تفسير سورة النحل

تفسير ابن عرفة - النسخة الكاملة
تفسير سورة سورة النحل من كتاب تفسير ابن عرفة المعروف بـتفسير ابن عرفة - النسخة الكاملة .
لمؤلفه ابن عرفة . المتوفي سنة 803 هـ

سُورَةُ النَّحْلِ
مكية إلا ثلاثة آيات في آخرها.
قوله تعالى: ﴿أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ... (١)﴾
ابن عطية: إخبار عن إتيان بما سيأتي على جهة التأكيد وإن كان الخبر حقا لأنه لوضوحه كأنه قد وقع وإنما يجوز ذلك عندي لمن يعلم قرينة التأكيد ويفهم المجاز وإن كان المخاطب لَا يفهم المجاز فلا يجوز وضع الماضي بوضع المستقبل لأن ذلك يوجب الكذب.
قال ابن عرفة: عادة الطلبة يوردون عليه بقول أبي بكر لمن سأله النبي ﷺ هذا هاد يهدي إلى الطريق، وقوله نحن ما وتقدم الجواب بأن كلام أبي بكر من استعمال الأعم في بعض [أجزائه*] والقرينة، وقول ابن عطية: من نقل اللفظ حقيقة إلى مجازه فلا بد فيه من الملازمة الذهنية.
قوله تعالى: ﴿فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (٤)﴾
يتناول الطائع والعاصي، فالطائع مخاصم لإظهار الحق، والعاصي مخاصم بالباطل فهو من الكلام المتناول للشيء ونقيضه كقوله ﷺ "إذا لم تستح فاصنع ما شئت".
قوله تعالى: ﴿لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (٥)﴾
هذا ترق لأن الدفء ميسر قريب إذ ليس فيها إلا إزالة صوفها ووبرها والانتفاع بها فليس عليها فيه مضرة ثم الامتناع بالمنافع أقوى لأن تسخيرها والحمل عليها وهذا مما لا يقدر الإنسان على فعلها ولا ما أتيح له فيها تكلف ومشقة عليها ثم الإنسان ما لا يأكل منها أقوى من ذلك وأشد لأن فيه بها وهذا لَا يقدر الإنسان عليه لأنها محرمة فكيف تذبح وما أباح الله لنا ذلك.
قوله تعالى: ﴿وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ (٦)﴾
وقدم الرواح وإن كان متأخراً في الوجود عن السراح لأن الجمال فيها [حظ*] الرواح أكثر لكونها ترجع مستعانة البطون، ورُدَّ بأن، قيل: هلا قصد الترقي فهو أحسن من التدلي، وأجيب: بأنه إنما قدم المؤخر لأن الجمال حين الرواح كثير والجمال حين السراح إنما يكون عن جمالها في الرواح فإن [... ] بأنه سرحت من الغد جميلة وإن راحت ما فيه لم يكن بينها حين السراح جماله بوجه.
قوله تعالى: ﴿وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ... (٩)﴾
قال ابن عرفة: لما ذكر الدلائل الفعلية قال من النَّاس من هداه الله بها فاهتدى ومنهم من ضل فجار وما لها اهتدى.
قوله تعالى: ﴿لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ... (١٠)﴾
صح صيغ الابتداء بالنكرة لأن فيها حتى التفصيل.
قوله تعالى: (وَمِنْهُ شَجَرٌ).
ابن عطية: عن عكرمة اجتنبوا ثمر الشجر فإنه سمت.
ابن عرفة: يريد به كلأ الأرض لحديث النهي عن [... ] الكلأ حسبما ذكره في كتاب [... ] وكلام عكرمة نص في إطلاق الشجر على ما ليس له ساق فعلى هذا يكون لفظ الشجر مشتركا بين الكل والجزء وقدم المجرور لشرف السماء وعظم خلقها.
قوله تعالى: ﴿يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ... (١١)﴾
قدمه لعموم الحاجة إليه من الحيوان العاقل وغيره ويقدر أن الأمر على ثلاثة أقسام ضرورية وحاجيه وتكميلية وترتيبه فقدم الزرع لدعوى الضرورة العامة إليه وقدم الزيتون على التمر ما يوقد به فهو تكميل للقوت، والتمر ما يتفكه به فهو ترتيبي فكان أدون لأنه زائد على القوت عصر وقدم التمر على العنب لأن الخطاب لأهل الحجاز ليس بأرضهم إلا التمر فهو عندهم أشرف من العنب لأن محبته الإنسان طالما يعاهد وأدى عليه أقوى من مجيئه لغيره فالترتيب وهذا على صحة النقل، جمع العنب لظهور الاختلاف في أنواعه لأن منه الأبيض والأكحل والأحمر فاختلافه في أنواعه بالطعم واللون والجرم والتمر إنها الاختلاف في أنواعها بالطعم والجرم فقط وانظر على هذا التقسيم المستوفى، كقوله:
[وراحوا فريقٌ فِي الإسَارِ ومثلهُ... قتيلٌ ومثلٌ لَاذَ بالبحر هاربه*]
وكقول الآخر:
فقَالَ فريق القوم لا وفريقهم... نعم وفريقٌ أيمنُ الله ما ندرى
وكقول الآخر:
[وهبها كشىء لم يكن أو كنازح... به الدار أو من غيَّبته المقابر*]
كقوله تعالى: (يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ (٤٩) أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا) وليس ثم غير هذا.
قوله تعالى: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ).
أفرد الأول والآخر وجمع الوسطى لأن الأول تقدمتها آية أرضية والوسطى تقدمتها آية سماوية وهي أكثر من الآيات الأرضية (لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ) أو يقال: إنما جمع الثانية إشارة إلى أنها نهي الأولى [... ] ويحتمل أنه تعالى لو كانت الثانية نعمة سماوية وهي أشرف وأجل وأطهر من النعمة الأرضية جعل كل واحد منها على انفراد وآية لشهرته وظهوره أو لأن المذكورات أولا راجعة إما مجرد القوت أو الوصف الثالث وكلاهما شيء واحد بخلاف الثانية، وقال في الأولى (تفكرون) لأنها أمور عادية إذ حصول الشراب [... ] أمر عادي وقد لَا يكون عنه شيء وتسخير الليل والنهار والقمر أمر عقلي وليس بمادي، والثالث: يقال لمن لقن الحجة والدليل بعد أن كان نفسه فهو أمر تذكيري فلذلك قال: (لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ).
قوله تعالى: ﴿وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ... (١٢)﴾
قدم الليل إما لأنه عدم والعدم سابق على الوجود أو لأن [... ] لنا يؤرخون الليالي وأول الشهر ليلة وقدم الشمس وإن كانت مؤنثه لأن ضوء القمر مستمد منها. ابن عرفة: أفرد الآية أولا إذ هي امتنان بنعمة أرضية ثم جميعها لأن الثانية امتنان بنعم سماوية أجل وأشهر من الأرضية فكل واحد منها آية وكذلك قال في الثانية (لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) لأنها تعلم بمجرد العقل من غير تفكر ولا تأمل وفي الآيات الأرضية لَا تعلم إلا بقدر زائد على العقل والتفكر، وقال ابن الخطيب: الفكر في إعمال الفكر بطلب الفائدة والمذكورات راجعة لباب القوت وكل النَّاس محتاج إليه فعند ذلك يتفكرون النعم فيشكرونه، وأما الثانية فيراها أعلى رتبة إذ منافعها أخص وأغمض فيستحق صاحبها الوصف بما هو أعلى وأغمض وهو العقل.
ابن عرفة: وقوله يذكرون إنما جاء به أخيرا لأن التفكير ناشئ عن التفكر ولهذا اختلفوا فذهب بعض الحكماء إلى أن العلوم كلها تذكر به وأن النفوس كانت عالمة بكل علم فلما خالطت الأبدان ذهب عنها ذلك بكل ما تعلمه إنما هو تذكر كل ما كان وذهب، ومذهب الجمهور أن أكثرها تفكر وبعضها تذكر فالتفكر لما لم يعلمه والتذكر لما علمه وتثنيته فلذلك جعله ثالثا.
قوله تعالى: ﴿مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ... (١٣)﴾
قال الزمخشري: مختلف الهيئات والمناظر، وقال ابن عطية: أي أضافه كقوله ألوان من التمر؛ لأن المذكورات أصناف عدت في النعمة والانتفاع بها على وجوه ولا يظهر الأمر حيث تلونها حمرة وصفرة وغير ذلك ويحتمل أن تكون تنبيها على اختلاف ألوانها حمرة وصفرة، قال: والأول ابن عرفة لأنه اختلف بالأمور الذاتيات وهو أجل من الاختلاف بالأمور العرضية.
ابن عرفة: وفي الآية ردٌّ على [الطبائعيين*] لأنه لو كان أفعال الطبيعة لاختلف فبطل كون الأرض [تفعل بطبعها*].
قوله تعالى: ﴿لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا... (١٤)﴾
وصفه بالطري لوجهين الأول، قال ابن عطية: [**لسرعة النتوئة للحوت فالأسنان إنما هو بالطري منه]، الثاني لابن عرفة: قالوا إن الخطاب لن يصل إليهم لبعد البحر عنهم فكأنه، قيل: لهم في البحر المنعم عليكم مع نعمة لن تشاهدوها فتعرفوها وهي التلذذ بأكل السمك طريا لأنه أطيب من المملح.
قال الزمخشري: إذا حلف أن لَا يأكل لحما حنث بأكل السمك وهو حنفي المذهب وعندنا فيه قولان، فقال ابن القاسم: يحنث، وقال أشهب: لَا يحنث، وقال ابن الخطيب: إن أبا حنيفة سئل عن من حلف أن لَا يجلس على بساط فجلس على الأرض، فقال: لَا يحنث فأخبر بذلك أبو سفيان فقال: الأرض بساطا قال الله (وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِسَاطًا) فكيف لم يحنث وقد حنث أن لَا يأكل لحما فأكل الحوت فأخبر بذلك أبو حنيفة فقال: تسمية الأرض مجازا بخلاف تسمية الحوت لحما.
قوله تعالى: (وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا).
ابن عطية: هي اللؤلؤ أو المرجان قال والمراد البحرين بالحلو والمالح، وقال في سورة الرحمن في قوله تعالى: (يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ). إنه إنما يخرج من المالح.
ابن عرفة: وفي جزء في [الأمير أبو حسن بن مزيد*] أنهم استخرجوا من وادي رقاق شبه الجوهر واستشهد ببعض الحاضرين وكذلك سمعت أنهم خرجوا من موضع هناك المرجان لكنها صغيرة ومرجان صغير مكتوف اللون يسحقونه ويعملونه في الأدوية وإنما يستخرج الكبير البراق المنير المشرق من ماء البحر المالح.
قوله تعالى: ﴿أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ... (١٧)﴾
أورد الزمخشري سؤالين، أحدهما: إن الأصنام لَا تعقل فهلا قيل: كما لا يخلق؟ وأجاب ابن عرفة: بأنه لو عبر بها لكان الإنكار عليهم بأمرين من حيث كونها لا [تخلق فقط*]، وأجاب الزمخشري بأمرين: [إما لأنهم سموها [آلهة*] وعبدوها، فهو على نحو ما كانوا يعتقدون، ورده ابن عرفة: بأنه إقرار لهم على معتقدهم وإما بأنهم عاملوها معاملة ما لَا يعقل فروعي فيه المشكلة بينه وبين من يخلق، ورده ابن عرفة بأن المشاكلة إنما تكون حيث التساوي كقوله تعالى: (وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ)، وقوله:
[قالوا اقترح شيئاً نجد لك طبخه... قلت اطبخوا لي جبة وقميصا*]
فالأول: شئت، والثاني: كذلك وإما هذا فالأول مثبت والثاني منفي، السؤال الثاني إنه إنما أنكر عليهم بتشبيههم من يخلق بمن لَا يخلق، فكان الأصل أن يقال: (أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ) لأن همزة الاستفهام إنما تدخل على المنكر والمسئول عنه، وأجاب الزمخشري: بجواب لَا يفهم.
قال ابن عرفة: إنما عادتهم [أنهم*] يجيبون بأن الإنكار إنما يكون إلزام الخصم نقيض دعواه، أما إذا كان الإنكار بإلزامه حين الدعوى فلا يصح هنا لو قيل لهم: (أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ) لم يكن الإنكار راجعا لنفي المساواة فلم يبق إلا أن يقال إن الله تعالى متصف بنقيض ما اتصف به معبودهم، وهو الخلق فيكون المراد الإشعار بتنقيص معبودهم، والتنقيص موجب لعدم الألوهية فليس المراد نفي مساواة الناقص للكامل إنما المراد الإشعار بتنقيص الناقص لأنه إذا قيل: (أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ) يقولون: نعم نحن شبهنا من لَا يخلق بمن يخلق وقصارا أن يوجب تنقيص المشبه وكذلك هو منتقص فلما قيل: (أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ) كان الإنكار راجعا لتشبيه الخالق بمن لم يخلق لأن تشبيهه به يوجب تنقيص البارئ والتنقيص موجب لعدم الألوهية، وقد قال: (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ) فيستلزم نقيض دعواهم.
قوله تعالى: (لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا).
مصدر مضاف مؤكد لنفسه فهو نفي أعم لَا نفي أخص.
قوله تعالى: ﴿وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا... (١٨)﴾
ابن عرفة: قالوا إذا كان الشرط عين الجزاء كانت القضية باطلة مثل إن قام زيد، والعد هو الإحصاء فكأنه قيل: إن تعدوا نعمة الله لَا تعدوها فلا بد فيه من حذف،
[وأُجيب*] بثلاثة أوجه: أي وإن تحاولوا عد نعمة الله لَا تحصوها، ومنهم من كان [يجريها*] على ظاهرها من غير حذف، ويجيب بثلاثة أوجه الأول: أن العد راجع للآحاد والإحصاء للمجموع فإذا عدوا آحادها وتوسطوا فيها ينسون ما بدأوا به فلا تحصوا الجملة بوجه، الثاني: إن العدد لإحصاء [عاد النعم*] والإحصاء لأنواعها، الثالث: إن العدد للأنواع والإحصاء للأجناس.
قوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ).
أي لولا مغفرته لكم ورحمته بكم لما أنعم عليكم لمخالفتكم أوامره ونواهيه.
قال ابن عرفة: [ويفهم منه*] أن الله تعالى لم يؤاخذ بعدم القيام بشكر النعم بذكره المغفرة والرحمة عقب ذلك.
قوله تعالى: ﴿وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ (١٩)﴾
أي وما تحدثون به أنفسكم وليس المراد في اصطلاح الفقهاء وتضمنت الآية الإشعار باتصاف الله تعالى بالقدرة والعلم فالقدرة بقوله تعالى: (أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ)، وهذا المعلم وعطف (وَمَا تُعْلِنُونَ) على (مَا تُسِرونَ) للتسوية فهو أمر استأثر الله به كما قال (إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ).
قوله تعالى: ﴿لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا... (٢٠)﴾
قال ابن عرفة: (شَيْئًا) إما المفعول أو مصدر دخل بعد النفي على الفعل المنفي فأكده لأن النفي دخل على الفعل المؤكد به فنفاه فيكون نفيا أخص لَا نفي أخص، قيل لابن عرفة: هلا قالوا: ليسوا قائلين لأن لَا يخلقوا شيئا فهو أخص من الخلق منهم لاستلزامه له من باب أحرى، فأجاب: بأن هذا يفيد إثبات الخلق لله تعالى بالفعل فهو أخص من إثبات قبوله للخلق.
قوله تعالى: ﴿أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ... (٢١)﴾
قال ابن عرفة: هذه معدولة وليست سالبة لأن المعدولة تقتضي ثبوت الموضوع بخلاف السالبة.
قوله تعالى: (وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ).
الضمير إما للأصنام أو للكفار.
ابن عطية: فعلى أنه للكفار يكون وعيدا أي وما يشعر الكفار أيان يبعثون للعذاب ولو اختص هذا المعنى لم يكن في وصفهم بعدم الشعور فائدة لأن الأنبياء والملائكة
والصالحين كذلك هم في الجهل بوقت البعث، ورده ابن عرفة: بأنه إنما يصح هذا لو نفى عنهم العلم بوقت البعث فهو أمر استأثر به الله تعالى، كما قال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ) إنما نفى عنهم الشعور به والأنبياء قد حصل لهم الشعور به وعلموا بأشراط الساعة وأماراتها.
قوله تعالى: ﴿إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ... (٢٢)﴾
اعلم أنه تارة يراد بها نفي الكمية المتصلة كقولك الجوهر واحد بمعنى أنه لا ينقسم وهي في قولك: (إِلَهٌ وَاحِدٌ) لنفي الأمرين معا والوصف بواحد دال على أن لفظ الإله كلي.
