تفسير سورة النازعات

نظم الدرر
تفسير سورة سورة النازعات من كتاب نظم الدرر في تناسب الآيات والسور المعروف بـنظم الدرر .
لمؤلفه برهان الدين البقاعي . المتوفي سنة 885 هـ
سورة النازعات١ وتسمى الساهرة٢ والطامة
مقصودها بيان أواخر٣أمر الإنسان بالإقسام على بعث الأنام، و٤ وقوع القيام يوم الزحام وزلل الأقدام٥، بعد البيان التام فيما مضى من هذه السور العظام، تنبيها على أنه وصل الأمر في الظهور إلى مقام ليس بعده مقام، وصور ذلك بنزع الأرواح بأيدي٦ الملائكة الكرام، ثم أمر فرعون اللعين وموسى عليه السلام، واسمها النازعات واضح في ذلك المرام، إذا تؤمل القسم وجوابه المعلوم للأئمة الأعلام، وكذا الساهرة والطامة إذا تؤمل السياق، وحصل التدبر في تقرير الوفاق ﴿ بسم الله ﴾ الظاهر الباطن الملك العلام ﴿ الرحمن ﴾ الذي عم بالإنعام ﴿ الرحيم* ﴾ الذي خص ٧أهل ولايته٨ بالتمام، فاختصوا بالإكرام في دار السلام.
١ التاسعة والسبعون من سور القرآن الكريم، مكية، وعدد آيها ست وأربعون..
٢ من ظ و م، وفي الأصل: الساهر..
٣ في ظ: آخر..
٤ زيد في الأصل: هو، ولم تكن الزيادة في ظ و م فحذفناها..
٥ من ظ و م، وفي الأصل: القيام..
٦ من ظ، وفي الأصل: ويتمنى الكافر بيد، وفي م: بيدي..
٧ من ظ و م، وفي الأصل: أولياؤه..
٨ من ظ و م، وفي الأصل: أولياؤه..

لما ذكر سبحانه يوم يقوم الروح ويتمنى الكافر العدم، أقسم أول هذه بنزع الأرواح على الوجه الذي ذكره بأيدي الملائكة عليهم السلام
217
على ما يتأثر عنه من البعث وساقه على وجه التأكيد بالقسم لأنهم به مكذبون فقال تعالى: ﴿والنازعات﴾ أي من الملائكة - كما قال علي وابن عباس رضي الله عنهم - للأرواح ولأنفسها من مراكزها في السماوات امتثالاً للأوامر الإليهة ﴿غرقاً *﴾ أي إغراقاً بقوة شديدة تغلغلاً إلى أقصى المراد من كل شيء من البدن حتى الشعر والظفر والعظم كما يغرق النازع في القوس فيبلغ أقصى المدّ، وكان ذلك لنفوس الكفار والعصاة كما ينزع السفود وهو الحديدة المتشعبة المتعاكسة الشعب من الصوف المبلول، وعم ابن جرير كما هي عادته في كل ما يحتمله اللفظ فقال: والصواب أن يقال: إن الله تعالى لم يخصص، فكل نازعة داخلة في قسمه - يعني الاعتبار بما آتاها الله من القدرة على ذلك النزع الدالة على تمام الحكمة والاقتدار على ما يريده سبحانه.
ولما ذكر الشد مبتدئاً به لأنه أهول، أتبعه الرفق فقال: ﴿والناشطات﴾ أي المخرجات برفق للأرواح أو لأجنحتها من محالها ﴿نشطاً *﴾ أي رفقاً فلا تدع وإن كان رفيقاً بين الروح والجسد تعلقاً كما ينشط الشيء من العقال أي يحل من عروة كانت عقدت على هيئة الأنشوطة، قال الفراء إنه سمع العرب يقولون: نشطت
218
العقال - إذا حللته، وأنشطت - إذا عقدت بأنشوطة - انتهى، والنشط أيضاً: الجذب والنزع، يقال: نشطت الدلو نشطاً - إذا نزعتها. وقال الخليل: النشط والإنشاط مدك الشيء إلى نفسك حتى ينحل، وكان هذا الأرواح أهل الطاعة، وكذلك نزع النبات والإنساء والإنماء لكل ما يراد نزعه أو نشطه، فالذي قدر بعض عبيده على هذا الذي فيه تمييز الأرواح من غيرها على ما لها من اللطافة وشدة الممازجة قادر على تمييز جسد كل ذي روح من جسد غيره بعد أن صار كل تراباً واختلط بتراب الآخر.
ولما ذكر نوعي السل بالشدة والرفق، ذكر فعلها في إقبالها إليه ورجوعها عنه فقال: ﴿والسابحات﴾ أي من الملائكة أيضاً في الجو بعد التهيؤ للطيران إلى ما أمرهم الله به من أوامره من الروح أو غيرها ﴿سبحاً *﴾ هو في غاية السرعة لأنه لا عائق لها بل قد أقدرها الله على النفوذ في كل شيء كما أقدر السابح في الماء والهواء، ولذلك نسق عليه بالفاء قوله: ﴿فالسابقات﴾ أي بعد السبح في الطيران إلى ما أمروا به من غمس الأرواح في النعيم أو الجحيم أو غير ذلك مما أمروا به في أسرع من اللمح مع القدرة والغلبة لجميع ما يقع
219
محاولته ﴿سبقاً *﴾.
ولما بان بذلك حسن امثتالها للأوامر، بان به عظيم نظرها في العواقب فدل على ذلك بالفاء في قوله: ﴿فالمدبرات﴾ أي الناظرات في أدبار الأمور وعواقبها لإتقان ما أمروا به في الأرواح وغيرها ﴿أمراً *﴾ أي عظيماً، ويصح أن يكون للشمس والقمر والكواكب والرياح والخيل السابحة في الأرض والجو لمنفعة العباد وتدبير أمورهم، وبعضها سابق لبعض، وبه قال بعض المفسرين، والجواب محذوف إشارة إلى أنه من ظهور العلم به - بدلالة ما قبله وما بعده عليه - في حد لا مزيد عليه، فهو بحيث لا يحتاج إلى ذكره فحذفه كإثباته بالبرهان فتقديره: لتذهبن بالدنيا التي أنتم بها مغترون لنزعنا لها من حالها وتقطيع أوصالها، فإن كل ما تقدم من أعمال ملائكتنا هو من مقدمات ذلك تكذيباً لقول الكفار ﴿ما هي إلا حياتنا نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر﴾ [الجاثية: ٢٤] المشار إليه بتساؤلهم عنها لأنه على وجه الاستهزاء والتكذيب ولتقومن الساعة؟ أو أنكم لمبعوثون بعد الموت وانتهاء هذه الدار؟ ثم لمجازون بما عملتم بأسباب موجودة مهيأة بين أظهركم دبرناها وأوجدناها حين أوجبنا هذه الحياة الدنيا وإن كنتم لا ترونها كما أن هذه الأمور التي أخبرناكم بها في نزع الأرواح والنبات والمنافع موجودة بين أظهركم
220
والميت أقرب ما يكون منكم وهي تعمل أعمالها. والمحتضر أشد ما يكون صوتاً وأعظمه حركة إذا هو قد خفت وهمد بعد ذلك الأمر وسكت وامتدت أعضاؤه ومات، وذهب عنكم قهراً وفات الذي فات كأنه قط ما كان، ولا تغلب في زمن من الأزمان، بتلك الأسباب التي تعمل أعمالها وتمد حبالها وترسي أثقالها، وتلقي أهوالها وأوجالها، وأنتم لا ترونها، فيالله العجب أن لا يردكم ذلك على كثرته عن أن تستبعدوا على قدرته تمييز تراب جسد من تراب جسد آخر.
