تفسير سورة الإسراء

فتح البيان
تفسير سورة سورة الإسراء من كتاب فتح البيان في مقاصد القرآن المعروف بـفتح البيان .
لمؤلفه صديق حسن خان . المتوفي سنة 1307 هـ
سورة الإسراء.
بسم الله الرحمن الرحيم.
وتسمى سورة " سبحان "، وسورة " الإسراء ". مائة وإحدى عشر آية. وهي مكية، وبه قال ابن عباس. وعن ابن الزبير مثله، إلا ثلاث آيات : قوله :﴿ وإن كادوا ليستفزونك ﴾، نزلت حين جاء رسولَ الله صلى الله عليه وآله وسلم وفدُ ثقيف، وحين قالت اليهود : ليست هذه بأرض الأنبياء، وقوله :﴿ رب أدخلني مدخل صدق ﴾، وقوله :﴿ إن ربك أحاط بالناس ﴾، وزاد مقاتل قوله :﴿ إن الذين أوتوا العلم من قبله ﴾. وقيل الآيات الثمان.
وعن ابن مسعود قال في هذه والكهف ومريم :" إنهن من العِتاق الأُول، وهن من تِلادي ". وعن عائشة قالت :" كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقرأ كل ليلة بني إسرائيل والزمر ".

(سبحان) هو مصدر سماعي لسبح المشدد أو اسم مصدر، يقال سبح يسبح تسبيحاً وسبحاناً أو مصدر قياسي لسبح المخفف، فإنه يقال سبح في الماء، ومعناه التنزيه والبعد والبراءة لله سبحانه من كل نقص وسوء، وعلى كل فهو علم جنس للتنزيه والتقديس.
وقال سيبويه: العامل فيه فعل لا من لفظه، والتقدير أنزه الله تنزيهاً، فوقع سبحان مكان تنزيهاً فهو على هذا مثل قعد القرفصاء واشتمل الصماء، وقيل هو علم للتسبيح كعثمان للرجل أي أسبح الله سبحان ثم نزل منزلة الفعل وسدّ مسده ودل على التسبيح البليغ والتنزيه الكامل ولذا لا يستعمل إلا فيه تعالى.
(الذي أسرى بعبده) الإسراء قيل هو سير الليل يقال سرى وأسرى كسقى وأسقى لغتان بمعنى سار في الليل وهما لازمان لكن مصدر الأول الإسراء ومصدر الثاني سرى بضم السين كهدى فالهمزة ليست للتعدية إلى المفعول وإنما جاءت التعدية هنا من الباء ومعنى أسرى به صيّره سارياً في الليل، وقيل هو سير أول الليل خاصة.
وإذا كان الإسراء لا يكون إلا في الليل فلا بد للتصريح بذكر الليل بعده من فائدة، فقيل أراد بقوله (ليلاً) تقليل مدة الإسراء وإنه أسرى به في بعض الليل
347
من مكة إلى الشام مسافة أربعين ليلة، ووجه دلالة ليلاً على تقليل المدة ما فيه من التنكير الدال على البعضية بخلاف ما إذا قلت سريت الليل فإنه يفيد استيعاب السير له جميعاً.
وقد استدل صاحب الكشاف على إفادة ليلاً للبعضية بقراءة عبد الله وحذيفة من الليل أي في جزء من الليل، قيل قدر أربع ساعات، وقيل ثلاث وقيل أقل من ذلك، والتقليل والتبعيض متقاربان، فاستعمل في التبعيض ما هو للتقليل وقال الزجاج: معنى الآية سيَّر عبده يعني محمداً ﷺ ليلاً وعلى هذا معنى أسرى سيَّر فيكون للتقييد بالليل فائدة.
وقد أجمع المفسرون والعلماء والمتكلمون على أن المراد بالعبد محمد ﷺ لم يختلف أحد من الأمة في ذلك وقال بعبده ولم يقل بنبيه أو برسوله أو بمحمد تشريفاً له صلى الله عليه وسلم.
قال أهل العلم: لو كان غير هذا الاسم أشرف منه لسماه الله سبحانه به في هذا المقام العظيم والحالة العلية.
أصم إذا نوديت باسمي وإنني... إذا قيل لي يا عبدها لسميع
غيره
لا تدعني إلا بيا عبدها... فإنه أشرف أسمائي
عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: أسري بالنبي ﷺ ليلة سبع عشرة من شهر ربيع الأول قبل الهجرة بسنة. وعن ابن شهاب قال: أسري به إلى بيت المقدس قبل خروجه إلى المدينة بسنة. وعن عروة نحوه. وقال السدي قبل مهاجره بستة عشر شهراً.
(من المسجد الحرام) قال الحسن وقتادة: يعني المسجد نفسه، وهو ظاهر
القرآن، وقال عامة المفسرين أسري به ﷺ من دار أم هانئ،
348
فحملوا المسجد الحرام على مكة أو الحرم لإحاطة كل واحد منهما بالمسجد الحرام أو لأن الحرم كله مسجد.
وفي حديث مالك بن صعصعة أن رسول الله ﷺ قال " بينا أنا في المسجد الحرام في الحجر " وذكر حديث المعراج بكماله ومن ابتدائية ثم ذكر سبحانه الغاية التي أسرى برسول الله ﷺ إليها فقال (إلى المسجد الأقصى) وهو بيت المقدس، وسمي الأقصى لبعد المسافة بينه وبين المسجد الحرام فهو أبعد بالنسبة إلى من بالحجاز وفي تاريخ القدس أنه سمي به لأنه أبعد المساجد التي تزار من المسجد، وقيل لبعده عن الأقذار والخبائث، وقيل لأنه لم يكن حينئذ وراءه مسجد، وفي ذلك من تربية معنى التنزيه والتعجب ما لا يخفى.
وأول من بناه آدم بعد أن بنى الكعبة بأربعين سنة كما في المواهب. فهو أول مسجد بني في الأرض بعد الكعبة، وتمام حاله في كتابنا لقطة العجلان فيما تمس إلى معرفته حاجة الإنسان.
وكان الإسراء به ببدنه في اليقظة وكان قبلها في المنام كما أنه رأى فتح مكة سنة ست وتحقق منه سنة ثمان، والحكمة في إسرائه إلى بيت المقدس دون العروج به من مكة لأنه محشر الخلائق فيطؤه بقدمه ليسهل على أمته يوم القيامة وقوفهم ببركة أثر قدمه أو لأنه مجمع أرواح الأنبياء، فأراد أن يشرفهم بزيارته صلى الله عليه وآله وسلم، أو ليخبر الناس بصفاته فيصدقوه في الباقي، قاله الكرخي والوجه الأخير أظهر والله أعلم.
ثم وصف السجد الأقصى بقوله (الذي باركنا حوله) بركة دنيوية وهي ليست إلا حول الأقصى، وأما في الداخل فالبركة في كل من المسجدين بل هي في الحرام أتم، وهي كثرة الثواب بالعبادة فيهما، وعبارة الخازن يعني بالثمار والأنهار والأشجار أو بالأنبياء والصالحين لأنه قبلتهم قبل نبينا ﷺ وسماه
349
مباركاً لأنه مقر الأنبياء ومهبط الملائكة والوحي، وإليه تحشر الخلق يوم القيامة، فقد بارك الله سبحانه حول المسجد الأقصى ببركات الدنيا والآخرة.
قال السدي: المعنى أنبتنا حوله الشجر وجعل الإسراء إليه كالتوطئة لمعراجه إلى السماء.
ثم ذكر العلة التي أسرى به لأجلها فقال (لنريه من آياتنا) أي ما أراه الله سبحانه في تلك الليلة من العجائب التي من جملتها قطع هذه المسافة الطويلة في جزء من الليل، ومن تبعيضية وإنما أتى بها تعظيماً لآيات الله، فإن الذي رآه ﷺ وإن كان جليلاً عظيماً فهو بعض بالنسبة إلى آيات الله تعالى وعجائب قدرته وجليل حكمته، قاله أبو شامة والرؤية هنا بصرية وقيل قلبية، وإليه نحا ابن عطية.
(إنه) سبحانه (هو السميع) بكل مسموع، ومن جملة ذلك قول رسول الله ﷺ (البصير) بكل مبصر، ومن جملة ذلك ذات رسوله وأفعاله، قيل في هذه الآية أربعة التفاتات، وذلك أنه التفت أولاً من الغيبة في قوله الذي أسرى بعبده إلى التكلم في قوله باركنا حوله.
ثم التفت ثانياً من التكلم في باركنا إلى الغيبة في ليريه على قراءة الحسن بالياء، ثم التفت ثالثاً من هذه الغيبة إلى التكلم في آياتنا، ثم التفت رابعاً من هذا التكلم إلى الغيبة في قوله أنه هو على الصحيح في الضمير (إنه) لله تعالى.
وأما على قول نقله أبو البقاء أن الضمير في أنه هو للنبي ﷺ فلا يجيء ذلك، ويكون في قراءة العامة التفات واحد وفي قراءة الحسن ثلاثة، وهذا موضع غريب، وأكثر ما ورد الالتفات ثلاث مرات على ما قال الزمخشري في قول امرئ القيس:
تطاول ليلك بالإثمد (الأبيات)
350
وقيل فيها خمسة التفاتات، والخامس الالتفات من قوله أنه هو إلى التكلم في قوله الآتي (وآتينا موسى).
وقد اختلف أهل العلم هل كان الإسراء بجسده ﷺ مع روحه أو بروحه فقط، فذهب معظم السلف والخلف إلى الأول، وذهب إلى الثاني طائفة من أهل العلم منهم عائشة ومعاوية والحسن وابن إسحاق، وحكاه ابن جرير عن حذيفة بن اليمان.
وذهبت طائفة إلى التفصيل فقالوا كان الإسراء بجسده يقظة إلى بيت المقدس وإلى السماء بالروح، واستدلوا على هذا التفصيل بقوله إلى المسجد الأقصى فجعله غاية للإسراء بذاته ﷺ فلو كان الإسراء من بيت المقدس إلى السماء وقع بذاته لذكره.
والذي دلت عليه الأحاديث الصحيحة الكثيرة هو ما ذهب إليه معظم السلف والخلف من الإسراء بجسده وروحه يقظة إلى بيت المقدس ثم إلى السماوات ولا حاجة إلى التأويل وصرف هذا النظم القرآني وما يماثله من ألفاظ الأحاديث إلى ما يخالف الحقيقة، ولا مقتضى لذلك إلا مجرد الاستبعاد وتحكيم محض العقول القاصرة عن فهم ما هو معلوم من أنه لا يستحيل عليه سبحانه شيء.
ولو كان ذلك مجرد رؤيا كما يقوله من زعم إن الإسراء كان بالروح فقط وأن رؤيا الأنبياء حق لم يقع التكذيب من الكفرة للنبي ﷺ عند إخباره لهم بذلك حتى ارتد من ارتد ممن لم يشرح بالإيمان صدراً، فإن الإنسان قد يرى في نومه ما هو مستبعد بل ما هو محال ولا ينكر ذلك أحد.
وأما التمسك لمن قال بأن هذا الإسراء إنما كان بالروح على سبيل الرؤيا بقوله (وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس) فعلى تسليم أن المراد بهذه
351
الرؤيا هو هذا الإسراء فالتصريح الواقع هنا بقوله سبحانه الذي أسرى بعبده ليلاً؛ والتصريح في الأحاديث الصحيحة الكثيرة بأنه أسرى به لا يقصر عن الاستدلال به على تأويل هذه الرؤيا الواقعة في الآية برؤية العين، فإنه قد يقال لرؤية العين رؤيا.
وكيف يصح حمل هذا الإسراء على الرؤيا مع تصريح الأحاديث الصحيحة بأن النبي ﷺ ركب البراق، وكيف يصح وصف الروح بالركوب، وهكذا كيف يصح حمل الإسراء على الرؤيا مع تصريحه ﷺ بأنه كان عند أن أسرى به بين النائم واليقظان، فالأولى ما ذهب إليه الجمهور إذ لا فضيلة للحالم ولا مزية للنائم.
وقد اختلف أيضاً في تاريخ الإسراء فروي أن ذلك كان قبل الهجرة إلى المدينة بسنة، وروي أن الإسراء كان قبل الهجرة بأعوام، ووجه ذلك أن خديجة صلت مع النبي ﷺ وقد ماتت قبل الهجرة بخمس سنين، وقيل بثلاث، وقيل بأربع، ولم تفرض الصلاة إلا ليلة الإسراء وقد استدل بهذا ابن عبد البر على ذلك.
وقد اختلفت الرواية عن الزهري وممن قال بأن الإسراء كان قبل الهجرة بسنة. الزهري في رواية عنه، وكذلك الحربي فإنه قال: أسري بالنبي ﷺ ليلة سبع وعشرين من ربيع الأول قبل الهجرة بسنة.
وقال ابن القاسم في تاريخه: كان الإسراء بعد مبعثه بثمانية عشر شهراً، قال ابن عبد البر: لا أعلم أحداً من أهل السير قال بمثل هذا، وروي عن الزهري أنه أسري به قبل مبعثة بسبعة أعوام، وروي عنه أنه قال: كان قبل مبعثه بخمس سنين، وروى يونس عن عروة عن عائشة أنها قالت: توفيت خديجة قبل أن تفرض الصلاة.
352
واعلم أنه قد أطال كثير من المفسرين كابن كثير والسيوطي وغيرهما في هذا الموضع بذكر الأحاديث الواردة في الإسراء على اختلاف ألفاظها وما يتعلق بها من الأحكام وما قال أهل العلم فيه وما ظهر بعد المعراج من الآيات الدالة على صدقه.
وليس في ذلك كثير فائدة فهي معروفة في مواضعها من كتب الحديث، وهكذا أطالوا بذكر فضائل المسجد الحرام والمسجد الأقصى وهو مبحث آخر، والمقصود في كتب التفسير ما يتعلق بتفسير ألفاظ الكتاب العزيز وذكر أسباب النزول وبيان ما يؤخذ منه من المسائل الشرعية، وما عدا ذلك فهو فضل لا تدعو إليه حاجة.
353
(وآتينا موسى الكتاب) أي التوراة قيل والمعنى كرمنا محمداً بالمعراج وأكرمنا موسى بالكتاب قال الشهاب: عقبت آية الإسراء بهذا استطراداً بجامع أن موسى أعطي التوراة بمسيره إلى الطور وهو بمنزلة معراجه لأنه منح ثمة التكليم وشرف باسم الكليم والواو استئنافية أو عاطفة على جملة سبحان الذي أسرى لا على أسرى بعبده وتكلفة.
(وجعلناه) أي ذلك الكتاب، وقيل موسى (هدى لبني إسرائيل) يهتدون به (أن لا تتخذوا) قرئ بالتحتية ولا نافية وأن مصدرية ولام التعليل مقدرة وبالفوقية ولا ناهية وأن زائدة والمعنى على الأولى آتيناه الكتاب لهداية بني إسرائيل لئلا يتخذوا وعلى الثانية قلنا لهم لا تتخذوا والأولى أن تكون (أن) مفسرة لأن هذا ليس من مواضع زيادة بل ذلك في نحو ولما أن جاءت رسلنا.
(من دوني وكيلاً) أي كفيلاً بأمورهم قاله الفراء، وروي عنه أنه قال كافياً، وقيل معناه متوكلون عليه في أمورهم، وقيل شريكاً ومعنى الوكيل في اللغة من توكل إليه الأمور.
(ذرية من حملنا من نوح) نصب على الاختصاص، وبه بدأ الزمخشري أو النداء أي يا ذرية من حملنا مع نوح كونوا كما كان نوح في العبودية والانقياد وفي كثرة الشكر لله تعالى بفعل الطاعات ذكرهم سبحانه إنعامه عليهم في ضمن إنجاء آبائهم من الغرق، وقيل المعنى ولا تتخذوا ذرية من حملنا مع نوح من دوني وكيلاً كقوله (ولا يأمركم أن تتخذوا الملائكة والنبيين أرباباً) والمراد بالذرية هنا جميع من في الأرض لأنهم من ذرية من كان في السفينة.
وقيل موسى وقومه وهذا هو المناسب لقراءة النصب على النداء والنصب على الاختصاص والرفع على البدل من فاعل لا تتخذوا أو على الخبر فإنها كلها راجعة إلى بني إسرائيل المذكورين، وأما على جعل النصب على أن ذرية هي المفعول الأول لقوله (لا تتخذوا) فالأولى تفسير الذرية بجميع من في الأرض من بني آدم.
أخرج ابن مردويه عن عبد الله بن زيد الأنصاري قال: قال رسول الله ﷺ " ذرية من حملنا مع نوح قال ما كان مع نوح إلا أربعة أولاد حام وسام ويافث وكوش فذلك أربعة أولاد انتسلوا هذا الخلف ". (إنه) أي إن نوحاً (كان عبداً شكوراً) وصفه الله بكثرة الشكر في السراء والضراء وذلك أنه كان لا يأكل ولا يشرب ولا يلبس إلا قال الحمد لله وجعله كالعلة لما قبله إيذاناً بكون الشكر من أعظم أسباب الخير ومن أفضل الطاعات وحثاً لذريته على شكر الله سبحانه.
354
وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا (٤) فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولًا (٥) ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا (٦) إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا (٧)
355
(وقضينا) أي أعلمنا وأخبرنا قاله ابن عباس أو حكمنا وأتممنا وأصل القضاء الأحكام للشيء والفراغ منه، وقيل أوحينا ويدل عليه قوله (إلى بني إسرائيل) ولو كان بمعنى الإعلام والإخبار لقال قضينا بني إسرائيل ولو كان بمعنى حكمنا لقال على بني إسرائيل ولو كان بمعنى أتممنا لقال لبني إسرائيل (في الكتاب) أي التوراة ويكون إنزالها على نبيهم موسى كإنزالها عليهم لكونهم قومه، وقيل المراد بالكتاب اللوح المحفوظ.
(لتفسدن) أي والله لتفسدن (في الأرض) قرئ بفتح الفوقية ومعناها قريب من معنى قراءة الجمهور لأنهم إذا أفسدوا أفسدوا في نفوسهم، والمراد بالفساد مخالفة ما شرعه الله لهم في التوراة والمراد بالأرض أرض الشام وبيت المقدس، وقيل أرض مصر واللام جواب قسم محذوف، قال النيسابوري: أو أجرى القضاء المبتوت مجرى القسم كأنه قيل وأقسمنا لتفسدن.
(مرتين) تثنية مرة وهي الواحدة من المر أي المرور على حد وفعلة لمرة كجلسة وفي القاموس مر مراً ومروراً جاز وذهب كاستمر ومره وبه جاز عليه والمرة الفعلة الواحدة والجمع مر بالضم ومرار بالكسر ومرر كعنب ولقيه ذات مرة لا يستعمل إلا ظرفاً وذات المرار أي مراراً كثيرة وجئته مراً أو مرين أي مرة أو مرتين انتهى.
355
والمرة الأولى قتل شعيا وحبس أرميا ومخالفة أحكام التوراة، والثانية قتل يحيى بن زكريا والعزم على قتل عيسى، وقيل الأولى قتل زكريا والثانية قتل يحيى وذكر ابن إسحاق أن بعض العلماء أخبره أن زكريا مات موتاً ولم يقتل.
قال ابن مسعود: أول الفساد قتل زكريا فبعث الله عليهم ملك النبط، ثم
إن بني إسرائيل تجهزوا فغزوا النبط فأصابوا منهم فذلك قوله (ثم رددنا لكم الكرة عليهم) وعن ابن عباس قال: بعث الله في الأولى جالوت وبعث عليهم في المرة الأخرى بختنصر فعادوا فسلط الله عليهم المؤمنين.
(ولتعلنّ علواً كبيراً) هذه اللام كاللام التي قبلها أي لتستكبرن عن إطاعة الله ولتستعلن على الناس بالظلم والبغي مجاوزين للحد في ذلك وتبغون بغياً عظيماً.
356
(فإذا جاء وعد) أي وقت وعد (إلَيْهما) أولى المرتين المذكورتين والمراد بالوعد الوعيد والمراد بالوعيد المتوعد به أي حان وقت حلول العقاب الموعود به (بعثنا عليكم عباداً لنا أولي بأس شديد) أي قوة في الحروب وبطش عند اللقاء قيل هو بختنصر وجنوده وقيل جالوت وقيل جند من فارس وقيل جند من بابل وقيل هو سنحاريب من أهل نينوى فقتلوا علماءهم وأحرقوا التوراة وخربوا المسجد وسبوا منهم سبعين ألفاً.
(فجاسوا خلال الديار) أي عاثوا وترددوا يقال جاسوا وهاسوا وداسوا بمعنى ذكره ابن عزيز والقتيبي، قال الزجاج: معناه طافوا هل بقي أحد لم يقتلوه قال: والمجوس طلب الشيء باستقصاء، قال الجوهري: الجوس مصدر قولك جاسوا خلال الديار أي تخللوها كما يجوس الرجل للأخبار أي يطلبها وكذا قال أبو عبيدة.
وقال ابن جرير: ومعنى جاسوا طافوا بين الديار يطلبونهم ويقتلونهم ذاهبين
356
وجائين، وقال الفراء: معناه قتلوهم بين بيوتهم، وقال قطرب: معناه نزلوا، وقرأ ابن عباس فحاسوا بالحاء المهملة، قال أبو زيد: الحوس والمجوس والعوس والهوس الطوف بالليل، وقيل الطوف بالليل هو الحوسان محركاً كذا قال أبو عبيدة، وقال ابن عباس: جاسوا مشوا ومعنى خلال الديار وسط الديار فهو على هذا اسم مفرد بمعنى الوسط ويؤيده قراءة الحسن خلل الديار، والثاني جمع خلل بفتحتين كجبل وجبال وجمل وجمال قاله السمين.
(وكان) ذلك (وعداً مفعولاً) أي كائناً لا محالة لازماً لا خلف فيه
357
(ثم رددنا لكم الكرّة) أي الدولة والغلبة والرجعة (عليهم) وذلك عند توبتهم قيل وذلك حين قتل داود جالوت وقيل حين قتل بختنصر ووضع رددنا موضع ترد لأنه لم يقع وقت الإخبار لكن لتحققه عبر بالماضي والكرّة في الأصل مصدر كر بكر أي رجع ثم يعبر بها عن الدولة والقهر.
(وأمددناكم بأموال وبنين) بعد نهب أموالكم وسبي أبنائكم حتى عاد أمركم كما كان (وجعلناكم أكثر نفيراً) قال أبو عبيدة: النفير العدد من الرجال فالمعنى أكثر رجالاً من عدوكم والنفير من ينفر مع الرجل من عشيرته يقال نفير ونافر مثل قدير وقادر ويجوز أن يكون النفير جمع نفر وهم المجتمعون للذهاب إلى العدو.
(إن أحسنتم) أفعالكم وأقوالكم على الوجه المطلوب منكم (أحسنتم لأنفسكم) لأن ثواب ذلك عائد عليكم (وإن أسأتم) أعمالكم فأوقعتموها لا على الوجه المطلوب منكم (فلها) أي فعليها إساءتها وإنما عبر بها للمشاكلة قاله الكرماني قال ابن جرير: اللام بمعنى إلى أي فعليها ترجع الإساءة كقوله تعالى (بأن ربك أوحى لها) أي إليها وقيل المعنى فلها الجزاء والعقاب.
وقال الحسين بن الفضل: فلها رب يغفر الإساءة، وقال الكرخي: أجرى اللام على بابها، قال أبو البقاء: وهو الصحيح لأن اللام للاختصاص والعامل
357
مختص بجزاء عمله حسنة وسيئة انتهى. وهذا الخطاب قيل هو لبني إسرائيل الملابسين لما ذكر في هذه الآيات؛ وقيل لبني إسرائيل الكائنين في زمن محمد صلى الله عليه وآله وسلم ومعناه إعلامهم ما حل بسلفهم فليرتقبوا مثل ذلك؛ وقيل هو خطاب لمشركي قريش.
(فإذا جاء وعد الآخرة) أي حضر وقت ما وعدوا من عقوبة المرة الآخرة والمرة الآخرة هي قتلهم يحيى بن زكريا كما سبق وقصة قتله مستوفاة في الإنجيل واسمه فيه يوحنا قتله ملك من ملوكهم بسبب امرأة حملته على قتله واسم الملك لاخت قاله ابن قتيبة.
وقال ابن جرير: هيردوس فسلط عليهم الفرس والروم فسبوهم وقتلوهم، وقيل هو قصدهم قتل عيسى فخلصه الله منهم ورفعه إليه وجواب إذا محذوف لدلالة جواب إذا الأولى تقديره بعثناهم. (ليسؤوا وجوهكم) أي ليفعلوا بكم ما يسوء وجوهكم حتى تظهر عليكم آثار المساءة وتبين في وجوهكم الكآبة وقيل المراد بالوجوه السادة منهم وقرئ لنسوء بالنون على أن الضمير لله سبحانه، وقرئ لنسوءن بنون التأكيد وقرئ ليسوء بالتحتية وأفراد الضمير لله أو للوعد وقرئ ليسوءوا على أن الفاعل عباد لنا، وفي عود الواو على العباد نوع استخدام إذ المراد بهم أولاً جالوت وجنوده والمراد بهم في ضمن الضمير بختنصر وجنوده.
(وليدخلوا المسجد) أي بيت المقدس ونواحيه فيخربوها (كما دخلوه أول مرة) أي وقت إفسادهم الأول (وليتبروا) أي يدمروا ويهلكوا، قاله ابن عباس، وقال قطرب يهدموا، قال الزجاج: كل شيء كسرته وفتته فقد تبرته (ما علوا) ما غلبوا عليه من بلادكم أو مدة علوهم (تتبيراً) أي تدميراً ذكر المصدر إزالة للشك وتحقيقاً للخبر.
358
عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا (٨) إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا (٩) وَأَنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (١٠) وَيَدْعُ الْإِنْسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولًا (١١) وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلًا (١٢)
359
قال الضحاك: كانت الرحمة التي وعدهم بعث محمد ﷺ (وإن عدتم) إلى المعصية ثالثاً (عدنا) إلى عقوبتكم، قال أهل السير: ثم أنهم عادوا إلى ما لا ينبغي وهو تكذيب محمد ﷺ وكتمان ما ورد من نعته في التوراة والإنجيل فعاد الله إلى عقوبتهم على أيدي العرب، فجرى على بني قريظة والنضير وبني قينقاع وخيبر ما جرى من القتل والسبي والإجلاء وضرب الجزية على من بقي منهم وضرب الذلة والمسكنة.
وقال قتادة: فعادوا فبعث الله عليهم محمداً ﷺ فهم يعطون الجزية عن يد وهم صاغرون، وقد اختلفت الروايات في تعيين الواقع منهم في المرتين وفي تعيين من سلطه الله عليهم وفي كيفية الانتقام منهم ولا يتعلق بذلك كثير فائدة.
(وجعلنا جهنم للكافرين) منهم ومن غيرهم (حصيراً) أي سجناً ومحبساً جعل الله مأواهم فيها قاله ابن عباس، والحصير هو المحبس فهو فعيل بمعنى فاعل أو مفعول، والمعنى أنهم محبوسون في جهنم لا يتخلصون عنها أبداً. قال الجوهري: حصره يحصره حصراً ضيق عليه وأحاط به، ويقال للسجن محصر وحصير، وقيل فراشاً ومهاداً، قاله الحسن، وأراد على هذا بالحصير الحصير الذي يفرشه الناس.
(إن هذا القرآن يهدي) الناس (للتي) أي للطريقة التي (هي أقوم) وأصوب من غيرها من الطرق وهي ملة الإسلام. وقال الزجاج: للحال التي هي أقوم الحالات، وهي توحيد الله والإيمان برسله، وكذا قال الفراء، وقيل للكلمة التي هي أعدل وهي شهادة أن لا إله إلا الله، فبعضهم يصل بهدايته وهم المؤمنون وبعضهم لا يصل وهم الكافرون.
(ويبشر المؤمنين) بما اشتمل عليه من الوعد بالخير آجلاً وعاجلاً (الذين يعملون الصالحات) التي أرشد إلى عملها القرآن (أن لهم) أي بأن لهم (أجراً كبيراً) وهو الجنة
(وأن الذين لا يؤمنون بالآخرة) وأحكامها المبينة في القرآن (أعتدنا لهم عذاباً أليماً) وهو عذاب النار فلا يكون ذلك داخلاً في حيز البشارة وعليه جرى السفاقسي والبيضاوي والسيوطي.
والجملة عطف على جملة يبشر بتقدير يخبر، وقيل عطف على قوله (أن لهم أجراً كبيراً) ويراد بالتبشير الإخبار سواء كان بخير أو شر أو معناه الحقيقي ويكون الكلام مشتملاً على تبشير المؤمنين ببشارتين، الأولى ما لهم من الثواب والثانية ما لأعدائهم من العقاب، ولا شك أن ما يصيب عدوهم سرور لهم.
(ويدع) القياس أن تثبت واو يدع لأنه مرفوع، إلا أنه لما وجب سقوطها لفظاً لاجتماع الساكنين سقطت في الخط أيضاً على خلاف القياس، ونظيره سندع الزبانية.
(الإنسان بالشر) المراد بالإنسان هو الجنس لوقوع هذا الدعاء من بعض أفراده، وهو دعاء الرجل على نفسه وماله وولده وعند الضجر بما لا يحب أن يستجاب له نحو اللهم أهلكه اللهم آلعنه ونحو ذلك.
(دعاءه بالخير) أي مثل دعائه لربه بالخير لنفسه ولأهله، كطلب العافية والرزق ونحوهما، فلو استجاب الله دعاؤه على نفسه بالشر لهلك، لكنه لم يستجب تفضلاً منه ورحمة.
ومثل ذلك (ولو يعجل الله للناس الشر استعجالهم بالخير) وقد تقدم في
360
سورة يونس أنه يستجاب له بالخير ولا يستجاب له في الشر فراجعه، وقيل المراد بالإنسان القائل هذه المقالة هو الكافر يدعو لنفسه بالشر وهو استعجال العذاب دعاءه بالخير كقوله (اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم).
وقال ابن عباس: قوله اللهم العنه واغضب عليه، وقيل هو أن يدعو في طلب المحظور كدعائه في طلب المباح.
(وكان الإنسان عجولاً) أي مطبوعاً على العجلة يسارع إلى كل ما يخطر بباله لا ينظر إلى عاقبته، ومن عجلته أنه يسأل البشر كما يسأل الخير وقال ابن عباس: ضجراً لا صبر له على سراء ولا ضراء، والمراد بالإنسان الجنس لأن أحداً من الناس لا يعرى عن عجلة، ولو تركها لكان تركها أصلح في الدين والدنيا.
وقيل أشار به إلى آدم عليه السلام حين نهض قبل أن يكمل فيه الروح، فعن سلمان الفارسي قال: أول ما خلق الله من آدم رأسه فجعل ينظر وهو يخلق وبقيت رجلاه، فلما كان بعد العصر قال يا رب أعجل قبل الليل، فذلك قوله (وكان الانسان عجولاً) والمناسب للسياق هو الأول.
ولما ذكر سبحانه دلائل النبوة والتوحيد أكدها بدليل آخر من عجائب صنعه وبدائع خلقه فقال
361
(وجعلنا الليل والنهار آيتين) وذلك لما فيهما من الإظلام والإنارة مع تعاقبهما وسائر ما اشتملا عليه من العجائب التي تحار في وصفها الأحلام، ومعنى كونهما آيتين أنهما يدلان على وجود الصانع وقدرته وعلى إنفاذ الحكمم بتعاقبهما على نسق واحد مع إمكان غيره؛ وقدم الليل على النهار لكونه الأصل، وثنى الآية هاهنا وأفردها في قوله (وجعلناها وابنها آية) لتباين الليل والنهار من كل وجه ولتكررهما؛ فناسب هنا التثنية بخلاف عيسى مع أمه فإنه جزء منها ولا تكرر فيهما فناسب فيهما الإفراد، قاله الكرخي.
361
(فمحونا آية الليل) أي طمسنا نورها، وقد كان القمر كالشمس في الإنارة والضوء، قيل ومن آثار المحو السواد الذي يرى في القمر؛ وقيل المراد بمحوها أنه سبحانه خلقها ممحوة الضوء مطموسة مظلمة لا يستبين فيه شيء، وليس المراد أنه محاها بعد أن لم تكن كذلك، والفاء تفسيرية لأن المحو المذكور وما عطف عليه ليسا مما يحصل عقب جعل الليل والنهار آيتين بل هما من جملة ذلك الجعل ومتمماته. وعن عليّ قال في الآية: هو السواد الذي في القمر. وعن ابن عباس نحوه.
وأخرج البيهقي وابن عساكر عن سعيد المقبري أن عبد الله بن سلام سأل رسول الله ﷺ عن السواد الذي في القمر فقال " كان شمسين، فالسواد الذي رأيت هو المحو " وعن ابن عباس مرفوعاً نحوه بأطول منه. أخرجه ابن مردويه، قال السيوطي وإسناده واه.
(وجعلنا آية النهار مبصرة) أي مبصراً فيها قال الكسائي وغيره هو من قول العرب: أبصر النهار إذا صار بحالة يبصر بها، وأشار بهذا إلى أن في الكلام مجازاً عقلياً لأن النهار لا يبصر، بل يبصر فيه فهو من إسناد الحديث إلى زمانه، وقيل مبصرة للناس من قولهم أبصره فبصر. فالأول وصف لها بحال أهلها؛ والثاني وصف لها بحال نفسها وإضافة آية إلى النهار بيانية، أي فمحونا الآية التي هي النهار مبصرة، كقولهم نفس الشيء وذاته. وقيل آية النهار الشمس، كما أن آية الليل القمر، فمعنى وجعلنا آية النهار مبصرة، أي جعلنا شمس النهار مضيئة تبصر بها الأشياء رؤية بينة.
