تفسير سورة يوسف

أوضح التفاسير
تفسير سورة سورة يوسف من كتاب أوضح التفاسير المعروف بـأوضح التفاسير .
لمؤلفه محمد عبد اللطيف الخطيب . المتوفي سنة 1402 هـ

﴿الر﴾ (انظر آية ١ من سورة البقرة).
﴿نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ﴾ أوثقه وأصدقه ﴿وَإِن كُنتَ مِن قَبْلِهِ﴾ أي قبل نزول القرآن عليك ﴿لَمِنَ الْغَافِلِينَ﴾ عن هذا القصص وعن هذا الهدي وقد شرع تعالى في ذكر بعض هذا القصص؛ قال تعالى
﴿إِذْ قَالَ يُوسُفُ لأَبِيهِ﴾ يعقوب ﴿يأَبتِ إِنِّي رَأَيْتُ﴾ في المنام ﴿أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ﴾ فعلم يعقوب أن لابنه يوسف شأناً كبيراً
﴿قَالَ﴾ له ﴿يبُنَيَّ لاَ تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ﴾ هذه ﴿عَلَى إِخْوَتِكَ﴾ فتدركهم الغيرة منك، والحقد عليك، والحسد لك ﴿فَيَكِيدُواْ لَكَ﴾ بالدس والوقيعة والإذاية ﴿كَيْداً﴾ كبيراً ﴿إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُّبِينٌ﴾ بين العداوة لسائر بني الإنسان؛ فلا يفتأ يوقع العداوة بين الخلان، والبغضاء بين الإخوان
﴿وَكَذلِكَ﴾ كما أكرمك ربك وأعزك بهذه الرؤيا المحققة ﴿يَجْتَبِيكَ﴾ يختارك ويصطفيك ﴿وَيُعَلِّمُكَ مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ﴾ أحاديث الأمم الغابرة، والكتب السابقة، واستنباط الحقيقة، وتحري أدلة التوحيد؛ وهذا جميعه من إرهاصات النبوة ومقدماتها. وقيل: «تأويل الأحاديث» تعبير الرؤيا ﴿وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ﴾ بالنبوة؛ وجميع ذلك من تأويل رؤيته التي رآها ﴿وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ﴾ أولاده ﴿كَمَآ أَتَمَّهَآ عَلَى أَبَوَيْكَ﴾ جديك؛ لأن إبراهيم: أبو إسحاق، وإسحاق: أبو يعقوب والد يوسف عليهم الصلاة والسلام. وإتمام النعمة المقصود في هذه الآية: هو النبوة
﴿لَّقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ﴾ عظات ﴿لِّلسَّائِلِينَ﴾ الذين يتحرون ما في القصص من عبر، وما في السير من عظات.
هذا وفي قصص القرآن الكريم ما فيه من بليغ الحكم، وروائع السير، ولفت الأنظار إلى ما فيه الاعتبار والاستبصار وفي قصة يوسف عليه السلام - وما كان من شأنه وشأن إخوته - آيات للمتوسمين
﴿إِذْ قَالُواْ﴾ أي قال بعض إخوة يوسف للبعض الآخر ﴿لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ﴾ الشقيق بنيامين ﴿أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ﴾ جماعة قوية ﴿إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلاَلٍ﴾ خطإ
﴿اقْتُلُواْ يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضاً﴾ بعيدة. قالوا ذلك القول حين رأوا استئثار أخويهما بحب أبيهما، وتفضيله لهما عليهم جميعاً؛ في حين أنهم يرون أنفسهم أجدر بذلك الحب، وأولى بهذا التفضيل؛ لأنهم الرجال الأشداء الأقوياء
ووجه العظة: أنه يجب على الآباء عدم إيثار بعض الأبناء على بعض في الحب والقرب؛ ففي ذاك إيغار الصدور، وإشاعة البغضاء: وداعية لوقوع بني الإنسان، بين براثن الشيطان.
-[٢٨١]- ﴿يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ﴾ بأن يقبل عليكم، ولا يلتفت إلى غيركم
﴿قَالَ قَآئِلٌ مِّنْهُمْ لاَ تَقْتُلُواْ يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ﴾ قعر البئر الخرب؛ الذي حفر ولم يبن بعد ﴿يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ﴾ السائرين
﴿قَالُواْ يَأَبَانَا مَا لَكَ لاَ تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ﴾ ذهب بعض القراء إلى أن لفظ ﴿تَأْمَنَّا﴾ يجب فيه الإشمام. والإشمام هذا - كما يزعمون - هو أن يشير الإنسان بشفتيه كأنه ينطق بضمة بحيث لا يظهر أثر ذلك في النطق وهو قول هراء لا يجب التعويل عليه بحال؛ انظر - إن شئت المزيد - كتابنا «الفرقان» ﴿وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ﴾ أي قائمون بمصالحه
﴿قَالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَن تَذْهَبُواْ بِهِ﴾ لأني لا أطيق فراقه. وقد زاد ذلك من حنقهم على يوسف، وأسرّوها في أنفسهم ﴿وَأَخَافُ أَن يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ﴾ وقد لقنهم بذلك الحجة التي يحتجون بها من حيث لا يشعر
﴿قَالُواْ لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ﴾ جماعة قوية ﴿إِنَّآ إِذَاً لَّخَاسِرُونَ﴾
لأن الذئب إذا قدر على أكل أحدنا من بيننا؛ فهو على أكل مواشينا وأغنامنا أقدر. فأذن لهم بأخذ يوسف
﴿فَلَمَّا ذَهَبُواْ بِهِ وَأَجْمَعُواْ﴾ عزموا أمرهم على ما اتفقوا عليه وو ﴿أَن يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ وَأَوْحَيْنَآ إِلَيْهِ﴾ أي أوحينا إلى يوسف - بعد أن ألقوه في الجب - وحي إلهام. وقيل: نزل إليه جبريل عليه السلام قائلاً له ﴿لَتُنَبِّئَنَّهُمْ﴾ لتخبرنهم في مستقبل الأيام ﴿بِأَمْرِهِمْ هَذَا﴾ الذي صنعوه معك
﴿وَجَآءُوا أَبَاهُمْ عِشَآءً يَبْكُونَ﴾ يتباكون
﴿قَالُواْ يَأَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ﴾ نتسابق في الجري أو الرمي ﴿وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِندَ مَتَاعِنَا﴾ ثيابنا وطعامنا ﴿فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَمَآ أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لَّنَا﴾ بمصدق لمقالتنا
﴿وَجَآءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ﴾ أي مكذوب؛ ليس بدم يوسف كما زعموا
-[٢٨٢]- ﴿قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ﴾ زينت وسهلت ﴿لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْراً﴾ سيئاً اقترفتموه ﴿فَصَبْرٌ جَمِيلٌ﴾ على فراق يوسف والصبر الجميل: ما لا شكوى فيه إلى الخلق ﴿وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ﴾ المطلوب منه العون ﴿عَلَى مَا تَصِفُونَ﴾ ما تذكرون من أمر يوسف
