
366
«لمنجّوهم»، وقرأ حمزة والكسائي «لمنجوهم» بسكون النون وضم الجيم مخففة، والضمير في لَمُنَجُّوهُمْ في موضع خفض بالإضافة، وانحذفت النون للمعاقبة، هذا قول جمهور النحويين، وقال الأخفش الضمير في موضع نصب وانحذفت النون لأنه لا بد من اتصال هذا الضمير.
قال القاضي أبو محمد: وفي هذا نظر، وقوله إِلَّا امْرَأَتَهُ استثناء بعد استثناء وهما منقطعان فيما حكى بعض النحاة لأنهم لم يجعلوا امرأته الكافرة من آله.
قال القاضي أبو محمد: وفي هذا نظر، لأنها قبل الاستثناء داخلة في اللفظ الذي هو الأول، وليس كذلك الأول مع «المجرمين»، فيظهر الاستثناء الأول منقطعا والثاني متصلا، والاستثناء بعد الاستثناء يرد المستثنى الثاني في حكم أمر الأول، ومثل بعض الناس في هذا بقولك: لي عندك مائة درهم إلا عشرة دراهم إلا درهمين، فرجعت الدرهمان في حكم التسعين الدرهم، وقال المبرد: ليس هذا المثال بجيد، لأنه من خلق الكلام ورثه إذ له طريق إلى أداء المعنى المقصود بأجمل من هذا التخليق، وهو أن يقول لي عندك مائة إلا ثمانية، وإنما ينبغي أن يكون مثالا للآية قولك: ضربت بني تميم إلا بني دارم إلا حاجبا، لأن حاجبا من بني دارم فلما كان المستثنى الأول في ضمنه ما لا يجري الحكم عليه، والضرورة تدخله في لفظه ولا يمكنك العبارة عنه دون ذلك الذي يجري الحكم عليهم اضطررت إلى استثناء ثان.
قال القاضي أبو محمد: ونزعة المبرد في هذا نبيلة، وقرأ جميعهم سوى عاصم في رواية أبي بكر «قدّرنا» بتشديد الدال في كل القرآن، وقرأ عاصم «قدرنا» بتخفيفها، ونقل في رواية حفص، والتخفيف يكون بمعنى التثقيل كما قال الهذلي أبو ذؤيب: [الطويل]
ومفرهة عنس قدرت لساقها... فخرت كما تتابع الريح بالقفل
يريد قدرت ضربي لساقها، وكقول النبي عليه السلام في الاستخارة: «واقدر لي الخير حيث كان»، ويكون أيضا بمعنى سن ووفق ومنه قول الشاعر: [يزيد بن مفرغ]
بقندهار ومن تقدير منيته... يرجع دونه الخبر
وكسرت الألف من إِنَّها بسبب اللام التي في قوله لَمِنَ والغابر الباقي في الدهر وغيره، وقالت فرقة منهم النحاس: هو من الأضداد، يقال في الماضي وفي الباقي، وأما في هذه الآية فهي للبقاء أي من الغابرين في العذاب، وقوله تعالى: فَلَمَّا جاءَ آلَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ الآيات، تقدم القول وذكر القصص في أمر لوط وصورة لقاء الرسل له، وقيل إن الرسل كانوا ثلاثة، جبريل، وميكائيل، وإسرافيل، وقيل كانوا اثني عشر وقوله مُنْكَرُونَ أي لا يعرفون في هذا القطر، وفي هذه اللفظة تحذير وهو من نمط ذمه لقومه وجريه إلى أن لا ينزل هؤلاء القوم في تلك المدينة خوفا منه أن يظهر سوء فعلهم وطلبهم الفواحش، فقالت الرسل للوط بل جئناك بما وعدك الله من تعذيبهم على كفرهم ومعاصيهم، وهو الذي كانوا يشكون فيه ولا يحققونه، وقرأت فرقة «فاسر» بوصل الألف، وقرأت فرقة «فأسر» بقطع الألف، يقال سرى وأسرى بمعنى، إذا سار ليلا، وقال النابغة: [البسيط] أسرت عليه من الجوزاء سارية
367
فجمع بين اللغتين في بيت، وقرأ اليماني «فيسر بأهلك»، وهذا الأمر بالسرى هو عن الله تعالى، أي يقال لك، و «القطع» الجزء من الليل، وقرأت فرقة «بقطع» بفتح الطاء حكاه منذر بن سعيد. وقوله: وَاتَّبِعْ أَدْبارَهُمْ أي كن خلفهم وفي ساقتهم حتى لا يبقى منهم أحد ولا يتلوى، وحَيْثُ في مشهورها ظرف مكان، وقالت فرقة أمر لوط أن يسير إلى زغر، وقيل: إلى موضع نجاة غير معروف عندنا، وقالت فرقة:
حَيْثُ قد تكون ظرف زمان، وأنشد أبو علي في هذا بيت طرفة: [المديد]
للفتى عقل يعيش به... حيث تهدي ساقه قدمه
كأنه قال مدة مشيه وتنقله، وهذه الآية من حيث أمر أن يسري بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ ثم قيل له «حيث تؤمر». ونحن لا نجد في الآية أمرا له لا في قوله بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ أمكن أن تكون حَيْثُ ظرف زمان، ويَلْتَفِتْ مأخوذ من الالتفات الذي هو نظر العين، قال مجاهد: المعنى لا ينظر أحد وراءه.