(لتبتغوا فضلاً من ربكم) أي لتتوصلوا ببياض النهار إلى التصرف في وجوه المعاش، والمعنى جعلناها لتبتغوا وتطلبوا فضلاً أي رزقاً، إذ غالب تحصيل
362
الأرزاق وقضاء الحوائج يكون بالنهار، ولم يذكر هنا السكون في الليل اكتفاء بما قاله في موضع آخر: (وهو الذي جعل لكم الليل لتسكنوا فيه والنهار مبصراً).
ثم ذكر مصلحة أخرى في ذلك الجعل فقال: (ولتعلموا عدد السنين والحساب) وهذا متعلق بالفعلين جميعاً، أعني محونا آية الليل وجعلنا آية النهار مبصرة لتعلموا الخ لا بأحدهما فقط كالأول، إذ لا يكون علم عدد السنين والحساب إلا باختلاف الجديدين ومعرفة الأيام والشهور والسنين، والفرق بين العدد والحساب أن العدد إحصاء ما له كمية بتكرير أمثاله من غير أن يتحصل منه شيء، والحساب إحصاء ما له كمية بتكرير أمثاله من حيث يتحصل بطائفة معينة منها حد معين منه له اسم خاص.
فالسنة مثلاً إن وقع النظر إليها من حيث عدد أيامها فذلك هو العدد، وإن وقع النظر إليها من حيث تحققها وتحصلها من عدة أشهر قد تحصل كل شهر من عدة أيام قد تحصل كل يوم من عدة ساعات قد تحصلت كل ساعة من عدة دقائق فذلك هو الحساب. ولو كانا مثلين لما عرف الليل من النهار ولا استراح حراص المكتسبين والتجار ولتعطلت الأمور ولم يدر الصائم متى يفطر ولم يعرف وقت الحج والصوم والصلاة ولا وقت الزراعة ولا وقت حلول الديون المؤجلة وقال الكرخي لا تكرار إذ العدد موضوع الحساب.
(وكل شيء فصلناه تفصيلاً) أي كل ما تفتقرون إليه في أمر دينكم ودنياكم بيناه تبييناً واضحاً لا يلتبس فهو كقوله (ما فرطنا في الكتاب من شيء) وقوله (ونزلنا عليك الكتاب تبياناً لكل شيء) وإنما ذكر المصدر وهو قوله (تفصيلاً) لأجل تأكيد الكلام وتقريره فكأنه قال فصلناه حقاً على الوجه الذي لا مزيد عليه وعند ذلك تنزاح العلل وتزول الأعذار ليهلك من هلك عن بينة ولهذا قال:
363
وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا (١٣) اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا (١٤) مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا (١٥) وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا (١٦) وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا (١٧)
364
(وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه) قال أبو عبيدة: الطائر عند العرب الحظ ويقال له البخت فالطائر ما وقع للشخص في الأزل بما هو نصيبه من العقل والفهم والعمل والعمر والرزق والسعادة والشقاوة كان طائراً يطير إليه من وكر الأزل وظلمات عالم الغيب طيراناً لا نهاية له ولا غاية إلى أن انتهى إلى ذلك الشخص في وقته المقدر من غير خلاص ولا مناص.
وقال الأزهري: الأصل في هذا أن الله سبحانه لما خلق آدم علم المطيع من ذريته والعاصي فكتب ما علمه منهم أجمعين وقضى بسعادة من علمه مطيعاً وشقاوة من علمه عاصياً فطار لكل منهم ما هو صائر إليه عند خلقه وإنشائه وذلك قوله (وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه) أي ما طار له في علم الله، وقيل أن العرب كانوا إذا أرادوا الإقدام على عمل من الأعمال وأرادوا أن يعرفوا أن ذلك العمل يسوقهم إلى خير أو شر اعتبروا أحوال الطير، فلما كثر ذلك منهم سموا نفس الخير والشر بالطائر تسمية للشيء باسم لازمه.
وفي عنقه عبارة عن شدة اللزوم وكمال الارتباط، قال الزجاج: ذكر العنق عبارة عن اللزوم كلزوم القلادة العنق من بين ما يلبس، قال مجاهد: ما من مولود يولد إلا وفي عنقه ورقة مكتوب فيها شقي أو سعيد.
364
أخرج أحمد وعبد بن حميد وابن جرير بسند حسن عن جابر قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول " طائر كل إنسان في عنقه " (١)
وقال ابن عباس: طائره سعادته وشقاوته وما قدر الله له وعليه فهو لازمه أينما كان. وعن أنس قال: طائره كتابه فالطائر له تفسيران:
الأول: العمل وما قدر له.
والثاني: الكتاب الحقيقي.
(ونخرج) بنون التعظيم (له يوم القيامة كتاباً يلقاه منشوراً) وقرئ يخرج بالتحتية وبالراء المضمومة على معنى ويخرج له الطائر فيصير كتاباً وقرئ يخرج والفاعل هو الله سبحانه وقرئ على البناء للمفعول أي يخرج له الطائر كتاباً والمعنى مكتوباً فيه أعماله لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها.
قال الحسن: بسطت لك صحيفة ووكل بك ملكان فهما عن يمينك وعن شمالك فأما الذي عن يمينك فيحفظ حسناتك، وأما الذي عن يسارك فيحفظ عليك سيآتك حتى إذا مت طويت صحيفتك وجعلت معك في قبرك حتى تخرج لك يوم القيامة.
وإنما قال سبحانه (يلقاه منشوراً) تعجيلاً للبشرى بالحسنة والتوبيخ على السيئة قال ابن عباس هو عمله الذي أحصي عليه فأخرج له يوم القيامة ما كتب له من العمل فقرأه منشوراً، والمعنى يلقاه الإنسان أو يلقى الإنسان
_________
(١) أحمد بن حنبل ٣/ ٣٤٢ - ٣٤٩ - ٣٦٠.
365
(إقرأ كتابك) أي يقال له أو قائلين له اقرأ قيل يقرأ في ذلك اليوم الكتاب من كان قارئاً ومن لم يكن قارئاً قاله قتادة (كفى بنفسك) أي بشخصك (اليوم عليك حسيباً) أي حاسباً أو كافياً والحسيب بمعنى المحاسب كالشريك والجليس والخليط، قال الحسن لقد عدل عليك من جعلك حسيب نفسك.
(من اهتدى فإنما يهتدي لنفسه) بيَّن سبحانه أن ثواب العمل الصالح وعقاب ضده يختصان بفاعلهما لا يتعديان منه إلى غيره فمن اهتدى بفعل ما أمره الله به وترك ما نهاه الله عنه وعمل بما في تضاعيفه من الأحكام فإنما تعود منفعة ذلك إلى نفسه لا تتخطاه إلى غيره ممن لم يهتد.
(ومن ضل) عن طريق الحق فلم يفعل ما أمر به ولم يترك ما نهى عنه (فإنما يضل عليها) أي فإن وبال ضلاله واقع على نفسه لا يجاوزها فكل أحد محاسب عن نفسه مجزيّ بطاعته معاقب بمعصيته، وهذا حاصل ما تقدم من بيان كون القرآن هادياً لأقوم الطريق ولزوم الأعمال لصاحبها.
ثم أكد هذا الكلام بأبلغ تأكيد فقال (ولا تزر وازرة وزر أخرى) الوزر الإثم يقال وزر يزر وزراً ووزرة أي إثماً والجمع أوزار والوزر الثقل ومنه يحملون أوزارهم على ظهورهم أي أثقال ذنوبهم ومعنى الآية لا تحمل نفس حاملة للوزر وزر نفس أخرى حتى تخلص الأخرى عن وزرها وتؤخذ به الأولى وقد تقدم مثل هذا في الأنعام.
قال الزجاج في تفسير هذه الآية: أن الآثم والمذنب لا يؤاخذ بذنب غيره وهذا تحقيق معنى قوله وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه، وأما ما يدل عليه قوله تعالى (من يشفع شفاعة حسنة يكن له نصيب منها ومن يشفع شفاعة سيئة يكن له كفل منها) وقوله تعالى (ليحملوا أوزارهم كاملة يوم القيامة ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علم) من حمل الغير وزر الغير وانتفاعه بحسنته وتضرره بسيئته فهو في الحقيقة انتفاع بحسنة نفسه وتضرر بسيئتها فإن جزاء الحسنة والسيئة اللتين يعملهما العامل لازم له، وإنما الذي يصل إلى من يشفع جزاء شفاعته لا جزاء أصل الحسنة والسيئة.
وكذلك جزاء الضلال مقصور على الضالين وما يحمله المضلون إنما هو جزاء الإضلال وإنما خص التأكيد بالجملة الثانية قطعاً للأطماع الفارغة حيث
366
كانوا يزعمون أنهم إن لم يكونوا على الحق، فالشفاعة على أسلافهم الذين قلدوهم.
أخرج ابن عبد البر في التمهيد عن عائشة قالت: سألت خديجة رسول الله ﷺ عن أولاد المشركين فقال: " هم من آبائهم " ثم سألته بعد ذلك فقال: " الله أعلم بما كانوا عاملين " ثم سألته بعد ما استحكم الإسلام فنزلت (ولا تزر وازرة) الآية فقال " هم على الفطرة أو قال في الجنة " قال السيوطي وسنده ضعيف.
وقد ثبت في الصحيحين (١) وغيرهما أن النبي ﷺ سئل فقيل له: يا رسول الله إنا نصيب في البيات من ذراري المشركين قال " هم منهم " وفي ذلك أحاديث كثيرة وبحث طويل، وقد ذكر ابن كثير في تفسير هذه الآية غالب الأحاديث الواردة في أطفال المشركين ثم نقل كلام أهل العلم في المسألة فليرجع إليه.
(وما كنا معذبين) أحداً (حتى نبعث رسولاً) لما ذكر سبحانه اختصاص المهتدي بهدايته والضال بضلالته وعدم مؤاخذة الإنسان بجناية غيره ذكر أنه لا يعذب عباده إلا بعد الإعذار إليهم بإرسال رسله وإنزال كتبه فبين سبحانه أنه لم يتركهم سدى ولا أخذهم قبل إقامة الحجة عليهم، والظاهر أنه لا يعذبهم لا في الدنيا ولا في الآخرة إلا بعد الإعذار إليهم بإرسال الرسل، وبه قالت طائفة من أهل العلم وذهب الجمهور إلى أن المنفي هنا هو عذاب الدنيا لا عذاب الآخرة؛ وفيه دليل على أن ما وجب إنما وجب بالسمع لا بالعقل.
_________
(١) مسلم ١٧٤٥ - البخاري ١٤٣١.
367
(وإذا أردنا أن نهلك قرية) اختلف المفسرون في معنى (أمرنا مترفيها) على قولين (الأول) أن المراد به الذي هو نقيض النهي، وعلى هذا اختلفوا في المأمور به فالأكثر على أنه الطاعة والخير.
وقال في الكشاف معناه أمرناهم بالفسق (ففسقوا فيها) وأطال الكلام
367
في تقرير هذا وتبعه المقتدون به في التفسير، وما ذكره هو ومن تابعه معارض بمثل قول القائل: أمرته فعصاني، فإن كل من يعرف اللغة العربية يفهم من هذا أن المأمور به شيء غير المعصية لأن المعصية منافية للأمر مناقضة له.
فكذلك أمرته ففسق يدل على أن المراد به شيء غير الفسق لأن الفسق عبارة عن الإتيان بضد المأمور به فكونه فسقاً ينافي كونه مأموراً به ويناقضه.
والقول الثاني أن معنى أمرنا مترفيها أكثرنا فساقها، قال الواحدي: تقول العرب أمر القوم إذا كثروا وأمرهم الله إذا كثرهم، وقد قرئ أمرنا بتشديد الميم أي جعلناهم أمراء مسلطين، وقرئ آمرنا بالمد والتخفيف أي أكثرنا جبابرتها وأمراءها، قاله الكسائي، وقال أبو عبيدة: آمرته بالمد وأمرته لغتان بمعنى كثرته ومنه الحديث خير المال مهرة مأمورة أي كثيرة النتاج والنسل وكذا قال ابن عزير.
وقرئ أمرنا بالقصر وكسر الميم على معنى فعلنا ورويت هذه القراءة عن ابن عباس قال قتادة والحسن: المعنى أكثرنا وحكى نحوه أبو زيد وأبو عبيدة وأنكره الكسائي، قال لا يقال من الكثرة إلا آمرنا بالمد، قال في الصحاح وقال أبو الحسن أمر ماله بالكسر أي كثر، وأمر القوم أي كثروا، وقرأ الجمهور أمرنا من الأمر ومعناه ما قدمنا في القول الأول.
وقد قيل في تأويل أمرنا بأنه مجاز عن الأمر الحامل لهم على الفسق وهو إدرار النعم عليهم، وقيل المراد قرب إهلاك قرية وهو عدول عن الظاهر بدون ملجىء إليه.
والمراد بالمترفين المنعمون الذين قد أبطرتهم النعمة وسعة العيش، والمفسرون يقولون في تفسير المترفين أنهم الجبارون المتسلطون والملوك الجائرون، قالوا وإنما خصوا بالذكر لأن من عداهم أتباع لهم، وفي القاموس الترفه بالضم النعمة والطعام الطيب والشيء الظريف تخص به صاحبك وترف
368
كفرح تنعم وأترفته النعمة أطغته أو نعمته كتَرَّفَتْه تَتْريفاً والمترف كمكرم المتروك يفعل ما يشاء ولا يمنع والمتنعم لا يمنع من تنعمه وتترف تنعم.
(فحق عليها القول) أي ثبت وتحقق ووجب عليهم العذاب والعقاب بعد ظهور فسقهم وتمردهم في كفرهم (فدمرناها تدميراً) عظيماً لا يوقف على كنهه لشدته وعظيم موقعه وأهلكناها إهلاك استئصال والدمار الهلاك والخراب.
ثم ذكر سبحانه أن هذه عادته الجارية مع القرون الخالية فقال
369
(وكم أهلكنا من القرون) أي كثيراً ما أهلكنا منهم فكم مفعول أهلكنا أي أن من قوم كفروا (من بعد نوح) كعاد وثمود وغيرهم من الأمم الخالية فحل بهم البوار ونزل بهم سوط العذاب وفيه تخويف لكفار مكة، وإنما قال ذلك لأنه أول من كذبه قومه ومن ثم لم يقل من بعد آدم، ومن الثانية لإبتداء الغاية والأولى للبيان فلذلك اتحد متعلقهما.
وقال الحوفي الثانية بدل من الأولى وليس كذلك لاختلاف معنييهما، ثم خاطب رسوله ﷺ بما هو ردع للناس كافة فقال (وكفى بربك بذنوب عباده خبيراً بصيراً).
قال الفراء: إنما يجوز إدخال الباء في المرفوع إذا كان يمدح به صاحبه أو يذم كقولك كفاك به وأكرم به رجلاً وطاب بطعامك طعاماً ولا يقال قام بأخيك وأنت تريد قام أخوك؛ والمراد بكونه سبحانه خبيراً أنه محيط بحقائق الأشياء ظاهراً وباطناً عالم بجميع المعلومات راء لجميع المرئيات لا تخفى عليه خافية من أحوال الخلق.
وفي الآية بشارة عظيمة لأهل الطاعة وتخويف شديد لأهل المعصية لأن العلم التام والخبرة الكاملة والبصيرة النافذة يقتضي إيصال الجزاء إلى مستحقه بحسب استحقاقه، ولا ينافيه مزيد التفضل على من هو أهل لذلك.
369
مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا (١٨) وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا (١٩) كُلاًّ نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا (٢٠) انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا (٢١) لَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَخْذُولًا (٢٢)
370
(من كان يريد العاجلة) هذا تأكيد لما سلف من جملة (كل إنسان ألزمناه طائره) وجملة (من اهتدى) والمراد بالعاجلة المنفعة العاجلة أو الدار العاجلة، والمعنى من كان يريد بأعمال البر أو بأعمال الآخرة ذلك فيدخل تحته الكفرة والفسقة والمراؤون والمنافقون.
(عجلنا له) أي لذلك المريد (فيها) أي في تلك العاجلة قيد المعجل والمعجل له بقيدين؛ الأول قوله (ما نشاء) تعجيله له منها لا ما يشاؤه ذلك المريد، ولهذا ترى كثيراً من هؤلاء المريدين للعاجلة يريدون من الدنيا ما لا ينالون ويتمنون ما لا يصلون إليه، والقيد الثاني قوله (لمن نريد) التعجيل له منهم ما اقتضته مشيئتنا. وقيل الآية في المنافقين كانوا يراءون المسلمين ويغزون معهم ولم يكن غرضهم إلا مساهمتهم في الغنائم ونحوها.
وهذه الآية تقيد الآيات المطلقة كقوله سبحانه (من كان يريد حرث الدنيا نؤته منها) وقوله (من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم فيها وهم فيها لا يبخسون).
وقيل قرئ ما يشاء بالتحتية والضمير على هذا لله سبحانه، وفيه بعد لمخالفته لما قبله وهو عجلنا وما بعده وهو لمن نريد.
وقيل الضمير راجع إلى (من) في قوله (من كان يريد) فيكون ذلك مقيداً بقوله لمن نريد، أي عجلنا له ما يشاؤه لكن بحسب إرادتنا، فلا
370
يحصل لمن أراد العاجلة ما يشاؤه إلا إذا أراد الله له ذلك، ثم بعد هذا كله فمن وراء هذه الطلبة الفارغة التي لا تأثير لها إلا بالقيدين المذكورين عذاب الآخرة الدائم ولهذا قال (ثم جعلنا له جهنم) أي بسبب تركه لما أمر به من العمل للآخرة وإخلاصه عن الشوائب جعلنا له عذاب جهنم على اختلاف أنواعه.
(يصلاها) أي يدخل جهنم (مذموماً) ملوماً من الخلق (مدحوراً) أي مطروداً من رحمة الله مبعداً عنها، وفي المختارة دحره يدحره من باب خضع طرده، فهذه عقوبته في الآخرة أنه لا ينال من الدنيا إلا ما قدره الله سبحانه فأين حال هذا الشقي من حال المؤمن النقي، فإنه ينال من الدنيا ما قدره الله له وأراده بلا هلع منه ولا جزع مع سكون نفسه واطمئنان قلبه وثقته بربه، وهو مع ذلك عامل للآخرة منتظر للجزاء من الله سبحانه وهو الجنة ولهذا قال.
371
(ومن أراد) بأعماله الدار (الآخرة وسعى لها) أي من أجلها، وفائدة اللام اعتبار النية والإخلاص لأنها للاختصاص (سعيها) أي السعي الحقيقي بها اللائق بطالبها، وهو الإتيان بما أمر به وترك ما نهى عنه خالصاً لله غير مشوب وكان الإتيان به على القانون الشرعي من دون ابتداع ولا هوى لا التقرب بما يخترعون بآرائهم.
(وهو مؤمن) بالله إيماناً صحيحاً، لأن العمل الصالح لا يستحق صاحبه الجزاء عليه إلا إذا كان من المؤمنين (إنما يتقبل الله من المتقين) والواو للحال (فأولئك) أي المريدون للآخرة الساعون لها سعيها؛ وفيه مراعاة معنى من بعد مراعاة لفظها وهو مبتدأ وخبره (كان سعيهم مشكوراً) عند الله أي مقبولاً غير مردود؛ وقيل مضاعفاً إلى أضعاف كثيرة.
فقد اعتبر سبحانه في كون السعي مشكوراً أموراً ثلاثة:
الأول: إرادة الآخرة.
371
الثاني: أن يسعى لها السعي الذي يحق لها.
والثالث: أن يكون مؤمناً وفي الخطيب قال بعض السلف الصالح؛ من لم يكن معه ثلاث لم ينفعه عمله: إيمان ثابت ونية صادقة وعمل مصيب، وتلا هذه الآية.
ثم بيَّن سبحانه كمال رأفته وشمول رحمته فقال
372
(كُلاًّ) أي كل واحد من الفريقين، من يريد الدنيا ومن يريد الآخرة (نمد) أي نزيده من عطائنا على تلاحق من غير انقطاع (هؤلاء وهؤلاء) بدل من المفعول وهو (كُلاًّ) فكأنه قيل نمد هؤلاء وهؤلاء الأول للأول والثاني للثاني فهو لف ونشر مرتب، أي نرزق الكفار والمؤمنين وأهل المعصية وأهل الطاعة، لا نؤثر معصية العاصي في قطع رزقه، وما به الإمداد هو ما عجله لمن يريد الدنيا وما أنعم به في الأولى والأخرى على من يريد الآخرة. وفي قوله (من عطاء ربك) إشارة إلى أن ذلك بمحض التفضل، وهو متعلق بنمد (وما كان عطاء ربك محظوراً) أي ممنوعاً عن أحد، قاله الضحاك.
يقال حظره يحظره حظراً منعه، وكل ما حال بينك وبين شيء فقد حظره عليك، والمراد بالعطاء العطاء في الدنيا كالرزق والجاه إذ لا حظ للكافر في الآخرة.
قال الزجاج: علم الله سبحانه أنه يعطي المسلم والكافر وأنه يرزقهم جميعاً. وقال الحسن: كل يرزقه الله في الدنيا البر والفاجر وقال ابن عباس: يرزق الله من أراد الدنيا ويرزق من أراد الآخرة.
(انظر) يا محمد صلى الله عليه وسلم، ويحتمل أن يكون الخطاب لكل من له أهلية النظر والاعتبار. وهذه الجملة مقررة لما مر من الإمداد وموضحة له، والمعنى انظر (كيف فضلنا) في العطايا العاجلة (بعضهم) أي بعض العباد (على بعض) فمن غني وفقير، وقوي وضعيف، وصحيح ومريض، وعاقل وأحمق، وذلك لحكمة بالغة تقصر العقول عن إدراكها.
(وللآخرة) اللام لام ابتداء أو قسم (أكبر درجات وأكبر تفضيلاً) من
372
الدنيا وذلك لأن نسبة التفاضل في درجات الآخرة إلى التفاضل في درجات الدنيا كنسبة الآخرة إلى الدنيا، وليس للدنيا بالنسبة إلى الآخرة مقدار، فلهذا كانت الآخرة أكبر درجات وأكبر تفضيلاً. وقيل المراد أن المؤمنين يدخلون الجنة والكافرين يدخلون النار، فتظهر فضيلة المؤمنين على الكافرين.
وحاصل المعنى أن التفاضل في الآخرة ودرجاتها فوق التفاضل في الدنيا ومراتب أهلها فيها من بسط وقبض ونحوهما، وثبت في الصحيحين " أن أهل الدرجات العلى ليرون أهل عليين كما ترون الكوكب الغابر في أفق السماء " (١).
ثم لما أجمل سبحانه أعمال البر في قوله وسعى لها سعيها وهو مؤمن أخذ في تفصيل ذلك مبتدئاً بأشرفها الذي هو التوحيد فقال
_________
(١) مسلم ٢٨٣١ - البخاري ١٥٤٠.
373
(لا تجعل) الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، والمراد به أمته تهييجاً وإلهاباً أو لكل مكلف متأهل له صالح لتوجيهه إليه.
وقيل التقدير قل لكل مكلف لا تجعل (مع الله إلهاً آخر فتقعد) النصب على جواب النهي، أي لا يكن منك جعل فقعود، ومعنى تقعد تصير من قولهم شحذ الشفرة حتى قعدت كأنها حربة؛ وإليه ذهب الفراء والزمخشري، وليس المراد حقيقة القعود المقابل للقيام.
وقيل هو كناية عن عدم القدرة على تحصيل الخيرات، فإن السعي فيه إنما يتأتى بالقيام والعجز عنه يلزمه أن يكون قاعداً عن الطلب.
وقيل أن من شأن المذموم المخذول أن يقعد نادماً مفكراً على ما فرط منه فالقعود على هذا حقيقة.
(مذموماً مخذولاً) ونصبهما على خبرية تقعد أو على الحال، أي من غير حمد وبغير ناصر فتصير جامعاً بين الأمرين: الذم لك من الله ومن ملائكته ومن صالحي عباده، والخذلان لك منه سبحانه، أو حال كونك جامعاً بينهما. وحاصل ما ذكر في هذه الآيات من أنواع التكاليف خمسة وعشرون نوعاً بعضهما أصلي وبعضها
373
وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا (٢٣) وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا (٢٤) رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُورًا (٢٥) وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا (٢٦) إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا (٢٧)
فرعي، وقد ابتدأ بالأصلي في قوله لا تجعل، ثم ذكر عقيبه سائر الأعمال التي يكون من عمل بها ساعياً في الآخرة فقال:
374
(وقضى ربك) أي أمر أمراً جزماً وحكماً قطعاً وحتماً مبرماً وعن ابن عباس أنه قرأ ووصى ربك مكان وقضى، وقال التزقت الواو والصاد وأنتم تقرأونها وقضى ولو نزلت على القضاء ما أشرك به أحد، وبه قرأ الضحاك أيضاً أقول إنما يلزم هذا لو كان القضاء بمعنى الفراغ من الأمر، وهو وإن كان أحد معاني مطلق القضاء كما في قوله (قضي الأمر الذي فيه تستفتيان) وقوله (فإذا قضيتم مناسككم) وقوله (فإذا قضيتم الصلاة) ولكنه هاهنا بمعنى الأمر وهو أحد معاني القضاء والأمر لا يستلزم ذلك، فإنه سبحانه قد أمر عباده بجميع ما أوجبه ومن جملة ذلك إفراده بالعبادة وتوحيده، وذلك لا يستلزم أن لا يقع الشرك من المشركين.
ومن معاني مطلق القضاء معان أخر غير هذين المعنيين كالقضاء بمعنى الخلق ومنه (فقضاهن سبع سموات) وبمعنى الإرادة كقوله (إذا قضى أمراً) وبمعنى العهد كقوله (إذ قضينا إلى موسى الأمر) وقد روى عنه أيضاً أنه قال قضى أمر، وقيل أوجب ربك؛ وعن مجاهد قال: عهد ربك.
قال الرازي: هذا القول -أي قول ابن عباس- بعيد جداً لأنه يفتح باب
374
أن التحريف والتغيير قد تطرق إلى القرآن؛ ولو جوَّزنا ذلك لارتفع الأمان على القرآن وذلك يخرجه عن كونه حجة، ولا شك أنه طعن عظيم في الدين.
(أن لا) أي بأن (لا تعبدوا إلا إياه) قاله السيوطي، وقال في الجمل قوله هذا غير سديد حيث أثبت النون بين الهمزة ولا النافية، بقلم الحمرة فيقتضي انها من رسم القرآن مع أنه ليس كذلك، وقد نص في شرح الجزرية أن ما عدا المواضع العشرة يكتب موصولاً أي لا تثبت فيه النون، وقيل أن مفسرة ولا تعبدوا نهي وفيه وجوب عبادة الله والمنع من عبادة غيره؛ وهذا هو الحق.
ثم أردفه بالأمر بين الوالدين فقال (وبالوالدين) أي وقضى بأن تحسنوا بهما أو وأحسنوا بهما (إحساناً) وتبروهما قيل وجه ذكر الإحسان إلى الوالدين بعد عبادة الله سبحانه إنهما السبب الظاهر في وجود المتولد بينهما وفي جعل الإحسان إلى الأبوين قريناً لتوحيد الله وعبادته من الإعلان بتأكد حقهما والعناية بشأنهما مالا يخفى؛ وهكذا جعل سبحانه في آية أخرى شكرهما مقترناً بشكره فقال (أن أشكر لي ولوالديك).
ثم خص سبحانه حالة الكبر بالذكر لكونها إلى البر من الولد أحوج من غيرها فقال (إما يبلغن) إن شرطية وما زائدة والفعل مبني على الفتح لاتصاله بنون التأكيد الثقيلة (عندك الكبر أحدهما أو كلاهما) معنى عندك أن يكونا في كنفك وكفالتك وتوحيد الضمير في عندك ولا تقل وما بعدهما للإشعار بأن كل فرد من الأفراد منهى بما فيه النهي ومأمور بما فيه الأمر.
(فلا تقل لهما أف) جواب الشرط قيل والتقييد بهذا الشرط خرج مخرج الغالب من أن الولد إنما يتهاون بوالديه عند الكبر وإلا فلا يختص بالكبيرين، والمعنى لا تقل لواحد منهما في حالتي الاجتماع والانفراد، وليس المراد حالة الاجتماع فقط.
375
عن الحسين بن عليّ مرفوعاً: لو علم الله شيئاً من الحقوق أدنى من أف لحرمه.
وقال مجاهد: لا تقل لهما أف لما تميط عنهما من الأذى الخلاء والبول كما كانا لا يقولانه فيما كانا يميطان عنك من الخلاء والبول. وفي أف أربعون لغة قاله السمين ثم قال وقد قرئ من هذه اللغات بسبع ثلاث في المتواتر وأربع في الشواذ وقال الفراء: تقول العرب فلان يتأفف من ريح وجدها أي يقول أف أف، وقال الأصمعي: الأف وسخ الأذن والثف وسخ الأظفار، يقال ذلك عند استقذار الشيء ثم كثر حتى استعملوه في كل ما يتأذون به، وعن ابن الأعرابي أن الأف للضجر وقال القتيبي: أصله أنه إذا سقط عليه تراب ونحوه نفخ فيه ليزيله؛ فالصوت الحاصل عند تلك النفخة هو قول القائل أف ثم توسعوا فذكروه عند كل مكروه يصل إليهم، وقال الزجاج معناه النتن. وقال أبو عمرو بن العلاء: الأف وسخ بين الأظفار والثف قلامتها.
والحاصل أنه اسم فعل ينبئ عن التضجر والاستثقال أو صوت ينبئ عن ذلك فنهى الولد عن أن يظهر منه ما يدل على التضجر من أبويه أو الاستثقال لهما وقيل أف مصدر بمعنى تباً وقبحاً وخسراناً والأول أرجح، وبهذا النهي يفهم النهي عن سائر ما يؤذيهما بفحوى الخطاب أو بلحنه كما هو مقرر في الأصول.
(ولا تنهرهما) أي لا تضجرهما عما يتعاطيانه مما لا يعجبك، والنهي والنهر والنهم أخوات بمعنى الزجر والغلظة، يقال نهره وانتهره إذا استقبله بكلام يزجره قال الزجاج: معناه لا تكلمهما ضجراً صائحاً في وجوههما.
(وقل لهما) بدل التأفيف والنهر (قولاً كريماً) أي ليناً لطيفاً جميلاً سهلاً أحسن ما يمكن التعبير عنه من لطف القول وكرامته مع حسن التأدب والحياء والاحتشام.
376
قال محمد بن زبير: يعني إذا دعواك فقل لبيكما وسعديكما. وقيل هو أن يقول يا أماه يا أبتاه ولا يدعوهما بأسمائهما ولا يكنيهما.
377
(واخفض لهما جناح الذل) قال سعيد بن جبير: اخضع لوالديك كما يخضع العبد للسيد الفظ الغليظ، ذكر القفال في معنى خفض الجناح وجهين:
الأول: أن الطائر إذا أراد ضم فراخه إليه للتربية خفض لها جناحه، فلهذا صار خفض الجناح كناية عن حسن التدبير، فكأنه قال للولد اكفل لوالديك بأن تضمهما إلى نفسك لكبرهما وافتقارهما اليوم إليك كما فعلا ذلك بك في حال صغرك وكنت مفتقراً إليهما.
والثاني: أن الطائر إذا أراد الطيران والارتفاع نشر جناحه وإذا أراد النزول خفض جناحه، فصار خفض الجناح كناية بليغة عن التواضع وترك الارتفاع، وفي إضافة الجناح إلى الذل وجهان.
الأول: أنها كإضافة حاتم إلى الجود في قولك حاتم الجود فالأصل فيه الجناح الذليل.
والثاني: سلوك سبيل الاستعارة كأنه تخيل للذل جناحاً ثم أثبت لذلك الجناح خفضاً والذل من ذل يذل ذلاً وذلة ومذلة فهو ذليل، وقرئ بكسر الذال من قولهم دابة ذلول بينة الذل أي منقادة سهلة لا صعوبة فيها.
وقوله (من الرحمة) فيه معنى التعليل أي من أجل فرط الشفقة والعطف عليهما لكبرهما وافتقارهما اليوم لمن كان أفقر خلق الله إليهما بالأمس، قال السمين وفي (من) ثلاثة أوجه:
أحدها: أنها للتعليل.
والثاني: أنها ابتدائية؛ قال ابن عطية: أي أن هذا الخفض يكون ناشئاً من الرحمة المستكنة في النفس.
377
الثالث: أنها نصب على الحال من جناح؛ ثم كأنه قال له سبحانه ولا تكتف برحمتك التي لا دوام لها (و) لكن (قل رب ارحمهما) أي وادع الله لهما ولو خمس مرات في اليوم والليلة أن يرحمهما برحمته الباقية الدائمة وأراد به إذا كانا مسلمين (كما ربياني صغيراً) أي رحمة مثل تربيتهما لي قدره الحوفي أومثل رحمتهما اليّ، قدره أبو البقاء وقيل ليس المراد رحمة مثل الرحمة بل الكاف لاقترانهما في الوجود أي فلتقع هذه كما وقعت تلك والتربية التنمية.
ويجوز أن تكون الكاف للتعليل أي لأجل تربيتهما لي كقوله (واذكروه كما هداكم) ولقد بالغ سبحانه في التوصية بالوالدين مبالغة تقشعر لها جلود أهل العقوق وتقف عندها شعورهم حيث افتتحها بالأمر بتوحيده وعبادته ثم شفعه بالإحسان إليهما ثم ضيق الأمر في مراعاتهما حتى لم يرخص في أدنى كلمة تنفلت من التضجر مع موجبات الضجر ومع أحوال لا يكاد يصبر الإنسان معها وأن يذل ويخضع لهما، ثم ختمها بالأمر بالدعاء لهما والترحم عليهما، وهذه خمسة أشياء كلف الإنسان بها في حق الوالدين، وقد ورد في بر الوالدين أحاديث كثيرة ثابتة في الصحيحين وغيرهما وهي معروفة في كتب الحديث.