﴿وَجَاءَتْ سَيَّارَةٌ﴾ رفقة سائرون ﴿فَأَرْسَلُواْ وَارِدَهُمْ﴾ الذي يبحث لهم عن الماء، ويرده ليستقي لهم ويدلهم عليه. فوجد الجب ﴿فَأَدْلَى دَلْوَهُ﴾ فيه؛ فتعلق يوسف في الدلو ﴿قَالَ﴾ الوارد لما رأى يوسف في الدلو ﴿يبُشْرَى هَذَا غُلاَمٌ﴾ وذهب به إلى صحبه؛ ففرحوا به ﴿وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً﴾ أي أخفوه في متاعهم ليتاجروا فيه كالبضاعة
﴿وَشَرَوْهُ﴾ أي باعوه. يقال: شراه يشريه: إذا ملكه، أو باعه، كاشتراه ﴿بِثَمَنٍ بَخْسٍ﴾
قليل حقير
﴿وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِن مِّصْرَ لاِمْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ﴾ أي أكرمي مقامه عندنا ﴿وَكَذلِكَ﴾ إشارة إلى إنجاء يوسف، وعطف قلب الذي اشتراه عليه ﴿مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ﴾ جعلنا له مكانة فيها، وسلطاناً عليها ﴿وَلِنُعَلِّمَهُ مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ﴾ تصديقاً لقول أبيه يعقوب: ﴿وَيُعَلِّمُكَ مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ﴾ ﴿وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ﴾ أي على أمر نفسه؛ لا يعجزه شيء أراده؛ وإنما يقول له: كن؛ فيكون ويحتمل أن يعود الضمير إلى يوسف عليه السلام؛ أي والله غالب على أمر يوسف؛ يحوطه بعنايته وكلاءته وحفظه ﴿وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ﴾ ذلك
﴿وَلَمَّا بَلَغَ﴾ يوسف ﴿أَشُدَّهُ﴾ كمال قوته وشدته؛ وهو من ثماني عشرة إلى ثلاثين، وهو أيضاً بلوغ الحلم. أو هو إلى الأربعين: حيث تكون النبوة؛ بدليل قوله تعالى: ﴿حُكْماً وَعِلْماً﴾ حكمة ﴿وَعِلْماً﴾ فقهاً في الدين ﴿وَكَذلِكَ﴾ مثل ما آتينا يوسف من الحكمة والعلم ﴿نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ﴾ الذين يحسنون أعمالهم كما أحسن يوسف، ويعفون أنفسهم كما أعف
﴿وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا﴾ امرأة العزيز: والمراودة: الإرادة برفق ولين ﴿وَغَلَّقَتِ الأَبْوَابَ﴾ عليه معها ﴿وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ﴾ أي هلم؛ فلما رأى منها ما رأى ﴿قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ﴾ أن أخون من أكرمني وآواني ﴿إِنَّهُ رَبِّي﴾ أي سيدي ومالكي، والمقصود به عزيز مصر، أو أراد به الله تعالى ﴿أَحْسَنَ مَثْوَايَ﴾ أحسن إقامتي؛ فلا أخونه في أهله، وإذا كان المراد به الله تعالى: كان معنى «أحسن مثواي» أي أحسن إقامتي في هذه الدنيا؛ إذ أنجاني من الهلاك المحقق، وأكرمني بحب مخلوقاته لي وعطفهم عليَّ؛ فلا أعصيه بأقبح ما يعصى به
﴿وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ﴾ همت بإمساكه وضمه المراد بهمه عليه السلام: ميل الطبع البشري، ومنازعة الشهوة الفطرية؛ لا القصد الاختياري. وهذا الهم مما يصح أن يكتب له به حسنة، لا أن تحسب عليه سيئة. وقد جاء في الحديث القدسي عن رب العزة: «إذا هم عبدي بسيئة فلم يعملها كتبت له حسنة» وقد تخبط كثير من المفسرين في تأويل هذا بما يتنافى وعصمة لأنبياء عليهم الصلاة والسلام ﴿لَوْلا أَن رَّأَى﴾ وبرهان ربه: عصمته من الوقوع فيما يقع فيه عامة البشر. ولما كان البرهان: هو الدليل؛ كان برهان الله تعالى: دليل وجوده وقدرته؛ فأثبت الله تعالى قدرته بمنعه، وأثبت وجوده بالحيلولة بينه وبين الوقوع في الخطيئة أرانا الله تعالى برهانه، وعصمنا بقدرته، وحال بيننا وبين معصيته، وهدانا برحمته ﴿كَذلِكَ﴾ أي أريناه برهان وجودنا ﴿لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَآءَ﴾ الخيانة والزنا
﴿وَاسُتَبَقَا الْبَابَ﴾ جرى يوسف منها، وجرت وراءه لتمسكه؛ فأدركت ثيابه ﴿وَقَدَّتْ﴾ شقت ﴿قَمِيصَهُ مِن دُبُرٍ﴾ من خلف ﴿وَأَلْفَيَا﴾ وجدا ﴿سَيِّدَهَا﴾ زوجها ﴿لَدَى الْبَابِ﴾ عند الباب؛ حينما أراد أن يفتحه هرباً منها. فلما رأت زوجها أسقط في يدها، وحاولت الدفاع عن نفسها أمامه ﴿قَالَتْ مَا جَزَآءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا إِلاَّ أَن يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ «ما» نافية؛ أي ليس له إلا أن يسجن. فلما رأى يوسف ما أحاطته به الآثمة من إثم؛ شرع في الدفاع المشروع عن نفسه
﴿قَالَ﴾ إنني لم أراودها؛ بل ﴿هِيَ﴾ التي ﴿رَاوَدَتْنِي عَن نَّفْسِي وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّنْ أَهْلِهَآ﴾ قيل: تكلم صبي من أهلها؛ وكان في المهد، وقيل: هو ابن عم لها؛ كان وزيراً للملك، ومستشاراً له؛ قال: ﴿إِن كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ﴾ شق ﴿مِن قَبْلُ﴾ من أمام ﴿فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الكَاذِبِينَ﴾ من خلف
﴿فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ﴾
وهو مما يؤكد كذبها وصدقه: التفت إليها و ﴿قَالَ﴾ لها ﴿إِنَّهُ﴾ أي الذي حصل من المراودة، واتهام البريء ﴿مِن كَيْدِكُنَّ﴾ أيها النساء ﴿إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ﴾ ثم التفت إلى يوسف، وقال له
﴿يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا﴾ الأمر الذي حدث فلا تذكره لأحد. ثم التفت إلى امرأته قائلاً ﴿وَاسْتَغْفِرِي لِذَنبِكِ إِنَّكِ كُنتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ﴾ وبذلك وضح أنه استقر في ذهن العزيز - بعد أن رأى بنفسه ما رأى، وسمع ما سمع - براءة يوسف وخطيئة امرأته. وكان أقل ما يجب عليه وقتذاك: أن يحول بين لقائها به، ورؤيتها له: لكنه لم يفعل؛ ليتم الله تعالى ما أراده بيوسف، وما أراده له؛ فسارت بذكر قصته مع امرأة العزيز الركبان، وتناقلوا حديثهما في كل مكان
﴿وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ﴾ يا للذل والعار ﴿امْرَأَةُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا﴾ خادمها ومملوكها ﴿عَن نَّفْسِهِ﴾ لتنال غرضها منه ﴿قَدْ شَغَفَهَا