ابن عرفة: فإن قلت: ما حد الإله؟ قلنا: هو المعبود المنقاد إليه وإن شئت هو المستغني بذاته عن العبادة وإن شئت هو المستحق للعبادة وهذا هو الصحيح ويبطل الأول بأن الله سمي إلها في الأزل لكنه مستحق للعبادة والأصنام الآلهة لاستحقاقها عندهم العبادة.
قوله تعالى: (فَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ).
الفاء للسبب وليس هو من باب ذكر اللازم عقيب الملزوم إنما هو من باب ذكر الشيء عقب نقيضه لأن لازم كونها إلها واحدا التصديق لَا الإنكار والكفر وظاهر كلام الزمخشري: أن الوحدانية ثابتة بالفعل لأنه قال قد ثبت بما تقدم إبطال أن تكون الآلهة لغيره فكان من نتيجة الوحدانية ووضوح دليلها استمرارهم على شركهم فظاهر كلام ابن عطية: أنها ثابتة بالسمع؛ لأنه قال لما تقدم وصف الأصنام جاء الخبر الحق بالوحدانية وهذه مخاطبة لجميع النَّاس فعلمه أن الله متحد وحدة تامة لَا يحتاج لمكانها إلى ما انضاف إليها.
ابن عرفة: والصحيح غيره إنها مستفادة منهما معاً، قال: وذلك أن القضية على ثلاثة أقسام عقلية كقولك الواحد نصف الاثنين والجوهر متحيز أو مفتقر إلى العرض وشرعته كقولك الميت يبعثه الله، ومركبة منها كقولك الله سميع بصير، واختلفوا في قوله: (اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ) فذهب الفخر [... ] إلى صحة إثباته بالسمع، ونقل ابن التلمساني في شرح المعالم اللدنية عن بعضهم أنه لَا يصح إثباته بالسمع، وقال في شرح المعالم الفقهية أن ما يتوقف دلالة المعجزة عليه لَا يصح إثباته بالسمع.
ابن عرفة: لوجود الإله لئلا يلزم عليه الدور وما لَا يتوقف عليه يصح إثباته بالسمع كقوله (وَاحِدٌ) ذكره في الباب السابع في الإجماع.
ابن عرفة: وعندي أن الآية تدل على إثبات الوحدانية بالسمع والعقل كقولك (فَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ) فكأنه يقول والمكذبون بالآخرة (قُلُوبُهُم مُنْكِرَةٌ)، ولو كانت لَا تتوقف على السمع لقال فالصم العمي أو فالمتصامون قلوبهم منكرة فذكره عقب الإيمان يشعر بعليته له فهو داخل على أنهم سمعوا فلم يؤمنوا بالآخرة ولو لم يتنكر فعلها على الإيمان لما ذكره بعده.
قوله تعالى: ﴿لَا جَرَمَ... (٢٣)﴾
قيل: في كلها بمعنى حقا، وقيل: (لَا) نافية، وقيل: نافية و [جرم*] وحده بمعنى حق فعلى هذا يكون فعلا ماضيا [وينبني*] عليه فتح إن من قوله تعالى: (أَن اللَّهَ يَعْلَمُ)، وكسرها لأن المفتوحة تكون فاعلة به.
قوله تعالى: (يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ).
قال ابن عرفة: هو عندي كاللف والنشر، فيسرون راجع لقوله: (قُلُوبُهُم مُنْكِرَةٌ) ويعلنون لقوله (مُسْتَكْبِرُونَ) لأن الاستكثار في الأقوال والأفعال وهو هيئة ظاهرة.
قوله تعالى: (إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ).
ابن عطية: هو عام في الكافرين والمؤمنين واستدل بأحاديث الزمخشري بجواز أن يراد بالمستكبرين عن التوحيد يعني المشركين ويجوز أن يعلم تغير كل مستكبر.
ابن عرفة: الصواب أنه خاص بالكفار لأن النحويين قالوا: إذا تقدم الاسم منكرا ثم أعيد معرفا بالألف واللام فهي للعهد؛ كقوله تعالى: (رَسُولًا شَاهِدًا عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولًا (١٥) فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْنَاهُ)، وقال هنا: (وَهُم مُسْتَكْبِرُونَ) ثم قال: إنه [لَا يحب*] المستكبرين فهم أولئك بلا شك.
ابن عرفة: وفي الآية سؤال وهو أن الصحيح أن المحبة والكراهة ليستا على طرفي النقيض وإن تقسم قسما ثالثا وهو أنه لَا يحب الإنسان شيئا ولا يكرهه وإذا كان كذلك لا يستلزم إثبات الكراهة، وكراهة الله تعالى لهؤلاء ثابتة موجودة فهلا قيل: إن الله يكره المستكبرين قال: وعادتهم يجيبون عن هذا بوجهين، الأول: أن المحبة والكراهة في حق الله تعالى على طرفي النقيض ولا يصح ارتفاعها ووجود القسم الثالث إلا في حق
المخلوق والجاهل بحقائق الأمور لأنك إذا كنت تعلم حقيقة ما اتصف به فلا بد من أن تحبه أو تكرهه وإنَّمَا ينتفي عنك الأمران إذا لم تعلم وخفي عليك أمره فحينئذ لَا تحبه ولا تكرهه فإِنك لَا تدري ما هو عليه من قبيح أو حسن والله تعالى عالم بحقائق الأمور فنفي المحبة في حقه يستلزم ثبوت الكراهة، الوجه الثاني: أن العرب إذا أرادوا المدح قالوا: حبذا زيد، وفي الذم لَا حبذا زيد فلولا [أن*] قولك لَا حبذا زيد ملزوم لثبوت الذم ما قالوا ولو كان كما قلت: لما كان قولهم لَا حبذا صريحا في الذم بل كان يكون تارة ذما صرفا وتارة لَا مدح ولا ذم فدل على أن نفي المحبة عندهم ملزوم لثبوت الكراهة والذم، قال ابن عرفة: والمحبة والإرادة في حق الله تعالى مترادفان لأن المحبة في حقه مردودة إلى صفة الفعل أو إلى الإرادة أي يفعل بهم الحسن أو يريد بهم فعل ذلك.
قوله تعالى: ﴿وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ... (٢٥)﴾
قيل: إن (مِنْ) للتبعيض ورده أبو حيان بالحديث الصحيح الذي خرجه مسلم في آخر كتاب الفضائل "من سن سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة، ومن سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة، ولا ينقص من أوزارهم شيئا"، وأجيب: بأن المضلين ترتب عن كفرهم وزران، أحداهما متعلق بهم، والآخر متعلق بمن أضلهم، ورده ابن عرفة: بأنه إنما يتم هذا لو كانت التلاوة ومن أوزار إضلال من اتبعهم فتضاف الأوزار للضلال لَا لهم.
ابن عرفة: قال والظاهر أن من للسببية ومن ثم معطوف مقدر هو مفعول أي ليحملوا أوزارهم وزرا آخر ليست أوزار الذين يضلونهم، ونقل عن أبي حيان أنه قال في سورة البقرة إن (مِنْ) تكون بمعنى مثل ولكنه شاذ.
قوله تعالى: (بِغَيْرِ عِلْمٍ).
قال أبو حيان: إنه حال من مفعول يضلونهم.
ابن عرفة: الصواب إنه حال من الفاعل لأن العلم إنما بطلب ممن ينصب نفسه منصب المفيد لَا ممن نصبها منصب المستفيد قيل له: فعل هذا الأصوب أن يكون متعلقا بـ يضلونهم، فقال: وإليه حينئذ للمصاحبة فلا بد من الحال.
قوله تعالى: ﴿مِنَ الْقَوَاعِدِ... (٢٦)﴾
ما كان تحت الأرض فهو أساس وما فوقها سواء عندهم ومجموعها هي القواعد.
قوله تعالى: (فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ).
أن قلت: لم قال (مِنْ فَوقِهِمْ) وهل هو إلا فوقهم؟ فالجواب بوجهين الأول: قال ابن عطية: يحتمل أن يكون خرورة يمينا وشمالا فقال (مِنْ فَوقِهِم) ليزيل ذلك الاحتمال، الثاني: قال بعضهم لو لم يقل (مِن فَوْقِهِم) لاحتمل أن يكونوا لما رأوا علامات السقوط خرجوا فحينئذ خر السقف، فقال (مِنْ فَوْقِهِم) ليفيد أنهم تربصوا حتى هلكوا.
قوله تعالى: ﴿ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُخْزِيهِمْ... (٢٧)﴾
قال ابن عطية: هذا يدل على دخولهم النار وهو نظير قوله تعالى: (رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ) ورده ابن عرفة: لأن الإيمان إنما دلت على أن دخول النار ملزوم للخزي لأن الخزي ملزوم لدخول النار وما تم له هذا إلا لو كانت هذه القضية تنعكس كنفسها كلية وهم في اصطلاح المنطقيين إنما تنعكس جزئية فيقال: كل كافر فاجر أيدخل النار فينتج كل كافر مدخل وإنما عكسها عندهم بعض المخزى كافر.
قوله تعالى: (إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكَافِرِينَ).
راجع للأمر الباطن النازل بهم والسوء راجع للأمر الظاهر الحال بهم في أبدانهم، فإن قلت: كيف أكده بأن وخطابهم إنما هو لله تعالى بأن ذلك حق، وأجيب: بأن هذه المقالة صدرت منهم قبل حلول العذاب بأولئك فهم في مظنة الإنكار لها.
قوله تعالى: ﴿فَأَلْقَوُا السَّلَمَ... (٢٨)﴾
يريد أنهم استسلموا لقضاء الله والمغلوب إذا استسلم تارة يعترف وهو كقوله تعالى: (وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا) وتارة ينكر موجبات العقوبة كهذه الآية طمعا في أن يقبل ذلك منه [... ].
قوله تعالى: ﴿فَادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ... (٢٩)﴾
فيها حال مقدرة.
قوله تعالى: ﴿وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا خَيْرًا لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ... (٣٠)﴾
قال الزمخشري: للذين أحسنوا يدل من خير مكانة لقول الذين اتقوا.
ابن عرفة: أراد أن خيرا من كلام الحاكمين فهو والذين أحسنوا معمولان لـ قالوا، الزمخشري: ويجوز أن يكون كلاما مبتدأ عند القائلين.
ابن عرفة: يريد أنه يحتمل أن يكون من كلام المحكي عنه، ونظير ذلك أن يقول [زيد قال خيرا الحمد لله*]، فيقول: أنت حاكيا لكلام قال زيد خيرا الحمد لله فهذه من كلام المحكي عنه، فإن قال: أقول الحمد لله، فقلت أنت: قال زيد خير الحمد لله فهذه من كلام الحاكي عنه، والقول محكي به الجمل والمفرد المؤدى معناها.
قوله تعالى: (وَلَدَارُ الآخِرَةِ خَيْرٌ).
وقال في الفريق الآخر (فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ)، ولم يقل دار المتكبرين، فأجاب ابن عرفة: بأن مثوى هي الإقامة والإقامة مطلقة بصدق بأقل الأزمنة كقوله: ولقد كان في قول [... ]. ولذلك قال تعالى: (النارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ) ورد القليل يستلزم ذم الكثير من باب أحرى، وأما النار فهي محل للسكنى، والسكنى مظنة الطول فناسب الإتيان بها في محل المدح لأن الإنسان قد يسكن الموضع الزمن القليل ويمل من سكناه ولا يحب البقاء به فأتى به دار الآخرة ليفيد أنها محبوبة مرادة بسكنى الزمن [... ] بل إذ ليس فيها مال.
قوله تعالى: (كَذَلِكَ يَجْزِي اللَّهُ الْمُتقِينَ).
وهم المتقون المذكورون في قوله تعالى: (وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتقَوْا) (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ) جزاؤهم قد ذكر فكيف يشبه النبي نفسه، فأجاب ابن عرفة بوجهين: الأول أن المتقين في قوله تعالى: (لِلَّذِينَ اتَّقَوْا) أنهم الصحابة لأنهم هم الذين حصلت لهم التقوى وحسن نزول الآية والمتقون في قول الله تعالى يجزي الله المتقين يراد بهم عموم المتقين في كل زمن والألف واللام فيه للجنس فشبه جزاء ضيف بجزاء ضيف آخر فالمغايرة على هذا في المخزي، الثاني: إن المغايرة في الجزاء ومعناه مثل ذلك الجزاء بجزي الله المتقين جزاء آخر وذلك رضاه عنهم خير لا بجزاء عليهم أبدا ونظرهم إلى وجهه الكريم، قيل له: يلزمك أن يكون يشبه الأعلى بالأدنى وقد قالوا إن الشبه لَا يقوى قوة المشبه به، فقال: قد ذكروا عكس التشبيه وجعلوا منه (إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا)، والبيع متفق عليه والربا مختلف فيه، قلت وأورد ابن عرفة: السؤال مرة أخرى، فقال: قد نص على جزاء المتقين في قوله تعالى: (وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ (٣٠) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ كَذَلِكَ يَجْزِي اللَّهُ الْمُتَّقِينَ (٣١).. فكيف يقول لذلك يجزي الله المتقين فيلزم عليه الشيء بنفسه، ثم أجاب: بأن الجزاء الأول حاصل لأن الجنة مخلوقة على الصحيح فلهم الآن فيها ما يشاءون
ويجزيهم الله في المستقبل جزاء آخر إشارة إلى دوام النعمة وعدم انقطاعه وإلى ما ورد أن في الجنة ما لَا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر وإلى حصول النعيم لهم بالفعل.
قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا... (٣٦)﴾
حكى الفقهاء في كتاب الجهاد والخلاف هل خلا العقل من جمع أو لا وحكاه المازري في المعلم، قلت لابن عرفة: قد قالوا لأن رسالة النبي ﷺ هو ونوح كانا عامين [للعرب والعجم*] فدل على أن غيرهما لم يرسل للعجم، فيرى العقل خلا من السمع، فقال: إنما ذلك في التفاصيل والأحكام وأما [الإيمان بوجود الإله ووحدانيته*] فكل شيء أرسل بذلك على العموم، فإن قلت: قس بن ساعدة وغيره من فصحاء العرب وعبدة الأصنام كانوا لَا يعرفون الإله بوجه، قلنا: إنما ذلك في عوامهم وأما رؤساؤهم فيعرفون وجود الإله وإن كانوا متعاهدين على ذلك.
قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ... (٤٠)﴾
ابن عطية: إنما هو للمبالغة لَا للحصر لأنه قد ينزل له عن ذلك، وأجيب: بأن المعنى إنما قولنا لشيء إذا أردناه إيجاده وإحداثه، قال الثعلبي، وابن الخطيب: الآية تدل على أن القرآن غير مخلوق وإنما كان يلزم عليه التسلسل، ورده ابن عرفة: بأن أهل الأصول قالوا للصفات قسمان متعلقة كالعلم والإرادة والقدرة والكلام، وغير متعلقة كالحياة، والمتعلقة قسمان مؤثرة كالقدرة والعلم، وقالوا: إن الصفات الغير مؤثرة تتعلق بنفسها فالكلام وإذا كان كذلك فما يلزم عليه التسلسل.
قوله تعالى: (إِذَا أَرَدْنَاهُ).
ابن عطية: أي إنما قولنا لشيء مراد لنا.
ابن عرفة: إن قلت كيف هذا "وإذا" ظرف لما يستقبل، قلنا ذكر ابن مالك: إذا يكون ظرفا لما مضى ومثله بقوله تعالى: (وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ) فلذلك هي هنا.
قوله تعالى: (فَيَكُونُ).
ابن عطية: قرئ بالنصب على جواب الأمر قال: وفيه تأمل، وقال الزمخشري: النعت عطف على القول.
ابن عرفة: والتأمل الذي فيه - والله أعلم - هو أنه وجد القول في الزمن الأول، ولم يوجد المقول له إلا في الزمن الثاني؛ ألا ترى أن قولك قام زيد فعمرو يقتضي الوجود لقيام زيد في الزمن الأول وبعده قيام عمرو في الثاني، وأمر الله تعالى يقتضي الوجود المتأخر فلا يصح وجوده في زمن لم يوجد فيه المقول له وهو الزمن الأول وهذا مغاير ما فسرنا به [... ] النقرشي في تقييده على ابن عصفور لما ذكر احتجاج من زعم أن الفاء كالواو، وبقوله تعالى: (وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا). وأجاب عنه بأن المعنى أردنا إهلاكها، كما قال النقرشي: فيه نظر، قلنا: الذي فيه هو أن الفاء تقتضي الترتيب فيقتضي وجود الإرادة في الزمن الأول ولا مراد لأنه لم يوجد إلا في الزمن الثاني والإرادة من الصفات المتعلقة فلا يصح انفكاكها.