378
(ربكم أعلم بما في نفوسكم) أي بما في ضمائركم من الإخلاص وعدمه في كل الطاعات ومن التوبة من الذنب الذي فرط منكم أو الإصرار عليه ويتدرج تحت هذا العموم ما في النفس من البر والعقوق اندراجاً أولياً، وقيل أن الآية خاصة بما يجب للوالدين من البر ويحرم على الأولاد من العقوق، والأول أولى اعتباراً بعموم اللفظ فلا تخصصه دلالة السياق ولا تقيده.
(إن تكونوا صالحين) أي أبرار مطيعين قاصدين الصلاح والبر والتوبة من الذنب والإخلاص للطاعة (فإنه كان للأوابين) أي الرجاعين عن الذنوب إلى التوبة ومن السيئات إلى الحسنات ومن العقوق إلى البر ومن عدم الإخلاص إلى محض الإخلاص (غفوراً) لما فرط منكم من قول أو فعل أو اعتقاد فلا يضركم ما
378
وقع من الذنب الذي تبتم عنه، فمن تاب تاب الله عليه ومن رجع إلى الله رجع الله إليه.
وقال سعيد بن جبير: يعني البادرة من الولد إلى الوالد أي إن تكن النية صادقة فإنه كان غفوراً للبادرة التي بدرت منه كالفلتة والزلة تكون من الرجل إلى أبويه أو أحدهما وهو لا يضمر عقوقاً، ولا يريد بذلك بأساً، قال سعيد بن المسيب هو العبد يتوب ثم يذنب ثم يتوب ثم يذنب.
وقيل الأواب الذي إذا ذكر خطاياه استغفر منها، وقال عبد بن عمير: هم الذين يذكرون ذنوبهم في الخلاء ثم يستغفرون الله، وهذه الأقوال متقاربة، قال ابن عباس الأوابين المطيعين المحسنين التوابين، وقيل المسبحين وقيل المصلين قال عون العقيلي هم الذين يصلون صلاة الضحى، وقيل من يصلي بين المغرب والعشاء، والأول أولى.
ثم ذكر سبحانه التوصية بغير الوالدين من الأقارب بعد التوصية بهما فقال
379
(وآت ذا القربى حقه) الخطاب إما لرسول الله ﷺ تهييجاً وإلهاباً لغيره من الأمة أو لكل من هو صالح لذلك من المكلفين كما في قوله وقضى ربك والأمر للوجوب عند أبي حنيفة فعنده يجب على الموسر مواساة أقاربه إذا كانوا محارم كالأخ والأخت وعند غيره للندب فلا يجب عند غيره إلا نفقة الأصول والفروع دون غيرهما من الأقارب.
أقول المراد بذوي القربى أولو القرابة وحقهم هو صلة الرحم التي أمر الله بها والمودة والزيارة وحسن المعاشرة والمؤالفة على السراء والضراء، وكرر الوصية فيها، والخلاف بين أهل العلم في وجوب النفقة للقرابة لبعضهم كالوالدين على الأولاد والأولاد على الوالدين معروف، والذي ينبغي الاعتماد عليه وجوب صلتهم بما تبلغ إليه القدرة وحسبما تقتضيه الحال.
379
قال ابن عباس: أمره بأحق الحقوق وعلمه كيف يصنع إذا كان عنده وكيف يصنع إذا لم يكن عنده.
(و) آت (المسكين وابن السبيل) حقهما من الزكاة وهذا دليل على أن المراد بما يؤتي ذوي القربى من الحق هو تعهدهم بالمال، وعن سفيان في الآية قال: هو أن يصل ذا القرابة ويطعم المسكين ويحسن إلى ابن السبيل، وعن السدي قال: القربى قربى بني عبد المطلب وقرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وأقول ليس في السياق ما يفيد هذا التخصيص ولا دل عليه دليل، ومعنى النظم القرآني واضح إن كان الخطاب مع كل من يصلح له من الأمة لأن معناه أمر كل مكلف متمكن من صلة قرابته بأن يعطيهم حقهم وهو الصلة التي أمر الله بها؛ وإن كان الخطاب للنبي ﷺ فإن كان على وجه التعريض لأمته فالأمر فيه كالأول وإن كان خطاباً له من دون تعريض فأمته أسوته فالأمر له ﷺ بإيتاء ذي القربى حقه أمر لكل فرد من أفراد أمته، والظاهر أن هذا الخطاب ليس خاصاً بالنبي ﷺ بدليل ما قبل الآية وهي قوله: (وقضى ربك) وما بعدها وهي قوله:
(ولا تبذر تبذيراً) هو تفريق المال كما يفرق البذر كيفما كان من غير تعمد لمواقعه وهو الإسراف المذموم لمجاوزته للحد المستحسن شرعاً في الإنفاق أو هو الإنفاق في غير الحق وإن كان يسيراً.
قال الشافعي: التبذير إنفاق المال في غير حقه، ولا تبذير في عمل الخير، قال القرطبي: وهذا قول الجمهور، قال أشهب عن مالك: التبذير هو أخذ المال من حقه ووضعه في غير حقه وهو الإسراف وهو حرام لقوله:
380
(إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين) فإن هذه الجملة تعليل للنهي عن
380
التبذير، والمراد بالأخوة المماثلة التامة وتجنب مماثلة الشيطان ولو في خصلة واحدة من خصاله واجب فكيف فيما هو أعم من ذلك كما يدل عليه إطلاق المماثلة، والإسراف في الإنفاق من عمل الشيطان فإذا فعله أحد من بني آدم فقد أطاع الشيطان واقتدى به، وهذا غاية المذمة لأنه لا شر من الشياطين، والعرب تقول لكل من هو ملازم سنة قوم هو أخوهم.
قال ابن مسعود: التبذير إنفاق المال في غير حقه، وعنه كنا أصحاب محمد ﷺ نتحدث إن التبذير النفقة في غير حقه، وعن ابن عباس قال: هم الذين ينفقون المال في غير حقه، وعن عليّ قال: ما أنفقت على نفسك وأهل بيتك في غير سرف ولا تبذير وما تصدقت فلك، وما أنفقت رياء وسمعة فذلك حظ الشيطان.
وقيل هو إنفاق المال في العمارة على وجه السرف، وقيل لو أنفق الإنسان ماله كله في الحق لم يكن مبذراً، ولو أنفق درهما أو مداً في باطل كان مبذرًا، قيل إن بعضهم أنفق نفقة في خير فأكثر، فقال له صاحبه لا خير في السرف، فقال لا سرف في الخير، ولا مانع من حمل الآية على الجميع والعموم أولى.
(وكان الشيطان لربه) أي لنعم ربه (كفوراً) أي كثير الكفران جحود النعمة، عظيم التمرد عن الحق، لأنه مع كفره لا يعمل إلا شراً، ولا يأمر إلا بعمل الشر، ولا يوسوس إلا بما خير فيه، وفي هذه الآية تسجيل على المبذرين بمماثلة الشياطين، ثم التسجيل على جنس الشيطان بأنه كفور، فاقتضى ذلك أن المبذر مماثل للشيطان، وكل مماثل للشيطان له حكم الشيطان، وكل شيطان كفور فالمبذر كذلك.
قال الكرخي: وكذلك من رزقه الله جاهاً أو مالاً فصرفه إلى غير مرضاة الله كان كفوراً لنعمة الله لأنه موافق للشيطان في الصفة والفعل.
381
وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُورًا (٢٨) وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا (٢٩) إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا (٣٠) وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا (٣١) وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا (٣٢)
382
(وإما تعرضن عنهم) أي إن أعرضت عن ذي القربى والمسكين وابن السبيل لأمر اضطرك إلى ذلك الإعراض (ابتغاء رحمة) أي لفقد رزق (من ربك) ولكنه أقام المسبب الذي هو ابتغاء رحمة الله مقام السبب الذي هو فقد الرزق، لأن فقد الرزق مبتغ له (ترجوها) أي ترجو أن يفتح الله به عليك (فقل لهم قولاً ميسوراً) أي قولاً سهلاً ليناً كالوعد الجميل أو الاعتذار المقبول قيل هو أن يقول رزقنا الله وإياكم من فضله. قال الكسائي: يسرت له القول أي ليَّنته وقال الفراء: معنى الآية إن تعرض عن السائل إضاقة وإعساراً فعدهم عدة حسنة، ويجوز أن يكون المعنى وإن تعرض عنهم ولم تنفعهم لعدم استطاعتك فقل لهم قولاً ميسوراً، وليس المراد هنا الإعراض بالوجه، وفي هذه الآية تأديب من الله سبحانه لعباده إذا سألهم سائل ما ليس عندهم كيف يقولون وبما يردون، ولقد أحسن من قال:
أن لا يكن ورق يوماً أجود بها للسائلين فإني لين العود
لا يعدم السائلون الخير من خلقي إما نوال وإما حسن مردود
ولما ذكر الله سبحانه أدب المنع بعد النهي عن التبذير بيَّن أدب الإنفاق فقال
(ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط) هذا النهي يتناول كل مكلف سواء كان الخطاب للنبي ﷺ تعرضاً لأمته وتعليماً لهم، أو الخطاب لكل من يصلح له من المكلفين، والمراد النهي للإنسان بأن يمسك إمساكاً يصير به مضيقاً على نفسه وعلى أهله، ولا يوسع في الإنفاق توسيعاً لا حاجة إليه
382
بحيث يكون به مسرفاً، فهو نهي عن جانبي الإفراط والتفريط ويتحصل من ذلك مشروعية التوسط، وهو العدل الذي ندب الله إليه..
ولا تك فيها مفرطاً أو مفرطاً كلا طرفي قصد الأمور ذميم
وقد مثل الله سبحانه في هذه الآية حال الشحيح بحال من كانت يده مغلولة إلى عنقه مضمومة إليه مجموعة معه في الغل بحيث لا يستطيع التصرف بها، ومثل حال من يجاوز الحد في التصرف بحال من يبسط يده بسطاً لا يتعلق بسببه فيها مما يقبض الأيدي عليه ولا يبقى شيئاً في كفه، وفي هذا التصوير مبالغة عظيمة بليغة ثم بين سبحانه غاية الطرفين المنهى عنهما فقال (فتقعد) تصير (ملوماً) مذموماً عند الناس بسبب ما أنت عليه من الشح أو عند الله سبحانه لأن الشح غير مرضي لديه أو عند نفسك وأصحابك أو يلومك سائلوك إذا لم تعطهم.
(محسوراً) بسبب ما فعلته من الإسراف، أي منقطعاً عن المقاصد سبب الفقر والمحسور في الأصل المنقطع عن السير من حسره السفر إذا بلغ منه أي أثر فيه؛ والبعير الحسير هو الذي ذهبت قوته فلا انبعاث به، ومنه قوله تعالى (ينقلب إليك البصر خاسئاً وهو حسير) أي كليل منقطع، وقيل معناه نادماً على ما سلف فجعله هذا القائل من الحسرة التي هي الندامة، وفيه نظر لأن الفاعل من الحسرة حسران ولا يقال محسوراً إلا للملوم.
وفي المختار الحسرة شدة التلهف على الشيء الفائت، تقول حسر على الشيء من باب طرب، وحسره أيضاً فهو حسير، وحسره غيره تحسيراً. وعن سيار أبي الحكم قال: أتى رسول الله ﷺ بزّ من العراق وكان معطاء كريماً فقسمه بين الناس، فبلغ ذلك قوماً من العرب فقالوا: إنا نأتي النبي ﷺ فوجدوه قد فرغ منه، فأنزل الله (ولا تجعل يدك) الآية. أخرجه سعيد بن منصور وابن المنذر.
أقول ولا أدري كيف هذا فالآية مكية ولم يكن إذ ذاك عرب يقصدون رسول الله ﷺ ولا يحمل إليه شيء من العراق ولا مما هو أقرب منه، على
383
أن فتح العراق لم يكن إلا بعد موته صلى الله عليه وسلم.
ثم سلى رسوله والمؤمنين بأن الذي يرهقهم من الإضافة ليس لهوانهم على الله سبحانه ولكن لمشيئة الخالق الرزاق فقال
384
(إن ربك يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر) أي يوسعه على بعض ويضيقه على بعض لحكمة بالغة، لا يكون من وسع له رزقه مكرماً عنده ومن ضيقه عليه هيناً لديه، ويقدر ويقتر مترادفان. قيل ويجوز أن يراد أن البسط والقبض إنما هما من أمر الله الذي لا تفنى خزائنه فأما عباده فعليهم أن يقتصدوا.
وعن الحسن في الآية قال: ينظر له فإن كان الغنى خيراً له أغناه، وإن كان الفقر خيراً له أفقره. ثم علَّل ما ذكره من البسط للبعض والتضييق على البعض بقوله (إنه كان بعباده خبيراً بصيراً) أي يعلم ما يسرون وما يعلنون لا تخفى عليه خافية من ذلك، فهو الخبير بأحوالهم البصير بكيفية تدبيرهم في أرزاقهم، وفي هذه الآية دليل على أنه المتكفل بأرزاق عباده فلذلك قال بعدها:
(ولا تقتلوا أولادكم) خطاب للموسرين بدليل قوله (خشية إملاق) أي فاقة وفقر يقع بكم يقال أملق الرجل إذا لم يبق له إلا الملقات وهي الحجارة العظام الملس، يقال أملق إذا افتقر وسلب الدهر ما بيده، نهاهم الله سبحانه عن أن يقتلوا أولادهم خشية الفقر، وقد كانوا يفعلون ذلك؛ وقد تقدم في سورة الأنعام نهي المعسرين بقوله (ولا تقتلوا أولادكم من إملاق).
وفي الكرخي حاصله أن قتل الأولاد إن كان لخوف الفقر فهو من سوء الظن بالله، وإن كان لأجل الغيرة على البنات فهو سعي في تخريب العالم فالأول ضد التعظيم لأمر الله، والثاني ضد الشفقة على خلق الله وكلاهما مذموم.
ثمّ بيّن أن خوفهم من الفقر حتى يبلغوا بسبب ذلك إلى قتل الأولاد لا وجه له فإن الله سبحانه هو الرازق لعباده يرزق الأبناء كما يرزق الآباء فقال (نحن نرزقهم وإياكم) ولستم لهم برازقين حتى تصنعوا بهم هذا الصنع، ثم علل سبحانه النهي عن قتل الأولاد لذلك بقوله (إن قتلهم كان خطأً
384
كبيراً) قرأ الجمهور بكسر الخاء وسكون الطاء، وقرئ بفتح الخاء والطاء يقال خطئ في دينه خطأ إذا أثم وأخطأ إذا سلك سبيل خطأ عامداً أو غير عامد، قال الأزهري خطئ يخطأ خطأً مثل أثم يأثم إثماً إذا تعمد الخطأ وأخطأ إذا لم يتعمد خطاً والخطأ الإثم يقوم مقام الأخطاء وفيه لغتان القصر وهو الجيد والمد وهو قليل.
وقرأ إبن كثير خطاء بكسر الخاء وفتح الطاء ومد الهمزة، قال النحاس ليس لهذه القراءة وجه وكذلك جعلها أبو حاتم غلطاً.
ولما نهى سبحانه عن قتل الأولاد المستدعي لإفناء النسل ذكر النهي عن الزنا المفضى إلى ذلك لما فيه من اختلاط الأنساب فقال
385
(ولا تقربوا الزنا) قربت الأمر أقربه من باب تعب وفي لغة من باب قتل قرباناً بالكسر فعلته أو دانيته ومن الأول هذه الآية، ومن الثاني لا تقرب الحمى أي لا تدن منه، وفي النهي عن قربانه بمباشرة مقدماته نهى عنه بالأولى فإن الوسيلة إلى الشيء إذا كان حراماً كان المتوسل إليه حراماً بفحوى الخطاب، والزنافيه لغتان المد والقصر.
ثم علل النهى عن الزنا بقوله (إنه كان فاحشة) أي قبيحاً متبالغاً في القبح مجاوزاً للحد شرعاً وعقلاً (وساء سبيلاً) أي بئس طريقاً طريقه وذلك لأنه يؤدي إلى النار ولا خلاف في كونه من كبائر الذنوب.
وقد ورد في تقبيحه والتنفير عنه من الأدلة ما هو معلوم وهو يشتمل على أنواع من المفاسد منها المعصية وإيجاب الحد على نفسه ومنها اختلاط الأنساب فلا يعرف الرجل ولد من هو ولا يقوم أحد بتربيته، وذلك يوجب ضياع الأولاد وانقطاع النسل، وذلك يوجب خراب العالم.
وعن السدي في الآية قال: يوم نزلت هذه لم تكن حدود فجاءت بعد ذلك الحدود في سورة النور، وعن أبىّ بن كعب قال: ساء سبيلاً إلا من تاب فإن الله كان غفوراً رحيماً فذكر لعمر فأتاه فسأله فقال: أخذتها من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وليس لك عمل إلا الصفق بالبقيع.
385
وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا (٣٣) وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا (٣٤) وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا (٣٥) وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا (٣٦) وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا (٣٧) كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا (٣٨)
ولما فرغ سبحانه من ذكر النهي عن القتل لخصوص الأولاد وعن النهي عن الزنا الذي يفضي إلى ما يفضي إليه قتل الأولاد من اختلاط الأنساب وعدم استقرارها نهى عن قتل الأنفس المعصومة على العموم فقال
386
(ولا تقتلوا النفس التي حرم الله) أي التي جعلها الله معصومة بعصمة الدين أو عصمة العهد، والأصل في القتل هو الحرمة الغليظة، وحل القتل إنما يثبت بسبب عارض فلما كان كذلك نهى الله عن القتل على حكم الأصل.
ثم استثنى الحالة التي يحصل فيها حل القتل وهي الأسباب العارضة فقال (إلا بالحق) كالردة والزنا من المحصن وكالقصاص من القاتل عمداً عدواناً وما يلتحق بذلك والاستثناء مفرغ أي لا تقتلوها بسبب من الأسباب إلا بسبب متلبس بالحق أو إلا متلبسين بالحق، وقد تقدم الكلام في هذا في الأنعام.
وعن الضحاك قال: نزل هذا بمكة ونبي الله ﷺ بها وهو أول شيء نزل من القرآن في شأن القتل، كان المشركون من أهل مكة يغتالون أصحاب رسول الله ﷺ فقال الله من قتلكم من المشركين فلا يحملنكم قتله إياكم على أن تقتلوا له أباً أو أخاً أو واحداً من عشيرته وإن كانوا مشركين فلا تقتلوا إلا قاتلكم.
386
وهذا قبل أن تنزل براءة وقبل أن يؤمر بقتال المشركين فذلك قوله (فلا يسرف في القتل أنه كان منصوراً) يقول لا تقتل غير قاتلك وهي اليوم على ذلك الموضع من المسلمين لا يحل لهم أن يقتلوا إلا قاتلهم.
ثم بين حكم بعض المقتولين بغير حق فقال (ومن قتل مظلوماً) أي لا بسبب من الأسباب المسوغة لقتله شرعاً وهو أحد ثلاث كفر بعد إيمان وزناً بعد إحصان وقتل مؤمن معصوم عمداً كما في الحديث (فقد جعلنا لوليه) أي لمن يلي أمره من ورثته إن كانوا موجودين أو لمن له سلطان لم يكونوا موجودين (سلطاناً) أي تسلطاً على القاتل إن شاء قتل وإن شاء عفا وإن شاء أخذ الدية قال ابن عباس: سلطاناً بينة من الله أنزلها يطلبها ولي المقتول القود أو العقل.
ثم لما بيّنَ إباحة القصاص لمن هو مستحق لدم المقتول أو ما هو عوض عن القصاص نهاه عن مجاوزة الحد فقال (فلا يسرف) أي لا يجاوز الولي إباحة الله له (في القتل) فيقتل بالواحد الاثنين أو جماعة أو يمثل بالقاتل أو يعذبه وقرأ الجمهور بالتحتية وقرئ بالفوقية فهو خطاب للقاتل الأول ونهي له عن القتل أي فلا تسرف أيها القاتل المتعدي بالقتل بغير الحق فإن علمك القصاص مع ما عليك من عقوبة الله وسخطه ولعنته.
وقال ابن جرير الخطاب للنبي ﷺ وللأمة من بعده أي لا تقتل يا محمد غير القاتل ولا تفعل ذلك الأئمة بعدك وفي قراءة أبيّ لا تسرفوا قال مجاهد: معنى لا يسرف لا يكثر ولا يقاتل إلا قاتل رحمه، وعن زيد بن أسلم إن الناس في الجاهلية كانوا إذا قتل الرجل من القوم رجلاً لم يرضوا بقتل قاتله حتى يقتلوا به رجلاً شريفاً وإذا كان قتيلهم شريفاً لم يقتلوا قاتله وحده بل قتلوا معه غيره فوعظوا في ذلك بقول الله سبحانه فلا يسرف في القتل.
ثم علَّل النهي عن السرف فقال (إنه) يعني ولي المقتول (كان
387
منصوراً) أي مؤيداً معاناً فإن الله سبحانه قد نصره بإثبات القصاص له أو الدية بما أبرزه من الحجج وأوضحه من الأدلة وأمر أهل الولايات بمعونته والقيام بحقه حتى يستوفيه، ويجوز أن يكون الضمير راجعاً إلى المقتول ظلماً أي أن الله نصره بوليه يعني منصوراً في الدنيا بإيجاب القود على قاتله وفي الآخرة بتكفير خطاياه وإيجاب النار لقاتله قيل وهذه الآية من أول ما نزل من القرآن في شأن القتل لأنها مكيّة كما تقدم.
ولما ذكر سبحانه النهي عن إتلاف النفوس أتبعه بالنهي عن إتلاف الأموال وكان أهمها بالحفظ والرعاية مال الميتيم فقال
388
(ولا تقربوا مال اليتيم) الخطاب لأولياء اليتيم والنهي عن قربانه مبالغة في النهي عن المباشرة وإتلافه، قال قتادة: كانوا لا يخالطونهم في مال ولا مأكل ولا مركب حتى نزلت وإن تخالطوهم فإخوانكم.
ثم بينَّ سبحانه أن النهي عن قربانه ليس المراد منه النهي عن مباشرته فيما يصلحه ويفسده بل يجوز لولي اليتيم أن يفعل في مال اليتيم ما يصلحه وذلك يستلزم مباشرته فقال (إلا بالتي) أي إلا بالخصلة التي (هي أحسن) من جميع الخصال وهي حفظه وطلب الربح فيه والسعي فيما يزيد به والإنفاق عليه بالمعروف ثم ذكر غاية النهي عن قربان مال اليتيم فقال (حتى يبلغ) أي لا تقربوه حتى يبلغ اليتيم (أشده) فإذا بلغ أشده كان لكم أن تدفعوه إليه أو تتصرفوا فيه بإذنه لأن التصرف له حينئذ.
والأشد مفرد بمعنى القوة، وقيل جمع لا واحد له من لفظه، وقيل جمع شدة بكسر الشين، وقيل جمع شد كذلك، وقيل جمع بفتحها وعلى كل فالمراد به القوة وكمال عقله ورشده بحيث يمكنه القيام بمصالح ماله وإلا لم ينفك عنه الحجر وإن كان الأشد في الأصل عبارة عن بلوغ ثلاث وثلاثين سنة، وقيل هي ثماني عشرة سنة وقيل خمس عشرة سنة وقد تقدم الكلام على هذا مستوفى في الأنعام.
388
(وأوفوا بالعهد) قد تقدم الكلام فيه في غير موضع، قال الزجاج: كل ما أمر الله به ونهى عنه فهو من العهد فيدخل في ذلك ما بين العبد وربه وما بين العباد بعضهم لبعض والوفاء بالعهد هو القيام بحفظه على الوجه الشرعي والقانون المرضي إلا إذا دلّ دليل خاص على جواز النقض.
(إن العهد كان مسؤولاً) عنه فالمسؤول هنا هو صاحبه، وقيل أن العهد يُسأل تبكيتاً لناقضه فيقال فيهم نقض كالموؤودة تُسأل فيم قتلت وإن كان سؤال العهد تخييلاً وتمثيلاً وسؤال الموؤودة تحقيقاً، قال سعيد بن جبير: أن الله يسأل ناقض العهد عن عهده، وعن ابن جريج قال: يسأل عهده من أعطاه إياه.
389
(وأوفوا الكيل) أي أتموه ولا تخسروه خطاب للبائعين (إذا كلتم) أي وقت كيلكم للناس، وأخذ من هذا بعضهم أن أجرة الكيال على البائع لأنها من تمام التسليم وكذلك عليه أجرة النقاد للثمن وهو كذلك كما هو مقرر في الفروع.
(وزنوا بالقسطاس المستقيم) قال الزجاج: هو ميزان العدل، أي ميزان كان صغيراً أو كبيراً من موازين الدراهم وغيرها، وفيه لغتان: ضم القاف وكسرها وقيل هو القبان المسمى بالقرسطون، قاله الضحاك، وقيل هو العدل نفسه، قاله مجاهد وهي لغة الروم قاله ابن جبير، وقيل لغة سريانية ثم عُربت.
ولا يقدح ذلك في عربية القرآن لأن العجمي إذا استعملته العرب وأجرته مجرى كلامهم في الإعراب والتعريف والتنكير ونحوها صار عربياً، والأصح أنه عربي مأخوذ من القسط وهو العدل والتفاوت الحاصل بسبب نقصان الكيل والوزن قليل والوعيد الحاصل عليه شديد عظيم فوجب الاحتراز عنه، وإنما عظم الوعيد فيه لأن جميع الناس محتاجون إلى المعاوضات والبيع والشراء فالشارع بالغ في المنع من التطفيف والنقصان سعياً في إبقاء الأموال على أربابها.
389
(ذلك) أي إيفاء الكيل والوزن بالميزان المستوي (خير) لكم عند الله وعند الناس يتأثر عنه حسن الذكر وترغيب الناس في معاملة من كان كذلك (وأحسن تأويلاً) أي عاقبة من آل إذا رجع.
ثم أمر سبحانه بإصلاح اللسان والقلب فقال
390
(ولا تقف ما ليس لك به علم) أي لا تتبع ما لا تعلم، وهو مأخوذ من قولك قفوت فلاناً إذا اتبعت أثره، ومنه قافية الشعر لأنها تقفو كل بيت، ومنه القبيلة المشهورة بالقافة لأنهم يتبعون آثار أقدام الناس. وحكى ابن جرير عن فرقة أنها قالت: قفى وقاف مثل عثى وعاث.
وقال منذر بن سعيد البلوطي: قفى وقاف مثل جذب وجبذ، وقيل مجزوم بحذف الواو من بأبي عدا وسما، أي لا تقل رأيت ولم تر، وسمعت ولم تسمع، وعلمت ولم تعلم.
ومعنى الآية النهي عن أن يقول الإنسان ما لا يعلمه أو يعمل بما لا علم له. وهذه قضية كلية وقد جعلها جماعة من المفسرين خاصة بأمور، فقال ابن عباس: لا تذم أحداً بما ليس لك به علم. وقيل هي في شهادة الزور، قاله محمد بن الحنفية وقيل هي في القذف.
وقال القتيبي: معنى الآية لا تتبع الحدس والظنون، وهذا صواب فإن ما عدا ذلك هو العلم. وقيل المراد بالعلم هنا هو الاعتقاد الراجح المستفاد من مستند قطعياً كان أو ظنياً. قال أبو السعود في تفسيره: واستعماله بهذا المعنى مما لا ينكر شيوعه.
وأقول أن هذه الآية دلت على عدم جواز العمل بما ليس بعلم، ولكنها عامة مخصصة بالأدلة الواردة بجواز العمل بالظن كالعمل بالعام وبخبر الواحد والعمل بالشهادة والاجتهاد في القبلة وفي جزاء الصيد ونحو ذلك فلا يخرج من عمومها ومن عموم أن الظن لا يغني من الحق شيئاً إلا ما قام دليل جواز العمل به.
390
فالعمل بالرأي في مسائل الشرع إن كان لعدم وجود الدليل في الكتاب والسنة فقد رخص فيه النبي ﷺ كما في قوله لمعاذ لما بعثه قاضياً " بم تقضي؟ " قال: بكتاب الله، قال: " فإن لم تجد؟ " قال: فبسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: " فإن لم تجد؟ " قال: أجتهد رأيي (١)، وهو حديث صالح للاحتجاج به، كما أوضح الشوكاني ذلك في بحث مفرد.
وأما التوثب على الرأي مع وجود الدليل في الكتاب أو السنة ولكنه قصر صاحب الرأي عن البحث فجاء برأيه فهو داخل تحت هذا النهي دخولاً أولياً لأنه محض رأي في شرع الله، وللناس عنه غنى بكتاب الله سبحانه وبسنة رسوله ﷺ ولم تدع إليه حاجة، على أن الترخيص في الرأي عند عدم وجود الدليل إنما هو رخصة للمجتهد يجوز له أن يعمل به، ولم يدل دليل على أنه يجوز لغيره العمل به وينزل منزلة مسائل الشرع.
وبهذا يتضح لك أتم اتضاح ويظهر لك أكمل ظهور أن هذه الآراء المدونة في الكتب الفروعية ليست من الشرع في شيء والعامل بها على شفا جرف هار، فالمجتهد المستكثر من الرأي قد قفا ما ليس له به علم، والمقلد المسكين العامل برأي ذلك المجتهد قد عمل بما ليس له به علم ولا لمن قلده، ظلمات بعضها فوق بعض وقد قيل أن هذه الآية خاصة بالعقائد ولا دليل على ذلك أصلاً.
ثم علل سبحانه النهي عن العمل بما ليس بعلم بقوله (إن السمع والبصر والفؤاد) أي القلب (كل أولئك) أي كل واحد من الحواس الثلاثة وأجريت مجرى العقلاء لما كانت مسؤولة عن أحوالها شاهدة على أصحابها.
وقال الزجاج: أن العرب تعبر عما لا يعقل وعما يعقل بأولئك والضمير في (كان) يرجع إلى كل وكذا الضمير في (عنه) وقيل الضمير في كان يعود إلى القافي المدلول عليه بقوله لا تقف وقوله عنه في محل رفع لإسناد (مسؤولاً) إليه ورد بما حكاه النحاس من الإجماع على عدم جواز تقديم القائم مقام
_________
(١) الإمام أحمد ٥/ ٢٣٦ - /٢٤٢.
391
الفاعل إذا كان جاراً ومجروراً.
قيل والأولى أن يقال أنه فاعل مسؤول المحذوف والمذكور مفسر له ومعنى سؤال هذه الجوارح أنه يسأل صاحبها عما استعملها فيه لأنها آلات والمستعمل لها هو الروح الإنساني فإن استعملها في الخير استحق الثواب وأن استعملها في الشر استحق العقاب وهو اختيار الزمخشري، وقيل أن الله سبحانه يُنطق الأعضاء هذه عند سؤالها فتخبر عما فعله صاحبها وعليه جرى القاضي فتسأل توبيخاً لأصحابها وهذا أبلغ مما قبله. وفي الآية دليل على أن العبد مؤاخذ بعزمه على المعصية.
392
(ولا تمش في الأرض مرحاً) قيل وهو شدة الفرح، وقيل التكبر في المشي وقيل تجاوز الإنسان قدره وقيل الخيلاء في المشي، وقيل البطر والأشر؛ وقيل النشاط والظاهر أن المراد به الخيلاء والفخر، قال الزجاج في تفسير الآية: لا تمش في الأرض مختالاً فخوراً، وذكر الأرض مع أن المشي لا يكون إلا عليها أو على ما هو معتمد عليها تأكيداً وتقريراً ولقد أحسن من قال:
ولا تمش فوق الأرض إلا تواضعاً فكم تحتها قوم هم منك أرفع
وإن كنت في عز وحرز ومنعة فكم مات من قوم هم منك أمنع
والمرح مصدر وقع حالاً أي ذا مرح أي مارحاً متلبساً بالكبر والخيلاء وفي وضع المصدر موضع الصفة نوع تأكيد وقرئ مرحاً بفتح الراء ومرحاً بكسرها على أنه اسم فاعل.
ثم علل سبحانه هذا النهي فقال (إنك لن تخرق الأرض) يقال خرق الثوب أي شقه وخرق الأرض قطعها، والخرق الواسع من الأرض، والمعنى إنك لن تخرق الأرض بمشيك عليها تكبراً حتى تبلغ آخرها، وفيه تهكم بالمختال المتكبر، وقيل المراد بخرق الأرض نقبها لا قطعها بالمسافة، وقال الأزهري: خرقها قطعها قال النحاس: وهذا بين كأنه مأخوذٌ من الخرق وهو الفتحة الواسعة، ويقال فلان أخرق من فلان أي أكثر سفراً.
392
(ولن تبلغ الجبال طولاً) أي ولن تبلغ قدرتك إلى أن تطاول الجبال حتى يكون عظم جثتك حاملاً لك على الكبر والاختيال فلا قوة لك حتى تخرق الأرض بالمشي عليها. ولا عظم في بدنك حتى تطاول الجبال وتساويها بكبرك، فما الحامل لك على ما أنت فيه وأنت أحقر وأصغر من كل واحد من الجمادين، فكيف يليق بك الكبر.