قال القاضي أبو محمد: ونهوا عن النظر مخافة العقلنة وتعلق النفس بمن خلف، وقيل بل لئلا تتفطر قلوبهم من معاينة ما جرى على القرية في رفعها وطرحها. وقيل يَلْتَفِتْ معناه يتلوى من قولك لفت الأمر إذا لويته، ومنه قولهم للعصيدة لفيتة لأنها تلوى، بعضها على بعض.
قوله عز وجل:
[سورة الحجر (١٥) : الآيات ٦٦ الى ٧٧]
وَقَضَيْنا إِلَيْهِ ذلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دابِرَ هؤُلاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ (٦٦) وَجاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ (٦٧) قالَ إِنَّ هؤُلاءِ ضَيْفِي فَلا تَفْضَحُونِ (٦٨) وَاتَّقُوا اللَّهَ وَلا تُخْزُونِ (٦٩) قالُوا أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعالَمِينَ (٧٠)
قالَ هؤُلاءِ بَناتِي إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ (٧١) لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ (٧٢) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ (٧٣) فَجَعَلْنا عالِيَها سافِلَها وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ (٧٤) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ (٧٥)
وَإِنَّها لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ (٧٦) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ (٧٧)
المعنى وَقَضَيْنا ذلِكَ الْأَمْرَ أي أمضيناه وختمنا به، ثم أدخل في الكلام إِلَيْهِ من حيث أوحى ذلك إليه وأعلمه الله به فجلب هذا المعنى بإيجاز وحذف ما يدل الظاهر عليه وأَنَّ في موضع نصب، قال الأخفش: هي بدل من ذلِكَ، وقال الفراء: بل التقدير «بأن دابر» فحذف حرف الجر، والأول أصوب، و «الدابر» الذي يأتي آخر القوم أي في أدبارهم، وإذا قطع ذلك وأتى عليه فقد أتى العذاب من أولهم إلى آخرهم، وهذه ألفاظ دالة على الاستئصال والهلاك التام، يقال قطع الله دابره واستأصل شأفته وأسكت نأمته بمعنى. ومُصْبِحِينَ معناه إذا أصبحوا ودخلوا في الصباح، وقوله وَجاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ، يحتمل أن رجع الوصف أمر جرى قبل إعلام لوط بهلاك أمته، ويدل على هذا أن محاجة لوط لقومه تقتضي ضعف من لم يعلم إهلاكهم، وأن الأضياف ملائكة، ويحتمل قوله وَجاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ أن يكون بعد علمه بهلاكهم، وكان قوله ما يأتي من المحاورة على جهة التهكم عنهم والإملاء لهم والتربص بهم.
368
قال القاضي أبو محمد: والاحتمال الأول عندي أرجح، وهو الظاهر من آيات غير هذه السورة، وقوله يَسْتَبْشِرُونَ أي بالأضياف طمعا منهم في الفاحشة، و «الضيف» مصدر وصف به، فهو يقع للواحد والجميع والمذكر والمؤنث، وقولهم أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعالَمِينَ روي أنهم قد تقدموا إليه في أن لا يضيف أحدا ولا يجيره، لأنهم لا يراعونه ولا يكتفون عن طلب الفاحشة فيه، وقرأ الأعمش «إن دابر» بكسر الهمزة وروي أن في قراءة عبد الله «وقضينا إليه ذلك الأمر وقلنا إن دابر هؤلاء مقطوع»، وذكر السدي أنهم إنما كانوا يفعلون الفاحشة مع الغرباء ولا يفعلونها بعضهم ببعض، فكانوا يعترضون الطرق، وقول لوط عليه السلام هؤُلاءِ بَناتِي اختلف في تأويله، فقيل أراد نساء أمته لأن زوجات النبيين أمهات الأمم وهو أبوهم فالنساء بناته في الحرمة والمراد بالتزويج، ويلزم هذا التأويل أن يكون في شرعه جواز زواج الكافر للمؤمنة، وقد ورد أن المؤمنات به قليل جدا، وقيل إنما أراد بنات صلبه ودعا إلى التزويج أيضا قاله قتادة ويلزم هذا التأويل أيضا ما لزم المتقدم في ترتيبنا.