وقال الإمام أبو جعفر بن الزبير: لما أوضحت سورة النبأ حال الكافر في قوله ﴿يا ليتني كنت تراباً﴾ [النبأ: ٤٠] عند نظره ما قدمت يداه، ومعانيته من العذاب عظيم ما يراه، وبعد ذكر تفصيل أحوال وأهوال، أتبع ذلك ما قد كان حاله عليه في دنياه من استبعاد عودته في أخراه، وذكر قرب ذلك عليه سبحانه كما قال في الموضع الآخر ﴿وهو أهون عليه﴾ [الروم: ٢٧] وذلك بالنظر إلينا ولما عهدناه، وإلا فليس عنده سبحانه شيء أهون من شيء ﴿إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون﴾ [يس: ٨٢] فقال تعالى: ﴿والنازعات غرقاً﴾ [النازعات: ١] إلى قوله: ﴿يقولون أئنا لمردودون في الحافرة أئذا كنا عظاماً نخرة﴾ [النازعات: ١٠ - ١١] إذ يستبعدون ذلك ويستدفعونه ﴿فإنما هي زجرة واحدة﴾ [النازعات: ١٣] أي صحية ﴿فإذا هم بالساهرة﴾ [النازعات: ١٤] أي الأرض قياماً ينظرون
221
ما قدمت أيديهم ويتمنون أن لو كانوا تراباً ولا ينفعهم ذلك، ثم ذكر تعالى من قصة فرعون وطغيانه ما يناسب الحال في قصد الاتعاظ والاعتبار، ولهذا أتبع القصة بقوله سبحانه
﴿إن في ذلك لعبرة لمن يخشي﴾ [النازعات: ٢٦] انتهى.
ولما أقسم على القيام بتلك الأفعال العظام التي ما أقدر أهلها عليها إلا الملك العلام. ذكر ما يكون فيه من الأعلام تهويلاً لأمر الساعة لأن النفوس المحسوسات نزاعة، فالغائبات عندها منسية مضاعة فقال ناصباً الظرف بذلك المحذوف لأنه لشدة وضوحه كالملفوظ به: ﴿يوم ترجف﴾ أي تضطرب اضطراباً كبيراً مزعجاً ﴿الراجفة *﴾ أي الصيحة، وهي النفخة الأولى التي هي بحيث يبلغ - من شدة إرجافها للقلوب وجميع الأشياء الساكنة من الأرض والجبال إلى نزع النفوس من جميع أهل الأرض - مبلغاً تستحق به أن توصف بالعراقة في الرجف، قال البغوي: وأصل الرجفة الصوت والحركة.
ولما ذكر الصيحة الأولى، أتبعها الثانية حالاً منها دلالة على قربها
222
قرباً معنوياً لتحقق الوقوع، ولأن ذلك كله في حكم يوم واحد، فصح مجيء الحال وإن بعد زمنه من زمن صاحبه فقال: ﴿تتبعها الرادفة *﴾ أي الصيحة التابعة لها التي يقوم بها جميع الأموات وتجتمع الرفات، وتضطرب من هولها الأرض والسماوات، وتدك الجبال ويعظم الزلزال، ويكون عنها التسيير بعد المصير إلى الكثيب المهيل، ونحو ذلك من الأمر الشديد الطويل، قال حمزة الكرماني: روى السدي عن أبي هريرة رضي الله عنه أن الناس إذا ماتوا في النفخة الأولى أمطر عليهم ماء من تحت العرش يدعى ماء الحياة فينبتون منه كما ينبت الزرع من الماء، حتى إذا استكملت أجسادهم نفخ فيها الروح ثم يلقى عليهم نومة فبينما هم في قبورهم نفخ في الصور ثانية فجلسوا وهم يجدون طعم النوم في رؤوسهم وأعينهم.
ولما ذكر البعث، ذكر حال المكذب به لأن السياق له، فقال مبتدئاً بنكرة موصوفة: ﴿قلوب يومئذ﴾ أي إذ قام الخلائق بالصيحة التابعة للأولى ﴿واجفة *﴾ أي شديدة الاضطراب أجوافها خوفاً تكاد
223
تخرج منها من شدة الوجيف، ولما وصفها بالاضطراب، وكان قد يخفى سببه لكونه قد يكون عند السرور العظيم كما قد يكون عند الوجل الشديد، أخبر عنه بما يحقق معناه فقال: ﴿أبصارها﴾ أي أبصار أصحابها فهو من الاستخدام ﴿خاشعة *﴾ أي ذليلة ظاهر عليها الذل واضطراب القلوب من سوء الحال ولذلك أضافها إليها.
ولما وصفها بالاضطراب والذل، علله ليعرف منه أن من يقول ضد قولهم يكون له ضد وصفهم من الثبات والسكون والعز الظاهر فقال: ﴿يقولون﴾ أي في الدنيا قولاً يجددونه كل وقت من غير خوف ولا استحياء استهزاءً وإنكاراً. ﴿أإنا لمردودون﴾ أي بعد الموت ممن يتصف بردنا كائناً من كان ﴿في الحافرة *﴾ أي في الحياة التي كنا فيها قبل الموت هي حالتنا الأولى، من قولهم: رجع فلان في حافرته، أي طريقته التي جاء بها فحفرها أي أثر فيها بمشيه كما تؤثر الأقدام، والحوافر في الطرق، أطلق على المفعولة فاعلة مبالغة وذلك حقيقته، ثم قيل لمن كان في أمر فخرج منه ثم رجع إليه: رجع إلى حافرته،
224
وقيل: الحافرة الأرض التي هي محل الحوافر.