393
(كل ذلك) أي جميع ما تقدم ذكره من الأوامر والنواهي الخمس والعشرين أو ما نهى عنه فقط من قوله. ولا تقف ولا تمش (كان سيئه عند ربك) على إضافة سيئ إلى الضمير، ويؤيد هذه القراءة قوله: (مكروهاً) فإن السبي هو المكروه ويؤيدها أيضاً قراءة أبيّ كان سيئاته.
وقرأ نافع وغيره سيئة على أنها واحدة السيئات وانتصابها على خبرية كان ومكروهاً خبر ثان لكان أو بدل من سيئه، ورجح أبو علي الفارسي البدل، وقد قيل في توجيهه بغير هذا مما فيه تعسف لا يخفى، قال الزجاج والإضافة أحسن لأن ما تقدم من الآيات فيها سيئ وحسن فسيئه المكروه ويقوي ذلك التذكير في المكروه.
ومن قرأ بالتنوين جعل (كل ذلك) إحاطة بالنهى عنه دون الحسن، والمعنى كل ما نهى الله عنه كان سيئة وكان مكروهاً، والمكروه على هذا بدل من السيئة وليس بنعت، والمراد بالمكروه عند الله هو الذي يبغضه ولا يرضاه لا أنه غير مراد مطلقاً لقيام الأدلة القاطعة على أن الأشياء واقعة بإرادته سبحانه.
وذكر مطلق الكراهة مع أن في الأشياء المتقدمة ما هو من الكبائر إشعاراً بأن مجرد الكراهة عنده تعالى يوجب انزجار السامع واجتنابه لذلك.
والحاصل أن في الخصال المتقدمة ما هو حسن وهو المأمور به، وما هو مكروه وهو المنهيّ عنه، فعلى قراءة الإضافة تكون الإشارة بقوله (كل ذلك) إلى جميع الخصال، حسنها ومكروهها، ثم الإخبار بأن ما هو سيئ من هذه
393
ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ وَلَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَدْحُورًا (٣٩) أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ إِنَاثًا إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلًا عَظِيمًا (٤٠) وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا وَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا نُفُورًا (٤١) قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لَابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا (٤٢) سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا (٤٣) تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا (٤٤)
الأشياء هو المنهى عنه عند الله، وعلى قراءة الإفراد تكون الإشارة إلى المنهيات ثم الإخبار عن هذه المنهيات بأنها سيئة مكروهة عند الله.
394
(ذلك) إشارة إلى ما تقدم ذكره من قوله لا تجعل مع الله إلى هذه الغاية (مما أوحى إليك ربك) أي من جنسه أو بعض منه، وذكر هنا في ثمان عشرة آية أولها لا تجعل، وذكر في التوراة في عشر آيات (من الحكمة) سمي حكمة لأنه كلام محكم وهو ما علمه من الشرائع أو من الأحكام المحكمة التي لا يتطرق إليها النسخ والفساد، وعند الحكماء إن الحكمة عبارة عن معرفة الحق لذاته والخير للعمل به، قاله البيضاوي فالتوحيد من القسم الأول وباقي التكاليف من القسم الثاني.
(ولا تجعل مع الله إلهاً آخر) كرر سبحانه النهي عن الشرك تأكيداً وتقريراً وتنبيهاً على أنه رأس خصال الدين وعمدته ومبدأ الأمر ومنتهاه، وعلى أنه ملاك الحكمة وأسها. قيل وقد راعى سبحانه في هذا التأكيد دقيقة فرتب على الأول كونه مذموماً مخذولاً، وذلك إشارة إلى حال الشرك في الدنيا؛ ورتب على الثاني ما هو نتيجة في العقبى فقال (فتلقى في جهنم ملوماً) تلوم نفسك (مدحوراً) مبعداً من رحمة الله مطروداً وفي القعود هناك والإلقاء هنا إشارة إلى أن للإنسان في الدنيا صورة اختيار بخلاف الآخرة.
(أفأصفاكم) أي خصكم، قاله أبو عبيدة، وقال الفضل: أخلصكم (ربكم بالبنين واتخذ من الملائكة إناثاً) أي بنات، والخطاب للكفار القائلين بأن الملائكة بنات الله، وفيه توبيخ شديد وتقريع بالغ لما كان يقوله هؤلاء الذين هم كالأنعام بل هم أضل، والفاء للعطف على مقدر كنظائره مما قد كررناه.
(إنكم لتقولون قولاً عظيماً) بالغاً في العظم والجرأة على الله إلى مكان لا يقادر قدره بإضافة الأولاد إليه، وهي خاصة بعض الأجسام لسرعة زوالها، ثم بتفضيل أنفسكم عليه حيث تجعلون له ما تكرهون، ثم يجعل الملائكة الذين هم أشرف الخلق أدونهم.
(ولقد صرفنا في هذا القرآن) أي بيّنا أو كررنا ضروب القول فيه من الأمثال والعبر والحكم والحجج والمواعظ والقصص والأخبار والأوامر والنواهي وغيرها. وقيل في زائدة والتقدير ولقد صرفنا هذا القرآن، والتصريف في الأصل صرف الشيء من جهة إلى جهة والتشديد فيه للتكثير والتكرير، وقيل معنى التصريف المغايرة؛ أي غايرنا بين المواعظ.
ثم علل سبحانه ذلك فقال (ليذكروا) أي ليتعظوا ويعتبروا ويتدبروا بعقولهم ويتفكروا فيه حتى يقفوا على بطلان ما يقولونه (و) الحال أن هذا التصريف والتذكير (ما يزيدهم إلا نفوراً) أي تباعداً عن الحق وغفلة عن النظر في الصواب لأنهم قد اعتقدوا في القرآن أنه حيلة وسحر وكهانة وشعر وهم لا ينزعون عن هذه الغواية ولا وازع لهم يزعهم إلى الهداية، وكان الثوري إذا قرأها يقول: زادني لك خضوعاً ما زاد أعداءك نفوراً.
(قل) لهم في شأن الاستدلال على إبطال التعدد الذي زعموه وإثبات الوحدانية (لو كان معه آلهة كما) أي كوناً مشابهة لما (يقولون) والمراد بالمشابهة الموافقة والمطابقة، قرئ بالتحتية وبالفوقية على الخطاب للقائلين بأن مع الله آلهة أخرى (إذاً) قال الزمخشري: هي دالة على أن ما بعدها وهو (لابتغوا)
395
جواب لمقالة المشركين وجزاء للو (إلى ذي العرش) هو الله سبحانه (سبيلاً) طريقاً للمغالبة والمقاتلة والممانعة ليزيلوا ملكه كما يفعل الملوك بعضهم مع بعض من المقاتلة والمصاولة عند تعددهم.
وقيل معناه إذاً لابتغت الآلهة إلى الله القربة والزلفة عنده لأنهم دونه والمشركون إنما اعتقدوا أنها تقربهم إلى الله، والظاهر المعنى الأول، ومثله معنى قوله تعالى (لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا) وحاصل الدليل أنه قياس استثنائي يستثنى فيه نقيض التالي لينتج نقيض المقدم، وحذف منه كل من الاستثنائية والنتيجة والتقدير لكنهم لم يطلبوا طريقاً لقتاله فلم يكن. هناك تعدد.
ثم نزه تعالى نفسه فقال
396
(سبحانه) والتسبيح التنزيه وقد تقدم مراراً (وتعالى) أي تباعد (عما يقولون) من الأقوال الشنيعة والفرية العظيمة (علواً) أي تعالياً ولكنه وضع العلو موضع التعالي، كقوله والله أنبتكم من الأرض نباتاً (كبيراً) وصف العلو بالكبير مبالغة في النزاهة وتنبيهاً على أن بين الواجب لذاته والممكن لذاته وبين الغنى الطلق والفقير المطلق مباينة لا يعقل الزيادة عليها.
ثم بين سبحانه جلالة ملكه وعظمة سلطانه فقال:
(تسبح له السماوات السبع والأرض ومن فيهن) قال فيهن بضمير العقلاء لإسناده إليها التسبيح الذي هو فعل العقلاء، وقد أخبر سبحانه عن السماوات والأرض بأنها تسبحه، وكذلك من فيها من مخلوقاته الذين لهم عقول وهم الملائكة من الإنس والجن وغيرهم من الأشياء التي لا تعقل.
ففيه دلالة على أن الأكوان بأسرها دالة شاهدة بتلك النزاهة، ولكن المشركين لا يفهمون تسبيحها، فالقصد من هذا توبيخهم وتقريعهم على اتباعهم الشركاء لله مع أن كل شيء ممن عداهم ينزهه عن كل نقص.
396
أخرج سعيد بن منصور وابن أبي حاتم والطبراني وأبو نعيم في الحلية والبيهقي في الأسماء والصفات عن عبد الرحمن بن قرظ أن رسول الله ﷺ ليلة أسرى به إلى المسجد الأقصى كان جبريل عن يمينه وميكائيل عن يساره فطارا به حتى بلغ السماوات العلى، فلما رجع قال: " سمعت تسبيحاً في السماوات العلى مع تسبيح كثير، سبحت السماوات العلى من ذي المهابة مشفقات لذي العلو بما علا سبحان العلي الأعلى سبحانه وتعالى ".
وأخرج ابن مردويه عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال وهو جالس مع أصحابه إذ سمع هدة فقال: " أطت السماء، ويحقها أن تئط، والذي نفس محمد بيده ما فيها موضع شبر إلا فيه جبهة ملك ساجد يسبح الله بحمد " (١).
ثم زاد ذلك تعميماً وتأكيداً فقال: (وإن من شيء إلا يسبح) متلبساً (بحمده) فيشمل كل ما يسمى شيئاً كائناً ما كان حتى صرير الباب ونقيض السقف وتسبيحها سبحان الله وبحمده. وقيل أنه يحمل قوله ومن فيهن على الملائكة والثقلين ويحمل قوله وإن من شيء على ما عدا ذلك من المخلوقات.
وقد اختلف أهل العلم في هذا العموم هل هو مخصوص أم لا، فقالت طائفة ليس بمخصوص، وحملوا التسبيح على تسبيح الدلالة لأن كل مخلوق يشهد على نفسه ويدل غيره بأن الله خالق قادر.
وقالت طائفة هذا التسبيح على حقيقته والعموم على ظاهره، والمراد أن كل المخلوقات تسبح لله هذا التسبيح الذي معناه التنزيه، وإن كان البشر لا يسمعون ذلك لكونهم محجوبين عن سماعه ولا يفهمونه لكونه بغير لغاتهم.
_________
(١) أخرجه أبو نعيم في الحلية ٦/ ٢٦٩ بهذا اللفظ وبسند ضعيف.
397
وهذا يقتضي أن تسبيح الجماد بلسان المقال وهو الذي اختاره الخازن وأثبته بأحاديث متعددة، قال في الجمل وهو قريب جداً، ويؤيد هذا قوله سبحانه (ولكن لا تفقهون) بالتاء والياء (تسبيحهم) فإنه لو كان المراد تسبيح الدلالة لكان أمراً مفهوماً لكل أحد.
وأجيب بأن المراد بقوله (لا تفقهون) الكفار الذين يعرضون عن الاعتبار وقالت طائفة: هذا العموم مخصوص بالملائكة والثقلين دون الجمادات، وقيل خاص بالأجسام النامية فيدخل النباتات، كما روى هذا القول عن عكرمة والحسن وخص تسبيح النباتات بوقت نموها لا بعد قطعها.
وقد استدل لذلك بحديث أن رسول الله ﷺ مر على قبرين وفيه " ثم دعا بعسيب رطب فشقه باثنين وقال أنه يخفف عنهما ما لم ييبسا " (١) ويؤيد حمل الآية على العموم قوله (إنا سخرنا الجبال معه يسبحن بالعشيّ والإشراق) وقوله (وإن منها لما يهبط من خشية الله) وقوله (وتخر الجبال هداً) ونحو ذلك من الآيات.
وثبت في الصحيح أنهم كانوا يسمعون تسبيح الطعام وهم يأكلون مع رسول الله ﷺ (٢). وهكذا حديث حنين الجذع، وحديث أن حجراً بمكة كان يسلم جذملى النبي صلى الله عليه وسلم، وكلها في الصحيح.
ومن ذلك تسبيح الحصا في كفه صلى الله عليه وسلم، ومدافعة عموم هذه الآية بمجرد الاستبعادات، ليس دأب من يؤمن بالله سبحانه ويؤمن بما جاء من عنده.
قال السدي: ما اصطيد حوت في البحر ولا طائر يطير إلا بما يضيع من تسبيح الله تعالى.
_________
(١) مسلم ٢٩٢ البخاري ١٦٤.
(٢) البخاري كتاب المناقب باب ٢٥ - الإمام أحمد ١/ ٤٦٠.
398
(إنه كان حليماً غفوراً) فمن حلمه الإمهال لكم وعدم إنزال عقوبته عليكم على غفلتكم وسوء نظركم وجهلكم بالتسبيح، ومن مغفرته لكم أنه لا يؤاخذ من تاب منكم.
أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ في العظمة عن جابر قال: قال رسول الله ﷺ " ألا أخبركم بشيء أمر به نوح ابنه أن نوحاً قال لابنه: يا بني آمرك أن تقول سبحان الله فإنها صلاة الخلائق وتسبيح الخلق وبها يرزق الخلق " قال الله تعالى (وإن من شيء إلا يسبح بحمده).
وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ " قرصت نملة نبياً من الأنبياء فأمر بقرية النمل فأحرقت فأوحى الله إليه من أجل نملة واحدة أحرقت أمة من الأمم تسبح " (١).
وأخرج النسائي وأبو الشيخ وابن مردويه عن ابن عمر وقال: نهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن قتل الضفدع وقال " نقيقها تسبيح " (٢) وأخرج أبو الشيخ في العظمة وابن مردويه عن ابن عباس قال: الزرع يسبح وأجره لصاحبه والثوب يسبح ويقول الوسخ إن كنت مؤمناً فاغسلني إذن، وعنه قال: كل شيء يسبح إلا الكلب والحمار أخرجه أبو الشيخ.
وعن الحسن قال: هذه الآية في التوراة كقدر ألف آية وإن من شيء إلا يسبح بحمده، قال: في التوراة تسبح له الجبال وتسبح له الشجر ويسبح له كذا وكذا، وفي الباب أحاديث وروايات عن السلف فيها تصريح بتسبيح جميع المخلوقات.
_________
(١) مسلم ٢٢٤١ - البخاري ١٤٣٤.
(٢) صحيح الجامع الصغير ٦٨٤٨ بلفظ " نهى عن قتل الضفدع للدواء " - الروض النضير/٢٦٥.
399
وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا (٤٥) وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا (٤٦) نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوَى إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا (٤٧) انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا (٤٨) وَقَالُوا أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا (٤٩) قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا (٥٠)
ولما فرغ سبحانه من الإلهيات شرع في ذكر بعض من آيات القرآن وما يقع من سامعيه فقال
400
(وإذا قرأت القرآن جعلنا بينك وبين الذين لا يؤمنون بالآخرة) وهم المنكرون للبعث (حجاباً مستوراً) يحجب قلوبهم عن فهمه والانتفاع به أي أنهم لإعراضهم عن قراءتك وتغافلهم عنك كمن بينك وبينه حجاب يمرون بك ولا يرونك، ذكر معناه الزجاج وغيره ومعنى مستوراً ساتراً.
قال الأخفش: والفاعل قد يكون في لفظ المفعول كما تقول إنك لممشؤوم وميمون وإنا هو شائم ويأمن، وقيل معناه ذا ستر كقولهم سيل مفعم أي ذو إفعام، وقيل هو حجاب لا تراه الأعين فهو مستور عنها، وقيل حجاب من دونه حجاب فهو مستور بغيره، وقيل المراد بالحجاب المستور الطبع والختم؛ قال السيوطي: نزل فيمن أراد الفتك به ﷺ انتهى. كأبى جهل وأم جميل زوجة أبي لهب.
والمراد بما في الآية مطلق القرآن أو ثلاث آيات مشهورات من النحل والكهف والجاثية وهي في سورة النحل (أولئك الذين طبع الله على قلوبهم وسمعهم) الآية وفي سورة الكهف
(وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه) الآية وفي حم الجاثية (أفرأيت من اتخذ إلهه هواه وأضله الله على علم) الآية
400
فكأن الله تعالى يحجبه ببركة هذه الآيات عن عيون المشركين. ذكره الخطيب.
وفي القرطبي (قلت) ويزاد إلى هذه الآيات أول سورة يس إلى قوله (فهم لا يبصرون) فإن في السيرة في هجرة النبي ﷺ ومقام عليّ في فراشه قال: وخرج رسول الله ﷺ فأخذ حفنة من تراب في يده وأخذ الله على أبصارهم فلا يرونه فجعل ينثر ذلك التراب على رؤوسهم وهو يتلو هذه الآيات من يس حتى فرغ ولم يبق منهم رجل إلا وقد وضع على رأسه ترابا ثم انصرف إلى حيث أراد أن ينصرف.
(وجعلنا على قلوبهم أكنة) جمع كنان وهي الأغطية وقد تقدم تفسيره في الأنعام وقيل هو حكاية لما كانوا يقولونه من قولهم قلوبنا غلف وفي آذاننا وقر ومن بيننا وبينك حجاب (أن يفقهوه) أي كراهة أن يفقهوه أو لئلا يفقهوه أي يفهموا ما فيه من الأوامر والنواهي والحكم والمعاني.
(وجعلنا في آذانهم وقراً) أي صمماً وثقلاً كراهة أن يسمعوه أو لئلا يسمعوه ومن قبائح المشركين أنهم كانوا يحبون أن يذكر آلهتهم كما يذكر الله سبحانه فإذا سمعوا ذكر الله دون ذكر آلهتهم نفروا عن المجلس كما قال تعالى:
(وإذا ذكرت ربك في القرآن وحده) يقال وحد يحد وحداً وحدة نحو وعد يعد وعداً وعدة فهو مصدر سد مسد الحال أصله يحد وحده بمعنى واحداً، وقال يونس منصوب على الظرف.
(ولوا على أدبارهم نفوراً) هو مصدر بمعنى التولية والتقدير هربوا نفوراً أو نفروا نفوراً، وقيل جمع نافر كقاعد وقعود قاله البيضاوي والشهاب والأول أولى، وقيل المصدر في موضع الحال والمعنى ولوا نافرين، قال ابن عباس: ولوا نفور الشياطين.
401
(نحن أعلم بما) أي بالحال الذي (يستمعون) القرآن (به) أي متلبسين به من اللغو والاستخفاف والهزء بك وبالقرآن، وقيل الباء للسببية أو
401
بمعنى اللام وعبارة الكواشي بما يستمعون به هازئين، وقال الزمخشري: يستمعون بالهزء (إذ يستمعون إليك) ظرف لأعلم وفيه تأكيد للوعيد.
(وإذ هم نجوى) أي ونحن أعلم بما يتناجون به فيما بينهم وقت تناجيهم وقد كانوا يتناجون بينهم بالتكذيب والاستهزاء (إذ) بدل من إذ قبله (يقول الظالمون) أي الوليد بن المغيرة وأصحابه (إن تتبعون) أي يقول كل منهم للآخرين عند تناجيهم ما تتبعون (إلا رجلا مسحوراً) أي سحر به فاختلط عقله وزال عن حد الاعتدال.
قال ابن الأعرابي: المسحور الذاهب العقل الذي افسد من قولهم طعام مسحور إذا أفسد عمله وأرض مسحورة أصابها من المطر أكثر مما ينبغي فأفسدها وقيل هو المخدوع لأن السحر الحيلة والخديعة وذلك لأنهم زعموا أن محمداً ﷺ كان يتعلم من بعض الناس وكانوا يخدعونه بذلك التعليم.
وقال أبو عبيدة: معنى مسحوراً أن له سحراً أي رئة فهو لا يستغني عن الطعام والشراب فهو مثلكم وتقول العرب للجبان قد انتفخ سحره وكل من كان يأكل من آدمي أو غيره مسحور، قال ابن قتيبة: لا أدري ما حمله على هذا التفسير المستكره مع أن السلف فسروه بالوجوه الواضحة.
402
(انظر كيف ضربوا لك الأمثال) أي قالوا تارة إنك كاهن وتارة ساحر وتارة شاعر وتارة مجنون (فضلوا) عن طريق الصواب في جميع ذلك وحادوا (فلا يستطيعون سبيلاً) إلى الهدى أو الحق أو الطعن الذي تقبله العقول السليمة ويقع التصديق له لا أصل الطعن فقد فعلوا منه ما قدروا عليه وقيل لا يستطيعون مخرجاً لتناقض كلامهم كقولهم ساحر كاهن مجنون شاعر.
ولما فرغ سبحانه من حكاية شبهة القوم في النبوات حكى شبهتهم في أمر المعاد فقال
(وقالوا أئذا كنا عظاماً ورفاتاً) الاستفهام للاستنكار والاستبعاد لما بين رطوبة الحي ويبوسة الرميم من المباعدة والمنافاة وتقرير الشبهة أن الإنسان
402
إذا مات جفت عظامه وتناثرت وتفرقت في جوانب العالم واختلطت بسائطها بأمثالها من العناصر فكيف يعقل بعد ذلك اجتماعها بأعيانها ثم عود الحياة إلى ذلك المجموع.
فأجاب سبحانه عنهم كما سيأتي بأن إعادة بدن الميت إلى حال الحياة أمر ممكن ولو فرضتم أن بدنه قد صار أبعد شيء من الحياة ومن رطوبة الحي كالحجارة والحديد فهو كقول القائل أتطمع فيَّ وأنا ابن فلان فيقول كن ابن السلطان أو ابن من شئت فسأطلب منك حقي.
والرفات ما تكسر وبلى من كل شيء كالفتاة والحطام والرضاض قاله أبو عبيدة والكسائي والفراء والأخفش يقول منه رفت الشيء رفتاً أي حطم فهو مرفوت وقيل الرفات الغبار قاله ابن عباس وقيل التراب، قال مجاهد ويؤيده أنه تكرر في القرآن تراباً وعظاماً، وقيل الرفات هو ما بولغ في دقه وتفتيته وهو اسم لأجزاء ذلك الشيء المفتت أي أجزاء متفتتة.
(أئنا لمبعوثون خلقاً جديداً) كرر الاستفهام الدال على الاستنكار والاستبعاد تأكيداً وتقريراً
403
(قل كونوا حجارة أو حديداً) قال ابن جرير: معناه إن عجبتم من إنشاء الله لكم عظاماً ولحماً فكونوا أنتم حجارة في الشدة أو حديداً في القوة إن قدرتم على ذلك.
وقال علي بن عيسى: معناه أنكم لو كنتم حجارة أو حديداً لم تفوتوا الله عز وجل إذا أرادكم إلا أنه خرج مخرج الأمر لأنه أبلغ من الإلزام.
وقيل معناه لو كنتم حجارة أو حديداً لأعادكم كما بدأكم ولأماتكم ثم أحياكم قال النحاس: وهذا قول حسن لأنهم لا يستطيعون أن يكونوا حجارة أو حديداً وإنما المعنى أنهم قد أقروا بخالقهم وأنكروا البعث فقيل لهم استشعروا أن تكونوا ما شئتم فلو كنتم حجارة أو حديداً لبعثتم كما خلقتم أول مرة فليس المراد الأمر وإنما عبر فيه بمادة الكون لتعبيرهم بها في سؤالهم، قلت وعلى هذا الوجه قررنا جواب الشبهة قبل هذا.
403
أَوْ خَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُءُوسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَرِيبًا (٥١) يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا (٥٢) وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا (٥٣) رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا (٥٤)
404
(أو خلقاً مما يكبر في صدوركم) أي يعظم عندكم مما هو أكبر من الحجارة والحديد مباينة للحياة فإنكم لمبعوثون لا محالة وقيل المراد به السماوات والأرض والجبال لعظمها في النفوس، وقال جماعة من الصحابة والتابعين: المراد به الموت لأنه ليس شيء أكبر في نفس ابن آدم منه.
والمعنى لو كنتم الموت لأماتكم الله ثم بعثكم ولا يخفى ما في هذا من البعد لأن معنى الآية الترقي من الحجارة إلى الحديد ثم من الحديد إلى ما هو أكبر في صدور القوم منه والموت نفسه ليس بشيء يعقل ويحس حتى يقع الترقي من الحديد إليه.
(فسيقولون من يعيدنا) إلى الحياة إذا كنا عظاماً ورفاتاً أو حجارة أو حديداً مع ما بين الحالتين من التفاوت (قل) يعيدكم (الذي فطركم) خلقكم واخترعكم (أول مرة) أي عند ابتداء خلقكم من غير مثال سابق ولا صورة متقدمة فمن قدر على البدء والإنشاء قدر على الإعادة بل هي أهون.
(فسينغضون إليك رؤوسهم) أي يحركونها استهزاء، يقال نغض رأسه ينغض نغضاً ونغوضاً إذا تحرك وانغض رأسه حركه كالمتعجب من الشيء (ويقولون) استهزاء وسخرية (متى هو) أي البعث والإعادة (قل عسى أن يكون قريبًا) أي هو قريب لأن عسى في كلام الله واجب الوقوع ومثله وما يدريك لعل الساعة تكون قريباً وكل ما هو آت قريب.
(يوم يدعوكم) الظرف منتصب بفعل مضمر أي أذكر أو بدل من قريباً أو التقدير يوم يدعوكم كان ما كان والدعاء النداء إلى المحشر بكلام يسمعه الخلائق وقيل هي الصيحة التي يسمعونها فتكون داعية لهم إلى الاجتماع في أرض المحشر وقيل أن المنادي جبريل وإن النافخ إسرافيل وصورة الدعاء والنداء أن يقول أيتها العظام البالية والأوصال المنقطعة واللحوم المتمزقة والشعور المتفرقة إن الله يأمركن أن تجتمعن لفصل القضاء. قاله الجلال المحلى في سورة ق.
(فتستجيبون بحمده) منقادين له حامدين لما فعله بكم وقيل المعنى فتستجيبون والحمد لله أو له الحمد، وقد روي أن الكفار عند خروجهم من قبورهم يقولون سبحانك اللهم وبحمدك. قاله سعيد بن جبير.
وقيل المراد بالدعاء هنا البعث وبالاستجابة أنهم يبعثون، فالمعنى يوم نبعثكم فتبعثون منقادين، والاستجابة موافقة الداعي فيما دعا إليه وهي الإجابة إلا أن الاستجابة تقتضي طلب الموافقة فهي أوكد من الإجابة. وقيل هذا خطاب مع المؤمنين فإنهم يبعثون حامدين. قال ابن عباس: معنى بحمده بأمره. وقال قتادة بمعرفته وطاعته.
(وتظنون) عند البعث (إن لبثتم) إن نافية وهي معلقة للظن عن العمل وقل من يذكر إن النافية في أدوات تعليق هذا الباب أي ما لبثتم في الدنيا أو في قبوركم (إلا) زمناً (قليلاً) وقيل بين النفختين وذلك إن العذاب يكف عن المعذبين بين النفختين وذلك أربعون عاماً ينامون فيها، فلذلك قالوا بعثنا من مرقدنا؛ وقيل أن الدنيا تحقرت في أعينهم وقلت حين رأوا يوم القيامة، لهول ما يرون فقالوا هذه المقالة. قاله قتادة.
(وقل) يا محمد صلى الله عليه وآله وسلم (لعبادي) المؤمنين (يقولوا) عند محاورتهم للمشركين الكلمة (التي هي أحسن) من غيرها من الكلام الخشن كأن يقولوا لهم إنكم من أهل النار فإنه يهيجهم إلى الشر مع أن
405
عاقبتهم مغيبة عنا وهذا كقوله سبحانه (ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن) وقوله (فقولا له قولاً ليناً) لأن المخاشنة لهم ربما تنفرهم عن الإجابة أو تؤدي إلى ما قال سبحانه (ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدواً بغير علم) وهذا كان قبل نزول آية السيف.
وقيل المعنى قل لهم يأمروا بما أمر الله به وينهوا عما نهى الله عنه، وقيل هذه الآية للمؤمنين فيما بينهم خاصة والأول أولى كما يشهد له السبب. قال ابن سيرين: يعني لا إله إلا الله. وعن ابن جريج في الآية قال: يعفون عن السيئة وعن الحسن قال: يقول له يرحمك الله، يغفر الله لك.
(إن الشيطان ينزغ بينهم) بالفساد وإلقاء العداوة والإغراء، فلعل المخاشنة معهم تفضي إلى العناد وازدياد الفساد، قال اليزيدي: نزغ بيننا أي أفسد. وقال غيره: النزغ الإغراء، قال قتادة: نزغ الشيطان تحريشه، وفي القاموس نزغه كمنعه طعن فيه واغتابه وبينهم أفسد وأغوى ووسوس.
(إن الشيطان كان للإنسان عدواً مبيناً) أي متظاهراً بالعداوة ومكاشفاً بها وهو تعليل لما قبله، وقد تقدم مثل هذا في البقرة.
406
(ربكم أعلم بكم) أي بعاقبة أمركم كما يدل عليه قوله (إن يشأ يرحمكم أو أن يشأ يعذبكم) قيل هذا خطاب للمشركين، والمعنى أن يشأ يوفقكم للإسلام فيرحمكم أو يميتكم على الشرك فيعذبكم، وقيل هو خطاب للمؤمنين، أي إن يشأ يرحمكم بأن يحفظكم من الكفار أو يرحمكم بالتوبة والإيمان، وإن يشأ يعذبكم بتسليطهم عليكم، وقيل أن هذا تفسير للكلمة التي هي أحسن.
(وما أرسلناك عليهم وكيلاً) أي ما وكلناك في منعهم من الكفر وقسرهم على الإيمان، وقيل ما جعلناك كفيلاً لهم تؤخذ بهم، قيل نسختها آية القتال.
406
وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا (٥٥) قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلَا تَحْوِيلًا (٥٦) أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا (٥٧) وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوهَا عَذَابًا شَدِيدًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا (٥٨) وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآيَاتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا وَمَا نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا (٥٩)
407
(وربك أعلم بمن في السماوات والأرض) ذاتاً وحالاً واستحقاقاً فيختار منهم لنبوته وولايته من يشاء وهو رد لاستبعاد قريش أن يكون يتيم أبي طالب نبياً، وأن يكون العراة الجوع أصحابه، قاله البيضاوي.
أقول عبر بهذه العبارة حكاية عن الكفار، وإلا فلا يجوز إطلاقها على النبي ﷺ حتى إنه أفتى بعض المالكية بقتل قائلها كما في الشفاء فكان ينبغي له تركها، وفي هذه الباء قولان أشهرهما أنها تتعلق بأعلم، ولا يلزم من ذلك تخصيص علمه بما فيهما فقط، والثاني أنها متعلقة بيعلم مقدراً، قاله الفارسي محتجاً بأنه يلزم من ذلك تخصيص علمه بما فيهما، وهو وهم لأنه لا يلزم من ذكر الشيء نفي الحكم عما عداه.
وهذا هو الذي يقول الأصوليون أنه مفهوم اللقب، ولم يقل به إلا أبو بكر الدقاق في طائفة قليلة والأصح خلافه، فالجمهور على أن اللقب لا يحتج به، قاله الكرخي وتمام هذا البحث في كتابنا حصول المأمول من علم الأصول فراجعه، وهذه الآية أعم من قوله (ربكم أعلم بكم) لأن هذا يشمل كل ما في السماوات والأرض من مخلوقاته، وذلك خاص ببني آدم أو ببعضهم.
407
وهذا كالتوطئة لقوله (ولقد فضلنا بعض النبيين على بعض) أي أن هذا التفضيل عن علم منه بمن هو أعلى رتبة وبمن هو دونه وبمن هو يستحق مزيد الخصوصية بتكثير فضائله وفواضله، أي فيخصهم بما شاء على قدر أحوالهم، قيل يعني بالفضائل النفسانية والتبري عن العلائق الجسمانية لا بكثرة الأموال والاتباع حتى داود عليه السلام فإن شرفه بما أوحى إليه من الكتاب كما يأتي لا بما أوتيه من الملك.
وقيل هو إشارة إلى تفيضل رسول الله ﷺ وقد تقدم هذا في البقرة، وقد اتخذ الله إبراهيم خليلاً وموسى كليماً وجعل عيسى كلمته وروحه، وجعل سليمان على نبينا وعليهم الصلوات والتسليمات ملكاً عظيماً، وغفر لمحمد ﷺ ما تقدم من ذنبه وما تأخر وجعله سيد ولد آدم. وفي هذه الآية دفع لما كان ينكره الكفار مما يحكيه رسول الله (- ﷺ -) من ارتفاع درجته عند ربه عز وجل.
ثم ذكر ما فضل به داود فقال (وآتينا داود زبوراً) أي كتاباً مزبوراً. قال الزجاج أي فلا تنكروا تفضيل محمد ﷺ وإعطاءه القرآن فقد أعطى الله داود زبوراً، وفيه دلالة على وجه تفضيله وأنه خاتم الأنبياء وأن أمته خير الأمم لأن ذلك مكتوب في الزبور. قال تعالى (ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون) وهم محمد ﷺ وأمته وإنما خصّ كتاب داود بالذكر لأن اليهود زعمت أنه لا نبي بعد موسى ولا كتاب بعد التوراة فكذبهم الله بقوله هذا.
وتعريف الزبور تارة وتنكيره أخرى، إما لأنه في الأصل فعول بمعنى المفعول أو مصدر بمعناه كالقبول، وإما لأن المراد إيتاء داود زبوراً من الزبر فيه ذكره صلى الله عليه وسلم.
قال قتادة: كنا نحدث أن الزبور دعاء علمه داود وتحميد وتمجيد لله عز وجل ليس فيه حلال ولا حرام ولا فرائض ولا حدود ولا أحكام.
408
وعن الربيع بن أنس قال: الزبور على الله ودعاء وتسبيح.