قال القاضي أبو محمد: ويحتمل أن يريد بقوله عليه السلام هؤُلاءِ بَناتِي بنات صلبه، ويكون ذلك على طريق المجاز، وهو لا يحقق في إباحة بناته وهذا كما تقول لإنسان تراه يريد قتل آخر اقتلني ولا تقتله فإنما ذلك على جهة التشنيع عليه والاستنزال من جهة ما واستدعاء الحياء منه، وهذا كله من مبالغة القول الذي لا يدخله معنى الكذب بل الغرض منه مفهوم، وعليه قول النبي عليه السلام «ولو كمفحص قطاة»، إلى غير هذا من الأمثلة و «العمر» و «العمر» بفتح العين وضمها واحد، وهما مدة الحياة، ولا يستعمل في القسم إلا بالفتح، وفي هذه الآية شرف لمحمد عليه السلام لأن الله تعالى أقسم بحياته ولم يفعل ذلك مع بشر سواه، قاله ابن عباس.
قال القاضي أبو محمد: والقسم ب لَعَمْرُكَ في القرآن، وب «لعمري» ونحوه في أشعار العرب وفصيح كلامها في غير موضع.
كقوله: [الطويل] لعمري وما عمري عليّ بهين وقول الآخر: [الوافر] لعمر أبيك ما نسب المعالي وكقول الآخر: [طرفة بن العبد] [الطويل]
لعمرك إن الموت ما أخطأ الفتى لك الطّول المرخى وثنياه باليد
والعرب تقول لعمر الله، ومنه قول الشاعر:
إذا رضيت عليّ بنو قشير لعمر الله أعجبني رضاها
وقال الأعشى: [الكامل]
369
ويروى وهلالها، وقال بعض أصحاب المعاني، لا يجوز هذا لأنه لا يقال لله تعالى عمر، وإنما يقال بقاء أزلي ذكره الزهراوي، وكره إبراهيم النخعي أن يقول الرجل لعمري لأنه حلف بحياة نفسه، وذلك من كلام ضعفة الرجال، ونحو هذا، قول مالك في «لعمري» و «لعمرك» أنها ليست بيمين، وقال ابن حبيب ينبغي أن تصرف لَعَمْرُكَ في الكلام اقتداء بهذه الآية، ويَعْمَهُونَ يرتبكون ويتحيرون، والضمائر في سَكْرَتِهِمْ يراد بها قوم لوط المذكورون، وذكر الطبري أن المراد قريش، وهذا بعيد لأنه ينقطع مما قبله ومما بعده، وقوله لَفِي سَكْرَتِهِمْ مجاز وتشبيه، أي في ضلالتهم وغفلتهم وإعراضهم عن الحق ولهوهم، ويَعْمَهُونَ معناه يتردون في حيرتهم، ومُشْرِقِينَ معناه قد دخلوا في الإشراق وهو سطوع ضوء الشمس وظهوره قاله ابن زيد.
