تفسير سورة يوسف

أحكام القرآن للجصاص
تفسير سورة سورة يوسف من كتاب أحكام القرآن المعروف بـأحكام القرآن للجصاص .
لمؤلفه الجصَّاص . المتوفي سنة 370 هـ

مِنْ الْوَاحِدِ وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ ومع إنهم كانوا أنفع له بتدبير أَمْرِ الدُّنْيَا لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَقُومُونَ بِأَمْوَالِهِ وَمَوَاشِيهِ فَذَهَبُوا إلَى أَنَّ اصْطِفَاءَهُ إيَّاهُ بِالْمَحَبَّةِ دُونَهُمْ وتقديمه عليهم ذهاب عن الطريق الصَّوَابِ
قَوْله تَعَالَى اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أرضا يخل لكم وجه أبيكم الْآيَةَ فَإِنَّهُمْ تَآمَرُوا فِيمَا بَيْنَهُمْ عَلَى أَحَدِ هَذَيْنِ مِنْ قَتْلٍ أَوْ تَبْعِيدٍ لَهُ عَنْ أَبِيهِ وَكَانَ الَّذِي اسْتَجَازُوا ذَلِكَ وَاسْتَجْرَءُوا مِنْ أَجْلِهِ عَلَيْهِ قَوْلُهُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْمًا صالحين فَرَجَوْا التَّوْبَةَ بَعْدَ هَذَا الْفِعْلِ وَهُوَ نَحْوُ قَوْله تَعَالَى بَلْ يُرِيدُ الإِنْسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ قِيلَ فِي التَّفْسِيرِ إنَّهُ يَعْزِمُ عَلَى الْمَعْصِيَةِ رجاء التوبة بَعْدَهَا فَيَقُولُ أَفْعَلُ ثُمَّ أَتُوبُ وَفِي ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ تَوْبَةَ الْقَاتِلِ مَقْبُولَةٌ لِأَنَّهُمْ قالوا وتكونوا من بعده قوما صالحين وَحَكَاهُ اللَّهُ عَنْهُمْ وَلَمْ يُنْكِرْهُ عَلَيْهِمْ
قَوْله تَعَالَى قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ لا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وألقوه في غيابت الجب لَمَّا تَآمَرُوا عَلَى أَحَدِ شَيْئَيْنِ مِنْ قَتْلٍ أَوْ إبْعَادٍ عَنْ أَبِيهِ أَشَارَ عَلَيْهِمْ هَذَا الْقَائِلُ حِينَ قَالُوا لَا بُدَّ مِنْ أَحَدِ هَذَيْنِ بِأَنْقَصِ الشَّرَّيْنِ وَهُوَ الطَّرْحُ فِي جُبٍّ قَلِيلِ الْمَاءِ لِيَأْخُذَهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ وَهُمْ الْمُسَافِرُونَ
فلما أبرموا التدبير وعزموا عليه نابوا لِلتَّلَطُّفِ فِي الْوُصُولِ إلَى مَا أَرَادُوا فَقَالُوا يَا أَبَانَا مَا لَكَ لا تَأْمَنَّا عَلَى يوسف إلَى آخِرِ الْآيَتَيْنِ
وقَوْله تَعَالَى أَرْسِلْهُ معنا غدا يرتع ويلعب قِيلَ فِي يَرْتَعْ يَرْعَى وَقِيلَ إنَّ الرَّتْعَ الِاتِّسَاعُ فِي الْبِلَادِ وَيُقَالُ يَرْتَعُ فِي الْمَالِ أَيْ هُوَ يَتَّسِعُ بِهِ فِي الْبِلَادِ وَاللَّعِبُ هُوَ الْفِعْلُ الْمَقْصُودُ بِهِ التَّفَرُّجُ وَالرَّاحَةُ مِنْ غَيْرِ عَاقِبَةٍ لَهُ مَحْمُودَةٍ وَلَا قَصْدَ فِيهِ لِفَاعِلِهِ إلَّا حُصُولُ اللَّهْوِ وَالْفَرَحِ فَمِنْهُ مَا يَكُونُ مُبَاحًا وَهُوَ مَا لَا إثْمَ فِيهِ كَنَحْوِ مُلَاعَبَةِ الرَّجُلِ أَهْلَهُ وَرُكُوبِهِ فَرَسَهُ لِلتَّطَرُّبِ وَالتَّفَرُّجِ وَنَحْوِ ذَلِكَ وَمِنْهُ مَا يَكُونُ مَحْظُورًا وَفِي الْآيَةِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ اللَّعِبَ الَّذِي ذَكَرُوهُ كَانَ مُبَاحًا لَوْلَا ذَلِكَ لَأَنْكَرَهُ يَعْقُوبُ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلَيْهِمْ فَلَمَّا سَأَلُوهُ إرْسَالَهُ مَعَهُمْ
قَالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخَافُ أن يأكله الذئب وأنتم عنه غافلون فَذَكَرَ لَهُمْ حُزْنَهُ لِذَهَابِهِمْ بِهِ لِبُعْدِهِ عَنْ مُشَاهَدَتِهِ وَأَنَّهُ خَائِفٌ مَعَ ذَلِكَ أَنْ يَأْكُلَهُ الذئب فاجتمع عليه في هذه الحال شيئان الْحُزْنُ وَالْخَوْفُ فَأَجَابُوهُ بِأَنَّهُ يَمْتَنِعُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَهُمْ جَمَاعَةٌ وَأَنَّ ذَلِكَ لَوْ وَقَعَ لَكَانُوا خَاسِرِينَ
قَوْله تَعَالَى وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بأمرهم هذا وهم لا يشعرون قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ لَا يَشْعُرُونَ بِأَنَّهُ يُوسُفُ فِي وَقْتٍ يُنَبِّئُهُمْ وَكَذَلِكَ قَالَ الْحَسَنُ أَوْحَى اللَّهُ إلَيْهِ وَهُوَ فِي الْجُبِّ فَأَعْطَاهُ النُّبُوَّةَ وَأَخْبَرَهُ أَنَّهُ يُنَبِّئُهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا
قَوْله تَعَالَى وجاؤ أباهم عشاء يبكون رُوِيَ أَنَّ الشَّعْبِيَّ كَانَ جَالِسًا
لِلْقَضَاءِ فَجَاءَهُ رَجُلٌ يَبْكِي وَيَدَّعِي أَنَّ رَجُلًا ظَلَمَهُ فَقَالَ رَجُلٌ بِحَضْرَتِهِ يُوشِكُ أَنْ يَكُونُ هَذَا مَظْلُومًا فَقَالَ الشَّعْبِيُّ إخْوَةُ يُوسُفَ خَانُوا وظلموا كذبوا وَجَاءُوا أَبَاهُمْ عِشَاءً يَبْكُونَ فَأَظْهَرُوا الْبُكَاءَ لِفَقْدِ يُوسُفَ لِيُبَرِّئُوا أَنْفُسَهُمْ مِنْ الْخِيَانَةِ وَأَوْهَمُوهُ أَنَّهُمْ مُشَارِكُونَ لَهُ فِي الْمُصِيبَةِ وَيُلَقِّنُوا مَا كَانَ أَظْهَرَهُ يَعْقُوبُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَهُمْ مِنْ خَوْفِهِ عَلَى يُوسُفَ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ فَقَالُوا
إِنَّا ذهبنا نستبق يُقَالُ نَنْتَضِلُ مِنْ السِّبَاقِ فِي الرَّمْيِ وَقِيلَ نَسْتَبِقُ بِالْعَدْوِ عَلَى الرِّجْلِ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِنْدَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا يَعْنِي بِمُصَدِّقٍ
وَجَاءُوا بِقَمِيصٍ عَلَيْهِ دَمٌ فَزَعَمُوا أَنَّهُ دَمُ يُوسُفَ قَوْله تَعَالَى بِدَمٍ كَذِبٍ يَعْنِي مَكْذُوبٌ فِيهِ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ قَالَ لَوْ كَانَ أَكَلَهُ الذِّئْبُ لَخَرَقَهُ فَكَانَتْ عَلَامَةُ الْكَذِبِ ظَاهِرَةً فِيهِ وَهُوَ صِحَّةُ الْقَمِيصِ مِنْ غَيْرِ تَخْرِيقٍ وَقَالَ الشَّعْبِيُّ كَانَ فِي قَمِيصِ يُوسُفَ ثَلَاثُ آيَاتٍ الدَّمُ وَالشَّقُّ وَإِلْقَاؤُهُ عَلَى وَجْهِ أَبِيهِ فَارْتَدَّ بَصِيرًا وَقَالَ الْحَسَنُ لَمَّا رَأَى الْقَمِيصَ صَحِيحًا قَالَ يَا بُنَيَّ وَاَللَّهِ مَا عَهِدْت الذِّئْبَ حَلِيمًا قَوْله تَعَالَى قال بل سولت لكم أنفسكم أَمْرًا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ يَعْقُوبَ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَطَعَ بِخِيَانَتِهِمْ وَظُلْمِهِمْ وَأَنَّ يُوسُفَ لَمْ يَأْكُلْهُ الذِّئْبُ لِمَا اسْتَدَلَّ عَلَيْهِ مِنْ صِحَّةِ الْقَمِيصِ مِنْ غَيْرِ تَخْرِيقٍ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْحُكْمَ بِمَا يَظْهَرُ مِنْ الْعَلَامَةِ فِي مِثْلِهِ فِي التَّكْذِيبِ أَوْ التَّصْدِيقِ جَائِزٌ لِأَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَطَعَ بِأَنَّ الذِّئْبَ لَمْ يَأْكُلْهُ بِظُهُورِ علامة كذبهم قوله تعالى فصبر جميل يُقَالُ إنَّهُ صَبْرٌ لَا شَكْوَى فِيهِ وَفِيهِ الْبَيَانُ عَمَّا تَقْتَضِيهِ الْمُصِيبَةُ مِنْ الصَّبْرِ الْجَمِيلِ وَالِاسْتِعَانَةِ بِاَللَّهِ عِنْدَ مَا يَعْرِضُ مِنْ الْأُمُورِ الْقَطْعِيَّةِ الْمُجْزِيَةِ فَحَكَى لَنَا حَالَ نَبِيِّهِ يَعْقُوبَ عليه السلام عند ما اُبْتُلِيَ بِفَقْدِ وَلَدِهِ الْعَزِيزِ عِنْدَهُ وَحُسْنِ عَزَائِهِ وَرُجُوعِهِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى وَالِاسْتِعَانَةِ بِهِ وَهُوَ مِثْلُ قَوْله تَعَالَى الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لله وإنا إليه راجعون أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة الْآيَةَ لِيُقْتَدَى بِهِ عِنْدَ نُزُولِ الْمَصَائِبِ
قَوْله تَعَالَى قَالَ يَا بُشْرَى هَذَا غُلامٌ وَأَسَرُّوهُ بضاعة قَالَ قَتَادَةُ وَالسُّدِّيُّ لَمَّا أَرْسَلَ دَلْوَهُ تَعَلَّقَ بها يوسف فقال المدلى يا بشر اى هَذَا غُلَامٌ قَالَ قَتَادَةُ بَشَّرَ أَصْحَابَهُ بِأَنَّهُ وَجَدَ عَبْدًا وَقَالَ السُّدِّيُّ كَانَ اسْمُ الرَّجُلِ الذي ناداه بشرى وقوله وأسروه بضاعة قَالَ مُجَاهِدٌ وَالسُّدِّيُّ أَسَرَّهُ الْمُدْلِي وَمَنْ مَعَهُ في باقى التجار لئلا يسئلوهم الشَّرِكَةَ فِيهِ بِرُخْصِ ثَمَنِهِ وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَسَرَهُ إخْوَتُهُ وَكَتَمُوا أَنَّهُ أَخُوهُمْ وَتَابَعَهُمْ عَلَى ذَلِكَ لِئَلَّا يَقْتُلُوهُ وَالْبِضَاعَةُ الْقِطْعَةُ مِنْ الْمَالِ تجعل للتجارة وقيل في معنى أسروه بضاعة إنَّهُمْ اعْتَقَدُوا فِيهِ التِّجَارَةَ