قلت الأمر كما قاله قتادة والربيع، فإنا وقفنا على الزبور فوجدناه خطباً يخطبها داود عليه السلام ويخاطب بها ربه عند دخوله الكنيسة وجملته مائة وخمسون خطبة كل خطبة تسمى مزموراً بفتح الميم الأولى وسكون الزاي وضم الميم الثانية وآخره راء، ففي بعض هذه الخطب يشكو داود على ربه من أعدائه ويستنصره عليهم، وفي بعضها يحمد الله ويمجده ويثني عليه بسبب ما وقع له من النصر عليهم والغلبة لهم وكان عند الخطبة يضرب بالقيثارة وهي آلة من آلات الملاهي.
وقد ذكر السيوطي في الدر المنثور هاهنا روايات عن جماعة من السلف يذكرون ألفاظاً وقفوا عليها في الزبور ليس لها كثير فائدة فقد أغنى عنها وعن غيرها ما اشتمل عليه القرآن من الواعظ والزواجر.
409
(قل ادعوا الذين زعمتم من دونه) هذا رد على طائفة من المشركين كانوا يعبدون تماثيل على أنها صور الملائكة وعلى طائفة من أهل الكتاب كانوا يقولون بإلهية عيسى ومريم وعزير فأمر الله سبحانه رسوله ﷺ بأن يقول لهم ادعوا الذين زعمتم أنهم آلهة من دون الله.
وقيل أراد بالذين زعمتم نفراً من الجن عبدهم ناس من العرب وإنما خصصت الآية بمن ذكرنا لقوله الآتي يبتغون إلى ربهم الوسيلة فإن هذا لا يليق بالجمادات روي معنى ذلك عن ابن مسعود، وقال ابن عباس: كان أهل الشرك يعبدون الملائكة والمسيح وعزيراً والشمس والقمر.
(فلا يملكون كشف الضر عنكم ولا تحويلاً) أي لا يستطيعون ذلك والمعبود الحق هو الذي يقدر على كشف الضر وعلى تحويله من حال إلى حال ومن مكان إلى مكان فوجب القطع بأن هذه التي تزعمونها آلهة ليست بآلهة.
ثم إنه سبحانه أكد عدم اقتدارهم ببيان غاية افتقارهم إلى الله في جلب المصالح ودفع المضار فقال
(أولئك الذين يدعون) قرئ بالتحتية على الخبر
409
وقرأ ابن مسعود بالفوقية على الخطاب ولا خلاف في (يبتغون) أنه بالتحتية والضمير في (إلى ربهم) يعود إلى العابدين أو المعبودين (الوسيلة) هي القربة بالطاعة والعبادة أي يتضرعون إلى الله في طلب ما يقربهم إلى ربهم.
أخرج الترمذي وابن مردويه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ " سلوا الله لي الوسيلة "، قالوا: وما الوسيلة؟ قال: " القرب من الله ثم قرأ هذه الآية " (١).
(أيهم أقرب) بالوسيلة إلى الله قاله الزجاج أي يتقرب إليه بالعمل الصالح أو يبتغي من هو أقرب إليه تعالى الوسيلة فكيف بمن دونه، وقيل أن يبتغون مضمن معنى يحرصون أي يحرصون أيهم أقرب إليه سبحانه بالطاعة والعبادة.
(ويرجون رحمته) كما يرجوها غيرهم (ويخافون عذابه) كما يخافه غيرهم فكيف يزعمون أنهم آلهة لأن الإله يكون غنياً بالغنى المطلق (إن عذاب ربك كان محذوراً) تعليل لقوله يخافون أي أن عذابه سبحانه حقيق بأن يحذره العباد من الملائكة والأنبياء وغيرهم.
ثم بينَّ سبحانه مآل الدنيا وأهلها فقال
_________
(١) الترمذي كتاب المناقب باب ١ - الإمام أحمد ٢/ ٢٦٥.
410
(وإن) نافية للاستغراق (من) أي ما من (قرية) أي قرية كانت من قرى الكفار (إلا نحن مهلكوها) قال الزجاج: أي ما من أهل قرية إلا سيهلكون إما بموت أو خراب وإما بعذاب يستأصلهم وإنما قال (قبل يوم القيامة) لأن إهلاك يوم القيامة ليس بمختص بالقرى الكافرة بل يعم كل قرية لانقضاء عمر الدنيا (أو معذبوها عذاباً شديداً) بالقتل وأنواع العقاب إذا كفروا وعصوا.
وقيل الإهلاك للصالحة والتعذيب للطالحة والأول أولى لقوله تعالى (وما كنا مهلكي القرى إلا وأهلها ظالمون) قال ابن مسعود: إذا ظهر الزنا والربا
410
في قرية أذن الله في هلاكها وقد ذكر في المدارك عن مقاتل في تفسير هذه الآية عن كتب الضحاك خراب كل قرية خاصة وبلدة معينة بنوع خاص من العذاب وقسم مخصوص من الهلاك وليس بمرفوع حتى يعتمد عليه أو يصار إليه.
(كان ذلك) المذكور من الإهلاك والتعذيب (في الكتاب) أي اللوح المحفوظ قاله إبراهيم التيمي (مسطوراً) أي مكتوباً والسطر الخط وهو في الأصل مصدر والسطر بالتحريك مثله وجمع السطر أسطاراً وجمع السطر بالسكون أسطر عن عبادة بن الصامت قال سمعت رسول الله ﷺ يقول " إن أول ما خلق الله القلم فقال له اكتب فقال: ما اكتب؟ قال: اكتب القدر وما هو كائن إلى يوم القيامة إلى الأبد " أخرجه الترمذي. (١)
_________
(١) الترمذي، كتاب القدر، باب ١٧ - تفسير سورة ٦٨.
411
(وما منعنا أن نرسل بالآيات إلا أن كذب بها الأولون) قال المفسرون: إن أهل مكة سألوا رسول الله ﷺ أن يجعل لهم الصفا ذهباً وأن ينحي عنهم جبال مكة فأتاه جبريل فقال: إن شئت كان ما سأله قومك ولكنهم إن لم يؤمنوا لم يمهلوا وإن شئت استأنيت بهم فأنزل الله هذه الآية روى معنى هذا أحمد والنسائي وغيرهما عن ابن عباس.
وأخرج البيهقي في الدلائل عن الربيع بن أنس قال: قال الناس لرسول الله صلى الله عليه وسلم: لو جئتنا بآية كما جاء بها صالح والنبيون فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم " إن شئتم دعوت الله فأنزلها عليكم فإن عصيتم هلكتم " فقالوا: لا نريدها. والمعنى وما منعنا من إرسال الآية التي سألوها إلا تكذيب الأولين فإن أرسلناها وكذب بها هؤلاء عوجلوا ولم يمهلوا كما هو سنة الله سبحانه في عباده فالمنع مستعار للترك والاستثناء مفرغ من أعم
411
الأشياء أي ما تركنا إرسالها لشيء من الأشياء إلا تكذيب الأولين فإن كذب بها هؤلاء كما كذب بها أولئك لحل بهم ما حل بهم لاشتراكهم في الكفر والعناد.
والحاصل أن المانع من إرسال الآية التي اقترحوها هو أن الاقتراح مع التكذيب موجب للهلاك الكلي وهو الاستئصال وقد عزمنا على أن نؤخر أمر من بعث إليهم محمد صلي الله عليه وسلم إلى يوم القيامة وقيل معنى الآية أن هؤلاء الكفار من قريش ونحوهم مقلدون لآبائهم فلا يؤمنون البتة كما لم يؤمن أولئك فيكون إرسال الآيات ضائعاً.
ثم أنه سبحانه استشهد على ما ذكر بقصة صالح وناقته فإنهم لما اقترحوا عليه ما اقترحوا من الناقة وصفتها التي قد بينت في محل آخر وأعطاهم الله ما أقترحوا فلم يؤمنوا استؤصلوا بالعذاب وإنما خص قوم صالح بالاستشهاد لأن آثار إهلاكهم في بلاد العرب قريبة من قريش وأمثالهم يبصرها صادرهم وواردهم فقال: (وآتينا ثمود الناقة) آية (مبصرة) أي ذات إبصار يدركها الناس بأبصارهم كقوله وجعلنا آية النهار مبصرة أو أسند إليها حال من يشاهدها مجازاً أو أنها جعلتهم ذوي إبصار من أبصره إذا جعله بصيراً (فظلموا بها) أي بتكذيبها أو فجحدوا بها أو كفروا بها (١) ظالمين ولم يكتفوا بمجرد الكفر أو الجحد فعاجلناهم بالعقوبة (وما نرسل بالآيات) المقترحة (إلا تخويفاً) من نزول العذاب المستأصل فإن لم يخافوا أنزل أو بغير المقترحة كالمعجزات وآيات القرآن إلا تخويفاً بعذاب الآخرة فإن أمر من بعثت إليهم مؤخر إلى يوم القيامة.
اختلف في تفسير الآيات على وجوه: الأول: أن المراد بها العبر والمعجزات التي جعلها الله على أيدي الرسل من دلائل الإنذار تخويفاً للمكذبين. الثاني: أنها آيات الانتقام تخويفاً من المعاصي. الثالث: تقلب الأحوال من صغر إلى شباب ثم إلى تكهل ثم إلى شيب ليعتبر الإنسان بتقلب أحواله فيخاف عاقبة أمره. الرابع: آيات القرآن. الخامس: الموت الذريع والمناسب للمقام تفسير الآيات المذكورة بالآيات المقترحة كما تقدم.
_________
(١) هذا على تقدير تضمين ظلموا معنى جحدوا أو كفروا أهـ.
412
وَإِذْ قُلْنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِالنَّاسِ وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْيَانًا كَبِيرًا (٦٠) وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ قَالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا (٦١)
ولما ذكر سبحانه الامتناع من إرسال الآيات المقترحة على رسوله ﷺ للصارف المذكور قوى قلبه بوعد النصر والغلبة فقال
413
(و) اذكر (إذ قلنا لك إن ربك أحاط بالناس) يعني أنهم في قبضته وتحت قدرته فلا سبيل لهم إلى الخروج مما يريده بهم لإحاطته بهم بعلمه وقدرته وقيل المراد بالناس أهل مكة وإحاطته بهم إهلاكه إياهم أي أن الله سيهلكهم وعبر بالماضي تنبيهاً على تحقيق وقوعه وذلك كما وقع في يوم بدر ويوم الفتح.
وقيل المراد أنه سبحانه عصمه من الناس أن يقتلوه حتى يبلغ رسالة ربه.
(وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس) لما بيّن سبحانه أن إنزال الآيات يتضمن التخويف ضم إليه ذكر آية الإسراء وهي المذكورة في صدر السورة وسماها رؤيا لأنها وقعت بالليل أو لأن الكفرة قالوا لعلها رؤيا وقد قدمنا في صدر السورة وجهاً آخر في تفسير هذه الرؤيا وكانت الفتنة ارتداد قوم كانوا أسلموا حين أخبرهم النبي ﷺ أنه أسري به.
وقيل كانت رؤيا نوم وأن النبي ﷺ رأى أنه يدخل مكة هو وأصحابه وهو يومئذ بالمدينة فسار إلى مكة قبل الأجل فرده المشركون فقال
413
ناس: قد ورد وقد كان حدثنا أنه سيدخلها فكانت رجعته فتنتهم فافتتن المسلمون لذلك فلما فتح الله مكة نزل قوله تعالى (لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق).
وقد تعقب هذا بأن هذه الآية مكية والرؤيا المذكورة كانت بالمدينة، وأجيب بأنه لا يبعد أنه ﷺ رأى ذلك بمكة ثم كان حقيقة بالمدينة وفيه تكلف.
وقال الخفاجي: بعيد لقلة جدواه، قيل أن هذه الرؤيا هي أنه رأى بني مروان ينزون على منبره نزو القردة فساءه ذلك فقيل إنما هو هي الدنيا أعطوها فسرى عنه وفيه ضعف جداً فإنه لا فتنة للناس في هذه الرؤيا إلا أن يراد بالناس رسول الله ﷺ وحده ويراد بالفتنة ما حصل من الإساءة لرسول الله ﷺ أو يحمل على أنه قد كان أخبر الناس بها فافتتنوا.
وقيل أن الله سبحانه أراه في المنام مصارع قريش حتى قال: والله لكأني أنظر إلى مصارع القوم وهو يومئ إلى الأرض ويقول هذا مصرع فلان هذا مصرع فلان فلما سمع ذلك قريش جعلوا رؤياه سخرية.
وقد تعارضت هذه الأسباب ولم يمكن الجمع بينها فالواجب المصير إلى الترجيح والراجح كثرة وصحة هو كون سبب نزول هذه الآية قصة الإسراء فتعين ذلك، قال ابن عباس: رؤيا عين أريها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ليلة المعراج وهي ليلة أسرى به إلى بيت المقدس، أخرجه البخاري، وبه قال سعيد بن جبير والحسن ومسروق وقتادة ومجاهد وعكرمة وابن جريج وغيرهم، وقد حكى ابن كثير إجماع الحجة من أهل التأويل على ذلك في الرؤيا وفي تفسير الشجرة الآتية وأنها شجرة الزقوم فلا اعتبار بغيرهم معهم.
414
(والشجرة الملعونة في القرآن) عطف على الرؤيا قيل والتقدير وما جعلنا الرؤيا التي أريناك والشجرة الملعونة في القرآن إلا فتنة للناس قال جمهور المفسرين: هي شجرة الزقوم، وكذا أخرجه أحمد والبخاري والترمذي والنسائي وغيرهم عن ابن عباس والمراد بلعنها لعن آكلها كما قال سبحانه (إن شجرة الزقوم طعام الأثيم) قال الزجاج: أن العرب تقول لكل طعام مكروه ملعون ولأن اللعن هو الإبعاد من الرحمة وهي في أصل الجحيم في أبعد مكان من الرحمة.
ومعنى الفتنة فيها أن أبا جهل وغيره قالوا: زعم صاحبكم أن نار جهنم تحرق الحجر ثم يقول تنبت فيه الشجر فأنزل الله هذه الآية (وما قدروا الله حق قدره) إذ قالوا ذلك فإنه لا يمتنع أن يجعل الله الشجرة من جنس لا تأكله النار، فوبر السمندر وهو دويبة بلاد الترك تتخذ منه مناديل إذا اتسخت طرحت في النار فذهب الوسخ وبقي المنديل سالماً لا تعمل فيه النار، وترى النعامة تبتلع الجمر فلا يضرها، وخلق في كل شجرة ناراً فلا تحرقها فجاز أن يخلق في النار شجرة لا تحرقها وروي أن أبا جهل أمر جارية فأحضرت تمراً وزبداً وقال لأصحابه: تزقموا.
وقال ابن الزبعرى: كثر الله من الزقوم في داركم فإنه التمر والزبد بلغة اليمن، وقيل هي التي تلتوي على الشجرة فتقتلها وهي شجرة الكشوث، وقيل هي الشيطان، وقيل هي اليهود، وقيل بنو أمية.
وعن عائشة أنها قالت لمروان بن الحكم: سمعت رسول الله ﷺ يقول لأبيك وجدك إنكم الشجرة الملعونة في القرآن، وفي هذا نكارة.
(ونخوّفهم) بالآيات وبنظائرها، وإيثار صيغة الاستقبال للدلالة على
415
التجدد والاستمرار (فما يزيدهم) التخويف (ألا طغياناً) متجاوزاً للحد متمادياً غاية التمادي (كبيراً) فما يفيدهم إرسال الآيات إلا الزيادة في الكفر؛ فعند ذلك نفعل بهم ما فعلناه بمن قبلهم من الكفار وهو عذاب الاستئصال ولكنا قد قضينا بتأخير العقوبة.
ولما ذكر سبحانه أن الرسول ﷺ كان في بلية عظيمة من قومه ومحنة شديدة أراد أن يبين أن جميع الأنبياء على نبينا وعليهم الصلاة والسلام كانوا كذلك حتى إن هذه عادة قديمة سنها إبليس اللعين مع أول الأنبياء، وأيضاً لما ذكر أن الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب ويرجون رحمته. ويخافون عذابه، ذكر هاهنا ما يحقق ذلك فقال:
416
(وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم) هذه القصة قد ذكرها الله سبحانه في سبعة مواضع: في البقرة والأعراف والحجر وهذه السورة والكهف وطه وص وقد تقدم تفسيرها مبسوطاً.
(فسجدوا إلا إبليس قال أأسجد لمن خلقت طيناً) نصب بنزع الخافض، أي من طين كما صرح به في الآية الأخرى (وخلقته من طين) وذلك أن آدم خلق من تراب الأرض؛ من عذبها وملحها، فمن خلق من العذب فهو سعيد ومن خلق من الملح فهو شقي.
وقال الزجاج: منصوب على الحال أو التمييز وتبعه فيه ابن عطية، ولا يظهر ذلك إذ لم يتقدم إبهام ذات ولا نسبة.
416
قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا (٦٢) قَالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاءً مَوْفُورًا (٦٣) وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا (٦٤) إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلًا (٦٥)
417
(قال أرأيتك) أي أخبرني عن (هذا الذي كرمت) أي فضلته (عليَّ) بأمري بالسجود له لم كرمته عليَّ وقد خلقتني من نار، ولم يجبه عن هذا السؤال إهمالاً له وتحقيراً حيث اعترض على مولاه وسأله بلم (لئن أخرتن إلى يوم القيامة) كلام مبتدأ أو اللام موطئة للقسم، وجوابه (لأحتنكن ذريته) أي لأستولين عليهم بالإغواء والإضلال قال الواحدي: أصله من احتناك الجراد الزرع وهو إن تستأصله بإحناكها وتفسده، وهذا هو الأصل؛ ثم سمى الاستيلاء على الشيء وأخذه كله احتناكاً.
وقيل معناه لأسوقنهم وأقودنهم حيث أردت من حنك الدابة إذا جعل الرسن في حنكها، وفي المختار حنك الفرس جعل في فيه الرسن وبابه نصر وضرب والحنك المنقار، يقال أسود مثل حنك الغراب وأسود حانك مثل حالك والحنك ما تحت الذقن من الإنسان، والمعنى الأول أنسب بمعنى هذه الآية.
وقال مجاهد: المعنى لأحتوينهم. وعن ابن زيد قال: لأضلنهم، وإنما أقسم اللعين هذا القسم على أنه سيفعل بذرية آدم ما ذكره لعلم قد سبق إليه من سمع استرقه أو أنه استنبط ذلك من قول الملائكة: أتجعل فيها من يفسد فيها، وقيل علم ذلك من طبع البشر لما ركب فيهم من الشهوات أو ظن ذلك لأنه وسوس لآدم فقبل منه ذلك ولم يجد له عزماً، كما روي عن الحسن أو قاله
417
لما ظنه من قوة نفوذ كيده في بني آدم، وأنه يجري منهم في مجاري الدم، وأنهم بحيث يروج عندهم كيده وينفق لديهم وسوسته، إلا من عصم الله كالأنبياء وصلحاء هذه الأمة وهم المرادون بقوله:
(إلا قليلاً) قيل من كل ألف واحد، وفي معنى هذا الاستثناء قوله تعالى سبحانه (إن عبادي ليس لك عليهم سلطان) ويؤيده ما ذكرناه قوله تعالى (ولقد صدق عليهم إبليس ظنه) فإنه يفيد أنه قال ما قاله هنا إعتماداً على الظن.
418
(قال) الله تعالى (اذهب) ليس من الذهاب الذي هو ضد المجيء، وإنما معناه امض لشأنك الذي اخترته خذلاناً وتخلية بينه وبين ما سوّلته نفسه، أمره بأوامر خمسة القصد بها التهديد والاستدراج لا التكليف، لأنها كلها معاص والله لا يأمر بها؛ والمعنى اذهب منظراً إلى وقت النفخة الأولى مع أن غرضه الإمهال والإنظار إلى النفخة الثانية، وغرضه بذلك طلب أن لا يموت أصلاً لأنه يعلم أنه لا موت بعد النفخة الثانية.
ثم عقب الذهاب بذكر ما جره سوء اختياره فقال (فمن تبعك) وأطاعك (منهم فإن جهنم جزاؤكم) أي إبليس ومن أطاعه، والخطاب للتغليب لأنه تقدم غائب ومخاطب في قوله (فمن تبعك منهم) فغلب المخاطب أو يكون الخطاب مراداً به من خاصة ويكون ذلك على سبيل الالتفات (جزاء موفوراً) أي وافراً مكملاً، يقال وفرته أفره وفراً، ووفر المال بنفسه يفر وفوراً فهو وافر فهو مصدر.
ثم كرر سبحانه الإمهال لإبليس اللعين فقال:
(واستفزز) أي استزعج واستعجل واستزل واستخف (من استطعت) إن تستفزه (منهم) أي من بني آدم، يقال أفزه واستفزه أي أزعجه واستخفه والمعنى استخفهم (بصوتك) داعياً لهم إلى معصية الله، وقيل هو الوسوسة والغناء واللهو واللعب والمزامير (وأجلب) قال الفراء وأبو عبيدة: من الجلبة والصياح أي صح (عليهم)
418
وقال الزجاج: أي اجمع عليهم ما تقدر عليه من مكايدك وحبائلك وأحثهم على الإغواء فالإجلاب الجمع.
وقال ابن السكيت: الإجلاب الإعانة، أي استعن عليهم وتصرف فيهم بكل ما تقدر، والأمر للتهديد كما يقال اجتهد جهدك فسترى ما ينزل بك (بخيلك) أي بركبان جندك؛ والخيل يقع على الفرسان كقوله ﷺ " يا خيل الله اركبي " ويقع على الأفراس، قاله ابن السكيت، قيل الباء للملابسة أي صح وصوّت عليهم حال كونك متلبساً ومصحوباً بجنودك.
قلت كون الباء للملابسة بعيد من حيث المعنى المراد كما تدل عليه عبارة اللغويين واللائق بها أن تكون زائدة، وقد نص الشهاب على زيادتها، وفي المختار جلب على فرسه يجلب جلباً صاح به من خلفه واستحثه للسبق وكذا أجلب عليه، وهذا يقتضي زيادة الباء، والمعنى حث وأسرع عليهم جندك خيلاً ومشاة لتدركهم وتتمكن منهم فليتأمل (ورجلك) أي مشاتك؛ يقال أن له خيلاً ورجلاً من الجن والإنس، فكل من ركب أو مشى في معصية الله فهو من جند إبليس، والرجل بسكون الجيم جمع راجل، كتاجر وتجر وصاحب وصحب.
وقال أبو زيد: يقال رجل ورجل بمعنى راجل، وقيل اسم لراجل بمعنى الماشي، وقرئ في السبعة بكسر الجيم وهو مفرد بمعنى الجمع فهو بمعنى المشاة، فالخيل والرجل كناية عن جميع مكايد الشيطان أو المراد ضرب المثل كما تقول للرجل المجد في الأمر جئتنا بخيلك ورجلك والحمل على الظاهر أولى.
(وشاركهم في الأموال والأولاد) أما المشاركة في الأموال فهي كل تصرف فيها يخالف وجه الشرع سواء كان أخذاً من غير حق أو وضعاً في غير حق كالغصب والسرقة والربا، ومن ذلك تبتيك آذان الأنعام وجعلها بحيرة وسائبة، والمشاركة في الأولاد دعوى الولد بغير سبب شرعي وتحصيله بالزنا
419
وتسميتهم بعبد اللات والعزى والإساءة في تربيتهم على وجه يألفون فيه خصال الشر وأفعال السوء.
ويدخل فيه ما قتلوا من أولادهم خشية إملاق ووأد البنات وتصيير أولادهم على الملة الكفرية التي هم عليها من الأديان الزائغة والحرف الذميمة والأفعال القبيحة ومن ذلك مشاركة الشيطان للمجامع إذا لم يسم. وعن ابن عباس أنه سأله رجل فقال: إن امرأتي استيقظت وفي فرجها شعلة نار، قال ذلك من وطء الجن.
ثم قال (وعدهم) بأنهم لا يبعثون قاله الزجاج: وقال الفراء: أي قل لهم لا جنة ولا نار، وقيل وعدهم المواعيد الكاذبة الباطلة من النصرة على من خالفهم وشفاعة الآلهة والكرامة على الله بالأنساب الشريفة والاتكال على كرامة الله وتأخير التوبة لطول الأمل وإيثار العاجل على الآجل ونحو ذلك، وهذا على طريق التهديد كقوله (اعملوا ما شئتم).
(وما يعدهم الشيطان إلا غروراً) أي باطلاً اعتراض لبيان مواعيده فإنه وقع بين الجمل التي خاطب الله بها الشيطان وفيه إظهار في مقام الإضمار والإلتفات عن الخطاب إلى الغيبة وكان مقتضى الظاهر أن يقال وما تعدهم إلا غروراً، وأصل الغرور تزيين الخطأ بما يوهم الصواب.
420
(إن عبادي ليس لك عليهم سلطان) يعني عباده المؤمنين كما في غير هذا الموضع من الكتاب العزيز من أن إضافة العباد إليه يراد بها المؤمنون لما في الإضافة من التشريف وقيل المراد الأنبياء وأهل الصلاح والفضل لأنه لا يقدر على إغوائهم وقيل المراد جميع العباد بدليل الاستثناء بقوله في غير هذا الموضع إلا من اتبعك من الغاوين والمراد بالسلطان التسلط.
(وكفى بربك) الباء زائدة في الفاعل (وكيلاً) يتوكلون عليه فهو الذي يدفع عنهم كيدك ويعصمهم من إغوائك ولهذا قال المحققون: لا حول عن معصية الله إلا بعصمته ولا قوة على طاعته إلا بقوته.
420
رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا (٦٦) وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الْإِنْسَانُ كَفُورًا (٦٧) أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلًا (٦٨) أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تَارَةً أُخْرَى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفًا مِنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُمْ بِمَا كَفَرْتُمْ ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعًا (٦٩)
421
(ربكم الذي يزجي) الإزجاء السوق والدفع والإجراء والتسيير ومنه قوله تعالى ألم تر أن الله يزجي سحاباً وهذا تعليل لكفايته وبيان لقدرته على عصمة من توكل عليه في أموره وشروع في تذكير بعض النعم عليهم حملاً لهم على الإيمان حتى لا يعبدوا غيره ولا يشركون به أحداً.
والمعنى أن الله سبحانه يسير (لكم الفلك في البحر) بالريح والفلك هنا جمع بمعنى السفائن وقد تقدم والبحر هو الماء الكثير عذباً كان أو مالحاً وقد غلب هذا الاسم على المشهور (لتبتغوا من فضله) أي من رزقه الذي تفضل به على عباده أو من الربح بالتجارة أو أنواع الأمتعة التي لا تكون عندكم ومن زائدة أو للتبعيض.
(إنه كان بكم رحيماً) تعليل ثان لما تقدم أي فهداكم إلى مصالح دنياكم
(وإذا مسَّكم الضُر) يعني خوف الغرق (في البحر ضل من تدعون) من الآلهة وذهب عن خواطركم ولم يوجد لإغاثتكم ما كنتم تدعون من دونه من صنم أو جن أو ملك أو بشر أو حجر في حوادثكم (إلا إياه) وحده فإنكم تعقدون رجاءكم برحمته وإغاثته والاستثناء متصل إن كان المراد بمن جميع الآلهة ومنقطع إن كان المراد بها غيره تعالى.
ومعنى الآية أن الكفار إنما يعتقدون في أصنامهم وسائر معبوداتهم أنها
421
نافعة لهم في غير هذه الحالة، فأما في هذه الحالة فإن كل واحد منهم يعلم بالفطرة علماً لا يقدر على مدافعته أن الأصنام ونحوها لا فعل لها.
(فلما نجاكم) من الغرق وأوصلكم (إلى البر أعرضتم) عن الإخلاص لله وتوحيده ورجعتم إلى دعاء أصنامكم والاستغاثة بها (وكان الإنسان كفوراً) أي كثير الكفران لنعمة الله وهو تعليل لقوله (أعرضتم) والمعنى أنهم عند الشدائد يتمسكون برحمة الله وفي الرخاء يعرضون عنه وترك فيه خطابهم تلطفاً بهم بحيث لم يقل وكنتم كفاراً.
ثم أنكر عليهم سبحانه سوء معاملتهم قائلاً
422
(أفأمنتم أن يخسف بكم جانب البر) الهمزة للإنكار والتوبيخ والتقريع والفاء عاطفة على مقدر والتقدير أنجوتم من الغرق فأمنتم فحملكم ذلك على الإعراض فبينَّ لهم أنه قادر على إهلاكهم في البر وأن سلموا من البحر لأن الجهات كلها له وفي قدرته براً كان أو بحراً يعني إن كان الغرق في البحر ففي جانب البر ما هو مثله وهو الخسف لأنه يغيب تحت الثرى كما أن الغرق يغيب تحت الماء.
وأصل الخسف أن تنهار الأرض بالشيء يقال: بئر خسيف إذا انهدم أصلها وعين خاسفة، أي غائرة حدقتها في الرأس وخسفت عين الماء إذا غار ماؤها وخسفت الشمس إذا غابت عن الأرض وجانب البر ناحية الأرض وسماه جانباً لأنه يصير بعد الخسف جانباً وأيضاً فإن البحر جانب من الأرض والبر جانب.
وقيل إنهم كانوا على ساحل البحر وساحله جانب البر فكانوا فيه آمنين من مخاوف البحر فحذرهم ما أمنوه من البر كما حذرهم ما خافوه من البحر وقال السمين: المعنى جانب البر الذي أنتم فيه فيلزم من خسفه هلاككم ولولا هذا التقدير لم يكن في التوعد به فائدة انتهى وجملة هذه الأفعال خمسة وكلها
422
تقرأ بالياء ولا التفات حينئذ وبالنون التفاتاً عن الغيبة إلى التكلم والقراءتان سبعيتان.
(أو يرسل عليكم حاصباً) قال أبو عبيدة والقتيبي الحصب الرمي أي ريحاً شديدة حاصبة وهي التي ترمي بالحصباء الصغار؛ وقال الزجاج: الحاصب التراب الذي فيه حصباء، فالحاصب هو ذو الحصباء كاللابن والتامر، وقيل الحاصب حجارة من السماء، قاله قتادة تحصبهم كما فعل بقوم لوط، ويقال للسحابة التي ترمي بالبرد حاصب.
(ثم لا تجدوا لكم وكيلاً) أي حافظاً ونصيراً يمنعكم من بأس الله
423
(أم) متصلة أي أيّ الأمرين كائن أو منقطعة أي بل (أمنتم أن يعيدكم فيه) أي في البحر بأن يقوي دواعيكم ويوفر حوائجكم إلى ركوبه وجاء بفي ولم يقل إلى البحر للدلالة على استقرارهم فيه (تارة) أي مرة (أخرى) وهو مصدر ويجمع على تيرة وتارات وألفها واو أو ياء.
(فيرسل عليكم قاصفاً من الريح) القاصف الريح الشديدة التي تكسر بشدة من قصف الشيء يقصفه من باب ضرب أي كسره بشدة والقصف الكسر أو هو الريح التي لها قصف أي صوت شديد من قولهم رعد قاصف أي شديد الصوت، وقال ابن عباس: الريح التي تغرق، وقال ابن عمرو: القاصف والعاصف في البحر.
(فيغرقكم) وقرئ بالفوقية على أن فاعله الريح (بما كفرتم) أي بسبب كفركم أو بالسبب الذي كفرتم به وما مصدرية أو بمعنى الذي (ثم لا تجدوا لكم علينا به تبيعاً) أي نصيراً قاله ابن عباس أو ثائراً يطالبنا بما فعلنا انتصاراً لكم قال الزجاج: لا تجدوا من يتبعنا بإنكار ما نزل بكم قال النحاس: وهو من الثأر وكذا يقال لكل من طلب بثأر أو غيره تبيع وتابع.
423
وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا (٧٠) يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولَئِكَ يَقْرَءُونَ كِتَابَهُمْ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا (٧١) وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلًا (٧٢) وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا (٧٣) وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا (٧٤) إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا (٧٥)
424
(ولقد كرمنا) هذا إجمال لذكر النعمة التي أنعم الله على (بني آدم) أي كرمناهم جميعاً وهذه الكرامة يدخل تحتها خلقهم على هذه الهيئة الحسنة المعتدلة والطهارة بعد الموت وتخصيصهم بما خصهم به من المطاعم والمشارب والملابس على وجه لا يوجد لسائر أنواع الحيوان مثله.
وحكى ابن جرير عن جماعة أن هذا التكريم هو أنهم يأكلون بأيديهم وسائر الحيوانات تأكل بالفم وكذا حكاه النحاس، وقيل ميَّزهم بالنطق والعقل والتمييز وقيل باعتدال القامة وامتدادها، وقيل بحسن التقويم والتصوير، وقيل أكرم الرجال باللحى والنساء بالذوائب.
وقال ابن جرير: أكرمهم بتسليطهم على سائر الخلق وتسخير سائر الخلق لهم وقيل بالكلام والخط والفهم وقيل بحسن تدبيرهم في أمر المعاش والمعاد وقيل بأن منهم خير أمة أخرجت للناس.
ولا مانع من حمل التكريم على جميع هذه الأشياء وأعظم خصال التكريم العقل فإنه به تسلطوا على جميع الحيوانات وميزوا بين الحسن والقبيح وتوسعوا في المطاعم والمشارب وكسبوا الأموال التي تسببوا بها إلى تحصيل أمور لا يقدر عليها سائر الحيوان، وبه قدروا على تحصيل الأبنية التي تمنعهم مما يخافون،
424
وعلى تحصيل الأكسية التي تقيهم الحر والبرد.