-[٢٨٤]- حُبّاً﴾
أي مس حبه شغاف قلبها. وشغاف القلب: غلافه، أو حجابه، أو حبته، أو سويداؤه بقولهن؛ وسمي حديثهن مكراً: لأنه تم في خفية؛ كما يخفي الماكر مكره
﴿أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ﴾ تدعوهن لمجلسها ﴿وَأَعْتَدَتْ﴾ أعدت ﴿لَهُنَّ مُتَّكَئاً﴾ مجلساً للطعام؛ أعدت فيه ما يتكأ عليه من الوسائد والنمارق، أو أعدت لهن فاكهة يتكأ عليها عند قطعها؛ كالأترج مثلاً ﴿وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِّنْهُنَّ سِكِّيناً وَقَالَتِ﴾ ليوسف ﴿اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ﴾ فخرج ﴿فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ﴾ أعظمنه. وقيل: أكبرن: أي حضن، والهاء للسكت؛ وهو تأويل ليس بشيء ﴿وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ﴾ من شدة ذهولهن مما رأينه من جمال يوسف عليه السلام وصباحة وجهه؛ لم يشعرن بالسكاكين وقد جرحت أيديهن ﴿وَقُلْنَ حَاشَ للَّهِ﴾ تنزيهاً لله؛ وهو لفظ خاص به تعالى: فلا يقال: حاش لك، بل حاشاك، وحاشا لك
﴿مَا هَذَا بَشَراً﴾ كسائر البشر ﴿إِنْ هَذَآ﴾ ما هذا ﴿إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ﴾ وصفنه بالملكية؛ لأنه من المعلوم ألا شيء أجمل من الملك، ولا شيء أقبح من الشيطان
﴿قَالَتْ فَذلِكُنَّ﴾ أي فهذا هو ﴿الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ﴾ من الإرادة؛ أي طلبته بنفسي لنفسي ﴿فَاسَتَعْصَمَ﴾ امتنع، وتحصن بالعصمة، ومنع نفسه من أن أناله ﴿وَلَيَكُوناً مِّن الصَّاغِرِينَ﴾ الذليلين. ووجه العظة مما مضى من هذه القصة: أنه لا يجوز لعاقل أن يضم في بيته شاباً ممتلئاً قوة وفتوة وجمالاً؛ ويدعه مع امرأته تجتاحها عواصف الشهوة، وتهتاجها أعاصير الخطيئة، ويدع للشيطان بينهما مجالاً وأي مجال، بل الواجب أن يلتزم حدود الدين الحنيف، وأوامر الخالق جل شأنه ﴿قُلْ لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّواْ مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُواْ فُرُوجَهُمْ ذلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ * وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ﴾ (انظر مبحث التبرج والسفور بآخر الكتاب)
﴿وَإِلاَّ تَصْرِفْ﴾ وإن لم تصرف ﴿عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ﴾ أمل ﴿إِلَيْهِنَّ وَأَكُن مِّنَ الْجَاهِلِينَ﴾ المذنبين
﴿فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ﴾ أجاب دعوته، وصرف عنه كيدهن ﴿إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ﴾ لمن يدعوه ﴿الْعَلِيمُ﴾ بحال خلقه
﴿ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِّن بَعْدِ مَا رَأَوُاْ الآيَاتِ﴾ الدالة على براءته مما نسب إليه، وألصق به ﴿لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ﴾ أي إلى أن ينقطع كلام الناس وينسون ما حصل بينه وبين امرأة العزيز؛ وأدخل يوسف السجن، مع من أدخل من العصاة والمجرمين
﴿وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانَ قَالَ أَحَدُهُمَآ﴾ بعد فترة من الزمن قضوها في السجن ﴿إِنِّي أَرَانِي﴾ أي أرى نفسي في المنام
﴿أَعْصِرُ خَمْراً﴾ أي أعصر عنباً، فيصير خمراً
﴿قَالَ لاَ يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ﴾ في منامكما كالعنب والخبز الذي رأيتماه ﴿إِلاَّ نَبَّأْتُكُمَا﴾ أخبرتكما ﴿بِتَأْوِيلِهِ﴾ بما يؤول إليه رؤية ذلك. ﴿قَبْلَ أَن يَأْتِيكُمَا﴾ تأويله. وقد يكون المعنى: «ترزقانه» أي تطعمانه «إلا نبأتكما بتأويله» أي بما يؤول إليه ذلك الطعام من عناصر وأخلاط. وأن يكون يوسف عليه السلام قد منحه الله تعالى - من جملة ما منحه - علم خواص الأغذية ﴿ذلِكُمَا﴾ العلم الذي ذكرته ﴿مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي﴾ وأفاضه عليَّ ﴿إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ﴾ لا يؤمنون بالبعث. قال تعالى: ﴿وَاتَّقُواْ اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ﴾ قيل: إن يوسف عليه السلام علم مكروه الإجابة على أحدهما؛ فحاول أن يتكلم في موضوع آخر ليصرفهما عما طلباه من تأويل رؤياهما فلم يدعاه بل ألحا عليه؛ فعدل أيضاً عن إجابتهما قائلاً
{يصَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُّتَّفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ *
مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ أَسْمَآءً سَمَّيْتُمُوهَآ أَنتُمْ وَآبَآؤُكُمْ مَّآ أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ للَّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ} فلم يدعاه حتى يعبر لهما ما رأياه؛ فلم يستطع مخالفتهما.
وقد تدرج عليه السلام في دعوتهم وإلزامهم الحجة؛ بأن بين لهم أولاً رجحان التوحيد على اتخاذ الآلهة المتعددة، ثم برهن على أن ما يسمونها آلهة ويعبدونها: لا تستحق الألوهية والعبادة، ثم نص على ما هو الحق القويم، والدين المستقيم؛ الذي لا يقبل العقل غيره، ولا يرتضي العلم سواه؛ ثم شرع في إجابتهما؛ فقال
﴿يصَاحِبَيِ السِّجْنِ﴾ أي يا صاحبي في السجن ﴿أَمَّآ أَحَدُكُمَا﴾ الذي رأى في منامه أنه يعصر خمراً ﴿فَيَسْقِي رَبَّهُ﴾ أي سيده ﴿خَمْراً﴾ في اليقظة؛ أي سيكون من خاصته الذين أعدهم لسقياه
-[٢٨٦]- ﴿وَأَمَّا الآخَرُ﴾ الذي رأى في منامه أنه يحمل فوق رأسه خبزاً تأكل الطير منه ﴿فَيُصْلَبُ﴾ في اليقظة ﴿فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِن رَّأْسِهِ﴾ وكأنه عليه السلام قد تألم من ذكر ما يؤلم؛ فقال آسفاً ﴿قُضِيَ الأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ﴾ والذي حاولت جاهداً أن أستقيل من الإجابة عليه، فلم تمكناني.