قال ابن عرفة: والجواب عن هذا أن الزمان في حق الله محال وإنما هو باعتبار المتعلق فصح على هذا العطف على كن.
قوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا... (٤١)﴾
ابن عرفة: يحتمل أن تكون المفاعلة هنا حقيقية لأن من هجرك من أهلك فقد هجرته، ويحتمل أن يكون بمعنى مثل [... ] الفعل، وهو الصحيح هنا لأن المشركين لم يهجروا المسلمين في الله قال وهذا لف ونشر فقوله تعالى: (لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً) راجع لقوله تعالى: (مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا)، وقوله تعالى: (وَلَأجْرُ الآخِرَةِ خَيرٌ) لقوله تعالى: (هَاجَرُوا فِي اللَّهِ).
قوله تعالى: ﴿الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (٤٢)﴾
عبر عن الصبر بالماضي لأن متعلقه ماض وعبر عن التوكل بالمستقبل لأن متعلقه مستقبل والتوكل يترك الأسباب التكميلية عدد جائز، واختلف فيه بترك الأسباب التي لا قوام للإنسان إلا بها فمذهب الفقهاء تحريمه ومذهب الأصوليين جوازه.
قوله تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ... (٤٣)﴾
يدل على تخصيص الرسالة بالرجال فيحتج به من قال إن مريم عليها السلام ليست نبية، ويجاب: إما بأن الآية إما اقتضت تخصيص الرجال بالرسالة لَا بالنبوة، وإما بأن قوله: (بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ... (٤٤).. متعلق بـ (أَرْسَلْنَا).
قوله تعالى: (فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ).
دليل على أن خبر التواتر يفيد العلم وعلى أن خبر الواحد يفيد العلم لأن المعنى فاسألوا أهل الذكر لتعلمون إن كنتم لَا تعلمون فهو سؤال عما لم يعلم، وإن كان
المسئولون بالمعنى عدد التواتر فهو خبر تواتر وإلا فهو خبر واحد محصل للعلم في الوجهين.
قوله تعالى: (وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ)
ابن عطية: الذكر القرآن، وقوله تعالى: (لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ) إما بشروحك عليهم أنت القرآن، وإما بتفسيرك المجمل وشرحك ما أشكل منه، فيدخل فيه ما تبينه السنة من أمر الشريعة.
ابن عرفة: إن أراد تفسير المجمل وشرح ما أشكل منه، فالنَّاس العلماء كأبي بكر وعمر، وإن أراد البيان [بالمعنى الأول*] وهو سرده عليهم [نصه وبيانه*] فـ (النَّاسُ) عام، انظر قوله تعالى: (يَتَفَكَّرُونَ) والتفكر إنما يكون من العلماء، قال وفي الآية سؤال وهو أن المبين بعد التبيين، وأنزل يقتضي الإجمال، وإنزاله دفعة واحدة، ونزل يقتضي التنجيم حسبما ألم به الزمخشري في أول خطبة كتابه، والقرآن نزل أولا دفعة إلى سماء الدنيا [ثم*] نزل منها منجما فأنزل قبل نزل، وجاءت الآية على العكس وهو أن بيان ما نزل يقع بإنزال الذكر فجعل متعلق أنزل مبينا بمتعلق نزل قال: وتقدم الجواب بأن متعلق أنزل راجع للنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم يبين بها ما نزل على أمته مفصلا منجما.
قوله تعالى: ﴿أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ... (٤٥)﴾
هذا من باب القلب لأن الخسف إنما هو بهم لَا بالأرض فهو مبالغة فالباء سببية وانظر قوله تعالى: (لَوْلا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا) فالعاصي إنما تقع العقوبة به لَا بمجمله، وقوله: (مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ) قيل: (السَّيِّئَاتِ) مصدر وقيل: مفعول لمن وأن الخسف بدل منه وهو بدل الأخص من الأعم والمراد بخسف الأرض بهم انقلابها وزلزالها، فإن قلت: هلا قيل أن يخسفهم الله في الأرض، فالجواب: إن هذا أبلغ أن خسف محلهم بهم أبلغ من خسفهم فقط.
قوله تعالى: (أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ).
أو للتفصيل باعتبار من حلف من الأمم في أن بعضهم خسف به الأرض وبعضهم عذب.
قوله تعالى: ﴿أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ... (٤٦)﴾
أي في حركاتهم وأسفارهم فما هم بمعجزين تعالى الله عن ذلك؛ لأنه لَا يعجزه شيء، والفاء للسبب، ووجه ذلك أنها دخلت على الجملة قبل النفي، والتقدير أو يأخذهم
في تقلبهم فهم بسبب ذلك معجزين لأن أخذه لهم حالة التقلب والتحرك مظنة لفرارهم وهروبهم فدخل حرف النفي فنفى ذلك السبب المترتب على تقلبهم أي فما يكون تقلبهم سببا في تعجيزهم له لأن الفاء دخلت بعد النفي لأنه لَا يصح فيها السببية إلا على هذا التأويل.
قوله تعالى: ﴿أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ... (٤٧)﴾
والتخوف النقص، قال الشاعر يصف ناقته، وهو زهير.
[تخوف السّير مِنْهَا تامكا قردا... كَمَا تخوف عود النبعةِ السفن*]
قوله تعالى: ﴿أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ... (٤٨)﴾.. الرؤية بصرية بدليل تقدمها بـ (إلَى) كما قال تعالى: (أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ) والإنكار ليس هو نفس الرؤية بل للازمها وهو التفكر والاعتبار.
قال ابن عرفة: وانظر هل وقع التوقيف بمجموع تفيؤا الظلال وكونها ممجدة الله أو بمجرد كونها سجداً لله فقط، فهل قوله تعالى: (يَتَفَيَّأُ ظِلَالُهُ) حال أو صفة ونظيره قولك: أليس إنك زيد العالم راكبا، وقولك أليس إنك زيد عالما راكبا، قال: والصواب الأول لأن تفيؤها أمر حسي مشاهد؛ وكونها سجدا فلا يدرك بالمشاهدة بل بالدليل العقلي.
قال ابن عرفة: وعلى هذا التأويل تكون الآية حجة لمن يقول إن العرض لَا وجود له والمشهور عند المتكلمين أنه أمر وجودي حكى القولين المقترح، ووجه الدليل أن الأمة دلت على أن كل شيء مخلوق لله تعالى وأن ظله مستفيء ساجد الله تعالى والتفيؤ من صفات الأجرام والذوات، والعرض ليس بذات فليس بمخلوق لله وهذا كفر، وإذا جعلنا تتفيؤ صفة لشيء يكون المعنى أن كل شيء موصوف بالتفيؤ فهو مخلوق لله فأنكر عليهم عدم الاعتبار به حالة سجوده وقوله تتفيؤ أي ترجع عن اليمين يريد يمين الناظر إليه لأن الناظر إلى الظل أول النهار ينظر إلى جهة القبلة حيث هو محل طلوع الشمس فيكون الظل حينئذ عن يمينه فلذلك بلا باليمين، وقوله: (يَتَفَيَّأُ ظِلَالُهُ عَنِ الْيَمِينِ) أي يرجع عن جهة اليمين إلى جهة الشمال، وقوله: (وَالشَّمَائِلِ) أي يرجع عن جهة الشمال إلى جهة اليمين لأن (عَنِ) تقتضي المجاوزة، فالمراد مجاوزته جهة اليمين إلى جهة الشمال والعكس، فإن قلت: لم أفرد اليمين وجمع الشمال؟ فالجواب بوجهين: الأول: أن الظل حالة كونه عن يمين الناظر، وذلك [أول*] النهار [يتأتى النقص*]، فكانت له جهة واحدة نقص عنها، وفي آخر النهار يأخذ في الزيادة
والشمال والجهة التي قال مثله إليها لم تكن له قبل ذلك وكلما زاد بعد أي جهة يسار الناظر فكانت تلك الزيادة تكثرها واختلافها تمايل بل خلاف أول النهار وأنه لم يرد؛ بل [نقص*] عن حده الذي كان، فصار كأنه بعض اليمين فضلا عن أن يكون لبيان الوجه الثاني: أن اليمين مأخوذ من اليمن وذلك راجع إلى طريق الحق والشمال راجع إلى طريق الباطل طريق قوله تعالى: (وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ) (وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ) وطريق الحق واحد [وطرق الباطل متعددة*] والآية دالة على كمال التوحيد بالله عز وجل لأن مذهبنا أن الأعراض [لَا تبقى*] زمنين، فما من جوهر إلا وهو مصغر في كل زمن في أعراض يستمد بها، ولا بد لذلك من فاعل، ولا يصح تعدد ذلك الفاعل لما تقرر في دلالة التمانع...
قيل لابن عرفة: فهلا قيل [أولم يروا إلى ما*] خلق الله من شيء بعده يخفي هذا في الاعتبار، فإن العبرة فيها، والمعنى بالنظر إلى اللقاح، [**فشجرة التي هي رؤية البعض ثمود يابس] [وورود الثمر*] منها والورق أقوى بالعبرة، وبالنظر إلى ظلالها، فقال: وذلك أن الظلال إنما ينشأ من ملاقات يوم جرم الشمس جرم الشجرة الكثيفة المظلم، ومذهبنا أن الأجسام متساوية في الحد والحقيقة فلا فرق بين الشمس والشجرة فجاءت الشجرة سكنا فيها أو طليتها نور الشمس، وما زال لَا تخصيص أوجه ولا بد له من مختص ويستحيل بعدده فدل بذلك على أنه واحد.
قوله تعالى: [(سُجَّدًا) *].
[**أي أولا صاغرين فرد آخرين أي صاغرون].
قال الزمخشري: والسجود هنا [الانقياد*].
ابن عرفة: [(سُجَّدًا) *] متناولا للعاقل وغيره؛ لأنه قال أي ويرجع الظلال من جانب إلى جانب منقادة لله تعالى غير ممتنعة عليه فيما سخرها له من المعبود [الأجرام*] في نفسها صاغرة منقادة لله تعالى فيها.
ابن عرفة: وهذا مما يرويه علي، فإن من شيوخنا [من*] ينكر على الفخر في قوله في صيغة [افعل*] أنها للقدر المشترك بين الوجوب والندب ويقول إن القدر المشترك لا وجود له في كلام العرب [مع*] أن الزمخشري أنعته هنا. قوله سبحانه وتعالى: (وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ... (٤٩).. قال ابن عرفة: هذا يرد على القائلين بإثبات موجود لَا متحيز ولا قائم بالمتحيز؛ لأن الدابة من صفتها الحركة، والسجود إنما
23
[يكون*] بالحركة والموجود الذي ليس بمتحيز ولا قائم بالمتحيز غير متحرك. وفي الآية سؤالان: الأول: قال قبله (سجدا لله) فهو مجرور [فما*] العامل فيه، وقال هنا (ولله يسجد) [مقدما*]، وأجيب بوجهين الأول: لابن عرفة: قالوا إن الضمير في سجدا لله عائد على الظلال وهي لَا تعقل بمعنى يتوهم أنها تقصد السجود والتذلل لغير الله تعالى فهو هناك على الأصل، وأما قوله: (وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ) فهو عام يتناول العاقل وغيره والمقصود بالذات إنما هو العاقل ويمكن في حقه أن يقصد بالسجود غير الله لأنه ذو تمييز [**ومقيد فأحتج هنا] في تقديم المجرور على عامله [يفيد الحصر*] وإنما السجود هو لله لا لغيره، الوجه الثاني: قلت: إما أن العامل في المجرور في (لله) الفعل والعامل في قوله (سجدا لله) الاسم وعمله ضعف من عمل الفعل فأخر معموله عليه لضعف عمله فيه بالنسبة إلى الفعل، وقدم معمول الفعل عليه هنا، وإن كان الأمران جائزين، السؤال الثاني: قال هناك: (أَوَلَم يَرَوْا إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيءٍ) فإن تلك الجملة استفهاما على معنى التقرير وأتى بهذه هنا خبرا وكلاهما أتت على معنى التخويف والزجر. هلا قال هناك وكل ما خلق الله من شيء يتفيأُ ظلاله فيأتي تلك خبرية؟ قال والجواب: إن الظلال أمر محسوس مشاهد فناسب التقرير عليهم والتوبيخ، [ولَا يوبخ الإنسان إلا بما هو عالم به موافق عليه*]، فيقال له: ألم يكرمك ألم يحسن إليك، وأمَّا سجود ما في السماوات به وكذلك الملائكة فأمر مغيب عنهم لَا يعلم إلا من حقه الخبر بخلاف تفيؤ الظلال وليس الخبر كالعيان.
قوله تعالى: (مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ).
قال ابن عرفة: يحتمل أن يكون من دابة بيانا ويحتمل أن يكون بيانا لما في الأرض ويراد بما في السماوات الخلق الذي يقال له: الروح، قلت لابن عرفة: هل هو [جبريل*]، فقال: لَا على خلق آخر يسمى بالروح ذكره الطبري وغيره وورد في الحديث وذكره المفسرون في قوله تعالى: (تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ) ابن عرفة: وانظر هل فيه دليل لمن يقول إن الملائكةَ ليسوا متحيزين ولا قائمين بالمتحيز، وهو قول شاذ، والظاهر [أنه لَا دليل فيه*]؛ لأنه إنما كررهم بالعطف تشريفا لهم، وانظر هل هم من الدواب أو لَا، ذوو أجنحة يطيرون والطائر ليس من الدواب بقوله تعالى: (وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ) ابن عرفة: والظاهر أنهم من الدواب ولذلك الطائر لقوله تعالى: (وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ) ثم قال: (وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ) قالوا: يدخل فيه ابن آدم والطائر.
24
قال الزمخشري: وسجود العاقل حقيقة وغير العاقل بمعنى التذلل والخضوع، فيكون لفظ السجود للقدر المشترك بينهما وهو الخضوع والاستسلام أو يكون من باب استعمال اللفظ المشترك في مفهوميه معا، أو من استعمال اللفظ في حقيقته ومجازه.
قوله تعالى: ﴿يَخَافُونَ رَبَّهُمْ... (٥٠)﴾
قال الزمخشري؛ له وجهان أحدهما: أنه قال من الضمير في (وَهُمْ لا يَسْتَكبِرُونَ) قلت أنا لابن عرفة: يلزم عليه المفهوم؛ لأن الحال من شرطها الانتقال لمفهومه أنهم يستكبرون حالة عدم الخوف، فقال: هذه حال لازمة بمعنى أنهم لا يزالون خائفين [خوف الإنصاف*] وأن ذلك قليل في الحال، والظاهر أنه خبر بعد خبر أو جملة مفسرة لما قبلها.
قوله تعالى: ﴿وَقَالَ اللَّهُ لَا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ... (٥١)﴾
قال الزمخشري: ما فائدة الوصف (اثْنَيْنِ) أجاب بما حاصله إنك تارة تريد المعدود، وتارة تريد النعت، والنعت لتحقيق المراد فأتى به هنا ليبين أن المراد العدد لا المعدود ومثاله إذا قال رجل أعد لفلان دينارين فيحتمل العدد وهو ظاهر اللفظ ويحتمل أن يريد بذلك لَا بعض دراهم بل خص الذهب فإن أعطاه: دينارا، وإن جاء على هذا خرجت من العهدة وعلى الوجه الأول لَا يخرج من العهدة إلا إذا أعطيته دينارين، فإذا قال لك أعطه دينارين اثنين زال الاحتمال.
قال ابن عرفة: والجواب عندي من وجه آخر وهو أن قوله: (لَا تَتخِذُوا إِلهَيْنِ اثْنَينِ) يحتمل أن يكون [كليا*] وأن يكون كلية، فأفاد قوله: (اثْنَيْنِ) أنه كلي لَا كلية ومثاله له قولك لَا فقط لفلان دينارين لأنه أن كان كلية عصا بإعطائه دينارا واحدا وأن كان كلا لم يعص حتى يعطية دينارين فإنما المراد هنا النهي عن اتحاد مجموع الاثنين إلهين لَا عن اتحاد كل واحد على حدته ولا يلزم عليه الكفر فوصفه بـ اثنين ليفيد أن المراد النهي عن الجمع بينهما في وصف الربوبية وتقديره أن السالبة الجزئية هي التي سورها ليس كل ولا شيء ولا آخر وتقرر الفرق بين ليس كل وبين لَا شيء أن ليس كل يأتي بسلب الكلية وقد يراد منها سلب الكل يفيد الجمعية فيقول ليس كل النَّاس أكرمت بعضهم وكذلك قوله تعالى: (لَا تَتخِذُوا إِلهَينِ اثْنَينِ) إنما نهى عنهما يفيد الجمعية لَا أن ذلك اقتضى النهي عن اتخاذ إله واحد فلذلك قال: (اثْنَينِ) لما تقرر من أن ليس كل محتمل لَا أن يراد به سلب الكل وسلب الكلية وهو الأكثر فيه فبين الوصف بـ اثنين أن المراد هنا النهي عن الكل لَا عن الكلية.