وقيل تكريمهم هو أن جعل محمداً ﷺ منهم. وأخرج الطبراني والبيهقي في الشعب والخطيب في تاريخه عن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله ﷺ ما من شيء أكرم على الله يوم القيامة من ابن آدم، قيل يا رسول الله ولا الملائكة قال: ولا الملائكة، الملائكة مجبورون بمنزلة الشمس والقمر.
وأخرج الطبراني عن ابن عمرو عن النبي ﷺ قال: " إن الملائكة قالت يا رب أعطيت بني آدم الدنيا يأكلون فيها ويشربون ويلبسون ونحن نسبح بحمدك ولا نأكل ولا نشرب ولا نلهو فكما جعلت لهم الدنيا فاجعل لنا الآخرة قال لا أجعل صالح ذرية من خلقت بيدي كمن قلت كن فكان ".
(وحملناهم) هذا تخصيص وتأكيد لبعض أنواع التكريم حملهم سبحانه (في البر) على الدواب كالإبل والخيل والبغال والحمير (و) في (البحر) على السفن، وقيل حملناهم فيهما حيث لم تخسف بهم ولم نغرقهم والمعنى جعلناهم قارين فيهما بواسطة أو دونها كما في السباحة في الماء (ورزقناهم من الطيبات) أي لذيذ المطاعم والشارب وسائر ما يستلذونه وينتفعون به.
وقيل المراد الزبد والتمر والحلوى وجعل رزق غيرهم مما لا يخفى، وقيل إن جميع الأغذية إما نباتية كالثمار والحبوب وإما حيوانية كاللحم والسمن واللبن ولا يتغذى الإنسان إلا بأطيب القسمين بعد الطبخ الكامل والنضج التام ولا يحصل هذا لغير الإنسان.
(وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلاً) والأقرب في الفرق بين التكريم والتفضيل أن يقال إن الله كرم الإنسان على سائر الحيوان بأمور خلقية طبعية ذاتية مثل العقل ثم عرفه بواسطته اكتساب العقائد الصحيحة والأخلاق الفاضلة فالأول هو التكريم والثاني هو التفضيل.
425
أجمل سبحانه هذا الكثير ولم يبين أنواعه فأفاد ذلك إن بني آدم فضلهم الله سبحانه على كثير من مخلوقاته لا على الكل، وقد شغل كثير من أهل العلم بما لم تكن إليه حاجة ولا تتعلق به فائدة وهو مسألة تفضيل الملائكة على الأنبياء والأنبياء على الملائكة، ومن جملة ما تمسك به مفضلو الأنبياء عليهم السلام على الملائكة هذه الآية ولا دلالة لها على المطلوب لما عرفت من إجمال الكثير وعدم تبيينه، والتعصب في هذه المسألة هو الذي حمل بعض الأشاعرة على تفسير الكثير هنا بالجميع حتى يتم له التفضيل على الملائكة وهو تعسف لا حاجة إليه.
وتمسك بعض المعتزلة بهذه الآية على تفضيل الملائكة على الأنبياء ولا دلالة لها على ذلك فإنه لم يقم دليل على أن الملائكة من القليل الخارج عن هذا الكثير ولو سلمنا ذلك فليس فيما خرج عن هذا الكثير ما يفيد أنه أفضل من بني آدم بل غاية ما فيه أنه لم يكن الإنسان مفضلاً عليه فيحتمل أن يكون مساوياً للإنسان، ويحتمل أن يكون أفضل منه ومع الاحتمال لا يتم الاستدلال، والتأكيد بقوله (تفضيلاً) يدل على عظم هذا التفضيل وأنه بمكان مكين فعلى بني آدم أن يتلقوه بالشكر ويحذروا من كفرانه.
426
(يوم) أي أذكر يوم (ندعو كل أناس بإمامهم) قال الزجاج: يعني يوم القيامة وقرئ يدعو بالتحتية، ويدعى على المجهول، والأناس فعال بضم الفاء ويجوز حذف الهمزة تخففاً على غير قياس فيبقى ناس ووزنه عال والباء للإلصاق كما تقول أدعوك باسمك.
ويجوز أن تكون متعلقة بمحذوف هو حال والتقدير ندعو كل أناس متلبسين بإمامهم أي يدعون وإمامهم فيهم نحو ركب الأمير بجنوده والأول أولى، والإمام في اللغة كل ما يؤتم به من نبي أو مقدم في الدين أو الكتاب.
وقد اختلف المفسرون في تعيين الإمام الذي يدعى كل أناس به فقال
426
ابن عباس والحسن وقتادة والضحاك: أنه كتاب كل إنسان الذي فيه عمله أي يدعى كل إنسان بكتاب عمله، ويؤيد هذا قوله (فأما من أوتي كتابه) الآية.
وقال ابن زيد: الإمام هو الكتاب المنزل عليهم فيدعى أهل التوراة بالتوراة وأهل الإنجيل بالإنجيل وأهل القرآن بالقرآن، فيقال: يا أهل التوراة يا أهل الإنجيل يا أهل القرآن.
وقال مجاهد وقتادة: إمامهم نبيهم. وعن أنس مثله فيقال: هاتوا متبعي إبراهيم هاتوا متبعي موسى هاتوا متبعي عيسى هاتوا متبعي محمد ﷺ وعليهم وبه قال الزجاج، وروي عن أبي هريرة مرفوعاً أيضاً فلينظر في سنده.
وقال عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه: المراد بالإمام إمام عصرهم فيدعى أهل كل عصر بإمامهم الذي كانوا يأتمرون بأمره وينتهون بنهيه. وقال الحسن وأبو هريرة وأبو العالية: المراد بإمامهم أعمالهم؛ فيقال مثلاً: أين المجاهدون أين الصابرون أين الصائمون أين المصلون ونحو ذلك.
وقال أبو عبيدة: المراد إمامهم صاحب مذهبهم، فيقال مثلاً: أين التابعون للعالم فلان بن فلان، وهذا من البعد بمكان، وأبعد منه ما قال محمد ابن كعب: بإمامهم بأمهاتهم، على أن إماماً جمع أم كخف وخفاف.
وأيضًا في هذا القول نظر فإن في الحديث الصحيح عن ابن عمر قال: قال رسول الله ﷺ " إذا جمع الله الأولين والآخرين يوم القيامة رفع لكل غادر لواء، فيقال هذه غدرة فلان بن فلان " أخرجه البخاري ومسلم (١).
_________
(١) مسلم ١٧٣٥ - البخاري ١٥٠٥.
427
وهذا دليل على أن الناس يدعون بأسمائهم وأسماء آبائهم، ويرد على من قال إنما يدعون بأسماء آبائهم وبأسماء أمهاتهم لأن في ذلك ستراً على آبائهم، ولذا قال الزمخشري: ومن بدع التفاسير أن الإمام جمع أم وأنهم يدعون بأمهاتهم دون آبائهم، وأن الحكمة فيه رعاية حق عيسى وإظهار شرف الحسن والحسين وأن لا يفتضح أولاد الزنا.
قال القرطبي: قيل بمذاهبهم فيدعون بما كانوا يأتمون به في الدنيا ويقلدونه، فيقال يا حنفي، يا شافعي، يا معتزلي، يا قدري، ونحو ذلك. وهذا كالأول بل أبعد منه، وقيل كل خلق حسن يظهر من الإنسان كالعلم والكرم والشجاعة أو قبيح كأضدادها، فالداعي إلى تلك الأفعال خلق باطن هو كالإمام، ذكره الرازي في تفسيره. وعن ابن عباس قال: بإمامهم إمام هدى وإمام ضلالة، وعنه أيضاً بإمام زمانهم وكتاب ربهم وسنة نبيهم وقيل بمعبودهم. وأخرج الترمذي وحسنه البزار وابن أبي حاتم وابن حبان والحاكم وصححه وابن مردويه عن أبي هريرة عن النبي ﷺ في هذه الآية أنه قال " يدعى أحدهم فيعطى كتابه بيمينه ويمد له في جسمه ستين ذراعاً ويبيض وجهه ويجعل على رأسه تاج من لؤلؤ يتلألأ فينطلق إلى أصحابه فيرونه من بعيد فيقولون: اللهم ائتنا بهذا وبارك لنا في هذا حتى يأتيهم فيقول أبشروا لكل رجل منكم مثل هذا.
وأما الكافر فيسود وجهه ويمد له جسمه ستين ذراعاً على صورة آدم ويلبس تاجاً من نار فيراه أصحابه فيقولون نعوذ بالله من هذا أو من شر هذا، اللهم لا تأتنا بهذا. قال فيأتيهم فيقولون اللهم أخره، فيقول أبعدكم الله فإن لكلا رجل منكم مثل هذا " (١) قال البزار بعد إخراجه لا يروى إلا من هذا الوجه.
_________
(١) المستدرك كتاب التفسير ٢/ ٢٤٣.
428
(فمن أوتي كتابه بيمينه) من أولئك المدعوين وهم السعداء أولو البصائر وتخصيص اليمين بالذكر للتشريف والتبشير (فأولئك) إشارة إلى من باعتبار معناه. قيل وجه الجمع الإشارة إلى أنهم مجتمعون على شأن جليل أو الإشعار بأن قراءتهم لكتبهم تكون على وجه الاجتماع لا على وجه الانفراد (يقرأون كتابهم) الذي أوتوه (ولا يظلمون فتيلاً) أي لا ينقصون من أجورهم قدر فتيل وهو القشرة التي في شق النواة أو هو عبارة عن أقل شيء، وفي النواة أمور ثلاثة: فتيل وهو الخيط الذي في الحز الكائن فيها طولاً، والقطمير وهو قشرة النواة، والنقير وهو الخيط الذي في النقرة التي في ظهرها.
ولم يذكر أصحاب الشمالي تصريحاً ولكنه ذكر سبحانه ما يدل على حالهم القبيح فقال
429
(ومن كان) من المدعوين (في هذه) الدنيا (أعمى) أي فاقد البصيرة وهو الذي يعطي كتابه بشماله بدلالة حال ما سبق من الفريق المقابل له، ولعل العدول عن ذكره بذلك العنوان مع أنه الذي يستدعيه حسن المقابلة حسبما هو الواقع في سورة الحاقة وسورة الانشقاق للإيذان بالعلة الموجبة له كما في قوله تعالى (وأما إن كان من المكذبين الضالين) الخ بعد قوله (وأما إن كان من أصحاب اليمين) وللرمز إلى علة حال الفريق الأول، وقد ذكر في أحد الجانبين المسبب وفي الآخر السبب، ودل بالمذكور في كل منهما على المتروك في الآخر تعويلاً على شهادة العقل كما في قوله (وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو وإن يردك بخير فلا راد لفضله) ذكره أبو السعود. قال النيسابوري: لا خلاف أن المراد بهذا العمى، عمى القلب لا عمى البصر.
وأما قوله (فهو في الآخرة) التي لم تعاين ولم تر (أعمى) فيحتمل أن يراد به عمى البصر كقوله (ونحشره يوم القيامة أعمى قال رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيراً) وفي هذه زيادة العقوبة، ويحتمل أن يراد عمى القلب، وقيل المراد بالآخرة عمل الآخرة فهو في عمل الآخرة أو في أمرها
429
أعمى؛ وقيل المراد من عمى عن النعم التي أنعم الله بها عليه في الدنيا فهو عن نعم الآخرة أعمى.
وقيل من كان في الدنيا التي تقبل فيها التوبة أعمى فهو في الآخرة التي لا توبة فيها أعمى.
وقيل من كان في الدنيا عن حجج الله أعمى فهو في الآخرة أعمى، وقد قيل أن قوله فهو في الآخرة أعمى أفعل تفضيل أي أشد عمى، وهذا مبني على أنه من عمى القلب إذ لا يقال ذلك في عمى العين.
قال الخليلي وسيبويه: لأنه خلقه بمنزلة اليد والرجل فلا يقال ما أعماه كما لا يقال ما أيداه.
وقال الأخفش: لا يقال فيه ذلك لأنه أكثر من ثلاثة أحرف، وقد حكى الفراء عن بعض العرب إنه سمعه يقول ما أسود شعره والبحث مستوفى في النجو (وأضل سبيلاً) من الأعمى لكونه لا يجد طريقاً إلى الهداية بخلاف الأعمى فإنه قد يهتدي في بعض الأحوال.
قال ابن عباس: من كان في الدنيا أعمى عما يرى من قدرتي من خلق السماء والأرض والجبال والبحار والناس والدواب وأشباه ذلك فهو عما وصفت له في الآخرة ولم يره أعمى وأبعد حجة.
ثم لما عدد سبحانه في الآية المتقدمة أقسام النعم على بني آدم أردفه بما يجري مجرى التحذير من الاغترار بوساوس الأشقياء فقال
430
(وإن كادوا ليفتنونك) المعنى إن الشأن أنهم قد قاربوا أن يخدعوك فاتنين، وأصل الفتنة الاختبار، ومنه فتن الصائغ الذهب ثم استعمل في كل من أزال الشيء عن حده وجهته (عن الذي أوحينا إليك) من الأوامر والنواهي والوعد والوعيد
430
(لتفتري علينا غيره) أي لتتقوّل وتكذب علينا غير الذي أوحينا إليك مما اقترحه علينا كفار قريش ولم نقله.
وذلك لأن في إعطائهم ما سألوه مخالفة لحكم القرآن وافتراء على الله سبحانه من تبديل الوعد بالوعيد وغير ذلك. وعن ابن عباس قال: أن أمية ابن خلف وأبا جهل بن هشام ورجالاً من قريش أتوا رسول الله ﷺ فقالوا: تعال فتمسح آلهتنا وندخل معك في دينك، وكان رسول الله ﷺ يشتد عليه فراق قومه ويحب إسلامهم فرقّ لهم، فأنزل الله هذه الآية، وعن جابر بن عبد الله مثله.
وعن سعيد بن جبير قال: كان رسول الله ﷺ يستلم الحجر فقالوا: لا ندعك تستلمه حتى تستلم بآلهتنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " وما عليَّ لو فعلت والله يعلم مني خلافه " فأنزل لله (وإن كادوا ليفتنونك) الآية وعن ابن شهاب نحوه.
وعن جبير بن نفير أن قريشاً أتو النبي ﷺ فقالوا: إن كنت أرسلت إلينا فاطرد الذين اتبعوك من سقاط الناس ومواليهم لنكون نحن أصحابك فركن إليهم، فأوحى الله إليه هذه الآية. وقال الجلال السيوطي وغيره إن ثقيفاً سألوه ﷺ أن يحرم واديهم وألحوا عليه فنزلت هذه الآية:
(وإذن لاتخذوك خليلاً) أي لو اتبعت أهواءهم لوالوك ووافوك وصافوك مأخوذ من الخلة بفتح الخاء.
431
(ولولا أن ثبتناك) على الحق وعصمناك من موافقتهم (لقد كدت تركن إليهم) أي لقاربت أن تميل إليهم أدنى ميل والركون هو الميل اليسير، ولهذا
431
قال (شيئاً قليلاً) لكن أدركته ﷺ العصمة فمنعته من أن يقرب من أدنى مراتب الركون إليهم فضلاً عن نفس الركون، وهذا دليل على أنه ﷺ ما همّ بإجابتهم، ذكر معناه القشيري وغيره والنظم صريح في أنه لم يركن أي باللازم ولا قارب أي بمنطوق التركيب.
وذلك لأن لولا حرف امتناع لوجود فالترتيب يدل على امتناع القرب من الركون وإذا امتنع القرب منه امتنع هو بالضرورة؛ وقيل المعنى وأن كادوا ليخبرون عنك بأنك ملت إلى قولهم فنسب فعلهم إليه مجازاً واتساعاً كما تقول للرجل كدت تقتل نفسك أي كاد الناس يقتلونك بسبب ما فعلت، ذكر معناه المهدوي، ثم توعده سبحانه في ذلك أشد الوعيد فقال:
432
(إذاً) أي لو قاربت إن تركن إليهم (لأذقناك ضعف الحياة وضعف الممات) أي مثلي ما يعذب به غيرك ممن يفعل هذا الفعل في الدارين والمعنى عذاباً ضعفاً في الحياة وعذاباً ضعفاً في الممات أي مضاعفاً ثم حذف الموصوف وأقيمت الصفة مقامه وأضيفت وذلك لأن خطأ العظيم عظيم كما قال سبحانه (يا نساء النبي من يأت منكن بفاحشة مبينة يضاعف لها العذاب ضعفين) وضعف الشيء مثلاه؛ وقد يكون الضعف النصيب كقوله لكل ضعف أي نصيب.
وقال الرازي: حاصل الكلام إنك لو مكنت خواطر الشيطان من قلبك وعقدت على الركون همك لاستحققت تضعيف العذاب عليك في الدنيا والآخرة ولصار عذابك مِثْلَي عذاب المشرك في الدنيا وَمِثْلَيْ عذابه في الآخرة (ثم لا تجدلك علينا نصيراً) ينصرك فيدفع عنك ويمنع منك هذا العذاب.
قال النيسابوري: اعلم أن القرب من الفتنة لا يدل على الوقوع فيها والتهديد على المعصية لا يدل على الإقدام عليها فلا يلزم من الآية طعن في العصمة.
432
وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا وَإِذًا لَا يَلْبَثُونَ خِلَافَكَ إِلَّا قَلِيلًا (٧٦) سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنَا وَلَا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلًا (٧٧) أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا (٧٨) وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا (٧٩) وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا (٨٠)
433
(وإن كادوا ليستفزونك من الأرض ليخرجوك منها) الكلام في هذا كالكلام في إن كادوا ليفتنونك أي وإن الشأن أنهم قاربوا أن يزعجوك بعداوتهم ومكرهم من أرض مكة لتخرج عنها ولكنه لم يقع ذلك منهم بل منعهم الله عنه حتى هاجر بأمر ربه بعد أن هموا به والاستفزاز الإزعاج وقيل إنه أطلق الإخراج على إرادة الإخراج تجوزاً، قال سعيد بن جبير قال المشركون لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كانت الأنبياء تسكن الشام فما لك وللمدينة فهم أن يشخص "، فأنزل الله وإن كادوا الآية.
(وإذن لا يلبثون خلافك) أي لا يبقون بعد إخراجك (إلا) لبثاً أو زمناً (قليلاً) حتى يهلكوا ثم يعاقبون عقوبة تستأصلهم جميعاً.
قال ابن عباس: يعني بالقليل يوم أخذهم ببدر فكان ذلك هو القليل الذي لبثوا بعده، قال ابن الأنباري خلافك بمعنى مخالفتك.
وقال قتادة همَّ أهل مكة بإخراج النبي ﷺ منها وقد فعلوا بعد ذلك فأهلكهم الله يوم بدر ولم يلبثوا بعده إلا قليلاً وكذلك كانت سنة الله في الرسل إذ فعل بهم قومهم مثل ذلك.
(سنة من قد أرسلنا قبلك من رسلنا) أي سن الله سنة، قال الفراء: أي يعذبون كسنة من قد أرسلنا، وقيل المعنى سنتنا سنة من قد أرسلنا، وقيل اتبع أنت سنة من، وقال الزجاج: يقول إن سنتنا هذه السنة فيمن أرسلنا قبلك إليهم أنهم إذا أخرجوا نبيهم من بين أظهرهم أو قتلوه أن ينزل العذاب بهم (ولا تجد لسنتنا تحويلاً) أي ما أجرى الله به العادة لم يتمكن من تحويله ولا يقدر على تغييره.
ولما ذكر سبحانه الإلهيات والمعاد والجزاء أردفها بذكر أشرف الطاعات وهي الصلاة فقال
(أقم الصلاة لدلوك الشمس) أجمع المفسرون على أن المراد بها الصلوات المفروضة، وقد اختلف العلماء في الدلوك على قولين: أحدهما: أنه زوال الشمس عن كبد السماء قاله عمر وابنه وأبو هريرة وابن عباس وجابر والحسن والشعبي وعطاء ومجاهد وقتادة والضحاك وأبو جعفر الباقر وأكثر التابعين واختاره ابن جرير.
والقول الثاني: أنه غروب الشمس قاله عليّ وابن مسعود وأبي بن كعب، وروي عن ابن عباس؛ وبه قال النخعي ومقاتل والسدي، قال الفراء: دلوك الشمس من لدن زوالها إلى غروبها، قال الأزهري: معنى الدلوك في كلام العرب الزوال ولذلك قيل للشمس إذا زالت نصف النهار دالكة وقيل لها إذا أفلت دالكة لأنها في الحالتين زائلة قال: والقول عندي أنه زوالها نصف النهار لتكون الآية جامعة للصلوات الخمس.
وأصل هذه المادة أي ما تركب من الدال واللام والكاف يدل على التحول والانتقال ومنه الدلك فإن الدلاك لا تستقر يده ومنه دلوك الشمس ففي الزوال انتقال من وسط السماء إلى ما يليه وكذا كل ما تركب من الدال واللام بقطع النظر عن آخره يدل على ذلك كدلج بالجيم من الدلجة وهي سير الليل والانتقال فيه من مكان إلى مكان آخر ودلح بالحاء المهملة إذا مشى مشياً
434
متثاقلاً ودلع بالعين المهملة إذا أخرج لسانه ودلف بالفاء إذا مشى مشي المقيد أو بالقاف لإخراج الماء من مقره ودله إذا ذهب عقله ففيه انتقال معنوي.
وقال أبو عبيد: دلوكها غروبها ودلكت براح أي غابت وبراح اسم من اسماء الشمس على وزن حذام وقطام وعن ابن عمر قال: دلوك الشمس زياغها بعد نصف النهار، وعن ابن عباس قال: إذا فاء الفيء، وعن عقبة ابن عمرو مرفوعاً قال: قال رسول الله ﷺ " أتاني جبريل لدلوك الشمس حين زالت فصلى بي الظهر " الحديث أخرجه ابن جرير وعن أبي برزة الأسلمي قال: كان رسول الله ﷺ يصلي الظهر إذا زالت الشمس ثم تلا (أقم الصلاة لدلوك الشمس).
والحاصل أن اللفظ يجمعهما لأن أصل الدلوك الميل والشمس تميل إذا زالت وإذا غربت والحمل على الزوال أولى القولين لكثرة القائلين به، واذا حملناه عليه كانت الآية جامعة لمواقيت الصلاة كلها كما ذكروا وعلى الثاني يخرج الظهر والعصر وفي هذه اللام وجهان:
أحدهما: أنها بمعنى بعد ومثله قولهم كتبته لثلاث خلون.
والثاني: أنها على بابها أي لأجل دلوك، قال الواحدي: لأنها إنما تجب بزوال الشمس وفيه ثلاثة أقوال أشهرها أنه الزوال وهو نصف النهار، والثاني أنه من الزوال إلى الغروب، والثالث أنه الغروب.
(إلى غسق الليل) أي اجتماع الظلمة قاله ابن عباس، وقال الفراء والزجاج: يقال غسق الليل وأغسق إذا أقبل بظلامه، وقيل مغيب الشفق وهذا يتناول المغرب والعشاء والجاري متعلق بأقم لانتهاء غاية الإقامة أو أقمها
435
ممدودة إليه قاله أبو البقاء وفيه نظر من حيث أنه قدر المتعلق كوناً مقيداً إلا أن يريد تفسير المعنى لا الإعراب.
والغسق دخول أول الليل قاله ابن شميل وقيل هو سواد الليل وظلمته وأصله من السيلان يقال غسقت العين أي سأل دمعها فكأن الظلمة تنصب على العالم وتسيل عليهم ويقال غسق الجرح امتلأ دماً فكأن الظلمة ملأت الوجود، والمراد في قوله من شر غاسق القمر إذا كسف واسود.
وقيل الليل والغساق بالتخفيف والتشديد ما يسيل من صديد أهل النار ويقال غسق الليل واغسق وظلم وأظلم ودجا وأدجى وغبش وأغبش نقله الفراء قاله السمين وقد استدل بهذه الغاية من قال إن صلاة الظهر يتمادى وقتها من الزوال إلى الغروب روى ذلك عن الأوزاعي وأبي حنيفة وجوزه مالك والشافعي في حال الضرورة.
وقد وردت الأحاديث الصحيحة المتواترة عن رسول الله ﷺ في تعيين أوقات الصلوات فيجب حمل مجمل هذه الآية على ما بينته السنة فلا نطيل بذكر ذلك، ومعنى الآية أقم الصلاة من وقت دلوك الشمس إلى غسق الليل فيدخل فيها الظهر والعصر وصلاتا غسق الليل وهما العشاآن.
ثم قال (وقرآن الفجر) عطف على الصلاة أي أقمه قاله الفراء، وقال الأخفش وتبعه أبو البقاء وعليك قرآن الفجر وأصول البصريين تأبى هذا لأن أسماء الأفعال لا تعمل مضمرة، وقيل الزم قرآن الفجر، قال المفسرون: المراد به صلاة الصبح عبر عنها ببعض أركانها.
قال الزجاج: وفي هذه فائدة عظيمة تدل عليه أن الصلاة لا تكون إلا بقراءة حتى سميت الصلاة قرآنا وهو حجة على الأصم حيث زعم إن القراءة ليست بركن وقد دلت الأحاديث الصحيحة على أنه لا صلاة إلا بفاتحة
436
الكتاب، وفي بعض الأحاديث الخارجة من مخرج حسن وقرآن معها وورد ما يدل على وجوب الفاتحة في كل ركعة أو سميت صلاة الصبح قرآنًا لطول قراءتها، وقد حرره الشوكاني في مؤلفاته تحريراً مجوداً.
ثم علَّل سبحانه ذلك بقوله (إن قرآن الفجر كان مشهوداً) أي تشهده وتحضره ملائكة الليل وملائكة النهار، كما ورد ذلك في الحديث الصحيح الآتي وبذلك قال جمهور المفسرين فينزل هؤلاء ويصعد هؤلاء فهو في آخر ديوان الليل وأول ديوان النهار.
وقال الشهاب أي الكاتبون والحفظة أو يشهده الكثير من المصلين في العادة والأول أولى.
وقد أخرج أحمد والترمذي وصححه والنسائي وابن ماجة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في الشعب عن أبي هريرة عن النبي ﷺ في الآية قال: " تشهده ملائكة الليل وملائكة النهار تجتمع فيها " (١) وهو في الصحيحين عنه مرفوعاً بلفظ يجتمع ملائكة الليل وملائكة النهار في صلاة الفجر (٢) ثم يقول أبو هريرة إقرأوا إن شئتم إن قرآن الفجر كان مشهوداً، وفي الباب أحاديث.
قال الرازي: وهذا دليل قاطع قوي على أن التغليس أفضل من التنوير لأن الإنسان إذا شرع فيها من أول الصبح ففي ذلك الوقت ظلمة باقية فتكون ملائكة الليل حاضرين ثم إذا امتدت الصلاة بسبب ترتيل القراءة وتكثيرها زالت الظلمة وظهر الضوء وحضرت ملائكة النهار أما إذا ابتدأ بهذه الصلاة في وقت الأسفار فهناك لم يبق أحد من ملائكة الليل فلا يحصل المعنى المذكور في الآية، فثبت أن قوله يعني هذه الآية دليل على أن الصلاة في أول وقتها أفضل انتهى.
_________
(١) الترمذي تفسير سورة ١٧/ ٥ - الإمام أحمد ٢/ ٤٧٤.
(٢) مسلم ٦٣٢ - البخاري ٣٥٩.
437
(ومن الليل فتهجد به) في (من) وجهان أحدهما: أنها متعلقة بتهجد أي تهجد بالقرآن بعض الليل. والثاني: أنها متعلقة بمحذوف أي قم بعد نومك نومة من الليل أو اسهر من الليل ذكرهما الخوفي ومن للتبعيض أي قم بعض الليل والضمير المجرور راجع إلى القرآن من حيث هو لا يقيد إضافته إلى الفجر ففي الكلام استخدام، وقيل التقدير بذلك الوقت والباء بمعنى في، قاله السمين ولو قال من بمعنى في لكان أوضح وما قيل من أنه منتصب على الإغراء والتقدير وعليك بعض الليل فبعيد جداً.
والتهجد مأخوذ من الهجود، وقال أبو عبيدة وابن الأعرابي: هو من الأضداد لأنه يقال هجد الرجل إذا نام وهجد إذا سهر؛ وقال الأزهري: الهجود في الأصل هو النوم بالليل ولكن التفعل فيه لأجل التجنب ومنه تأثم وتحرج أي تجنب الإثم والحرج فالمتهجد من تجنب الهجود فقام بالليل، وروي عنه أيضا المتهجد القائم إلى الصلاة من الليل هكذا حكى عنه الواحدي فقيد التهجد بالقيام من النوم وهكذا قال مجاهد وعلقمة والأسود فقالوا: التهجد بعد النوم، قال الليث: يقال تهجد إذا استيقظ للصلاة.
(نافلة لك) معناها في اللغة الزيادة على الأصل، فالمعنى إنها للنبي ﷺ نافلة زائدة على الفرائض، والأمر بالتهجد وإن كان ظاهره الوجوب لكن التصريح بكونه نافلة قرينة صارفة للأمر.
وقيل المراد بالنافلة هنا إنها فريضة زائدة على الفرائض الخمس في حقه صلى الله عليه وسلم، ويدفع ذلك التصريح بلفظ النافلة، وقيل كانت صلاة الليل فريضة في حقه ﷺ ثم نسخ الوجوب فصار قيام الليل تطوعاً وعلى هذا يحمل ما ورد في الحديث أنها عليه فريضة ولأمته تطوع.
قال الواحدي: إن صلاة الليل كانت زيادة للنبي ﷺ خاصة لرفع الدرجات لا للكفارات، لأنه قد غفر له من ذنبه ما تقدم وما تأخر،
438
وليس لنا بنافلة لكثرة ذنوبنا إنما نعمل لكفارتها. قال: وهو قول جميع المفسرين.
والحاصل أن الخطاب في هذه الآية وإن كان خاصاً بالنبي ﷺ في قوله أقم الصلاة فالأمر له أمر لأمته، فهو شرع عام، ومن ذلك الترغيب في صلاة الليل فإنه يعم جميع الأمة والتصريح بكونه نافلة يدل على عدم الوجوب، فالتهجد من الليل مندوب إليه ومشروع لكل مكلف.
وأخرج البيهقي في سننه والطبراني في الأوسط عن عائشة أن النبي ﷺ قال: " ثلاث هن علي فرائض وهن لكم سنة: الوتر والسواك وقيام الليل ".
ثم وعد سبحانه نبيه ﷺ على إقامة الفرائض والنوافل فقال (عسى أن يبعثك ربك) قد ذكرنا في مواضع أن عسى من الكريم أطماع واجب الوقوع (مقاماً محموداً) نصب على الظرفية أي يبعثك فيقيمك في الآخرة مقاماً محموداً، ويجوز أن يكون حالاً بتقدير مضاف أي ذا مقام محمود، ومعنى كون المقام محموداً أنه يحمده كل من علم به.
وقد اختلف في تعيين هذا المقام على أقوال:
الأول: أنه المقام الذي يقومه النبي ﷺ للشفاعة يوم القيامة للناس ليريحهم ربهم سبحانه مما هم فيه وهذا القول هو الذي دلت عليه الأدلة الصحيحة في تفسير الآية، وحكاه ابن جرير عن أكثر أهل التأويل. قال الواحدي: وإجماع المفسرين على أن المقام المحمود هو مقام الشفاعة في فصل القضاء.
القول الثاني: إن المقام المحمود إعطاء للنبي ﷺ لواء
439
الحمد يوم القيامة، ويمكن أن يقال أن هذا لا ينافي القول الأول إذ لا منافاة بين كونه قائماً مقام الشفاعة وبيده لواء الحمد.
الثالث: إن المقام المحمود هو أن الله سبحانه يجلس محمداً ﷺ معه على كرسيه، حكاه ابن جرير عن فرقة منهم مجاهد، وقد ورد في ذلك حديث وحكى النقاش عن أبي داود السجستاني أنه قال: من أنكر هذا الحديث فهو عندنا متهم، ما زال أهل العلم يتحدثون بهذا الحديث.
قال ابن عبد البر: مجاهد وإن كان أحد الأئمة بالتأويل فإن له قولين مهجورين عند أهل العلم: أحدهما: هذا والثاني: في تأويل وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة قال معناه ينتظر الثواب وليس من النظر. انتهى.
وعلى كل حال فهذا القول غير مناف للقول الأول لإمكان أن يقعده الله سبحانه هذا المقعد ويشفع تلك الشفاعة.
وأخرج الديلمي عن ابن عمر قال: قال رسول الله ﷺ " يجلسني معه على السرير " وينبغي الكشف عن إسناد هذا الحديث. وقال ابن مسعود يقعده على العرش، رواه أبو وائل. وعن عبد الله بن سلام قال: يقعد على الكرسي، والأحاديث في الشفاعة كثيرة وأول من أنكرها عمرو بن عبيد وهو مبتدع باتفاق أهل السنة.
الرابع: أنه مطلق في كل مقام يجلب الحمد من أنواع الكرامات ذكره صاحب الكشاف، والمقتدون به في التفسير، ويجاب عنه بأن الأحاديث الصحيحة الواردة في تعيين هذا المقام المحمود متواترة فالمصير إليها متعين، وليس في الآية عموم في اللفظ حتى يقال الاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، ومعنى قوله مطلق في كل ما يجلب الحمد أنه عام في كل ما هو كذلك، ولكنه يعبر عن العام بلفظ المطلق كما ذكره في ذبح البقرة، ولهذا قال هنا.
440
وقيل المراد الشفاعة وهي نوع واحد مما يتناوله، يعني لفظ المقام. والفرق بين العموم البدلي والعموم الشمولي معروف فلا نطيل بذكره.