ولما وصف قلوبهم بهذا الإنكار الذي ينبغي لصاحبه أن يذوب منه خجلاً إذا فرط منه مرة واحدة، وأشار إلى شدة وقاحتهم بتكريره، أتبعه التصريح بتكريرهم له على وجه مشير إلى العلة الحاملة لهم على قوله وهو قولهم: ﴿أإذا كنا﴾ أي كوناً صار جبلة لنا ﴿عظاماً نخرة *﴾ أي هي في غاية الانتخار حتى تفتتت، فكان الانتخار وهو البلى والتفتت والتمزق كأنه طبع لها طبعت عليه، وهي أصلب البدن فكيف بما عداها من الجسم، وعلى قراءة «ناخرة» المعنى أنها خلا ما فيها فصار الهواء ينخر فيها أي يصوّت.
225
ولما كان العامل في «إذا» مقدراً بنحو أن يقال: نرد إذ ذاك إلى حالتنا الأولى ونقوم كما كنا؟ دل على هذا المحذوف قوله تعالى عنهم: ﴿قالوا﴾ أي مرة من المرات: ﴿تلك﴾ أي الردة إلى الحالة الأولى العجيبة جداً البعيدة من العقل في زعمهم ﴿إذاً﴾ أي إذ نرد إلى حياتنا الأولى لا شيء لنا كما ولدنا لا شيء لنا، ونفقد كل ما سعينا في تحصيله وجمعه وتأثيله ﴿كرة﴾ أي رجعة وإعادة وعطفة ﴿خاسرة *﴾ أي هي لشدة خسارتنا فيها بما فقدنا مما حصلناه من الحال والمآل
225
وصالح الخلال، عريقة في الخسارة حتى كأنها هي الخاسرة، ولعله عبر بالماضي لأنهم ما سمحوا بهذا القول إلا مرة من الدهر، وأما أغلب قولهم فكان أنهم يكونون على تقدير البعث أسعد من المؤمنين على قياس ما هم عليه في الدنيا ونحو هذا من الكذب على الله.
ولما كان التقدير: نعم والله لتردن يا هؤلاء، إنما هذا الذي تقولونه كله استبعاد منكم كما أنكم مقرون بسهولته لو عقلتم، أما من جهة القدرة فلأن الابتداء أصعب من الإعادة وأنتم مقرون بالابتداء ولأن الاستبعاد إن كان من جهة وقوع الظن بأن من صار تراباً يصير عوده محالاً من جهة تعذر تمييز ترابه من تراب غيره، فتمييز النازع والناشط من الملائكة للروح من الجسد أصعب من ذلك بكثير، وكذا غير هذا مما تدبره الملائكة من الأمور، فكيف يصعب على ربهم سبحانه شيء يسهل مثله عليهم، وأما من جهة العوائد فإن أحداً لا يدع رعية له بغير حساب أصلاً، وأما من جهة الوعد فقد تقدم به، وليس من شيم الكرام فضلاً عن الملوك إخلاف الوعد ولا إقرار الظلم فلا تكذبوا بها ولا تستصعبوها، قال مسبباً عن هذا المقدر مهدداً لأصحاب الشبهة المقلدين: ﴿فإنما هي﴾ أي القيامة ﴿زجرة *﴾ أي صيحة بانتهار تتضمن الأمر بالقيام والسوق إلى المحشر والمنع من التخلف ﴿واحدة *﴾
226
عبر بالزجر وهو أشد من النهي لأنه يكون للعرض لأنها صيحة لا يتخلف عنها القيام أصلاً، فكان كأن لسان الحال قال عن تلك الصيحة: أيها الأجساد البالية! انتهي عن الرقاد، وقومي إلى الميعاد، بما حكمنا به من المعاد، فقد انتهى زمان الحصاد، وآن أوان الاجتناء لما قدم من الزاد، فيا ويل من ليس له زاد! ﴿فإذا هم﴾ أي فتسبب عن هذه النفخة - وهي الثانية - أنهم فاجؤوا بغاية السرعة كونهم أحياء قائمين ﴿بالساهرة *﴾ أي على ظهر الأرض البيضاء المستوية الواسعة التي يجددها الله للجزاء فتكون سعتها كأنها قد ابتلعتهم على كثرتهم التي تفوت العد، وتزيد على الحد، سميت بذلك لأن الشراب يجري فيها من الساهرة وهي العين الجارية، أو لأن سالكها يسهر خوفاً كما أن النوم يكون آمنة، أو لأن هذه الأرض بالخصوص لا نوم فيها مع طول الوقوف وتقلب الصروف الموجبة للحتوف.
ولما كانت قصة موسى عليه الصلاة والسلام مع القبط أشبه شيء بالقيامة لما حصل فيها من التقلبات والتغيرات وإيجاد المعدومات من الجراد والقمل والضفادع على تلك الهيئات الخارجة عن العادات في أسرع وقت. وقهر الجبابرة والمن على الضعفاء حتى كان آخر ذلك أن
227
حشر بني إسرائيل فنشطهم من القبط نشطاً رقيقاً كلهم وجميع ما لهم مع دوابهم إلى ربهم وحشر جميع القبط وراءهم فنزعهم نزعاً كلهم بحشر فرعون لهم بأصوات المنادين عنه في أسرع وقت وأيسر أمر إلى هلاكهم كما يحشر الأموات بعد إحيائهم بالصيحة إلى الساهرة، ثم كانت العاقبة في الطائفتين بما للمدبرات أمراً أن نجا بنو إسرائيل بالبحر كما ينجو يوم البعث المؤمنون بالصراط، وهلك فرعون وآله به كما يتساقط الكافرون بالصراط، وذلك أنه رأى فرعون وجنوده البحر قد انفلق لبني إسرائيل فلم يعتبروا بذلك ثم دخلوا فيه وراءهم، ولم يجوزوا أن الذي حسره عن مكانه قادر على أن يعيده كما ابتدأه فيغرقهم واستمروا في عماهم حتى رده الله فأغرقهم به كما أن من يكذب بالقيامة رأى بدء الله له ولغيره وإفناءه بعد إبدائه ثم إنه لم يجز أن يعيده كما بدأه أول مرة، وصل بذلك قوله تعالى جواباً لمن يقول: هل لذلك من دليل؟ مخاطباً لأشرف الخلق إشارة إلى أنه لا يعتبر هذا حق اعتباره إلا أنت، مستفهماً عن الإتيان للتنبيه والحث على جمع النفس
228
على التأمل والتدبر والاعتبار مقرراً ومسلياً له صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ومهدداً للمكذبين أن يكون حالهم - وهم أضعف أهل الأرض لأنه لا ملك لهم - حكال فرعون في هذا، وقد كان أقوى أهل الأرض بما كان له من الملك وكثرة الجنود وقوتهم وسحرهم ومرودهم في خداعهم ومكرهم ورأى من الآيات ما لم يره أحد قبله، فلما أصر على التكذيب ولم يرجع ولا أفاده التأديب أغرقه الله وآله فلم يبق منهم أحداً وقد كانوا لا يحصون عدداً بحيث إنه قيل: إن طليعته كانت على عدد بني إسرائيل ستمائة ألف: ﴿هل أتاك﴾ أي يا أعلم الخلق ﴿حديث موسى *﴾ أي ما كان من أمره الذي جددناه له حين أردناه فيكون كافياً لك في التسلية ولقومك في الحث على التصديق والتنبيه على الاعتبار والتهديد على التكذيب والإصرار ﴿إذ﴾ أي حين ﴿ناداه ربه﴾ أى المحسن إليه بإيجاده وتقريبه وتدبيره أمر إرساله وتقديره ﴿بالواد المقدس﴾ أي المطهر غاية التطهر بتشريف الله له بإنزال النبوة المفيضة للبركات، ثم بينه بقوله: ﴿طوى *﴾ وهو الذي طوى فيه الشر عن بني إسرائيل ومن أراد الله من خلقه ونشر بركات النبوة على جميع أهل الأرض المسلم بإسلامه، وغيره برفع عذاب الاستئصال عنه، فإن العلماء قالوا: إن
229
عذاب القبر - أي عذاب الاستئصال - ارتفع حين أنزلت التوراة.