قوله تعالى: (إِنَّمَا هُوَ إِلهٌ وَاحِدٌ).
أتى بلفظ الغيبة لأجل الحصر والخاص لَا يحتاج معه إلى حصر لأنه مشاهد مروي فلذلك لم يقل إنما إله واحد.
قوله تعالى: ﴿وَلَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ... (٥٢)﴾
إن له المظروف وإما الظرف وهو السماوات فإنما يؤخذ الحالة من السياق والقرائن بدليل أن من أقر لرجل بعده في ظرف فإنه إنما يلزمه المظروف فقط دون الظرف، وهل يدخل في ذلك العرش والكرسي أو لانج الظاهر دخولهما بالقرائن لأن اللفظ يقتضي ذلك.
قوله تعالى: (وَلَهُ الدِّينُ وَاصِبًا).
قال الزمخشري: في قوله تعالى: (مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) أي يوم الجزاء وقسم الدين هنا بوجهين: إما للطاعة وإما الجزاء (واصبا) فعلى معناه دائما فيكون فيه دليل لمن يحكي الإجماع على منع الردة في الخلق كلهم، فإن قلت: قوله تعالى: (وَلَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ) دليلا على وجود الصانع فإن عطف عليه وله الدِّين وهو لَا يحس أن يكون دليلا على وجود الصانع لأنه إنما ليبعد على وجوده كلفة لَا بالأحكام والشرائع التي خلقوا بها لأنها مسببه عن ذلك فلو كان العطف بالفاء لَا تصح لَا يدل على السببيه، وأجاب ابن عرفة: بأن المراد أنه من بعد خلقه للعالم فما من زمن يأتي إلا وهو معبود فيه مطاع تعبده الملائكة وبعض النَّاس فهذا يدل على صحة وجوده، واستدل في علم الكلام على وجود الصانع [بأمرين*] إما حدوث العالم [وإما*] بإمكانه؛ لأن الممكن لَا بد له من مخصص بوقت على أحد الجائزين وطريق الاستدلال بالحدوث يستلزم الإمكان لأن كل حادث ممكن وليس كل ممكن حادث فإن وجود بحر من زئبق أو من ياقوت ممكن وليس هو بحادث إذ المراد الحدوث بالفعل وهذا الجواب إنما هم على قول من فسر الوهاب بالعليم وقوله تعالى: (ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ... (٥٤).. فاصلة معنوية لبعد ما بين غفلة الإنسان وهو له زمن النعمة وما بين نزعته وزلته زمن الضر كقول عرفة:
[وَلَا يكْشف الغماء إِلَّا ابْن حرةٍ... يرى غَمَرَات الْمَوْت ثمَّ يزورها*]
والكافر منعم [عليه*] لحديث الإيلاء عن عمر "أولئك قوم عجلت لهم طيباتهم في الحياة الدنيا"، وقيل: غير منعم، لقوله تعالى: (إِنَّمَا نُمْلِي لَهُم لِيَزدَادُوا إِثمًا) وقيل: منعم عليه في ظاهر حاله في الدنيا وغير منعم عليه في عاقبته ولذلك اختلفوا على الخطاب قوله: (وَمَا بكُم مِن نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ) عام في المؤمن والكافر، وتنكير نعمة المعموم لَا للتقليل أو لَا يوصف عطاء الله بالقلة قال: قليلك لا يقال قليل، وفي الآية إشارة إلى أن الإنسان مع الله عز وجل لأن النعمة والضر منه قال تعالى: (قُلْ كُل مِنْ عِندِ اللَّهِ) لكنه ذكر النعمة في قوله تعالى: (مِنْ نِعمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ) وسكت عن الضر إشارة إلى أنه ينبغي للإنسان أن يتأدب مع الله فلا يصرح بنسبه إليه، وإن علم أن الكل من عنده ويعتقد أن كل نعمة منه فضل وكل [نقمة*] منه عدل.
قوله تعالى: ﴿وَيَجْعَلُونَ لِمَا لَا يَعْلَمُونَ... (٥٦)﴾
تعميم الضمير إما للأصنام، وعوملت معاملة العاقل أو للكفار، قلت: لَا يصح الأول ويلزم عليه التناقض؛ لأن إتيانه بها دليل على أنها لم تعامل الأصنام معاملة من يعقل، فنفى ما لم يجرهم مجرى العاقل في الضمير أجراهم مجراه، فقال: وذلك إن هذا نفس [... ] بل هو من كلام الله تعالى لكن [**ما اشتق سياق] الثبوت [مع*] بقائها على أصلها، والضمير في (يعلمون) أتى في سياق النفي فناسب كونه ضميرا من يعقل، وإنما يتم السؤال لو أتى فى سياق الثبوت.
قوله تعالى: ﴿وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ... (٦١)﴾
قال ابن عرفة: المصدر مضاف للفاعل والمفعول معا؛ أي بظلمهم أنفسهم، قيل له: بل للفاعل فقط أي بظلمهم غيرهم، فقال ذلك الغير هو الله ولا يناله من ذلك شيئا، قال تعالى: (وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا)، قال (قل إن ضللت) قائما أصل على معنى فإِنما المعنى يظلم بعضهم بعضا فهو
27
للفاعل والمفعول؛ لأن النَّاس عام في الظالم والمظلوم، فيرد بها على ابن التلمساني شارح المعالم في قوله في المسألة الخامسة من الباب الرابع لما قال الفخر: إن المصدر يضاف للفاعل والمفعول قال: هو أن ذلك على سبيل البدلية لَا على وجه المحبة وتقدم نظيره في سورة إبراهيم في قوله تعالى: (وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ). ابن الخطيب: وفي الآية حجة للمعتزلة في قولهم إن الله لَا يخلق الشر وأن الظلم من فعل العبد لأجل إضافته إليهم، ورده ابن عرفة: بأن الإضافة تقع بأدنى ملابسة لقوله:
إِذا كَوْكَب الخرقاء لَاحَ بسحرةٍ سُهَيْل أذاعت غزلها فِي القرائب
فإنما أضافه إليهم لأجل انتساب الذي لهم فيه إلى مستوى إنك تقول غير فلان وثوب فلان وليس فيه إلا المنافع، وأما الأعيان فما يملكها إلا الله، وذكر الزمخشري هنا آثاراً [عن*] أبي هريرة، وابن عباس [يقتضي*] عموم الهلاك في بني آدم وغيرهم بسبب شؤم [ظلم*] الإنسان، وكذا نقل ابن عطية: أن الحوت والطير يهلكان بسبب ظلم الإنسان.
ابن عرفة: وهذا ما يتم الاستدلال به إلا مع قيمة ما قاله الأصوليون فى أن قول الصحابة إذا كان دليله مخالفا للقياس كأنه يكون بحجة حينئذ لم يكن قاله من عنده، بل يكون سمعه من رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وأما إن وافق القياس فهو مذهب فلا يحتج به وهذا مخالف للقياس قال تعالى: (وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى) وأجاب ابن عطية: بأن هلاك من لم يظلم إنما هو بكونه لم يغير على الظالم، قلت: وبعضه ما تقدم في قوله تعالى: (فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ) وفي قوله تعالى: (كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ) وأجاب ابن عرفة جوابا آخر وهو أن هلاك الظالم بظلمه وهلاك من لم يظلم إنما هو ابتلاء له فيعظم بذكره أجره ومثوبته فهو رحمة منه بهذا الاعتبار. قال الفخر: واستدل بعضهم بالآية على عدم عصمة الأنبياء، واستدل بها من جوز الردة على جميع الخلق لنسبة الظلم فيها إلى جميع النَّاس. ورده ابن عرفة بأن العموم في الآية إنما هو في المؤاخذة وأما الظلم فإنما ذكر على سبيل الفرض والتقرير [والتقدير*]، أي لو فرض وقوع الظلم من الجميع وأخذوا به لم يبق أحد ولا يلزم من فرض الشيء وقوعه كما قال تعالى: (لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلا اللَّهُ لَفَسَدَتَا).
قوله تعالى: (لَا يَسْتَأْخِرُونَ).
28
قيل لابن عرفة: نفي آخرهم عن أجلهم؛ لأنه كان متوهما، وأما تقدمهم على أجلهم إذا حضر فيستحيل إذ الماضي لَا يعود فلم احتاج إلى نفيه وجعل جوابا للشرط، فأجيب بوجهين الأول: أنه على معنى التأكيد لذلك أنه إشارة إلى تسوية الأمر الضروري بالمشكوك فيه لأن استحالة تقدمهم على أجلهم إذا حضر أمر ضروري وتأخرهم عنه مشكوك فيه الأمر في أن من تقدم عليه دين مؤجل يمكن أن يوخره عنه ربه، ولا يمكن تقدمه هو عن أجله بعد طوله بوجه، فكأنه يقول فما يستحيل تقدمهم على أجلهم إذا حل لذلك يستحيل تأخرهم عنه؛ لأن ما علمه أتمه وقدره لَا بد من وقوعه.
قوله تعالى: ﴿وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ... (٦٢)﴾
فسره الزمخشري: بأحد أربعة أمور إما الثبات وهم يكرهونها لأنفسهم، وإما شركاؤهم يكرهون المشارك لهم في منازلهم [وحصصهم*] وإما [استخفافا برسله والتهاون برسالاتهم. ويجعلون له أرذل أموالهم ولأصنامهم أكرمها وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ مع ذلك*] (١)، ثم قال: وعن بعضهم.. إلى آخره، قيل لابن عرفة: صلى هذا إذا كان الإنسان فاعل خير الطيب ويعطي الضعيف الخير الذي دونه هل يتناول هذا الوعيد والذم، فقال: لَا إنما ذلك فيما هو واجب كالزكاة وأما صدقه التطوع فلا.
قوله تعالى: (أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنَى).
ابن عطية: هي الجنة، ورده ابن عرفة: بأنهم ينكرون البعث، [فكيف يدعون أن لهم الجنة*] [... ]. ولو كانوا شاكين ما قال تعالى: (وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى) فهو شاك لقوله: (وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً) وأما من يعمم على نفي الآخرة فكيف يدعي أن له فيها الجنة، أبو حيان: أن لهم الحسنى بدل من الكذب.
ابن عرفة: بدل شيء من شيء وهما لغير واحدة وإن نظرت إلى منطق الكذب وإلى قولهم وبدل خاص من عام وأن فعل إلى الكذب من حيث هؤلاء إلى متعلقه هنا.
قول تعالى: (فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ... (٦٣).. فسره الزمخشري بوجوه منها أن الضمير راجع لكفار قريش وأنه زين لآبائهم أعمالهم فهو ولي هؤلاء لأنهم منهم.
ابن عرفة: على هذا لَا يكون الألف واللام في الآن لتعريف الحضور وعلى الوجوه الأخرى التي ذكر هو وغيره يكون إما لتعريف الماهية أو لتعريف العهد.
(١) العبارة في المطبوع مضطربة، والتصويب من (الكشاف. ٢/ ٦١٤).
قوله تعالى: ﴿وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً... (٦٤)﴾
قال الزمخشري: هذا مفعول من أجله ودخلت اللام على [لِتُبَيِّنَ*] لأن [لِتُبَيِّنَ*] فعل لفاعل الفعل المعلل إلا أن الإنزال من الله والبيان من النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وألزمه أبو حيان التناقض؛ لأنه جعل (وَهُدًى وَرَحْمَةً) معطوفين على [لِتُبَيِّنَ*] ومحله عنده النصب فكيف يمنع كونه مفعولا من أجله في اللفظ ويجعله كذلك في المعنى، وأجاب ابن عرفة: بأن الزمخشري إنما منع نصبه ولا يلزم أنه لَا يصح في المعنى إلا ما جاز النطق به، وابن خروف لم يشتركا في المفعول من أجله أن يكون مفعولا لفاعل الفعل المعلل.
قوله تعالى: ﴿فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ... (٦٥)﴾
الفاء للتعجب وخصوصا في مكة لحرارة أرضها فقد ذكروا أنها تصب المطر فيها بالليل فتصبح أرضها مخصوبة.
قوله تعالى: ﴿وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ... (٦٦)﴾
ابن عرفة: لما كان المتقدم منفعة عامة في العاقل وغيره يخص المنفعة الخاصة بالعاقل وأكده بـ أنَّ واللام بغفلة المخاطب على الاعتبار والتذكر لَا لكونه منكرا لذلك، فإن قلت هلا قال: وإن في الأنعام لعبرة أبلغ من قوله: (لَكُم) فالجواب: أن في زيادة (لَكُمْ) تنبيه على العبرة والنعمة فنبه بقوله (لَكُم) على توجه الطلب لا يخاطب بالشكر على هذه النعم التي وقع الإنسان فيها وبقوله: (لَعِبْرَة) على الاعتبار، فإن قلت: ما هي العبرة، قلت: قال الفخر وابن التلمساني: العبرة في اللغة مأخوذة من العبور وهي المجاوزة والانتقال، قال: ويراد بالعبرة الاتعاظ ومنه (فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ) أي اتعظوا [بعاقبة*] المهلكين كيف خربوا بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين، فهو اتعاظهم بهلاك من فعل كفعلهم من الأمم السابقة خشية أن يحل بهم ما حل بهم والعبرة هنا الدليل أي أن لكم في الأنعام لدليلا واضحا يدل على وجود خالقها ووحدانيته ونقلكم من حالة الجهل إلى حالة العلم.
قوله تعالى: (مِمَّا فِي بُطُونِهَا).
أبو حيان: الضمير مذكر كما في قولهم أحسن الفتيان وأجمله، ورده ابن عرفة: بأن هذا المنزل وقع فيه الفتيان موقع تمييز مذكر أي أحسن فتى وأجمله، وأما الآية ليست كذلك.
قوله تعالى: (مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ).
أبو حيان: حال من ضمير (نُسْقِيكُم) أي خارجا (مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ)، وقيل: متعلق بنسقيكم المقدر أولا يتعلق مجروران بفعل واحد.
ابن عرفة: يجوز هنا لاختلاف معناها لأن مِن الأولى للتبعض، والثانية لابتداء الغاية، الزمخشري: إذا استقر [العلف*] في كرش البهيمة [طبخته*] [فكان أسفله فرثا، وأوسطه لبنا، وأعلاه دما*] والكبد [مسلطة*] على ذلك نفسه، فجرى الدم في العروق واللبن في الضروع [الثلاثة تقسمها، فتجرى الدم في العروق، واللبن في الضرع، ويبقى الفرث في الكرش، ورده ابن الخطيب: بأنا ما رأينا قط في كرش البهيمة المذكورة لبنا ولا [دما*]، أجاب ابن عرفة: بأن حالة الحياة بها زيادة إلا أن الميت إذا قطع منه لم يخرج منه دم بوجه، بخلاف النفي، ولذلك كان الفلاسفة مقرون [حرق الإنسان*] وهو حي لينظروا ما يتحرك في بطنه، ابن الخطيب: والصحيح أن الغذاء مطبخه الكرش مخرج أولا منه الأجزاء الكثيفة وهي الفرث ويبقى دما فيطبخه ثانية فيخرج منه إلى الضروع الأجزاء اللطيفة وهي اللبن ويصير الباقي دماً صرفا فيجعله في العروق، وإنما وقع الامتنان بلبن الأنعام المنفصل [عنها*] دون لبن المرأة المتصل [بها*] لأن تغذي الإنسان بلبن أمه حال منصوبة وعدم عقله ولبن الأنعام يتغذى به صغيرا وكبيرا ويدرك منفعته.
قوله تعالى: ﴿وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ... (٦٨)﴾
ابن عطية: الوحي إلقاء الموحي في خفاء أو الإنهاء إليه ويكون بمعنى الأمر ومنه أن ربك أوحى بها.
قوله تعالى: ﴿ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ... (٦٩)﴾
ابن عطية: هذا إخبار بإلجائها إلى الأكل.
ابن عرفة: يريد وأتى فيه بصيغة الأمر ومراد به الخبر مبالغة في قصدها ذلك كما اشترط في المأمور القصد إلى الامتثال، وقيل: إنه هو حقيقة أي ثم قال لها (كُلِي مِنْ كُلِّ الثمَرَاتِ)، وقال ابن الخطيب: وبيتها الذي تصنعه مسدس، وقام البرهان في علم الهندسة على أنه أحسن [القوائم*] لأنه يفصل الزوايا ليس بها خلل خلاف المربع والمعين، وذلك الاتصال وعدمه لَا يظهر إلا لمن قرأ ست مقالات من كتاب إقليدس
31
[**والشكل المسدس أقرب إلى الاستدارة كدارة الضابط، وقال وفي بابها حكمة عظيمة وهو أنها تنتج فلا البيت الأعلى على فلا البيت الأسفل وهذا دليل على أنه لَا شرط في الإحكام والإيقال علم الصائغ]. ذكره في المحصل وفي التفسير.
