تفسير سورة النبأ

التفسير الوسيط لطنطاوي
تفسير سورة سورة النبأ من كتاب التفسير الوسيط المعروف بـالتفسير الوسيط لطنطاوي .
لمؤلفه محمد سيد طنطاوي . المتوفي سنة 1431 هـ

بسم الله الرحمن الرحيم

تفسير سورة النبأ
مقدمة وتمهيد
١- سورة " النبأ " هي أول سورة في الجزء الأخير من القرآن الكريم، وتسمى –أيضا- بسورة " عم يتساءلون " وبسورة " عم "، وبسورة " المعصرات "، وبسورة " التساؤل "، فهذه خمسة أسماء لهذه السورة، سميت بها لورود هذه الألفاظ فيها.
٢- وهي من السور المكية الخالصة، وعدد آياتها أربعون آية في المصحف الكوفي والمكي، وإحدى وأربعون في غيرهما. وكان نزولها بعد سورة " المعارج "، وقبل سورة " النازعات ".
٣- وهذه السورة من أهم مقاصدها : توبيخ المشركين على خوضهم في القرآن الكريم بدون علم، وتهديدهم بسوء المصير إذا ما استمروا في طغيانهم، وإقامة الأدلة المتنوعة على وحدانية الله –تعالى- وعلى مظاهر قدرته، وبيان ما أعده –سبحانه- للكافرين من عذاب، وما أعده للمتقين من ثواب، وإنذار للناس بوجوب تقديم العمل الصالح من قبل أن يأتي يوم القيامة، الذي لا ينفع فيه الندم على ما فات.
٤- ويبلغ عدد سور هذا الجزء الأخير من القرآن الكريم سبعا وثلاثين سورة، كلها مكية، سوى سورتي " البينة والنصر " وكلها تمتاز بقصرها، على تفاوت في هذا القصر، ومعظمها مشتمل على إقامة الأدلة على وحدانية الله –تعالى-، وعلى أن هذا القرآن من عند الله. وعلى صدق الرسول صلى الله عليه وسلم فيما يبلغه عن ربه، وعلى المقارنة بين حسن عاقبة الأخيار، وسوء عاقبة الأشرار، وعلى التذكير المتكرر بأهوال يوم القيامة، وبأنه آت لا ريب فيه، وعلى التحذير من الغفلة عن الاستعداد له، وعلى الإفاضة في بيان نعم الله –تعالى- على الناس، وعلى بيان ما حل بالمكذبين السابقين من دمار..
كل ذلك بأسلوب بديع معجز، تخشع له القلوب، وتتأثر به النفوس، وتقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم..

التفسير وقد افتتح- سبحانه- السورة الكريمة بقوله- تعالى-:
[سورة النبإ (٧٨) : الآيات ١ الى ٢٠]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

عَمَّ يَتَساءَلُونَ (١) عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ (٢) الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ (٣) كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ (٤)
ثُمَّ كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ (٥) أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهاداً (٦) وَالْجِبالَ أَوْتاداً (٧) وَخَلَقْناكُمْ أَزْواجاً (٨) وَجَعَلْنا نَوْمَكُمْ سُباتاً (٩)
وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِباساً (١٠) وَجَعَلْنَا النَّهارَ مَعاشاً (١١) وَبَنَيْنا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِداداً (١٢) وَجَعَلْنا سِراجاً وَهَّاجاً (١٣) وَأَنْزَلْنا مِنَ الْمُعْصِراتِ ماءً ثَجَّاجاً (١٤)
لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَباتاً (١٥) وَجَنَّاتٍ أَلْفافاً (١٦) إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كانَ مِيقاتاً (١٧) يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْواجاً (١٨) وَفُتِحَتِ السَّماءُ فَكانَتْ أَبْواباً (١٩)
وَسُيِّرَتِ الْجِبالُ فَكانَتْ سَراباً (٢٠)
ولفظ «عم» مركب من كلمتين، هما حرف الجر «عن» و «ما» التي هي اسم استفهام، فأصل هذا اللفظ: «عن ما» فأدغمت النون في الميم لأن الميم تشاركها في الغنة، وحذفت الألف ليتميز الخبر عن الاستفهام. والجار والمجرور متعلق بفعل «يتساءلون».
والتساؤل: تفاعل من السؤال، بمعنى أن يسأل بعض الناس بعضا عن أمر معين، على سبيل معرفة وجه الحق فيه، أو على سبيل التهكم.
والنبأ: الخبر مطلقا، ويرى بعضهم أنه الخبر ذو الفائدة العظيمة.
247
والمعنى: عن أى شيء يتساءل هؤلاء المشركون؟ وعن أى أمر يسأل بعضهم بعضا؟ إنهم يتساءلون عن النبأ العظيم، والخبر الهام الذي جاءهم به الرسول صلى الله عليه وسلم، والذي نطق به القرآن الكريم، من أن البعث حق، ومن أن هذا القرآن الكريم من عند الله- تعالى- ومن أن الرسول ﷺ صادق فيما يأمرهم به أو ينهاهم عنه.
وافتتح- سبحانه- الكلام بأسلوب الاستفهام، لتشويق السامع إلى المستفهم عنه، ولتهويل أمره، وتعظيم شأنه.