وَرَوَى شُعْبَةُ عَنْ يُونُسَ عَنْ عُبَيْدٍ عَنْ الْحَسَنِ عَنْ عَلِيٍّ أَنَّهُ قَضَى بِاللَّقِيطِ أَنَّهُ حَرٌّ وَقَرَأَ وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وكانوا فيه من الزاهدين
وَرَوَى الزُّهْرِيُّ عَنْ سُنَيْنٍ أَبِي جَمِيلَةَ قَالَ وَجَدْت مَنْبُوذًا عَلَى عَهْدِ عُمَرَ فَقَالَ عُمَرُ عسى الغويرا بؤسا فَقِيلَ إنَّهُ لَا يُتَّهَمُ فَقَالَ هُوَ حَرٌّ وَلَك وَلَاؤُهُ وَعَلَيْنَا رَضَاعُهُ فَمَعْنَى قَوْلِهِ عَسَى الغويرا بؤسا الغوير تصغير غَارٍ وَهُوَ مَثَلٌ مَعْنَاهُ عَسَى أَنْ يَكُونَ جَاءَ الْبَأْسُ مِنْ قِبَلِ الْغَارِ فَاتَّهَمَ عُمَرُ الرَّجُلَ وَقَالَ عَسَى أَنْ يَكُونَ الْأَمْرُ جَاءَ مِنْ قِبَلِك فِي هَذَا الصَّبِيِّ اللَّقِيطِ بِأَنْ يَكُونَ مِنْ مَائِك فَلَمَّا شَهِدُوا لَهُ بِالسَّتْرِ أَمَرَهُ بِإِمْسَاكِهِ وَقَالَ وَلَاؤُهُ لَك وَجَائِزٌ أَنْ يريد بالولاء هاهنا إمْسَاكَهُ وَالْوِلَايَةَ عَلَيْهِ وَإِثْبَاتَ هَذَا الْحَقِّ لَهُ كَمَا لَوْ كَانَ عَبْدًا لَهُ فَأَعْتَقَهُ لِأَنَّهُ تَبَرَّعَ بِأَخْذِهِ وَإِحْيَائِهِ وَالْإِحْسَانِ إلَيْهِ وَقَدْ أَخْبَرَ عُمَرُ أَنَّهُ حُرٌّ فَلَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يَكُونُ ذَلِكَ عَلَى وَجْهِ الْإِخْبَارِ بِأَنَّهُ حَرُّ الْأَصْلِ وَلَا رِقَّ عَلَيْهِ أَوْ إيقَاعَ حُرِّيَّةٍ عَلَيْهِ مِنْ قِبَلِهِ وَمَعْلُومٌ أَنَّ عُمَرَ لَمْ يُمَلِّكْهُ وَلَمْ يَكُنْ عَبْدًا لَهُ فَيُعْتِقُهُ فَعَلِمْنَا أَنَّهُ أَرَادَ الْإِخْبَارَ بِأَنَّهُ حَرٌّ لَا يَجْرِي عَلَيْهِ رِقٌّ وَإِذَا كَانَ حَرَّ الْأَصْلِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَثْبُتَ وَلَاؤُهُ لِإِنْسَانٍ فَعَلِمْنَا أَنَّهُ أَرَادَ بِقَوْلِهِ لَك وَلَاؤُهُ أَيْ لَك وِلَايَتُهُ فِي الْإِمْسَاكِ وَالْحِفْظِ وَمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ وَعَائِشَةَ أَنَّهُمَا قَالَا فِي أَوْلَادِ الزِّنَا أَعْتِقُوهُمْ وَأَحْسِنُوا إلَيْهِمْ فَإِنَّمَا مَعْنَاهُ اُحْكُمُوا بِأَنَّهُمْ أَحْرَارٌ
وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَجْزِي وَلَدٌ وَالِدَهُ إلَّا أَنْ يَجِدَهُ مَمْلُوكًا فَيَشْتَرِيَهُ فَيُعْتِقَهُ
وَذَلِكَ إخْبَارٌ مِنْهُ بِوُقُوعِ الْعَتَاقِ بِالْمِلْكِ لَا يَحْتَاجُ إلَى اسْتِئْنَافِهِ وَقَدْ رَوَى الْمُغِيرَةُ عَنْ إبْرَاهِيمَ فِي اللَّقِيطِ يَجِدُهُ الرَّجُلُ قَالَ إنْ نَوَى أَنْ يَسْتَرِقَّهُ كَانَ رَقِيقًا وَإِنْ نَوَى الْحِسْبَةَ عَلَيْهِ كَانَ عَتِيقًا وَهَذَا لَا مَعْنَى لَهُ لِأَنَّهُ إنْ كَانَ حُرًّا لَمْ يَصِرْ رَقِيقًا بِنِيَّةِ الْمُلْتَقِطِ وَإِنْ كَانَ عَبْدًا لَمْ يَصِرْ عَتِيقًا بِنِيَّتِهِ أَيْضًا وَأَيْضًا أَنَّ الْأَصْلَ فِي النَّاسِ الْحُرِّيَّةُ وَهُوَ الظَّاهِرُ أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ وَجَدْنَاهُ يَتَصَرَّفُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ أَنَّا نَحْكُمُ بِحُرِّيَّتِهِ وَلَا نَجْعَلُهُ عَبْدًا إلَّا بِبَيِّنَةٍ تَشْهَدُ بِذَلِكَ أَوْ بِإِقْرَارِهِ وَأَيْضًا فَإِنَّ اللَّقِيطَ لَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يَكُونَ وَلَدَ حُرَّةٍ أَوْ أَمَةٍ فَإِنْ كَانَ وَلَدَ حُرَّةٍ فَهُوَ حَرٌّ وَغَيْرُ جَائِزٍ اسْتِرْقَاقُهُ وَإِنْ كَانَ وَلَدَ أَمَةٍ فَهُوَ عَبْدٌ لِغَيْرِ الْمُلْتَقِطِ فَلَا يَجُوزُ لَنَا أَنْ نَتَمَلَّكَهُ فَفِي الْوُجُوهِ كُلِّهَا لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ اللَّقِيطُ عَبْدًا لِلْمُلْتَقِطِ وَأَيْضًا فَإِنَّ الرِّقَّ طَارِئٌ وَالْأَصْلُ الْحُرِّيَّةُ كَشَيْءٍ عَلِمْنَاهُ مِلْكًا لِإِنْسَانٍ وَادَّعَى غَيْرُهُ زواله إليه فلا تصدقه لِأَنَّهُ يَدَّعِي مَعْنًى طَارِئًا كَذَلِكَ حُكْمُ الْمُلْتَقِطِ فِيمَا يَثْبُتُ لَهُ مِنْ رِقِّ اللَّقِيطِ وَأَيْضًا لَمَّا كَانَ لُقَطَةُ الْمَالِ لَا تُوجِبُ لِلْمُلْتَقِطِ مِلْكًا فِيهَا مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّهُ مِلْكٌ فِي الْأَصْلِ كَانَ الْتِقَاطُ اللَّقِيطِ الَّذِي لَا يُعْلَمُ رقه أحرى أن
لا يُوجِبَ لِلْمُلْتَقِطِ مِلْكًا
وَقَدْ رَوَى حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ عَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ أَنَّ رَجُلًا تَزَوَّجَ امْرَأَةً فَوَلَدَتْ لِأَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهَا صَدَاقُهَا بِمَا اسْتَحَلَّ مِنْ فَرْجِهَا وَوَلَدُهَا مَمْلُوكٌ لَهُ
وَهُوَ حَدِيثٌ شَاذٌّ غَيْرُ مَعْمُولٍ عَلَيْهِ لِأَنَّ أَكْثَرَ مَا فِيهِ أَنَّهُ وَلَدُ زِنًا إذَا كَانَ مِنْ حُرَّةٍ فَهُوَ حَرٌّ وَلَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ وَلَدَ الزِّنَا وَاللَّقِيطِ حُرَّانِ قَوْله تَعَالَى وَشَرَوْهُ بثمن بخس دراهم معدودة
قَالَ الْفَرَّاءُ الثَّمَنُ مَا يَثْبُتُ فِي الذِّمَّةِ بَدَلًا مِنْ الْبِيَاعَاتِ مِنْ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ قَالَ أَبُو بَكْرٍ ظَاهِرُ الْكَلَامِ يَدُلُّ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ سمى الدراهم ثمنا بقوله وشروه بثمن وَقَوْلُ الْفَرَّاءِ مَقْبُولٌ مِنْ طَرِيقِ اللُّغَةِ فَإِذَا أَخْبَرَ أَنَّ الثَّمَنَ اسْمٌ لِمَا يَثْبُتُ فِي الذِّمَّةِ مِنْ الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرْنَا ثُمَّ سَمَّى اللَّهُ تَعَالَى الدَّرَاهِمَ ثَمَنًا اقْتَضَى ذَلِكَ ثُبُوتَهَا فِي الذِّمَّةِ مَتَى جُعِلَتْ بَدَلًا فِي عُقُودِ الْبِيَاعَاتِ سَوَاءٌ عَيَّنَهَا أَوْ أَطْلَقَهَا وَلَمْ يُعَيِّنْهَا لِأَنَّهَا لَوْ تَعَيَّنَتْ بِالتَّعْيِينِ لَخَرَجَتْ مِنْ أَنْ تَكُونَ ثَمَنًا إذْ كَانَتْ الْأَعْيَانُ لَا تَكُونُ أَثْمَانًا فِي الْحَقِيقَةِ إلَّا أَنْ يُجْرِيَهَا الْإِنْسَانُ مَجْرَى الْأَبْدَالِ فَيُسَمِّيهَا ثَمَنًا عَلَى مَعْنَى الْبَدَلِ تَشْبِيهًا بِالثَّمَنِ وَإِذَا ثَبَتَ ذَلِكَ وَجَبَ أَنْ لَا تَتَعَيَّنَ الدَّرَاهِمُ وَالدَّنَانِيرُ لِأَنَّ فِي تَعْيِينِهَا سَلْبُ الصِّفَةِ الَّتِي وَصَفَهَا اللَّهُ بِهَا مِنْ كَوْنِهَا ثَمَنًا إذْ الْأَعْيَانُ لَا تَكُونُ أَثْمَانًا وَالْبَخْسُ النَّقْصُ يُقَالُ بَخَسَهُ حَقَّهُ إذَا نَقَصَهُ وقوله دراهم معدودة رُوِيَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةَ قَالُوا كَانَتْ عِشْرِينَ دِرْهَمًا وَعَنْ مُجَاهِدٍ اثْنَانِ وَعِشْرُونَ دِرْهَمًا وَقِيلَ إنَّمَا سَمَّاهَا مَعْدُودَةً لِقِلَّتِهَا وَقِيلَ عَدُّوهَا وَلَمْ يَزِنُوهَا وَقِيلَ كَانُوا لَا يَزِنُونَ الدَّرَاهِمَ حَتَّى تَبْلُغَ أُوقِيَّةً وَأُوقِيَّتُهُمْ أَرْبَعُونَ درهما وقال ابن عباس ومجاهد إخوته كَانُوا حُضُورًا فَقَالُوا هَذَا عَبْدٌ لَنَا أَبَقَ فَاشْتَرَوْهُ مِنْهُمْ وَقَالَ قَتَادَةُ بَاعَهُ السَّيَّارَةُ قَوْله تعالى وكانوا فيه من الزاهدين قِيلَ إنَّ إخْوَتَهُ كَانُوا فِي الثَّمَنِ مِنْ الزَّاهِدِينَ وَإِنَّمَا كَانَ غَرَضُهُمْ أَنْ يُغَيِّبُوهُ عَنْ وَجْهِ أَبِيهِمْ
وقَوْله تَعَالَى وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْ مِصْرَ لامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَنْ ينفعنا رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ أَحْسَنُ النَّاسِ فِرَاسَةً ثَلَاثَةٌ الْعَزِيزُ حِينَ قَالَ لِامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا وَابْنَةُ شُعَيْبٍ حِينَ قَالَتْ فِي مُوسَى يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ وَأَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ حِينَ وَلَّى عُمَرَ
قَوْله تَعَالَى ولما بلغ أشده آتيناه حكما وعلما قِيلَ فِي مَعْنَى الْأَشُدِّ إنَّهَا الْقُوَّةُ مِنْ ثَمَانِي عَشْرَةَ إلَى سِتِّينَ سَنَةً وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ الْأَشُدُّ ابْنُ عِشْرِينَ سَنَةً وَقَالَ مُجَاهِدٌ ابْنُ ثَلَاثٍ وَثَلَاثِينَ سَنَةً
قَوْله تَعَالَى وَلَقَدْ همت به وهم بها روى عن الحسن بِهِ بِالْعَزِيمَةِ وَهَمَّ بِهَا مِنْ جِهَةِ الشَّهْوَةِ وَلَمْ يَعْزِمْ وَقِيلَ هَمَّا جَمِيعًا بِالشَّهْوَةِ