ابن عرفة: وهذا ما يتم إلا عند من يقول إن كل فاعل يستقل فعله ويفعله باختياره وأما عندنا فإنه هو الفاعل المختار وهو الذي فعل وأقدرها عليه، قلت له: نحن نقول بالكسب والكسب عندنا هو المعلم بما في الفعل من مصلحة أو مفسدة والنحل لَا يعلم ذلك فصح قول ابن الخطيب فقال: الكسب إنما يشترط في الحيوان العاقل أما غير العاقل فلا كسب له بوجه.
قوله تعالى: (فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا).
هذا أمرها بالرجوع، وقيل: بالذهاب فهو معطوف على أن اتخذي ففيه تقديم وتأخير أو تكون مستأنفا ولا يصح حمله على كلي إلا إذا أريد به الرجوع وهو الظاهر حالة السير مخرج مجمعه فتسلك طريقا واحدة وفي حالة الرجوع تأتي مثقلة فيقل سيرها وتفرق فتسلك سبلا متعددة.
قوله تعالى: (ذُلُلا).
قال من السهل أي سهله أي ضمير النحل أي مذللة سهلة، قال أبو حيان: وقوله تعالى: (سُبُلَ رَبِّكِ) إن أريد بالسبل الطريق الحسي فهو مفعول به وإن أريد المعنوي فهو ظرف.
ابن عرفة: والصواب العكس، كقول ابن خروف في جلست وسط الدار وحفرت وسط الدار الأول بالسكون ظرف، والثاني بالفتح مفعول به.
قوله تعالى: (يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا).
قيل من أفواهها، وقيل من دبرها، الزمخشري: [ومن بدع تأويلات الرافضة أن المراد بالنحل عليٌّ وقومه*].
ابن عرفة: عادته إن كان ما حملت على الآية مناسباتها سماه تفسيرا أو إن كان غير مناسب سماه تأويلا.
قوله تعالى: (مُختَلِفٌ أَلْوَانُهُ).
المراد إما اللون الذي هو أحد الأعراض لازمه الأصفر والأحمر والأبيض والأسود أي مختلف ألوانه في اللونية فهو شبه الكل؛ لأنه حكم على مجموع ألوانه بالاختلاف
32
والمراد الاختلاف في الطعمية؛ لأن كل لون منها له مطاعم فهو شبه الكلية أي مختلف أعداد ألوانه، ابن الخطيب: هل يرعى النور أو ما ينزل عليه وهو الزنجبيل.
ابن عرفة: وهو الظاهر لأنه لَا يظهر لونها في النور أثر. قاله بعض الأطباء.
ابن عرفة: بل الظاهر الأول لاختلاف طعم عسلها بالحلاوة، والمرارة بحسب ما ترعى ولو رعت الزنجبيل فقط لَا نجد طعم عسلها، وأيضا الزنجبيل عند الأطباء بارد والعسل حار فإن قلت: يكتسب الحرارة من النحل، قلنا: نجد [**عسل الشهي] والحلج أشد حرارة من عسل الأطيان، ولو كان منها لما اختلف.
قوله تعالى: (فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ).
ابن عطية: هذا مطلق وليس بعام لأن الأمر معه مختلف فإنما هو شفاء لمن مزاجه البلغم أو السوداء في بعض الأخبار.
ابن عرفة: وقالوا إن الترياق طيف من كل داء فقال بعض الطلبة قد قال أرسطاطاليس إنه شفاء من داء خاصة وأورد كيف يكون شفاء لصاحب البلغم وصاحب الصفراء أو السوداء مع اختلاف أوجهها لأنه إن كان عندكم يقمع الصفراء فلا يقمع غيرها، وأجيب: بأن الترياق يقوي الروح فتنفق الغريزة النفسية فيغلب على الطبعية المزاجية فيقمعها فتصح بذلك كونه هو الشيء ونقيضه.
قوله تعالى: ﴿وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ... (٧٠)﴾
هو أبلغ من لو قيل: والله أوجدكم فإن الخلق في اللغة هو التقدير كما قال الشاعر:
[ولأَنْتَ تَفْري ما خَلَقْتَ وبَعْ... ضُ القومِ يَخْلُقُ ثم لاَ يَفْري*]
تدل على أنه تعالى قدر الخلق على صفة دون صفة وأوجدهم وذلك دليل على اتصافه بالقدرة والإرادة والعلم.
قوله تعالى: (وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ).
قسم الخلق إلى ثلاثة فمنهم من يموت قبل رده إلى أرذل العمر ومنهم من يحيى حتى يصير إلى أرذل العمر وهذا هو الجواب عن سبب تقديمه، ذكر [المتوفى*]: إلى الرد إلى أرذل العمر مع تأخره عنه في الوجود، فإن قلت: لم أسند الخلق والتوفية إلى الله ولم يسند إليه فعل الرد إلى [أرذله*] مع أن الكل من فعله جل وعلا عند أهل السنة، قلنا: تأدب معه وتكرمة لذاته في عدم التبعيض على نسبه إليه وإن كنا نعتقد ذلك كما لا
نقول سبحان [خالق الذر*] وخالق البعوض تكرمة له في نسبة خلق الأشياء المحتقرة إليه وإن كان اعتقادنا استناد كل شيء إليه، قيل له: قد قال تعالى: (ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ)، وقال تعالى: (وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ) فقال لأنه في الآية الأولى أسند إليه الأمرين لقوله في الاستثناء: (إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُم أَجْرٌ غَيرُ مَمْنُونِ)، ابن الخطيب: وهذه الآية رد على الطبائعيين لأن أفعال الطبيعة تختلف باختلاف الخلق [بالطول والقصر*] والتغير دليل على الفاعل المختار الموحد، كذلك قال: [وَقَدْ كُنْتُ أَقْرَأُ يَوْمًا مِنَ الْأَيَّامِ سُورَةَ الْمُرْسَلَاتِ فَلَمَّا وَصَلْتُ إِلَى*] قَوْلِهِ تَعَالَى: (أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ (٢٠) فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مَكِينٍ (٢١). إلى قوله تعالى: (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (٢٤). [أيقنت*] أن المراد بالمكذبين في الآية الطبائعيون [لمخالفتهم القرآن*].
قوله تعالى: (لِكَيْلا يَعْلَمَ).
ابن عطية: قيل إن [اللام*] للصيرورة وليس بشيء.
ابن عرفة: لاقتضائها جهل الفاعل بعاقبة الأمر والله تعالى هو الفاعل هنا.
قوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ).
وقدم العلم لعموم تعلقه بالمعدوم والموجود والمستحيل بخلاف القدرة.
قوله تعالى: ﴿وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ... (٧١)﴾
دليل على صحة الخلاف لفظ البعض على المنصف وعلى أكثر منه لأن الفاضل أكثر رزقا من المفضول، وحكى الخلاف في البعض هل يطلق على المنصف لدلالة على شارح الجزولية في باب التنبيه.
قوله تعالى: (فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ).
فيه سؤالان الأول أن التفاوت إنما هو في الرزق التكميلي الزائد على ما يسد الرمق ويستر البدن، وأما الحاجي فهم فيه مع المالك شئون فهلا قيل: (فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي) فضل رزقهم كما قيل: (وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ) وأجيب: بوجوه الأول ابن عرفة: لو قيل: (فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي) فضل رزقهم لكان فيه غثاثة لتكرار لفظ الفضل ثلاث مرات وهذا يقال له في علم البيان: الاستخدام وهو أن [تعبر*] باللفظ عن غيره خوف السآمة. الثاني: لأن فضل الرزاق أخص من الرزق فاستعمل الأخص في الثبوت والأعم في النفي؛ لأن النفي الأعم يستلزم في الأخص،
34
السؤال الثاني: [لفظ*] الرد يقتضي سابقية الملك أو الجوز و [... ]. لم يكن لهم ذلك بوجه فهلا قيل: (فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا) بمعطيهم رزقهم لما ملكت أيمانهم وهذا [... ] وردوا في قوله تعالى: (أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا) وأجاب ابن عرفة: بأنه إشارة إلى تأكيد النفي وأن استغنوا من إعطائه للمماليك بدلا عنهم فكانوا قائلين لأن يملكوه للذي أعطاه لساداتهم كان قادرا على إعطائه ممن دون ساداتهم، قلت: إنما على من ملك أن يملك بعد مالها.
قوله تعالى: (أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ).
قال ابن عرفة إن فسرنا الرزق مما منعه السادات مماليكهم في قوله تعالى: (فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ) على ما ملكت أيمانهم فتكون النعمة هنا الرزق وإن جعلناه تمثيلا أي كما أنفوا بأن يشاركهم أحد في رزقهم كذلك ينبغي أن لَا يجعلوا مع الله شريكا فيكون المعنى هنا أو هنا الدلائل الدالة على وحدانية الله يجحدون، قلت: وقاله ابن عرفة مرة أخرى.
قوله تعالى: (وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ).
لما تضمن البلاء السابق التذكير بقدرة الله تعالى على النحل وما اشتملت عليه من الآية والحكم عقبه ببيان قدرته في خلق الإنسان (وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ) قال وأسند فعل التوفي هنا لله تعالى فكان في سورة السجدة: (قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ) فانفخ بينهما [... ] فرع مذهب أهل السنة القائلين الكسب، فإن قلت لم قال: (وَمِنْكُم مَنْ يُرَدُّ) بحذف الفاعل، قال فعادتهم يجيبون أنه إذا كان المقصود الإشعار بالفعل فحذف الفاعل كقولك رأى حالات وإن كان المقصود الإخبار بما على الفعل فذكر كقولك [... ] عمرو علام العبرة وما كان التوفي قد خالفوا فيه وقالوا ما يهلكنا إلا الدهر ذكر فاعله بخلاف الرد إلى أرذل العمر فإنه أمر [ظاهر*] لَا يحتاج إلى ذكر فاعله، وأجاب بعض الطلبة بأنه لما ذكرها فاعل البداية وفاعل النهاية أنه الله تعالى علم أن ما بينها من فعله فاكتفى بذلك ولم يحتج إلى ذكره في الرد في أرذل العمر لأنها حال متوسطة بين البداية والنهاية.
قوله تعالى: (فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ).
35
إن قلت: إذا ردوا كل رزقهم عليهم لَا يكونون فيه سواء وإنما يستوفون معهم بردهم عليهم حذف فعل رزقهم، فيجاب: إما أن يكون على حذف مضاف أو يكون الرزق مضافا إلى ضمير (مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ) ويكون الذي فضلوا به مملوكهم هو ردف مملوكهم الذي يساويهم به في نفس الأمر.
قوله تعالى: ﴿وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا... (٧٢)﴾
قيل: حواء عليها السلام وجمعت باعتبار نسلها وأطلق عليهم أزواج مجازا استعمالا للفظ في حقيقته ومجازه.
قوله تعالى: (وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطيِّبَاتِ).
الزمخشري: [يريد*] بعضها لأن [كل الطيبات*] في الجنة، وما [طيبات*] الدنيا إلا [أنموذج منها*].
ابن عرفة: ضرب مثل منها وكذا يقول الإمام الغزالي: واضرب في ذلك النموذج أي اضرب فيه مثلا.
قوله تعالى: ﴿وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا... (٧٣)﴾
إنما قال لهم لأنه إذا لم يملك الرزق لمن عبده فأحرى أن لَا يملكه لغيره وهم لم يخصوا الآلهة بالعبادة بل أشركوهم فيها مع الله لقوله (مَا نَعْبُدُهُم إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى) لكن ذلك الجزاء الذي صرفوه لهم من العبادة عبدوهم فيه من دون الله.
قوله تعالى: (شَيْئًا).
قيل: إنه بدل من رزق، ورده أبو حيان: بأنه أعم من رزق وبدل الأعم من الأخص فصار بعد النفي الرزق أعم من شيء ألا ترى أن قولك ليس في الدار حيوان أخص من قولك ليس في الدار إنسان كما أن قولك في الدار إنسان أخص من قولك فيها حيوان.
قوله تعالى: ﴿فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا... (٧٥)﴾
فإن قلت: الآية خرجت مخرج المدح لفاعل ذلك فهلا ذكر فيها صدقة [السر*] فقط لأنها أفضل، فالجواب: أنه قصد التنبيه على كثرة اتصافه ومبادرته إلى أفعال [... ] كيف ما أمكنه أو بدأ بالسر؛ لأنه أفضل.
قوله تعالى: (هَلْ يَسْتَوُونَ) ابن عرفة: هذا دليل لمن يقول إن أقل الجمع اثنين ولا حاجة إلى الأجوبة التي أجاب بها أبو حيان من أن الكثرة المراد بها العموم أو أن من أوقعت على جماعة أو أن المراد هل يستوي المماليك والأحرار، قال ونفي المساواة يقع في القرآن على وجهين تارة مطلقا كهذه الآية وكقوله: (هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ) وتارة تعين الأرجح كقوله تعالى: (لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا) إنما تعين هنا الأفضل لظهوره، قيل لابن عرفة: وكذلك كل أحد يعلم أن أصحاب الجنة هم الفائزون، فقال: إن أصحاب النار يدخل فيهم العصاة من المؤمنين والكفار، فهل قصد فقيل أصحاب الجنة بالإطلاق على أصحاب النار بالإطلاق أو على الكفار فلما أعيد ذكر الأفضل علم أن المراد بأصحاب النار أصحابها حقيقة وهو من حكم عليه بالخلود فيها.
قوله تعالى: (الْحَمْدُ لِلَّهِ).
أن يكون من كلام الله تعالى على نفسه أو من النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم خاصا به أو عاما له ولأمته، وقوله (الْحَمْدُ لِلَّهِ) على ما أنعم علينا بأن هدانا ووفقنا.
قوله تعالى: (بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ).
إما أن المراد به الكفار باعتبار من شعر منهم وهم أقلهم وأقلهم يعلمون وإما أن يراد به الأصنام عبر بالأكثر عن الكل وهو بعيد.
قوله تعالى: ﴿وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ... (٧٦)﴾
ابن عرفة: هذا إما راجع لحال الكفار مع المؤمنين وأنهم متصفون بذلك حكما أو بحال الأصنام وأن اتصافهم به حسي حقيقي والأبكم في الغالب لَا يسمع.
قوله تعالى: (وَهُوَ كَلٌّ).
أي ثقيل على سيده ذو كلفة ومشقة كلفة الحال لاحتياجه إلى من يقوم عليه ويصلح شأنه وكذلك الأصنام.
قوله تعالى: (أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ لَا يَأْتِ بِخَيْرٍ).
قلنا: إن الصفات المتقدمة راجعة لحال الكفار فالمعنى أنهم لأجل الحكم عليهم بالحكم إذا وعظتهم الرسل ورأوا الآية أنكروا وصمموا على الكفر، وإن قلنا: إنها
37
راجعة للأصنام فالمراد ذم متبعيهم وأنهم مهما طلبوا من الأصنام شيئا لَا يأتوهم بخبره وهذا تمثيل حسن ونظيره قول امرئ القيس:
[وتَعطُو برَخْصٍ غيرِ شَنَئْنٍ كأنَّهُ... أَساريعُ ظَبيٍ أو مَسَاويكُ إسْحِلِ*]
والأساريع دود حمر الرءوس تشبه أنامل النساء به فشبه أصابع المرأة بالأعلى وهو عود الأراك لاستقامتها وبالدود في احمرار أطرافها لكنه شبهها بالمجموع أو أخذت من هذا صفة ومن هذا صفة وفي الآية شبه الكفار أو أصنامهم بالأبكم والمؤمنين سلم معبودتهم بالكامل الصفة فلم يشبه بالمجموع.
قوله تعالى: (أَحَدِهِمَا).
[أبهم*] الوصف بـ (أبكم) دليل على أن الله تعالى متكلم حقيقة كلاما ليس [بصوت*]، ولا حرف خلافا للمعتزلة الذين يردونه إلى صفة العلم.
ابن عرفة: لكن يقال إن أتينا الكلام بطريق السمع فلا يصح الاحتجاج بهذه الآية لأنه يجيء فيه إثبات الكلام بالكلام وإن أتيناه بالعقل من ناحية أن عدمه نقض كما هو في الآية والله تعالى منزه عن النقائص صح الاستدلال بها.
قوله تعالى: (لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيءٍ).