والضمير في قوله يَتَساءَلُونَ يعود إلى المشركين، الذين كانوا يكثرون من التساؤل فيما بينهم عن الرسول صلى الله عليه وسلم، وعما جاء به من عند ربه، فقد أخرج ابن جرير وابن أبى حاتم عن الحسن قال: لما بعث النبي ﷺ جعلوا يتساءلون فيما بينهم- عن أمره وعما جاءهم به- فنزل قوله- تعالى-: عَمَّ يَتَساءَلُونَ. عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ... «١».
وصح عود الضمير إليهم مع أنهم لم يسبق لهم ذكر، لأنهم معروفون من السياق، إذ هم- دون غيرهم- الذين كانوا يتساءلون فيما بينهم- على سبيل التهكم- عما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم.
وقوله- تعالى-: عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ تهويل لشأن هذا الأمر الذي يتساءلون فيما بينهم عنه، ووصف- سبحانه- النبأ بالعظم، زيادة في هذا التهويل والتفخيم من شأنه، لكي تتوجه إليه أذهانهم، وتلتفت إليهم أفهامهم.
فكأنه- سبحانه- يقول: عن أى شيء يسأل هؤلاء الجاحدون بعضهم بعضا؟ أتريدون أن تعرفوا ذلك على سبيل الحقيقة؟ إنهم يتساءلون عن النبأ العظيم، وعن الخبر الجسيم، الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ ما بين منكر له إنكارا تاما، كما حكى- سبحانه- عنهم في قوله: إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ «٢». وما بين متردد في شأنه، كما حكى- سبحانه- عن بعضهم في قوله: وَإِذا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لا رَيْبَ فِيها قُلْتُمْ ما نَدْرِي مَا السَّاعَةُ، إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَما نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ «٣».
قال صاحب الكشاف قوله: عَمَّ أصله عما، على أنه حرف جر، دخل على ما الاستفهامية.
ومعنى هذا الاستفهام: تفخيم الشأن، كأنه قال: عن أى شيء يتساءلون. ونحوه ما في
(١) أسباب النزول ص ٢٣٢ للسيوطي.
(٢) سورة المؤمنون آية ٣٧.
(٣) سورة الجاثية آية ٣٢.
248
قولك: زيد ما زيد؟ جعلته لانقطاع قرينه، وعدم نظيره، كأنه شيء خفى عليك جنسه، فأنت تسأل عن جنسه، وتفحص عن جوهره، كما تقول: ما الغول وما العنقاء.. ؟.
ويَتَساءَلُونَ يسأل بعضهم بعضا.. والضمير لأهل مكة، فقد كانوا يتساءلون فيما بينهم عن البعث.
وقوله: عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ بيان للشأن المفخم.
فإن قلت: قد زعمت أن الضمير في يَتَساءَلُونَ للكفار، فما تصنع بقوله: الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ؟ قلت: كان فيهم من يقطع القول بإنكار البعث، ومنهم من يشك.
وقيل: الضمير للمسلمين والكافرين جميعا، وكانوا جميعا يسألون عنه، أما المسلم فليزداد خشية واستعدادا، وأما الكافر فليزداد استهزاء.. «١».
ثم هدد- سبحانه- هؤلاء المستهزئين بما جاء به النبي ﷺ تهديدا شديدا، فقال كَلَّا سَيَعْلَمُونَ، ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ.
و «كلا» حرف زجر وردع، والمقصود بها هنا: ردع أولئك المتسائلين عن النبأ العظيم، ونوعدهم على اختلافهم في شأنه.
أى: كلا ليس الأمر كما يتوهمه أولئك المتسائلون، من استهزائهم بما جاءهم به الرسول ﷺ ومن إنكارهم لكون القرآن الكريم من عند الله، أو لكون البعث حق. بل الحق كل الحق أن الرسول ﷺ صادق كل الصدق فيما يبلغه عن ربه، وأن هؤلاء المتسائلين سيرون عما قريب سوء عاقبة استهزائهم واختلافهم.
والجملة الثانية وهي قوله: ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ جيء بها لزيادة التهديد والوعيد، ولبيان أن الوعيد الثاني أشد وأبلغ من الوعيد الأول.
وحذف مفعول سَيَعْلَمُونَ للتعميم والتهويل، أى: سيعلمون علم اليقين ما سيحل بهم من عذاب مقيم، وسيرون ذلك رأى العين عما قريب، كما قال- تعالى- إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً، وَنَراهُ قَرِيباً.
ثم ساق- سبحانه- بعد ذلك تسعة أدلة، كلها تدل على أن البعث حق، لأن القادر على إيجاد هذه الأشياء، قادر- أيضا- على إعادتهم إلى الحياة، فقال- تعالى-: أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهاداً والاستفهام هنا للتقرير، أى: لقد جعلنا- بقدرتنا التي لا يعجزها شيء-
(١) تفسير الكشاف ج ٤ ص ٦٨٣.
249
الأرض كالفراش الممهد الموطأ، لتتمكنوا من الاستقرار عليها، ومن التقلب فيها.. كما يتقلب الطفل في مهده، أى: فراشه.