لِأَنَّ الْهَمَّ بِالشَّيْءِ مُقَارَبَتُهُ مِنْ غَيْرِ مُوَاقَعَةٍ وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ هَمَّ يُوسُفَ بِهَا لَمْ يَكُنْ مِنْ جِهَةِ الْعَزِيمَةِ وَإِنَّمَا كَانَ مِنْ جِهَةِ دَوَاعِي الشَّهْوَةِ قَوْلُهُ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ ربى أحسن مثواى وَقَوْلُهُ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ من عبادنا المخلصين فَكَانَ ذَلِكَ إخْبَارًا بِبَرَاءَةِ سَاحَتِهِ مِنْ الْعَزِيمَةِ عَلَى الْمَعْصِيَةِ وَقِيلَ إنَّ ذَلِكَ عَلَى التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ وَمَعْنَاهُ لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ هَمَّ بِهَا وَذَلِكَ لِأَنَّ جَوَابَ لَوْلَا لَا يَجُوزُ أَنْ يَتَقَدَّمَهُ لِأَنَّهُمْ لَا يُجِيزُونَ أَنْ نَقُولَ قَدْ أَتَيْتُك لَوْلَا زَيْدٌ وَجَائِزٌ أَنْ يكون على تقديره تَقْدِيمِ لَوْلَا قَوْله تَعَالَى لَوْلا أَنْ رَأَى برهان ربه قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنُ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَمُجَاهِدٌ رَأَى صُورَةَ يَعْقُوبَ عَاضًّا عَلَى أَنَامِلِهِ وَقَالَ قَتَادَةُ نُودِيَ يَا يُوسُفُ أَنْتَ مَكْتُوبٌ فِي الْأَنْبِيَاءِ وَتَعْمَلُ عَمَلَ السُّفَهَاءِ وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ رَأَى الْمَلَكَ وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ هُوَ مَا عَلِمَهُ مِنْ الدَّلَالَةِ عَلَى عِقَابِ الزِّنَا
قَوْله تَعَالَى وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قبل الْآيَةَ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَهِلَالِ بْنِ يَسَارٍ أَنَّهُ صَبِيٌّ فِي الْمَهْدِ وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أيضا والحسن وابن أَبِي مُلَيْكَةَ وَعِكْرِمَةَ قَالُوا هُوَ رَجُلٌ وَقَالَ عِكْرِمَةُ إنَّ الْمَلِكَ لَمَّا رَأَى يُوسُفَ مَشْقُوقَ الْقَمِيصِ عَلَى الْبَابِ قَالَ ذَلِكَ لِابْنِ عَمٍّ لَهُ فَقَالَ إنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَإِنَّهُ طَلَبَهَا فَامْتَنَعَتْ مِنْهُ وَإِنْ كَانَ مِنْ دُبُرٍ فَإِنَّهُ فَرَّ مِنْهَا وَطَلَبَتْهُ وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَحْتَجُّ بِهَذِهِ الْآيَةِ فِي الْحُكْمِ بِالْعَلَامَةِ فِي اللُّقَطَةِ إذَا ادَّعَاهَا مُدَّعٍ وَوَصَفَهَا وَقَدْ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي مُدَّعِي اللُّقَطَةِ إذَا وَصَفَ عَلَامَاتٍ فِيهَا فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ وَزُفَرُ وَمُحَمَّدٌ وَالشَّافِعِيُّ لَا يَسْتَحِقُّهَا بِالْعَلَامَةِ حَتَّى يُقِيمَ الْبَيِّنَةَ وَلَا يُجْبَرُ الْمُلْتَقِطُ عَلَى دَفْعِهَا إلَيْهِ بِالْعَلَامَةِ وَيَسَعُهُ أَنْ يَدْفَعَهَا وَإِنْ لَمْ يُجْبَرْ عَلَيْهِ فِي الْقَضَاءِ وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ فِي قِيَاسِ قَوْلِ مَالِكٍ يَسْتَحِقُّهَا بِالْعَلَامَةِ وَيُجْبَرُ عَلَى دَفْعِهَا إلَيْهِ فَإِنْ جَاءَ مُسْتَحِقٌّ فَاسْتَحَقَّهَا بِبَيِّنَةٍ لَمْ يَضْمَنْ الْمُلْتَقِطُ شَيْئًا وَقَالَ مَالِكٌ وَكَذَلِكَ اللُّصُوصُ إذَا وُجِدَ مَعَهُمْ أَمْتِعَةٌ فجاء قوم فادعوها وليست لَهُمْ بَيِّنَةٌ أَنَّ السُّلْطَانَ يَتَلَوَّمُ فِي ذَلِكَ فَإِنْ لَمْ يَأْتِ غَيْرُهُمْ دَفَعَهُ إلَيْهِمْ وَكَذَلِكَ الْآبِقُ وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ حَيٍّ يَدْفَعُهَا إلَيْهِ بِالْعَلَامَةِ وَقَالَ أَصْحَابُنَا فِي اللَّقِيطِ إذَا ادَّعَاهُ رَجُلَانِ وَوَصَفَ أَحَدُهُمَا عَلَامَةً فِي جَسَدِهِ إنَّهُ أَوْلَى مِنْ الْآخَرِ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ فِي مَتَاعِ الْبَيْتِ إذَا اخْتَلَفَ فِيهِ الرَّجُلُ والمرأة إن ما يكون للرجال فَهُوَ لِلرَّجُلِ وَمَا كَانَ لِلنِّسَاءِ فَهُوَ لِلْمَرْأَةِ وَمَا كَانَ لِلرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ فَهُوَ لِلرَّجُلِ فَحَكَمُوا فِيهِ بِظَاهِرِ هَيْئَةِ الْمَتَاعِ وَقَالُوا فِي الْمُسْتَأْجِرِ وَالْمُؤَاجِرِ إذَا اخْتَلَفَا فِي مِصْرَاعِ
385
بَابٍ مَوْضُوعٍ فِي الدَّارِ إنَّهُ إنْ كَانَ وَفْقًا لِمِصْرَاعٍ مُعَلَّقٍ فِي الْبِنَاءِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ رَبِّ الدَّارِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ وَفْقًا لَهُ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُسْتَأْجِرِ وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ جِذْعٌ مَطْرُوحٌ فِي دَارٍ وَعَلَيْهِ نُقُوشٌ وَتَصَاوِيرُ مُوَافِقَةٌ لِنُقُوشِ جُذُوعِ السَّقْفِ وَوَفْقًا لَهَا فَالْقَوْلُ قَوْلُ رَبِّ الدَّارِ وَإِنْ كَانَتْ مُخَالِفَةً لَهَا فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُسْتَأْجِرِ وَهَذِهِ مَسَائِلُ قَدْ حَكَمُوا فِي بَعْضِهَا بِالْعَلَامَةِ وَلَمْ يَحْكُمُوا بِهَا فِي بَعْضٍ وَلَا خِلَافَ بَيْنَ أَصْحَابِنَا أَنَّ رَجُلَيْنِ لَوْ تَنَازَعَا عَلَى قِرْبَةٍ وَهُمَا مُتَعَلِّقَانِ بِهَا وَأَحَدُهُمَا سَقَّاءٌ وَالْآخَرُ عَطَّارٌ أَنَّهُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ وَلَا يُقْضَى لِلسَّقَّاءِ بِذَلِكَ عَلَى الْعَطَّارِ فَأَمَّا قَوْلُهُمْ فِي اللُّقَطَةِ فَإِنَّ الْمُلْتَقِطَ لَهُ يَدٌ صَحِيحَةٌ وَالْمُدَّعِي لَهَا يُرِيدُ إزَالَةَ يَدِهِ
وَقَالَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي وَالْيَمِينُ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ
وَكَوْنُ الَّذِي فِي يَدِهِ مُلْتَقَطًا لَا يُخْرِجُ الْمُدَّعِيَ مِنْ أَنْ يَكُونَ مُدَّعِيًا فَلَا يُصَدَّقُ عَلَى دَعْوَاهُ إلَّا بِبَيِّنَةٍ إذْ لَيْسَتْ لَهُ يَدٌ وَالْعَلَامَةُ لَيْسَتْ ببينة لأن رجلا لو ادعى ما لا فِي يَدِ رَجُلٍ وَأَعْطَى عَلَامَتَهُ وَاَلَّذِي فِي يَدِهِ غَيْرُ مُلْتَقِطٍ لَمْ يَكُنْ ذِكْرُ الْعَلَامَةِ بَيِّنَةً يَسْتَحِقُّ بِهَا شَيْئًا وَأَمَّا قَوْلُ أَصْحَابِنَا فِي الرَّجُلَيْنِ يَدَّعِيَانِ لَقِيطًا كُلُّ وَاحِدٍ يَدَّعِي أَنَّهُ ابْنُهُ وَوَصَفَ أَحَدُهُمَا عَلَامَةً فِي جَسَدِهِ فَإِنَّمَا جَعَلُوهُ أَوْلَى اسْتِحْسَانًا مِنْ قِبَلِ أَنَّ مُدَّعِيَ اللَّقِيطِ يَسْتَحِقُّهُ بِدَعْوَاهُ مِنْ غَيْرِ عَلَامَةٍ وَيَثْبُتُ النَّسَبُ مِنْهُ بِقَوْلِهِ وَتَزُولُ يَدُ مَنْ هُوَ فِي يَدِهِ فَلَمَّا تَنَازَعَهُ اثْنَانِ صَارَ كَأَنَّهُ فِي أَيْدِيهِمَا لِأَنَّهُمَا قَدْ اسْتَحَقَّا أَنْ يُقْضَى بِالنَّسَبِ لَهُمَا لَوْ لَمْ يَصِفْ أَحَدُهُمَا عَلَامَةً فِي جَسَدِهِ فَلَمَّا زَالَتْ يَدُ مَنْ هُوَ فِي يَدِهِ صَارَ بِمَنْزِلَتِهِ لَوْ كَانَ فِي أَيْدِيهِمَا مِنْ طَرِيقِ الْحُكْمِ جَمِيعُهُ فِي يَدِ هَذَا وَجَمِيعُهُ فِي يَدِ هَذَا فَيَجُوزُ حِينَئِذٍ اعْتِبَارُ الْعَلَامَةِ وَنَظِيرُهُ الزَّوْجَانِ إذَا اخْتَلَفَا فِي مَتَاعِ الْبَيْتِ لَمَّا كَانَ لِكُلِّ وَاحِدٍ يَدٌ فِي الْجَمِيعِ اُعْتُبِرَ أَظْهَرُهُمَا تَصَرُّفًا وَآكَدُهُمَا يَدًا وَكَذَلِكَ الْمُسْتَأْجِرُ لَهُ يَدٌ فِي الدَّارِ وَالْمُؤَاجِرُ أَيْضًا لَهُ يَدٌ فِي جَمِيعِ الدَّارِ فَلَمَّا اسْتَوَيَا فِي الْيَدِ فِي الْجَمِيعِ كَانَ الَّذِي تَشْهَدُ لَهُ الْعَلَامَةُ الْمُوَافِقَةُ لِصِحَّةِ دَعْوَاهُ أَوْلَى وَكَانَ ذَلِكَ تَرْجِيحًا لِحُكْمِ يَدِهِ لَا أَنَّهُ يَسْتَحِقُّ بِهِ الْحُكْمَ لَهُ بِالْمِلْكِ كَمَا يَسْتَحِقُّ بِالْبَيِّنَاتِ فَهَذِهِ الْمَوَاضِعُ الَّتِي اعْتَبَرُوا فِيهَا الْعَلَامَةَ إنَّمَا اعْتَبَرُوهَا مَعَ ثُبُوتِ الْيَدِ لَكُلّ وَاحِدٍ مِنْ الْمُدَّعِيَيْنِ فِي الْجَمِيعِ فَصَارَتْ الْعَلَامَةُ مِنْ حُجَّةِ الْيَدِ دُونَ اسْتِحْقَاقِ الْمِلْكِ بِالْعَلَامَةِ وَأَمَّا الْمُدَّعِيَانِ إذَا كَانَ فِي أَيْدِيهِمَا شَيْءٌ مِنْ الْمَتَاعِ وَأَحَدُهُمَا مِمَّنْ يُعَالِجُ مِثْلَهُ وَهُوَ مِنْ آلَتِهِ الَّتِي يَسْتَعْمِلُهَا فِي صِنَاعَتِهِ فَإِنَّهُ مَعْلُومٌ أَنَّ فِي يَدِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا النِّصْفُ وَأَنَّ مَا فِي يَدِ هَذَا لَيْسَ فِي يَدِ الْآخَرِ مِنْهُ شَيْءٌ فَلَوْ حَكَمْنَا لِأَحَدِهِمَا بِظَاهِرِ صِنَاعَتِهِ أَوْ بِعَلَامَةٍ مَعَهُ لَكُنَّا قَدْ اسْتَحْقَقْنَا عَلَيْهِ يَدًا هِيَ لَهُ دُونَهُ فَهُمَا فِيهِ بِمَنْزِلَةِ