قلت لابن عرفة: المقصود الإخبار عن صفته الحالية فهلا قيل ما يقدر على شيء لأن ما يخلص الفعل للحال ولا عند الأكثر إنما يخلصه للاستقبال، فقال: هذا تنبيه على أن عجزه لازم ليس ينفك إذ لو بقى بما بقى للحال لتوهم أنه يقدر على ذلك في المستقبل.
قوله تعالى: (وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ).
إن قلت: كونه (عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) سبب في أمره بالقول، فهلا قيل يستوي هو ومن على صراط مستقيم أنه قد يأمر بالعدل رياء وسمعة وقد [يكون*] مصرا على المعاصي وهو يأمر بالعدل ليمدح، وكما في بعض الأحاديث أن الله معنا [... ]
38
قوله تعالى: ﴿وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ... (٧٧)﴾
الألف واللام فيها [**للقلب] بخلاف الساعة التي يعبر بها عن زمن الحال فإن الألف واللام فيها المحصور،
قوله تعالى: ﴿وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ... (٧٨)﴾
الزمخشري: الهاء في أمهاتكم زائدة لأنه جمع أم كما زيدت في أراق فقالوا: أهراق ونقله ابن عطية عن بعضهم ثم قال: وفيه نظر ابن عرفة: لَا أدري ما هذا النظر، قلت: وقال صاحبنا الأستاذ أبو العباس أحمد بن القصار: يحتمل أن يريد والله أعلم أن أهراق اتفقوا فيه بعد اختلافهم على أن الهاء فيه بدل من الهمزة في قولهم: هراق ثم اختلفوا في أهراق فمنهم من قال إنه جمع بين البدل والمبدل منه ومنهم من قال: إن الهمزة فيه زائدة وليست بدلا ووزن أراق أفعل لأن أصله أروق، قال ابن القصار: وجمعوا بين البدل والمبدل منه كما جمع الشاعر بينهما في قوله:
هما نَفَثَا فِي فِيَّ مِنْ فَمَوَيْهِمَا... على النابحِ العاوِي أشدَّ رِجامِ
قوله تعالى: (وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ) أفرد السمع لأنه مصدر في الأصل وجمع الأبصار لأن البصر اسم، واختلفوا أيهما أشرف فاحتج من شرف السمع بأن الوحي المنزل على النبي ﷺ حاسة السمع ولأن الإنسان إذا مشى في الظلمة المختلطة يسمع ولا يرى منها فقدانه قبل السمع بهذه الحالة ولأن البصر لَا يتعلق إلا بما هو أمامك والسمع يتعلق بالجهات الست، فإن قلت إني أدير وجهي إلى خلفي والبصر من ورائي، قلنا: أو حينئذ الخلف إماما واحتج من شرف البصر على السمع بأن السمع لَا يستقل بنفسه لأن الإنسان إذا سمع كلاما والأعلى شيء فلا بد أن ينظر في دلالته عليه بالمطابقة والتضمن والالتزام وهل هو حقيقة أو مجاز وهل قابله ممن يعتمد على خبره أم لا؟ إلى غير ذلك فلا بد من استعمال الفكرة في ذلك بخلاف البصر فإنه إذا شاهد الشيء ورآه على حقيقته بأول وهلة ونفى بهذا قولهم ليس الخبر كالمعاينة وقولكم إن السمع يتعلق به الوحي للأنبياء، قلنا: هذا في دار الدنيا والبصر يتعلق به رؤية المؤمنين وهم بأبصارهم في الدار الآخرة وهي أشرف بكل اعتبار.
قوله تعالى: (لَعَلَّكُمْ).
قال ابن عرفة: الترجي مصروف للمخاطب، قلت له: كيف يفهم هذا لأنه ليس المطلوب منهم ترجي الشكر وإنما المطلوب إيقاعه، فقال يترجون الشكر النافع؛ لأنهم ليسوا على يقين من قبول شكرهم الحاصل لهم بالفعل محصول الثواب عليه.
قوله تعالى: ﴿مُسَخَّرَاتٍ فِي جَوِّ السَّمَاءِ... (٧٩)﴾
قيل له: المناسب أن يقال: حائرات في جو السماء لأن المسخرات من [الطير*] والطير يعلو أو يرتفع ويمتنع منا فلا يقدر عليه إلا بعد التخيل فليست بمسخرات وإنما المطابق للتسخير ما جاء في قوله تعالى: (وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا)، وقوله تعالى: (اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعَامَ لِتَرْكَبُوا مِنْهَا وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ) ربطها: (وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ)، وقال: إشارة إلى افتقارها إلى ماسك وقادر وخالق يقدرها على التحرك في الفضاء لأنه أعجب وأغرب من وقوعها فيه.
قوله تعالى: ﴿وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَنًا... (٨٠)﴾
أضاف البيوت إليهم إشارة إلى أنها وإن كانت من بنائهم وعمل أيديهم فالله تعالى هو جاعلها ومقدرهم عليها.
قوله تعالى: (وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ).
استحقاقها يوم للإقامة لأن بيوت الشعر ليس في خبرها كلمة خلاف بناء البيوت بالحجر وبيوت الفحم، وأهل الحجاز إنما هي من الجلود وهي أحسن من الشعر.
قوله تعالى: ﴿وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ... (٨١)﴾
قيل: إن المعطوف محذوف للدلالة أي البرد والحر.
ابن عرفة: ويحتمل أن يقال: إن المانع من الشيء مانع من نقيضه وهكذا قال ابن الحاجب: في كتابه عن هذا القياس من مختصره الأصلي ما نصه: وإن كان وجوده ينافي وجود المناسب، لم يصلح عدمه مظنة نقيضه؛ لأنه إن كان ظاهرا يقين نفسه، وإن كان خفيا فنقيضه خفي ولا يصلح الخفي مظنة الخفي.
قال ابن عرفة: فقد يقال إن نقيض الخفي إنما هو على نحو إذا فهم أن العلم بأحد النقيضين يستلزم العلم بالآخر، والحر نقيض البرد والعلم به وبما بقي منه يستلزم العلم
[بما*] بقي من البرد، وعدم العلم بأحد النقيضين يستلزم عدم العلم بالآخر ولهذا إذا جهل أحد النقيضين جهل الآخر، وأجاب ابن عطية: بأن ذكر أحدهما يدل على الآخر. قال: ومنه قول الشاعر؛
[وما أدري إذا يممت أرضا... أريد الخير أيهما يليني*].
(فَإِنْ تَوَلَّوْا... (٨٢).. إما ماضي، أو مضارع حذف منه حرف المضارعة إن قال: (تَوَلَّوْا... (٨٢)
قوله تعالى: (فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ الْمُبِينُ).
قال الزمخشري: هذا من إقامة السبب مقام مسببه.
قال ابن عرفة: بل من إقامة سبب السبب مقام السبب لأن التكليف بالتبليغ سبب في التبليغ بالفعل والتبليغ بالفعل سبب في الخروج من العهدة وعدم العتب فكأنه يقول: (فَإِنْ تَوَلَّوْا) فلا عتب عليك لأنك لم تكلف إلا بالتبليغ وقد بلغت.
قوله تعالى: ﴿يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا... (٨٣)﴾
[... ] منه أن كفرهم عاد؛ لأن معرفتهم النعمة من حيث إضافتها إلى الله يستلزم معرفتهم الله، فأنكروا ما عرفوا إذ [لَا يقال*] عرفت دار زيد إلا إذا عرفت زيدا، وأجيب: بأن المعرفة تتعلق بالنسبة ولذلك يتعدى إلى مفعولين فأفاد نفس النعمة مطلقا لا من حيث نسبتها إلى الله وإن كانت في نفس الأمر من الله وإنهم أنكروا نسبتها إلى الله فلم ينكروا ما عرفوا فليس كفرهم عنادا والعطف يتم لبعد ما بين منزلة النعمة وإذكارها لا من حقها الشكر عليها.
قوله تعالى: (وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ).
إما أن المراد كلهم أو ذلك باعتبار من سيؤمن منهم أو بالنسبة إلى صغارهم لأنهم ليسوا كافرين، قاله الفخر يصرح بنسبة إليه وإن علم أن قوله تعالى: (وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (٨٤).. أي لَا يجدون من يزيل عنهم العتب واللوم، يقال: عتبته إذا خاطبته بالعتب واللوم وأعتبت إذ أنزلت عنه العتب وهو رضا بقوله تعالى: (يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا)، وأجيب بوجهين: الأول لابن عطية، أنها في أول الأمر تجادل ثم يؤتى بالشهود عليها فلا يقبل منها مجادلة، الثاني: قال
بعض الطلبة: قوله تعالى: (لَا يُؤذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا) خاص بالكفار وقوله تعالى: (يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ) عام فيكون مخصوصا بهذه الآية وباق على عمومه في المؤمنين والمؤمنات، قيل: منهم المجادلة عن أنفسهم لإيمانهم.
قوله تعالى: ﴿وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَؤُلَاءِ... (٨٩)﴾
قال ابن عرفة: انظر هل هذا من عطف الخاص على العام أو من عطف الشىء على ما يغايره أو يخالفه، وهو الظاهر وعلى هذا يكون المراد بقوله: (فِي كُلِّ أمَّةٍ شَهِيدًا) الشهادة في الدار الآخرة، [وبقوله*] (على هؤلاء شهيدا)، الشهادة في دار الدنيا؛ لأن الشهادة مطلقة، ويراد بها أحد معنيين إما [التحمل*] وإما أداؤها فدخل في عموم قوله تعالى: (فِي كُل أُمَّةٍ شَهِيدًا) أو المراد وجئنا بك رسولا؛ لأن الشهادة في دار الدنيا من لوازم الرسالة.
قال ابن عرفة: ويكون هذا الشكل الأول مشتملا على كبرى وصغرى والصغرى فيه مؤخرة فكأنه يقول أنت رسول وكل رسول شهيد على أمته يوم القيامة فيصح أنه هو شهيد على أمته يوم القيامة.
قوله تعالى: (وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ).
وإنما قال نزل ولم يقل أنزل لأجل أن البيان به إنما وقع شيئا بعد شيء وقد تقدم أن نزل يقتضي التفريق.
قوله تعالى: (وَهُدًى وَرَحْمَةً).
ابن عرفة: الهدى والرحمة راجعان إلى الأمور الاعتقادية والسياق فإن أظهر في الأمور التكليفية والشرائع فهلا أخر في الذكر، وأجيب: بأن هذا من عطف خاص على العام أو لأن المخاطب النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وليس هو محتاج إلا نشر التكاليف والشرائع فقدم الأهم عليه.
قوله تعالى: (لِلْمُسْلِمِينَ).
متعلق (بُشْرَى) فقط لأن الكتاب هدى ورحمة للجميع وبشارة خاصة بالمسلمين وهو للكافرين نذير، وفي الآية أدلة منها أنها تدل على أن السعة ليست مبينة للقرآن لأنها داخلة في عموم شيء فهو مبين بها ولغيرها فلو كانت هي مبينة له يلزم الدور، وأجيب: بأن القرآن على الجملة مبين لجملة السنة وبعض السنة مبين لبعض القرآن ومنها أن فيها دليلا على بطلان العمل بالقياس لأنه ما من صورة مثبتة بالقياس ألا أن القرآن مبين بها لقوله تعالى: (تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ) فلَا يصح إثبات الحكم فيها
بالقياس لأنه قياس في معرض النص، ورد هذا بأن القرآن بين الحكم فيها بواسطة القياس لأنه بينه من غير قياس بدليل إما نحو كثيرا من المسائل ليس فيها نص منها أن فيها دليل على صحة العمل بالقياس لأنه (تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ) ومن جملة ذلك الإجماع والقياس.
قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ... (٩٠)﴾
قال العدل: هو الواجب لأن الله تعالى يدل فيه على عباده فجعل ما فرضه عليهم وأنها تحت طاقتهم.
قال ابن عرفة: هذا اعتزال على مذهبه، وأما نحن فمذهبنا جواز تكليف ما لَا يطاق واختلفنا في وقوعه، فقال الفخر في المعالم: إنه واقع والصحيح عدم وقوعه ومذهبنا أنه لَا حسن ولا يصح وإن جميع الكائنات من خير وشر بالنسبة إلى الله تعالى لكنه بتكليف ما لَا يطاق، وإن كان منجيا فهو من الله حسن وعدل في خلقه.
قوله تعالى: (وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى).
قال ابن عطية: وهذا عام يتناول الإتيان بالقليل والكثير فلا يحصل الخروج من العهدة إلا بإعطاء الشيء الكثير، وقال الشيخ عز الدين: إن القربى هنا المراد بهم وهي المحارم فهم الذين أمر الإنسان بمواساتهم والإنفاق عليهم وإنما ابن عمه وابن خاله فليس منهم.
قوله تعالى: (وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ).
ابن عرفة: الفحشاء هو كل ما يتستر الإنسان به غالبا من المعاصي كالزنا والسرقة ونحوها والمنكر ما لَا يتستر به غالبا فالغيبة والحرابة [والغصْب*] ويحتمل أن يراد بالفحشاء الحرام وبالمنكر المكروه لأنه من قسم ما لن يؤذن في فعله وهذا فهو الأظهر فإِنهم قالوا العدل هو الواجب والإحسان هو فعل المندوب فيكون هنا طباقه ويجيء في الآية طباق خمسة لخمسة يطابق بأمر ينهي والباقي بالعدل يعني في قوله: (عَنِ الْفَحْشَاءِ) لأن الباء [للإلصاق*] أو للمصاحبة، وعن المزاولة، أو للمجاوزة وذلك عند [الإنصاف*] والعدل يطابقه الفحشاء والإحسان يطابقه المنكر (وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى) يطابقه البغي، قال وهذا أكثر ما ينتهي إليه المطابقة، قال ابن مالك: والطباق يكون في اثنين باثنين كقوله تعالى: (فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا) وقال الشاعر:
[فيا عجباً كَيفَ اتّفقنا فَناصحٌ... وَفيٌّ ومطويٌّ على الغِل غَادِرُ*]
فطابق الناصح الوافي بالمطوي الغادر ويكون في ثلاثة مثلا كقول الشاعر:
وإن هبطا سهلا أثارا عجاجة وإن علوا حزنا تشظّت جنادل
يصف حماراً وأتانا، فطابق هبطا بعلو وسهلاً بحزنا وأثارا بتشظت.
وقال الآخر:
ما أحسنَ الدين والدُّنيا إذا اجتمعا وأقبحَ الكفر والإفلاس بالرجلِ
ويكون في أربعة بأربعة، كقوله تعالى: (فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (٥) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (٦) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى (٧) وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى (٨) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى (٩) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى (١٠). وتكون في خمسة بخمسة وهو غاية ما وجد منه كقول المتنبي:
أزورهمْ وظلامُ الليلِ يشفعُ لي وأَنثني وبياضُ الصبحِ يُغْري بي
قوله تعالى: ﴿وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ... (٩١)﴾.. انظر هل الوفاء بمقتضى الزيادة على أم اختلفوا في قوله تعالى: (وَأَوْفُوا الْكَيلَ إِذَا كِلْتُمْ) هل تجب الزيادة السبب [... ] على القدر الواجب لأنها مما لَا يتصل إلى الواجب إلا به، وكذلك اختلفوا في الزيادة على المرفقين في غسل الذراعين، قال ابن أبي زيد: فليس بواجب إدخالهما فيه، وإدخالهما فيه أحوط لزوال تكلف التجديد، فإن قلت: ما فائدة قوله: (إِذَا عَاهَدْتُمْ) فالجواب: إن قوله (وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ) جواب: إذا ولو قيل إذا عاهدتم فأوفوا بعهد الله لكان كلاما مفيدا لَا سؤال فيه.
قال ابن عرفة: ومن حلف بعهد الله وحنث لزمته كفارة يمين بالله. وفي كتاب ابن المواز، وهو قول ابن المواز ونقله ابن رشد عن ابن القاسم: أنه إن قصد بعهد الله التوثيق به فهو أعظم من أن يكفر باليمين الغموس.
قوله تعالى: (وَلَا تَنْقُضُوا الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا).
هل المراد به الحنث مطلقا أو الحنث من غير كفارة وهو الظاهر، وقال القاضي عياض في الإكمال في حديث النخامة في المسجد وكفارتها دفنها، قال القاضي: قوله كفارتها دفنها لَا يريد به الكفارة الواقعة للإثم؛ إذ لم يكن هناك إثم ولا يريد بالكفارة رفع ما يتوهم، قال ابن عرفة: يريد أن الإثم إنما يترتب عن درء الكفارة لَا عن مجرد الحنث في اليمين، وقال الشيخ أبو الحسن اللخمي في كتاب [الأيمان*]: إن الحنث على
خمسة أقسام واجب وحرام ومستحب ومكروه ومباح فيجيب إذا حلف على فعل ما لا يجوز له في فعله ويحرم إذا حلف أن يفعل ما يجب عليه شرعا.