﴿وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ﴾ تأكد ﴿أَنَّهُ نَاجٍ مِّنْهُمَا﴾ وهو الساقي؛ قال له: ﴿اذْكُرْنِي عِندَ رَبِّكَ﴾ أي اذكرني عند سيدك الملك حين تلقاه ﴿فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ﴾ أي أنسى الشيطان يوسف من أن يطلب من ربه الخلاص من السجن؛ ولجأ - ناسياً - إلى العبد العاجز الفاني؛ فكان جزاءه أن لبث ﴿فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ﴾ البضع: بين الثلاث إلى التسع
﴿وَقَالَ الْمَلِكُ﴾ لجلسائه ﴿إِنِّي أَرَى﴾ أي رأيت في المنام ﴿سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ﴾ أي مهازيل
﴿قَالُواْ أَضْغَاثُ﴾ أي تخليط في الرؤيا؛ وهو ما لا تأويل له؛ لصدوره عن فساد المعدة وأبخرة الطعام
﴿وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا﴾ وهو الساقي: تذكر يوسف وتأويله للرؤيا ﴿وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ﴾ أي تذكر بعد مدة طويلة قول يوسف له: «اذكرني عند ربك» وقرأ ابن عباس «وادكر بعد أمه» والأمه: النسيان ﴿أَنَاْ أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ﴾ أي أدلكم على من يؤول هذا المنام لكم ﴿فَأَرْسِلُونِ﴾ أي أرسلوني إلى السجن لأحضره لكم. فأرسلوه فقال ليوسف
﴿يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ﴾ الكثير الصدق، الدائم عليه ﴿لَّعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ﴾ فأخبرهم بما تذكره من تأويل هذه الرؤيا ﴿لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ﴾ ما ينفعهم من تأويلها، أو لعلهم يعلمون فضلك وعلمك؛ فيخرجونك مما أنت فيه من الضيق
﴿قَالَ﴾ تأويل ذلك: أنكم ﴿تَزْرَعُونَ سَبْعُ سِنِينَ دَأَباً﴾ أي دائبين متوالين ﴿فَمَا حَصَدتُّمْ﴾ قطعتم من الأرض ﴿فَذَرُوهُ﴾ اتركوه ﴿فِي سُنبُلِهِ﴾ بغير دراس؛ ليحفظ ولا يتطرق إليه التلف. وبذلك يعلمنا الله تعالى في هذه القصة: الطريقة المثلى لتخزين الحبوب والمحاصيل لحفظها؛ إذ أن تركها بغير نزع سنابلها: أحفظ لها من التلف والفساد؛ وذلك بعكس منزوعة السنابل التي قد يدب فيها الفساد في عام واحد أو عامين
-[٢٨٧]- ﴿إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّا تَأْكُلُونَ﴾ أي إلا ما تحتاجون لأكله فادرسوه وانزعوه من سنابله
﴿سَبْعٌ شِدَادٌ﴾ أي سبع سنين تقحطون فيها؛ فلا تخرج الأرض نباتاً ﴿يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ﴾ أي ما خزنتموه في السنين السبع التي زرعتموها دأباً ﴿تُحْصِنُونَ﴾ تدخرونه لتزرعوا؛ لأن في استبقاء البذر: تحصين للأقوات؛ وإلا إذا أكلنا الجميع فماذا نزرع؟
﴿فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ﴾ أي ينزل لهم الغيث، ويرزقون ما يعصر من الثمار؛ كالعنب، والزيتون، وغيرهما. وقيل: «يعصرون» ينجون؛ من العصرة: وهي المنجاة. ومنه العصر: وهو الملجأ
﴿قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ﴾ أي أرسل إليهن الملك، وقال لهن: ما شأنكن ﴿إِذْ رَاوَدتُنَّ يُوسُفَ عَن نَّفْسِهِ﴾ هل وجدتن منه ميلاً إليكن؛ كالميل الذي بدا منكن إليه؟ ﴿قُلْنَ حَاشَ للَّهِ﴾ تعجباً من خلق إنسان كامل عفيف مثله ﴿مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِن سُوءٍ﴾ قط ﴿قَالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ﴾ التي كان يوسف في بيتها، وراودته عن نفسه، واتهمته بإرادة السوء بها؛ لما رأت قول النسوة: ﴿حَاشَ للَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِن سُوءٍ﴾ جاشت في صدرها عوامل الحب الدفين، مع الإكبار، ورغبت في الصدق الصراح؛ بعد أن ناءت بحمل الكذب المبين، طوال هذه السنين قالت: ﴿الآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ﴾ وضح وظهر ﴿أَنَاْ رَاوَدْتُّهُ عَن نَّفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ﴾ في دفاعه عن نفسه
﴿ذلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ﴾ أي لم أخن يوسف في غيبته، بعد أن خنته في حضوره؛ حين جابهته بقولي لزوجي «ما جزاء من أراد بأهلك سوءاً» ﴿وَأَنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ﴾ لا يسدد عملهم
﴿وَمَآ أُبَرِّىءُ نَفْسِي﴾ فأقول: إني لم أراوده ﴿إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾
الذي أراه: أن جميع ذلك تتمة لكلام امرأة العزيز؛ لأن يوسف لم يأت بعد من السجن؛ ولقول الملك بعد ذلك «ائتوني به أستخلصه لنفسي» وقد ذهب أكثر المفسرين إلى أنه من كلام يوسف عليه السلام؛ وزينوا ذلك بأقاويل تتنافى مع عصمة الأنبياء عليهم السلام؛ منها: أنه حين قال: «ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب» همس جبريل في أذنه قائلاً: ولا حين حللت تكة سراويلك وهممت بها؛ فقال: «وما أبرىء نفسي» وهو قول ظاهر القبح، بادي البطلان ومن عجب أن أمهات كتب التفسير تذكر هذا القول وأمثاله، وتنسبه إلى فضلاء الصحابة، وجلة التابعين؛ وهم براء من هذا الهراء وذهب بعضهم إلى أنه من كلام العزيز: أي لم أتحامل عليه وأخنه في غيبته؛ بل جازيته على أمانته، وملكته رقاب الناس وأموالهم
﴿وَقَالَ الْمَلِكُ﴾ حين وضح له علم يوسف، ورسوخ قدمه وفضله، وبراءته مما نسب إليه ﴿ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي﴾ أي أجعله من خلصائي وأصفيائي ﴿فَلَمَّآ﴾