قال القاضي أبو محمد: وهذه «الصيحة» هي صيحة الوجبة وليست كصيحة ثمود، وأهلكوا بعد الفجر مصبحين واستوفاهم الهلاك مشرقين، وخبر قوله لَعَمْرُكَ محذوف تقديره لعمرك قسمي أو يميني، وفي هذا نظر، وقرأ ابن عباس «وعمرك»، وقرأ الأشهب العقيلي «لفي سكرتهم» بضم السين، وقرأ ابن أبي عبلة «لفي سكراتهم»، وقرأ الأعمش «لفي سكرهم» بغير تاء، وقرأ أبو عمرو في رواية الجهضمي «أنهم في سكرتهم» بفتح الألف، وروي في معنى قوله فَجَعَلْنا عالِيَها سافِلَها أن جبريل عليه السلام اقتلع المدينة بجناحيه ورفعها حتى سمعت ملائكة السماء صراخ الديكة ونباح الكلاب ثم قلبها وأرسل الكل، فمن سقط عليه شيء من جرم المدينة مات، ومن أفلت منهم أصابته حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ، وسِجِّيلٍ اسم من الدنيا، وقيل لفظة فارسية، وهي الحجارة المطبوخة من الطين كالآجر ونحوه، وقد تقدم القول في هذا، و «المتوسمون» قال مجاهد المتفرسون، وقال الضحاك الناظرون، وقال قتادة المعتبرون، وقيل غير هذا مما هو قريب منه، وهذا كله تفسير بالمعنى، وأما تفسير اللفظة فإن المعاني التي تكون في الإنسان وغيره من خير أو شر يلوح عليه وسم عن تلك المعاني، كالسكون والدماثة واقتصاد الهيئة التي تكون عن الخير ونحو هذا، فالمتوسم هو الذي ينظر في وسم المعنى فيستدل به على المعنى، وكأن معصية هؤلاء أبقت من العذاب والإهلاك وسما، فمن رأى الوسم استدل على المعصية به واقتاده النظر إلى تجنب المعاصي لئلا ينزل به ما نزل بهم، ومن الشعر في هذه اللفظة قول الشاعر: [الطويل]
ولعمر من جعل الشهور علامة فيها فبين نصفها وكمالها
توسمته لما رأيت مهابة عليه وقلت المرء من آل هاشم
وقال آخر:
فظللت فيها واقفا أتوسم وقال آخر:
إني توسمت فيك الخير نافلة والضمير في قوله وَإِنَّها يحتمل أن يعود على المدينة المهلكة، أي أنها في طريق ظاهر بين للمعتبر، وهذا تأويل مجاهد وقتادة وابن زيد، ويحتمل أن يعود على الآيات، ويحتمل أن يعود على الحجارة، ويقوي هذا التأويل ما روي أن النبي عليه السلام قال: «إن حجارة العذاب معلقة بين السماء
370
والأرض منذ ألفي سنة لعصاة أمتي»، وقوله الْآيَةَ أي أمارة وعلامة كما تقول آية ما بيني وبينك كذا وكذا.
قوله عز وجل:
[سورة الحجر (١٥) : الآيات ٧٨ الى ٨٦]
وَإِنْ كانَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ لَظالِمِينَ (٧٨) فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ وَإِنَّهُما لَبِإِمامٍ مُبِينٍ (٧٩) وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ (٨٠) وَآتَيْناهُمْ آياتِنا فَكانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ (٨١) وَكانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً آمِنِينَ (٨٢)
فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ (٨٣) فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ (٨٤) وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلاَّ بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ (٨٥) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلاَّقُ الْعَلِيمُ (٨٦)
الْأَيْكَةِ الغيضة والشجر الملتف المخضر يكون السدر وغيره، قال قتادة، وروي أن أيكة هؤلاء كانت من شجر الدوم، وقيل من المقل، وقيل من السدر، وكان هؤلاء قوما يسكنون غيضة ويرتفقون بها في معايشهم فبعث الله إليهم شعيبا فكفروا فسلط الله عليهم الحر فدام عليهم سبعة أيام ثم رأوا سحابة فخرجوا فاستظلوا تحتها فاضطرمت عليهم نارا، وحكى الطبري قال: بعث شعيب إلى أمتين كفرتا فعذبتا بعذابين مختلفين: أهل مدين عذبوا بالصيحة، وأَصْحابُ الْأَيْكَةِ، ولم يختلف القراء في هذا الموضع في إدخال الألف واللام على «أيكة»، وأكثرهم همز ألف أيكة بعد اللام، وروي عن بعضهم أنه سهلها ونقل حركتها إلى اللام فقرأ «أصحاب الأيكة» دون همز، واختلفوا في سورة الشعراء وفي سورة ص، وإِنْ هي المخففة من الثقيلة على مذهب البصريين، وقال الفراء إِنْ بمعنى ما، واللام في قوله لَظالِمِينَ بمعنى إلا. قال أبو علي: الأيك جمع أيكة كترة وتمر.