والمهاد: مصدر بمعنى الفراش الموطأ الممهد، وهو اسم لما يوضع للصبي لكي ينام عليه، ووصفت الأرض به على سبيل المبالغة في جعلها مكان استقرار الناس وانتفاعهم وراحتهم، والكلام على سبيل التشبيه البليغ، أو على حذف مضاف.
وجعل بمعنى صير. أى: لقد صيرنا الأرض بقدرتنا كفراش الصبى بالنسبة لكم، حيث تتقلبون عليها كما يتقلب الصبى في فراشه.. أو صيرناها ذات مهاد.
قال صاحب الكشاف ما ملخصه: فإن قلت: كيف اتصل قوله: أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهاداً بما قبله؟. قلت: لما أنكروا البعث قيل لهم: ألم يخلق من يضاف إليه البعث هذه الخلائق العجيبة الدالة على كمال قدرته، فما وجه إنكار قدرته على البعث. وما هو إلا اختراع كهذه الاختراعات؟
ومهادا: فراشا، وقرئ: مهدا. ومعناه: أنها لهم كالمهد للصبي، وهو ما يمهد له فينوّم عليه، تسمية للممهود بالمصدر، كضرب الأمير. أو وصفت بالمصدر، أو بمعنى ذات مهد... «١».
وقوله: وَالْجِبالَ أَوْتاداً معطوف على ما قبله، والأوتاد: جمع وتد، وهو ما يشد به الشيء حتى لا يتحرك أو يضطرب، والكلام على التشبيه- أيضا-.
أى: لقد صيرنا- بقدرتنا- الأرض كالمهاد لتتمكنوا من الاستقرار عليها.. وجعلنا الجبال كالأوتاد للأرض، لئلا تميد أو تضطرب بكم.. كما قال- تعالى-: وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ.. «٢».
وقوله- سبحانه-: وَخَلَقْناكُمْ أَزْواجاً دليل ثالث على قدرته، والأزواج: جمع زوج. وهو اسم للعدد الذي يكرر الواحد منه مرة واحدة، والمراد به هنا: الذكور والإناث.
أى: ومن مظاهر قدرتنا أننا خلقناكم- يا بنى آدم- مزدوجين، أى: ذكرا وأنثى، ليتأتى التناسل، وحفظ النوع من الانقراض، وتنظيم أمر المعاش في الأرض، عن طريق استمتاع كل نوع بالآخر، كما قال- تعالى-: وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها، وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً.. «٣».
(١) تفسير الكشاف ج ٤ ص ٦٨٥.
(٢) سورة النحل الآية ١٥.
(٣) سورة الروم الآية ٢١. [.....]
250
قال الآلوسى: أَزْواجاً أى: مزدوجين ذكرا وأنثى ليتسنى التناسل.
وقيل أزواجا: أى: أصنافا في اللون والصورة واللسان. وقيل: يجوز أن يكون المراد من الخلق أزواجا: الخلق من منيين: منى الرجل ومنى المرأة.. «١».
وقوله- تعالى- وَجَعَلْنا نَوْمَكُمْ سُباتاً بيان لدليل رابع على قدرته- تعالى- على البعث. و «السبات» مصدر بمعنى السبت، أى: القطع، يقال: سبت فلان الشيء سبتا، إذا قطعه، وسبت فلان شعره، إذا حلقه وأزاله- وفعله كضرب ونصر-.
ويصح أن يكون قوله سباتا من السبت بمعنى الراحة والسكون، يقال: سبت فلان يسبت، إذا استراح بعد تعب، ومنه سمى يوم السبت، لأن اليهود ينقطعون فيه عن أعمالهم للراحة.
والمعنى: وجعلنا- بمقتضى حكمتنا ورحمتنا- نومكم «سباتا» أى: قطعا للحركة، لتحصل لكم للراحة التي لا تستطيعون مواصلة العمل إلا بعدها.
وهذه الحالة التي لا بد لكم منها، وهي الراحة بعد عناء العمل عن طريق النوم ثم استيقاظكم منه، أشبه ما تكون بإعادة الحياة إليكم بعد موتكم..
وقوله- تعالى-: وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِباساً، وَجَعَلْنَا النَّهارَ مَعاشاً بيان لنعمة أخرى من نعمه التي لا تحصى، والتي تدل على كمال قدرته. أى: وجعلنا- بقدرتنا ورحمتنا- الليل كاللباس الساتر لكم، فهو يلفكم بظلمته، كما يلف اللباس صاحبه.. كما أننا جعلنا النهار وقت معاشكم، لكي تحصلوا فيه ما أنتم في حاجة إلى تحصيله من أرزاق ومنافع.
ووصف- سبحانه- الليل بأنه كاللباس، والنهار بأنه وقت المعاش، لأن الشأن فيهما كذلك، إذ الليل هو وقت الراحة والسكون والاختلاء.. والنهار هو وقت السعى والحركة والانتشار.
ثم لفت- سبحانه- الأنظار إلى مظاهر قدرته في خلق السموات فقال: وَبَنَيْنا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِداداً.
أى: وبنينا وأوجدنا بقدرتنا التي لا يعجزها شيء، فوقكم- أيها الناس- سبع سماوات قويات محكمات، لا يتطرق إليهن فطور أو شقوق على مر العصور، وكر الدهور.