-[٢٨٨]- جاءوا بيوسف من السجن، و ﴿كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مِكِينٌ أَمِينٌ﴾ ذو مكانة تؤتمن على كل شيء
﴿قَالَ﴾ يوسف ﴿اجْعَلْنِي عَلَى خَزَآئِنِ الأَرْضِ﴾ أي وزيراً للمالية، أو وزيراً للتموين ﴿إِنِّي حَفِيظٌ﴾ ذو محافظة على الأموال ﴿عَلِيمٌ﴾ بإدارتها وتنميتها. وقيل: «حفيظ عليم» أي كاتب حاسب
﴿وَكَذلِكَ﴾ كما أنعمنا عليه بالعلم، والصدق، والنبوة، والنجاة من السجن، والخلاص من كيد الشيطان، والقرب إلى قلب الملك؛ مثل هذا الإنعام والتفضل ﴿مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ﴾ جعلنا له مكانة فيها، وقدرة عليها. قيل: استخلفه الملك على مصر؛ فسار موكبه في طرقاتها؛ فرأته امرأة العزيز؛ فبكت وقالت: الحمدلله الذي صير الملوك عبيداً بالمعصية، والعبيد ملوكاً بالطاعة وقال بعضهم: إنه تزوجها بعد ذلك. والقول الراجح: إنه لم يتزوجها، بل تزوج راعيل زوجة اطفير، وولدت له غلامان ﴿يَتَبَوَّأُ﴾ ينزل ويسكن ﴿مِنْهَا حَيْثُ يَشَآءُ﴾ فقد ملك أموالها وأقواتها؛ واحتاج كل من فيها إليه، وليست به حاجة إلى أحد
﴿نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا﴾ بعطائنا وأنعمنا في الدنيا ﴿مَّن نَّشَآءُ﴾ من عبادنا ﴿وَلاَ نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ﴾ فيها؛ بل ترزقهم منها جزاء إحسانهم
﴿وَلأَجْرُ الآخِرَةِ خَيْرٌ﴾ من أجر الدنيا وجزائها ﴿لِّلَّذِينَ آمَنُواْ﴾ بربهم ﴿وَكَانُواْ يَتَّقُونَ﴾ الله في أعمالهم
﴿وَجَآءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ﴾ عدا بنيامين أخاه الشقيق؛ وهم الذين تآمروا على يوسف، وألقوه في غيابة الجب؛ جاءوا - كما جاء غيرهم - ليأخذوا حاجتهم من القوت الذي حفظه يوسف في خزائنه، لسني القحط - تأويلاً لرؤيا الملك - ﴿فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ﴾ أي لم يعرفوه
﴿وَلَمَّا جَهَّزَهُم بِجَهَازِهِمْ﴾ أعطاهم حاجتهم من الأقوات التي جاءوا من أجلها؛ قيل: أعطى كل واحد منهم حمل بعير. وقد كان هاجه الشوق إلى أخيه؛ وأراد أن يحتال على مجيئه ﴿قَالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَّكُمْ مِّنْ أَبِيكُمْ﴾ لأعطيه مثل ما أعطيتكم
﴿أَلاَ تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَاْ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ﴾ المضيفين، المكرمين
﴿فَإِن لَّمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلاَ كَيْلَ لَكُمْ عِندِي﴾ أي فلا أعطيكم طعاماً بعد ذلك
﴿قَالُواْ سَنُرَاوِدُ عَنْهُ أَبَاهُ﴾ سنتحايل عليه في الإتيان به إليك
﴿وَقَالَ لِفِتْيَانِهِ﴾ لغلمانه ﴿اجْعَلُواْ بِضَاعَتَهُمْ﴾ التي جاءوا بها ثمناً للطعام؛ دسوها ﴿فِي رِحَالِهِمْ﴾ خفية من حيث لا يشعرون ﴿لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَهَآ إِذَا انْقَلَبُواْ﴾ رجعوا ﴿إِلَى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾ إلينا بها وبأخيهم؛ قيل: كان محرماً في شريعتهم أخذ شيء من غير ثمن له، أو «لعلهم يرجعون» لأخذ حمل بعير لأخيهم كما أخذوا
﴿فَلَمَّا رَجِعُوا إِلَى أَبِيهِمْ قَالُواْ يأَبَانَا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ﴾ لمن لم يحضر معنا ﴿فَأَرْسِلْ مَعَنَآ أَخَانَا﴾ بنيامين ﴿نَكْتَلْ﴾ له؛ كما اكتلنا لأنفسنا، وقرىء «يكتل»
﴿قَالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلاَّ كَمَآ أَمِنتُكُمْ عَلَى أَخِيهِ﴾ يوسف ﴿مِن قَبْلُ﴾ ففجعتموني فيه ﴿فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظاً وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ﴾ يرحم ضعفي وذلتي، وحسرتي على مهجتي؛ فيحفظ لي ولدي، ويرده إليَّ
﴿وَلَمَّا فَتَحُواْ مَتَاعَهُمْ وَجَدُواْ بِضَاعَتَهُمْ﴾ التي أمر يوسف بدسها في رحالهم ﴿رُدَّتْ إِلَيْهِمْ﴾ فعجبوا من ذلك، و ﴿قَالُواْ يأَبَانَا مَا نَبْغِي﴾ أي أي شيء نطلب بعد ذلك؟ ﴿هَذِهِ بِضَاعَتُنَا رُدَّتْ إِلَيْنَا﴾ تفضلاً وكرماً. أو «ما» نافية؛ أي لا نبغي شيئاً منك؛ بل تكفينا بضاعتنا هذه التي ردت إلينا ﴿وَنَمِيرُ أَهْلَنَا﴾ من الميرة؛ أي نجلب لهم الطعام ﴿وَنَحْفَظُ أَخَانَا﴾ في رحلتنا هذه ﴿وَنَزْدَادُ كَيْلَ بَعِيرٍ﴾
أي حمل بعير لأخينا بنيامين ﴿ذلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ﴾ على الملك؛ لا يبخل به علينا؛ وقد رأينا من كرمه وسخائه ما رأينا
﴿قَالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقاً مِّنَ اللَّهِ﴾ عهداً وقسماً ﴿لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلاَّ أَن يُحَاطَ بِكُمْ﴾ أي إلا أن يحيط بكم العدو، ويصير ليس في إمكانكم النجاة به ﴿فَلَمَّآ آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ﴾ حلفوا له على ذلك ﴿قَالَ اللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ﴾ رقيب مطلع
﴿وَقَالَ﴾ موصياً لهم ﴿يبَنِيَّ لاَ تَدْخُلُواْ﴾ المدينة ﴿مِن بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُواْ مِنْ أَبْوَابٍ مُّتَفَرِّقَةٍ﴾ قيل: كانت وصية يعقوب: خشية من العين. والذي أراه أنه خشي أن يصيبهم مكروه مجتمعين؛ فيحل بهم جميعاً. وقيل: خشية أن يراهم الملك مجتمعين ويرى عددهم، واستواء أجسامهم، وقوتهم، فيبطش بهم: حسداً لهم، أو خوفاً منهم ﴿وَمَآ أُغْنِي عَنكُمْ مِّنَ اللَّهِ مِن شَيْءٍ﴾ لا أدفع عنكم شيئاً أراده الله تعالى بكم.
