تفسير سورة سورة الإسراء من كتاب حاشية الصاوي على تفسير الجلالين
.
لمؤلفه
الصاوي
.
المتوفي سنة 1241 هـ
ﰡ
قوله: ﴿ سُبْحَانَ ﴾ هو في الأصل مصدر سماعي لسبح المشدد، أو اسم مصدر له، صم صار علماً على التنزيه، أي وعلى كل، فهو مفعول مطلق لفعل محذوف تقديره أسبح، فالمقصود منه إما التنزيه فقط، أي تنزيه من هذا وصفه عن كل نقص، لأن هذه معجزة لم تسبق لغيره صلى الله عليه وسلم، أو المقصود التعجب فقط، على حد سبحان الله، المؤمن لا ينجس، أي عجباً لباهر قدرة فاعل هذا الفعل وكماله، أو التنزيه مع التعجب، كأنه قال: عجباً لتنزيه الله تعالى عن كل نقص، حيث صدر منه هذا الفعل العجيب الخارق للعادة. قوله: ﴿ ٱلَّذِى ﴾ اسم موصول مضاف لسبحان، والموصول وإن كان مبهماً، إلا أنه تميز بالصلة، فإن هذه الصلة ليست لغيره تعالى، سيما مع تصدير الجملة بالتسبيح الذي هو مختص بالله قوله: ﴿ أَسْرَىٰ ﴾ هو وسرى فعل لازم، بمعنى سار في الليل، فالهمزة ليست للتعدية إلى المفعول. قوله: ﴿ بِعَبْدِهِ ﴾ لم يقل بنبيه ولا برسوله، إشارة إلى أن وصف العبودية، أخص الأوصاف وأشرفها، لأنه إذا صحت نسبة العبد لربه، بحيث لا يشرك به في عبادته له أحداً، فقد فاز وسعد، ولذا ذكره الله في المقامات الشريفة كما هنا، وفي مقام الوحي قال تعالى:﴿ فَأَوْحَىٰ إِلَىٰ عَبْدِهِ مَآ أَوْحَىٰ ﴾[النجم: ١٠] وفي مقام الدعوة قال تعالى، وأنه لما قام عبدالله يدعوه الخ، ولذا قال القاضي عياض: ومما زادني شرفاً وتيهاً وكدت بأخمصي أطأ الثريادخولي تحت قولك يا عبادي وأن صيرت أحمد لي نبياًوهناك وجه آخر، وهو خلاف ضلال أمته به، كما ضلت أمة عيسى به حيث قالوا: ابن الله، وقوله: ﴿ بِعَبْدِهِ ﴾ أي بروحه وجسمه على الصحيح، خلافاً لمن قال: إن الإسراء بالروح فقط، ونقل عن عائشة وهو مردود، بأنها كانت حديثه السن إذ ذاك، ولم تكن في عصمته صلى الله عليه وسلم. قوله: (محمد) إنما لم يصرح به لعلمه من السياق، ومن سبب النزول. قوله: (وفائدة ذكره) أي مع علمه من ذكر الإسراء. قوله: (إلى تقليل مدته) أي فقيل قدر أربع ساعات، وقيل ثلاث، وقيل قدر لحظة، قال السبكي في تائيته: وعدت وكل الأمر في قدر لحظة. قوله: ﴿ مِّنَ ٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ ﴾ ﴿ مِّنَ ﴾ لابتداء الغاية. قوله: (أي مكة) إنما فسره بذلك، ليصدق بكل من القولين وهما: هل كان مضطجعاً في المسجد، أو في بيت أم هانىء وفي الحقيقة لا تخالف، لأنه على القول بأنه كان في بيت أم هانىء، ولقد احتملته الملائكة، وجاؤوا به إلى المسجد، وشقوا صدره هناك، ثم أتوا له بالبراق بعد ذلك، فلم يحصل الإسراء إلا من المسجد، فالأولى للمفسر، أن يبقي الآية على ظاهرها، وكان المسجد إذ ذاك بقدر المطاف، ثم وسعه الملوك. وأول من وسع فيه، عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فكانوا يشترون دور مكة ويدخلونها فيه. قوله: ﴿ إِلَىٰ ٱلْمَسْجِدِ ٱلأَقْصَا ﴾ هو أول مسجد بني في الأرض بعد الكعبة، بناه آدم بعد أن بنى الكعبة بأربعين سنة، والحكمة في الإسراء به إلى بيت المقدس، ليظهر شرفه على جميع الأنبياء والمرسلين، لأنه صلى بهم إماماً في مكانهم، وشأن الذي يتقدم على الإنسان في بيته، يكون هو السلطان، لأن السلطان له التقدم على غيره مطلقاً، وليسهل على أمته المحشر، حيث وضع قدمه فيه، فإن الخلق يحشرون هناك. قوله: (بيت المقدس) من إضافة الموصوف لصفته، أي البيت المقدس، أي المطهر من عبادة غيره تعالى، ولذا لم يعبد فيه صنم قط. قوله: ﴿ ٱلَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ ﴾ أي بركة دنيوية بالثمار والأنهار كما قال المفسر، وأما في داخله فليست مختصة به، بل البركة في كلا المسجدين، بل هي أتم في المسجد الحرام. قوله: ﴿ لِنُرِيَهُ ﴾ اللام للحكمة، أي حكمة إسرائنا به رؤيته من آياتنا، وعامة القراء على قراءته بالنون، وقرأ الحسن ليريه بالياء، فعلى الأول يكون في الكلام التفاتان، الأول من الغيبة للمتكلم في قوله: ﴿ بَارَكْنَا ﴾ و ﴿ لِنُرِيَهُ ﴾، الثاني في قوله: ﴿ إِنَّهُ هُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلبَصِيرُ ﴾ وعلى الثاني يكون فيه أربع التفاتات: الأول من الغيبة في قوله: قوله: ﴿ بِعَبْدِهِ ﴾ إلى التكلم في قوله: ﴿ بَارَكْنَا ﴾.
الثاني من التكلم إلى الغيبة في ﴿ لِنُرِيَهُ ﴾.
الثالث من الغيبة إلى التكلم في قوله: ﴿ مِنْ آيَاتِنَآ ﴾.
الرابع من التكلم إلى الغيبة في قوله: ﴿ إِنَّهُ هُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلبَصِيرُ ﴾ ومن في قوله: ﴿ مِنْ آيَاتِنَآ ﴾ للتبعيض، أي لنريه بعض آياتنا، وإنما أتى بها تعظيماً لآيات الله، أي أن محمداً، وإن ما رأى، من الآيات العظيمة والعجائب الفخيمة، فهو بعض بالنسبة لآيات الله، وعجائب قدرته، وجلائل حكمته. إن قلت: إن ما هنا يقتضي التبعيض، وقوله تعالى في حق إبراهيم﴿ وَكَذَلِكَ نُرِيۤ إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ ﴾[الأنعام: ٧٥] أنه لا تبعيض، فظاهر هذا، أن ما رآه إبراهيم، أكثر مما رآه محمد، وهو خلاف الإجماع. أجيب: بأن ملكوت السماوات والأرض، بعض الآيات العظيمة التي رآها محمد، فإبراهيم رأى بعض البعض. قوله: ﴿ إِنَّهُ هُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلبَصِيرُ ﴾ المشهور أن الضمير عائد على الله تعالى، أي هو السميع للأقوال، البصير بالأحوال والأفعال، وقيل الضمير عائد على النبي صلى الله عليه وسلم، وحكمة الإتيان بهذين الوصفين، الثناء على رسول الله صلى الله عليه وسلم، حيث شاهد ما شاهد، وسمع ما سمع، ولم يزغ بصره، ولم يدهش سمعه، فهو نظير قوله تعالى:﴿ مَا زَاغَ ٱلْبَصَرُ وَمَا طَغَىٰ ﴾[النجم: ١٧] إشار إلى علو مقامه ورفعة شأنه، ولذا قال العارف البرعي: وإن قابلت لفظة لن تراني بما كذب الفؤاد فهمت معنىفإن الله كلم ذاك وحيا وكلم ذا مشافهة وأدنىإلى أن قال: فموسى خر مغشياً عليه وأحمد لم يكن ليزيغ ذهناقوله: (على اجتماعه بالأنبياء) أي الرسل وغيرهم وصلوا خلفه. قوله: (وعروجه إلى السماء) أي صعوده إليها محفوفاً بالملائكة الكرام. قوله: (ورؤية عجائب الملكوت) أي كالملائكة والجنة والنار. واعلم أن العوالم أربع: عالم الملك وهو ما نشاهده، وعالم الملكوت وهو ما خفي عنا، وعالم الجبروت وهو العلوم والأسرار، وعالم العزة وهو ما لا يمكن التعبير عنه كذات الله، ويسمى سر سر السر. قال السدي البكري: وبسرسر سرك الذي لا تنفي بالافصاح عن حقيقته الرقائق. قوله: (ومناجاته له تعالى) أي شفاها مع رفع الحجاب. قوله: (فإنه صلى الله عليه وسلم) الخ، القصد على ذلك تفصيل ما أجمل في الآية الكريمة، وقد اختلفت الروايات في الإسراء والمعراج جداً، وقد اقتصر المفسر على هذه الرواية، لكونها رواية البخاري ومسلم. قوله: (أتيت بالبراق) أي بعد أن جاءه جبريل وميكائيل ومعهما ملك آخر، فاحتملوه حتى جاؤوا به زمزم، فأضجعوه وشقوا من ثغرة نحره إلى أسفل بطنه، وأخرجوا قلبه وغسلوه ثلاث مرات، ثم ملؤوه حلماً وعلماً ويقيناً وإسلاماً، ثم أطبقوه وختموا بين كتفيه بخاتم النبوة، ثم أتى بالبراق بضم الباء مأخوذة من البرق لسرعة سيره، أو من البريق لشدة لونه ولمعانه، وهو من جملة أربعين ألف براق، ترتع في ربض الجنة معدة له صلى الله عليه وسلم. قوله: (دابة) أي ليست ذكراً ولا أنثى، وفي الاستعمال يجوز التذكير، باعتبار كونه مركوباً، ويؤنث باعتبار كونه دابة. قوله: (فوق الحمار ودون البغل) أي وهو متوسط بينهما، قوله: (عند منتهى طرفه) هو بسكون الراء البصر. قوله: (فركبته) أي وكان جبريل عن يمينه آخذاً بركابه، وميكائيل عن يساره آخذاً بزمام البراق. قوله: (حتى أتيت بيت المقدس) في هذه الرواية اختصار، وزيد في غيرها، أنه نزل بالمدينة ومدين وطور سيناء وبيت لحم، فصلى في كل موضع ركعتين، بأمر من جبريل عن الله، لتحصل زيادة بركته لتلك الأماكن، وليقتدي به غيره في العبادة بالأماكن المشرفة، ورأى بين كل موضع والآخر، عجائب مذكورة في قصة النجم الغيطي. قوله: (فربطت الدابة) يقال ربط يربط من باب ضرب شده. قوله: (بالحلقة) بسكون اللام ويجوز فتحها، والربط تعليماً للاحتياط في الأمور، وإشارة إلى أن الأخذ في الأسباب لا ينافي التوكل قوله: (التي تربط فيها الأنبياء) أي الذين كانوا يأتون بيت المقدس لزيارته، وفي رواية أن جبريل أخذ البراق من الباب وأدخله المسجد، وخرق الصخرة بأصبعه وربط البراق فيها. قوله: (فصليت فيه ركعتين) أي إماماً بالأنبياء أجساداً وأرواحاً، والملائكة وأرواح المؤمنين، وهذه الصلاة لم يعلم كونها فرضاً أو نفلاً، غاية ما يقال إنه أمر بها وهو مطيع، وفي الحديث اختصار، لأنه طوى ذكر صلاة الركعيتن تحية المسجد، حين اجتمع جمع الأنبياء والملائكة وأرواح المؤمنين، ويحتمل أن الركعتين المذكورتين في الحديث هما تحية المسجد، وطوى ذكر الركعيتن اللتين أم فيهما الناس. قوله: (فجاءني جبريل) أي حين أخذني من العطش أشد ما أخذني. قوله: (أصبت الفطرة) أي الخلقة الأصلية وهي فطرة الإسلام، وفي بعض الروايات أن جبريل قال له: ولو اخترت الخمر لغوت أمتك ولم يتبعك منهم إلا قليل، وفي رواية إن الآنية كانت ثلاثاً والثالث فيه ماء، وأن جبريل قال له: ولو اخترت الماء لغرقت أمتك. قوله: (قال) أي الراوي وهو أنس بن مالك، خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم. قوله: (ثم عرج بي) أي بعد أن أتي بالمعراج، ووضع على صخرة بيت المقدس، وهو سلم له عشر مراق: إحداها من ذهب، والأخرى من فضة، وأحد جانبيه من ياقوتة حمراء، والآخر من ياقوتة بيضاء، وهو مكلل بالدر، سبع منها للسماوات السبع، والثامثة للسدرة، والتاسعة للكرسي، والعاشرة إلى العرش، فلما هما بالصعود، نزلت المرقاة التي عند السماء الدنيا، فركباها وصعدت بهما إلى محلها، ثم نزلت الثانية لهما وهكذا. قوله: (إلى الدنيا) أي وهي من موج مكفوف، والثانية من مرمرة بيضاء، والثالثة من حديد، والرابعة من نحاس، والخامسة من فضة، والسادسة من ذهب، والسابعة من ياقوتة حمراء، والكرسي من ياقوتة بيضاء، والعرش من ياقوتة حمراء، وأبواب السماوات كلها من ذهب، وأقفالها من نور، ومفاتيحها اسم الله الأعظم. قوله: (فاستفتح جبريل) أي طلب الفتح من الملك الموكل بالباب، وحكمة غلقها إذ ذاك، لزيادة الإكرام بالسؤال والترحيب له صلى الله عليه وسلم. قوله: (قيل من أنت) الخ، فيه اختصار، وفي الرواية المشهورة قيل مرحباً به وأهلاً، حياه الله من أخ ومن خليفة، فنعم الأخ ونعم الخليفة، ونعم المجيء جاء. قوله: (قيل وقد أرسل إليه؟) المعنى أجاء وقد أرسل إليه؟ إن قلت: إن رسالته ليست خافية عليهم حتى يسألوا عنها. أجيب: بأن المراد أرسل إليه للعروج إلى السماوات والمكالمة. قوله: (فإذا أنا بآدم) في بعض الروايات: وعن يمينه أسودة وباب يخرج منه ريح طيبة، وعن يساره أسودة وباب يخرج منه ريح خبيثة، فإذا نظر قبل يمينه ضحك واستبشر، وإذا نظر قبل شماله حزن وبكى، فسأل جبريل عن ذلك فقال: هذه الأسودة نسم بنيه، والباب الذي عن يمينه باب الجنة، والذي عن يساره باب النار، فإذا رأى من يدخل قبل يمينه ضحك، وإذا رأى من يدخل قبل يساره بكى. قوله: (فرحب بي) أي قال مرحباً بالابن الصالح والنبي الصالح. قوله: (ثم عرج بنا) أي أنا مع جبريل. قوله: (بابني الخالة) فيه مسامحة، إذ عيسى ابن بنت خالة يحيى، ويحيى ابن خالة أم عيسى، لأن عيسى ابن مريم وهي بنت حنة، وحنة أخت اشاع، واشاع أم يحيى، وقد اتصف عيسى بصفات الملائكة، لا يأكل ولا يشرب ولا ينام. قوله: (شطر الحسن) أي نصفه، والنصف الآخر قسم بين جميع الخلق وحسنه صلى الله عليه وسلم، غير ذلك الحسن الذي أعطي يوسف شطره، إذ هو غير منقسم، ولم يعط منه شيء لغيره، قال البوصيري: منزه عن شريك في محاسنه فجوهر الحسن فيه غير منقسمقوله: (بإدريس) وهو أول من خاط الثياب، وقبل ذلك كانوا يلبسون الجلود. قوله (بهارون) في بعض الروايات: ونصف لحيته سوداء ونصف لحيته بيضاء، وذلك من مسك أخيه موسى لها، حين جاء ووجد قومه قد عبدوا العجل. قوله: (فإذا أنا بموسى) في بعض الروايات: وحوله نفر من أمته، أكثر ممن يدخل الجنة من أمتي، فلو أنه في نفسه لم أبال، وفي رواية أنه سأل الله تعالى أن يجعله من أمة محمد صلى الله عليه وسلم فأجابه الله. قوله: (بإبراهيم) أي خليل الرحمن، فقال لي: مرحباً بالابن الصالح والنبي الصالح، ودعا لي بخير وقال: أقرىء أمتك مني السلام، وأخبرهم أن الجنة طيبة التربة عذبة الماء، وأن غراسها: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر. قوله: (وإذا هو) القصد من ذلك بيان أن الملائكة لا يعلم عدتهم إلا الله، قال تعالى:﴿ وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ ﴾[المدثر: ٣١].