فقوله شِداداً جمع شديدة، وهي الهيئة الموصوفة بالشدة والقوة.
وقوله- سبحانه- وَجَعَلْنا سِراجاً وَهَّاجاً نعمة أخرى من نعمه الدالة على قدرته.
(١) راجع تفسير الآلوسى ج ٣٠ ص ٧.
251
والمراد بالسراج الوهاج: الشمس، وصفت بكونها سراجا، لأنها كالمصباح في إضاءته لما حوله. ووصف السراج بأنه وهاج، مبالغة في شدة ضيائه ولمعانه، من الوهج- يفتح الواو والهاء- بمعنى شدة الضياء..
والكلام على التشبيه البليغ، والمقصود منه تقريب صفة المشبه إلى الأذهان، وإلا فالشمس أعظم من كل سراج.
أى: وأنشأنا وأوجدنا- بقدرتنا ومنتنا- في السماء، سراجا زاهرا مضيئا.. هو الشمس المتوهجة من شدة حرارتها وضيائها، والتي تشرق على هذا الكون فتحول ظلامه إلى نور، بقدرته- تعالى-.
أما الدليل التاسع على قدرته- تعالى- على البعث، فنراه في قوله- تعالى-:
وَأَنْزَلْنا مِنَ الْمُعْصِراتِ ماءً ثَجَّاجاً، لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَباتاً. وَجَنَّاتٍ أَلْفافاً.
والمعصرات- بضم الميم وكسر الصاد- السحب التي تحمل المطر، جمع معصرة- بكسر الصاد- اسم فاعل، من أعصرت السحابة إذا أوشكت على إنزال الماء لامتلائها به..
قال ابن كثير: عن ابن عباس: «المعصرات» الرياح. لأنها تستدر المطر من السحاب.. وفي رواية عنه أن المراد بها: السحاب، وكذا قال عكرمة.. واختاره ابن جرير..
وقال الفراء: هي السحاب التي تتحلب بالماء ولم تمطر بعد، كما يقال: امرأة معصر، إذا حان حيضها ولم تحض بعد.
وعن الحسن وقتادة: المعصرات: يعنى السموات. وهذا قول غريب، والأظهر أن المراد بها السحاب، كما قال- تعالى-: اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَيَبْسُطُهُ فِي السَّماءِ كَيْفَ يَشاءُ. وَيَجْعَلُهُ كِسَفاً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ.. «١».
والثجاج: المندفع بقوة وكثرة، يقال: ثج الماء- كرد- إذا انصب بقوة وكثرة.
ومطر ثجاج، أى: شديد الانصباب جدا.
وقوله: أَلْفافاً اسم جمع لا واحد له من لفظه، كالأوزاع للجماعات المتفرقة.
وقيل: جمع لفيف، كأشراف وشريف. أى: وأنزلنا لكم- يا بنى آدم- بقدرتنا ورحمتنا- من السحائب التي أوشكت على الإمطار، ماء كثيرا متدفقا بقوة، لنخرج بهذا الماء حبا تقتاتون به- كالقمح والشعير.. ونباتا تستعملونه لدوابكم كالتبن والكلأ، ولنخرج بهذا الماء- أيضا بساتين قد التفت أغصانها لتقاربها وشدة نمائها.
(١) تفسير ابن كثير ج ٧ ص ٣٢٧.
252
فهذه تسعة أدلة أقامها- سبحانه- على أن البعث حق، وهي أدلة مشاهدة محسوسة، لا يستطيع عاقل إنكار واحد منها.. ومادام الأمر كذلك فكيف ينكرون قدرته على البعث، مع أنه- تعالى- قد أوجد لهم كل هذه النعم التي منها ما يتعلق بخلقهم، ومنها ما يتعلق بالأرض والسموات، ومنها ما يتعلق بنومهم، وبالليل والنهار، ومنها ما يتعلق بالشمس، وبالسحب التي تحمل لهم الماء الذي لا حياة لهم بدونه.
وبعد إيراد هذه الأدلة المقنعة لكل عاقل، أكد- سبحانه- ما اختلفوا فيه، وما تساءلوا عنه، وبين جانبا من أماراته وعلاماته فقال: إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كانَ مِيقاتاً. يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْواجاً. وَفُتِحَتِ السَّماءُ فَكانَتْ أَبْواباً. وَسُيِّرَتِ الْجِبالُ فَكانَتْ سَراباً.
والمراد بيوم الفصل: يوم القيامة، لأن فيه يكون الفصل بين المحق والمبطل، والمحسن والمسيء، فيجازى كل إنسان على حسب عمله.
والميقات- بزنة مفعال- مشتق من الوقت، وهو الزمان المحدد لفعل ما. والمراد به هنا:
قيام الساعة، وبعث الناس من قبورهم. أى: إن يوم البعث والجزاء، كان ميعادا ووقتا محددا لبعث الأولين والآخرين، وما يترتب على ذلك من جزاء وثواب وعقاب.
وقوله يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ... بدل مما قبله. أى: يوم القيامة آت لا ريب فيه، يوم نأمر إسرافيل بأن ينفخ في الصور. أى: في القرن الذي أوجدناه لذلك.