386
رَجُلِ إسْكَافٍ ادَّعَى قَالِبَ خُفٍّ فِي يَدِ صَيْرَفِيٍّ فَلَا يَسْتَحِقُّ يَدَ الصَّيْرَفِيِّ لِأَجْلِ أَنَّ ذَلِكَ مِنْ صِنَاعَتِهِ وَمَسْأَلَةُ اللُّقَطَةِ هِيَ هَذِهِ بِعَيْنِهَا لِأَنَّ الْمُدَّعِيَ لَا يَدَ لَهُ وَإِنَّمَا يُرِيدُ اسْتِحْقَاقَ يَدِ الْمُلْتَقِطِ بِالْعَلَامَةِ وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّهَا بِالدَّعْوَى إذَا لَمْ تَكُنْ مَعَهُ عَلَامَةٌ فَكَذَلِكَ الْعَلَامَةُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَسْتَحِقَّ بِهَا يَدَ الْغَيْرِ وَأَمَّا مَا
رُوِيَ فِي حَدِيثِ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ اللُّقَطَةِ فقال اعرف عفاصها وَوِعَاءَهَا وَوِكَاءَهَا ثُمَّ عَرِّفْهَا سَنَةً فَإِنْ جَاءَ صَاحِبُهَا وَإِلَّا فَشَأْنُك بِهَا
فَإِنَّهُ لَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى أَنَّ مُدَّعِيَهَا يَسْتَحِقُّهَا بِالْعَلَامَةِ لِأَنَّهُ يحتمل أن يكون إنما أمره بمعرفة العفاص وَالْوِعَاءِ وَالْوِكَاءِ لِئَلَّا يَخْتَلِطَ بِمَالِهِ وَلِيُعْلَمَ أَنَّهَا لَقْطَةٌ وَقَدْ يَكُونُ يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى صِدْقِ الْمُدَّعِي فَيَسَعُهُ دَفْعُهَا إلَيْهِ وَإِنْ لَمْ يَلْزَمْ فِي الْحُكْمِ وَقَدْ يَكُونُ لِذِكْرِ الْعَلَامَةِ وَلِمَا يَظْهَرُ مِنْ الْحَالِ تَأْثِيرٌ فِي الْقَلْبِ يَغْلِبُ فِي الظَّنِّ صِدْقُهُ وَلَكِنَّهُ لَا يَعْمَلُ عَلَيْهِ فِي الْحُكْمِ وَقَدْ اسْتَدَلَّ يَعْقُوبُ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلَى كَذِبِ إخْوَةِ يُوسُفَ بِأَنَّهُ لَوْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ لَخَرَّقَ قَمِيصَهُ وَقَدْ رُوِيَ عَنْ شُرَيْحٍ وَإِيَاسِ بْنِ مُعَاوِيَةَ أَشْيَاءُ نَحْوُ هَذَا رَوَى ابْنُ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ اخْتَصَمَ إلَى شُرَيْحٍ امْرَأَتَانِ فِي وَلَدِ هِرَّةٍ فَقَالَتْ إحْدَاهُمَا هَذِهِ وَلَدُ هِرَّتِي وَقَالَتْ الْأُخْرَى هَذِهِ وَلَدُ هِرَّتِي فَقَالَ أَلْقُوهَا مَعَ هَذِهِ فَإِنْ دَرَّتْ وَقَرَّتْ وَاسْبَطَرَتْ فَهِيَ لَهَا وَإِنْ هَرَّتْ وَفَرَّتْ وَازْبَأَرَّتْ فَلَيْسَ لَهَا وَرَوَى حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ قَالَ أَخْبَرَنِي مُخْبِرٌ عَنْ إيَاسِ بْنِ مُعَاوِيَةَ أَنَّ امْرَأَتَيْنِ ادَّعَتَا كُبَّةَ غَزْلٍ فَخَلَا بِإِحْدَاهُمَا وَقَالَ عَلَامَ كَبَبْت غَزْلَك فَقَالَتْ عَلَى جَوْزَةٍ وَخَلَا بِالْأُخْرَى فَقَالَتْ عَلَى كِسْرَةِ خُبْزٍ فَنَقَضُوا الْغَزْلَ فَدَفَعُوهُ إلَى الَّتِي أَصَابَتْ وَهَذَا الَّذِي كَانَ يَفْعَلُهُ شُرَيْحٌ وَإِيَاسٌ مِنْ نَحْوِ هَذَا لَمْ يَكُنْ عَلَى وَجْهِ إمْضَاءِ الْحُكْمِ بِهِ وَإِلْزَامِ الْخَصْمِ إيَّاهُ وَإِنَّمَا كَانَ عَلَى جِهَةِ الِاسْتِدْلَالِ بِمَا يَغْلِبُ فِي الظَّنِّ مِنْهُ فَيُقَرِّرُ بَعْدَ ذَلِكَ الْمُبْطِلَ مِنْهُمَا وَقَدْ يَسْتَحْيِ الْإِنْسَانُ إذَا ظَهَرَ مِثْلُ هَذَا مِنْ الْإِقَامَةِ عَلَى الدَّعْوَى فَيُقِرُّ فَيُحْكَمُ عَلَيْهِ بِالْإِقْرَارِ
قَوْله تَعَالَى قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا قِيلَ فِيهِ إضْمَارُ عَصِيرِ الْعِنَبِ لِلْخَمْرِ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْخَمْرَ الْمَائِعَةَ لَا يَتَأَتَّى فِيهَا الْعَصْرُ وقيل معناه أعصر ما يؤول إلَى الْخَمْرِ فَسَمَّاهُ بِاسْمِ الْخَمْرِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ خَمْرًا عَلَى وَجْهِ الْمَجَازِ وَجَائِزٌ أَنْ يَعْصِرَ مِنْ الْعِنَبِ خَمْرًا بِأَنْ يَطْرَحَ الْعِنَبَ فِي الْخَابِيَةِ وَيُتْرَكَ حَتَّى يَنُشَّ وَيَغْلِيَ فَيَكُونَ مَا فِي الْعِنَبِ خَمْرًا فَيَكُونَ الْعَصْرُ لِلْخَمْرِ عَلَى وَجْهِ الْحَقِيقَةِ وَقَالَ الضَّحَّاكُ فِي لُغَةٍ تُسَمِّي الْعِنَبَ خَمْرًا قَوْله تَعَالَى نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إنَّا نَرَاك مِنْ الْمُحْسِنِينَ قَالَ قَتَادَةُ كَانَ يُدَاوِي مَرِيضَهُمْ وَيُعَزِّي حَزِينَهُمْ وَيَجْتَهِدُ فِي عِبَادَةِ
رَبِّهِ وَقِيلَ كَانَ يُعِينُ الْمَظْلُومَ وَيَنْصُرُ الضَّعِيفَ ويعود الْمَرِيضَ وَقِيلَ مِنْ الْمُحْسِنِينَ فِي عِبَارَةِ الرُّؤْيَا لِأَنَّهُ كَانَ يَعْبُرُ لِغَيْرِهِمَا
قَوْله تَعَالَى قَالَ لا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ الْآيَةَ
قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ عَدَلَ عَنْ تَأْوِيلِ الرُّؤْيَا إلَى الْإِخْبَارِ بِهَذَا لَمَّا رَأَى عَلَى أَحَدِهِمَا فِيهِ مِنْ الْمَكْرُوهِ فَلَمْ يَدَعَاهُ حَتَّى أَخْبَرَهُمَا بِهِ وَقِيلَ إنَّمَا قَدَّمَ هَذَا لَيَعْلَمَا ما خصه الله تعالى مِنْ النُّبُوَّةِ وَلِيُقْبِلَا إلَى طَاعَةِ اللَّهِ وَقَدْ كَانَ يُوسُفُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِيمَا بَيْنَهُمْ قَبْلَ ذَلِكَ زَمَانًا فَلَمْ يَحْكِ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ ذَكَرَ لَهُمْ شَيْئًا مِنْ الدُّعَاءِ إلَى اللَّهِ وَكَانُوا قَوْمًا يَعْبُدُونَ الْأَوْثَانَ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَمْ يَطْمَعْ مِنْهُمْ فِي الِاسْتِمَاعِ وَالْقَبُولِ فَلَمَّا رَآهُمْ مُقْبِلِينَ إلَيْهِ عَارِفِينَ بِإِحْسَانِهِ أَمَلَ مِنْهُمْ الْقَبُولَ وَالِاسْتِمَاعَ فَقَالَ يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خير أم الله الواحد القهار الْآيَةَ وَهُوَ مِنْ قَوْله تَعَالَى ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ والموعظة الحسنة وَتَرَقَّبْ وَقْتَ الِاسْتِمَاعِ وَالْقَبُولِ مِنْ الدُّعَاءِ إلَى سَبِيلِ اللَّهِ بِالْحِكْمَةِ وَإِنَّمَا حَكَى اللَّهُ ذَلِكَ لَنَا لِنَقْتَدِيَ بِهِ فِيهِ
قَوْله تَعَالَى وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ ربك فأنساه الشيطان ذكر ربه الظن هاهنا بِمَعْنَى الْيَقِينِ لِأَنَّهُ عَلِمَ يَقِينًا وُقُوعَ مَا عَبَّرَ عَلَيْهِ الرُّؤْيَا وَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى إِنِّي ظننت أنى ملاق حسابيه ومعناه أيقنت وقوله فأنساه الشيطان هَذِهِ الْهَاءُ تَعُودُ عَلَى يُوسُفَ عَلَى مَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَقَالَ الْحَسَنُ وَابْنُ إِسْحَاقَ عَلَى السَّاقِي وَفِيهِ بَيَانُ أَنَّ لُبْثَهُ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ إنَّمَا كَانَ لِأَنَّهُ سَأَلَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا أَنْ يَذْكُرَهُ عِنْدَ الْمَلِكِ وَكَانَ ذَلِكَ مِنْهُ عَلَى جِهَةِ الْغَفْلَةِ فَإِنْ كَانَ التَّأْوِيلُ عَلَى مَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَنَّ الشَّيْطَانَ أَنْسَى يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ ذِكْرَ رَبِّهِ يَعْنِي ذِكْرَ اللَّهِ تَعَالَى وَأَنَّ الْأَوْلَى كَانَ فِي تِلْكَ الْحَالِ أَنْ يَذْكُرَ الله ولا يشتغل بمسئلة النَّاجِي مِنْهُمَا أَنْ يَذْكُرَهُ عِنْدَ صَاحِبِهِ فَصَارَ اشْتِغَالُهُ عَنْ اللَّهِ تَعَالَى فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ سَبَبًا لِبَقَائِهِ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ وَإِنْ كَانَ التَّأْوِيلُ أَنَّ الشَّيْطَانَ أَنْسَى السَّاقِيَ فَلِأَنَّ يُوسُفَ لَمَّا سَأَلَ السَّاقِيَ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ مِنْ اللَّهِ تَوْفِيقٌ لِلسَّاقِي وَخَلَّاهُ وَوَسَاوِسَ الشَّيْطَانِ وَخَوَاطِرَهُ حَتَّى أَنْسَاهُ ذِكْرُ رَبِّهِ أَمْرَ يُوسُفَ وَأَمَّا الْبِضْعُ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ هُوَ مِنْ الثلاث إلَى الْعَشْرِ وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ إلَى التِّسْعِ وَقَالَ وَهْبٌ لَبِثَ سَبْعَ سِنِينَ