قوله: (ثم ذهب بي) أي عرج بين، لأن هذا هو المعراج الثامن. قوله: (إلى سدرة المنتهى) أي إلى أعلاها، فإن السدرة أصلها في السماء السادسة، وأغصانها وفروعها فوق السماء السابعة. قوله: (كآذان الفيلة) أي في الشكل، وإلا فكل ورقة تظلل هذه الأمة. قوله: (كالقلال) جمع قلة وكانت معلومة عند المخاطبين، وفي بعض الروايات كقلال هجر، وهي بلدة القلة فيها كالري الكبير. قوله: (فلما غشيها) أي قام بها من الحسن والبهاء. قوله: (قال فأوحى) فيه اختصار، أي ثم رفع إلى مستوى سمع فيه صريف الأقلام، وهو المعراج التاسع، ثم دلى الرفرف فزج به في النور، فعند ذلك تأخر جبريل فقال له: أهنا يفارق الخليل خليله؟ فقال له: هذا مكاني فلو فارقته لاحترقت من النور، أي ذهب نوري وتلاشيت لشدة الأنوار وظهورها، قال رسول الله: فخاطبني ربي ورأيته بعيني بصري وأوحى الخ. قوله: (ما أوحى) أبهم ذلك إشارة إلى عظم ما أوحى به إليه، وعدم إحاطة جميع الخلق به، قال البوصيري: فإن من جودك الدنيا وضرتها ومن علومك علم اللوح والقلمقوله: (وفرض علي) الخ، عطف خاص على عام، وإنما صرح به لتعلقه بالأمة، وأما عطاياه التي تخصه فلم يعبر عنها، إذ لا تحيط بها العبارة ولا تحصيها الإشارة، وقوله: (عليّ) أي وعلى أمتي لأن الأصل عدم الخصوصية إلا لدليل يدل على التخصيص، فذكر الفرض عليه يستلزم الفرض على أمته. قوله: (فنزلت) أي ومررت على إبراهيم فلم يقل شيئاً. قوله: (إلى موسى) أي في السماء السادسة، والحكمة في أن موسى اختص بالمراجعة دون غيره من الأنبياء، أن أمته كلفت من الصلوات بما لم يكلف به غيرها فثقلت عليهم، فرفق موسى بأمة محمد صلى الله عليه وسلم لكونه طلب أن يكون منها، وأيضاً فقد طلب موسى الرؤية فلم ينلها، ومحمد نالها من غير طلب، فأحب مراجعته وتردده ليزداد من نور الرؤية، فيقتبس موسى من تلك الأنوار، ليكون رائياً من رأى، قال ابن الفارض: أبق لي مقلة لعلي يوماً قبل موتي أرى بها من رآكوفي هذا المعنى قال ابن وفا: والسر في قول موسى إذ يردده ليتجلى النور فيه حيث يشهدهيبدو سناه على وجه الرسول فيا لله حسن جمال كان يشهدهقوله: (وخبرتهم) أي جربتهم، حيث كلفهم الله بركعتين في الغداة، وركعتين في وقت الزوال، وركعتين في العشي، فلم يطيقوا ذلك وعجزوا عنه. قوله: (قال فرجعت إلى ربي) أي إلى المكان الذي ناجيت فيه ربي، وليس المراد أن الله في ذلك المكان ورجع له، فإن اعتقاد ذلك كفر، بل المراد أن الله جعل هذا المكان محلاً لسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم يناجيه فيه، ليجمع له بين الرفعتين الحسية والمعنوية. قوله: (ويحط عني) أي الله تعالى، فجملة المرات تسع، وكل مرة يرى فيها ربه كما رآه في المرة الأولى، فقد رأى ربه في تلك الليلة عشر مرات. قوله: (حتى قال) الخ هذا حديث قدسي من هنا إلى قوله: (كتبت سيئة واحدة). قوله: (بكل صلاة عشر) أي في المضاعفة والثواب، فقد تفضل سبحانه وتعالى بتكثير الثواب على تلك الخدمة القليلة. قوله: (ومن هم بحسنة) المراد بالهم ترجيح الفعل دون عزم وتصميم، لأنه الذي يكتب في الخير ولا يكتب في الشر، وأما العزم والتصميم فيكتب في الخير والشر، وأما الهاجس والخاطر وحديث النفس، فلا يؤاخذ الإنسان بها، لا في خير ولا في شر، وقد نظم بعضهم الخمسة بقوله: مراتب القصد خمس هاجس ذكروا فخاطر فحديث النفس فاستمعايليه همّ كلها رفعت سوى الأخير ففيه الأخذ وقد وقعاقوله: (فنزلت) في بعض الروايات إن الله قال له: قد أمضيت فريضتي وخففت عن عبادي. قوله: (استحييت) ببائين بعد الحاء المهملة. قوله: (رواه الشيخان) أي البخاري ومسلم. والمعنى رويا معنى حديث الإسراء واتفقا عليه. قوله: (واللفظ لمسلم) أي وأما البخاري ففيه تغيير لبعض الألفاظ. قوله: (رأيت ربي) أي بعيني رأسي، وأُتي بهذا الحديث تتميماً للقصة، ثم بعد تمام الأمر، هبط من السماوات السبع إلى بيت المقدس، فركب البراق وأتى مكة قبيل الصبح، فلما أصبح قطع، وعرف أن الناس تكذبه، فقعد حزيناً، فمر أبو جهل فجلس إليه فقال له كالمستهزىء هل كان من شيء؟ قال: نعم أسري بي الليلة، قال: إلى أين؟ قال: إلى بيت المقدس، قال: ثم أصبحت بين أظهرنا؟ قال: نعم، فقال أبو جهل: إذا دعوت قومك أتحدثهم بما حدثتني به؟ قال نعم، فقال: يا معشر بني كعب بن لؤي هلموا، فجاؤوا حتى جلسوا إليهما، فحدثهم صلى الله عليه وسلم بذلك: بقي الناس بين مصفق، وواضع يديه على رأسه متعجباً، وضجوا لذلك وعظموه، فجاء أبو بكر فحدثه صلى الله عليه وسلم بذلك فقال: صدقت صدقت، فقالوا: أتصدقه إنه ذهب الليلة إلى بيت المقدس، وجاء قبل أن يصبح؟ فقال: نعم أني لأصدقه فيما هو هو أبعد من ذلك، أصدقه بخبر السماء في غدوة أو روحة، فلذلك سمي الصديق، فقال القوم: صف لنا بيت المقدس، فشرع في وصفه، حتى إن جبريل نقله من مكانه ووضعه بين يديه صلى الله عليه وسلم، وجعل ينظر إليه ويصف لهم، فقال القوم: أما النعت فوالله لقد أصاب، ثم قالوا: أخبرنا عن عيرنا، فأخبرهم عنها تفصيلاً، فقالوا: إن هذا لسحر مبين، فأنزل الله تعالى﴿ وَمَا جَعَلْنَا ٱلرُّءْيَا ٱلَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِّلنَّاسِ ﴾[الإسراء: ٦٠].
قوله: ﴿ وَآتَيْنَآ مُوسَى ﴾ معطوف على جملة﴿ سُبْحَانَ ٱلَّذِى أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ ﴾[الإسراء: ١] ومناسبتها لما قبلها أن كلا متعلقة بعطايا نبي، فالأولى متعلقة بعطايا سيدنا محمد، وهذه متعلقة بعطايا موسى عليهما السلام بجامع أن موسى أعطي التوراة بمسيره إلى الطور، وهو بمنزلة معراجه صلى الله عليه وسلم لأنه منح ثمة التكلم، وشرف باسم الكليم. قوله: ﴿ وَجَعَلْنَاهُ ﴾ أي موسى أو الكتاب. قوله: ﴿ هُدًى ﴾ أي هادياً من الضلالة والشرك. قوله: ﴿ أَلاَّ تَتَّخِذُواْ ﴾ ﴿ أَنْ ﴾ مصدرية و ﴿ لاَ ﴾ نافية، والفعل منصوب بحذف النون، ولام التعليل مقدرة كما زادها المفسر، وهذا على قراءة التحتية، وأما على قراءة التاء الفوقية، فالفعل مجزوم بلا الناهية، وأن زائدة، والقول مقدر والتقدير: وقلت لهم لا تتخذوا الخ، وقوله: ﴿ مِن دُونِي ﴾ في محل المفعول الثاني، و ﴿ وَكِيلاً ﴾ مفعول أول وهو مفرد في اللفظ جمع في المعنى، أي لا تتخذوا وكلاء غيري تلتجئون إليهم، وتفوضون أموركم إليهم. قوله: (فأن زائدة) المناسب أنها هنا مفسرة، لأن هذا ليس من مواضع زيادتها، وحينئذ فيقدر جملة فيها معنى القول دون حروفه، ولما كان وجه زيادتها ظاهراً بحسب الصورة، حملها المفسر عليه. قوله: ﴿ ذُرِّيَّةَ ﴾ الخ، أعربه المفسر منادى، وحرف النداء محذوف، وحينئذ فالمعنى يا ذرية من حملنا مع نوح، وحدوا الله واعبدوه واشكروه في جميع حالاتكم كما كان نوح، إنه كان عبداً شكوراً، فقوله: ﴿ إِنَّهُ كَانَ ﴾ الخ تعليل لمحذوف، وهذا هو الأقرب والأسهل، وبعضهم أعرب ﴿ ذُرِّيَّةَ ﴾ مفعولاً ثانياً لتتخذوا. و ﴿ وَكِيلاً ﴾ مفعول أول، أو ذرية بدل من وكيلا، أو منصوب على الاختصاص، فتحصل أن في إعراب ذرية أربعة أقوال، أسهلها ما مشى عليه المفسر. قوله: (أوحينا) فسر القضاء بالوحي لتعدية بإلى، فإن قضى يتعدى بنفسه أو بعلى، وما هنا مضمن معنى الإيحاء، والمراد بالكتاب التوراة، ويصح ان يبقى القضاء على بابه من أن معناه التقدير والحكم، وتكون إلى بمعنى على، أي حكمنا وقدرنا على بني إسرائل، وحينئذ فالمراد بالكتاب اللوح المحفوظ. قوله: ﴿ مَرَّتَيْنِ ﴾ تثنية مرة وهي الواحدة من المر أي المرور. قوله: (تبغون) أي تظلمون وتطغون. قوله: ﴿ وَعْدُ أُولاهُمَا ﴾ المراد بالوعد الوعيد، أي جاء وقت العقاب الموعود به. قوله: ﴿ بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَاداً لَّنَآ ﴾ أي جالوت وجنوده كما يأتي للمفسر، وقيل بختنصر. قوله: ﴿ فَجَاسُواْ ﴾ هو بالجيم بإتفاق الجمهور، وقرىء شذوذاً بالحاء المهملة، والمعنى على كل نقبوا وفتشوا. قوله: ﴿ خِلاَلَ ٱلدِّيَارِ ﴾ إما مفرد بمعنى (وسط) كما قال المفسر، أو جمع خلل كجبل وجبال. قوله: ﴿ وَكَانَ ﴾ أي البعث المذكور وتفتيش الأعداء عليهم.