فَتَأْتُونَ أَفْواجاً أى: فتخرجون من قبوركم جماعات جماعات، وطوائف، طوائف، دون أن يستطيع أحد منكم التخلف عن الحضور إلى المكان الذي أعددناه لذلك.
وَفُتِحَتِ السَّماءُ... في هذا اليوم وشقت.. فَكانَتْ أَبْواباً أى: فصارت شقوقها وفتحاتها كالأبواب في سعتها وكثرتها.
وَسُيِّرَتِ الْجِبالُ... أى: وأزيلت الجبال وحركت من أماكنها بعد تفتتها.
فَكانَتْ سَراباً أى: وبعد هذا البيان البديع لجانب من مظاهر قدرته- تعالى- على كل شيء، ومن ألوان نعمه على خلقه، ومن تقرير أن البعث حق... بعد كل ذلك، بين- سبحانه- جزاء الكافرين، وجزاء المتقين في هذا اليوم فقال- تعالى-:
253

[سورة النبإ (٧٨) : الآيات ٢١ الى ٤٠]

إِنَّ جَهَنَّمَ كانَتْ مِرْصاداً (٢١) لِلطَّاغِينَ مَآباً (٢٢) لابِثِينَ فِيها أَحْقاباً (٢٣) لا يَذُوقُونَ فِيها بَرْداً وَلا شَراباً (٢٤) إِلاَّ حَمِيماً وَغَسَّاقاً (٢٥)
جَزاءً وِفاقاً (٢٦) إِنَّهُمْ كانُوا لا يَرْجُونَ حِساباً (٢٧) وَكَذَّبُوا بِآياتِنا كِذَّاباً (٢٨) وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ كِتاباً (٢٩) فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلاَّ عَذاباً (٣٠)
إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفازاً (٣١) حَدائِقَ وَأَعْناباً (٣٢) وَكَواعِبَ أَتْراباً (٣٣) وَكَأْساً دِهاقاً (٣٤) لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا كِذَّاباً (٣٥)
جَزاءً مِنْ رَبِّكَ عَطاءً حِساباً (٣٦) رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا الرَّحْمنِ لا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطاباً (٣٧) يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا لا يَتَكَلَّمُونَ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَقالَ صَواباً (٣٨) ذلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ مَآباً (٣٩) إِنَّا أَنْذَرْناكُمْ عَذاباً قَرِيباً يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ ما قَدَّمَتْ يَداهُ وَيَقُولُ الْكافِرُ يا لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً (٤٠)
وقوله- سبحانه-: إِنَّ جَهَنَّمَ كانَتْ مِرْصاداً... كلام مستأنف لبيان أهوال جهنم وأحوالها. وجهنم: اسم لدار العذاب في الآخرة.
والمرصاد: مفعال من الرّصد. تقول: رصدت فلانا أرصده، إذا ترقبته وانتظرته، بحيث لا يهرب منك، «فمرصادا» صيغة مبالغة للراصد الشديد الرصد، وصفت جهنم بذلك، لأن الكافرين لا يستطيعون التفلت منها مهما حاولوا ذلك.
قال القرطبي: «مرصادا» مفعال من الرصد، والرصد: كل شيء كان أمامك... وقال مقاتل: «مرصادا» أى: محبسا. وقيل: طريقا وممرا. وذكر القشيري: أن المرصاد:
المكان الذي يرصد فيه الواحد العدد. أى: هي معدة لهم، فالمرصاد بمعنى المحل... وذكر
254
الماوردي، أنها بمعنى راصدة... وفي الصحاح: الراصد الشيء الراقب له. تقول: رصدته أرصده، إذا ترقبته... «١».
والمعنى: إن جهنم التي هي دار العذاب في الآخرة، كانت- بأمر الله- تعالى- ومشيئته- معدة ومهيئة للكافرين، فهي ترصدهم وترقبهم بحيث لا يستطيعون الهرب منها، فهي كالحارس اليقظ الذي يقف بالمرصد فلا يستطيع أحد أن يتجاوزه.
والمقصود بالآية الكريمة تهديد المشركين، وبيان أنهم لا مهرب لهم من جهنم، وأنها في انتظارهم، كما ينتظر العدو عدوه ليقضى عليه.
وقوله: لِلطَّاغِينَ مَآباً بدل من مِرْصاداً وقوله مَآباً من الأوب بمعنى المرجع. يقال: آب فلان يؤوب، إذا رجع...
أى: إن جهنم كانت للمتجاوزين الحد في الظلم والطغيان، هي المكان المهيأ لهم، والذي لا يستطيعون الهرب منه، بل هي مرجعهم الوحيد الذي يرجعون إليه.
وقوله: لابِثِينَ فِيها أَحْقاباً أى: مقيمين في جهنم أزمانا طويلة لا يعلم مقدارها إلا الله- تعالى- إذ الأحقاب: جمع حقب- بضمتين أو بضم فسكون-، وهو الزمان الطويل.
لا يَذُوقُونَ فِيها أى: في جهنم بَرْداً أى: شيئا يخفف عنهم حرها، من هواء بارد، أو نسيم عليل وَلا شَراباً أى: شيئا من الشراب الذي يطفئ عطشهم، ويخفف من عذابهم.