قَوْله تَعَالَى قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلامٍ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الأَحْلامِ بعالمين فَإِنَّا قَدْ عَلِمْنَا أَنَّ الرُّؤْيَا كَانَتْ صَحِيحَةً وَلَمْ تَكُنْ أَضْغَاثَ أَحْلَامٍ لِأَنَّ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَبَّرَهَا عَلَى سِنِي الْخَصْبِ وَالْجَدْبِ وَهُوَ يُبْطِلُ قَوْلَ مَنْ يَقُولُ إنَّ الرُّؤْيَا عَلَى أَوَّلِ مَا تُعَبَّرُ لِأَنَّ الْقَوْمَ قَالُوا هِيَ أَضْغَاثُ أَحْلَامِ وَلَمْ
تقع كذلك ويدل على فساد الرواية بِأَنَّ الرُّؤْيَا عَلَى رَجُلٍ طَائِرٍ فَإِذَا عَبَرَتْ وَقَعَتْ
قَوْله تَعَالَى وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جَاءَهُ الرَّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ الْآيَةَ يُقَالُ إنَّ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ إنَّمَا لَمْ يُجِبْهُمْ إلَى الذَّهَابِ إلَى الْمَلِكِ حَتَّى رد الرسول إليه بأن يسئل عَنْ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ لِتَظْهَرَ بَرَاءَةُ سَاحَتِهِ فَيَكُونَ أَجَلَّ فِي صَدْرِهِ عِنْدَ حُضُورِهِ وَأَقْرَبَ إلَى قَبُولِ مَا يَدْعُوهُ إلَيْهِ مِنْ التَّوْحِيدِ وَقَبُولِ مَا يُشِيرُ بِهِ عَلَيْهِ
قَوْله تَعَالَى ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ قَالَ الْحَسَنُ وَمُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ وَالضَّحَّاكُ هَذَا مِنْ قَوْلِ يُوسُفَ يَقُولُ إنِّي إنَّمَا رَدَدْت الرَّسُولَ إلَيْهِ فِي سُؤَالِ النِّسْوَةِ لِيَعْلَمَ الْعَزِيزُ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَإِنْ كَانَ ابْتِدَاءُ الْحِكَايَةِ عَنْ الْمَرْأَةِ فَإِنَّهُ رَدَّ الْكَلَامَ إلَى الْحِكَايَةِ عَنْ قَوْلِ يُوسُفَ لِظُهُورِ الدَّلَالَةِ عَلَى الْمَعْنَى وذلك نحو قوله وكذلك يفعلون وَقَبْلَهُ حِكَايَةٌ عَنْ الْمَرْأَةِ وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أذلة وقوله فماذا تأمرون وَقَبْلَهُ حِكَايَةُ قَوْلِ الْمَلَإِ يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ من أرضكم بسحره
قوله تعالى إن النفس لأمارة بالسوء يَعْنِي أَنَّ النَّفْسَ كَثِيرَةُ النِّزَاعِ إلَى السُّوءِ فَلَا يُبَرِّئُ نَفْسَهُ وَإِنْ كَانَ لَا يُطَاوِعُهَا وَقَدْ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي قَائِلِ هَذَا الْقَوْلِ فَقَالَ قَائِلُونَ هُوَ مِنْ قَوْلِ يُوسُفَ وَقَالَ آخَرُونَ هُوَ مِنْ قَوْلِ الْمَرْأَةِ الْأَمَّارَةُ الْكَثِيرَةُ الْأَمْرِ بِالشَّيْءِ وَالنَّفْسُ بِهَذِهِ الصِّفَةِ لِكَثْرَةِ مَا تَشْتَهِيهِ وَتُنَازِعُ إلَيْهِ مِمَّا يَقَعُ الْفِعْلُ مِنْ أَجْلِهِ وَقَدْ كَانَتْ إضَافَةُ الْأَمْرِ بِالسُّوءِ إلَى النَّفْسِ مَجَازًا فِي أَوَّلِ اسْتِعْمَالِهِ ثُمَّ كَثُرَ حَتَّى سَقَطَ عَنْهُ اسْمُ الْمَجَازِ وَصَارَ حَقِيقَةً فَيُقَالُ نَفْسِي تَأْمُرُنِي بِكَذَا وَتَدْعُونِي إلَى كَذَا مِنْ جِهَةِ شَهْوَتِي لَهُ وَإِنَّمَا لَمْ يَصِحَّ أَنْ يَأْمُرَ الْإِنْسَانُ نَفْسَهُ فِي الْحَقِيقَةِ لِأَنَّ فِي الْأَمْرِ تَرْغِيبًا لِلْمَأْمُورِ بِتَمْلِيكِ مَا لَا يملك ومحال أن يملك الْإِنْسَانُ نَفْسَهُ فِي الْحَقِيقَةِ لِأَنَّ فِي الْأَمْرِ تَرْغِيبًا لِلْمَأْمُورِ بِتَمْلِيكِ مَا لَا يَمْلِكُ وَمُحَالٌ أَنْ يُمَلِّكَ الْإِنْسَانُ نَفْسَهُ مَا لَا يَمْلِكُهُ لِأَنَّ مَنْ مَلَكَ شَيْئًا فَإِنَّمَا يَمْلِكُ مَا هُوَ مَالِكُهُ
قَوْله تَعَالَى وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ اليوم لدينا مكين أمين هَذَا الْمَلِكُ لَمَّا كَانَ مِنْ أَهْلِ الْعَقْلِ وَالدِّرَايَةِ لَمْ يَرُعْهُ مِنْ يُوسُفَ مَنْظَرُهُ الرَّائِعُ الْبَهِجُ كَمَا رَاعَ النِّسَاءَ لِقِلَّةِ عُقُولِهِنَّ وَضَعْفِ أَحْلَامِهِنَّ وَأَنَّهُنَّ إنَّمَا نَظَرْنَ إلَى ظَاهِرِ حُسْنِهِ وَجَمَالِهِ دُونَ عِلْمِهِ وَعَقْلِهِ وَأَنَّ الْمَلِكَ لَمْ يَعْبَأْ بِذَلِكَ وَلَكِنَّهُ لَمَّا كَلَّمَهُ وَوَقَفَ عَلَى كَمَالِهِ بِبَيَانِهِ وَعِلْمِهِ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مكين أمين
فَقَالَ يُوسُفُ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ إِنِّي حفيظ عليم فَوَصَفَ نَفْسَهُ بِالْعِلْمِ وَالْحِفْظِ وَفِي هَذَا دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُ جَائِزٌ لِلْإِنْسَانِ أَنْ يَصِفَ نَفْسَهُ بِالْفَضْلِ عِنْدَ مَنْ لَا يَعْرِفُهُ وَأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ الْمَحْظُورِ مِنْ تَزْكِيَةِ النَّفْسِ فِي قَوْله تعالى فلا تزكوا أنفسكم
قَوْله تَعَالَى ائْتُونِي بِأَخٍ
لكم من أبيكم
- إلَى قَوْلِهِ- فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلا كيل لكم عندى يُقَالُ إنَّ الَّذِي اقْتَضَى طَلَبَهُ لِلْأَخِ مِنْ أَبِيهِمْ مُفَاوَضَتُهُ لَهُمْ بِالسُّؤَالِ عَنْ أَخْبَارِهِمْ فَلَمَّا ذَكَرُوا إيثَارَ أَبِيهِمْ لَهُ عَلَيْهِمْ بِمَحَبَّتِهِ إيَّاهُ مَعَ حِكْمَتِهِ أَظْهَرَ أَنَّهُ يُحِبُّ أَنْ يَرَاهُ وَأَنَّ نَفْسَهُ مُتَطَلِّعَةٌ إلَى عِلْمِ السَّبَبِ فِي ذلك وكان غرضه في ذلك التَّوَصُّلِ إلَى حُصُولِهِ عِنْدَهُ وَكَانَ قَدْ خَافَ أَنْ يَكْتُمُوا أَبَاهُ أَمْرَهُ إنْ ظَهَرَ لَهُمْ أَنَّهُ يُوسُفُ وَأَنْ يَتَوَصَّلُوا إلَى أَنْ يَحُولُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الِاجْتِمَاعِ مَعَهُ وَمَعَ أَخِيهِ فَأَجْرَى تَدْبِيرَهُ عَلَى تَدْرِيجٍ لِئَلَّا يَهْجُمَ عَلَيْهِمْ مَا يَشْتَدُّ اضْطِرَابُهُمْ مَعَهُ
قَوْله تَعَالَى يَا بَنِيَّ لا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أبواب متفرقة قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنُ وَقَتَادَةُ وَالضَّحَّاكُ وَالسُّدِّيُّ كَانُوا ذَوِي صُورَةٍ وَجَمَالٍ فَخَافَ عَلَيْهِمْ الْعَيْنَ وَقَالَ غَيْرُهُمْ خَافَ عَلَيْهِمْ حَسَدَ النَّاسِ لَهُمْ وَأَنْ يَبْلُغَ الْمَلِكَ قُوَّتُهُمْ وَبَطْشُهُمْ فَيَقْتُلهُمْ خَوْفًا عَلَى مُلْكِهِ وَمَا قَالَتْهُ الْجَمَاعَةُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْعَيْنَ حَقٌّ
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ الْعَيْنُ حَقٌّ
قَوْله تَعَالَى جَعَلَ السِّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لسارقون قِيلَ أَمَرَ يُوسُفُ بَعْضَ أَصْحَابِهِ بِأَنْ يَجْعَلَ الصَّاعَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ قَالَ قَائِلٌ مِنْ الْمُوَكَّلِينَ بِالصِّيعَانِ وَقَدْ فَقَدُوهُ وَلَمْ يَدْرُوا من أخذه أيتها العير إنكم لسارقون عَلَى ظَنٍّ مِنْهُمْ أَنَّهُمْ كَذَلِكَ وَلَمْ يَأْمُرْهُمْ يُوسُفُ بِذَلِكَ فَلَمْ يَكُنْ قَوْلُ هَذَا الْقَائِلِ كَذِبًا إذْ كَانَ مَرْجِعُهُ إلَى غَالِبِ ظَنِّهِ وَمَا هُوَ عِنْدَهُ وَفِيمَا تَوَصَّلَ يُوسُفُ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِهِ إلَى أَخْذِ أَخِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُ جَائِزٌ لِلْإِنْسَانِ التَّوَصُّلُ إلَى أَخْذِ حَقِّهِ مِنْ غَيْرِهِ بِمَا يُمْكِنُهُ الْوُصُولُ إلَيْهِ بِغَيْرِ رِضَا مَنْ عَلَيْهِ الْحَقُّ
قَوْله تَعَالَى وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ رُوِيَ عَنْ يَحْيَى بْنِ يَمَانٍ عَنْ يَزِيدَ بْنِ زُرَيْعٍ عَنْ عَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ وَأَنَا بِهِ زعيم قَالَ كَفِيلٌ قَالَ أَبُو بَكْرٍ ظَنَّ بَعْضُ النَّاسِ أَنَّ ذَلِكَ كَفَالَةٌ عَنْ إنْسَانٍ وَلَيْسَ كَذَلِكَ لِأَنَّ قَائِلَ ذَلِكَ جَعَلَ حِمْلَ بَعِيرٍ أُجْرَةً لِمَنْ جَاءَ بِالصَّاعِ وَأَكَّدَهُ بِقَوْلِهِ أَنَا بِهِ زَعِيمٌ يَعْنِي ضَامِنٌ قَالَ الشَّاعِرُ:
وَإِنِّي زَعِيمٌ إنْ رَجَعْت مُسْلِمًا بِسَيْرٍ يُرَى مِنْهُ الْفَرَانِقُ أَزْوَرَا
أَيْ ضَامِنٌ لِذَلِكَ فَهَذَا الْقَائِلُ لَمْ يَضْمَنْ عَنْ إنْسَانٍ شَيْئًا وَإِنَّمَا أَلْزَمَ نَفْسَهُ ضَمَانَ الْأُجْرَةِ لِرَدِّ الصَّاعِ وَهَذَا أَصْلٌ فِي جَوَازِ قَوْلِ الْقَائِلِ مَنْ حَمَلَ هَذَا الْمَتَاعَ إلَى مَوْضِعِ كَذَا فَلَهُ دِرْهَمٌ وَأَنَّ هَذِهِ إجَارَةٌ جَائِزَةٌ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ يُشَارِطُ عَلَى ذَلِكَ رَجُلًا بِعَيْنِهِ وَكَذَلِكَ قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ فِي السِّيَرِ الْكَبِيرِ إذَا قَالَ أَمِيرُ الْجَيْشِ مَنْ سَاقَ هَذِهِ الدَّوَابَّ إلَى مَوْضِعِ كَذَا أَوْ قَالَ مَنْ حَمَلَ هَذَا الْمَتَاعَ إلَى مَوْضِعِ كَذَا فَلَهُ كَذَا أَنَّ هَذَا جَائِزٌ وَمَنْ حَمَلَهُ اسْتَحَقَّ الْأَجْرَ