وهو واد بالطور بين أيلة ومصر.
ولما ذكر المناداة فسر ثمرتها بقوله مستأنفاً منبهاً لأصحاب الشهوة المعجبين المتكبرين، وقد أرشد السياق إلى أن التقدير، ناداه قائلاً: ﴿اذهب إلى فرعون﴾ أي ملك مصر الذي كان استعبد بني إسرائيل ثم خوّف من واحد منهم فصار يذبح أبناءهم خوفاً منه وهو أنت فربيناك في بيته لهلاكه حتى يعلم أنه لا مفر من قدرنا، فكنت أعز بني إسرائيل، وكان سبب هلاكه معه في بيته بمرأىً منه ومسمع وهو لا يشعر بذلك ثم قتلت منهم نفساً وخرجت من بلدهم خائفاً تترقب.
ولما أمره بالذهاب إليه، علله بما يستلزم إهلاكه على يده عليه الصلاة والسلام إشارة له بالبشارة بأنه لا سبيل له عليه، ولذلك أكده لأن مثل ذلك أمر يقتضي طبع البشر التوقف فيه فقال: ﴿إنه طغى *﴾ أي الحد وتجاوز الحد فاستحق المقابلة بالجد، ثم سبب عن الذهاب إليه قوله ﴿فقل﴾ أي له تفصيلاً لبعض ما تقدم في «طه» من لين القول ولطف الاستدعاء في الخطاب: ﴿هل لك﴾ أي ميل وحاجة ﴿إلى أن تزكّى *﴾ أي تتحلى بالفضائل، وتتطهر من الرذائل، ولو بأدنى أنواع التزكي: الطهارة الظاهرة والباطنة الموجبة للنماء والكثرة، وإفهام الأدنى بما
230
يشير إليه إسقاط تاء التفعل المقتضي للتخفيف، وذلك بالإذعان المقتضي للإيمان وإرسال بني إسرائيل، وقرأ الحجازيان ويعقوب بالتشديد أي تزكية بليغة لأن من دخل في التزكي على يد كامل لا سيما بني من أولي العزم أوشك أن يبلغ الغاية في الزكاء.
ولما أشار له الطهارة عن الشرك، أتبعها الأعمال فقال: ﴿وأهديك﴾ أي أبين لك بعد التزكية بالإيمان الذي هو الأساس: كيف المسير ﴿إلى ربك﴾ أي الموجد لك والمحسن إليك والمربي لك بتعريفك ما يرضيه من الأعمال وما يغضبه من الخصال بعد أن بلغك في الدنيا غاية الآمال ﴿فتخشى *﴾ أي فيتسبب عن ذلك أنك تصير تعمل أعمال من يخاف من عذابه خوفاً عظيماً، فتؤدي الواجبات وتترك المحرمات وسائر المنهيات، فتصير إلى أعلى رتب التزكية فتجمع ملك الآخرة إلى ملك الدنيا، فإن الخشية هي الحاملة على كل خير، والآمن هو الحامل على الشر.
231
ولما كان التقدير: فذهب إليه كما أمره الله تعالى، فقال له ذلك فطلب الدليل على صحة الرسالة واستبعد أن يختص عنه بهذه المنزلة العلية وقد رباه وليداً ﴿فأراه﴾ أي فتسبب عن طلبه له أنه
231
دل على صدقه بأنه أراه ﴿الآية﴾ أي العلامة الدالة على ذلك ﴿الكبرى *﴾ وهي قلب العصا حية أو جميع معجزاته ﴿فكذب﴾ أي فتسبب عن رؤية ذلك أنه أوقع التكذيب بشيء إنما يقتضي عند رؤيته التصديق ﴿وعصى *﴾ أي أوقع العصيان، وهو الإباء الكبير والتكبر عن امتثال ما دعي إليه مجموعاً إلى التكذيب بعد إقامة الدليل على الصدق وتحقق الأمر.