وأخرج أحمد والترمذي وحسنه والبيهقي وغيرهم عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وسئل عنه، يعني المقام، فقال " هو المقام المحمود الذي أشفع فيه لأمتي ". (١) وأخرج أحمد وابن جرير وابن أبي حاتم وابن حبان والحاكم وصححه وابن مردويه عن كعب بن مالك أن رسول الله ﷺ قال: " يبعث الناس يوم القيامة فأكون أنا وأمتي على تل ويكسوني ربي حلة خضراء ثم يؤذن لي فأقول ما شاء الله أن أقول فذلك المقام المحمود " (٢) والأحاديث في هذا الباب كثيرة جداً ثابتة في الصحيحين وغيرهما فلا نطيل بذكرها، ومن رام الاستيفاء نظر في أحاديث الشفاعة في الأمهات وغيرها.
_________
(١) الإمام أحمد ٢/ ٤٤١ - ٢/ ٥٢٨.
(٢) المستدرك كتاب التفسير ٢/ ٣٦٣.
441
(وقل رب أدخلني مدخل صدق وأخرجني مخرج صدق) قرئ بضم الميمين وبفتحهما وهما مصدران بمعنى الإدخال والإخراج فهما كالمجرى والمرسى والإضافة إلى الصدق لأجل المبالغة نحو حاتم الجواد، أي إدخالاً يستأهل أن يسمى إدخالاً ولا يرى فيه ما يكره. وقال الواحدي: إضافتهما إلى الصدق مدح لهما وكل شيء أضفته إلى الصدق فهو مدح.
وقد اختلف المفسرون في معنى الآية، فقيل نزلت حين أمر ﷺ بالهجرة يريد إدخال المدينة والإخراج من مكة، واختاره ابن جرير، وهذا يقتضي أن الآية مكيّة مع أنها آخر الثمان المدنيات، لكن البيضاوي مشى على أن السورة كلها مكيّة. وحكى الاستثناء الذي ذكره الجلال بقيل، وعليه فلا إشكال ومن المعلوم أن إدخاله المدينة بعد إخراجه من مكة وإنما قدمه عليه إهتماماً بشأنه ولأنه هو المقصود.
441
وقيل المعنى أمتني إماتة صدق وابعثني يوم القيامة مبعث صدق، وقيل المعنى أدخلني فيما أمرتني به وأخرجني مما نهيتني عنه. وقيل إدخاله موضع الأمن وإخراجه من بين المشركين، وهو كالقول الأول، وقيل المراد إدخال عز وإخراج نصر.
وقيل أدخلني في الأمر الذي كرّمتني به من النبوة مدخل صدق وأخرجني منه إذا أمتني مخرج صدق؛ وقيل أدخلني القبر عند الموت مدخل صدق وأخرجني منه عند البعث مخرج صدق، وقيل أدخلني حيثما أدخلتني بالصدق وأخرجني بالصدق، وقيل الآية عامة في كل ما تتناوله من الأمور فهي دعاء ومعناها رب أصلح لي وردي في كل الأمور وصدي عنها.
(واجعل لي من لدنك سلطاناً نصيراً) أي حجة ظاهرة قاهرة تنصرني بها على جميع ما خالفني، وقيل اجعل لي من لدنك ملكاً وعزاً قوياً أقيم به دينك وكأنه صلى الله عليه وآله وسلم علم أنه لا طاقة له بهذا الأمر إلا بسلطان فسأل سلطاناً نصيراً، وبه قال الحسن وقتادة واختاره ابن جرير.
وقال ابن كثير: هو الأرجح لأنه لا بد مع الحق من قهر لمن عاداه وناوأه ولهذا يقول تعالى (لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس وليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب).
وفي الأثر أن الله ليزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن أي ليمنع بالسلطان عن ارتكاب الفواحش والآثام ما لا يمنع كثيراً من الناس بالقرآن وما فيه من الوعيد الشديد والتهديد الأكيد وهذا هو الواقع انتهى.
وقيل وعده الله لينزعن ملك فارس والروم وغيرهما فيجعله له وأجاب دعاءه فقال له والله يعصمك من الناس؛ وقال: ليظهره على الدين كله، وقال: وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض. الآية وقد كان كما وعد ولله الحمد.
442
وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا (٨١) وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا (٨٢) وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ كَانَ يَئُوسًا (٨٣) قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلًا (٨٤) وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا (٨٥) وَلَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنَا وَكِيلًا (٨٦)
443
(وقل) عند، دخولك مكة يوم الفتح (جاء الحق وزهق الباطل) المراد بالحق الإسلام، وقيل القرآن، وقيل الجهاد، ولا مانع من حمل الآية على جميع ذلك وعلى ما هو حق كائناً ما كان والمراد بالباطل الشرك وقيل الشيطان ولا يبعد أن يحمل على كل ما يقابل الحق من غير فرق بين باطل وباطل، ومعنى زهق بطل واضمحل ومنه زهوق النفس وهو بطلانها وخروجها، ومنه قوله تعالى (وتزهق أنفسهم وهم كافرون).
قال الشاعر:
ألمت فحيَّت ثم قامت فودعت فلما تولت كادت النفس تزهق
(إن الباطل كان زهوقاً) أي مضمحلاً زائلاً يعني أن هذا شأنه فهو يبطل ولا يثبت، والحق ثابت دائماً، وذلك أن الباطل وإن كان له دولة وصولة في وقت من الأوقات فهو سريع الذهاب والزوال.
وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن ابن مسعود قال: دخل النبي ﷺ مكة يوم الفتح وحول البيت ستون وثلاثمائة نصب فجعل يطعنها بعود في يده ويقول جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقاً وجاء الحق وما
443
يبدئ الباطل وما يعيد حتى سقطت. (١) وفي الباب أحاديث.
_________
(١) مسلم ١٧٨١ - البخاري ١٢٢٢.
444
(وننزل من القرآن ما هو شفاء) من لابتداء الغاية قاله أبو حيان ويصح أن تكون لبيان الجنس، قاله الزمخشري وابن عطية وأبو البقاء فإن جميع القرآن شفاء وقدم على المبين للاهتمام وأبو حيان ينكر جوازه لأن التي للبيان لا بدّ أن يتقدمها ما تبينه لا أن تتقدم هي عليه فالمختار هو الأول، وقيل للتبعيض وأنكره بعض المفسرين لاستلزامه أن بعضه لا شفاء فيه ورده ابن عطية بأن المبعض هو إنزاله.
واختلف أهل العلم في معنى كونه شفاء على قولين: الأول: أنه شفاء للقلوب بزوال الجهل عنها وذهاب الريب وكشف الغطاء عن الأمور الدالة على الله سبحانه. الثاني: أنه شفاء عن الأمراض الظاهرة بالرقي والتعوذ ونحو ذلك والتبرك بقراءته يدفع كثيراً من الإدواء والأسقام يدل عليه ما روي عن النبي ﷺ في فاتحة الكتاب وما يدريك أنها رقية، ولا مانع من حمل الشفاء على معنيين من باب عموم المجاز أو من باب حمل المشترك على معنييه.
(ورحمة للمؤمنين) لما فيه من العلوم النافعة المشتملة على ما فيه صلاح الدنيا والدين، ولما في تلاوته وتدبره من الأجر العظيم الذي يكون سبباً لرحمة الله سبحانه ومغفرته ورضوانه، ومثل هذه الآية قوله تعالى (قل هو للذين آمنوا هدى وشفاء والذين لا يؤمنون في آذانهم وقر وهو عليهم عمى).
والحاصل أن القرآن كتاب مشتمل على دلائل المذهب الحق وإبطال المذاهب الفاسدة فهو شفاء لأمراض القلوب وتكفير للذنوب وتفريج للكروب وتطهير للعيوب، وفي الحديث " من لم يستشف بالقرآن فلا شفاه الله ". ثم لما ذكر سبحانه ما في القرآن من المنفعة لعباده المؤمنين ذكر ما فيه لمن
444
عداهم من المضرة عليهم فقال (ولا يزيد) القرآن كله أو كل بعض منه
(الظالمين) الذين وضعوا التكذيب موضع التصديق والشك والارتياب موضع
اليقين والاطمئنان (إلا خساراً) أي هلاكاً لأن سماع القرآن يغيظهم ويحنقهم
ويدعوهم إلى زيادة ارتكاب القبائح تمرداً وعناداً، فعند ذلك يهلكون، وقيل
الخسار النقص كقوله (فزادتهم رجساً إلى رجسهم) قال قتادة: لم يجالس القرآن
أحد إلا قام عنه بزيادة أو نقصان.
ثم نبه سبحانه على قبح بعض ما جبل عليه الإنسان من الطبائع المذمومة فقال
445
(وإذا أنعمنا على) جنس (الإنسان) بالنعم التي توجب الشكر كالصحة والسعة والغنى والفراغ (أعرض) عن الشكر لله والذكر له (ونأى بجانبه) أي ثنى عطفه متبختراً والنأي البعد والباء للتعدية أو للمصاحبة وهو تأكيد للإعراض لأن الإعراض عن الشيء هو أن يوليه عرض وجهه أي ناحية والنأي بالجانب أن يلوي عنه عطفه ويوليه ظهره.
ولا يبعد أن يراد بالإعراض هنا الإعراض عن الدعاء والابتهال الذي كان يفعله عند نزول البلوى والمحنة به ويراد بالنأي بجانبه التكبر والبعد بنفسه عن القيام بحقوق النعم وقرئ ناء مثل باع على القلب قال مجاهد نأى تباعد.
(وإذا مسه الشر) من شدة أو مرض أو فقر أو نازلة من النوازل (كان يؤوساً) شديد اليأس قنوطاً من رحمة الله، هذا وصف للجنس باعتبار بعض أفراده ممن هو على هذه الصفة، والمعنى أنه إن فاز بالمطلوب الدنيوي وظفر بالمقصود نسي المعبود، وإن فاته شيء من ذلك وتأخرت الإجابة استولى عليه الأسف وغلب عليه القنوط ويئس وكلتا الخصلتين قبيحة مذمومة.
ولا ينافي ما في هذه الآية قوله تعالى (وإذا مسه الشر فذو دعاء عريض) ونظائره فإن ذلك شأن بعض آخر منهم غير البعض المذكور في هذه الآية، ولا يبعد
445
أن يقال لا منافاة بين الآيتين فقد يكون مع شدة يأسه وكثرة قنوطه كثير الدعاء بلسانه.
446
(قل كل) أي كل أحد (يعمل على شاكلته) التي جبل عليها قال الفراء: الشاكلة الطريقة وقيل الناحية قاله ابن عباس، وقيل الطبيعة وقيل الدين وقيل النية، قاله الحسن وبه فسرها البخاري في كتاب التفسير، وقيل الجبلة، وأحسن ما قيل فيها ما قاله الزمخشري أنها مذهبه الذي يشاكل حاله في الهدى والضلالة من قولهم طريق ذو شواكل، وهي الطرق التي تشعبت منه وهي مأخوذة من الشكل وهو المثل والنظير: يقال لست على شكلي ولا على شاكلتي.
وأما الشكل بالكسر فهو الهيئة يقال جارية حسنة الشكل أو الشاكلة الروح والمعنى أن كل إنسان يعمل على ما يشاكل أخلاقه التي ألفها أو على حسب جوهر نفسه، فإن كانت نفسه شريفة طاهرة صدرت عنه أفعال جميلة وأخلاق زكية، وإن كانت نفسه كدرة خبيثة صدرت عنه أفعال خبيثة فاسدة رديئة وهذا ذمّ للكافر ومدح للمؤمن.
(فربكم أعلم بمن هو أهدى) لأنه الخالق لكم العالم بما جبلتم عليه من الطبائع وما تباينتم فيه من الطرائق فهو الذي يميز بين المؤمن الذي لا يعرض عند النعمة ولا ييأس عند المحنة وبين الكافر الذي شأنه البطر للنعم والقنوط عند النقم وأهدى من اهتدى على حذف الزوائد أو من هدى المتعدي أو من هدى القاصر بمعنى اهتدى و (سبيلاً) تمييز أي أوضح طريقاً وأحسن مذهباً وأشد اتباعاً للحق.
ثم لما انجر الكلام إلى ذكر الإنسان وما جبل عليه، ذكر سبحانه سؤال السائلين لرسول الله ﷺ عن الروح فقال
(ويسألونك عن الروح) قد اختلف الناس في الروح المسؤول عنه، فقيل هو الروح المدبر للبدن الذي تكون به حياته وبهذا قال أكثر المفسرين.
446
قال الفراء: الروح الذي يعيش به الإنسان لم يخبر الله به سبحانه أحداً من خلقه ولم يعط علمه أحداً من عباده.
وقيل الروح المسؤول عنه جبريل، وقيل عيسى وقيل القرآن وقيل ملك من الملائكة عظيم الخلق وقيل خلق كخلق بني آدم، وقال بعضهم هو الدم، ألا ترى الإنسان إذا مات لا يفوت منه شيء إلا الدم، وقال قوم: هو نفس الحيوان بدليل أنه يموت باحتباس النفس، وقال قوم: هو عرض، وقال قوم: هو جسم لطيف يحيا به الإنسان، وقيل الروح معنى اجتمع فيه النور والطيب والعلم والعلوّ والبقاء، والظاهر هو القول الأول.
وسيأتي ذكر سبب نزول هذه الآية وبيان السائلين لرسول الله ﷺ عن الروح، ثم الظاهر أن السؤال عن حقيقة الروح لأن معرفة حقيقة الشيء أهم وأقدم من معرفة حال من أحواله.
ثم أمره سبحانه أن يجيب عن السائلين له عن الروح فقال (قل الروح) أظهر في مقام الإضمار إظهاراً لكمال الاعتناء بشأنه (من أمر ربي) من بيانية والأمر بمعنى الشأن والإضافة للاختصاص العلمي لا الإيجادي لاشتراك الكل فيه وفيها من تشريف المضاف ما لا يخفى كما في الإضافة الثانية من تشريف المضاف إليه أي هو من جنس ما استأثر الله بعلمه من الأشياء التي لم يعلم بها عباده.
وأبهم أمر الروح وهو مبهم في التوراة أيضاً، وقيل المعنى من وحيه وكلامه لا من كلام البشر، وفي هذه الآية ما يزجر الخائضين في شأن الروح المتكلفين لبيان ماهيته وإيضاح حقيقته أبلغ زجر ويردعهم أعظم ردع، وقد أطالوا المقال في هذا البحث بما لا يتسع له المقام وغالبه بل كله من الفضول الذي لا يأتي بنفع في دين ولا دنيا.
وقد حكى بعض المحققين أن أقوال المختلفين في الروح بلغت إلى ثمانية
447
عشر مائة قول، فانظر إلى هذا الفضول الفارع والتعب العاطل عن النفع بعد أن علموا أن الله سبحانه قد استأثر بعلمه، ولم يطلع عليه أنبياءه ولا أذن لهم بالسؤال عنه ولا البحث على حقيقته فضلاً عن أممهم المقتدين بهم.
فيالله العجب حيث تبلغ أقوال أهل الفضول والقانعين بالمعقول من المنقول إلى هذا الحد الذي لم تبلغه ولا بعضه في غير هذه المسألة مما أذن الله بالكلام فيه ولم يستأثر بعلمه، وقد عجزت الأوائل عن إدراك ماهيته بعد إنفاق الأعمار الطويلة على الخوض فيه.
والحكمة في ذلك تعجيز العقل عن إدراك معرفة مخلوق مجاور له ليدل على أنه عن إدراك خالقه أعجز، ولذا رد ما قيل في حده قديماً وحديثاً.
ثم ختم سبحانه هذه الآية بقوله (وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً) الخطاب عام لجميع الخلق ومن جملتهم النبي صلى الله عليه وسلم، وقيل هو خطاب لليهود خاصة، والأول أولى، ويدخل فيه اليهود دخولاً أولياً.
والمعنى أن علمكم الذي علمكم الله ليس إلا المقدار القليل بالنسبة إلى علم الخالق سبحانه وأن أوتيتم حظاً من العلم وافراً، بل علم الأنبياء عليهم السلام ليس هو بالنسبة إلى علم الله سبحانه إلا كما يأخذ الطائر في منقاره من البحر كما في حديث موسى والخضر عليهما السلام.
وعبارة الخازن أن القلة والكثرة تدوران مع الإضافة، فوصف الشيء بالقلة بالنسبة إلى ما فوقه وبالكثرة إلى ما تحته. أهـ.
أخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن ابن مسعود قال: كنت أمشي مع النبي ﷺ في خرب المدينة وهو متكئ على عسيب فمر بقوم من اليهود
448
فقال بعضهم لبعض: اسألوه عن الروح، فقال بعضهم: لا تسألوه، فقالوا: يا محمد ما الروح؟ فما زال متكئاً على العسيب فظننت أنه يوحى إليه فقال (ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي) الآية. (١)
وأخرج أحمد والترمذي وصححه النسائي وابن المنذر وابن حبان في العظمة والحاكم وصححه وابن مردويه وأبو نعيم والبيهقي عن ابن عباس قال: قالت قريش لليهود: أعطونا شيئاً نسأل هذا الرجل، قالوا: سلوه عن الروح، فنزلت هذه الآية، قالوا: أوتينا علماً كثيراً وأوتينا التوراة ومن أوتي التوراة فقد أوتي خيراً كثيراً، فأنزل الله (قل لو كان البحر مداداً لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي) الآية، وفي الباب أحاديث وآثار.
ولما بيَّن سبحانه ما آتاهم من العلم إلا قليلاً بين أنه لو شاء أن يأخذ منهم هذا القليل لفعل فقال
_________
(١) مسلم ٢٧٩٤ - البخاري ١٠٦.
449
(ولئن) اللام هي الموطئة الدالة على القسم المقدر، أي والله لئن (شئنا لنذهبن بالذي أوحينا إليك) وبقيت كما كنت ما تدري ما الكتاب وهذا جواب القسم وجواب الشرط محذوف، أي ذهبنا به على القاعدة في اجتماع الشرط والقسم من حذف جواب المتأخر استغناء عنه بجواب المتقدم. قال الزجاج: أي لو شئنا لمحوناه من القلوب ومن الكتب حتى لا يوجد له أثر، انتهى. وعبر عن القرآن بالموصول تفخيماً لشأنه (ثم لا تجد لك به) بالقرآن (علينا وكيلاً) أي من يتوكل علينا في رد شيء منه بعد أن ذهبنا به ويتعهد ويلتزم استرداده بعد رفعه كما يلتزم الوكيل ذلك فيما يتوكل عليه.
449
إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّ فَضْلَهُ كَانَ عَلَيْكَ كَبِيرًا (٨٧) قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا (٨٨) وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا (٨٩) وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا (٩٠) أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهَارَ خِلَالَهَا تَفْجِيرًا (٩١) أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا (٩٢)
450
(إلا رحمة من ربك) الاستثناء فيه قولان: أحدهما: أنه متصل لأن الرحمة تندرج في قوله وكيلاً، يعني إلا رحمة فإنها إن نالتك فلعلها تسترده عليك.
والثاني: أنه منقطع فمعناه لكن لا نشاء ذلك رحمة من ربك أو لكن رحمة ربك تركته غير مذهوب به، أو لكن أبقيناه إلى قرب قيام الساعة فعند ذلك يرفع، ويقدر إلا بـ (لكن) عند البصريين وببل عند الكوفيين.
وقد أخرج سعيد بن منصور والحاكم وصححه والطبراني والبيهقي وغيرهم عن ابن مسعود قال: إن هذا القرآن سيرفع، قيل كيف يرفع، وقد أثبته الله في قلوبنا وأثبتناه في المصاحف، قال: يسري عليه في ليلة واحدة فلا تترك منه آية في قلب ولا مصحف إلا رفعت فتصبحون وليس فيكم منه شيء، ثم قرأ هذه الآية وقد روي هذا عنه، وعن جمع من الصحابة موقوفاً ومرفوعاً.
(إن فضله كان عليك كبيراً) حيث جعلك رسولاً وأنزل عليك الكتاب وألقى عليك القرآن والعلم وصيرك سيد ولد آدم وختم بك النبيين وأعطاك المقام المحمود وغير ذلك مما أنعم الله به عليك.
ثم احتج سبحانه على المشركين بإعجاز القرآن فقال
(قل لئن) اللام لام
450
قسم وفيه ما تقدم (اجتمعت الإنس والجن) وكذا الملائكة، وإنما لم يذكروا لأن التحدي ليس معهم والتصدي لمعارضته لا يليق بشأنهم.
(على أن يأتوا بمثل هذا القرآن) المنزل من عند الله الموصوف بالصفات الجليلة من كمال الفصاحة ونهاية البلاغة وحسن النظم وجزالة اللفظ (لا يأتون بمثله) أظهر في مقام الإضمار ولم يكتف بأن يقول لا يأتون به؛ على أن الضمير راجع إلى المثل المذكور لدفع توهم أن يكون له مثل معين، وللإشعار بأن المراد نفي المثل على أي صفة كان، وهو جواب قسم محذوف أو جواب للشرط واعتذروا عن رفعه بأن الشرط ماض والأول أظهر.
ثم أوضح سبحانه عجزهم عن المعارضة سواء كان المتصدي لها أحدهم على الانفراد أو كان المتصدي لها المجموع بالمظاهرة فقال (ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً) أي عوناً ونصيراً في تحقيق ما يتوخونه من الإتيان بمثله، فثبت أنهم لا يأتون بمثله على كل حال مفروض، ولو في هذه الحال المنافية لعدم الإتيان به فضلاً عن غيرها، وفيه حسم لأطماعهم الفارغة في روم تبديل بعض آياته ببعض وقد تقدم وجه الإعجاز في أوائل سورة البقرة.
وفي هذه الآية رد لما قاله الكفار (لو نشاء لقلنا مثل هذا) وإكذاب لهم. عن ابن عباس قال: أتى رسول الله ﷺ محمود بن شحان ونعيمان ابن آصي وبحري بن عمرو وسلام بن مشكم، فقالوا: أخبرنا يا محمد بهذا الذي جئت به أحق من عند الله، فإنا لا نراه متناسقاً كما تناسق التوراة، فقال لهم " والله إنكم لتعرفونه أنه من عند الله "، قالوا: إنا نجيئك بمثل ما تأتي به، فأنزل الله تعالى هذه الآية.
فالقرآن كلام الله في أعلى طبقات البلاغة والفصاحة لا يشبه كلام الخلق وهو
451
غير مخلوق، ولو كان مخلوقاً لأتوا بمثله، وهو معجز في النظم والتأليف والإخبار عن الغيوب.
ثم بينَّ سبحانه أن الكفار مع عجزهم عن المعارضة استمروا على كفرهم وعدم إيمانهم فقال
452
(ولقد صرفنا للناس في هذا القرآن من كل مثل) أي رددنا القول فيه بوجوه مختلفة زيادة في التقرير والبيان، وكررنا بكل مثل يوجب الاعتبار من الآيات والعبر والترغيب والترهيب والأوامر والنواهي، وأقاصيص الأولين والجنة والنار والقيامة، وقيل من كل معنى هو كالمثل في غرابته وحسنه ووقوعه موقعاً في الأنفس والأول أولى.
(فأبى أكثر الناس) يعني من أهل مكة (إلا كفورًا) فإنهم جحدوا وأنكروا كون القرآن كلام الله بعد قيام الحجة عليهم واقترحوا من الآيات ما ليس لهم وأظهر في مقام الإضمار حيث قال فأبى أكثر الناس تأكيداً وتوضيحاً ولما كان أبى ومؤلاً بالنفي أي ما قبل أو لم يرض صح الاستثناء منه.
(وقالوا) أي قال رؤساء مكة كعتبة وشيبة ابني ربيعة وأبي سفيان والنضر بن الحرث قول المبهوت المحجوج المتحير، ولما تبينَّ إعجاز القرآن وانضمت إليه معجزات أخر وبيِّنات ولزمتهم الحجة وغلبوا أخذوا يتعلَّلون باقتراح الآيات وقالوا (لن نؤمن لك) ثم علقوا نفي إيمانهم بغاية طلبوها فقالوا (حتى تفجر لنا من الأرض) أي مكة (ينبوعاً) عيناً غزيرة من شأنها أن تنبع بالماء، قرئ تفجر مخففاً ومشدداً وهما سبعيتان، ولم يختلفوا في فتفجر الأنهار أنها مشدّدة باتفاق السبعة.
ووجه ذلك أبو حاتم بأن الأولى بعدها ينبوع وهو واحد والثانية بعدها الأنهار وهي جمع، وأجيب عنه بأن الينبوع وإن كان واحداً في اللفظ فالمراد به الجمع، فإن الينبوع العيون التي لا ينضب ماؤها ويرد بأن الينبوع عين الماء والجمع ينابيع، وإنما يقال للعين ينبوع إذا كانت غزيرة من شأنها النبوع من غير انقطاع وهو يفعول
452
من نبع الماء والياء زائدة كيعبوب من عب الماء. قال مجاهد: ينبوعاً عيوناً، وعن السدي الينبوع هو النهر الذي يجري من العين.
453
(أو تكون لك جنة) أي بستان تستر أشجاره أرضه. وقال ابن عباس: جنة ضيعة، والمعنى هب إنك لا تفجر الأنهار لأجلنا ففجرها من أجلك بأن تكون لك جنة (من نخيل وعنب فتفجر الأنهار) أي تجريها بقوة (خلالها) أي وسط الجنة (تفجيراً) كثيراً وتشقيقاً.
(أو تسقط السماء كما زعمت علينا كسفاً) أي قطعاً قاله ابن عباس، قرأ مجاهد أو تسقط مسند إلى السماء، وقرأ من عداه أو تسقط على الخطاب أي أو تسقط أنت يا محمد السماء، والكسف بفتح السين جمع كسفة، والكسفة القطعة من الشيء، قاله الجوهري، يقال أعطني كسفة من ثوبك والجمع كسف وكسف، أي إسقاطاً مماثلة كما زعمت، يعنون بذلك قول الله سبحانه (إن نشأ نخسف بهم الأرض أو نسقط عليهم كسفاً من السماء).
قال أبو علي: الكسف بالسكون الشيء المقطوع كالطحن للمطحون واشتقاقه على ما قال من كسفت الثوب كسفاً إذا قطعته، وقال الزجاج: من كسفت الشيء إذا غطيته كأنه قيل أو تسقطها طبقاً طبقاً علينا (أو تأتي بالله والملائكة قبيلاً) أي حال كونهما مقابلين بفتح الباء ومرئيين لنا فالقبيل بمعنى المقابل كالعشير بمعنى العاشر.
اختلف المفسرون في معنى (قبيلاً) فقيل معناه معاينة قاله قتادة وابن جريج واختاره أبو علي الفارسي فقال: إذا حملته على العاينة كان القبيل مصدراً كالنكير والنذير وقيل معناه كفيلاً بما تدعيه قاله الضحاك، وقيل شهيداً قاله مقاتل وقيل هو جمع القبيلة أي تأتي بأصناف الملائكة قبيلة قبيلة قاله مجاهد وعطاء.
453
أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا (٩٣) وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلَّا أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولًا (٩٤) قُلْ لَوْ كَانَ فِي الْأَرْضِ مَلَائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكًا رَسُولًا (٩٥) قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا (٩٦)
454
(أو يكون لك بيت من زخرف) أي من ذهب قاله ابن عباس وبه قرأ ابن مسعود وأصله الزينة والمزخرف المزين وزخارف الماء طرائقه وقال الزجاج: هو الزينة فرجع إلى أصل معنى الزخرف وهو بعيد لأنه يصير المعنى أو يكون لك بيت من زينة.
(أو ترقى في السماء) أي حتى تصعد في معارجها والرقي الصعود يقال: رقيت في السلم إذا صعدت من باب تعب وارتقيت مثله ويقال رقي بكسر القاف يرقى بالفتح رقياً على فعول والأصل رقوى وبالكسر في المحسوسات كما هنا وأما في المعاني فهو من باب سعى يقال رقى في الخير والشر، يرقى في الماضي والمضارع، وأما رقى المريض بمعنى عوّذه فهو من باب رمى يقال رقاه يرقيه إذا عوذه وتلا عليه شيئاً من القرآن.
(ولن نؤمن لرقيك) أي لأجل رقيك أو به فاللام للتعليل أو بمعنى الباء وهو مصدر نحو مضى يمضي مضياً وهوى يهوي هوياً (حتى تنزل علينا كتاباً) يصدقك ويدل على نبوتك (نقرؤه) جميعاً أو يقرؤه كل واحد منا، وقيل معناه كتاباً من الله إلى كل واحد منا كما في قوله (بل يريد كل امرئ منهم أن يؤتى صحفاً منشرة).
قال مجاهد: يعنون كتاباً من رب العالمين إلى فلان بن فلان تصبح عند كل رجل صحيفة عند رأسه موضوعة يقرؤها فأمر سبحانه رسوله صلى الله
454
عليه وآله وسلم أن يأتي بما يفيد التعجب من قولهم والتنزيه للرب سبحانه عن اقتراحاتهم القبيحة فقال:
(قل) وفي قراءة سبعية قال (سبحان ربي) تعجب عما تقدم أو عن أن يتحكم عليه أو يشاركه أحد في القدرة (هل كنت إلا بشراً) من البشر لا ملكاً حتى أصعد السماء (رسولاً) كسائر الرسل مأموراً من الله سبحانه بإبلاغكم، فهل سمعتم أيها المقترحون لهذه الأمور أن بشراً قدر على شيء منها، وإن أردتم أني أطلب ذلك من الله سبحانه حتى يظهرها على يدي فالرسول إذا أتى بمعجزة واحدة كفاه ذلك لأن بها يتبين صدقه ولا ضرورة إلى طلب الزيادة وأنا عبد مأمور ليس لي أن أتحكم على ربي بما ليس بضروري ولا دعت إليه حاجة، ولو لزمتني الإجابة لكل متعنت لاقترح كل معاند في كل وقت اقتراحات وطلب لنفسه إظهار آيات فتعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً وتنزه عن تعنتاتهم وتقدس عن اقتراحاتهم.
وقد أعطى النبي ﷺ من الآيات والمعجزات ما يغني عن هذا كله مثل القرآن وانشقاق القمر ونبع الماء من بين أصابعه وما أشبهها وليست بدون ما اقترحوه، بل أعظم منه ولكن لم يكن قصدهم طلب الدليل بل كانوا متعنتين ثم حكى سبحانه شبهة أخرى قد تكرر في الكتاب العزيز التعرض لإيرادها وردها في غير موضع فقال:
455
(وما منع الناس أن يؤمنوا) المراد الناس على العموم، وقيل أهل مكة على الخصوص أي ما منعهم الإيمان بالقرآن ونبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم (إذ جاءهم الهدى) أي الوحي من الله سبحانه على رسوله ﷺ وبين ذلك لهم وأرشدهم إليه أي ما منعهم وقت مجيء الهدى أن يؤمنوا بالقرآن والنبوة (إلا أن قالوا) أي ما منعهم إلا قولهم (أبعث الله بشراً رسولاً) الهمزة للإنكار منهم أن يكون الرسول من جنس البشر.
والمعنى أن هذا الاعتقاد الشامل لهم هو الذي منعهم عن الإيمان
455
بالكتاب وبالرسول وعبر عنه بالقول للإشعار بأنه ليس إلا مجرد قول قالوه بأفواههم.
ثم أمر سبحانه رسوله ﷺ أن يجيب عن شبهتهم هذه فقال
456
(قل لو كان) أي لو وجد وثبت (في الأرض) بدل من فيها من البشر (ملائكة يمشون) على الأقدام كما يمشي الإنس (مطمئنين) مستقرين فيها ساكنين بها، قال الزجاج مستوطنين في الأرض أي لا يظعنون عنها إلى السماء ومعنى الطمأنينة السكون فالمراد هاهنا المقام والاستيطان فإنه يقال سكن البلد فلان إذا أقام فيها وإن كان ماشياً متقلباً في حاجاته.
(لنزلنا عليهم من السماء ملكاً رسولاً) حتى يكون من جنسهم وممكنهم مخاطبته والفهم عنه، وفيه إعلام من الله سبحانه بأن الرسل ينبغي أن يكونوا من جنس المرسل إليهم فكأنه اعتبر في تنزيل الرسول من جنس الملائكة أمرين:
الأول: كون سكان الأرض ملائكة.
والثاني: كونهم ماشين على الأقدام غير قادرين على الطيران بأجنحتهم إلى السماء إذ لو كانوا قادرين على ذلك لطاروا إليها وسمعوا من أهلها ما يجب معرفته وسماعه فلا تكون في بعثة الملائكة إليهم فائدة.
ثم ختم الكلام بما يجري مجرى التهديد فقال
(قل) لهم يا محمد من جهتك (كفى بالله) وحده (شهيداً) على إبلاغي إليكم ما أمرني به من أمور الرسالة وقال (بيني وبينكم) ولم يقل بيننا تحقيقاً للمفارقة الكلية، وقيل إن إظهار المعجزة على وفق دعوى النبي شهادة من الله له على الصدق ثم علل كونه سبحانه شهيداً كافياً بقوله (إنه كان بعباده خبيراً) أي عالماً بجميع أحوالهم محيطاً بظواهرها وبواطنها (بصيراً) بما كان منها وما يكون وفيه تهديد لهم وتسلية له صلى الله عليه وسلم.
456
وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِهِ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا (٩٧) ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا وَقَالُوا أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا (٩٨) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلًا لَا رَيْبَ فِيهِ فَأَبَى الظَّالِمُونَ إِلَّا كُفُورًا (٩٩)
ثم بين سبحانه أن الإقرار والإنكار مستندان إلى مشيئته فقال
457
(ومن يهد الله) أي من يرد الله هدايته (فهو المهتد) إلى الحق أو إلى كل مطلوب وأفرد الضمير حملاً على لفظ من (ومن يضلل) أي يرد إضلاله (فلن يجد) الخطاب للنبي ﷺ أو لكل من يصلح له (لهم) جمع الضمير حملاً على معنى من (أولياء) ينصرونهم ويهدونهم إلى الحق الذي أضلهم الله عنه أو إلى طريق النجاة (من دونه) أي من دون الله سبحانه.