قوله: (بقتل زكريا) الخ، مشى المفسر على أن المرة الأولى هي قتل زكريا، والثانية هي قتل ولده يحيى، ومشى غيره على أن المرة الأولى، مخالفة أحكام التوراة، وقتل شعياء وقيل أرمياء، والثانية قتل زكريا ويحيى، وقصد قتل عيسى قوله: (فبعث عليهم جالوت وجنوده) الصحيح أن الذي بعث عليهم في المرة الأولى بختنصر، قيل وقد كانت مدة ملكه سبعمائة سنة وأما جالوت وجنوده، فلم يقع منهم تخريب لبيت المقدس، بل جاؤوا ليغزوهم، فخرج إليهم داود وطالوت بجيوشهم، فقتل الله جالوت على يد داود، كما تقدم مفصلاً في سورة البقرة. قوله: (الدولة) في المصباح تداول للقوم الشيء، وهو حصوله في يد هذا تارة، وفي يد هذا أخرى، والاسم الدولة بفتح الدال وضمها، وجمع المفتوح دول بالكسر كقصعة وقصع، وجمع المضموم دول كغرفة وغرف اهـ. قوله: (والغلبة) تفسير. قوله: ﴿ وَأَمْدَدْنَاكُم بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ ﴾ أي بعد النهب والقتل الأول. قوله: ﴿ أَكْثَرَ نَفِيراً ﴾ أي أكثر الناس اجتماعاً وذهاباً للعدو، ونفيراً منصوب على التمييز. قوله: ﴿ إِنْ أَحْسَنْتُمْ ﴾ الخطاب لبني إسرائيل قوله: ﴿ أَحْسَنْتُمْ لأَنْفُسِكُمْ ﴾ أي فلا يصل إلى شيء من طاعتكم إذ مستحيل على الله تعالى أن يصل له من عباده نفع أو ضر، وحينئذ فلا ينبغي للإنسان أن يفتخر بطاعته، بل يعمل الطاعة وهو راج قبولها من ربه، لأنها علامة على دوام السعادة لصاحبها وأنه من أهل النعيم، ففي الحديث" يا عبادي إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني، ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني، وإنما هي أعمالكم أحصيها لكم، ثم أوفيكم إياها، فمن وجد خيراً فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك، فلا يلومن إلا نفسه "وقال العارف: ماذا يضرك وهو عا ص أو يفيدك وهو طائعفمن ظن أن الله ينتفع بالعبادة فقد كفر، لنسبته الافتقار له تعالى الله عنه. قوله: ﴿ فَلَهَا ﴾ خبر مبتدأ محذوف قدره المفسر، واللام بمعنى على، وإنما عبر بها للمشاكلة. قوله: ﴿ فَإِذَا جَآءَ ﴾ جواب الشرط محذوف قدره المفسر بقوله: (بعثناهم) دل عليه جواب إذا الأولى. قوله: ﴿ ٱلآخِرَةِ ﴾ صفة لموصوف محذوف قدره المفسر بقوله: (المرة). قوله: ﴿ لِيَسُوءُواْ وُجُوهَكُمْ ﴾ متعلق بهذا الجواب المحذوف، وفيها ثلاث قراءات سبعية: الأولى بضمير الجماعة مع الياء، فالواو فاعل الثانية بنون العظمة وفتح الهمزة آخراً، والفاعل هو الله. الثالثة بالياء المفتوحة والهمزة المفتوحة، والفاعل إما لله وإما الوعد وإما البعث وإما النفير، تأمل. قوله: (بقتل يحيى) أي وقيل بقتل زكرياء ويحيى، وقصد قتل عيسى. قوله: (فبعث عليهم بختنصر) وهو بضم الباء وسكون الخاء المعجمة والتاء المثناة معناه ابن ونصر بفتح النون وتشديد الصاد والراء المهملة اسم صنم وهو على أعجمي مركب وسمي بذلك لأنه وجد وهو صغير مطروحاً عند صنم ولم يعرف له أب فنسب إليه قيل إنه ملك الأقاليم كلها، قيل المسلط عليهم في المرة الثانية خردوش ملك من ملوك بابل وسيأتي في السيرة. قوله: (ألوفاً) أي نحو الأربعين. قوله: (وسبى ذريتهم) أي نحو السبعين ألفاً. قوله: (وقلنا في الكتاب) أي التوراة. قوله: (وضرب الجزية عليهم) أي على باقيهم كأهل خيبر. قوله: (وسجنا) تفسير فيكون معنى حصيراً محلا حاصراً لهم وقيل حصيراً فرشاً كالحصير فيكون بمعنى قوله تعالى﴿ لَهُمْ مِّن جَهَنَّمَ مِهَادٌ ﴾[الأعراف: ٤١].
- تتمة - يذكر فيها تلخيص القصة التي ذكرها المفسرون في هذه الآيات، قال محمد بن إسحاق: كانت بنو إسرائيل فيهم الأحداث والذنوب، وكان الله متجاوزاً عنهم ومحسناً إليهم، وكان أول ما نزل بهم، أن ملكاً منهم كان يدعى صديقة، وكان الله إذا ملك عليهم الملك، بعث معه نبياً يسدده ويرشده ويتبع الأحكام التي تنزل عليه، فبعث الله معه شيعا بن أمضيا عليه السلام، وذلك قبل مبعث زكريا ويحيى، ففي آخر مدة صديقة، عظمت الأحداث فيهم والمعاصي، فبعث الله عليهم سنحاريب ملك بابل ومعه ستمائة ألف راية، فنزل حول بيت المقدس، والملك مريض من قرحة كانت في ساقه، فجاء شعيا إليه وقال له: يا ملك بني إسرائيل، إن سنحاريب نزل بك هو وجنوده، فقال: يا نبي الله هل أتاك من الله وحي فيما حدث فتخبرنا به؟ فقال: لم يأتتني وحي في ذلك، فبينما هم على ذلك، أوحى الله إلى شعياء، أن ائت إلى ملك إسرائيل، فمره أن يوصي وصيته، ويستخلف على ملكه من يشاء من أهل بيته فإنه ميت، فأخبره شعيا بذلك، فأقبل الملك على القبلة، وصار يصلي ويتضرع إلى الله بقلب مخلص، فاستجاب الله دعاء الملك، وأوحى إلى شعياء، أن أخبر صديقة أن ربه استجاب له ورحمه، وأخر أجله خمس عشرة سنة، وأنجاه من عدوه سنحاريب، فلما قال له ذلك، انقطع عنه الحزن، وخر ساجداً شاكراً لله متضرعاً، فلما رفع رأسه، أوحى الله إلى شعياء، أن قل للملك يأتي بماء التين فيجعله على قرحته فيشفى، فأخبره ففعل فشفاه الله، فقال الملك لشعيا: سل ربك أن يجعل لنا علماً بما هو صانع بعدونا هذا، قال الله لشعيا: سيصبحون موتى كلهم إلا سنحاريب وخمسة نفر من كتابه، فلما أصبح وجدوا الأمر كما ذكر، فخرج الملك والتمس سنحاريب، فلم يجده في الموتى، فبعث في طلبه فأدركه ومعه خمسة نفر أحدهم بختنصر، فجعلوهم في أطواق الحديد، وقال الملك لسنحاريب: كيف رأيت فعل ربنا بكم، ونحن وأنتم غافلون؟ فقال سنحاريب: قد أتاني خبر ربكم ونصره إياكم، قبل أن أخرج من بلادي، فلم أطع مرشداً، وأوقعتني في الشقوة قلة العقل، فقال الملك لسنحاريب: إن ربنا لم يبقك ومن معك لكرامة بك عليه، وإنما أبقاك ومن معك، لتزدادوا شقوة في الدنيا وعذاباً في الآخرة، ولتخبروا من وراءكم بما رأيتم من فعل ربنا بكم، ثم إن الملك أطال عليهم العذاب، فقال سنحاريب له: القتل خير مما تفعل، فأوحى الله إلى شعيا، أن يرسل سنحاريب ومن معه لينذروا من وراءهم ففعل، فخرج سنحاريب ومن معه حتى قدموا بابل فأخبروهم الخبر، فقال له قومه: نهيناك فلم تطعنا، وهي أمة لا يستطيعها أحد مع ربهم، وكان أمر سنحاريب تخويفاً لبني إسرائيل، ثم كفاهم الله تعالى شرهم تذكرة وعبرة، ثم إن سنحاريب لبث سبع سنين ومات، فاستخلف على ملكه بختنصر، فعمل بعمله واستمر متباعداً عن بني إسرائيل، حتى مات ملكهم، فتنافسوا في الملك، وقتل بعضهم بعضاً، وشعيا ينهاهم فلم يقبلوا، فأوحى الله لشعيا قم في قومك أوح على لسانك، فلما قام أنطق الله لسانه بالوحي فقال: يا سماء استمعي، ويا أرض أنصتي، فإن الله يريد أن يقضي شأن بني إسرائيل، الذين رباهم بنعمته، واصطنعهم لنفسه، وخصهم بكرامته، وفضلهم على عباده، وهم كالغنم الضائعة التي لا راعي لها، وضرب الله لهم مثلاً ثم قال: إنه مثل ضربته لهم، يتقربون إلي بذبح البقر والغنم، وليس ينالني اللحم ولا أكله، ويدعون أن يتقربوا إلي بالتقوى، والكف عن ذبح الأنفس التي حرمتها، وأيديهم مخضوبة منها، وثيابهم متزملة بدمائها، يشيدون لي بالبيوت مساجد، ويطهرون أجوافها، وينجسون قلوبهم وأجسادهم ويدنسونها، ويزوقون لي المساجد ويزينونها، ويخربون عقولهم وأخلاقهم ويفسدونها، فأي حاجة لي إلى تشييد البيوت ولست أسكنها، وأي حاجة إلى تزويق المساجد ولست أدخلها، إنما أمرت برفعها، لأذكر وأسبح، يقولون صمنا فلم يرفع صيامنا، وصلينا فلم تنور صلاتنا، وتصدقنا فلم تزك صدقاتنا، ودعونا بمثل حنين الحمام، وبكينا بمثل عواء الذئاب، في كل ذلك لا يستجاب لنا، قال الله: فسلهم ما الذي يمنعني أن أستجيب لهم؟ ألست أسمع السامعين، وأبصر الناظرين، وأقرب المحبين، وأرحم الراحمين؟ فكيف أرفع صيامهم وهم يلبسونه بقول الزور، ويتقوون عليه بطعمة الحرام؟ أم كيف أنور صلاتهم، وقلوبهم صياغة إلى من يحاربني ويحادني وينتهك محارمي؟ أم كيف تزكو عندي صدقاتهم، وهم يتصدقون بأموال غيرهم؟ إنما آجر عليها أهلها المغصوبين. أم كيف أستجيب دعاءهم؟ وإنما هو قول بألسنتهم، والفعل من ذلك بعيد، إلى أن قال: وإني قد قضيت يوم خلقت السماوات والأرض، أن أجعل النبوة في الأجراء، وأن أجعل الملك في الرعاء، والعز في الأذلاء، والقوة في الضعفاء والغنى في الفقراء، والعلم في الجهلة، والحلم في الأميين، فسلهم متى هذا؟ ومن القائم بها من أعوان هذا الأمر وأنصاره إن كانوا يعلمون؟ فإني باعث نبياً أمياً ليس أعجمياً من عميان ضالين، ليس بفظ ولا غليظ، ولا صخاب في الأسواق، ولا متزين بالفحش، ولا قوال للخنا، أسدده لكل جميل، واهب له كل خلق كريم اجعل السكينة لباسه، والبر شعاره، والتقوى ضميره، والحكمة مقوله، والصدق والوفاء طبيعته، والعفو والمعروف خلقه، والعدل سيرته، والحق شريعته، والهدى إمامه، والإسلام ملته، واحمد اسمه، أهدي به بعد الضلالة، وأعلم به بعد الجهالة وأرفع به بعد الخمالة وأشهر به بعد النكرة، وأكثر به بعد القلة، وأغني به بعد العيلة، أجمع به بعد الفرقة، وأؤلف به بين قلوب مختلفة، وأهواء مشتتة، وأمم متفرقة، وأجعل أمته خير أمة أخرجت للناس، يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، توحيداً لي، وإيماناً بي، وإخلاصاً لي، يصلون لي قياماً وقعدواً، وركعاً وسجوداً، يقاتلون في سبيلي صفوفاً وزحوفاً، ويخرجون من ديارهم وأموالهم ابتغاء رضواني، ألهمهم التكبير والتوحيد، والتسبيح والتحميد، والمدحة لي والتمجيد لي، في مسيرهم ومجالسهم ومضاجعهم ومتقلبهم ومثواهم، قربانهم دماؤهم، وأنا جيلهم في صدورهم، رهبان بالليل، ليوث بالنهار، ذلك فضلي أوتيه من أشاء، والله ذو الفضل العظيم. فلما فرغ شعيا من مقالته، عدوا عليه ليقتلوه، فهرب منهم فلقيته شجرة فانفلقت له فدخل فيها، فوضعوا المنشار في وسطها فنشروها حتى قطعوها وقطعوه في وسطها، واستخلف الله عليهم ملكاً يقال له ناشئة بن أموص، وبعث لهم أرميا بن حلقيا نبياً، ثم عظمت الأحداث وارتكاب المعاصي، فأوحى الله إلى أرميا، أن ائت قومك من بني إسرائيل، فاقصص عليهم ما آمرك به، إلى أن قال: وإني حلفت بعزتي لأقيضن لهم فتنة يتحير فيها الحليم، ولأسلطن عليهم جباراً قاسياً، البسه الهيبة، وأنزع من صدره الرحمة، فسلط الله عليهم بختنصر، فخرج في ستمائة الف راية، ودخل بيت المقدس بجنوده، وقتل بني إسرائيل حتى أفناهم، وخرب بيت المقدس، وكان من أجل البيوت، ابتناه الله لسليمان بن داود عليهما السلام، سخر له الجن فأتوه بالذهب والفضة والمعادن، وأتوه بالجوهر والياقوت والزمرد، وبنوه بهذه الأصناف، فاحتمل تلك المعادن والأموال، على سبعين ألفاً ومائة الف عجلة، فأودعها ببابل، وأقاموا يستخدمون بني إسرائيل بالخزي والنكال مائة عام، إلى أن قال فذلك قوله تعالى:﴿ فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَاداً لَّنَآ أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ ﴾[الإسراء: ٥] يعني بختنصر وأصحابه، ثم إن بختنصر، قام في سلطانه ما شاء الله، ثم رأى رؤيا عجيبة، إذ رأى شيئاً أصابه فأنساه الذي رأى، فدعا دانيال وحنانيا وعزازيا وميشايل، وكانوا من ذراري الأنبياء، وسألهم عنها فقالوا: أخبرنا بها نخبرك بتأويلها قال: ما أذكرها، ولئن لم تخبروني بها وبتأويلها لأنزعن أكنافكم، فخرجوا من عنده فدعوا الله فأعلمهم بالذي سألهم، فجاؤوا فقالوا: رأيت تمثالاً قدماه وساقاه من فخار، وركبتاه وفخذاه من نحاس، وبطنه من فضة، وصدره من ذهب، ورأسه وعنقه من حديد، قال: صدقتم، قالوا: فبينما أنت تنظر إليه قد أعجبك، أرسل الله عليه صخرة فدقته، فهي التي أنستكها، قال: صدقتم فما تأويلها؟ قالوا: إنك أريت ملك الملوك، بعضهم كان ألين ملكاً، وبعضهم كان أحسن من ذلك، والذهب أحسن من الفضة، ثم فوقه النحاس أشد منه، ثم فوق النحاس الفضة أحسن من ذلك، والذهب أحسن من الفضة، ثم الحديد ملكك فهو أشد مما كان قبله، والصخرة التي رأيت، أرسل الله من السماء فدقته نبي يبعثه الله فيدق ذلك أجمع، ويصير الأمر إليه، فلما تجبر بختنصر على أهل الأرض، ظن أنه بحوله وقوته، فقال لأصحابه: قد ملكت الأرض فأخبروني كيف لي أن أطلع إلى السماء العليا، فأقتل من فيها وأتخذها ملكاً، فبعث الله عز وجل إليه بعوضة، فدخلت في منخره، حتى عضت على أم دماغه، فما كان يقر ولا يسكن حتى مات، فلما مات، شقوا رأسه فوجدوا البعوضة عاضة على أم دماغه، وارتحل من بقي من بني إسرائيل إلى الشام، وكثروا حتى كانوا على أحسن ما كانوا عليه، وكانت التوراة قد حرقت، وكان عزير من السبايا الذين كانوا ببابل، فلما رجع إلى الشام، جعل يبكي ليله ونهاره، وخرج عن الناس، فبينما هو كذلك، إذ جاءه ملك على صورة رجل فقال له: يا عزير ما يبكيك؟ قال: أبكي على كتاب الله وعهده الي لا يصلح ديننا وآخرتنا غيره، قال: أفتحب أن يرد إليك؟ ارجع فصم وتطهر وطهر ثيابك، ثم موعدك هذا المكان غداً ففعل، فأتى ذلك الرجل بإناء فيه ماء فسقاه من ذلك الماء، فمثلت التوراة في صدره، فرجع إلى بني إسرائيل، فأملاها لهم وعادت كما كانت، ورجعت بنو إسرائيل لكثرة الأحداث والمعاصي، يكذبون الأنبياء ويقتلونهم، وكان آخر من بعث إليهم: زكريا ويحيى وعيسى، فقتلوا زكريا ويحيى، وقصدوا إلى قتل عيسى، فرفعه الله، والسبب في قتل يحيى: أن ملك بني إسرائيل، كان يكرمه ويدني مجلسه، وأن الملك هوى بنت امرأته، وقيل بنت أخيه، فسأل يحيى تزويجها، فنهاه عن نكاحها، فبلغ ذلك أمها، فحقدت على يحيى، وعمدت حين جلس الملك من شرابه، فألبستها ثياباً رقاقاً حمراً، وطيبتها وألبستها الحلي، وأرسلتها إلى الملك، وأمرتها أن تسقيه، فإن هو راودها عن نفسها، أبت عليه حتى يعطيها ما تسأله، فسألته أن يأتيها برأس يحيى في طست ففعل. وفي الحديث: لا خير في الدنيا، فإن يحيى بن زكريا قتلته امرأة، فسلط الله عليهم ملكاً من ملوك بابل يقال له خردوش، فسار إليهم بأهل بابل، فدخل عليهم الشام، فلما ظهر عليهم، أمر رأساً من رؤساء جنوده يقال له بيروزاذن، فدخل بيت المقدس، فقام في البقعة التي كانوا يقربون فيها قربانهم، فوجد فيها دماً يغلي، فسألهم عنه فقال: يا بني إسرائيل، ما شأن هذا الدم يغلي؟ أخبروني خبره، فقالوا: هذا دم قربان لنا قربناه فلم يقبل منا فلذلك يغلي، فقال: ما صدقتموني، وقتل منهم سبعمائة وسبعين روحاً، فلم يهدأ الدم، فأمر بسبعمائة غلام من غلمانهم، فذبحهم على الدم، فلم يهدأ، فقال لهم: يا بني إسرائيل، ويلكم اصدقوني قبل أن لا أترك منكم نافخ نار، من ذكر أو أنثى إلا قتلته، فأخبروه أنه دم يحيى بن زكريا، قال: الآن صدقتموني لمثل هذا ينتقم منكم ربكم، وآمن بالتوراة وقال لمن حوله: أغلقوا أبواب المدينة، وأخرجوا من كان هنا من جيش خردوش، ثم قال: يا يحيى بن زكريا، قد علم ربي وربك ما أصاب قومك من أجلك وما قتل منهم، فأهدأ بإذن ربك، قبل أن لا أبقي من قومك أحداً، فهدأ الدم بإذن الله، ورفع القتل عن بني إسرائيل وقال لهم: إن خردوش أمرني أن أقتل منكم حتى تسيل دماؤكم وسط عسكري، وإني لا أستطيع أن أعصيه، فأمرهم فحفروا خندقاً، وأتوا بالخيل والبغال والحمير والإبل والبقر والغنم، فأمر بذبحها حتى سال الدم في العسكر، وأمر بالقتلى الذين قتلوا قبل ذلك، فطرحوا على ما قتل من المواشي، فلم يظن خردوش، إلا أن ما في الخندق من دماء بني إسرائيل، فاكتفى بذلك وأمر برفع القتل، وهذه هي الواقعة الأخيرة التي أنزل الله فيها ﴿ فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ ٱلآخِرَةِ لِيَسُوءُواْ وُجُوهَكُمْ ﴾ الخ. ثم انتقل الملك بالشام ونواحيها، إلى الروم واليونانيين، إلا أن بدلوا وأحدثوا، فسلط الله عليهم ططوس بن اسبيانوش الرومي، فخرب بلادهم وطردهم عنها، ونزع الله منهم الملك والرياسة، وضرب عليهم الذلة، فليسوا في أمة إلا وعليهم الصغار والجزية، وبقي بيت المقدس خراباً، إلى خلافة عمر بن الخطاب، فعمره المسلمون بأمره اهـ.
قوله: ﴿ إِنَّ هَـٰذَا ٱلْقُرْآنَ ﴾ أي الذي أنزل على محمد. قوله: ﴿ يَِهْدِي ﴾ أي يرشد ويوصل. قوله: ﴿ لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ ﴾ أي فمن تمسك به نجا، ومن حاد عنه هلك ففي الحديث" إني تارك فيكم ثقلين، ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا أبداً، كتاب الله وعترتي "قوله: ﴿ أَجْراً كَبِيراً ﴾ أي لا يعلم قدره غيره تعالى، وهذا الأجر ثابت لمن عمل الصالحات، وإن لم يكن حافظاً لألفاظ القرآن، بل المدار على امتثال الأوامر واجتناب النواهي. قوله: ﴿ وَ ﴾ (يخبر) أشار بذلك إلى أن قوله: ﴿ وأَنَّ ٱلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ ﴾ الخ، معطوف على ﴿ وَيُبَشِّرُ ﴾ فهو غير داخل في حيز البشارة. قوله: (أعددنا) أي هيأنا وأحضرنا.
قوله: ﴿ وَيَدْعُ ٱلإِنْسَانُ ﴾ حذفت الواو لالتقاء الساكنين، وحذفت من الخط، تبعاً لحذفها من اللفظ. قوله: (إذا ضجر) أي أصابه شدة الغم والغيظ. قوله: (أي كدعائه) أشار بذلك إلى أن الكلام على التشبيه، والمعنى أن الإنسان إذا أصابه الغم، يدعو على نفسه وأهله بالشر، كما يدعو لهم بالخير، إذا كان منبسطاً راضياً، وتقدم في قوله تعالى﴿ وَلَوْ يُعَجِّلُ ٱللَّهُ لِلنَّاسِ ٱلشَّرَّ ٱسْتِعْجَالَهُمْ بِٱلْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ ﴾[يونس: ١١] الآية، إن الله يستجيب الدعاء بالخير، ولا يستجيب الدعاء بالشر. قوله: ﴿ عَجُولاً ﴾ أي لا يتأمل في عاقبة ما يريد فعله، بل يقدم على فعل كل ما خطر بباله، فإذا كان كذلك، فينبغي للإنسان التأني في الأمور، وتفويضها إلى الله تعالى، ليحصل له الراحة في الدنيا، والسعادة في العقبى، ولا يتعجل في الأمور، بحيث يسارع إلى الانتقام ممن ظلمه، والدعاء على من أساء إليه، بل الواجب، إما التفويض أو الدعاء للظالم بالهداية والتوفيق للخير. قوله: ﴿ وَجَعَلْنَا ٱلَّيلَ وَٱلنَّهَارَ آيَتَيْنِ ﴾ أي علامتين على عظيم قدرتنا وباهر حكمتنا، حيث جعلناهما على منوال واحد، ينقص هذا ويزيد هذا. قوله: ﴿ فَمَحَوْنَآ آيَةَ ٱلَّيلِ ﴾ أي خلقناه على هذه الحالة، وليس المراد أنه كان مضيئاً ثم محي ضوؤه، وفي الحقيقة في الكلام حكمتان، الأولى: حكمة خلق الليل والنهار من حيث ذاتهما، وهي الدلالة على باهر قدرة صانعهما. الثانية: حكمة كون الليل خلق مظلماً، والنهار خلق مضيئاً، وهي لتسكنوا في الليل، ولتبتغوا من فضله في النهار. قوله: (لتسكنوا فيه) قدره أخذاً له من مقابله، وهو قوله في جانب النهار لتبتغوا، الخ. قوله: (والإضافة للبيان) أي آية هي الليل، وكذا يقال في آية النهار. قوله: (أي مبصراً فيها) هو بفتح الصاد، وأشار بذلك إلى أن الكلام فيه الحذف، والإيصال حذف الجار فاتصل الضمير، فيكون فيه مجاز عقلي، من إسناد الحدث إلى زمانه. قوله: ﴿ لِتَبْتَغُواْ ﴾ أي تطلبوا. قوله: ﴿ وَلِتَعْلَمُواْ ﴾ (بهما) أي فهو متعلق بكل من محونا وجعلنا، لأن علم عدد السنين والحساب، بمرور الليل والنهار جميعاً. قوله: ﴿ وَٱلْحِسَابَ ﴾ هو معطوف على ﴿ عَدَدَ ﴾ ولا يقال هو تكرار، لأنه يقال: إن العدد موضوع الحساب. قوله: ﴿ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ ﴾ الأحسن أنه من باب الاشتغال، فكل منصوب بفعل محذوف يفسره. قوله: ﴿ فَصَّلْنَاهُ ﴾ وكذا يقال في قوله:﴿ وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ ﴾[الإسراء: ١٣].