ولما كان التمادي على التكذيب ممن رأى وعرف الحق ولا سيما إذا كان كبيراً مستبعداً جداً، أشار إليه بأداة التراخي مع دلالتها على حقيقة التراخي أيضاً فقال: ﴿ثم أدبر﴾ أي فرعون بعد المهلة والأناة إدباراً عظيماً بالتمادي على أعظم مما كان فيه من الطغيان بعد خطوب جليلة ومشاهد طويلة. حال كونه ﴿يسعى *﴾ أي يعمل بغاية جهده عمل من هو مسرع غاية الإسراع في إبطال الأمر الرباني بقلة عقله وفساد رأيه وأبى أن يقبل الحق ﴿فحشر﴾ أي فتسبب عن إدباره ساعياً وتعقبه أنه جمع السحرة طوعاً وكرهاً وزاد عليهم أيضاً جنوده ﴿فنادى *﴾ أي في المجامع ﴿فقال﴾ أي مناديه الذي لا يشك أنه عنه،
232
فكان قوله كقوله: ﴿أنا﴾ وقال حمزة الكرماني: قال له موسى عليه السلام: إن ربي أرسلني إليك، لئن آمنت بربك تكون أربعمائة سنة في السرور والنعيم، ثم تموت فتدخل الجنة، فقال: حتى أستشير هامان، فاستشاره فقال: أتصير عبداً بعد ما كنت رباً تعبد، فعند ذلك بعث الشرط وجمع السحرة والجنود، فلما اجتمعوا قام عدو الله على سريره فقال: أنا ﴿ربكم الأعلى *﴾ فكان هذا نداؤه يعني كلكم أرباب بعضكم فوق بعض وأنا أعلاكم، ولا رب فوقي أصلاً، وذلك لأن الإله عنده الطبيعة، وهي مقسمة في الموجودات، فهم كلهم أرباب، ومن كان أعلى كان أقعد في المراد، وهو كان أعلى منهم فقبحه الله ولعنه ولعن من تمذهب بمذهبه كابن عربي وابن الفارض وأتباعهما حيث أنكروا المختار الملك القهار، ورسوله المصطفى المختار، وتبعوا في وحدة الوجود بعض الفلاسفة ثم الحلاج بعد فرعون هذا الذي لم يصرح الله بذم أحد ما صرح بذمه، ولم يصرح بشقاء أحد ما صرح بشقائه، كهذه الآية فإنها مصرحة بوقوع نكاله في الآخرة كما وقع في الدنيا، وقوله تعالى: {فأخذناه وجنوده فنبذناهم في اليم فانظر كيف كان عاقبة الظالمين
233
وجعلناهم أئمة يدعون إلى النار ويوم القيامة لا ينصرون وأتبعناهم في هذه الدنيا لعنة ويوم القيامة هم المقبوحين}
[القصص: ٤٠ - ٤٢] إلى غير ذلك من الآيات البينات والدلائل الواضحات التي لا تحصى وهي كثيرة، وأعظمها القياس البديهي الإنتاج ﴿وإن فرعون لعال في الأرض وإنه لمن المسرفين﴾ [يونس: ٨٣] ﴿وإن المسرفين هم أصحاب النار﴾ [غافر: ٤٣] ويروى أن إبليس لما سمع منه قوله هذا قال: إني تجبرت على آدم فلقيت ما لقيت، وهذا يقول هذا؟ وهذا دعاه إليه الكبر الناشىء من فتنة السراء التي الصبر فيها أعظم من الصبر في الضراء، قال الإمام الغزالي في كتاب الصبر من الإحياء: فالصبر على الطاعة شديد لأن النفس بطبعها تنفر عن العبودية وتشتهي الربوبية، ولذلك قال بعض العارفين: ما من نفس إلا وهي مضمرة ما أظهره فرعون من قوله ﴿أنا ربكم الأعلى﴾ [النازعات: ٢٤] ولكن فرعون وجد له مجالاً وقبولاً فأظهره إذ استحف فأطاعوه وما من أحد إلا وهو يدعي ذلك مع عبده وخادمه وأتباعه وكل من هو تحت قهره وطاعته وإن كان ممتنعاً من إظهاره، فإن امتعاضه وغيظه عند تقصيرهم في خدمته لا يصدر إلا عن إضمار الكبر ومنازعة الربوبية في رداء الكبرياء - انتهى.
234
ويؤيده أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما لام خادمه في شيء قط - والله تعالى هو الموفق للصواب.
ولما أخبر سبحانه عنه بهذه الكلمة الشنعاء القادحة في الملك، وكان الملوك لا يحتملون ذلك بوجه، سبب عنها وعقب قوله: ﴿فأخذه الله﴾ أي الملك الذي لا كفوء له ولا أمر لأحد معه أخذ قهر وذل منكلاً به مخذلاً له: ﴿نكال الآخرة﴾ فهو مصدر من المعنى، أي أخذ تنكيل فيها يكون مثلاً يتقيد به ويتعظ كل من سمعه عن مثل حال فرعون، وقدمها اهتماماً بشأنها وإشارة إلى أن عظمة عذابها أعظم ولا يذوقه الإنسان إلا بكشف غطاء الدنيا بالموت، وتنبيهاً على أن المنع من مثل هذه الدعوى للصدق بها أمكن، وليس ذلك للفاصلة لأنه لو قيل: «الأخرى» لوافقت ﴿والأولى *﴾ أي ونكال الدنيا الذي هو قبل الآخرة فإن من سمع قصة غرقه ومجموع ما اتفق له كان له ذلك نكالاً مانعاً من عمل مثله أو أقل منه، قال الضحاك: أما في الدنيا فأغرقه الله تعالى وألقاه بنجوة من الأرض، أما في العقبى فيدخله الله تعالى النار ويجعله ظاهراً على تل منها
235
مغلولاً مقيداً ينادي عليه هذا الذي ادعى الربوبية دون الله انتهى. وأنا لا أشك أن الحلاج وابن عربي وابن الفارض، وأتباعهم يكونون في النار تحتهم وتحت آله يشربون عصارتهم، فإنهم ادعوا أنه ناج وصدقوه فيما ادعاه وادعوا لأنفسهم وغيرهم مثل ما ادعاه تكذيباً للقرآن وإغراقاً في العدوان، وزادوا عليه بابتذال الاسم الأعظم الذي حماه الله من أن يدعيه أحد قبل إرسال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فادعوا أنه يطلق عليهم وعلى كل أحد بل كل شيء، وأمارة هذه الطائفة الخبيثة التي لا تتخلف أن تقول لأحدهم: العن فرعون الذي أجمع على لعنه جميع الطوائف.
وهو مثل عندهم في الشرارة والخبث فلا يلعنه، وإن لعنه فبعد توقف.