إِلَّا حَمِيماً وَغَسَّاقاً والحميم. هو الماء الذي بلغ الغاية في الحرارة. والغساق: هو ما يسيل من جلودهم من القيح والدماء والصديد. يقال: غسق الجرح- كضرب وسمع- غسقانا، إذا سالت منه مياه صفراء. أى: أن هؤلاء الطغاة لا يذوقون في جهنم شيئا من الهواء البارد، ولا من الشراب النافع، لكنهم يذوقون فيها الماء الذي بلغ النهاية في الحرارة، والصديد الذي يسيل من جروحهم وجلودهم.
فالاستثناء في قوله إِلَّا حَمِيماً وَغَسَّاقاً، استثناء منقطع، لأن الحميم ليس من جنس البرد في شيء، وكذلك الغساق ليس من جنس الشراب في شيء.
وقوله- سبحانه- جَزاءً وِفاقاً بيان لعدالة الله- تعالى- معهم، أى: أننا لم
(١) تفسير القرطبي ج ١٩ ص ١٩٩.
255
نظلمهم بإلقائهم في جهنم، وإنما جازيناهم بذلك جزاء موافقا لأعمالهم السيئة في الدنيا.
فقوله: جَزاءً منصوب على أنه مفعول مطلق لفعل محذوف، وقوله وِفاقاً صفة له والوفاق مصدر وافق، وهو هنا بمعنى اسم الفاعل. أى: جوزوا جزاء موافقا لأعمالهم القبيحة التي كانوا يعملونها في الدنيا.
ثم علل- سبحانه- ما أصابهم من عذاب أليم، فقال: إِنَّهُمْ كانُوا لا يَرْجُونَ حِساباً. وَكَذَّبُوا بِآياتِنا كِذَّاباً. أى: إن هؤلاء الطغاة كانوا في الدنيا لا يخافون حسابنا، ولا يفكرون فيه، بل كانوا يكذبون به، وبكل ما جاءهم به رسولنا تكذيبا عظيما.
وقوله: كِذَّاباً مصدر كذب، ومجيء فعّال بمعنى تفعيل في مصدر فعّل فصيح شائع.
وأوثر هذا المصدر دون التكذيب، للإشعار بأن تكذيبهم لآيات الله- تعالى- قد وصل الغاية في قبحه وإفراطه. وهو منصوب على أنه مفعول مطلق مؤكد لعامله.
قال صاحب الكشاف: قوله كِذَّاباً أى: تكذيبا. وفعّال في باب فعّل، كله فاش في كلام فصحاء العرب لا يقولون غيره. وهو مصدر كذّب... «١».
ثم بين- سبحانه- شمول علمه لكل شيء فقال: وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ كِتاباً و «كل» منصوب على الاشتغال، والإحصاء للشيء: ضبطه ضبطا محكما. وأصله من لفظ الحصا، واستعمل فيه لأنهم كانوا يعتمدون على الحصا في العد، كما يعتمد بعض الناس الآن على الأصابع.
قال الجمل: وقوله: كِتاباً فيه أوجه: أحدها: أنه مصدر من معنى أحصيناه، أى:
إحصاء فالتجوز في نفس المصدر. والثاني: أنه مصدر لأحصينا، لأنه في معنى كتبنا. فالتجوز في نفس الفعل... «٢». أى: وكل شيء في هذا الكون، قد أحصيناه إحصاء تاما، بحيث لا يعزب منه شيء عن علمنا، مهما كان صغيرا.
والفاء في قوله فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذاباً للتفريع على ما تقدم من كون جهنم كانت مرصادا، للطاغين مآبا...
أى: إن جهنم كانت معدة ومهيأة لهؤلاء الطغاة بسبب أعمالهم القبيحة، وسيقال لهم يوم القيامة على سبيل الإذلال والإهانة، ذوقوا سوء عاقبة كفركم وفسوقكم وعصيانكم، فلن نزيدكم إلا عذابا فوق العذاب الذي أنتم فيه.
(١) تفسير الكشاف ج ٤ ص ٦٨٩.
(٢) حاشية الجمل على الجلالين ج ٤ ص ٤٧٤.
256
قال ابن كثير: قال قتادة، عن أبى أيوب الأزدى، عن عبد الله بن عمرو قال: لم ينزل في شأن أهل النار آية أشد من هذه الآية فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذاباً قال: فهم في مزيد من العذاب أبدا... «١».
وكعادة القرآن الكريم في الموازنة بين عاقبة الأشرار والأخيار، جاء الحديث عن حسن عاقبة المتقين، بعد الحديث عن سوء عاقبة الطاغين فقال- تعالى-: إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفازاً أى: للمتقين الذين صانوا أنفسهم عن كل مالا يرضى ربهم... مَفازاً أى: فوزا برضوانه وجنته فقوله مَفازاً مصدر بمعنى الفوز والظفر بالمطلوب، وتنوينه للتعظيم.
ثم فصل- سبحانه- مظاهر هذا الفوز فقال: حَدائِقَ وَأَعْناباً أى: إن لهم في هذه الجنان التي ظفروا بها حدائق، أى: بساتين فيها ماء وأشجار مثمرة... سميت بذلك تشبيها لها بحدقة العين في الهيئة، وحصول الماء فيها.