قوله: (للأوقات) أي كآجال الديون، وأوقات الصلاة، والحج والصوم والزكاة، وغير ذلك من أمور الدين والدنيا. قوله: ﴿ تَفْصِيلاً ﴾ مصدر مؤكد لعامله، إشارة إلى أن الله لم يترك شيئاً من أمور الدين والدنيا، إلا بينه نظير قوله تعالى:﴿ مَّا فَرَّطْنَا فِي ٱلكِتَٰبِ ﴾[الأنعام: ٣٨].
قوله: ﴿ وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَآئِرَهُ ﴾ فسر المفسر الطائر بالعمل، وفسره غيره بالكتاب، وإليه يشير بقول مجاهد: وسمي العمل طائراً، إما لأن العرب إذا أرادوا فعل أمر، نظروا إلى الطير إذا طار، فإن طار متيامناً، قدموا على ذلك الأمر، وعرفوا أنه خير، وإن طار متياسراً، تأخروا وعرفوا أنه شر، فلما كثر ذلك منهم، سموا نفس الخير والشر بالطائر، تسمية للشيء باسم لازمه. قوله: (خص بالذكر لأن اللزوم فيه أشد) أي ولأن العنق إما محل الزينة كالقلادة ونحوها، أو للشين كالأغلال ونحوها، فإن كان عمله خيراً، كان كالقلادة في عنقه، وهو مما يزينه، وإن كان شراً، كان كالغل في عنقه، وهو ما يشينه. قوله: (مكتوب فيها شقي أو سعيد) خص مجاهد السعادة والشقاوة، وإن كان الرزق والأجل فيقضيان بموته. قوله: ﴿ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ كِتَاباً ﴾ قال الحسن: بسطت لك صحيفة، ووكل بك ملكان، أحدهما عن يمينك، والآخر عن شمالك، فأما الذي عن يمينك فيحفظ حسناتك، وأما الذي عن يسارك فيحفظ عليك سيئاتك، حتى إذا مت، طويت صحيفتك وجعلت معك في قبرك، حتى تخرج لك يوم القيامة. قوله: ﴿ ٱقْرَأْ كِتَٰبَكَ ﴾ روي أن الإنسان يقرأ كتابه، وإن لم يكن قارئاً في الدنيا. قوله: ﴿ كَفَىٰ بِنَفْسِكَ ﴾ الباء زائدة في فاعل كفى، و ﴿ حَسِيباً ﴾ تمييز، و ﴿ عَلَيْكَ ﴾ متعلق به، ، وحسيباً بمعنى حاسب أو كاف أو محاسب كما قال المفسر، والمعنى أنه يكتفي بمحاسبة الشخص لنفسه، فلا يحتاج لأحد يحاسبه، بل إذا أنكر، تشهد عليه أعضاؤه بما علمت، ثم ما مشى عليه المفسر، من أن المراد بالطائر، العمل يكتب ويوضع في عنقه وهو في بطن أمه، فيلزمه ما دام في الدنيا، فإذا كان يوم القيامة، يخرج له كتاباً من خزانة تحت العرش، وهو الصحيفة التي كانت الملائكة تكتبها عليه في الدينا، فيأخذها إما بيمينه إن كان مسلماً، أو بشماله إن كان كافراً، فيقابله على ما في عنقه، هو أحد تفسيرين في الآية، والآخر أن الكتاب واحد، تكتبه الملائكة عليه ما دام في الدنيا، فإذا مات طوي ووضع تحت العرش، فإذا كان يوم القيامة، أخرج من تلك الخزانة وألزمه في عنقه، فيكون معنى ألزمناه طائره في عنقه، أي في يوم القيامة عند تطاير الصحف، ويكون عطف قوله: ﴿ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ ﴾ على ما قبله من عطف السبب على المسبب.
قوله: ﴿ فَإِنَّمَا يَهْتَدي لِنَفْسِهِ ﴾ أي فإنما تعود منفعة اهتدائه إلى نفسه لا تتعداه إلى غيره. قوله: ﴿ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا ﴾ أي فإنما وبال ضلاله على نفسه، لا على من عداه ممن لم يباشر، وهذا تحقيق معنى قوله تعالى:﴿ وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَآئِرَهُ فِي عُنُقِهِ ﴾[الإسراء: ١٣].
قوله: ﴿ وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ ﴾ أي لا تحمل نفس مذنبة، بل ولا غير مذنبة، ذنوب نفس أخرى. إن قلت: ورد في الحديث" من سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة "فمقتضاه أنه يحمل وزره فيكون منافياً لهذه الآية. أجيب: بأن المراد بالوزر الذي يحمله في الحديث وزر التسبب، ولا شك أن التسبب من فعل الشخص، ومع ذلك فلا ينقص من وزر الفاعل شيء، فالمتسبب الفاعل يعاقب على فعله وتسببه، والفاعل بدون تسبب يعاقب على فعله فقط. قوله: ﴿ وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ ﴾ أي ولا مثيبين على الأعمال، لأن شرط صحة العبادات ووجوبها بلوغ الدعوة، فمن لم تبلغه الدعوة، لا تجب عليه عبادة، ولا تصح منه، لو فعلها فلا يثاب عليها، وعموم هذه الآية، يدل على أن أهل الفترة جميعاً ناجون بفضل الله، ولو غيروا وبدلوا، وما ورد من تخصيص بعض أفراد، كحاتم الطائي وامرىء القيس بدخولهم النار، فهي أحاديث آحاد لا تعارض الققطعي. قوله: ﴿ مُتْرَفِيهَا ﴾ الترفه بالضم النعمة والطعام الطيب والشيء الظريف. قوله: (منعميها) أي المنهمكين في شهواتها، الغافلين عن الآخرة. قوله: (بالطاعة) متعلق بأمرنا. قوله: (بإهلاك أهلها) أشار بذلك إلى أن الكلام على حذف مضاف، أي دمرنا أهلها. قوله: ﴿ وَكَمْ أَهْلَكْنَا ﴾ كم خبرية منصوبة بأهلكنا، و ﴿ مِنَ ٱلْقُرُونِ ﴾ تمييز لكم. قوله: ﴿ مِن بَعْدِ نُوحٍ ﴾ خص بالذكر لأنه أول من كذبه قومه. قوله: ﴿ وَكَفَىٰ بِرَبِّكَ ﴾ الباء زائدة في الفاعل، و ﴿ خَبِيرَاً بَصِيراً ﴾ يمييزان، و ﴿ بِذُنُوبِ ﴾ متعلق بخبيراً بصيراً، وقوله: (عالماً ببواطنها وظواهرها) لف ونشر مرتب، فالعلم بالبواطن هو معنى الخبير، وبالظواهر هو معنى البصير. قوله: (وبه يتعلق بذنوب) هكذا في النسخ التي بأيدينا، ولعل فيه تحريفاً، والأصل بذنوب متعلق بخبيراً بصيراً. قوله: ﴿ مَّن كَانَ يُرِيدُ ٱلْعَاجِلَةَ ﴾ أي من كان حظه الدنيا، فهو صادق بالكافر والمنافق، ويدخل في ذلك المراؤون بأعمالهم، إذ لولا المدحة والثناء عليهم ما فعلوا الطاعات. قوله: ﴿ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَآءُ لِمَن نُّرِيدُ ﴾ أي أعطينا لمن نريد في الدنيا الذي نشاؤه، من سعة رزق وعافية وغير ذلك، والمعنى لا نزيده على ما قدر له أزلاً، بل ما يعطى إلا ما سبق في عمله تعالى أنه يعطاه، فمحبته في الدنيا لم تزده شيئاً منها، فينبغي الإخلاص في العبادة والتوجه لله تعالى والإقبال عليه، ليخطى بسعادة الدارين. قوله: (بدل من له) أي إن قوله: ﴿ لِمَن نُّرِيدُ ﴾ بدل من قوله: ﴿ لَهُ ﴾ بدل بعض من كل بإعادة اللام، وقوله: ﴿ عَجَّلْنَا ﴾ جواب الشرط وهو ﴿ مَّن ﴾ و ﴿ كَانَ ﴾ فعله و ﴿ يُرِيدُ ﴾ خبر ﴿ كَانَ ﴾ واسمها ضمير مستتر. قوله: ﴿ ثُمَّ جَعَلْنَا ﴾ أتى بثم إشارة إلى أن دخول النار متأخر. قوله: (ملوماً) أي أن الخلق في القيامة يلومونه على ما حصل منه في الدنيا. قوله: ﴿ مَّدْحُوراً ﴾ من دحر يدحر من باب خضع، فهو مدحور، بمعنى أن الله طرده وأبعده عن جنته.
قوله: ﴿ وَمَنْ أَرَادَ ٱلآخِرَةَ ﴾ أي من كان حظه ونيته ومنتهى آماله الدار الآخرة، بأن لم يجعل الدنيا قراراً له ولا وطناً، بل جعلها سفينة موصلة لمقصوده. قوله: ﴿ سَعْيَهَا ﴾ إما مفعول به أو مفعول مطلق، والمعنى كما قال المفسر، عمل عملها الذي يليق بها؛ كأعمال البر والطاعات واجتناب المنهيات. قوله: (حال) أي من ضمير ﴿ وَسَعَىٰ ﴾.
قوله: ﴿ فَأُولَئِكَ ﴾ جواب الشرط، وفيه مراعاة معنى من وفيما قبله مراعاة لفظها، وهو إشارة إلى أن من جمع ثلاث خصال، فهو من أهل الجنة: الإيمان والعمل الصالح والاخلاص، ولذا قال بعضهم: من لم تكن معه ثلاث لم ينفعه علمه: إمان ثابت، ونية صادقة، وعلم مصيب، وتلا هذه الآية، وهذا هو كما الإيمان. قوله: (مثابا عليه) أي فشكر الله لعباده قبولهم وإثابتهم على أعمالهم. قوله: (كلاً) مفعول لنمد. قوله: (من الفريقين) أي مريد الدنيا ومريد الآخرة. قوله: (بدل) أي من ﴿ كُلاًّ ﴾ بدل من كل كأنه قال: ﴿ نُّمِدُّ هَـٰؤُلاۤءِ وَهَـٰؤُلاۤءِ ﴾ الأول للفريق الأول، والثاني للفريق الثاني، فهو لف ونشر مرتب. قوله: (في الدنيا) أي كسعة الرزق والجاه والعافية وغير ذلك. قوله: (ممنوعاً عن أحد) أي مؤمن أو كافر. وأما في الآخرة، فعطاؤه ممنوع عن الكافر، وهو مختص بالمؤمن. قوله: ﴿ كَيْفَ ﴾ منصوب على الحال من ﴿ فَضَّلْنَا ﴾ كأنه قال: انظر تفضيلنا بعضهم على بعض كائناً على أي حالة. قوله: (من الدنيا) أي من درجاتها، لأن فضل الآخرة عظيم لا ينقطع، بل هو دائم لا يفنى. قوله: (فينبغي الاعتناء بها) أي بالآخرة، وقوله: (دونها) أي الدنيا. قوله: ﴿ لاَّ تَجْعَل مَعَ ٱللَّهِ إِلَـٰهاً آخَرَ ﴾ الخطاب إما للنبي والمراد غيره، أو لكل مكلف، وهو الأولى، والمعنى لا تشرك أيها المكلف غير الله مع الله، لا في ظاهرك ولا باطنك، بل خلص قلبك من التعلق بغيره والمحبة لسواه، ولا تجعل الغير في خيالك، فإنه نقص عن مراتب الأخيار، ولذا قال ابن الفارض: ولو خطرت لي في سواك إرادة على خاطري يوماً حكمت بردتيقوله: ﴿ فَتَقْعُدَ مَذْمُوماً مَّخْذُولاً ﴾ يصح أن تكون قعد بمعنى عجز، فمذموماً مخذولاً حالان، ويصح أن تكون بمعنى صار، فمذموماً مخذولاً خبران لها. قوله: (لا ناصر لك) تفسير لمخذولاً، وتقدم تفسيره مذموماً بملوماً، والمعنى ملوماً من الخلق، مخذولاً من الخلق، لم يجعل له ناصراً.
قوله: ﴿ وَقَضَىٰ رَبُّكَ ﴾ ذكر الله سبحانه وتعالى في هذه الآيات جملة من التكاليف، نحو خمسة وعشرين حكماً، بعضها أصلي، وبعضها فرعي، وابتدأ منها بالتوحيد بقوله:﴿ لاَّ تَجْعَل مَعَ ٱللَّهِ إِلَـٰهاً آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُوماً مَّخْذُولاً ﴾[الإسراء: ٢٢] وختم به بقوله:﴿ وَلاَ تَجْعَلْ مَعَ ٱللَّهِ إِلَـٰهاً آخَرَ فَتُلْقَىٰ فِي جَهَنَّمَ مَلُوماً مَّدْحُوراً ﴾[الإسراء: ٣٩] إشارة إلى أنه رأس الأمور وأساسها، وما عداه من الأحكام مبني عليه، ولما كان حق الوالدين آكد الحقوق، بعد حق الله ورسوله، ذكر بعد التوحيد وشدد فيه، دون بقية التكاليف، لأن أمر العقوق فظيع، وفيه الوعيد الشديد، ففي الحديث" قل لعاق والديه بفعل ما يشاء فإن مصيره إلى النار "قوله: (أمر) أي أمراً جازماً، وقيل إن قضى بمعنى أوصى، وقيل بمعنى حكم، وقيل بمعنى ألزم، وقيل بمعنى أوجب، وكل صحيح. قوله: ﴿ أَلاَّ تَعْبُدُوۤاْ إِلاَّ إِيَّاهُ ﴾ بأن لا تشركوا معه في العبادة غيره، فتمتثلوا أوامره وتجتنبوا نواهيه، ودخل في ذلك الاقرار لرسول الله بالرسالة، ومحبته وتعظيمه، لأن ذلك من حملة المأمور به، قال تعالى:﴿ قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ ٱللَّهَ فَٱتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ ٱللَّهُ ﴾[آل عمران: ٣١].