ولما لخص سبحانه وتعالى ما مضى من قصصه في هذه الكلمات اليسيرة أحسن تلخيص وأقربه مع عدم المخالفة لشيء مما مضى لأن المفصل موضع الاختصار أما باعتبار النزول فإنه نزل أولاً فكان تقريب القصص
236
للناس بالاقتصار على ما لا بد منه أولى ليستأنسوا به، وأما من جهة الترتيب فلتذكيرهم بما مضى ليجتمع في المخيّلة في أقرب وقت ويتذكر به ذلك المبسوط، وختمه بأخذه هذا الأخذ الغريب أرشد إلى ما في القصة من العبرة، مشيراً إلى استحضار ما مضى كله، فقال مؤكداً مقرراً للمكذب ومنبهاً للمصدق: ﴿إن في ذلك﴾ أي الأمر العظيم الذي فعله والذي فعل به ﴿لعبرة﴾ أي أمراً عظيماً يتعمد الاعتبار به من معنى إلى معنى حتى يقع به الوصول إلى كثير من المعارف ﴿لمن يخشى *﴾ أي من شأنه الخوف العظيم من الله لأن الخشية - كما تقدم - هي أساس الخير، فأول العبور أن ينقل السامع حال غيره إليه فيتذكر بإنجاء بني إسرائيل على ضعفهم منهم على قوتهم ثم بقوة ما حصل لهم من القهر من ذلك حتى أوجب اتباعهم بالجنود ثم بفرق البحر ثم بإيرادهم إياه ثم بإغراقهم فيه كلمح البصر لم يخرج منهم مخبر قدرة الله تعالى على إيراد الكفار النار وقهر كل جبار وبجعل العصا حية وإخراج القمل والضفادع من الأرض وتحويل الماء دماً
237
قدرته سبحانه وتعالى على ذلك السامع بالعذاب وغيره وعلى خصوص البعث - إلى غير ذلك من العبر وواضح الأثر.
ولما ختم قصة فرعون - لعنه الله - بالعبرة، وكان أعظم عبرتها القدرة التامة لا سيما على البعث كما هي مشيرة إليه بأولها وآخرها، والعقوبة على التكذيب به لأن التكذيب به يجمع مجامع الشر والتصديق به يجمع مجامع الخير، وكانوا يستبعدونه لاستبعاد القدرة عليه، وصل به ما هو كالنتيجة منه، فقال مقرراً مخاطباً لأصحاب الشبهة الشاكين موقفاً لهم على القدرة منكراً عليهم استبعادهم وذلك ملتفتاً بعد تخصيص الخطاب به صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما تقدم من دقة فهمه وجلالة علمه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى عموم الخطاب لوضوح هذا البرهان لكل إنسان استعطافاً بهم في توبيخ: ﴿أأنتم﴾ أي أيها الأحياء مع كونكم خلقاً ضعيفاً ﴿أشد خلقاً﴾ أي أصعب وأثقل من جهة التقدير والإيجاد ﴿أم السماء﴾ على ما فيها من السعة والكبر والعلو والمنافع.
ولما كان الجواب قطعاً: السماء - لما يرى من أعظمها لأن العالم الإنساني مختصر العالم الآفاقي، ويزيد الآفاقي طول البقاء مع عدم التأثر، وصل به قوله دليلاً على قدرته على البعث لقدرته على ما هو أشد منه لأن الذي قدر على ابتداء الأكبر هو على إعادة الأصغر أقدر، مبيناً
238
لكيفية خلقه لها: ﴿بناها *﴾ أي جعلها سقفاً للأرض على ما لها من العظمة، ثم بين البناء بقوله: ﴿رفع سمكها﴾ أي جعل مقدار ارتفاعها من الأرض أو سمنها الذاهب في العلو رفيعاً، قال في القاموس: السمك السقف، أو من أعلى البيت إلى أسفله، أو القامة من كل شيء، وقال أبو حيان: السمك الارتفاع الذي بين سطح السماء الذي يلينا وسطحها الذي يلي ما فوقها: ﴿فسواها *﴾ أي عدلها عقب ذلك بأن جعلها مستوية لا شيء فيها أعلى من شيء ولا أخفض ولا فطور فيها، وأصلحها بما تم به كمالها من الكواكب وغيرها، وجعل مقدار تخن كل سماء وما بين كل سماءين وتخن كل أرض وما بين كل أرضين على السواء لا يزيد شيء من ذلك على الآخر أصلاً.
239
ولما كان كل من ذلك يدل على القدرة على البعث لأنه إيجاد ما هو أشد من خلق الآدمي من عدم، أتبعه ما يتصور به البعث في كل يوم وليلة مرتين فقال: ﴿وأغطش﴾ أي أظلم إظلاماً لا يهتدي معه إلى ما كان في حال الضياء ﴿ليلها﴾ أي بغياب شمسها فأخفى ضياءها بامتداد ظل الأرض على كل ما كانت الشمس ظهرت عليه. وأضافه إليها لأنه يحدث بحركتها، وبدأ به لأنه كان أولاً، والعدم قبل الوجود
239
﴿وأخرج ضحاها *﴾ بطلوع شمسها فأضاء نهارها، فالآية من الاحتباك: دل ب «أغطش» على «أضاء» وبإخراج الضحى على إخفاء الضياء، ولعله عبر بالضحى عن النهار لأنه أزهر ما فيه وأقوى نوراً.
ولما بدأ بدلالة العالم العلوي لأنه أدل لما فيه من العجائب والمنافع مع كونه أشرف، فذكر أنه أتقن السماء التي هي كالذكر، ثنى بأنه سوى ما هي لها كالأنثى فقال: ﴿والأرض﴾ ولما كان المراد استغراق الزمان باستمرار الدحو، حذف الخافض فقال: ﴿بعد ذلك﴾ أي المذكور كله ﴿دحاها﴾ أي بسطها ومدها للسكنى وبقية المنافع بعد أن كان خلقها وأوجدها قبل إيجاد السماء غير مسواة بالفعل ولا مدحوة.
ولما ذكر الدحو، أتبعه ما استلزمه من المنافع لتوقف السكنى المقصودة بالدحو عليه فقال كالمبين له من غير عاطف: ﴿أخرج منها﴾ أي الأرض ﴿ماءها﴾ بتفجير العيون، وإضافته إليها دليل على أنه فيها ﴿ومرعاها *﴾ الذي يخرج بالماء، والمراد ما يرعى منها ومكانه وزمانه.
ولما ذكر الأرض ومنافعها، ذكر المراسي التي تم بها نفعها فقال: ﴿والجبال﴾ أي خاصة ﴿أرساها *﴾ أي أثبتها وأقرها ومع كونها ثابتة لا تتحول فإنه سبحانه جعلها مراسي للأرض تكون سبباً
240
لثباتها كما أن المراسي سبب لثبات السفينة. ولما كانت الإعادة واضحة من تناول الحيوان المأكل والمشرب وغيرهما من المتاع فإنه كلما نقص منه شيء تناول ما قدر له ليعود ذلك أو بعضه، قال منبهاً على أنه كل يوم في إعادة بانياً حالاً مما تقدم تقديره: حال كونها ﴿متاعاً﴾ مقدراً ﴿لكم﴾ تتمتعون بما فيها من المنافع ﴿ولأنعامكم *﴾ أي مواشكيم بالرعي وغيره.