﴿وَلَمَّا دَخَلُواْ عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَخَاهُ﴾ ضمه إليه، وأجلسه بجواره، و ﴿قَالَ﴾ له ﴿إِنِّي أَنَاْ أَخُوكَ فَلاَ تَبْتَئِسْ﴾ فلا تحزن ﴿بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ﴾ أي بما عمل إخوتك معنا
﴿فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ جَعَلَ السِّقَايَةَ﴾ هي ما يسقى به؛ وكانت من ذهب ﴿فِي رَحْلِ أَخِيهِ﴾ بنيامين ﴿ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ﴾ نادى مناد ﴿أَيَّتُهَا الْعِيرُ﴾ العير: الإبل. أي يا أهل هذه القافلة، يا أصحاب هذه الإبل ﴿إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ﴾ فدهش إخوة يوسف من توجيه هذه التهمة لهم على رؤوس الأشهاد؛ وهم منها براء قد ﴿ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ﴾ أي على المنادين بالسرقة؛ متسائلين
﴿مَّاذَا تَفْقِدُونَ﴾ وما الذي سرق منكم؟
﴿قَالُواْ نَفْقِدُ صُوَاعَ﴾ صاع ﴿الْمَلِكُ﴾ والصاع: مكيال يكال به. والمراد بالصواع هنا: الكأس الذي يشرب فيه؛ لأنه سمي في الآية المتقدمة بالسقاية «جعل السقاية في رحل أخيه» ﴿وَلِمَن جَآءَ بِهِ﴾ أي بالصواع المسروق ﴿حِمْلُ بَعِيرٍ﴾ مكافأة له على ضبط السارق ﴿وَأَنَاْ بِهِ زَعِيمٌ﴾ كفيل بأداء حمل البعير
﴿قَالُواْ تَاللَّهِ﴾ قسم فيه معنى التعجب ﴿لَقَدْ عَلِمْتُمْ مَّا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي الأَرْضِ وَمَا كُنَّا سَارِقِينَ﴾ وما جاء بنا إلا طلب القوت
﴿قَالُواْ فَمَا جَزَآؤُهُ﴾ أي فما جزاء السارق ﴿إِن كُنتُمْ كَاذِبِينَ﴾ في قولكم، وكان السارق من بينكم
﴿قَالُواْ جَزَآؤُهُ مَن وُجِدَ﴾ المسروق ﴿فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ﴾ أي فهو عبد رق جزاء سرقته. وكان في شريعتهم استرقاق السارق
﴿فَبَدَأَ﴾ يوسف ﴿بِأَوْعِيَتِهِمْ﴾ أي بتفتيشها ﴿قَبْلَ وِعَآءِ أَخِيهِ﴾ وذلك تمويهاً لهم، وتغطية عليهم؛ ليشعرهم بحقيقة ما يسفر عنه وعاء أخيه أي استخرج السقاية ﴿كَذلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ﴾ أي علمناه ذلك الكيد؛ الذي استطاع به أن يأخذ أخاه، وليكون هذا سبباً في اجتماعه بأبويه.
ومن هذا يؤخذ جواز التوصل إلى الأغراض المشروعة بالحيل؛ ولو أدى ذلك إلى الكذب؛ ما توافرت المنفعة، بغير أن يترتب عليها إضرار بأحد، و ﴿مَا كَانَ﴾ يوسف ﴿لِيَأْخُذَ أَخَاهُ﴾ رقيقاً بسبب سرقة لم يرتكبها ﴿فِي دِينِ الْمَلِكِ﴾ سلطانه وعادته وحكمه
﴿قَالُواْ إِن يَسْرِقْ﴾ أخونا هذا
-[٢٩١]- ﴿فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَّهُ مِن قَبْلُ﴾ يعنون يوسف عليه السلام؛ وكان قد سرق في صغره صنماً من ذهب لجده أبي أمه؛ فكسره ﴿فَأَسَرَّهَا﴾ أخفى هذه القالة ﴿يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ﴾ ولم يظهر التضجر والتألم. ويجوز أن يكون المعنى: فأسر يوسف في نفسه قوله: ﴿أَنْتُمْ شَرٌّ مَّكَاناً﴾ لسرقتكم إياي من أبيكم، وظلمكم الذي ظلمتموه لي وله ﴿وَاللَّهُ أَعْلَمْ بِمَا تَصِفُونَ﴾ بما تقولون، أو بما تكذبون
﴿فَلَمَّا اسْتَيْأَسُواْ﴾ يئسوا من قبول مطلبهم ﴿خَلَصُواْ نَجِيّاً﴾ انفردوا متناجين فيما بينهم ﴿وَمِن قَبْلُ مَا فَرَّطتُمْ فِي يُوسُفَ﴾ أي ألم تعلموا تفريطكم في يوسف من قبله؛ فكيف تفرطون في أخيه أيضاً ﴿فَلَنْ أَبْرَحَ﴾ لن أفارق ﴿الأَرْضِ﴾ أرض مصر ﴿حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي﴾ في الرجوع؛ راضياً عني، غير غاضب عليَّ ﴿أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي﴾ بخلاص أخي بنيامين، وعودته معنا ﴿قَالَ كَبِيرُهُمْ﴾ وأخذ بجريرته
﴿وَمَا شَهِدْنَآ إِلاَّ بِمَا عَلِمْنَا﴾ أي بما تيقنا؛ لأنا رأينا بأعيننا صاع الملك وهم يستخرجونه من رحله ﴿وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ﴾ لما غاب عن أعيننا وأذهاننا ﴿حَافِظِينَ﴾ أي إن ما نذكره هو الظاهر لنا؛ المشاهد لأعيننا؛ ولا نعلم ما في الغيب: هل هو السارق للصواع حقيقة، أم أنه دس عليه؟
﴿وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ﴾ أي أهل القرية ﴿وَالّعِيْرَ﴾
الإبل؛ والمقصود: واسأل أهل القافلة ﴿الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا﴾ فقد رأوا بأعينهم ما رأينا بأعيننا. فذهبوا إلى أبيهم فقالوا له ما رسمه لهم أخوهم
﴿قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ﴾ زينت وسهلت ﴿لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْراً﴾ فعلتموه ببنيامين، كما فعلتم بيوسف أخيه من قبل
-[٢٩٢]- ﴿فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللَّهُ أَن يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً﴾ يوسف وأخويه: بنيامين، والذي قال: «لن أبرح الأرض حتى يأذن لي أبي» ﴿إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ﴾ بحالي ﴿الْحَكِيمُ﴾ في صنعه
﴿وَتَوَلَّى عَنْهُمْ﴾ انصرف وأعرض الأسف: شدة الحزن ﴿وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ﴾ وكثرة البكاء ممتلىء غيظاً وكرباً وغماً، ويكتم جميع ذلك في نفسه ﴿فَهُوَ كَظِيمٌ﴾ قسم فيه معنى التعجب
﴿تَفْتَأُ﴾ أي لا تفتأ، ولا تزال ﴿تَذْكُرُ يُوسُفَ﴾ دائماً وتذكر فقده ﴿حَتَّى تَكُونَ حَرَضاً﴾ الحرض: الذي أذابه الهم والمرض، وأشرف على الهلاك وقد قلت في وصف الدنيا:
فكم لفرقتها أشفى على تلف
صب بها مولع في حبها حرض
﴿قَالَ إِنَّمَآ أَشْكُو بَثِّي﴾ حالي المؤلم ﴿وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ﴾ وحده؛ فهو القادر على الذهاب به، أو بأسبابه ﴿وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ﴾ من صحة رؤيا يوسف وتحققها، واطمئناني بأن الله تعالى سيجمعني به؛ عاجلاً أو آجلاً
﴿يبَنِيَّ اذْهَبُواْ فَتَحَسَّسُواْ﴾ تجسسوا. والتحسس: في الخير، والتجسس: في الشر. وقيل: إذا تجسس لنفسه؛ يقال له: تحسس، وإذا تجسس لغيره يقال له: تجسس ﴿وَلاَ تَيْأَسُواْ مِن رَّوْحِ اللَّهِ﴾ من رحمته وفرجه فذهبوا إلى مصر
﴿فَلَمَّا دَخَلُواْ عَلَيْهِ﴾ أي على يوسف ﴿قَالُواْ يأَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ﴾ الشدة والجوع ﴿وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُّزْجَاةٍ﴾ رديئة، أو قليلة ﴿فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَآ﴾ بالزيادة، أو برد أخينا. فأراد يوسف أن يكشف لهم عن حقيقته، وأن يعاتبهم على ما فعلوه عتاباً رقيقاً
﴿قَالَ هَلْ عَلِمْتُمْ مَّا فَعَلْتُم بِيُوسُفَ﴾ إذ تآمرتم عليه، وألقيتموه في غيابة الجب، وزعمتم أن الذئب قد أكله ﴿وَأَخِيهِ﴾ وما فعلتم بأخيه بنيامين؛ إذ صدقتم أنه سرق، وأشعتم ذلك؛ وقلتم: «إن يسرق فقد سرق أخ له من قبل» فلما رأوا فعله، وسمعوا كلامه علموا أنه أخوهم؛ فقالوا:
﴿أَإِنَّكَ لأَنتَ يُوسُفُ قَالَ﴾ نعم ﴿أَنَاْ يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي﴾ بنيامين ﴿قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَآ﴾ بإنجائي من الهلاك المحقق، وتملكي دماء الناس وأموالهم، وبتبرئة أخي من السرقة، واجتماعه بي
-[٢٩٣]- ﴿إِنَّهُ مَن يَتَّقِ﴾ الله، ويعمل لآخرته ﴿وَيِصْبِرْ﴾ على الطاعات، وعن المعاصي، وعلى المكاره ﴿فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ﴾ بل يجزيهم على صبرهم وإحسانهم خير الجزاء
﴿قَالُواْ تَاللَّهِ﴾ قسم فيه معنى التعجب ﴿لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ﴾
أي فضلك {عَلَيْنَا وَإِن كُنَّا لَخَاطِئِينَ *
قَالَ لاَ تَثْرَيبَ عَلَيْكُمُ} لا لوم، ولا تقريع، ولا عتب ﴿الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ﴾ لإنابتكم، وندمكم على ما قدمتم، واعترافكم بخطئكم؛ وقال لهم
﴿اذْهَبُواْ بِقَمِيصِي هَذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيراً﴾ ألهمه الله تعالى أن قميصه إذا ألقي على وجه أبيه؛ يرتد بصره إليه بقدرته تعالى وقد أبى أخوهم يهوذا إلا أن يحمل القميص بنفسه؛ وقال: أنا حملت إليه قميص يوسف بدم كذب فأحزنته وأمرضته وأعميته، وأنا الذي أحمل إليه القميص الآن لأسره وأشفيه وقيل: إن هذا القميص كان قميص إبراهيم عليه الصَّلاة والسَّلام؛ الذي نجا به من النار، وأنه قد نسج من حرير الجنة، وأن ريح الجنة لا يقع على مريض أو مبتلى إلا عوفي. وهذا الكلام فيه نظر؛ فلو صدقنا أنه كان قميصاً لإبراهيم، وآمنا أن ريح الجنة لا يقع على مريض أو مبتلى إلا عوفي؛ فأين لنا بحرير الجنة الذي نسج منه القميص؟ وأين لنا بريح الجنة الذي يشفي كل مبتلي أو مريض؟ وهو كلام لا يعدو أن يكون من تخريف القصاص المولعين بكل غريب، الناشرين لكل عجيب فكم من كلام لا تستسيغه الأفهام، وكم من منقول لا يوافق العقول؛ وكتب التفسير ملأى بكل غريب وسقيم؛ فليحذره العاقل الحكيم ﴿وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ﴾ لأستمتع برؤيتهم، وأهنأ بقربهم
﴿وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ﴾ أي خرجت من مصر، وانفصلت عن عمرانها ﴿قَالَ أَبُوهُمْ﴾ يعقوب لجلسائه ﴿إِنِّي لأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلاَ أَن تُفَنِّدُونِ﴾ تنسبون إليَّ التخريف. وهو من الفند، أي الخرف
﴿قَالُواْ تَاللَّهِ﴾ قسم فيه معنى التعجب ﴿إِنَّكَ لَفِي ضَلاَلِكَ الْقَدِيمِ﴾ خطئك القديم؛ من حب يوسف، وأملك في حياته ولقائه؛ وقد أجمعوا على هلاكه وموته
﴿فَلَمَّآ أَن جَآءَ الْبَشِيرُ﴾ يهوذا بقميص يوسف ﴿أَلْقَاهُ عَلَى وَجْهِهِ﴾ أي ألقى قميص يوسف على وجه أبيه ﴿فَارْتَدَّ﴾ عاد ﴿بَصِيراً﴾ كما كان ﴿قَالَ﴾ يعقوب ﴿أَلَمْ أَقُلْ لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ﴾ ومن كرمه وفضله ﴿مَا لاَ تَعْلَمُونَ﴾ وحينئذٍ أدرك إخوة يوسف مبلغ ما ارتكبوه في حق أبيهم، ومدى الإيذاء الذي ألحقوه به، وخافوا غضب الله تعالى عليهم، وبطشه بهم
﴿قَالُواْ يأَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَآ إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ﴾ فيما فعلناه
﴿قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي﴾ أطلب لكم الغفران منه ﴿إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ﴾ لكل مذنب ﴿الرَّحِيمُ﴾ بكل تائب ولما أبلغوا أباهم رغبة يوسف في اللحاق به: توجهوا جميعاً نحو مصر ولما استشعر يوسف بقدومهم: استقبلهم في خارج
-[٢٩٤]- العمران ودخلوا على يوسف
﴿فَلَمَّا دَخَلُواْ﴾ عليه ﴿آوَى﴾ ضم ﴿إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقَالَ ادْخُلُواْ مِصْرَ إِن شَآءَ اللَّهُ آمِنِينَ﴾ روي أن يعقوب حين لقى يوسف قال له: السلام عليك يا مذهب الأحزان.