وَهَذَا مَعْنَى مَا ذُكِرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَقَدْ ذَكَرَ هِشَامٌ عَنْ مُحَمَّدٍ أَيْضًا فِيمَنْ كَانَتْ فِي يَدِهِ دَارٌ لِرَجُلٍ يَسْكُنْهَا فَقَالَ إنْ أَقَمْت فِيهَا بَعْدَ يَوْمِك هَذَا فَأُجْرَةُ كُلِّ يَوْمٍ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ عَلَيْك أَنَّ هَذَا جَائِزٌ وَإِنْ أَقَامَ فِيهَا بَعْدَ هَذَا الْقَوْلِ لزمه كل يَوْمٍ مَا سَمَّى فَجَعَلَ سُكْنَاهُ بَعْدَ ذَلِكَ رِضًا وَكَانَ ذَلِكَ إجَارَةً وَإِنْ لَمْ يُقَاوِلْهُ بِاللِّسَانِ وَفِي الْآيَةِ دَلَالَةٌ عَلَى ذَلِكَ لِأَنَّهُ قَدْ أَخْبَرَ أَنَّ مَنْ رَدَّ الصَّاعَ اسْتَحَقَّ الْأَجْرَ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمَا عَقْدُ إجَارَةٍ بَلْ فِعْلُهُ لِذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ قَبُولِ الْإِجَارَةِ وَعَلَى هَذَا قَالُوا فِيمَنْ قَالَ لِآخَرَ قَدْ اسْتَأْجَرْتُك عَلَى حَمْلِ هَذَا الْمَتَاعِ إلَى مَوْضِعِ كَذَا بِدِرْهَمٍ أَنَّهُ إنْ حَمَلَهُ اسْتَحَقَّ الدِّرْهَمَ وَإِنْ لَمْ يَتَكَلَّمْ بِقَبُولِهَا فَإِنْ قِيلَ إنَّ هَذَا لَمْ يَكُنْ إجَارَةً لِأَنَّ الْإِجَارَةَ لَا تَصِحُّ عَلَى حِمْلِ بَعِيرٍ وَإِنْ كَانَتْ إجَارَةً فَهِيَ مَنْسُوخَةٌ لِأَنَّ الْإِجَارَةَ لَا تَجُوزُ فِي شَرِيعَةِ نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَّا بِأَجْرٍ مَعْلُومٍ قِيلَ لَهُ هُوَ أَجْرٌ مَعْلُومٌ لِأَنَّ حِمْلَ بَعِيرٍ اسْمٌ لِمِقْدَارٍ مَا مِنْ الْكَيْلِ وَالْوَزْنِ كَقَوْلِهِمْ كَارَّةٌ وَوِقْرٌ وَوَسْقٌ وَنَحْوُ ذَلِكَ وَلَمَّا لَمْ يُنْكِرْ يُوسُفُ عَلَيْهِ السَّلَامُ ذَلِكَ دل على صحنه وَشَرَائِعُ مَنْ قَبْلَنَا مِنْ الْأَنْبِيَاءِ حُكْمُهَا ثَابِتٌ عِنْدَنَا مَا لَمْ تُنْسَخْ
قَوْله تَعَالَى قَالُوا جَزَاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ قَالَ الْحَسَنُ وَأَبُو إِسْحَاقَ وَمَعْمَرٌ وَالسُّدِّيُّ كَانَ مِنْ عَادَتِهِمْ أَنْ يَسْتَرِقُّوا السَّارِقَ فَكَانَ تَقْدِيرُهُ جَزَاؤُهُ أَخْذُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ رَقِيقًا فهو جزاء عِنْدَنَا كَجَزَائِهِ عِنْدَكُمْ فَلَمَّا وُجِدَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ أَخَذَهُ عَلَى مَا شَرَطَ أَنَّهُ جَزَاءُ سَرِقَتِهِ فَقَالُوا خُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ عَبْدًا رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ الْحَسَنِ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ قَدْ كَانَ يَجُوزُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ اسْتِرْقَاقُ الْحُرِّ بِالسَّرِقَةِ وَكَانَ يَجُوزُ لِلْإِنْسَانِ أَنْ يُرِقَّ نَفْسَهُ لِغَيْرِهِ لِأَنَّ إخْوَةَ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ بَذَلُوا وَاحِدًا مِنْهُمْ لِيَكُونَ عَبْدًا بَدَلَ أَخِي يُوسُفَ
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَبْدٍ سَرَقَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَاعَهُ فِي دَيْنٍ عَلَيْهِ وَكَانَ حُرًّا
فَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْحُكْمُ قَدْ كَانَ ثَابِتًا إلَى أَنْ نُسِخَ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلّم وفيما قص الله عَلَيْنَا مِنْ قِصَّةِ يُوسُفَ وَحِفْظِهِ لِلْأَطْعِمَةِ فِي سِنِي الْجَدْبِ وَقِسْمَتِهِ عَلَى النَّاسِ بِقَدْرِ الْحَاجَةِ دلالة على أن للأئمة فِي كُلِّ عَصْرٍ أَنْ يَفْعَلُوا مِثْلَ ذَلِكَ إذا علموا هَلَاكَ النَّاسِ مِنْ الْقَحْطِ
قَوْله تَعَالَى ارْجِعُوا إِلَى أَبِيكُمْ فَقُولُوا يَا أَبَانَا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَمَا شَهِدْنَا إِلا بِمَا علمنا إنَّمَا أَخْبَرُوا عَنْ ظَاهِرِ الْحَالِ لَا عَنْ بَاطِنِهَا إذْ لَمْ يَكُونُوا عَالِمِينَ بِبَاطِنِهَا وَلِذَلِكَ قالوا وما كنا للغيب حافظين فَكَانَ فِي الظَّاهِرِ لَمَّا وُجِدَ الصَّاعُ فِي رَحْلِهِ أَنَّهُ هُوَ الْآخِذُ لَهُ فَقَالُوا وَمَا شهدنا إلا بما علمنا يَعْنِي مِنْ الْأَمْرِ الظَّاهِرِ لَا مِنْ الْحَقِيقَةِ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ إطْلَاقِ اسْمِ الْعِلْمِ مِنْ طَرِيقِ الظَّاهِرِ
391
وَإِنْ لَمْ يُعْلَمْ حَقِيقَةً وَهُوَ كَقَوْلِهِ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ وَمَعْلُومٌ أَنَّا لَا نُحِيطُ بِضَمَائِرِهِنَّ عِلْمًا وَإِنَّمَا هُوَ عَلَى مَا يَظْهَرُ مِنْ إيمَانِهِنَّ وَقَدْ قِيلَ فِي قَوْلِهِ وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ مَعْنَيَانِ أَحَدُهُمَا مَا رُوِيَ عَنْ الْحَسَنِ وَمُجَاهِدٍ وَقَتَادَةَ مَا كُنَّا نَشْعُرُ أَنَّ ابْنَك سَيَسْرِقُ وَالْآخَرُ مَا قَدَّمْنَا وَهُوَ أَنَّا لَا نَدْرِي بَاطِنَ الْأَمْرِ فِي السَّرِقَةِ فَإِنْ قِيلَ لِمَ جَازَ لَهُ اسْتِخْرَاجُ الصَّاعِ مِنْ رَحْلِ أَخِيهِ عَلَى حَالٍ يُوجِبُ تُهْمَتَهُ عِنْدَ النَّاسِ مَعَ براءة ساحته وغم أَبِيهِ وَإِخْوَتَهُ بِهِ قِيلَ لَهُ لِأَنَّهُ كَانَ فِي ذَلِكَ ضُرُوبٌ مِنْ الصَّلَاحِ وَقَدْ كَانَ ذَلِكَ عَنْ مُوَاطَأَةٍ مِنْ أَخِيهِ لَهُ عَلَى ذَلِكَ وَتَلَطُّفٍ فِي إعْلَامِ أَبِيهِ بِسَلَامَتِهِمَا وَلَمْ يَكُنْ لِأَحَدٍ أَنْ يَتَّهِمَهُ بِالسَّرِقَةِ مَعَ إمْكَانِ أَنْ يَكُونَ غَيْرُهُ جَعَلَهُ فِي رَحْلِهِ وَلِأَنَّ الله تعالى أمره بذلك تعريضا لِيَعْقُوبَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِلْبَلْوَى بِفَقْدِهِ أَيْضًا لِيَصْبِرَ فَيَتَضَاعَفَ لِيَعْقُوبَ عَلَيْهِ السَّلَامُ الثَّوَابُ الْجَزِيلُ بِصَبْرِهِ عَلَى فَقْدِهِمَا وَفِيمَا حَكَى اللَّهُ تَعَالَى مِنْ أَمْرِ يُوسُفَ وَمَا عَامَلَ بِهِ إخْوَتَهُ فِي قوله فلما جهزهم بجهازهم- إلى قوله- كذلك كدنا ليوسف دَلَالَةٌ عَلَى إجَازَةِ الْحِيلَةِ فِي التَّوَصُّلِ إلَى الْمُبَاحِ وَاسْتِخْرَاجِ الْحُقُوقِ وَذَلِكَ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى رَضِيَ ذَلِكَ مِنْ فِعْلِهِ وَلَمْ يُنْكِرْهُ وَقَالَ في آخر القصة كذلك كدنا ليوسف وَمِنْ نَحْوِ ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى وَخُذْ بِيَدِكَ ضغثا فاضرب به ولا تحنث وَكَانَ حَلَفَ أَنْ يَضْرِبَهَا عَدَدًا فَأَمَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِأَخْذِ الضِّغْثِ وَضَرْبِهَا بِهِ لِيَبَرَّ فِي يَمِينِهِ مِنْ غَيْرِ إيصَالِ أَلَمٍ كَبِيرٍ إلَيْهَا وَمِنْ نَحْوِهِ النَّهْيُ عَنْ التَّصْرِيحِ بِالْخِطْبَةِ وَإِبَاحَةُ التَّوَصُّلِ إلَى إعْلَامِهَا رَغْبَتَهُ بِالتَّعْرِيضِ وَمِنْ جِهَةِ السُّنَّةِ
حَدِيثُ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ وَأَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ اسْتَعْمَلَ رَجُلًا عَلَى خَيْبَرَ فَأَتَاهُ بِتَمْرٍ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَكُلُّ تَمْرِ خَيْبَرَ هَكَذَا فَقَالَ لَا وَاَللَّهِ إنَّمَا نَأْخُذُ الصَّاعَ بِالصَّاعَيْنِ وَالصَّاعَيْنِ بِالثَّلَاثَةِ قَالَ فَلَا تَفْعَلْ بِعْ الْجَمِيعَ بِالدَّرَاهِمِ ثُمَّ اشْتَرِ بِالدَّرَاهِمِ تَمْرًا كَذَا رَوَى ذَلِكَ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ عَنْ عَبْدِ الْمَجِيدِ بْنِ سُهَيْلٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ
فَحَظَرَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ التَّفَاضُلَ فِي التَّمْرِ وَعَلَّمَهُ كَيْفَ يَحْتَالُ فِي التَّوَصُّلِ إلَى أَخْذِ هَذَا التَّمْرِ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ
قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِهِنْدٍ خُذِي مِنْ مَالِ أَبِي سُفْيَانَ مَا يَكْفِيك وَوَلَدَك بِالْمَعْرُوفِ
فَأَمَرَهَا بِالتَّوَصُّلِ إلَى أَخْذِ حَقِّهَا وَحَقِّ وَلَدِهَا
وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إذَا أَرَادَ سَفَرًا وَرَّى بِغَيْرِهِ