قوله: (أي بأن) أشار بذلك إلى أن أن مصدرية، ويكون الفعل منصوباً بحذف النون، ويصح أن أن مخففة من الثقيلة، واسمها ضمير الشأن، ولا ناهية، والفعل مجزوم بحذف النون، والواو فاعل على كل حال. قوله: ﴿ وَبِٱلْوَالِدَيْنِ ﴾ متعلق بمحذوف قدره المفسر بقوله: ﴿ وَ ﴾ (أن تحسنوا) والجملة معطوفة على جملة ﴿ أَلاَّ تَعْبُدُوۤاْ ﴾.
قوله: (بأن تبروهما) أي تطيعوا أمرهما في غير معصية الله. قوله: ﴿ إِمَّا يَبْلُغَنَّ ﴾ إن شرطية مدغمة في ما الزائدة، والفعل مبني على الفتح، لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة، في محل جزم، وأحدهما فاعل، وكلاهما معطوف عليه، وجواب الشرط هو ﴿ فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ ﴾ وما عطف عليه من بقية الخمسة التي كلف بها الإنسان في حق والديه. قوله: (وفي قراءة) أي وهي سبعية أيضاً، وعليها فالفعل مجزوم لحذف نون الرفع، والألف فاعل، والنون المشددة المكسورة للتوكيد والتقييد لحالة الكبر، خرج مخرج الغالب، لأن الولد غالباً إنما يتهاون بوالديه عند حصول الكبر لهما، وإلا فالولد مطلوب ببر والديه مطلقاً، كانا عنده أو لا. قوله: (بفتح الفاء) أي من غير تنوين، قوله: (وكسرها) أي منوناً وغير منون، فالتعميم راجع لقراءة الكسر، خلافاً لما يوهمه المفسر، فالقراءات السبعية ثلاث، وقرىء شذوذاً بالرفع مع التنوين وتركه، وبالفتح مع التنوين وسكون الفاء، فتكون الشواذ أربعاً، فجملة القراءات سبع هنا، وفي الأنبياء وفي الأحقاف ولغاتها أربعون لغة، ذكرها ابن عطية في تفسيره. قوله: (مصدر بمعنى تباً) بفتح التاء وضمها أي خسرانا، قوله: (وقبحاً) أي لا تقل لهما قبحاً لكما ولأفعالكما، والأوضح أن يقول اسم فعل المضارع، أي لا تقل لهما أنا اتضجر من شيء يصدر منكما. قوله: (وتزجرهما) أي عما لا يعجبك منهما بإغلاظ، بأن لا تأمرهما ولا تنهاهما، ولو كان ذلك الأمر غير مناسب، بل إذا أحب أن يأمرهما أو ينهاهما، فليكن على سبيل المشاورة باللطف والرفق. قوله: ﴿ وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيماً ﴾ أي حسناً، كأن يقول لهما: يا أبتاه يا أماه، ولا يسميهما.
قوله: ﴿ وَٱخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ ٱلذُّلِّ ﴾ في الكلام استعارة تبعية في الفعل، حيث شبهت إلانة الجانب بخفض الجناح، والجامع الرأفة في كل، واستعير اسم المشبه به للمشبه، وإضافة جناح للذل، من إضافة الموصوف للصفة، أي جانبك الذليل، وقد أشار لذلك كله المفسر. قوله: (أي لرقتك عليهما) أشار بذلك إلى أن ﴿ مِنَ ﴾ للتعليل، والمعنى من أجل الرحمة، لا خوفاً من العار مثلاً. قوله: ﴿ وَقُل رَّبِّ ٱرْحَمْهُمَا ﴾ أي ادع لهما بالرحمة، ولو في كل يوم وليلة خمس مرات، ولو كافرين إذا كانا حيين، لأن من الرحمة أن يهديهما للإِسلام. قوله: ﴿ كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً ﴾ الكاف للتعليل، أي من أجل أنهما رحماني حين ريباني صغيراً. روي" أن رجلاً قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إن أبوي بلغا مني في الكبر، أني ألي منهما ما وليا مني في الصغر، فهل قضيت حقهما؟ قال: لا، فإنهما كان يفعلان ذلك وهما يحبان بقاءك، وأنت تفعل ذلك وأنت تريد موتهما ". قوله: ﴿ رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ ﴾ هذا وعد ووعيد، والمعنى لا عبرة بادعاء البر باللسان، فإن الله عالم بالسرائر. قوله: (طائعين لله) أي في حق الوالدين. قوله: ﴿ فَإِنَّهُ كَانَ لِلأَوَّابِينَ ﴾ مرتب على محذوف، والتقدير وفعلتم معهما خلاف الأدب. قوله: (الرجاعين إلى طاعته) وقيل هم الذين يذكرون ذنوبهم في الخلاء ثم يستغفرون منها، وقيل غير ذلك، وفي الحقيقة الأواب هو التواب. قوله: (ما بادرة) البادرة الزلة تقع خطأ. قوله: (وهم لا يضمرون عقوقاً) الجملة حالية. قوله: ﴿ وَآتِ ذَا ٱلْقُرْبَىٰ ﴾ لما قدم حق الله وحق الوالدين، ذكر حق الأقارب وغيرهما، وحق المساكين وأبناء السبيل الأجانب، والخطاب في هذه الآيات، إما للنبي والمراد هو، امته، لأن الأصل عدم الخصوصية، أو للمكلف والأمر للوجوب عند أبي حنيفة، فعنده يجب على الموسر مواساة أقاربه المحارم، كالأخ والأخت، وللندب عند غيره، ومحل الخلاف في المواساة بالمال بأن ينفق عليهم، وأما صلتهم بمعنى عدم مقاطعتهم ومعاداتهم، فواجبه إجماعاً، كنفقة الأصول والفروع، والآية شاملة لذلك كله. قوله: (من البر) أي الإحسان بالمال، وقوله: (والصلة) أي مطلقاً فهو عطف عام على خاص. قوله: ﴿ وَٱلْمِسْكِينَ ﴾ المراد به ما يشمل الفقير، والمعنى وآت المسكين حقه من البر والإحسان على حسب الطاقة، فإن ذلك من أوصاف المتقين، قال تعالى:﴿ إِنَّ ٱلْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * آخِذِينَ مَآ آتَاهُمْ رَبُّهُمْ ﴾[الذاريات: ١٥-١٦] إلى أن قال﴿ وَفِيۤ أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لَّلسَّآئِلِ وَٱلْمَحْرُومِ ﴾[الذاريات: ١٩].
قوله: ﴿ وَٱبْنَ ٱلسَّبِيلِ ﴾ أي الغريب، وسمي بذلك لأنه ملازم للطريق فكأنه ابن لها. قوله: (في غير طاعة الله) أي كالمعاصي والشهوات المستغنى عنها، بأن يزيد في الإنفاق على المباح، وهذا مذموم إذا كان المال حلالاً أما إن كان كراماً، فلا يجوز له الإنفاق منه أصلاً، بل يجب عليه أن يرده لأربابه.
قوله: ﴿ إِنَّ ٱلْمُبَذِّرِينَ ﴾ إلخ، هذا غاية في الذم. قوله: ﴿ كَانُوۤاْ إِخْوَانَ ٱلشَّيَاطِينِ ﴾ أي ولم يزالوا كذلك، والمعنى أن المبذرين يشبهون الشياطين، في أن كلا منهما ضل في نفسه وأضل غيره، فالشياطين صرفوا همهم وقوتهم وما أنعم الله عليهم به من معاصي الله ولم يصلحوا، والمبذرون صرفوا أموالهم فيما يغضب الله تعالى وأفسدوا ولم يصلحوا. قوله: (أي على طريقتهم) أي مقتدين بهم وملازمين لأفعالهم، لأن الملازم للشيء يسمى أخاً له. قوله: (شديد الكفر لنعمه) أشار بذلك إلى أن الكلام على حذف مضاف، والتقدير وكان الشيطان لنعم ربه كفوراً. قوله: (فكذلك أخوه المبذر) أي فقد كفر نعم ربه، حيث صرفها في غير طاعة الله. قوله: ﴿ وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ ﴾ معطوف على محذوف تقديره: وآت ذا القربى حقه والمسكين وابن السبيل إن كان بيدك شيء وإما تعرضن الخ، والمعنى لا تقطع رجاء الفقير منك، بل إما أن تعطيه إن كان معك شيء، أو ترده بلطف، كما كان من خلقه صلى الله عليه وسلم، فكان إذا سئل أعطى أو وعد بالعطاء. قوله: (وما بعده) أي المسكين وابن السبيل. قوله: ﴿ ٱبْتِغَآءَ رَحْمَةٍ ﴾ مفعول لأجله، وهو علة مقدمة على المعلول، والمعنى: وإما تعرضن عنهم لأجل عسرك، فقل لهم قولاً ميسوراً، اعتماداً على الله وطلباً لرحمة من ربك ترجوها، وفي ذلك إشارة إلى أن الإنسان، لا ينبغي له قطع رجائه من الله بل يعتمد على الله دائماً في عسره ويسره، فإن الغنى هو وثوق القلب بالله، فلا يعتمد على سبب من الأسباب، بل يتوكل على الله، ولا يقطع رجاءه منه، ولا رجاء غيره فيه ثقة بربه. قوله: (بأن تعدهم) أي أو تدعو لهم بأن تقول: أغناكم الله، سهل لكم أسباب الخير، وغير ذلك. قوله: ﴿ وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَىٰ عُنُقِكَ ﴾ أي مضمومة ومجموعة معه في الغل، وهو بضم الغين المعجمة، طوق من حديد يجعل في العنق. قوله: (أي لا تمسكها عن الإنفاق) أي فهو نهي عن البخل على سبيل الكناية، لأن شأن من جعل يده مغلولة إلى عنقه، عدم القدرة على التصرف، وشأن البخيل عدم التصرف في المال بالانفاق وغيره. قوله: (كل المسك) المناسب الامساك لأن الفعل رباعي، وكأنه شاكل قوله: ﴿ ٱلْبَسْطِ ﴾.
قوله: ﴿ كُلَّ ٱلْبَسْطِ ﴾ أي بأن تنفق زيادة على ما يجب وما يندب. قوله: ﴿ فَتَقْعُدَ ﴾ أي تصير، فقوله: ﴿ مَلُوماً ﴾ خبر لتقعد، و ﴿ مَّحْسُوراً ﴾ معطوف عليه. قوله: (راجع للأول) أي البخيل. قوله: (منقطعاً لا شيء عندك) أي فهو من حسره السفر إذا أثر فيه، ويصح أن يكون من الحسرة بمعنى الندامة، أي نادماً على ما حصل منك. قوله: (راجع للثاني) أي وهو من بسط يده كل البسط، ولا تشكل هذه الآية، على ما ورد من فعل السلف، الذين خرجوا عن أموالهم في محبة الله ورسوله وصاروا فقراء، لأن النهي محمول على من كان يعقبه الندم والتحسر، وأما من فعل ذلك من السلف، وأقره عليه رسول الله، كأبي بكر وغيره، من الذين كانوا يؤثرون على أنفسهم، ومدحهم الله على ذلك، فلم يوجد منهم التحسر على فوات الدنيا لفنائهم عنها وبقائهم بالله، وخطاب تلك الآيات، إنما هو على حسب أخلاق العامة.