وإن لهم- كذلك- في هذه الجنان أَعْناباً جمع عنب، وهو الكرم، وخصت الأعناب بالذكر، لأنها من أعظم الفواكه وأحبها إلى النفوس.
وإن لهم- أيضا- كَواعِبَ أَتْراباً أى: فتيات في ريعان الشباب، قد تقاربت أعمارهن، وتساوين في الجمال والنضارة وحسن الهيئة.
فالكواعب، جمع كاعب، وهي الفتاة التي وصلت إلى سن البلوغ، وسميت بذلك لأنها في تلك السن يتكعب ثدياها، أى: يستديران مع ارتفاع...
والأتراب، جمع ترب- بكسر التاء وسكون الراء- وهو المساوى لغيره في السن، وأكثر ما يطلق هذا اللفظ على الإناث. قيل: سمى من تقاربن في السن بذلك، على سبيل التشبيه بالترائب، أى: بالضلوع التي في الصدر في التساوي...
وإن لهم- أيضا- كَأْساً دِهاقاً أى: كأسا مليئة بالخمر. يقال دهق الحوض- كجعل- وأدهقه، إذا ملأه حتى فاض من جوانبه.
لا يَسْمَعُونَ فِيها أى: في الجنة لَغْواً أى: كلاما ساقطا لا يعتد به. ولا يسمعون- أيضا- كِذَّاباً أى كلاما كاذبا.
وقوله- سبحانه-: جَزاءً مِنْ رَبِّكَ عَطاءً حِساباً بيان لمظاهر فضله ومننه على هؤلاء المتقين... وقوله: جَزاءً منصوب بفعل محذوف من لفظه، ومِنْ ابتدائية.
(١) راجع تفسير ابن كثير ج ٧ ص ٣٣١.
257
أى: هؤلاء المتقون كوفئوا مكافأة صادرة من ربك على سبيل العطاء أى: الإحسان والتفضل، حتى شيعوا واكتفوا.
فقوله: حِساباً صفة للعطاء وهو بمعنى كاف. فهو مصدر أقيم مقام الوصف، من قولهم: أحسبه الشيء، إذا كفاه حتى قال حسبي، أى: كافينى.
قال صاحب الكشاف: وحِساباً صفة بمعنى كافيا، من أحسبه الشيء إذا كفاه حتى قال حسبي... «١».
ويصح أن يكون قوله حِساباً معناه «محسوبا». أى: كافأهم الله- تعالى- على أعمالهم الحسنة في الدنيا مكافأة محسوبة، على قدر أعمالهم الطيبة.
وقوله: رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا الرَّحْمنِ... قرأه بعضهم بجر لفظ «رب» على أنه بدل «من ربك»، وقرأه البعض الآخر بالرفع على أنه خبر لمبتدأ محذوف.
أى: هذا الجزاء العظيم للمتقين هو كائن من ربك، الذي هو رب أهل السموات وأهل الأرض، ورب ما بينهما من مخلوقات لا يعلمها إلا هو، وهو- سبحانه- صاحب الرحمة الواسعة العظيمة التي لا تقاربها رحمة...
وقوله: لا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطاباً مقرر ومؤكد لما قبله، من كونه- تعالى- هو رب كل شيء. أى: أهل السموات والأرض وما بينهما، خاضعون ومربوبون لله- تعال- الواحد القهار، الذي لا يقدر أحد منهم- كائنا من كان- أن يخاطبه إلا بإذنه، ولا يملك أن يفعل ذلك إلا بمشيئته.
وشبيه بهذه الآية قوله- تعالى-: مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ وقوله- سبحانه-: يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ «٢».
والظرف في قوله- تعالى-: يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا... متعلق بقوله- تعالى- قبل ذلك: لا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطاباً... والمراد بالروح: جبريل- عليه السلام-. أى: لا يملك أحد أن يخاطب الله- تعالى- إلا بإذنه، يوم القيامة، ويوم يقوم جبريل- عليه السلام- بين يدي خالقه قيام تذلل وخضوع، ويقوم الملائكة- أيضا- قياما كله أدب وخشوع، وهم في صفوف منتظمة.
(١) تفسير الكشاف ج ٤ ص ٦٩٠.
(٢) سورة هود الآية ١٠٥.
258
لا يَتَكَلَّمُونَ أى: لا يستطيع جبريل ولا الملائكة ولا غيرهم الكلام إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ منهم بالكلام أو بالشفاعة.
وَقالَ صَواباً أى: وقال المأذون له في الكلام قولا صوابا يرضى الخالق- عز وجل-.
وكون المراد بالروح: جبريل- عليه السلام- هو الرأى الراجح، لأن القرآن الكريم قد وصفه بذلك في آيات منها قوله- تعالى-: نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ. عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ «١».
وهناك أقوال أخرى في المراد به، منها: أنه ملك من الملائكة، ومنها: أرواح بنى آدم.
وجملة «لا يتكلمون» مؤكدة لجملة «لا يملكون منه خطابا» والضمير لجميع الخلائق.
وقد أفادت الآية الكريمة أن الذين يتكلمون في هذا اليوم الهائل الشديد، هم الذين يأذن الله- تعالى- لهم بالكلام، وهم الذين يقولون قولا صوابا يرضى الله- تعالى- عنه.