قال القاضي أبو محمد: ومن الشاهد على اللفظة قول أمية بن أبي الصلت:
كبكاء الحمام على غصون الأي... ك في الطير الجوانح
ومنه قول جرير: [الوافر]
وقفت بها فهاج الشوق مني... حمام الأيك يسعدها حمام
ومنه قول الآخر:
ألا إنما الدنيا غضارة أيكة... إذا اخضرّ منها جانب جف جانب
ومنه قول الهذلي:
موشحة بالطرتين دنا لها... جنا أيكة تضفو عليها قصارها
وأنشد الأصمعي: [البسيط]
وما خليج من المروت ذو حدب يرمي الصعيد بخشب الأيك والضال
والضمير في قوله وَإِنَّهُما يحتمل أن يعود على المدينتين اللتين تقدم ذكرهما: مدينة قوم لوط، ومدينة أصحاب الأيكة، ويحتمل أن يعود للنبيين: على لوط وشعيب، أي أنهما على طريق من الله وشرع مبين. و «الإمام» في كلام العرب الشيء الذي يهتدى به ويؤتم، يقولونه لخيط البناء، وقد يكون الطريق، وقد يكون الكتاب المفيد، وقد يكون القياس الذي يعمل عليه الصناع، وقد يكون الرجل المقتدى به، ونحو هذا، ومن رأى عود الضمير في إِنَّهُما على المدينتين قال «الإمام» الطريق، وقيل على ذلك «الإمام» الكتاب الذي سبق فيه إهلاكهما، وأَصْحابُ الْحِجْرِ هم ثمود، وقد تقدم قصصهم، والْحِجْرِ مدينتهم، وهي ما بين المدينة وتبوك، وقال الْمُرْسَلِينَ من حيث يجب بتكذيب رسول واحد تكذيب الجميع، إذ القول في المعتقدات واحد للرسل أجمع، فهذه العبارة أشنع على المكذبين، و «الآية» التي آتاهم الله هي الناقة وما اشتملت عليه من خرق العادة حسبما تقدم تفسيره وبسطه، وقرأ أبو حيوة «وآتيناهم آيتنا» مفردة، وقوله تعالى: وَكانُوا يَنْحِتُونَ الآية، يصف قوم صالح بشدة النظر للدنيا والتكسب منها فذكر من ذلك مثالا أن بيوتهم كانوا ينحتونها في حجر الجبال، و «النحت» النقر بالمعاول ونحوها في الحجارة والعود ونحوه، وقرأ جمهور الناس «ينحتون» بكسر الحاء، وقرأ الحسن «ينحتون» بفتحها، وذلك لأجل حرف الحلق، وهي قراءة أبي حيوة، وقوله آمِنِينَ قيل معناه من انهدامها، وقيل من حوادث الدنيا، وقيل من الموت لاغترارهم بطول الأعمال.
قال القاضي أبو محمد: وهذا كله ضعيف، وأصح ما يظهر في ذلك أنهم كانوا يأمنون عواقب الآخرة. فكانوا لا يعملون بحسبها، بل كانوا يعملون بحسب الأمن منها، ومعنى مُصْبِحِينَ أي عند دخولهم في الصباح، وذكر أن ذلك كان يوم سبت، وقد تقدم قصص عذابهم وميعادهم وتغير ألوانهم، ولم تغن عنهم شدة نظرهم للدنيا وتكسبهم شيئا، ولا دفع عذاب الله، وما الأولى تحتمل النفي وتحتمل التقرير، والثانية مصدرية، وقوله تعالى: وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ الآية، المراد أن هؤلاء المكتسبين للدنيا الذين لم يغن عنهم اكتسابهم ليسوا في شيء، فإن السماوات والأرض وجميع الأشياء لم تخلق عبثا ولا سدى، ولا لتكون طاعة الله كما فعل هؤلاء ونظراؤهم، وإنما خلقت بالحق ولواجب مراد وأغراض لها نهايات من عذاب أو تنعيم وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ على جميع أمور الدنيا، أي فلا تهتم يا محمد بأعمال قومك فإن الجزاء لهم بالمرصاد، فَاصْفَحِ عن أعمالهم، أي ولّها صفحة عنقك بالإعراض عنها، وأكد الصفح بنعت الجمال إذ المراد منه أن يكون لا عتب فيه ولا تعرض.
وهذه الآية تقتضي مداهنة، ونسخها في آية السيف قاله قتادة، ثم تلاه في آخر الآية بأن الله تعالى يخلق من شاء لما شاء ويعلم تعالى وجه الحكمة في ذلك لا هذه الأوثان التي يعبدونها، وقرأ جمهور الناس «الخلاق»، وقرأ الأعمش والجحدري «الخالق».