فرد يوسف على أبيه السلام؛ وقال: يا أبت تبكي عليَّ حتى يذهب بصرك، ألم تعلم أن القيامة تجمعنا؟ قال: بلى ولكن خشيت أن يسلب دينك؛ فيحال بيني وبينك
﴿وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ﴾ أجلسهما بجواره على السرير ﴿وَخَرُّواْ لَهُ سُجَّدَاً﴾ أي خروا لأجله سجداًلله، أو الضميرلله تعالى، أو السجود كان ليوسف عليه السلام؛ وكان تحية عندهم، أو كان على هيئة الانحناء ﴿مِن بَعْدِ أَن نَّزغَ الشَّيْطَانُ﴾ أفسد وحرش ﴿إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِّمَا يَشَآءُ﴾ أي رفيق بعباده؛ يسبب لهم مصالحهم من حيث لا يعلمون، ويرفعهم من ناحية المكاره التي تلحقهم إذ لولا تآمر إخوة يوسف عليه لما ألقي في الجب، ولولا إلقاءه في الجب ما أخذه السيارة، ولولا أخذ السيارة له وزهدهم فيه لما باعوه لحاكم مصر، ولولا بيعه كالعبيد لما راودته سيدة القصر عن نفسه، ولولا هذه المراودة لما دخل السجن، ولولا دخوله السجن لما اختلط بصاحبي السجن، ولولا تأويله لهما ما رأياه في منامهما لما اتصل أمره بالملك، ولولا اتصال أمره بالملك لما خرج من السجن، ولما وليَّ على خزائن الأرض
وهكذا أراد ربك أن يرفعه من طريق الضعة، ويغنيه من طريق الفقر، ويسعده من طريق الشقاء فقد كان الأقرب أن يموت محطماً مهشماً عند إلقائه في الجب، أو أن يموت جوعاً وعطشاً لو ترك، أو تتخذه السيارة خادماً؛ فيعيش طوال حياته ذليلاً مهاناً ولكنه تعالى «لطيف لما يشاء» ﴿إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ﴾ بخلقه ﴿الْحَكِيمُ﴾ في صنعه وهنا يحس يوسف بمبلغ فضل الله تعالى عليه، ومدى لطفه به؛ فيقول مناجياً ربه، شاكراً نعماءه
﴿رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ﴾ ما آتيتني ﴿وَعَلَّمْتَنِي مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ﴾ ما علمتني ﴿فَاطِرَ﴾ خالق ﴿أَنتَ وَلِيِّي﴾ ناصري، ومتولي أموري في الدنيا والآخرة
﴿ذلِكَ﴾ الذي ذكرناه لك، وقصصناه عليك يا محمد ﴿مِنْ أَنْبَآءِ الْغَيْبِ﴾ أخبار ما غاب عنك، ولم يصل إلى علمك ﴿نُوحِيهِ إِلَيْكَ﴾ ليكون دليلاً على صدقك، وبرهاناً على نبوتك ﴿وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ﴾ أي لم تكن لدى إخوة يوسف ﴿إِذْ أَجْمَعُواْ أَمْرَهُمْ﴾ عزموا عزماً أكيداً على الكيد ليوسف ﴿وَهُمْ يَمْكُرُونَ﴾ أي لم تحضرهم وقتذاك؛ فتعلم ما دار بينهم؛ فيكون ذلك مثاراً للشبهة فيك، والتهمة لك؛ وإنما علمت ذلك عن طريق الوحي
﴿وَمَآ أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ﴾ على إيمانهم ﴿بِمُؤْمِنِينَ﴾ إلا أن يشاء الله
﴿وَمَا تَسْأَلُهُمْ عَلَيْهِ﴾ أي على القرآن ﴿مِنْ أَجْرٍ إِنْ هُوَ﴾ ما هو ﴿إِلاَّ ذِكْرٌ﴾
-[٢٩٥]- عظة ﴿لِّلْعَالَمِينَ﴾ الناس جميعاً
﴿وَكَأَيِّن﴾ وكم ﴿مِّن آيَةٍ﴾ دالة على وحدانية الله تعالى وقدرته وعظمته ﴿يَمُرُّونَ عَلَيْهَا﴾ يشاهدونها بأعينهم وألبابهم ﴿وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ﴾ أي معرضون عن دلالتها على خالقها إذ أن كل شيء في هذا الكون يشهد للمولى تعالى بالوجود والقدرة والحكمة والعظمة وليس الجبل بعظمته وضخامته بأكثر دلالة على وجوده تعالى من الحصاة الملقاة في الفلاة، وليس الغزال المستحسن بأدل على قدرته تعالى ووجوده من الخنزير المستهجن؛ بل إن النار والثلج - مع تفاوتهما واختلافهما في الطبائع: فإنهما لم يختلفا في جهة البرهان على وجود مبدعهما ومودع خواصهما
﴿وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ﴾ ما يقرون بوجوده «ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض وسخر الشمس والقمر ليقولن الله» ﴿إِلاَّ وَهُمْ مُّشْرِكُونَ﴾ به غيره: يعبدون الأصنام؛ ويقولون: «ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى»
﴿أَفَأَمِنُواْ أَن تَأْتِيَهُمْ غَاشِيَةٌ مِّنْ عَذَابِ اللَّهِ﴾ عقوبة تغشاهم وتشملهم ﴿بَغْتَةً﴾ فجأة
﴿قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي﴾ طريقي ﴿أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ﴾ حجة واضحة ﴿وَسُبْحَانَ اللَّهِ﴾ تنزيهاً له تعالى عما يقولون، وعما يعبدون
﴿وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ﴾ من الرسل ﴿إِلاَّ رِجَالاً﴾ ليس من بينهم امرأة، ولا جني، ولا ملك؛ وهو رد على القائلين «لولا أنزل إليه ملك فيكون معه نذيراً» وهؤلاء الرجال ﴿نُّوحِي إِلَيْهِمْ مِّنْ أَهْلِ الْقُرَى﴾ أي من أهل المدائن؛ ولم يرسل الله تعالى رسولاً من أهل البادية؛ لجفائهم وغلبة القسوة على طباعهم
﴿حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ﴾ يئسوا من إيمان قومهم؛ أو يئسوا من النصر على أقوامهم ﴿وَظَنُّواْ﴾ أي استيقن قومهم ﴿أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ﴾ أي أن الرسل قد أخلفوا ما وعدوا به من النصر، أو ما وعدوا به من نزول العذاب بالمكذبين؛ وقرىء «كذبوا» بالتثقيل؛ أي وتأكد الرسل أنهم قد كذبوا من قومهم تكذيباً لا إيمان بعده. وقال بعضهم: إن المعنى: وظن الرسل أن الله أخلفهم ما وعدهم به؛ وهو كفر لا يجوز نسبته إلى عامة المؤمنين فما بالك بخاصتهم، وما بالك بالرسل؛ الذين هم صفوة عباد الله وخيرته من خليقته ومن عجب أنهم ينسبون هذا التأويل إلى حبر الأمة وترجمان القرآن: ابن عباس رضي الله تعالى عنهما والأعجب من ذلك أنهم يزعمون أن السامع ناقش ابن عباس في ذلك القول؛ فقال له: ألم يكونوا بشراً؟ وتلا قوله تعالى: «حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله ألا إن نصر الله قريب» فاحذر - هداك الله وعافاك - من هذه الدسائس فهي كثر ﴿جَآءَهُمْ نَصْرُنَا﴾ أي جاء الرسل نصرنا ﴿فَنُجِّيَ مَن نَّشَآءُ﴾ وهم المؤمنون ﴿وَلاَ يُرَدُّ بَأْسُنَا﴾ عذابنا ﴿عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ﴾ الكافرين
﴿لَقَدْ كَانَ فِي
-[٢٩٦]- قَصَصِهِمْ﴾
أي قصص الرسل، الذين قصصناهم عليك ﴿عِبْرَةٌ﴾ عظة؛ وهكذا سائر قصص القرآن ﴿مَا كَانَ﴾ القرآن ﴿حَدِيثاً يُفْتَرَى﴾ يختلق؛ كما زعموا أنك اختلقته ﴿وَلَكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ﴾ أي مصدقاً لما تقدمه من الكتب ﴿وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ﴾ تحتاجون إليه في معاشكم ومعادكم.
295
سورة الرعد

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

296
Icon