قوله تعالى: (وَلَا تَنْقُضُوا الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا).
يقال أكدوا، وكذا قال الزجاج: الهمزة بدل من الواو، ورده ابن عطية: بأنه ليس في وجوه تصريفه ما يدل على ذلك، قلت: لقول ابن عصفور في معربه الهمزة لَا تبدل من الواو المفتوحة قياسا وشذ قولهم [... ].
قوله تعالى: ﴿وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا... (٩٢)﴾
ابن عرفة: أكثر ما يتأتى هذا في الصوف واختلفوا هل كان هذا ووجد فقيل وجد في امرأة صماء واسمها ريطة بنت سعد، وقيل: في امرأة اسمها عطية، وقيل: هو ضرب مثل لَا عن امرأة معينة وقصد تشبيها بوجود بالمعدوم المقدر الموجود ونص ابن مالك: على أن هذا إنما يصح فيما هو مشهور وإن كان معدوما كقول امرئ القيس:
ومسنونةٌ زرقٌ كأنيابِ أغوالِ
لأن القول مشهور عند العرب وإن لم يوجد بخلاف قولك هذا كبحر من زئبق، ويحكى عن بعض المجانين أنه كان يصنع أشياء عجيبة فإذا أكملها يفسدها [فأمره بعض الملوك بصنع*] ذلك لكونه أحسن أهل زمانه، وأمر رجلا يرصده فإذا رآه قارب إكمال صناعته حال بينه وبينها.
قوله تعالى: ﴿وَلَكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ... (٩٣)﴾
هذه صريحة في الرد على المعتزلة في خلق الأفعال في آدم، وقال الزمخشري: في قوله تعالى: (وَلَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) إنها رد على الجبرية القائلين: إن الخلق مجبورون على الأفعال وأنهم كحركة المرتعش.
ابن عرفة: واختلف النَّاس في المباح هل تكتبه الحفظة ويتعلق فيه السؤال أو لا؟ وعموم الآية تدل على أنه يسأل عنه ويكتب لأن ما إن كانت موصولة بمعنى الذي فهي عامة لأن الذي معرف بالألف واللام وهذه بمعناه وإن كانت مضافة فيعم بالإضافة كما أعم بها قوله تعالى: (يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُم) وهذا مذكور في قوله تعالى: (مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ).
قوله تعالى: ﴿فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا... (٩٤)﴾
قلت لابن عرفة: قوله بعد ثبوتها مع أن قوله فتزل قدم يعني عنه، فأجاب بوجهين الأول: إنه مبالغة في التنفير عن ذلك، الثاني: إن الواقف [المعتمد*] على أحد قدميه لا يقع إلا إذا زالت قدمه التي اعتمد عليها، وأما إذا زالت الأخرى فلا يقع فهو إشارة إلى أنهم زالوا عما كانوا ثابتين عليه معتمدين.
قوله تعالى: ﴿وَلَا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا... (٩٥)﴾
ابن عرفة: الثمن في الاصطلاح مشترى به لَا مشترى فكذلك جعل الزمخشري (تشتروا) بمعنى تستبدلوا [بِعَهْدِ اللَّهِ*].
قال الزمخشري: [هو إتيان*] البيعة، لأن قوما من أسلم بمكة أحبوا أن ينقضوا ما بايعوا عليه النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فثبتهم [الله*]، وقال ابن عطية: المراد به ما عهد الله بعباده من النهي عن الرشاء وأخذ الأموال على فعل ما يجب على الأخذ، ورده ابن عرفة: لكن هذا أعم يتناول ما قال الزمخشري وغيره: فالحاصل أن المراد بها النهي عن فعل ما يجب تركه أو النهي عن ترك ما يجب فعله.
قوله تعالى: (ثَمَنًا قَلِيلًا).
يريد باعتبار كميته وحاله فقد يكون كثيرا في كميته وحقيرا في [حاله*]، وهو جميع عرض الدنيا.
ابن عرفة: وهذا النعت تقليل إن كان للبيان ولإزالة الاشتراك فيلزم المفهوم وهو أنه قد يكون ما يشترونه بعهد الله ثمنا كثيرا فلم ينهوا عنه وإن لم يكن كذلك لمجرد التأكيد قال: وأجيب بأنه للبيان ومنع من المفهوم.
قوله تعالى: (إِنَّمَا عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيرٌ لَكُم).
من كل ما سواه وخير هنا فعل أو أفعل وعلى كل تقدير فلا يلزم منه مفهوم. قوله تعالى: [(مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ*]... (٩٦).. عبر عنه بالفعل لأن انتفاءه وهو التغير والزوال والبقاء صفة ثبوتيه دائمة زمنين فصاعدا فناسب التغيير منها بالاسم.
قوله تعالى: (وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ).
قلت لابن عرفة: لما عبر عنهم بالفعل وهم ثابتون على حالتهم فقال: تثبيتها على سعة رحمة الله تعالى، وإن من اتصف بمجرد الصبر زمنا ما فله أجره.
قوله تعالى: (بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ).
قيل: هو راجع لعملهم أو لجزائه فهل المراد يجزيهم بجزاء أحسن عملهم أو بأحسن جزاء عملهم والباء على هذا للتعدية أو [للإلصاق*] أو المراد أنهم يجازون على أحسن عملهم ويبقى ما دونه مسكوتا عنه والباء على هذا للسبب وفي الآية دليل على أن الترك فعل لأن الصبر هو حبس النفس إما على المؤلمات والمشاق فهو فعل أو عقبها على الملائمات فهو ترك وسمى في الآية جميع ذلك عملا.
قوله تعالى: ﴿فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ... (٩٨)﴾
أي إذا أردت أن تقرأه، الزمخشري: [وعبر عن إرادة الفعل بالفعل لأن الفعل يوجد عند [القصد والإرادة بغير فاصل وعلى حسبه، فكان منه بسبب قوىّ وملابسة ظاهرة*] (١). ابن عرفة: أراد أن الإرادة لَا تكون إلا مقارنة للفعل ولا تكون سابقة عليه، وهذا في الإرادة الحادثة بإتقان منا ومنهم وإنما بخلاف بيننا في إرادة الله تعالى، قيل لابن عرفة: قد يريد اليوم أن يقوم [... ] فقال هذه تسمى عندنا وعندهم شهوة [وليست*] بإرادة، قال: لأن الإرادة هي التخصيص والتخصيص لَا يكون إلا بوجود المخصص وأما الشهوة فهي الليل ولهذا تجد المريض بالحمى مشتهي البطيخ ولا يريد أن يأكله لأنه يضر به حسبما ذكر ذلك قاله إمام الحرمين في الشامل.
قال الزمخشري: وعن ابن مسعود: قرأت على رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم فقلت: أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم فقال لي: "يا ابن أم عبد قل أعوذ بالله من الشيطان الرجيم هكذا أقرأنيه جبريل عن القلم عن اللوح" قال ابن عرفة: المناسبة عن اللوح عن القلم، قلنا: إنما قال الزمخشري ما تقدم فقال: يحتمل أن يكون وجهه أن جبريل كتب ذلك من اللوح المحفوظ في صحف ونزل بها إلى سماء الدنيا ثم كان يخبر النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم بما في تلك الصحف، وقوله: "يا ابن أم عبد" يعني هو بذاته لأن اسمه عبد الله بن مسعود، وقال ابن عرفة: وفي لفظ القرآن خلاف قيل إنه اسم للكل مثل غيره بالنسبة إلى أجزائها، وقيل: إنه يصح أن يطلق على بعضه قرآنا فيكون كالماء ونحوه من أسماء الأجناس
(١) العبارة في المطبوع مضطربة، والتصويب من (الكشاف. ٢/ ٦٣٣).
47
يصدق على القليل والكثير على حد السوية ليكون متواطئا، وقال ابن رشد: الصحيح الأول لنهيه صلى الله عليه وعلى آله وسلم عن السفر بالقرآن إلى أرض العدو مع أنه كتب على هرقل بقوله: (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ).
ابن عرفة: وهذا الأمر عام في الأشخاص لإجماعهم على أنه يتناول كل قارئ والعام في الأشخاص قيل إنه عام في الأزمنة والأحوال، وقيل إنه مطلق فيهما فعلى الأول يومي المصلي بالاستعاذة والمشهور من مذهبنا منع ذلك في الفريضة وطلبه في النافلة والخلاف المتقدم ذكره القرافي، والشيخ عز الدين، وابن دقيق العيد في شرح العهدة في حديث النبي عن استقبال القبلة لبول أو غائط مع حديث ابن عمر وفيه أنه وجد النبي صلى الله عليه وآله وسلم على بول أو غائط مستقبلا بيت المقدس مستدبراً القبلة، قال: اختلفوا في العام في الأشخاص إلى آخره، قيل لابن عرفة: وحكي ابن بريدة في هذا الموضع من تفسيره أن في المجموعة قولا بأنه يتعوذ في الصلاة بعد الفاتحة وقبل السورة.
ابن عرفة: وهذا غريب، قيل: وأظن أن ابن العربي حكاه كذلك، وقد قال ابن الحاجب: ولا يتعوذ ولا يبسمل، وله أن يتعوذ ويبسمل في النافلة، قال ابن عبد السلام: فإن قلت: عموم فإذا قرأت القرآن فاستعذ يتناوله فهلا قلتم يتعوذ في الفريضة؟ قلنا: قد نقلت لنا قراءة رسول الله عليه وعلى آله وسلم في الصلاة ولم يذكر منها استعاذة فيكون ذلك مخصصا للآية.
ابن عرفة: لَا يصح تخصيص عموم القرآن إلا بلفظ ورد منصوصا عليه في السنة أو تابع المنصوص عليه كالمفهوم وأما هذا فلم يرد فيه نص ولا هو تابع والأصل عدم التخصيص.
ابن عرفة: ويتناول هذا الأمر بالتعوذ من يقرأ آية استعاذة كقوله تعالى: (وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ (٩٧) وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ (٩٨). لأنه يصدق عليه أنه قارئ القرآن.
ابن عرفة: وفي الآية سؤال وهو أن الاستعاذة من الشيطان إنما يطلب حيث يتوهم حضوره، وهو عند إرادة القراءة إذا [تأهب*] ولولا ذلك لوسوس ومنع منها يستعاذ منه عند القراءة، وأجاب: بأنه قد جاء أن كل حرف بعشر حسنات كما قال: "لَا أقول (الم)
48
[حَرْفٌ، وَلَكِنِ الْأَلِفُ حَرْفٌ، وَاللَّامُ حَرْفٌ، وَالْمِيمُ حَرْفٌ"*] فهو لرؤيته ذلك وعمله بحصول هذا الخير العظيم يوسوس القارئ ويبعده عن القراءة فلهذا أمر بالاستعاذة منه.
قوله تعالى: ﴿إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا... (٩٩)﴾
أي ليس له عليهم حجة في الآخرة، وقوله: (إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ) أما ليس لك عليهم تسلط في الدنيا، أو لَا حجة لك عليهم في الآخرة، وقوله تعالى: (إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ... (١٠٠).. وهم عصاة المؤمنين والمشركين [... ] المشركين حقيقة وأهل الكتاب لقولهم الله ثالث ثلاثة، وقول اليهود عزير ابن الله، والنصارى المسيح ابن الله.
قوله تعالى: ﴿وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ... (١٠١)﴾
قال ابن عرفة: كان الشيخ أبو عبد الله محمد الأيلي يحكي أنه جرى ذكر الآية في مجلس الأمير أبي الحسن، قال: واختلفا في معناها وحدها ما هو، فقال بعضنا هو الكلام المستقل وقال بعضنا هي العلامة وقيل: [... ] ولنا على غير شيء، وابن عرفة: والصحيح أنها توفيقية فما عدها من الشارع بدليل أن القراء ذكروها وعدوها، وقالوا إن عدها مكان آية وآية الكرسي وآية الدين وقيل: هذا ليس للنظر فيه محال قال ابن عرفة: وهذه الآية نص في جواز النسخ، واستدل الفخر في المحصول بقوله تعالى: (مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا) وأجابه سراج الأرموي: بأن ملزومية الشيء للشيء ما يدل على وقوعه ولا إمكان وقوعه.
ابن عرفة: وهذا كقول المنطقيين بأن القضية الشرطية قد تكون صادقة وجزاءها [كاذبا*] كقوله كلما كان الشيء متحركا كان [ساكنا*] اجتمع النقيضان فهو [حق*] والجزاء الأول كاذب، ويفهم قوله تعالى: (قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ) ورد عليه شمس الدين الجزري: بأن القصد في قوله تعالى: (مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ) المدح، والتمدح إنما يكون بالممكن الواقع ل
بالمحال، والتحقيق في هذا أن المدح دال على جواز النسخ وإمكانه فقط، لَا على وقوعه، كما يقول فلان قادر على أن يعطي ألف درهم وإن لم [يعط*]. بالفعل.
قوله تعالى: (قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ).
هذا إضراب انتقال قال ابن عطية: إما أن المراد أقلهم عاملون معاندون وإما أن أقلهم شاكون. قيل لابن عرفة: الشاك غير عالم فكلهم إذا لَا يعلمون فقال ابن عرفة: أراد أن معنى الآية بل أكثرهم مصممون وأما الشاكون فليسوا بمصممين على الكذب فيجوز في لفظ لَا يعلمون وأرادوا به التصميم على الكذب.
قوله تعالى: ﴿قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ... (١٠٢)﴾
لفظ الرب هنا دليل على صحة مذهب أهل السنة في أن بعثة الرسل محض تفضل من الله عز وجل، قلت لابن عرفة: هل فيه دليل على أن جبريل هو الذي نزل به من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا فقال: لَا بل يحتمل أن يكون أنزلته معه ملائكة أُخر.
قوله تعالى: (بِالْحَقِّ).
أي مصاحبا للحق وهو حال من ضمير القرآن المتصل بـ ينزل.
قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ لَا يَهْدِيهِمُ اللَّهُ... (١٠٤)﴾
ابن عطية: مخصوص بمن آمن منهم.
ابن عرفة: أراد أن المؤمنين عام فلذلك خصصه، لكن تقدم في علم المنطق أن القضية على قسمين مطلقة ودائمة نحو كل كاتب محرك يده دائما فهي كاذبة وكذلك هي في الآية إن قلنا معناها إن الذين لَا يؤمنون بآيات الله لَا يهديهم الله ما داموا كافرين بها فلا يحتاج إلى تخصيص، لكن بقي فيه عدم الفائدة في الخبر فقد يمتنع كما منع النحويون الذاهبة جاءت صاحبها وإن قلنا ليس في الآية تقدير وأبقيناها على عمومها احتجنا إلى تخصيصها كما قال ابن عطية والله أعلم. قال ابن عطية: وفيها تقديم وتأخير والتقدير أن الذين لَا يهديهم الله لَا يؤمنون بالله ورده ابن عرفة بأن فيه الفصل بين الصفة والموصوف بالخبر وهو أجنبي، قلت له: يبقى السؤال لأي شيء قدم ما شأنه التأخير وأخر ما حقه التقديم؟ فقال: لو قيل كذلك لما أفادت الثانية شيئا لأن كل
أحد يفهم نقيضها من الأولى خلاف هذه فإن الذين لَا يؤمنون بالله قد يهديهم الله فيؤمنون فأفادت الثانية ما لم تفده الأولى، وقال بعض الطلبة: بل ورودها على هذا الشيء، قلت: في الآية حجة للمعتزلة القائلين بأن الله لم يخلق الضلال فإنه ذكر عدم هداية الله لهم بعد أن أسند إليهم الامتناع من الإيمان بلام الملك.
قوله تعالى: (وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ).
وليس بداخل في حكم التأكيد بأن بل هل هو معطوف على الجملة كلها كقولك إن زيد قائم وعمر خارج ولا يصح عطفه على الخبر.
قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ... (١٠٥)﴾
ابن عطية: (إنما) ليست للحصر حقيقة بل للمبالغة لأن كثيرا من المؤمنين يفترون الكذب، وأجاب ابن عرفة: بأن الألف واللام في الكذب المعهود، فالمراد إنما يفترى الكذب على الله، فإنها للحصر حقيقة، قيل لابن عرفة: إذا أفتى رجل نفسه تحليل ما هو عنده حرام فقال: هو مفتر على الله الكذب، ومعنى الأمر أن يقول أو يفعل ما يخالف علمه [**فنقدا لذلك]، قلت له: إذا أفتى بالمشهود في مثله، قال: هذا هو حكم الله فهل هو مفتر، إن قلنا: إن المصيب واحد فقال: لَا لأنه مقلد فكان يقول هذا هو حكم الله عند هذا القائل.