قوله عز وجل:
[سورة الحجر (١٥) : الآيات ٨٧ الى ٩٣]
وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ (٨٧) لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ (٨٨) وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ (٨٩) كَما أَنْزَلْنا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ (٩٠) الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ (٩١)
فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (٩٢) عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ (٩٣)
372
قال ابن عمر وابن مسعود وابن عباس ومجاهد وابن جبير: «السبع» هنا هي السبع الطوال البقرة وآل عمران والنساء والمائدة والأنعام والمص والأنفال مع براءة، وقال ابن جبير: بل السابعة يونس وليست الأنفال وبراءة منها، والْمَثانِي على قول هؤلاء: القرآن كما قال تعالى: كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ [الزمر: ٢٣]، وسمي بذلك لأن القصص والأخبار تثنى فيه وتردد، وقال عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب وابن عباس أيضا وابن مسعود والحسن وابن أبي مليكة وعبيد بن عمير وجماعة: «السبع» هنا هي آيات الحمد، قال ابن عباس: هي سبع: ببسم الله الرحمن الرحيم، وقال غيره هي سبع دون البسملة، وروي في هذا حديث أبي بن كعب ونصه: قال أبيّ: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ألا أعلمك يا أبيّ سورة لم تنزل في التوراة والإنجيل ولا في الزبور ولا في الفرقان مثلها»، قلت: بلى، قال: «إني لأرجو أن لا تخرج من ذلك الباب حتى تعلمها»، فقام رسول الله وقمت معه ويدي في يده وجعلت أبطىء في المشي مخافة أن أخرج، فلما دنوت من باب المسجد، قلت: يا رسول الله، السورة التي وعدتنيها؟ فقال: «كيف تقرأ إذا قمت في الصلاة» ؟ قال: فقرأت الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ [الفاتحة: ١] حتى كملت فاتحة الكتاب، فقال: «هي هي، وهي السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أوتيت»، كذا أو نحوه ذكره مالك في الموطأ، وهو مروي في البخاري ومسلم عن أبي سعيد بن المعلى أيضا، وروى أبو هريرة عن النبي ﷺ «إنها السبع المثاني، وأم القرآن، وفاتحة الكتاب» وفي كتاب الزهراوي: وليس فيها بسملة، والْمَثانِي على قول هؤلاء يحتمل أن يكون القرآن، ف مِنَ للتبعيض، وقالت فرقة: بل أراد الحمد نفسها كما قال الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ [الحج: ٣٠] ف مِنَ لبيان الجنس، وسميت بذلك لأنها تثنى في كل ركعة، وقيل سميت بذلك لأنها يثنى بها على الله تعالى، جوزه الزجاج.
قال القاضي أبو محمد: وفي هذا القول من جهة التصريف نظر، وقال ابن عباس: سميت بذلك لأن الله تعالى استثناها لهذه الأمة ولم يعطها لغيرها، وقال نحوه ابن أبي مليكة، وقرأت فرقة «والقرآن» بالخفض عطفا على الْمَثانِي وقرأت فرقة «والقرآن» بالنصب عطفا على قوله سَبْعاً، وقال زياد بن أبي مريم:
المراد بقوله وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً أي سبع معان من القرآن خولناك فيها شرف المنزلة في الدنيا والآخرة وهي: مر، وانه، وبشر، وأنذر، واضرب الأمثال، واعدد النعم، واقصص الغيوب، وقال أبو العالية «السبع المثاني» هي آية فاتحة الكتاب، ولقد نزلت هذه السورة وما نزل من السبع الطوال شيء، وقوله لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ الآية، حكى الطبري، عن سفيان بن عيينة أنه قال هذه الآية أمر بالاستغناء بكتاب الله عن جميع زينة الدنيا، وهي ناظرة إلى قوله عليه السلام: «ليس منا من لم يتغن بالقرآن» أي يستغني به.
373
قال القاضي أبو محمد: فكأنه قال: ولقد آتيناك عظيما خطيرا فلا تنظر إلى غير ذلك من أمور الدنيا وزينتها التي متعنا بها أنواعا من هؤلاء الكفرة، ومن هذا المعنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: «من أوتي القرآن فرأى أن أحدا أعطي أفضل مما أعطي فقد عظم صغيرا، وصغر عظيما» وكأن «مد العين» يقترن به تمنّ، ولذلك عبر عن الميل إلى زينة الدنيا ب «مد العين» و «الأزواج» هنا الأنواع والأشباه، وقوله وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ أي لا تتأسف لكفرهم وهلاكهم، واصرف وجه تحفيك إلى من آمن بك وَاخْفِضْ لهم جَناحَكَ وهذه استعارة بمعنى لين جناحك ووطئ أكنافك. «والجناح» الجانب والجنب، ومنه وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلى جَناحِكَ [طه: ٢٢] فهو أمر بالميل إليهم، والجنوح الميل، وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ، أي تمسك بهذا القدر العظيم الذي وهبناك، والكاف من قوله كَما متعلقة بفعل محذوف تقديره، وقل إني أنا النذير المبين عذابا كالذي أنزلنا على المقتسمين، فالكاف اسم في موضع نصب.