وجملة: «وقال صوابا» يجوز أن تكون في موضع الحال من الاسم الموصول «من».
أى: لا يستطيع أحد منهم الكلام إلا الشخص الذي قد أذن الله- تعالى- له في الكلام، والحال أن هذا المأذون له قد قال صوابا.
ويصح أن تكون معطوفة على جملة «أذن له الرحمن». أى: لا يستطيعون الكلام إلا الذين أذن لهم الرحمن في الكلام، وإلا الذين قالوا قولا صوابا يرضى الله، فإنهم يتكلمون.
والمقصود من الآية الكريمة، بيان أن الخلائق جميعا يكونون في هذا اليوم، في قبضة الرحمن وتحت تصرفه، وأنهم لا يملكون لأنفسهم نفعا ولا ضرا إلا بإذنه- تعالى-.
واسم الإشارة في قوله- تعالى-: ذلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ يعود إلى يوم البعث الذي يقوم الناس فيه لله رب العالمين. أى: ذلك اليوم الذي يقوم فيه الخلائق للحساب والجزاء، هو اليوم الحق الذي لا شك في حدوثه. ولا ريب في ثبوته.
والفاء في قوله- تعالى-: فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ مَآباً هي الفصيحة، ومفعول المشيئة محذوف. أى: لقد بينا لكم ما يهديكم، وإذا كان الأمر كذلك، فمن شاء منكم أن يتخذ إلى ربه مرجعا حسنا وطريقا إلى رضاه، فليتخذه الآن، من قبل أن يأتى هذا اليوم الذي لا بيع فيه ولا خلال.
(١) سورة الشعراء الآيتان ١٩٣، ١٩٤.
259
ثم ختم- سبحانه- السورة الكريمة بهذا الإنذار البليغ فقال: نَّا أَنْذَرْناكُمْ عَذاباً قَرِيباً، يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ ما قَدَّمَتْ يَداهُ، وَيَقُولُ الْكافِرُ يا لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً.
والإنذار: الإخبار بحصول شيء تسوء عاقبته، في وقت يستطيع المنذر فيه أن يجنب نفسه الوقوع في ذلك الشيء. أى: إنا أخبرناكم- أيها الناس- بأن هناك عذابا قريبا، سيحل بمن يستحقه عما قريب.
وذلك العذاب سيكون أشد هولا، وأبقى أثرا، يوم القيامة، وْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ ما قَدَّمَتْ يَداهُ
أى: يوم يرى كل إنسان عمله حاضرا أمامه، ومسجلا عليه...
يَقُولُ الْكافِرُ يا لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً
، أى: ويقول الإنسان الكافر في هذا اليوم على سبيل الحسرة والندامة، يا ليتني كنت في الدنيا ترابا، ولم أخلق بشرا، ولم أكلف بشيء من التكاليف، ولم أبعث ولم أحاسب.
فالمقصود بالآية قطع أعذار المعتذرين بأبلغ وجه، من قبل أن يأتى يوم لا ينفع فيه مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
260

بسم الله الرّحمن الرّحيم

تفسير سورة النازعات
مقدمة وتمهيد
١- سورة «النازعات» من السور المكية الخالصة. وتسمى بسورة «والنازعات» بإثبات الواو، حكاية لأول ألفاظها، ومن ذكرها بدون واو، جعل لفظ «النازعات» علما عليها، وتسمى- أيضا- سورة «الساهرة» وسورة «الطامة»، لوقوع هذين اللفظين فيها دون غيرها.
٢- وهي السورة التاسعة والسبعون في ترتيب المصحف، أما ترتيبها في النزول فهي السورة الحادية والثمانون من بين السور المكية، وكان نزولها بعد سورة «النبأ»، وقبل سورة «الانفطار»، أى: أن سورة النازعات تعتبر من أواخر السور المكية نزولا.
٣- وعدد آياتها خمس وأربعون آية في المصحف الكوفي، وست وأربعون في غيره.
٤- ومن أهم مقاصدها: إقامة الأدلة على وحدانية الله- تعالى-، وعلى أن البعث حق، وذكر جانب كبير من علاماته وأهواله، والرد على الجاحدين الذين أنكروا وقوعه، وتذكير الناس بجانب مما دار بين موسى- عليه السلام- وبين فرعون من مناقشات، وكيف أن الله- تعالى- قد أخذ فرعون أخذ عزيز مقتدر.
كما أن السورة الكريمة اشتملت على مظاهر قدرته- تعالى-، التي نراها ونشاهدها في خلقه- سبحانه- للسموات وللأرض... وما اشتملتا عليه عن عجائب.
ثم ختمت ببيان حسن عاقبة المتقين، وسوء عاقبة الكافرين، وبالإجابة على أسئلة السائلين عن يوم القيامة، وبيان أن موعد مجيء هذا اليوم مرده إلى الله- تعالى- وحده.
قال- تعالى-: يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها. فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْراها. إِلى رَبِّكَ مُنْتَهاها. إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها. كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَها لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحاها.
261
الموسوعة القرآنية Quranpedia.net - © 2024
Icon
فصارت بعد تفتتها واقتلاعها من أماكنها كالسراب، وهو ما يلوح في الصحارى، فيظنه الرائي ماء وهو ليس بماء.