قوله: ﴿ إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ ٱلرِّزْقَ لِمَن يَشَآءُ ﴾ الخ، أي فانظر لما رزقك الله به، وأنفق على حسبه، وارض بما قسم الله لك، فوسع عند سعة الرزق وضيق عند ضيقه، وكن حيث أقامك الله. قوله: (ببواطنهم وظواهرهم) لف ونشر مرتب. قوله: ﴿ وَلاَ تَقْتُلُوۤاْ أَوْلادَكُمْ ﴾ سبب ذلك: أن بعض الجاهلية كانوا يقتلون البنات خوف الفقر، وبعضهم خوف العار، فحصل النهي عن ذلك، لما فيه من سوء الظن بالله وتخريب العالم، وكل منهما مذموم، وهو خطاب للموسرين بدليل قوله: ﴿ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ ﴾ ولذلك قدم الأولاد، وما تقدم في الأنعام خطاب للموسرين، ولذلك قدم ذكر الآباء، وأخر ذكر الأولاد. قوله: (بالوأد) أي الدفن بالحياة، وخص بالذكر وإن كان القتل بأن شيء حراماً، لأنه الذي كانوا يفعلونه في الجاهلية. قوله: ﴿ خِطْئاً كَبِيراً ﴾ إما بكسر الخاء وسكون الطاء بوزن حمل مصدر خطىء كعلم، وبفتحتين اسم مصدر لأخطأ رباعياً، أو بكسر الخاء وفتح الطاء ممدوداً مصدر لأخطأ كقاتل، ثلاث قراءات وكلها سبعية. قوله: ﴿ وَلاَ تَقْرَبُواْ ٱلزِّنَىٰ ﴾ هو بالقصر في القراءة الشائعة، وقرىء شذوذاً بالمد، وخرجت على وجهين: أحدهما أنه لغة في المقصور، والثاني أنه مصدر زانى كقاتل، لأنه يكون من اثنين. قوله: (أبلغ من لا تأتوه) أي لأنه يفيد النهي عن مقدماته، كاللمس والمباشرة والقبلة صريحاً، والنهي عن الفعل بالأولى. قوله: ﴿ وَسَآءَ سَبِيلاً ﴾ أي لأنه طريق من طرق النار، وخص الزنا بالنهي، وإن كان اللواط أشنع وأقبح، لأنه كان سارياً في العرب، بخلاف اللواط، فقد كان في قوم لوط وتنوسي، ثم ظهر في هذه الأمة، بعد قرن الصحابة والتابعين. قوله: ﴿ ٱلَّتِي حَرَّمَ ٱللَّهُ ﴾ أي حرم قتلها بأن عصمها منه، وهو المسلم أو الكافر الذي تحت ذمتنا. قوله: ﴿ إِلاَّ بِٱلحَقِّ ﴾ مستثنى من النهي، والمعنى لا تقتلوا النفس المعصومة، إلا بالقتل بالحق، وهو أحد ثلاث: كفر بعد إيمان، وزنا بعد إحصان، وقتل مؤمن معصوم عمداً كما في الحديث. قوله: ﴿ وَمَن قُتِلَ مَظْلُوماً ﴾ أي وهو المؤمن المعصوم. قوله: (تسليطاً على القاتل) أي فحيث ثبت القتل عمداً عدواناً، وجب على الحاكم الشرعي، أن يمكن ولي المقتول من القاتل، فيفعل فيه الحاكم ما يختاره الولي من القتل أو العفو أو الدية، ولا يجوز للولي التسلط على القاتل، من غير إذن الحاكم، لأن فيه فساداً وتخريباً. قوله: (غير قاتله) أي غير قاتل المقتول. قوله: (أو بغير ما قتل به) يستثنى منه من قتل بمحرم كلواط وسحر، فإنه لا يجوز القتل بذلك بل يقتل بالسيف. قوله: ﴿ إِنَّهُ كَانَ ﴾ أي الولي منصوراً أي من الله ومن الحاكم.
قوله: ﴿ وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ ٱلْيَتِيمِ إِلاَّ بِٱلَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ﴾ أي لا تقربوه بحال من الأحوال، إلا بالخصلة التي هي أحسن من جميع الخصال، وهي تنميته له، والأنفاق عليه منه بالمعروف. قوله: ﴿ حَتَّىٰ يَبْلُغَ أَشُدَّهُ ﴾ غاية لقوله: ﴿ إِلاَّ بِٱلَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ﴾ كأنه قال: فاقربوه بالتي هي أحسن، إلى أن يبلغ أشده أي رشده، فإذا بلغ أشده فادفعوا إليه المال، ولا تصرف لكم فيه بوجه، وأشد إما مفرد بمعنى القوة، أو جمع لا واحد له من لفظه، أو جمع شدة، أو شد بكسر الشين فيهما، أو شد بفتحها، وعلى كل فالمراد به القوة، بأن يبلغ عاقلاً رشيداً، وإن كان الأشد في الأصل بلوغ ثلاث وثلاثين سنة. قوله: (إن عاهدتم الله أو الناس) أي أو ما عاهدكم الله عليه من التكاليف. قوله: ﴿ كَانَ مَسْؤُولاً ﴾ (عنه) أي هل وفى به صاحبه أم لا، وقدر المفسر عنه إشارة إلى أن المسؤول صاحب العهد لا نفس العهد، إذ لا يتأتى سؤاله. قوله: ﴿ وَأَوْفُوا ٱلْكَيْلَ ﴾ خطاب للبائعين، قال بعضهم: يؤخذ من الآية، أن أجرة الكيال على البائع، لأنها من تمام التسليم، ما لم تشترط أو يجر عرف بأنها على المشترى. قوله: ﴿ بِٱلقِسْطَاسِ ﴾ بضم القاف وكسرها قراءتان سبعيتان، ورمي استعملته العرب في لغتهم، وأجرته مجرى كلامهم في الاعراب ونحوه فصار عربياً. قوله: ﴿ ذٰلِكَ ﴾ أي المذكور من قوله:﴿ لاَّ تَجْعَل مَعَ ٱللَّهِ إِلَـٰهاً آخَرَ ﴾[الإسراء: ٢٢] إلى هنا، والمعنى امتثال المأمورات، واجتناب المنهيات، خير في الدنيا وأحسن تأويلاً أي عاقبة في الآخرة، ويحتمل عود اسم الإشارة على خصوص إيفاء الكيل والميزان، فخيره في الدنيا لما فيه من إقبال المشتري على البائع، وفي الآخرة بحسن العاقبة. قوله: ﴿ وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ﴾ أي لا تقل رأيت ولم ترَ، وسمعت ولم تسمع، وعلمت ولم تعلم. قوله: ﴿ كُلُّ أُولـٰئِكَ ﴾ أي الحواس الثلاثة. قوله: ﴿ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً ﴾ أي في الآخرة، فلا يجوز للإنسان أن يتكلم في غيره بمجرد الظن، ومن ذلك الفتوى بغير علم، وشهادة الزور، وظن السوء بالناس، وغير ذلك قوله: ﴿ مَرَحاً ﴾ مصدر مرح كفرح وزنا. ومعنى؟ قوله: ﴿ إِنَّكَ لَن تَخْرِقَ ٱلأَرْضَ ﴾ أي بكبرك وفخرك، فلست أعلى من الأرض حتى تدرك حدودها وتبلغ منتهاها. قوله: (تثقبها) بالثاء المثلثة والنون. قوله: ﴿ طُولاً ﴾ تمييز محول عن الفاعل، أي ولن يبلغ طولك الجبال، وهذا تهكم على العبد المتكبر، كأن الله يقول له: شأن المتكبر أن يرى كل شيء أحقر منه، وأنت ترى كل شيء أعظم منك، لأنك بمشيك على الأرض لن تخرقها حتى تدركها، ولن يبلغ طولك الجبال حتى تكون أعلى منها، فلا يليق منك التكبر. قوله: ﴿ كُلُّ ذٰلِكَ ﴾ أي المذكور من الخمس والعشرين المذكورة في قوله تعالى﴿ لاَّ تَجْعَل مَعَ ٱللَّهِ إِلَـٰهاً آخَرَ ﴾[الإسراء: ٢٢] إلى قوله: ﴿ وَلاَ تَمْشِ فِي ٱلأَرْضِ مَرَحاً ﴾.
قوله: ﴿ كَانَ سَيِّئُهُ ﴾ بالتاء والهاء قراءتان سبعيتان، فعلى الأولى يكون المراد من قوله: ﴿ كُلُّ ذٰلِكَ ﴾ المنهيات وهي اثنتا عشرة خصلة، والتأنيث في ﴿ سَيِّئُهُ ﴾ باعتبار معنى ﴿ كُلُّ ﴾ وتذكير ﴿ مَكْرُوهاً ﴾ باعتبار لفظها، وعلى الثانية يكون المراد جميع ما تقدم من المأمورات والمنهيات، وقوله: ﴿ كَانَ سَيِّئُهُ ﴾ أي السيىء منه وهو المنهيات الاثنتا عشرة، ويكون في الآية اكتفاء، وكان حسنه محموداً.
قوله: ﴿ ذَلِكَ مِمَّآ أَوْحَىٰ ﴾ أي ما تقدم من المأمورات والمنهيات بعض ما أوحى إليك. قوله: ﴿ وَلاَ تَجْعَلْ مَعَ ٱللَّهِ إِلَـٰهاً آخَرَ ﴾ ختم به الأحكام كما ابتدأها، إشارة إلى أن التوحيد مبدأ الأمور ومنتهاها، وهو رأس الأشياء وأساسها، والأعمال بدونه باطلة لا تفيد شيئاً. قوله: ﴿ أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُم ﴾ لما أمر بالتوحيد ونهى عن الاشراك، اتبعه بذكر التقبيح والتشنيع على من ينسب له الولد، خصوصاً اخس الأولاد في زعمهم وهي البنات، فالاستفهام للتوبيخ والتقريع. قوله: (أخلصكم) بيان لمعنى الصفاء اللغوي، يقال: صفاه بمعنى خلصه، والمعنى اخصكم ربكم بالبنين الذين تدعون انهم اشرف الأولاد، وجعل لنفسه البنات اللاتي تدعون خستها عن الذكور، إن هذا الرأي شنيع من وجوه: اولها نسبة الولد من حيث هو لله، ثانيها نسبة الخسيس له، ثالثها الحكم على الملائكة الكرام بالأنوثة، مع أنهم عباد مكرمون، لا يوصفون بذكورة ولا بأنوثة، وكل ذلك موجب للخلود في النار. قوله: (بنات لنفسه) في بعض النسخ بإسقاط ألف بعد التاء وهي الصحيحة، لأن من المعلوم أن بنات جمع مؤنث سالم ينصب بالكسرة، وفي بعض النسخ بثبوتها. ولعلها من سهو الناسخ، أو مخرجة على لغة قليلة تنصبه بالفتحة. قوله: ﴿ قَوْلاً عَظِيماً ﴾ أي كبيراً لأن نسبة الولد إليه تستلزم حدوثه، وهو محال في حقه تعالى. قوله: ﴿ وَلَقَدْ صَرَّفْنَا ﴾ أي أظهرنا ووضحنا. قوله: (من الأمثال) الخ، بيان للمفعول، و ﴿ مِنَ ﴾ زائدة، والمعنى بينا في هذا القرآن الأمثال والوعد والوعيد. قوله: ﴿ إِلاَّ نُفُوراً ﴾ أي إعراضاً واستكباراً عن الهدى، قال البوصيري: عجباً للكفار زادوا ضلالاً بالذي فيه للعقول ابتداءقوله: ﴿ قُلْ ﴾ (لهم) أي في الاستدلال على إبطال التعدد، وإثبات الوحدانية له تعالى. قوله: وَ ﴿ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ ﴾ هذا إشارة إلى قياس استثنائي، يستثنى فيه نقيض التالي لينتج نقيض المقدم، وقد حذف منه الاستثنائية والنتيجة والأصل، لكنهم لم يطلبوا طريقاً لقتاله، فلم يكن معه آلهة، والمعنى لو فرض أن له شريكاً في الملك، لنازعه وقاتله واستعلى عليه، لكنه لم يوجد من هو بهذه المثابة، فبطل التعدد، وثبتت الوحدانية والكبرياء له سبحانه وتعالى. قوله: (ليقاتلوه) أي على عادة ملوك الدنيا عند تعددهم.
قوله: ﴿ وَتَعَالَىٰ ﴾ عطف على ما تضمنه قوله سبحانه كأنه قال تنزه وتعالى. قوله: ﴿ تُسَبِّحُ لَهُ ٱلسَّمَٰوَٰتُ ٱلسَّبْعُ ﴾ الخ، القصد من ذلك التوبيخ والتقريع على من أثبت لله شريكاً، والمعنى كيف يشركون مع الله غيره، وكل شيء ينزهه عن كل نقص. قوله: ﴿ وَٱلأَرْضُ ﴾ أفردها مع أنها سبع كالسماوات، لكون جنسها واحداً وهو التراب. قوله: (من المخلوقات) أي الإنس والجن والملك وسائر الحيوانات والجمادات. قوله: (أي يقول سبحان الله وبحمده) أي اعتقد تنزيه الله وأصفه بحمده، أي بكل كمال. قوله: ﴿ وَلَـٰكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ ﴾ هذا يقتضي أن تسبيح الجمادات والحيوانات غير العاقلة بلسان المقال، وهو الذي اختاره جمهور السلف، وذهب الأقل إلى أنه بلسان الحال، بمعنى أنها تدل تلك المخلوقات، على أن لها صانعاً متصفاً بالكمالات، منزهاً عن النقائص، فكان ذلك تسبيحاً لها، قال العارف: وفي كل شيء له آية تدل على أنه الواحدقوله: (حيث لم يعاجلهم العقوبة) أي مع غفلتكم، وعدم تدبركم في آياته، ونظركم في مصنوعاته قوله: ﴿ وَإِذَا قَرَأْتَ ٱلْقُرآنَ ﴾ خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم حين أراد الكفار قتله على حين غفلة، وأل في القرآن، إما للجنس الصادق بأي آية وهو الحق، لما في الحديث" خذ من القرآن ما شئت لما شئت "وكون القرآن حجاباً ساتراً، ليس من خصوصياته صلى الله عليه وسلم، بل له ولأمته المؤمنين به المخلصين، كما هو مشاهد ومجرب بين العارفين، وأدلة السنة في ذلك أشهر من أن تذكر، أو للعهد، والمراد ثلاث آيات مشهورات من النحل والكهف والجاثية، وهي قوله تعالى في سورة النحل﴿ أُولَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ طَبَعَ ٱللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ ﴾[النحل: ١٠٨].
وفي سورة الكهف﴿ إِنَّا جَعَلْنَا عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ ﴾[الكهف: ٥٧].