ولما ذكر ما دل على البعث، أتبعه ما يكون عن البعث مسبباً عنه دلالة على أن الوجود ما خلق إلا لأجل البعث لأنه محط الحكمة: ﴿فإذا جاءت﴾ أي بعد الموت ﴿الطامة الكبرى *﴾ أي الداهية الدهياء التي تطم - أي تعلو - على سائر الدواهي وتغطيها فتكون أكبر داهية توجد، وهي البعث بالنفخة الثانية - كما قاله ابن عباس رضي الله عنهما، والعامل في «إذا» محذوف تقديره: فصل الناس إلى شقي وسعيد.
ولما كان الشيء لا يعرف قدره إذا كان غائباً إلا بما يكون فيه، قال مبدلاً منه: ﴿يوم يتذكر﴾ أي تذكراً عظيماً ظاهراً - بما أشار إليه الإظهار ﴿الإنسان﴾ أي الخلق الآنس بنفسه الغافل عما
241
خلق له ﴿ما سعى *﴾ أي عمل كله من خير وشر لأنه يراه في صحيفة أعماله، والإخبار عن تذكره منبهاً على ما في ذلك اليوم من الخطر لأن أحداً لا يعمل جهده في تذكره إلا لمحوج إلى ذلك وهو الحساب وتدوينه في صحيفة أعماله.
ولما أشار إلى الحساب ذكر ما بعده فقال: ﴿وبرزت﴾ أي أظهرت إظهاراً عظيماً، وبناه للمفعول لأن الهائل مطلق تبريزها لا كونه من معين، مع الدلالة على الخفة والسهولة لكونه على طريقة كلام القادرين ﴿الجحيم﴾ أي النار التي اشتد وقدها وحرها ﴿لمن يرى *﴾ أي كائناً من كان لأنه لا حائل بين أحد وبين رؤيتها، لكن الناجي لا يصرف بصره إليها فلا يراها كما قال تعالى: ﴿لا يسمعون حسيسها﴾ [الأنبياء: ١٠٢].
ولما كان جواب «إذا» كما مضى محذوفاً، وكان تقديره أن قسم الناس قسمين: قسم للجحيم وقسم للنعيم، قال تعالى مسبباً عنه مفصلاً: ﴿فأما من طغى *﴾ أي تجاوز الحد في العدوان فلم يخش مقام ربه، قال في القاموس: طغى: جاوز القدر وارتفع وطغى: غلا في الكفر وأسرف في المعاصي والظلم، والماء: ارتفع.
242
ولما كان الذي بعد حدود الله هو الدنيا، صرح به فقال: ﴿وآثر﴾ أي أكرم وقدم واختار ﴿الحياة الدنيا *﴾ بأن جعل أثر العاجلة
242
الدنية لحضورها عنده أعظم من أثر الآخرة العليا لغيابها، فكان كالبهائم لا إدراك له لغير الجزئيات الحاضرة، فانهمك في جميع أعمالها وأعرض عن الاستعداد للآخرة بالعبادة وتهذيب النفس فلم ينه نفسه عن الهوى.
ولما كان الإنسان مؤاخذاً بما اكتسب، سبب عن أعماله هذه قوله مؤكداً لتكذيبهم ذلك: ﴿فإن الجحيم﴾ أي النار الشديدة التوقد العظيمة الجموع على من يدخلها ﴿هي﴾ أي لا غيرها ﴿المأوى *﴾ أي المسكن له - هذا مذهب البصريين أن الضمير محذوف، وعند الكوفيين أن «أل» نائب عن الضمير - قاله أبو حيان.
ولما ذكر الطاغي، أتبعه المتقي فقال: ﴿وأما من خاف﴾ ولما كان ذلك الخوف مما يتعلق بالشيء لأجل ذلك الشيء أعظم من ذكر الخوف من ذلك الشيء نفسه فقال: ﴿مقام ربه﴾ أي قيامه بين يدي المحسن إليه عند تذكر إحسانه فلم يطغ فكيف عند تذكر جلاله وانتقامه، أو المكان الذي يقوم فيه بين يديه والزمان، وإذا خاف ذلك المقام فما ظنك بالخوف من صاحبه، وهذا لا يفعله إلا من تحقق المعاد.
ولما ذكر الخوف ذكر ما يتأثر عنه ولم يجعله مسبباً عنه ليفهم أن كلاًّ منهما فاصل على حياله وإن انفصل عن الآخر فقال:
243
﴿ونهى النفس﴾ أي التي لها المنافسة ﴿عن الهوى﴾ أي كل ما تهواه فإنه لا يجر إلى خير لأن النار حفت بالشهوات، والشرع كله مبني على ما يخالف الطبع وما تهوى الأنفس، وذلك هو المحارم التي حفت بها النار فإنها بالشهوات، قال الرازي: والهوى هو الشهوة المذمومة المخالفة لأوامر الشرع. قال الجنيد: إذا خالفت النفس هواها صار داؤها دواءها، أي فأفاد ذلك أنه لم يؤثر الحياة الدنيا، فالآية من الاحتباك: أتى بطغى دليلاً على ضده ثانياً، وبالنهي عن الهوى ثانياً دلالة على إيثار الدنيا أولاً. ولما كان مقام ترغيب، ربط الجزاء بالعمل كما صنع في الترهيب فقال وأكد لأجل تكذيب الكفار: ﴿فإن الجنة﴾ أي البستان الجامع لكل ما يشتهي ﴿هي﴾ أي خاصة ﴿المأوى *﴾ أي له، لا يأوي إلى غيرها، وهذا حال المراقبين.
244
ولما قسمهم هذا التقسيم المفهم أن هذا شيء لا بد منه، استأنف ذكر استهزائهم تعجيباً منهم فقال: ﴿يسئلونك﴾ أي قريش على سبيل التجديد والاستمرار سؤال استهزاء وإنكار واستبعاد: ﴿عن الساعة﴾ أي البعث الآخر لكثرة ما تتوعدهم بها عن أمرنا. ولما كان السؤال عنها مبهماً
244
بينه بقوله: ﴿أيان مرساها *﴾ أي في أي وقت إرساؤها أي وقوعها أو ثباتها واستقرارها.
ولما كان إيراد هذا هكذا مفهماً للإنكار عليهم في هذا السؤال، وكان من المعلوم أنه يقول: إنهم ليسألونني وربما تحركت نفسه الشريفة صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى إجابتهم لحرصه على إسلامهم شفقة عليهم، فطمه عن ذلك وصرح بالإنكار بقوله: ﴿فيم﴾ أي في أي شيء ﴿أنت من ذكراها *﴾ أي ذكرها العظيم لتعرفها وتبين وقتها لهم حرصاً على إسلامهم، وذلك لا يفيد علمها، ثم عرفها بما لا يمكن المزيد عليه مما أفادته الجملة التي قبل من أنه لا يمكن علمها لغيره سبحانه وتعالى فقال: ﴿إلى ربك﴾ أي المحسن إليك وحده ﴿منتهاها *﴾ أي منتهى علمها وجميع أمرها.