قال القاضي أبو محمد: هذا قول المفسرين، وهو عندي غير صحيح لأن كَما ليس مما يقوله محمد عليه السلام بل هو من قول الله تعالى له فينفصل الكلام، وإنما يترتب هذا القول بأن نقدر أن الله تعالى قال له تنذر عذابا كما، والذي أقول في هذا المعنى: وقل أنا النذير كما قال قبلك رسلنا وأنزلنا عليهم كما أنزلنا عليك، ويحتمل أن يكون المعنى وقل أنا النذير كما قد أنزلنا قبل في الكتب أنك ستأتي نذيرا، وهذا على أن الْمُقْتَسِمِينَ أهل الكتاب، واختلف الناس في الْمُقْتَسِمِينَ من هم؟ فقال ابن زيد: هم قوم صالح الذين اقتسموا السيئات فالمقتسمون على هذا من القسم.
قال القاضي أبو محمد: ويقلق هذا التأويل مع قوله الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ، وقال ابن عباس وسعيد بن جبير: «المقتسمون» هم أهل الكتاب الذين فرقوا دينهم، وجعلوا كتاب الله أعضاء آمنوا ببعض وكفروا ببعض، وقال نحوه مجاهد، وقالت فرقة: «المقتسمون» هم من كفار قريش الذين اقتسموا الطرق وقت الموسم ليعرفوا الناس بحال محمد عليه السلام، وجعلوا القرآن سحرا وشعرا وكهانة فعضهوه بهذا وعضوه أعضاء بهذا التقسيم، وقال عكرمة: «المقتسمون» هم قوم كانوا يستهزئون بسور القرآن فيقول الرجل منهم هذه السورة لي، ويقول الآخر وهذه لي، وقوله عِضِينَ مفعول ثان وجعل بمعنى صير، أي بألسنتهم ودعواهم، وأظهر ما فيه أنه جمع عضة، وهي الفرقة من الشيء والجماعة من الناس كثبة وثبين وعزة وعزين، وأصلها عضهة وثبوة فالياء والنون عوض من المحذوف، كما قالوا سنة وسنون، إذ أصلها سنهة، وقال ابن عباس وغيره: عِضِينَ مأخوذ من الأعضاء أي عضوة فجعلوه أعضاء مقسما، ومن ذلك قول الراجز:
وليس دين الله بالمعضى وهذا هو اختيار أبي عبيدة، وقال قتادة: عِضِينَ مأخوذ من العضة وهو السب المفحش، فقريش عضهوا كتاب الله بقولهم: هو شعر، هو سحر، هو كهانة، وهذا هو اختيار الكسائي، وقالت فرقة:
عِضِينَ جمع عضة وهي اسم للسحر خاصة بلغة قريش، ومنه قول الراجز:
للماء من عضتهن زمزمة.
وقال هذا قول عكرمة مولى ابن عباس، وقال العضة السحر، وهم يقولون للساحرة العاضهة، وفي الحديث «لعن الله العاضهة والمستعضهة»، وهذا هو اختيار الفراء.
374
قال القاضي أبو محمد: ومن قال جعلوه أعضاء فإنما أراد قسموه كما تقسم الجزور أعضاء، وقوله فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ إلى آخر الآية، ضمير عام ووعيد محض يأخذ كل أحد منه بحسب جرمه وعصيانه، فالكافر يسأل عن لا إله إلا الله وعن الرسل وعن كفره وقصده به، والمؤمن العاصي يسأل عن تضييعه، والإمام عن رعيته، وكل مكلف عما كلف القيام به، وفي هذا المعنى أحاديث، وقال أبو العالية في تفسير هذه الآية: يسأل العباد كلهم عن خلتين يوم القيامة عما كانوا يعبدون وماذا أجابوا المرسلين، وقال في تفسيرها أنس بن مالك وابن عمر ومجاهد: إن السؤال عن لا إله إلا الله، وذكره الزهراوي عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقال ابن عباس في قوله فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ، قال يقال لهم: لم عملتم كذا وكذا؟ قال وقوله تعالى: فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ [الرحمن: ٣٩] معناه يقال له ما أذنبت لأن الله تعالى أعلم بذنبه منه.