وَرَوَى يُونُسُ وَمَعْمَرٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ قال أرسلت بنوا قُرَيْظَةَ إلَى أَبِي سُفْيَانَ بْنِ حَرْبٍ أَنْ ائْتُونَا فَإِنَّا سَنُغِيرُ عَلَى بَيْضَةِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ وَرَائِهِمْ فَسَمِعَ ذَلِكَ نُعَيْمُ بْنُ مَسْعُودٍ وَكَانَ مُوَادِعًا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
392
وكان عند عيينة حين أرسلت بذلك بنوا قُرَيْظَةَ إلَى الْأَحْزَابِ أَبِي سُفْيَانَ وَأَصْحَابِهِ فَأَقْبَلَ نُعَيْمُ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأخبره خبرها وما أرسلت بنوا قُرَيْظَةَ إلَى الْأَحْزَابِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَعَلَّنَا أُمِرْنَا بِذَلِكَ فَقَامَ نُعَيْمٌ يُكَلِّمُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذَلِكَ مِنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ وَكَانَ نُعَيْمٌ رَجُلًا لَا يَكْتُمُ الْحَدِيثَ فَلَمَّا وَلَّى مِنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَاهِبًا إلَى غَطَفَانَ قَالَ عُمَرُ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا هَذَا الَّذِي قُلْت إنْ كَانَ أَمْرًا مِنْ أَمْرِ اللَّهِ فَأَمْضِهِ وَإِنْ كَانَ هَذَا رَأْيًا رَأَيْته مِنْ قِبَلِ نَفْسِك فَإِنَّ شَأْنَ بَنِي قُرَيْظَةَ أَهْوَنُ مِنْ أَنْ تَقُولَ شَيْئًا يُؤْثَرُ عَنْك فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَلْ هَذَا رَأْيٌ إنَّ الْحَرْبَ خُدْعَةٌ
وَرَوَى أَبُو عُثْمَانَ النَّهْدِيُّ عَنْ عُمَرَ قَالَ إنَّ فِي مَعَارِيضِ الْكَلَامِ لَمَنْدُوحَةٌ عَنْ الْكَذِبِ وَرَوَى الْحَسَنُ بْنُ عُمَارَةَ عَنْ الْحَكَمِ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ مَا يَسُرُّنِي بِمَعَارِيضِ الْكَلَامِ حُمُرُ النَّعَمِ وَقَالَ إبْرَاهِيمُ صلوات الله وسلامه عَلَيْه لِلْمَلِكِ حِينَ سَأَلَهُ عَنْ سَارَةَ فَقَالَ مَنْ هِيَ مِنْك قَالَ هِيَ أُخْتِي لِئَلَّا بأخذها وَإِنَّمَا أَرَادَ أُخْتِي فِي الدِّينِ وَقَالَ لِلْكُفَّارِ إنِّي سَقِيمٌ حِينَ تَخَلَّفَ لِيُكَسِّرَ آلِهَتَهُمْ وَكَانَ مَعْنَاهُ إنِّي سَأَسْقَمُ يَعْنِي أَمُوتُ كَمَا قَالَ الله تعالى إنك ميت فَعَارَضَ بِكَلَامِهِ عَمَّا سَأَلُوهُ عَنْهُ إلَى غَيْرِهِ عَلَى وَجْهٍ لَا يَلْحَقُ فِيهِ الْكَذِبُ فَهَذِهِ وُجُوهٌ أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهَا بِالِاحْتِيَالِ فِي التَّوَصُّلِ إلَى الْمُبَاحِ وَقَدْ كَانَ لَوْلَا وَجْهُ الْحِيلَةِ فِيهِ مَحْظُورًا وَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ الْوَطْءَ بِالزِّنَا وَأَمَرَنَا بِالتَّوَصُّلِ إلَيْهِ بِعَقْدِ النِّكَاحِ وَحَظَرَ عَلَيْنَا أَكْلَ الْمَالِ بِالْبَاطِلِ وَأَبَاحَهُ بِالشِّرَى وَالْهِبَةِ وَنَحْوِهَا فَمَنْ أَنْكَرَ التَّوَصُّلَ إلَى اسْتِبَاحَةِ مَا كَانَ مَحْظُورًا مِنْ الْجِهَةِ الَّتِي أَبَاحَتْهُ الشَّرِيعَةُ فَإِنَّمَا يَرُدُّ أُصُولَ الدِّينِ وَمَا قَدْ ثَبَتَتْ بِهِ الشَّرِيعَةُ فَإِنْ قِيلَ حَظَرَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى الْيَهُودِ صَيْدَ السَّمَكِ يوم السبت فحبسوا السَّمَكَ يَوْمَ السَّبْتِ وَأَخَذُوهُ يَوْمَ الْأَحَدِ فَعَاقَبَهُمْ اللَّهُ عَلَيْهِ قِيلَ لَهُ قَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُمْ اعْتَدَوْا فِي السَّبْتِ وَهَذَا يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ حَبْسُهَا فِي السَّبْتِ قَدْ كَانَ مَحْظُورًا عَلَيْهِمْ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ حَبْسُهُمْ لَهَا فِي السَّبْتِ مُحَرَّمًا لَمَا قَالَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ في السبت
قَوْله تَعَالَى يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضر- إلى قوله- وتصدق علينا لَمَّا تَرَكَ يُوسُفُ عَلَيْهِ السَّلَامُ النَّكِيرَ عَلَيْهِمْ في قوله مسنا وأهلنا الضر دَلَّ ذَلِكَ عَلَى جَوَازِ إظْهَارِ مِثْلِ ذَلِكَ عِنْدَ الْحَاجَةِ إلَيْهِ وَأَنَّهُ لَا يَجْرِي مَجْرَى الشَّكْوَى مِنْ اللَّهِ تَعَالَى وَقَوْلُهُ فَأَوْفِ لَنَا الكيل فدل عَلَى أَنَّ أُجْرَةَ الْكَيَّالِ عَلَى الْبَائِعِ لِأَنَّ عَلَيْهِ تَعْيِينَ الْمَبِيعِ لِلْمُشْتَرِي وَلَا يَتَعَيَّنُ إلَّا بِالْكَيْلِ وَقَدْ قَالُوا لَهُ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْكَيْلَ قَدْ كَانَ عَلَيْهِ فَإِنْ قِيلَ
نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم عن بيع الطعام
حتى يجزى فِيهِ الصَّاعَانِ صَاعُ الْبَائِعِ وَصَاعُ الْمُشْتَرِي
وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْكَيْلَ عَلَى الْمُشْتَرِي لِأَنَّ مُرَادَهُ الصَّاعُ الَّذِي اكْتَالَ بِهِ الْبَائِعُ مِنْ بَائِعِهِ وَصَاعُ الْمُشْتَرِي هُوَ مَا اكْتَالَهُ الْمُشْتَرِي الثَّانِي مِنْ الْبَائِعِ قِيلَ لَهُ قَوْلُهُ صَاعُ الْبَائِعِ لَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى أَنَّ الْبَائِعَ هُوَ الَّذِي اكْتَالَ وَجَائِزٌ أَنْ يُرِيدَ بِهِ الصَّاعَ الَّذِي كَالَ الْبَائِعُ بِهِ بَائِعَهُ وَصَاعَ الْمُشْتَرِي الَّذِي كَالَهُ لَهُ بَائِعُهُ فَلَا دَلَالَة فِيهِ عَلَى الِاكْتِيَالِ عَلَى الْمُشْتَرِي وَإِذَا صَحَّ ذَلِكَ فِيمَا وَصَفْنَا مِنْ الْكَيْلِ فَوَاجِبٌ أَنْ يكون أجرة الوزان عَلَى الْمُشْتَرِي لِأَنَّ عَلَيْهِ تَعْيِينَ الثَّمَنِ لِلْبَائِعِ وَلَا يَتَعَيَّنُ إلَّا بِوَزْنِهِ فَعَلَيْهِ أُجْرَةُ الْوِزَانِ وَأَمَّا أُجْرَةُ النَّاقِدِ فَإِنَّ مُحَمَّدَ بْنَ سِمَاعَةَ رَوَى عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ قَبْلَ أَنْ يَسْتَوْفِيَهُ الْبَائِعُ فَهُوَ عَلَى الْمُشْتَرِي لِأَنَّ عَلَيْهِ تَسْلِيمَ الثمن إليه صحيحا وإن كَانَ قَدْ قَبَضَهُ الْبَائِعُ فَأُجْرَةُ النَّاقِدِ عَلَى الْبَائِعِ لِأَنَّهُ قَدْ قَبَضَهُ وَمَلَكَهُ فَعَلَيْهِ أَنْ يُبَيِّنَ أَنَّ شَيْئًا مِنْهُ مَعِيبٌ يَجِبُ رَدُّهُ قوله تعالى وتصدق علينا قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ إنَّمَا سَأَلُوا التَّفَضُّلَ بالنقصان في السعر ولم يسئلوا الصَّدَقَةَ وَقَالَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ سَأَلُوا الصَّدَقَةَ وَهُمْ أَنْبِيَاءٌ وَكَانَتْ حَلَالًا وَإِنَّمَا حُرِّمَتْ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَرِهَ مُجَاهِدٌ أَنْ يَقُولَ فِي دُعَائِهِ اللَّهُمَّ تَصَدَّقْ عَلَيَّ لِأَنَّ الصَّدَقَةَ إنَّمَا هِيَ مِمَّنْ يَبْتَغِي الثَّوَابَ
قَوْله تَعَالَى قَالَ هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إذْ أَنْتُمْ جَاهِلُونَ فِيهِ إخْبَارٌ أَنَّهُمْ كَانُوا جَاهِلِينَ عِنْدَ وُقُوعِ الْفِعْلِ مِنْهُمْ وَأَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا جَاهِلِينَ فِي هَذَا الْوَقْتِ فَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَسْتَدِلُّ بِذَلِكَ عَلَى أَنَّهُمْ فَعَلُوا ذَلِكَ قَبْلَ الْبُلُوغِ لِأَنَّهُمْ لَوْ فَعَلُوهُ بَعْدَ الْبُلُوغِ مَعَ أَنَّهُمْ لَمْ تَظْهَرْ مِنْهُمْ تَوْبَةٌ لَكَانُوا جَاهِلِينَ فِي الْحَالِ وَإِنَّمَا أَرَادَ جَهَالَةَ الصِّبَا لَا جَهَالَةَ الْمَعَاصِي
وَقَوْلُ يُوسُفَ لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ فَعَلُوهُ بَعْدَ الْبُلُوغِ وَأَنَّ ذَلِكَ كَانَ ذَنْبًا مِنْهُمْ يَجِبُ عَلَيْهِمْ الِاسْتِغْفَارُ مِنْهُ وَظَاهِرُ الْكَلَامِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ تَابُوا بِقَوْلِهِمْ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِنْ كُنَّا لخاطئين
وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُمْ يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذنوبنا إنا كنا خاطئين وَلَا يَقُولُ مِثْلُهُ مَنْ فَعَلَ شَيْئًا فِي حَالِ الصِّغَرِ قَبْلَ أَنْ يَجْرِيَ عَلَيْهِ الْقَلَمُ وقوله يا أبانا استغفر لنا ذنوبنا إنَّمَا جَازَ لَهُمْ مَسْأَلَةُ الِاسْتِغْفَارِ مَعَ حُصُولِ التَّوْبَةِ لِأَجْلِ الْمَظْلِمَةِ الْمُعَلَّقَةِ بِعَفْوِ الْمَظْلُومِ وَسُؤَالِ ربه أن لا يؤاخذه بِمَا عَامَلَهُ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ إنَّمَا سَأَلَهُ أَنْ يُبَلِّغَهُ بِدُعَائِهِ مَنْزِلَةَ مَنْ لَمْ يَكُنْ فِي جِنَايَةٍ