(ونحشرهم يوم القيامة) ماشين (على وجوههم) هذا الحشر فيه وجهان للمفسرين:
الأول: أنه عبارة عن الإسراع بهم إلى جهنم من قول العرب قد مر القوم على وجوههم إذا أسرعوا.
الثاني: أنهم يسحبون يوم القيامة على وجوههم حقيقة كما يفعل في الدنيا بمن يبالغ في إهانته وتعذيبه، وهذا هو الصحيح لقوله تعالى (يوم يسحبون في النار على وجوههم).
ولما صح في السنة فقد أخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن أنس قال:
457
قيل يا رسول الله كيف يحشر الناس على وجوههم قال: " الذي أمشاهم على أرجلهم قادر أن يمشيهم على وجوههم " (١).
وأخرج أبو داود والترمذي وحسنه البيهقي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم " يحشر الناس يوم القيامة على ثلاثة أصناف: صنف مشاة وصنف ركباناً وصنف على وجوههم "، قيل يا رسول الله كيف يمشون على وجوههم، قال: " إن الذي أمشاهم على أقدامهم قادر على أن يمشيهم على وجوههم أما إنهم يتقون بوجوهم كل حدب وشوك " (٢) والحدب ما ارتفع من الأرض وفي الباب أحاديث.
(عمياً وبكماً وصماً) النصب على الحال والأبكم الذي لا ينطق، والأصم الذي لا يسمع أي لا يبصرون ولا ينطقون ولا يسمعون، وهذه هيئة يبعثون عليها في أقبح صورة وأشنع منظر، قد جمع الله لهم بين عمى البصر وعدم النطق وعدم السمع مع كونهم مسحوبين على وجوههم، وقد أثبت الله تعالى لهم الرؤية والكلام والسمع في قوله (ورأى المجرمون النار) وقوله (دعوا هنالك ثبوراً) وقوله (سمعوا لها تغيظاً وزفيراً).
فالمعنى هنا عمياً لا يبصرون ما يسرهم بُكماً لا ينطقون بحجة صماً لا يسمعون ما يلذ مسامعهم وقيل هذا حين يقال لهم اخسؤوا فيها ولا تكلمون وقيل يحشرون على ما وصفهم الله ثم تعاد إليهم هذه الأشياء بعد ذلك ثم من وراء ذلك (مأواهم) أي المكان الذي يأوون إليه (جهنم) مستأنفة أو حال من الضمير، قال ابن عباس: يعني أنهم وقودها.
(كلما خبت) أي سكن لهبها بأن أكلت جلودهم ولحومهم، يقال خبت النار تخبو خبواً إذا خمدت وسكن لهبها زاد السمين فإذا ضعف جمرها خمدت
_________
(١) مسلم ٢٨٠٦ بلفظ: " أليس الذي أمشاه على رجليه في الدنيا، قادراً على أن يمشيه على وجهه يوم القيامة " البخاري ٢٠٢٨.
(٢) الترمذي تفسير سورة ١٧/ ٣ - الإمام أحمد ٢/ ٣٥٤.
458
فإذا طفئت بالجملة قيل همدت، وكلاهما من باب قعد، قال ابن قتيبة: معنى (زدناهم سعيراً) تسعراً وهو التلهب والتوقد أي فتعود ملتهبة ومتسعرة فإنهم لما كذبوا بالإعادة بعد الإفناء جزاهم الله بأن لا يزالوا على الإعادة والإفناء.
وقد قيل أن في خبو النار تخفيفاً لعذاب أهلها، فكيف يجمع بينه وبين قوله (لا يخفف عنهم العذاب) وأجيب بأن المراد بعدم التخفيف أنه لا يتخلل زمان محسوس بين الخبو والتسعر، وقيل ضعفت وهدأت من غير أن يوجد نقصان في إيلامهم، لأن الله تعالى قال (لا يفتر عنهم) وقيل معناه أرادت أن تخبو، وقيل معناه كلما نضجت جلودهم واحترقت أعيدوا إلى ما كانوا عليه وزيد في سعير النار لتحرقهم.
459
(ذلك) العذاب المذكور (جزاؤهم) الذي أوجبه الله لهم واستحقوه عنده (بأنهم كفروا بآياتنا) أي بسبب كفرهم بها فلم يصدقوا بالآيات التنزيلية ولا تفكروا في الآيات التكوينية (وقالوا أئذا كنا عظاماً ورفاتاً) الهمزة للإنكار وقد تقدم تفسير هذه الآية في هذه السورة (أئنا لمبعوثون) أي مخلوقون (خلقاً جديداً) مصدر من غير لفظة أو حال أي مخلوقين مستأنفين فجاء سبحانه بحجة تدفعهم عن الإنكار وتردهم عن الجحود فقال:
(أولم يروا أن الله الذي خلق السماوات والأرض قادر على أن يخلق مثلهم) أي من هو قادر على خلقها في عظمها وشدتها فهو على إعادة ما هو أدون منه في الصغر والضعف أقدر، وقيل المراد أنه قادر على إفنائهم وإيجاد غيرهم من الإنس قال الكرخي: أراد بمثلهم إياهم فعبر عن خلقهم بلفظ المثل كقول المتكلمين الإعادة مثل الابتداء وذلك أن مثل الشيء مساوٍ له في حاله فجاز أن يعبر عن الشيء نفسه.
يقال مثلك لا يفعل كذا أي أنت لا تفعله، أو أنه تعالى قادر على أن
459
يخلق عبيداً يوحدون ويقرون بكمال حكمته وقدرته، ويتركون هذه الشبهات الفاسدة وعلى هذا فهو كقوله (يأت بخلق) (ويستبدل قوماً غيركم) وعلى القول الأول يكون الخلق بمعنى الإعادة وعلى هذا القول هو على حقيقته، والمعنى قد علموا بدليل العقل أن من قدر على خلق السماوات والأرض فهو قادر على خلق أمثالهم لأنهم ليسوا بأشد خلقاً منها كما قال أأنتم أشد خلقاً أم السماء. قال الواحدي: والأول أشبه.
(وجعل لهم) أي لبعثهم (أجلاً) أي وقتاً محققاً لعذابهم (لا ريب) أي غير مرتاب (فيه) وهو الموت أو القيامة، ويحتمل أن يكون الواو للاستئناف. وقيل في الكلام تقديم وتأخير، أي أولم يروا أن الله الذي خلق السماوات والأرض وجعل لهم أجلاً لا ريب فيه قادر على أن يخلق مثلهم (فأبى الظالمون إلا كفروا) أي أبى المشركون إلا جحوداً للأجل وعناداً مع وضوح الدليل.
وفيه وضع الظاهر موضع المضمر للحكم عليهم بالظلم ومجاوزة الحد، ثم لما وقع من هؤلاء الكفار طلب إجراء العيون والأنهار في أراضيهم لتتسع معايشهم بين الله سبحانه أنهم لا يقنعون بل يبقون على بخلهم وشحهم فقال:
460
قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذًا لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفَاقِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ قَتُورًا (١٠٠) وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ فَاسْأَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِذْ جَاءَهُمْ فَقَالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا مُوسَى مَسْحُورًا (١٠١) قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا (١٠٢) فَأَرَادَ أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ مِنَ الْأَرْضِ فَأَغْرَقْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ جَمِيعًا (١٠٣) وَقُلْنَا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ اسْكُنُوا الْأَرْضَ فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا (١٠٤)
461
(قل) لهم شرحاً لحالهم التي يدعون خلافها (لو أنتم تملكون) تقديره لو تملكون أنتم لأن (لو) تدخل على الأفعال دون الأسماء فلا بد من فعل بعدها، وهذا هو الوجه الذي يقتضيه علم الإعراب، وأما ما يقتضيه علم البيان فهو أن في حذف الفعل الذي ارتفع به أنتم وإبراز الكلام في صورة المبتدأ والخبر دلالة على أنهم هم المختصون بالشح المتبالغ فلا ينافي قوله تعالى (لو أن لهم ما في الأرض جميعاً) الآية. لأن ذلك في الآخرة.
(خزائن رحمة ربي) هي خزائن الأرزاق (إذاً لأمسكتم) أي لبخلتم وحبستم في دار الدنيا.
قال الزجاج: أعلمهم الله أنهم لو ملكوا خزائن الأرزاق والنعم لأمسكوا شحاً وبخلاً (خشية الإنفاق) أي خشية أن ينفقوا فيفتقروا. قال أهل اللغة: أنفق وأصرم وأعدم وأقتر بمعنى قل ماله، فيكون المعنى لأمسكتم خشية قلة المال وخوف نفاده وذهابه بالإنفاق (وكان الإنسان قتوراً) أي بخيلاً ممسكاً مضيقاً عليه، يقال قتر على عياله يقتر قتراً وقتوراً ضيق عليهم من النفقة.
وقيل معنى قتوراً قليل المال، والظاهر أن المراد المبالغة في وصفه بالشح
461
لأن الإنسان ليس بقليل المال على العموم بل بعضهم كثير المال إلا أن يراد أن جميع النوع الإنساني قليل المال بالنسبة إلى خزائن الله وما عنده، وقد اختلف في هذه الآية على قولين: أحدهما: أنها نزلت في المشركين خاصة وبه قال الحسن. والثاني: إنها عامة، وهو قول الجمهور وحكاه الماوردي.
462
(ولقد آتينا موسى تسع آيات بيِّنات) أي علامات واضحات دالة على نبوته، قيل ووجه اتصال هذه الآية بما قبلها أن المعجزات المذكورة كأنها مساوية لتلك الأمور التي اقترحها كفار قريش بل أقوى منها فليس عدم الاستجابة لما طلبوه من الآيات إلا لعدم المصلحة في استئصالهم إن لم يؤمنوا بها.
قال أكثر المفسرين: الآيات التسع هي الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم والعصار واليد والسنين ونقص الثمرات، وجعل الحسن مكان السنين ونقص الثمرات البحر والجبل.
وقال محمد بن كعب القرظي: هي الخمس التي في الأعراف والبحر والعصا والحجر والطمس على أموالهم، وقد تقدم الكلام على هذه الآيات مستوفى.
وعن ابن عباس: في تسع آيات مثل ما ذكرناه عن أكثر المفسرين، وعنه قال: يده وعصاه ولسانه والبحر والطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم.
وعن صفوان بن عسال: أن يهوديين قال أحدهما لصاحبه انطلق بنا إلى هذا النبي نسأله، فأتياه فسألاه عن هذه الآية فقال: " لا تشركوا بالله شيئاً ولا تزنوا ولا تسرقوا ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا تسرقوا ولا تسحروا ولا تمشوا ببريء إلى السلطان فيقتله، ولا تأكلوا الربا ولا تقذفوا
462
محصنة، أو قال: لا تفروا من الزحف ". شك شعبة وعليكم يا يهود خاصة أن لا تعتدوا في السبت، فقبلا يديه ورجليه وقالا نشهد إنك نبي الله. قال " فما يمنعكما أن تسلما؟ قالا: إن داود دعا الله أن لا يزال في ذريته نبي، وإنا نخاف إن أسلمنا تقتلنا اليهود " (١) أخرجه أحمد والترمذي وصححه والنسائي وابن ماجة والطبراني وابن قانع والبيهقي وغيرهم.
وعلى هذا المراد بالآيات الأحكام العامة الثابتة في كل الشرائع، سميت بذلك لأنها تدل على حال من يتعاطى متعلقاتها في الآخرة من السعادة والشقاوة، وقوله عليكم يا يهود الخ كلام مستأنف زائد على الجواب، ولذلك غير فيه سياق الكلام (فاسأل) يا محمد ﷺ (بني إسرائيل إذ جاءهم) أي حين جاءهم موسى، وقرئ فسأل أي سأل موسى فرعون أن يخلي بني إسرائيل ويطلق سبيلهم ويرسلهم معه، وعلى الأول السؤال سؤال استشهاد لزيد الطمأنينة والإيقان لأن الأدلة إذا تظافرت كان ذلك أقوى، والمسؤولون مؤمنو بني إسرائيل كعبد الله بن سلام وأصحابه.
(فقال له فرعون) الفاء هي الفصيحة أي فأظهر موسى عند فرعون ما آتيناه من الآيات البيِّنات وبلغه ما أرسل به فقال له فرعون (إني لأظنك يا موسى مسحوراً) المسحور هو الذي سحر فخولط عقله. وقيل هو المخدوع، وقيل هو المطبوب. وقال أبو عبيدة والفراء: هو بمعنى الساحر فوضع المفعول موضع الفاعل
_________
(١) النسائي كتاب التحريم باب ١٨ - الترمذي تفسير سورة ١٧/ ١٥ الإمام أحمد ٤/ ٢٤٠.
463
(قال) موسى (لقد علمت) يا فرعون (ما أنزل) أي أوجد (هؤلاء) يعني الآيات التسع التي أظهرها؛ وقرئ علمت بضم التاء أيضاً على أنها لموسى، ووجه الأولى أن فرعون كان عالماً بذلك كما قال سبحانه وتعالى (وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلماً وعلواً).
قال أبو عبيدة: المأخوذ به عندنا فتح التاء وهو الأصح للمعنى، لأن
463
موسى لا يقول علمت أنا وهو الداعي. وروي نحو هذا عن الزجاج، ووجه الثانية أن فرعون لم يعلم ذلك وإنما علمه موسى.
(إلا رب السماوات والأرض بصائر) أي بيِّنات يبصر بها ودلالات يستدل بها على قدرته ووحدانيته (وإني لأظنك يا فرعون مثبوراً) الظن هنا بمعنى اليقين والثبور الهلاك والخسران أي مخسوراً؛ وقيل مسحوراً وقيل مطبوعاً على الشر وقيل المثبور الملعون؛ وقيل ناقص العقل، وقيل هو الممنوع المصروف من الخير يقال ما ثبرك عن كذا أي ما منعك منه. حكاه أهل اللغة.
464
(فأراد) فرعون (أن يستفزهم من الأرض) أي يخرج بني إسرائيل وموسى ويزعجهم من أرض مصر بإبعادهم عنها. وقيل أراد أن يقتلهم ويستأصلهم وعلى هذا يراد بالأرض مطلق الأرض، وفي القاموس فز عنى، عدل، وفز فلاناً عن موضعه أزعجه واستفزه استخفه وأخرجه من داره وأفززته أفزعته (فأغرقناه ومن معه جميعاً) أي فعكسنا عليه فكره فوقع عليه وعليهم الهلاك بالغرق ولم يبق منهم أحد ونجى موسى وقومه.
(وقلنا من بعده) أي من بعد إغراقه ومن معه جميعاً (لبني إسرائيل اسكنوا الأرض) أي أرض الشام ومصر التي أراد أن يستفزهم منها (فإذا جاء وعد) الدار (الآخرة) هي القيامة أو الكرّة الآخرة أو الساعة الآخرة وهي النفخة الثانية الموعود بها، وقيل أراد بوعد الآخرة نزول عيسى من السماء (جئنا بكم لفيفاً) أي جميعاً إلى موقف القيامة.
قال الجوهري: اللفيف ما اجتمع من الناس من قبائل شتى، يقال جاء القوم بلفهم ولفيفهم، أي بأخلاطهم، فالمراد هنا جئنا بكم من قبوركم مختلطين من كل موضع قد اختلط المؤمن بالكافر والسعيد بالشقي، قال الأصمعي: اللفيف جمع وليس له واحد وهو مثل الجمع.
464
وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (١٠٥) وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا (١٠٦) قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لَا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا (١٠٧) وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا (١٠٨) وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا (١٠٩) قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا (١١٠) وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا (١١١)
465
(وبالحق أنزلناه وبالحق نزل) الضمير يرجع إلى القرآن، والمعنى وأوحيناه متلبساً بالحق وأنه نزل وفيه الحق، وقيل المعنى ومع الحق أنزلناه، كقولهم ركب الأمير بسيفه أي مع سيفه؛ وبالحق نزل أي بمحمد صلى الله عليه وسلم؛ كما تقول نزلت بزيد. وقال أبو علي الفارسي: الباء في الموضعين بمعنى مع.
وقيل المعنى وبالحق قدرنا أن ينزل وكذلك نزل، أو ما أنزلناه من السماء إلا محفوظاً بالرصد من الملائكة وما نزل على الرسول ﷺ إلا محفوظاً من تخليط الشياطين والتقديم في الموضعين للتخصيص. وفي الشهاب الحق فيهما ضد الباطل، لكن المراد بالأول الحكمة الإلهية المقتضية لإنزاله وبالثاني ما يشتمل عليه من العقائد والأحكام ونحوها.
(وما أرسلناك إلا مبشراً) لمن أطاع بالجنة (ونذيراً) مخوفاً لمن عصى بالنار والقصر إضافي أي لا هادياً فإن الهدى هدى الله.
(وقرآناً) منصوب بفعل مقدر أي وأتيناك قرآناً، وقيل نصب بفعل مضمر يفسره قوله (فرقناه) بالتخفيف على قراءة الجمهور، أي بيناه وأوضحناه أو فرقنا فيه بين الحق والباطل.
465
وقال الزجاج: فرقه الله في التنزيل ليفهمه الناس. قال أبو عبيدة: التخفيف أعجب إليّ لأن تفسيره بيّناه، وليس للتشديد معنى إلا أنه نزل متفرقاً، ويؤيده ما رواه ثعلب عن ابن الأعرابي أنه قال: فرقت مخففاً بين الكلام وفرقت مشدداً بين الأجسام.
وعن ابن عباس فرقناه مثقلاً وقال: نزل القرآن إلى السماء في ليلة القدر من رمضان جملة واحدة فكان المشركون إذا أحدثوا شيئاً أحدث الله لهم جواباً ففرقه الله في ثلاث وعشرين سنة. وقد روى نحو هذا عنه بطرق، وعن فرقناه فصلناه على مكث بأمد. قال؛ في الجمل وبالتشديد قرأ على وجماعة من الصحابة وغيرهم وفيه وجهان: أحدهما: أن التضعيف للتكثير، أي فرقنا آياته بين أمر ونهي وحكم وأحكام ومواعظ وأمثال وقصص وأخبار ماضية ومستقبلة. والثاني: أنه دال على التفريق والتنجيم. انتهى.
ثم ذكر سبحانه العلة لقوله فرقناه فقال (لتقرأه على الناس على مكث) أي على تطاول في المدة شيئاً بعد شيء على القراءة الثانية أو أنزلناه آية آية وسورة سورة، ومعناه على القراءة الأولى على ترسل وتمهل وتؤدة في التلاوة؛ فإن ذلك أقرب إلى الفهم وأسهل للحفظ، وقد اتفق القراء على ضم الميم في مكث إلا ابن محيصن فإنه قرأ بفتح الميم.
(ونزلناه تنزيلاً) التأكيد بالمصدر للمبالغة والمعنى أنزلناه منجماً مفرقاً في ثلاث وعشرين سنة على حسب الحوادث لما في ذلك من المصلحة، ولو أخذوا بجميع الفرائض في وقت واحد لنفروا ولم يطيقوا.
466
(قل) يا محمد للكافرين المقترحين للآيات (آمنوا به) أي بالقرآن (أو لا تؤمنوا) فسواء إيمانكم به وامتناعكم عنه لا يزيده ذلك كمالاً ولا ينقصه نقصاناً، وفى هذا وعيد شديد لأمره ﷺ بالإعراض عنهم واحتقارهم، ثم علل ذلك بقوله (إن الذين أوتوا العلم من قبله) أي أن العلماء الذين قرأوا الكتب السابقة قبل إنزال القرآن وعرفوا حقيقة الوحي
466
وإمارات النبوة وتمكنوا من التمييز بين المحق والمبطل ورأوا نعتك وصفة ما أنزل إليك في تلك الكتب كزيد بن عمرو بن نفيل وورقة بن نوفل وعبد الله بن سلام وسلمان الفارسي وأبي ذر.
وقيل الضمير في قوله من قبله راجع إلى النبي ﷺ والأولى ما ذكرناه من رجوعه إلى القرآن لدلالة السياق على ذلك.
(إذا يتلى عليهم) القرآن (يخرون للأذقان سجداً) أي يسقطون على وجوههم ساجدين لله سبحانه، وإنما قيد الخرور وهو السقوط بكونه للأذقان أي عليها لأن الذقن وهو مجتمع اللحيين أول ما يحاذي الأرض، قال الزجاج: لأن الذقن مجتمع اللحيين، وكما يبتدئ الإنسان بالخرور للسجود فأول ما يحاذي الأرض به من وجهه الذقن.
وقيل المراد تعفير اللحية بالتراب فإن ذلك غاية الخضوع وإيثار اللام في للأذقان على (على) للدلالة على الاختصاص فكأنهم خصوا أذقانهم بالخرور. وفي هذا تسلية لرسول الله ﷺ وحاصلها أنه إن لم يؤمن به هؤلاء الجهال الذين لا علم عندهم ولا معرفة بكتب الله ولا بأنبيائه فلا تبال بذلك فقد آمن به أهل العلم وخشعوا له وخضعوا له عند تلاوته عليهم خضوعاً ظهر أثره البالغ بكونهم يخرون على أذقانهم سجداً لله.
467
(ويقولون) في سجودهم (سبحان ربنا) أي تنزيهاً لربنا عما يقوله الجاهلون من التكذيب أو تنزيهاً له عن خلف وعده (إن كان وعد ربنا لمفعولاً) إن هذه هي المخففة من الثقيلة واللام هي الفارقة
(ويخرون للأذقان يبكون) كرر ذلك الخرور للأذقان لاختلاف السبب فإن الأول لتعظيم الله سبحانه وتنزيهه وللسجود والثاني للبكاء بتأثير مواعظ القرآن في قلوبهم ومزيد خشوعهم ولهذا قال (ويزيدهم) أي سماع القرآن أو القرآن بسماعهم له أو البكاء أو السجود أو المتلو لدلالة قوله إذا يتلى (خشوعاً) أي لين قلب ورطوبة عين فالبكاء مستحب عند قراءة القرآن.
467
عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم " لا يلج النار رجل بكى من خشية الله حتى يعود اللبن في الضرع ولا يجتمع على عبد غبار في سبيل الله ودخان جهنم " أخرجه الترمذي والنسائي (١).
وعن ابن عباس قال سمعت رسول الله ﷺ يقول " عينان لا تمسهما النار عين بكت من خشية الله وعين باتت تحرس في سبيل الله " أخرجه الترمذي (٢).
ثم أراد سبحانه أن يعلم عباده كيفية الدعاء والخشوع فقال
_________
(١) الترمذي كتاب فضائل الجهاد باب ٨ - النسائي كتاب الجهاد باب ٨.
(٢) الترمذي كتاب فضائل الجهاد باب ١٢.
468
(قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن) ومعناه أنهما مستويان في جواز الإطلاق وحسن الدعاء بهما ولهذا قال (أياً ما تدعوا) أصل الكلام أيا ما تدعوا فهو حسن فوضع موضعه قوله (فله الأسماء الحسنى) للمبالغة وللدلالة على أنه إذا حسنت أسماؤه كلها حسن هذان الاسمان، ومعنى حسن الأسماء استقلالها بنعوت الجلال والإكرام ذكر معنى هذا النيسابوري وتبعه أبو السعود.
قال الزجاج: أعلمهم الله أن دعاءهم الله ودعاءهم الرحمن يرجعان إلى قول واحد وسيأتي ذكر سبب نزول الآية وبه يتضح المراد منها، والحسنى مؤنث الأحسن الذي هو أفعل تفضيل لا مؤنث أحسن المقابل لامرأة حسناء كما في القاموس، عن ابن عباس قال: صلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بمكة ذات يوم فقال في دعائه: " يا الله يا رحمن " فقال المشركون: انظروا إلى هذا الصابئ ينهانا أن ندعو إلهين وهو يدعو إلهين فأنزل الله هذه الآية.
وعن إبراهيم النخعي قال: أن اليهود سألوا رسول الله ﷺ عن الرحمن وكان لهم كاهن باليمامة يسمون الرحمن فنزلت الآية وهو مرسل وعن مكحول أن النبي ﷺ كان يتهجد بمكة ذات ليلة
468
يقول في سجوده: يا رحمن يا رحيم فسمعه رجل من المشركين فلما أصبح قال لأصحابه: أن ابن أبي كبشة يدعو الرحمن الذي باليمن وكان رجل باليمن يقال له رحمن فنزلت.
ثم ذكر كيفية أخرى للدعاء فقال (ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها) أي بقراءة صلاتك على حذف المضاف للعلم بأن الجهر والمخافتة من نعوت الصوت لا من نعوت أفعال الصلاة فهو من إطلاق الكل وإرادة الجزء يقال خفت صوته خفوتاً إذا انقطع كلامه وضعف وسكن وخفت الزرع إذا ذبل وخافت الرجل بقراءته إذا لم يرفع بها صوته.
وقيل معناه لا تجهر بصلاتك كلها ولا تخافت بها كلها والأول أولى، أخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن ابن عباس قال: نزلت يعني هذه الآية ورسول الله ﷺ متوار فكان إذا صلى بأصحابه رفع صوته بالقرآن فإذا سمع ذلك المشركون سبوا القرآن ومن أنزله ومن جاء به فقال الله لنبيه ﷺ (ولا تجهر بصلاتك) أي بقراءتك فيسمع المشركون فيسبوا القرآن (ولا تخافت بها) عن أصحابك فلا تسمعهم القرآن حتى يأخذوا عنك الحديث (١).
وعن محمد بن سيرين قال: نبئت أن أبا بكر كان إذا قرأ خفض وكان عمر إذا قرأ جهر فقيل لأبي بكر لمَ تصنع هذا فقال: أنا أناجي ربي وقد عرف حاجتي وقيل لعمر لمَ تصنع هذا قال: أطرد الشيطان وأوقظ الوسنان فلما نزل (ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت) قيل لأبي بكر أرفع شيئاً، وقيل لعمر اخفض شيئاً، وأخرج البخاري ومسلم عن عائشة قالت: إنما نزلت هذه الآية في الدعاء وعنها أنها نزلت في التشهد.
(وابتغ بين ذلك) أي الجهر والمخافتة المدلول عليهما بالفعلين (سبيلاً)
_________
(١) مسلم ٤٤٦ - البخاري ٢٠٢٠.
469
أي طريقاً متوسطاً بين الأمرين فلا تكن مجاهراً ولا مخافتاً بها وعلى التفسير الثاني يكون معنى ذلك النهي عن الجهر بقراءة الصلوات كلها والنهي عن المخافتة بقراءة الصلوات كلها والأمر بجعل بعض منها مجهوراً به وهو صلاة الليل والمخافتة بصلاة النهار وذهب قوم إلى أن هذه الآية منسوخة بقوله (ادعوا ربكم تضرعاً وخفية).
ولما أمر أن لا يذكر ولا ينادي إلا بالأسماء الحسنى نبه على كيفية الحمد فقال
470
(وقل الحمد لله الذي لم يتخذ ولداً) كما يقوله اليهود والنصارى ومن قال من المشركين أن الملائكة بنات الله تعالى عن ذلك علواً كبيراً (ولم يكن له شريك في الملك) أي مشارك له في ملكه وألوهيته وربوبيته كما تزعمه الثنوية ونحوهم من الفرق القائلين بتعدد الآلهة (ولم يكن له ولي من الذل) أي لم يحتج إلى موالاة أحد لذل يلحقه فهو مستغن عن الولي والنصير.
قال الزجاج: أي لم يحتج أن ينتصر بغيره وفي التعرض في أثناء الحمد لهذه الصفات الجليلة إيذان بإن المستحق للحمد من له هذه الصفات لأنه القادر على الإيجاد وإفاضة النعم لكون الولد مجبنة مبخلة، ولأنه أيضًا يستلزم حدوث الأب لأنه متولد من جزء من أجزائه والمحدث غير قادر على كمال الأنعام.
والشركة في الملك إنما يتصور لمن لا يقدر على الاستقلال به ومن لا يقدر على الاستقلال عاجز فضلاً عن تمام ما هو فضلاً عن نظام ما هو عليه وأيضاً الشركة موجبة للتنازع بين الشريكين وقد يمنعه الشريك من إفاضة الخير إلى أوليائه ويؤديه إلى الفساد كما قال تعالى (لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا) والمحتاج إلى ولي يمنعه من الذل وينصره على من أراد إذلاله ضعيف لا يقدر على ما يقدر عليه من هو مستغنٍ بنفسه.
(وكبره تكبيراً) أي وعظمه تعظيماً تاماً وصفه بأنه أعظم من كل شيء
470
وعن قتادة قال: ذكر لنا أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يعلم أهله هذه الآية الحمد لله... الخ الصغير من أهله والكبير أخرجه ابن جرير، وأخرج عبد الرزاق في المصنف عن عبد الكريم بن أبي أمية قال: كان رسول الله ﷺ يعلم الغلام من بني هاشم إذا أفصح سبع مرات الحمد لله إلى آخر السورة وروى الإمام أحمد في مسنده عن معاذ الجهني عن رسول الله ﷺ أنه كان يقول آية العز الحمد لله الذي الخ.
471
خاتمة الجزء السابع
تم بعون الله سبحانه وتعالى الجزء السابع من كتاب فتح البيان في مقاصد القرآن ويليه الجزء الثامن وأوله تفسير سورة الكهف:
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا (١)
472
فتحُ البيان في مقاصد القرآن
تفسِير سَلفي أثري خالٍ منَ الإِسرَائيليّاتِ والجَدليَّاتِ المذهبية والكلامية يغني عَن جميع التفاسِير وَلا تغني جميعُهَا عَنه
تأليف: السيد الإمام العلامة الملك المؤيد من الله الباري آبي الطيب صديق بن حسن بن علي الحسين القنوجي النجاري ١٢٤٨ - ١٣٠٧ هـ
عني بطبعهِ وقدّم له وراجعه: خادم العلم عَبد الله بن إبراهيم الأنصَاري
الجزء الثامن
المَكتبة العصريَّة
صَيدَا - بَيروت
1
جَمِيع الحُقُوق محفُوظَة
١٤١٢ هـ - ١٩٩٢ م
شركة أبناء شريف الأنصاري للطباعة والنشر والتوزيع
المَكتبة العصريَّة للطبَاعة والنّشْر
الدار النموذجية ــ المكتبة العصرية
بَيروت - صَ. ب ٨٣٥٥ - تلكس LE ٢٠٤٣٧ SCS
صَيدَا - صَ. ب ٢٢١ - تلكس LE ٢٩١٩٨
2
فتح البيان في مقاصد القرآن
3
الجزء الثامن
ويشتمل على تفسير
- سورة الكهف
- سورة مريم
- سورة طه
- سورة الأنبياء
5
سورة الكهف
مائة وإحدى عشرة آية
قال القرطبي: وهي مكية في قول جميع المفسرين، وبه قال ابن عباس وابن الزبير وروي عن فرقة أن أول السورة نزل بالمدينة إلى قوله جرزا والأول أصح وقد ورد في فضلها أحاديث منها ما أخرجه أحمد ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وغيرهم عن أبي الدرداء عن النبي - ﷺ - قال: " من حفظ عشر آيات من سورة الكهف عصم من فتنة الدجال " (١).
وأخرج مسلم والبخاري وغيرهما عن البراء قال: قرأ رجل سورة الكهف وفي الدار دابة فجعلت تنفر فنظر فإذا ضبابة أو سحابة قد غشيته فذكر ذلك للنبي - صلى الله عليه وآله وسلم - فقال: " اقرأ فلان فإن السكينة نزلت للقرآن " (٢) وهذا الذي كان يقرأ هو أسيد بن حضير كما بينه الطبراني، وفي قراءة العشر الآيات من أولها أو من آخرها أحاديث.
وأخرج الطبراني في الأوسط والحاكم وصححه والبيهقي عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله - ﷺ - " من قرأ سورة الكهف كانت له نورًا من مقامه إلى مكة ومن قرأ عشر آيات من آخرها ثم خرج الدجال لم يضره " (٣).
وأخرج ابن مردويه عن ابن عمر قال: قال رسول الله - ﷺ - " من قرأ سورة الكهف في يوم الجمعة سطع له نور من تحت قدمه إلى عنان السماء يضيء له يوم القيامة وغفر له ما بين الجمعتين ".
_________
(١) مسلم ٨٠٩ - الإمام أحمد ٦/ ٤٤٩ - أبو داود ٤٣٢٣.
(٢) مسلم ٧٩٥ - البخاري ١٦٩٨.
(٣) المستدرك كتاب فضائل القرآن ١/ ٥٦٥.
7
وعن عائشة قالت: قال رسول الله - ﷺ -: " ألا أخبركم بسورة ملأ عظمتها ما بين السماء والأرض ولكاتبها من الأجر مثل ذلك ومن قرأها يوم الجمعة غفر له ما بينه وبين الجمعة الأخرى وزيادة ثلاثة أيام ومن قرأ الخمس الأواخر منها عند نومه بعثه الله من أي الليل شاء قالوا: بلى يا رسول الله قال: سورة أصحاب الكهف " أخرجه ابن مردويه (١).
وأخرج أيضاً عن عبد الله بن مغفل قال: قال رسول الله ﷺ " البيت الذي تقرأ فيه سورة الكهف لا يدخله شيطان تلك الليلة " وفي الباب أحاديث وآثار وفيما أوردناه كفاية مغنية.
_________
(١) ضعيف الجامع ٢١٥٩ - الأحاديث الضعيفة ٢٤٨٢.
8

بسم الله الرحمن الرحيم

الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا (١) قَيِّمًا لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا (٢) مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا (٣) وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا (٤)
9
Icon