ولما كان غاية أمرهم أنهم يقولون: إنه متقول من عند نفسه، قلب عليهم الأمر فقال: ﴿إنما أنت﴾ أي يا أشرف المرسلين ﴿منذر﴾ أي مخوف على سبيل الحتم الذي لا بد منه مع علمك بما تخوف به العلم الذي لا مرية فيه ﴿من يخشاها *﴾ أي فيه أهلية أن يخافها خوفاً عظيماً فيعمل لها لعلمه بإتيانها لا محالة وعلمه بموته لا محالة وعلمه بأن كل ما
245
تحقق وقوعه فهو قريب، وذلك لا يناسب تعيين وقتها فإن من فيه أهلية الخشية لا يزيده إبهامها إلا خشية، وغيره لا يزيده ذلك إلا اجتراء وإجراماً، فما أرسلناك إلا للإنذار بها لا للإعلام بوقتها، فإن النافع الأول دون الثاني، ولست في شيء مما يصفونك به كذباً منهم لأنا ما نرسل المرسلين إلا مبشرين ومنذرين ولا أنت مبعوث لتحرير وقت الساعة وعلم عينه، وإنما قصره على من يخشى لأن غيره لا ينتفع بإنذاره، فكان كأنه لم يحصل له الإنذار، ولهذا المعنى أضاف إشارة إلى أنه عريق في إنذار من يخشى، وأما غيره فهو منذر له في الجملة أي يحصل له صورة الإنذار لأنه منذره بمعنى أنه لا يحصل له معنى الإنذار.
ولما أثبت أنه منذر، وكان أخوف الإنذار الإسراع، قال مستأنفاً محقراً لهم الدنيا مزهداً لهم فيها: ﴿كأنهم﴾ أي هؤلاء المنكرين لصحة الإنذار بها ﴿يوم يرونها﴾ أي يعلمون قيامها علماً هو كالرؤية ويرون ما يحدث فيها بعد سماع الصيحة وقيامهم من القبور من علمهم بما مر من زمانهم وما يأتي منه ﴿لم يلبثوا﴾ أي في الدنيا وفي القبور ﴿إلا عشية﴾ أي من الزوال إلى غروب الشمس.
ولما كانوا على غير ثقة من شيء مما يقولونه قال: ﴿أو ضحاها *﴾ أي ضحى عشية من العشايا
246
وهو البكرة إلى الزوال، والعشية ما بعد ذلك، أضيف إليها الضحى لأنه من النهار، ولإضافة تحصل بأدنى ملابسة، وهي هنا كونهما من نهار واحد، فالمراد ساعة من نهار أوله أو آخره، لم يستكملوا نهاراً تاماً ولم يجمعوا بين طرفيه، وهذا كما قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «ما الدنيا في الآخرة إلا كما يجعل أحدكم إصبعه في اليم فلينظر بم يرجع» وهذا تعبير لنا بما نحسه تقريباً لعقولنا وإن كانت القاعدة أنه لا نسبة لما يتناهى إلى ما لا يتناهى على أن الكفار أيضاً يستقصرون مدة لبثهم، فكأنهم أصناف: بعضهم يقول: إن لبثتم إلا عشراً، وبعضهم يقول: إن لبثتم إلا يوماً، وبعضهم يتحير فيقول: اسأل العادين، أو أن تلك أقوالهم، والحق من ذلك هو ما أخبر الله به غير مضاف إلى أقوالهم من أن ما مضى لهم في جنب ما يأتي كأنه ساعة من نهار بالنسبة إلى النهار الكامل كما قال تعالى في سورة يونس عليه الصلاة والسلام ﴿ويوم يحشرهم كأن لم يلبثوا إلا ساعة من النهار يتعارفون بينهم﴾ [يونس: ٤٥] على أن منهم من يقول ذلك أيضاً كما قال تعالى في سورة المؤمنين حين قال تعالى ﴿كم لبثتم في الأرض عدد سنين قالوا لبثنا يوماً أو بعض يوم فاسأل العادين﴾ [المؤمنون: ١١٢ - ١١٣] وذلك بالنسبة إلى ما كشف لهم عن أنهم يستقبلونه مما لا آخر له أو أنهم لما نزعتهم نفحة إسرافيل عليه الصلاة والسلام بيد القدرة من قبورهم غرقاً
247
نزعاً شديداً فقاموا ورأوا تلك الأهوال وعلموا ما يستقبلونه من الأوجال استقصروا مدة لبثهم قبل ذلك لأن من استلذ شيئاً استقصر مدته وهم استلذوا ذلك وإن كان من أمرّ المرّ في جنب لهم عن أنهم لاقوه، فقد رجع آخرها بالقيامة على أولها، والتف مفصلها بنزع الأنفس اللوامة على موصلها، واتصلت بأول ما بعدها من جهة الخشية والتذكر فيا طيب متصلها، فسبحان من جعله متعانق المقاطع والمطالع، وأنزله رياضاً محكمة المذاهب والمراجع، والله سبحانه وتعالى هو الموفق للصواب وإليه المرجع والمآب.
248
سورة عبس
وتسمى الصاخة.
مقصودها شرح) إنما أنت منذر من يخشاها) [النازعات: ٤٥] بأن المراد الأعظم تزكية القابل للخشية بالتخويف بالقيامة التي قام الدليل على القدرة عليها بابتداء الخلق من الإنسان، وبكل من الابتداء والإعادة لطعامه والتعجيب ممن أعرض مع قيام الدليل والإشارة إلى أن الاستغناء والترف أمارة الإعراض وعدم القابلية والتهيؤ للكفر والفجور، وإلى أن المصائب أمارة للطهارة والإقبال واستكانة القلوب وسمو النفوس لشريف الأ " مال، فكل من كان فيها أرسخ كان قلبيه أرق وألطف فكان أخشى، فكان الإقبال عليه أحب وأولى، واسمها عبس هو الدال على ذلك بتأمل آياته وتدبر فواصله وغاياته، وكذا الصاخة النافخة بشرها وشررها والباخة) بسم الله (الذي له القدرة البالغة والحكمة الباهرة) الرحمن (الذي عم بنعمة الإيجاد الظاهرة ثم بآيات البيان الزاهرة، ا) الرحيم (الذي خص أولياءه بأن أتم نعمته عليهم، فكانت بهم إلى مرضاته سائرة.
249
Icon