قَوْله تَعَالَى سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ ربى روى عن ابن مسعود وإبراهيم التيمي وَابْنِ جُرَيْجٍ وَعَمْرِو بْنِ قَيْسٍ أَنَّهُ أَخَّرَ الِاسْتِغْفَارَ لَهُمْ إلَى السَّحَرِ لِأَنَّهُ أَقْرَبُ إلَى إجَابَةِ الدُّعَاءِ
وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
أَنَّهُ أَخَّرَ ذَلِكَ إلَى لَيْلَةِ الْجُمُعَةِ
وَقِيلَ إنَّمَا سَأَلُوهُ أَنْ يَسْتَغْفِرَ لَهُمْ دَائِمًا فِي دعائه
قوله تعالى وخروا له سجدا يُقَالُ إنَّ التَّحِيَّةَ لِلْمُلُوكِ كَانَتْ السُّجُودَ وَقِيلَ إنَّهُمْ سَجَدُوا لِلَّهِ شُكْرًا لَهُ عَلَى مَا أَنْعَمَ بِهِ عَلَيْهِمْ مِنْ الِاجْتِمَاعِ مَعَ يُوسُفَ عَلَى الْحَالِ السَّارَّةِ وَأَرَادُوا بِذَلِكَ التَّعْظِيمَ لِيُوسُفَ فَأَضَافَ السُّجُودَ إلَى يُوسُفَ مَجَازًا كَمَا يُقَالُ صلّى للقبلة وصلّى إلَى غَيْرِ الْقِبْلَةِ يَعْنِي إلَى تِلْكَ الْجِهَةِ وقول يوسف هذا تأويل رءياى من قبل يَعْنِي سُجُودَ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَالْكَوَاكِبِ فَكَانَ السُّجُودُ فِي الرُّؤْيَا هُوَ السُّجُودُ فِي الْيَقَظَةِ وَكَانَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالْكَوَاكِبُ أَبَوَيْهِ وَإِخْوَتَهُ وَيُقَالُ فِي قوله ورفع أبويه على العرش إنَّ أُمَّهُ كَانَتْ مَاتَتْ وَتَزَوَّجَ خَالَتَهُ رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ السُّدِّيِّ وَقَالَ الْحَسَنُ وَابْنُ إِسْحَاقَ كانت أمه باقية وروى عن سليمان وعبيد اللَّهِ بْنِ شَدَّادٍ كَانَتْ الْمُدَّةُ بَيْنَ الرُّؤْيَا وَبَيْنَ تَأْوِيلِهَا أَرْبَعِينَ سَنَةً وَعَنْ الْحَسَنِ كَانَتْ ثَمَانِينَ سَنَةً وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ ثَمَانِي عَشْرَةَ سَنَةً فَإِنْ قِيلَ إذَا كَانَتْ رُؤْيَا الْأَنْبِيَاءِ صَادِقَةً فَهَلَّا تَسَلَّى يَعْقُوبُ بِعِلْمِهِ بِوُقُوعِ تَأْوِيلِ رُؤْيَا يُوسُفَ قِيلَ لَهُ لِأَنَّهُ رَآهَا وَهُوَ صَبِيٌّ وَقِيلَ لِأَنَّ طُولَ الْغَيْبَةِ عَنْ الْحَبِيبِ يُوجِبُ الْحُزْنَ كَمَا يُوجِبُهُ مَعَ الثِّقَةِ بِالِالْتِقَاءِ فِي الْآخِرَةِ
قَوْله تَعَالَى وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا معرضون يَعْنِي وَكَمْ مِنْ آيَةٍ فِيهِمَا لَا يُفَكِّرُونَ فِيهَا وَلَا يَسْتَدِلُّونَ بِهَا عَلَى تَوْحِيدِ اللَّهِ وَفِيهِ حَثٌّ عَلَى الِاسْتِدْلَالِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى بِآيَاتِهِ وَدَلَائِلِهِ وَالْفِكْرِ فِيمَا يَقْتَضِيه مِنْ تَدْبِيرِ مُدَبِّرِهَا الْعَالِمِ بِهَا الْقَادِرِ عَلَيْهَا وَأَنَّهُ لَا يُشْبِهُهَا وَذَلِكَ فِي تَدْبِيرِ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَالنُّجُومِ وَالرِّيَاحِ وَالْأَشْجَارِ وَالنَّبَاتِ وَالنِّتَاجِ وَالْحَيَوَانِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ ظَاهِرٌ لِلْحَوَاسِّ وَمُدْرَكٌ بِالْعِيَانِ
قَوْله تَعَالَى وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلا وَهُمْ مشركون رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٍ وَقَتَادَةَ وَمَا يؤمن أكثرهم بالله في إقرارهم بِأَنَّ اللَّهَ خَلَقَهُ وَخَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ إلَّا وَهُوَ مُشْرِكٌ بِعِبَادَةِ الْوَثَنِ وَقَالَ الْحَسَنُ هُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ مَعَهُمْ شِرْكٌ وَإِيمَانٌ وَقِيلَ مَا يُصَدِّقُونَ بِعِبَادَةِ اللَّهِ إلَّا وَهُمْ يُشْرِكُونَ الْأَوْثَانَ فِي الْعِبَادَةِ وَقَدْ دَلَّتْ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ مَعَ الْيَهُودِيِّ إيمَانًا بِمُوسَى وَكُفْرًا بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّهَا قَدْ دَلَّتْ عَلَى أَنَّ الْكُفْرَ وَالْإِيمَانَ لَا يَتَنَافَيَانِ مِنْ وَجْهَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ فَيَكُونُ فِيهِ كُفْرٌ مِنْ وَجْهٍ وَإِيمَانٌ مِنْ وَجْهٍ إلَّا أَنَّهُ لَا يَحْصُلُ اجْتِمَاعُهُمَا عَلَى جِهَةِ إطْلَاقِ اسْمِ الْمُؤْمِنِ وَاسْتِحْقَاقِ ثَوَابِ الْإِيمَانِ لِأَنَّ ذَلِكَ يُنَافِيهِ الْكُفْرُ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض قَدْ أَثْبَتَ لَهُمْ الْإِيمَانَ بِبَعْضِ
الْكِتَابِ وَالْكُفْرَ بِبَعْضٍ آخَرَ فَثَبَتَ بِذَلِكَ جَوَازُ أَنْ يَكُونَ مَعَهُ كُفْرٌ مِنْ وَجْهٍ وَإِيمَانٌ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ وَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَجْتَمِعَ لَهُ صِفَةُ مُؤْمِنٍ وَكَافِرٍ لِأَنَّ صِفَةَ مُؤْمِنٍ عَلَى الْإِطْلَاقِ صِفَةُ مَدْحٍ وَصِفَةَ كَافِرٍ صِفَةُ ذَمٍّ وَيَتَنَافَى اسْتِحْقَاقُ الصِّفَتَيْنِ مَعًا عَلَى الْإِطْلَاقِ فِي حَالٍ وَاحِدَةٍ
قَوْله تَعَالَى قُلْ هَذِهِ سبيلى أدعوا إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي فِيهِ بَيَانٌ أَنَّهُ مَبْعُوثٌ بِدُعَاءِ النَّاسِ إلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى بَصِيرَةٍ مِنْ أَمْرِهِ كَأَنَّهُ يُبْصِرُهُ بِعَيْنِهِ وَأَنَّ مَنْ اتَّبَعَهُ فَذَلِكَ سَبِيلُهُ فِي الدُّعَاءِ إلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَفِيهِ الدَّلَالَةُ عَلَى أَنَّ عَلَى الْمُسْلِمِينَ دُعَاءَ النَّاسِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى كَمَا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَلِكَ
قَوْله تَعَالَى وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلا رِجَالا نُوحِي إليهم من أهل القرى قِيلَ مِنْ أَهْلِ الْأَمْصَارِ دُونَ الْبَوَادِي لِأَنَّ أهل الأمصار أَعْلَمُ وَأَحْكَمُ وَأَحْرَى بِقَبُولِ النَّاسِ مِنْهُمْ وَقَالَ الْحَسَنُ لَمْ يَبْعَثْ اللَّهُ نَبِيًّا مِنْ أَهْلِ الْبَادِيَةِ قَطُّ وَلَا مِنْ الْجِنِّ وَلَا مِنْ النساء
قوله تعالى حتى إذا استياس الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا الْيَأْسُ انْقِطَاعُ الطَّمَعِ وَقَوْلُهُ كُذِبُوا قُرِئَ بِالتَّخْفِيفِ وَبِالتَّثْقِيلِ فَإِذَا قُرِئَ بِالتَّخْفِيفِ كَانَ مَعْنَاهُ مَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَمُجَاهِدٍ وَالضَّحَّاكِ قَالُوا ظَنَّ الْأُمَمُ أَنَّ الرُّسُلَ كَذَبُوهُمْ فِيمَا أَخْبَرُوهُمْ بِهِ مِنْ نصر الله تعالى لهم وإهلاك أَعْدَائِهِمْ وَرُوِيَ عَنْ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْحَبْحَابِ قَالَ حَدَّثَنِي إبْرَاهِيمُ بْنُ أَبِي حُرَّةَ الْجَزَرِيُّ قَالَ صَنَعْت طَعَامًا فَدَعَوْت نَاسًا مِنْ أَصْحَابِنَا فِيهِمْ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَأَرْسَلْت إلَى الضَّحَّاكِ بْنِ مُزَاحِمٍ فَأَبَى أَنْ يَجِيءَ فَأَتَيْتُهُ فَلَمْ أَدَعْهُ حَتَّى جَاءَ قَالَ فسأل فتى من قريش سعيد ابن جُبَيْرٍ فَقَالَ لَهُ يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ كَيْفَ تَقْرَأُ هَذَا الْحَرْفَ فَإِنِّي إذَا أَتَيْت عَلَيْهِ تَمَنَّيْت أَنِّي لَا أَقْرَأُ هَذِهِ السُّورَةَ حتى إذا استياس الرسل وظنوا أنهم قد كذبوا قَالَ نَعَمْ حَتَّى إذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ مِنْ قَوْمِهِمْ أَنْ يُصَدِّقُوهُمْ وَظَنَّ الْمُرْسَلُ إلَيْهِمْ أَنَّ الرُّسُلَ كُذِبُوا مُخَفَّفَةً فَقَالَ الضَّحَّاكُ مَا رَأَيْت كَالْيَوْمِ قَطُّ رَجُلًا يُدْعَى إلَى عِلْمٍ فَيَتَلَكَّأُ لَوْ رَحَلْت فِي هَذَا إلَى الْيَمَنِ كَانَ قَلِيلًا وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى أَنَّ مُسْلِمَ بْنَ يَسَارٍ سَأَلَ سَعِيدًا عَنْهُ فَأَجَابَهُ بِذَلِكَ فَقَامَ إلَيْهِ مُسْلِمٌ فَاعْتَنَقَهُ وَقَالَ فَرَّجَ اللَّهُ عَنْك كَمَا فَرَّجْت عَنِّي وَمَنْ قَرَأَ كُذِّبُوا بِالتَّشْدِيدِ كَانَ مَعْنَاهُ أَيْقَنُوا أَنَّ الْأُمَمَ قَدْ كَذَّبُوهُمْ فَكَذِبُنَا عَمَّهُمْ حَتَّى لَا يُفْلِحَ أَحَدٌ مِنْهُمْ رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَائِشَةَ وَالْحَسَنِ وَقَتَادَةَ آخِرُ سورة يوسف.
Icon