قوله عز وجل:
[سورة الحجر (١٥) : الآيات ٩٤ الى ٩٩]
فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (٩٤) إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ (٩٥) الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (٩٦) وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِما يَقُولُونَ (٩٧) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (٩٨)
وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ (٩٩)
فَاصْدَعْ معناه فانفد وصرح بما بعثت به، والصدع التفريق بين ملتئم كصدع الزجاجة ونحوه، فكأن المصرح بقول يرجع إليه، يصدع به ما سواه مما يضاده، والصديع الصبح لأنه يصدع الليل، وقال مجاهد: نزلت في أن يجهر بالقرآن في الصلاة، وفي تُؤْمَرُ ضمير عائد على «ما»، تقديره ما تؤمر به أو تؤمره وفي هذين تنازع، وقوله وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ من آيات المهادنات التي نسختها آية السيف، قاله ابن عباس، ثم أعلمه الله تعالى بأنه قد كفاه الْمُسْتَهْزِئِينَ من كفار مكة ببوائق إصابتهم من الله تعالى لم يسع فيها محمد ولا تكلف فيها مشقة، وقال عروة بن الزبير وسعيد بن جبير: «المستهزءون» خمسة نفر: الوليد بن المغيرة، والعاصي بن وائل، والأسود بن المطلب أبو زمعة، والأسود بن عبد يغوث، ومن خزاعة الحارث بن الطلاطلة، وهو ابن غيطلة، وهو ابن قيس، قال أبو بكر الهذلي: قلت للزهري: إن ابن جبير وعكرمة اختلفا في رجل من المستهزئين، فقال ابن جبير هو الحارث بن غيطلة، وقال عكرمة هو الحارث بن قيس، فقال الزهري صدقا أمه غيطلة وأبوه قيس وذكر الشعبي في الْمُسْتَهْزِئِينَ هبار بن الأسود، وذلك وهم لأن هبارا أسلم يوم الفتح ورحل إلى المدينة، وذكر الطبري عن ابن عباس: أن الْمُسْتَهْزِئِينَ كانوا ثمانية كلهم مات قبل بدر، وروي أن رسول الله ﷺ كان في المسجد، فأتاه جبريل فجاز الوليد فأومأ جبريل بأصبعه إلى ساقه، وقال للنبي عليه السلام: كفيت ثم جاز العاصي، فأومأ إلى أخمصه، وقال: كفيت، ثم مر أبو زمعة فأومأ إلى عينه، ثم مر الأسود بن عبد يغوث، فأومأ إلى أخمصه، وقال: كفيت، ثم مر أبو زمعة فأومأ إلى عينه، ثم مر الأسود بن عبد يغوث، فأومأ إلى رأسه، وقال كفيت، ثم مر الحارث، فأومأ إلى بطنه، وقال: كفيت، وكان الوليد قد مر بقين في خزاعة
375
فتعلق سهم من نبله بإزاره، فخدش ساقه، ثم برىء فانتقض به ذلك الخدش بعد إشارة جبريل، فقتله، وقيل إن السهم قطع أكحله، قاله قتادة ومقسم، وركب العاصي بغلة في حاجة فلما جاء ينزل وضع أخمصه على شبرقه فورمت قدمه فمات، وعمي أبو زمعة، وكان يقول: دعا علي محمد بالعمى فاستجيب له، ودعوت عليه بأن يكون طريدا شريدا فاستجيب لي، وتمخض رأس الأسود بن عبد يغوث قيحا فمات، وامتلأ بطن الحارث ماء فمات حبنا.
قال القاضي أبو محمد: وفي ذكر هؤلاء وكفايتهم اختلاف بين الرواة في صفة أحوالهم، وما جرى لهم، جليت أصحه مختصرا طلب الإيجاز، ثم قرر تعالى ذنبهم في الكفر واتخاذ الأصنام آلهة مع الله تعالى، ثم توعدهم بعذاب الآخرة الذي هو أشق، وقوله تعالى: وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِما يَقُولُونَ آية تأنيس للنبي عليه السلام، وتسلية عن أقوال المشركين وإن كانت مما يقلق، وضيق الصدر يكون من امتلائه غيظا بما يكره الإنسان، ثم أمره تعالى بملازمة الطاعة وأن تكون مسلاته عند الهموم، وقوله مِنَ السَّاجِدِينَ يريد من المصلين، فذكر من الصلاة حالة القرب من الله تعالى وهي السجود، وهي أكرم حالات الصلاة وأقمنها بنيل الرحمة، وفي الحديث كان رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة» فهذا منه عليه السلام أخذ بهذه الآية، والْيَقِينُ: الموت، بذلك فسره هنا ابن عمر ومجاهد والحسن وابن زيد، ومنه قول النبي عليه السلام عند موت عثمان بن مظعون: «أما هو فقد رأى اليقين»، ويروى «فقد جاءه اليقين». وليس الْيَقِينُ من أسماء الموت، وإنما العلم به يقين لا يمتري فيه عاقل، فسماه هنا يقينا تجوزا، أي يأتيك الأمر اليقين علمه ووقوعه وهذه الغاية معناها مدة حياتك، ويحتمل أن يكون المعنى حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ في النصر الذي وعدته.
376
Icon