قوله تعالى: (وَأُولَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونْ).
ابن عطية: إن قلت لم كرر هذا مع أنه مفهوم، فأجاب: بأن الكاذبين هنا صفة لازمة للموصوف فهو آكد من الأول.
ابن عرفة: وهذا لَا يصح من جهة النحو، ولا من جهة الأصول فالصفة ليست لازمة للموصوف بوجه ولما النحويون فإنما فرقوا بين قولك زيد هذا القائم وبين زيد قائم، فقالوا: إن الصفة أقوى وآكد من الخبر؛ لأن قائما في قولك زيد قائم خبر محتمل للصدق والكذب والقيام في الأول صفة فما جيء بها إلا بناء على أن المخاطب موافق على معناها لَا هو ولا غيره وليس الكاذبون هنا صفة لمقدر أي هم القوم الكاذبون فقال: لم يقل أحد في القائم في قولك زيد القائم صفة لمقدر وإلا فإن يلزم عليه التسلسل فما قاله ابن عطية لَا وجه له قال: وإنما الحكمة في تكرير هذه الجملة عندي أحد أمرين إما أنه قصد التذييل ومعناه عند البيانيين أن يؤتى بجمل مختلفة الألفاظ متقاربة المعاني وإما أن الأول بلفظ الفعل وهو قوله تعالى: (إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ) فكرر بلفظ الاسم تأكيدا له بما هو أبلغ منه.
قوله تعالى: ﴿مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ... (١٠٦)﴾
أعربه الزمخشري: بدلا من (الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ) ورده أبو حيان: بأنه يلزم عليه حصر افتراء الكذب فيمن كفر بالله من بعد إيمانه ويبقى من لم يزل كافرا وأجاب ابن عرفة: بأن هنا بناء على أن إنما للحصر حقيقة وإن جعلناها للمبالغة كما قال ابن عطية فلا يعقبه قوله (إلا من أكره). ابن عطية: إذ أطلق مكرها لم يلزمه اللخمي إن صرف تنبيه عن الطلاق لم يجب وإن صرفها إلى الطلاق لزمه، وإن ذهل عن النية فإن كان في ضيق من الزمان لم يحنث وإن كان في [سعة*] حنث.
ابن عرفة: هذا مشكل لأن المشهور من مذهبنا أن الغاصب لَا يرد [الغلات*]، قال ابن عطية: وإذا أكره على [مال*] الغير، فإن كان في حلفه مصور لما له حلف لم يحنث وإلا فلا، وقال ابن بشير: إن كان الضائع كثيرا حلف من ماله يسيرا لم يحنث وإن حلف، وإن كان الضائع من ماله كثيرا حلف ولا حنث عليه.
قال ابن عرفة: وإذا أكره على إخراج رجل من داره للقتل وحلف بالطلاق على أنه ليس عنده، فالمنصوص أنه إن حلف حنث إلا أن يتوعد على ذلك بالضرب إن لم يحلف وإن قيل: إن لم تحلف دخلنا دارك وأخرجناه فهو في سعة ولا إثم إن لم يحلف وإن حلف حنث وكذلك في اليمين بعموم العام والمشي إلى مكة، قال اللخمي: قيل لابن عرفة: كنت حكيت لنا عن الفقيه المدرس أبي عبد الله الرماح القيرواني أن بعض الكبار أودع عنده طعاما فطلب بعض الأعراب أخذه، فقال: ليس عندي شيء فأحلفه على ذلك بالطلاق فحلف فقال المنقول: إنه لَا يحلف فيما يرجع بلفظ النفوس وإن حلف حنث فأحرى الأموال قال فإذا أكره على الزنا فإن كانت المزني بها أمة للمكره فإن كان الإكراه ينفعه وإن كانت لغيره لم يجز له ذلك لأنه لَا يحل له القدوم على ملك غيره كما إذا أكره على أخذ مال غيره.
ابن عرفة: وسبب نزول الآية أن ناسا من ضعفاء المسلمين أكرهوا على الكفر فكفروا في الظاهر منهم بلال وصهيب وخباب.
ابن عطية: وإذا أكره على السجود للصنم فإنه يسجد له إن كان في القبلة وينوي السجود لله تعالى.
ابن عرفة: قال له أن ينوي السجود لله وإن لم يكن الصنم في القبلة كما سجد غير المضطر وكالمسافر فإنه يصلي على دابته حيث ما توجهت به.
قوله تعالى: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ... (١٠٨)﴾
قال صاحب الإرشاد: واختلافا في الطبع ما هو [... ]. فمنهم من قال هو أن يختم عليه بالكفر، وقيل: هو أن يجعل عليه علامة دالة على الكفر، وأما المعتزلة فقالوا: هو أن يجعل عليه علامة من غير أن يخلق في قلبه الكفر، وفي الحديث "أنه يخلق فيه نكتة سوداء".
قوله تعالى: (وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ).
إن قلت: الطبع على القلب يستلزم ما سواه، فالجواب: أنه نفي بالطبع على القلب المعلوم النظر به، وبعض الضروريات وهي الأوليات تكون الواحد نصف الاثنين والوحدانيات كعلمك بشبع نفسك وبقيت المحسوسات فنفاها بقوله: (وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ) قيل لابن عرفة: الأوليات والوحدانيات أجلا من المحسوسات فإذا انتفت فأحرى أن ينتفي عنهم المحسوسات، فقال: هذا أبلغ، قلت له: ويحتمل أن يقال: الفكر القلبي مسبب عن السمع والبصر، ونفي المسبب ما يستلزم نفي السبب فلهذا قال وسمعهم وأبصارهم، قال: وأفرد السمع لأنه مصدر في الأصل منهم لا يثنىَ ولا يجمع إلا إذا اختلفت أنواعه على العموم والاشتغال بخلاف البصر فإنه ليس بمصدر.
قوله تعالى: ﴿يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا... (١١١)﴾
ابن عرفة: قال ابن عصفور: إن الإضافة في قولك مررت بالرجل الحسن وجهه إنما هي عن نصب وليست عن رفع إذ لو كانت عن رفع يلزم عليه إضافة الشيء إلى نفسه لأنك إذا قلت: الحسن وجهه بالرفع فالحسن هو الوجه لأنه فاعله حينئذ يرتفع على أنه فاعل بالحسن وإذا قلت: وجهه بالنصب فالحسن هو الرجل لأن فاعله حينئذٍ ضمير عائد على الرجل فإذا كانت إضافة وجهه عن نصب لم يكن فيه إضافة الشيء إلى نفسه بل إضافة الحسن الذي هو من صفة الرجل إلى وجهه وعلى الرفع أضاف صفة الوجه إلى الوجه فهي إضافة الشيء إلى نفسه لَا يجوز فقوله تعالى: (عَنْ نَفْسِهَا) أضاف الشيء إلى نفسه خبر وفيه إشكال إذ لَا يجوز إضافة الشيء إلى نفسه.
ابن عرفة: والجواب أن ابن عصفور قال: لَا يجوز تعدي فعل المضمر المتصل إلى مضمر المتصل فلا يجوز مرتني ويجوز مرت نفسي لأن الاسم الظاهر يتنزل منزلة الأجنبي مكانه قيل هنا تجادل عن غيرها قلت: وهذا الذي نقل عن ابن عصفور ذكره
في الشرح الصغير على الجمل الصغير في باب الصفة المشبهة باسم الفاعل ندبة على أبي القاسم في قوله في الوجه الحادي عشر يضاف الشيء إلى نفسه.
قوله تعالى: ﴿رَسُولٌ مِنْهُمْ... (١١٣)﴾
تنكيره للتعظيم.
قوله تعالى: (فَكَذَّبُوهُ).
الفاء للتعقيب وللسبب بمعنى أن تكذيبهم إليه لأجل دعوة الرسالة فقط؛ لأنه كان عندهم مشهورا بالصدق والأمانة فما كذبوه إلا بسبب دعواه، والرسالة.
قوله تعالى: (فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ وَهُمْ ظَالِمُونَ).
ابن عرفة: هذه حال مبنية لأنهم تارة يكذبونه وهم جاهلون بصحة رسالته فلا يكونون ظالمين، وتارة يكذبونه مع ظهور الدلائل الدالة على صدقه فهؤلاء ظالمون.
قوله تعالى: ﴿فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ... (١١٤)﴾
هذا أمر امتنان ويحتمل أن يكون للإباحة إذا قلنا إن الأشياء على الحظر.
قوله تعالى: (حَلَالًا طَيِّبًا).
هذه حال منتقلة لصحة وجود النسخ في القرآن فيكون الشيء حلالا ثم ينسخ فيصير حراما.
قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ... (١١٥)﴾
انظر ما تقدم في صورة العقود والأنعام.
قوله تعالى: ﴿عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهَالَةٍ... (١١٩)﴾
ليس المراد الجهل المصادر للعلم، وإنما المراد به العمد [لئلا*] يلزم على الأول المفهوم، وهو أن المغفرة إنما هي لهم فقط، وقال بعضهم: بجهلهم ترتب العقوبة عليهم.
قوله تعالى: (ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا).
ابن عرفة: اختلفوا في القاذف إذا تاب فقيل: تقبل توبته، والمشهور إنها لَا تقبل توبته حتى تزيد حالته الثانية على حالته الأولى في الدين والصلاح ولا حجة لقوله تعالى: (وَأصْلَحُوا).
قال الزمخشري: من بعدها أي من بعد التوبة.
ابن عرفة: فيكون من باب ذكر المسبب عقيب سببه كقولك: أحسن فأكرمنك.
ابن عرفة: وقيل أي من بعد المعصية فيكون من باب ذكر الشيء عقيب توصيفه كقولك: أسأت إليَّ فأحسنت إليك.
قوله تعالى: ﴿وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٢٠) شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ... (١٢١)﴾
قلت له: الأصل أن يؤتي [بالنعوت*] المفردة متوالية فلم فصل بينهما عندنا؟ فقال: لأن كونه قانتا وحنيفا وشاكرا لأنعمه متفق عليه، وكونه ليس مشركا يخالف فيه الكفار، فوسطه بينهما على [**عصمه، فيكون من عطف التسوية مالا] وأيضا [... ]. أمر اعتقادي [... ]
قوله تعالى: (اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ).
استفاد منه دليل على قربه لأن الجزء المعوج عند المهندسين إما بسط وقوم يصير أطول من المستقيم، وإذا كان أطول فطريقه أبعد.
قوله تعالى: ﴿ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ... (١٢٣)﴾
نقل لابن عرفة: أن هذه جرت في مجلس الأستاذ أبي سعيد بن لب بالأندلس فقال: هذه الآية خرجت مخرج الثناء على إبراهيم فلم أدخل فيها النبي - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - ثم أجاب بأن في ذكره وأمره باتباع إبراهيم زيادة تشريف بملة إبراهيم صلى الله عليه وعلى آله وسلم وأنشد قول ابن الرومي:
قَالُوا أَبُو الصَّقْر من شَيبَان قلت لَهُم... كلا لعمرى وَلَكِن مِنْهُ شَيبَان
وَكم أبٍ قد علا بِابْن ذرا شرفٍ... كَمَا علا برَسُول الله عدنان
ثم قال: ومن كلام العرب العصا من العصية فقال له بعض الطلبة: إنما نظيرها قول العامة مزبلة الحمام أكبر من الذي عملها فأنكر عليه وعمل عقد وألزم الكفر وقتل وكتب ابن جزي الأندلسي في المسألة: فما ألزمه فيها الكفر وتحامل على أبي سعيد في قوله العصا من العصية وجعله القسم الثاني في السقاء المختلفة فيه ولكن ترك أمره لشهرة أبي سعيد وتقدمته في العلم ومكانته من السلطنة.
قوله تعالى: ﴿ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ... (١٢٥)﴾
55
أي بالبرهان والموعظة هي الخطابة.
ابن عرفة: وذكر الغزالي في [الاقتصاد*] هذه الثلاثة قال: والبرهان يخاطب به الأذكياء والخطابة يخاطب العوام لأنهم لَا يفهمون البرهان وإنما يفهمون المواعظ والجدال لا يخاطب به إلا المعاندون في الاعتقاد لأنهم لَا يرجعون عن مذهبهم بالموعظة ولم يذكر هنا العائلة لأنها ليست لكل النَّاس بل لمن لم ينفع فيه من ذلك فإن قلت قد قال عليه الصلاة والسلام: "أمرت أن أقاتل النَّاس حتى يقولوا لَا إله إلا الله" الحديث قلنا: قد تقرر في كتاب الجهاد أنهم يدعون أولا إلى الإسلام فإن لم يستجيبوا حينئذ يقاتلون، قلت: وقال الفقيه أبو العباس أحمد بن محمد بن البنا المراكشي في كتابه المسمى بالروض المريع في صناعة البديع: المخاطبات على خمسة أقسام على ما أحصيت قديما الأول: البرهان وهو الخطاب بأقوال اضطرارية يحصل عنها اليقين، والثاني: الحول وهو الخطاب بأقوال مشهورة يحصل عنها الظن الغالب، والثالث: الخطابة وهو الخطاب بأقوال مقبولة يحصل عنها استقرار في النفس الإقناع وهذه الثلاثة هي التي تستعمل في طريق الحق.
والرابع: الشعر وهو الخطاب بأقوال كاذبة يحصل عنها استقرار في النفس، والخامس: المخالطة وهي الخطاب بأقوال كاذبة يحصل عنها الاعتقاد ما ليس بحق أنها حق وهذان اسمان خارجان عن باب العلم وأخلاقه في باب الجهل فالمنظوم يكون إذاً شعرا وغير شعر كما أن المنثور كذلك، وأهل العرب يسمون المنظوم كله شعرا معرض في دار في الشعر انتهى كلامه، وقال غيره: البرهان قياس مركب من مقدمات يقينية كعلمنا بأن الواحد نصف الاثنين، والجدل قياس مركب من مقدمات مشهورة كالعلم بأن العلم حسن والجهل قبيح، والخطابة قياس مركب من مقدمات منقولة وهي المأخوذة عن الأنبياء والعلماء ومن فيه زيادة عقل أو دين كعلمنا بأن إعادتنا حق وإنَّمَا مجازون بالجنة والنار ولاختلاف النَّاس أمر النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أن يدعوا بالثالثة قدر العمل والفهم بدعا بالحكمة وهم الخواص ومن دونهم بدعا بالجدال والعوام [يدعون*] بالموعظة إذ لو دعوا بالحكمة لم يفهموها، [**والقياس الشعر من مركب من مقدمات تخيلية للفعل النفس] لها كتشبيه الخمر ياقوتة سيالة فرغب فيه وتشبيه العسل بقيء [فتنفر*] عنه النفس، وكذلك البيض بقوله إنه خارج من محل العذرة [فتنفر*] عنه النفس وهذا لَا فائدة فيه إلا أنه يوجب قبضا وبسطاً في النفس وأما السرقسطاني وهو المغالطي: فهو قياس مركب من مقدمات مشبهة بقضايا أوليات كقول القائل كل من
56
ليس في مكان وجهة لَا يدرك بحاسة البصر فيصح استحالة رؤية الله وهذه مغالطة إذ ليس من شرط الإبصار الجهة وقد سمي الغزالي هذا وأنظاره ميزان الشيطان.
قوله تعالى: ﴿وَإِنْ عَاقَبْتُمْ... (١٢٦)﴾
وإن أردتم العقابة والأمر للإباحة.
قوله تعالى: (بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ).
سمى فعل الجاني عما يأمن مجاز المقابلة كقوله [... ]:
[قالوا اقترح شيئاً نجد لك طبخه... قلت اطبخوا لي جبة وقميصا*]
وقال في المدونة: فمن مثل برجل فقطع يده وجرحه إلى غير ذلك ثم قتله قال إن العلم أنه قصد الممثل به فعل به مثل ذلك والأصل فقط.
قوله تعالى: ﴿وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ... (١٢٧)﴾
فيه رد على المعتزلة في قولهم العبد خلق أفعاله ورد على الجبرية القائلين بأن حركة العبد كحركة المرتعش وإنه قيل له: افعل بأمر لَا فعل له ودليل لأهل السنة في إثبات الكسب لأنه أمر بالصبر ثم إنه لَا صبر له إلا بالله.
قوله تعالى: (وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ).
أي لَا تحزن على ما سلف من قتالهم وعدم إيمانهم في المستقبل ولا تك في ضيق مما يمكرون به ويحلون فيه، فنهاه عن التأسف على كفرهم ثم عن الخوف والجزع مما سيجدون عنهم في المستقبل. فإن قلت هلا قال ولا يكن في صدرك ضيق فهو أبلغ.
* * *
Icon