وفي الجاثية﴿ أَفَرَأَيْتَ مَنِ ٱتَّخَذَ إِلَـٰهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ ٱللَّهُ عَلَىٰ عِلْمٍ ﴾[الجاثية: ٢٣] الآية، وزاد العلماء أول سورة يس إلى قوله﴿ فَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ ﴾[يس: ٩] لما ورد أنه قرأها حين اجتمعوا على بابه لإرادة قتله، وأن الله له في الهجرة، فأخذ حفنة من تراب في يده، وخرج وهو يتلو يس إلى قوله﴿ فَأغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ ﴾[يس: ٩] وجعل ينثر التراب على رؤوسهم، ثم انصرف، فلم يره أحد منهم، بل أخذ الله أبصارهم. قوله: ﴿ وَبَيْنَ ٱلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِٱلآخِرَةِ ﴾ أي وهم المنكرون للبعث. قوله: (أي ساتراً) أشار بذلك إلى أن اسم المفعول بمعنى اسم الفاعل. قوله: (فيمن أراد الفتك به) أي كأبي جهل، وأم جميل زوجة أبي لهب، ويهود خيبر، ويهود المدينة، والمتفقين، والفتك بتثليث الفاء هو القتل على غفلة. قوله: (أغطية) أي حجباً معنوية تمنعهم من إدراكه. قوله: (فلا يسمعونه) أي إما أصلاً كما وقع لبعض الكفار، حيث كان النبي يقرأ القرآن وهم لا يسمعونه، أو المنفي سماع التدبر والاتعاظ، وهو موجود في جميع الكفار والمنافقين.
قوله: ﴿ وَحْدَهُ ﴾ حال من قوله: ﴿ رَبَّكَ ﴾ بمعنى منفرداً في الألوهية. قوله: ﴿ وَلَّوْاْ عَلَىٰ أَدْبَٰرِهِمْ نُفُوراً ﴾ أي أعرضوا ولم يؤمنوا. قوله: ﴿ نَّحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ ﴾ المقصود من هذه الآية، تسلية النبي صلى الله عليه وسلم عما وقع من المشركين وتهديد لهم، حيث كانوا يجلسون عند النبي مظهرين الاستماع، وفي الواقع قاصدين الاستهزاء قوله: (من الهزء) بيان لما. قوله: ﴿ إِذْ يَسْتَمِعُونَ ﴾ ظرف لأعلم، وكذا قوله: ﴿ وَإِذْ هُمْ نَجْوَىٰ ﴾ والمعنى نحن أعلم بالذي يستمعون بسببه، وقت استماعهم إليك ووقت تناجيهم. قوله: ﴿ نَجْوَىٰ ﴾ إما مصدر أو جمع نجي. قوله: (بدل من إذ قبله) أي وهو قوله: ﴿ وَإِذْ هُمْ نَجْوَىٰ ﴾ قوله: ﴿ يَقُولُ ٱلظَّالِمُونَ ﴾ أي لبعضهم، أو لمن كان قريباً منهم في المجلس من المؤمنين. قوله: ﴿ كَيْفَ ضَرَبُواْ لَكَ ٱلأَمْثَالَ ﴾ أي حيث شبهوك بالأوصاف الناقصة، كالمسحور والشاعر والكاهن. قوله: ﴿ فَضَلُّواْ ﴾ (بذلك عن الهدى) أي لأن الهدى تابع للتسليم، وحسن العقيدة، وهؤلاء بريئون من ذلك. قوله: (طريقاً إليه) أي إلى الهدى لعدم تيسير أسبابه لهم. قوله: (منكرين للبعث) أشار بذلك إلى أن الاستفهام للإنكار والاستبعاد. قوله: ﴿ وَرُفَاتاً ﴾ هو ما بولغ في تفتيته ودقه حتى يصير كالتراب، وقيل هو التراب يؤيده أنه تكرر في القرآن تراباً وعظاماً. قوله: ﴿ قُلْ كُونُواْ حِجَارَةً ﴾ أي جواباً عن إنكارهم البعث. والمعنى قل لهم: لو صرتم حجارة أو حديداً أو خلقاً آخر غيرهما، كالسماوات والأرض والجبال، فلا بد من إيجاد الحياة فيكم، فإن قدرة الله لا تعجز عن إحيائكم، وإعادتكم للجسمية والروحية، فكيف إذا كنتم عظاماً ورفاتاً؟ وليس المراد الأمر، بل المراد أنكم لو كنتم كذلك، لما أعجزتم الله عن الإعادة.
قوله: ﴿ مِّمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ ﴾ أي اعتقادكم. والمعنى لو كنتم أشياء يعظم في اعتقادكم قبولها الحياة، لكونها بعيدة منها، لأحياكم الله، إذ القادر لا يعجزه شيء. قوله: ﴿ قُلِ ٱلَّذِي فَطَرَكُمْ ﴾ أي يعيدكم الذي فطركم. قوله: (بل هي أهون) أي لأن البدء لم يكن على مثال سابق بخلاف الإعادة، وذلك بالنظر لعقولنا وأفعالنا، وإلا فالبدء والإعادة بالنسبة إليه تعالى على حد سواء، فخلق الجبل العظيم عنده مساو لخلق الذرة، قال تعالى:﴿ مَّا خَلْقُكُمْ وَلاَ بَعْثُكُمْ إِلاَّ كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ ﴾[لقمان: ٢٨].
قوله: ﴿ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُؤُوسَهُمْ ﴾ يقال نغض الشيء تحرك، وأنغض رأسه حركه، كالمتعجب من الشيء. قوله: ﴿ أَن يَكُونَ قَرِيباً ﴾ هو في محل نصب خبر عسى على أنها ناقصة، واسمها ضمير يعود على البعث، أو في محل رفع فاعل بها على أنها تامة. قوله: ﴿ يَوْمَ يَدْعُوكُمْ ﴾ ظرف لقوله: ﴿ قَرِيباً ﴾.
قوله: (على لسان إسرافيل) هو أحد قولين، والآخر أن المنادي جبريل، والنافخ إسرافيل، وصورة النداء أنه يقول: أيتها العظام البالية، والأوصال المتقطعة، واللحوم المتمزقة، والشعور المتفرقة، إن الله يأمركن أن تجتمعن لفصل القضاء. قوله: (فتجيبون) أي تبعثون. قوله: ﴿ بِحَمْدِهِ ﴾ حال من الواو في تستجيبون، أي تجيبونه حال كونكم حامدين له على ذلك، لما قيل: إنهم ينفضون التراب عن رؤوسهم ويقولون سبحانك اللهم ولحمدك. قوله: (بأمره) تفسير آخر لمعنى الحمد هنا وعليه فالباء سببية. قوله: (وقيل وله الحمد) أي لما ورد أنهم يقولون نعم وله الحمد، وهو إخبار عن جميع الخلق، مؤمنهم وكافرهم، فالمؤمنون يحمدون الله شكراً على ما أولاهم من النعم، والكفار يحمدونه رجاء أن ينفعهم ذلك الشكر، وهو لا ينفعهم، وقيل هو في خصوص المؤمنين. قوله: (في الدنيا) أي أو في القبور، لأنهما من جملة عمر الدنيا. قوله: ﴿ يَقُولُواْ ﴾ مجزوم في جواب الأمر. قوله:﴿ بِٱلَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ﴾[الإسراء: ٣٤].
أي ولا يغلظوا عليهم؛ فإن ذلك داع إلى الشر، كأن يقولوا لهم: إنكم من أهل النار ومن الأشقياء، وغير ذلك. قوله: ﴿ إِنَّ ٱلشَّيْطَانَ ﴾ الخ، تعليل لمفهوم. قوله: ﴿ يَقُولُواْ ٱلَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ﴾ كأنه قال: ولا يقولوا غيرها مما ينفر النفوس، لأن الشيطان، الخ. قوله: ﴿ بَيْنَهُمْ ﴾ أي بين المؤمنين والمشركين. قوله: (يفسد) ﴿ بَيْنَهُمْ ﴾ أي لأن الاغلاظ عليهم، ربما يثير العناد، ويؤدي لزيادة الفساد. قوله: (هي) ﴿ رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ ﴾ الخ، أي وما بينهما اعتراض. والمعنى ربكم أعلم بعاقبة أمركم. قوله: (بالتوبة والإيمان) أي بسببهما. قوله: ﴿ وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً ﴾ أي وما جعلنا أمرهم موكولاً لك، بل ليس عليك إلا البلاغ، فدارهم ومر أصحابك بتحمل أذاهم. قوله: (وهذا قبل الأمر بالقتال) أي فهو منسوخ بآية﴿ يٰأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ جَاهِدِ ٱلْكُفَّارَ وَٱلْمُنَافِقِينَ وَٱغْلُظْ عَلَيْهِمْ ﴾[التوبة: ٧٣] ومقتضى العلة، أنه حيث أدى الاغلاظ إلى زيادة الفساد، وجب تركه في أي زمن.
قوله: ﴿ بِمَنْ فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ ﴾ أي بأحوالهم، فيخص بالنبوة من شاء من خلقه، وبولايته وسعادته من شاء منهم، وفي هذه الآيات رد على المشركين، حيث استبعدوا النبوة على رسول الله بقولهم: كيف يكون يتيم أبي طالب نبياً؟ وكيف يكون العراة الجوع أصحابه؟ وهذه العبارة لا يجوز إطلاقها على النبي، إلا في مقام الحكاية على الكفار، ولذا أفتى بعض المالكية بقتل قائلها في مقام النقيض، والباء متعلقة بأعلم، ولا يلزم عليه قصر علمه على من في السماوات والأرض، لأنه مفهوم لقب وهو لا يعتبر، وقد رد العلماء على من اعتبره، كأبي بكر الدقاق. قوله: ﴿ وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ ٱلنَّبِيِّينَ عَلَىٰ بَعْضٍ ﴾ أي بتفضيل من الله ومزايا خصهم بها، ميز بعضهم عن بعض. قوله: ﴿ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُوراً ﴾ خص بالذكر، لأن اليهود زعمت أنه لا نبي بعد موسى، ولا كتاب بعد التوراة، وقصدهم بذلك إنكار نبوة محمد وإنكار كتابه، فرد الله عليهم بقوله: ﴿ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُوراً ﴾ لأنهم يعترفون بنبوة داود، ونزل الزبور عليه، مع أنه جاء بعد موسى، والزبور كتاب أنزل على داود، مشتمل على مائة وخمسين سورة، أطولها قدر ربع من القرآن، وأقصرها قدر سورة﴿ إِذَا جَآءَ نَصْرُ ٱللَّهِ ﴾[النصر: ١] وكلها دعاء وتحميد، ليس فيها حلال ولا حرام، ولا فرائض ولا حدود ولا أحكام، وفي هذه الآية، إشارة إلى أن تفضيل الأنبياء بالفضائل النفسانية، والتخلي عن العلائق الجسمانية، والتحلي بالأخلاق الرحمانية، لا بكثرة الأموال والأتباع، حتى داود عليه السلام، فإن شرفه بما أوحى الله إليه من الكتاب، لا بما أوتيه من الملك، فالعز والتفضيل في المزايا الأخروية لا الدنيوية، فإنها تكون في المؤمن والكافر، فلا يمتن الله بها على أحبابه وأصفيائه. قوله: ﴿ قُلِ ﴾ (لهم) أي قل يا محمد رداً على من اعتقد مع الله شريكاً. قوله: (أنهم آلهة) أشار بذلك إلى أن مفعولي زعم محذوفان. قوله: ﴿ مِّن دُونِهِ ﴾ أي غيره، وفي الآية تقديم وتأخير، والتقدير قل ادعوا الذين من دونه زعمتم أنهم آلهة، فالمعنى أنهم يعبدونها كما يعبدون الله، فاندفع ما يقال: إن المشركين. إنما يعتقدون الشركة مع الله، لا أن الآلهة غيره، وهو ليس بإله. قوله: (كالملائكة) الخ، أي وكمريم، فالكلام في خصوص العقلاء بدليل قوله:﴿ أُولَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ يَدْعُونَ ﴾[الإسراء: ٥٧] قوله: ﴿ فَلاَ يَمْلِكُونَ كَشْفَ ٱلضُّرِّ عَنْكُمْ ﴾ أي لا يستطيعون إزالته لعجزهم، وحينئذ فهؤلاء ليسوا بآلهة، لأن الإله هو القادر الذي لا يعجزه شيء، والجملة جواب الأمر.
قوله: ﴿ أُولَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ يَدْعُونَ ﴾ هذا من تتمة ما قبله، واسم الإشارة مبتدأ، وجملة ﴿ يَبْتَغُونَ ﴾ وما عطف عليه خبر، و ﴿ ٱلَّذِينَ ﴾ بدل من اسم الإشارة أو عطف بيان عليه و ﴿ يَدْعُونَ ﴾ صلته، وقدر المفسر مفعوليه والمعنى أن العقلاء الذين زعمتموهم وعبدتموهم آلهة، يطلبون من الله القرب بسبب طاعتهم وخضوعهم وذلهم لربهم، ويرجون رحمته، ويخافون عقابه، بل كل من كان أقرب منهم في الدرجة، فهو أشد خضوعاً وخوفاً، ولا يرضون بكونهم معبودين من دون الله. قوله: (بد من واو يبتغون) أي و ﴿ أَقْرَبُ ﴾ خبر مبتدأ محذوف والجملة صلة، أي كما أشار له المفسر بقوله: (يبتغيها الذي هو) ﴿ أَقْرَبُ ﴾.
قوله: (فكيف تدعونهم آلهة) أي مع كونهم راجين خائفين محتاجين لربهم، والإله لا يكون كذلك. قوله: ﴿ كَانَ مَحْذُوراً ﴾ أي مخافاً منه، والمعنى هو حقيق بأن يخاف منه كل أحد. قوله: ﴿ وَإِن مِّن قَرْيَةٍ ﴾ أي طائعة أو عاصية، وقوله: ﴿ إِلاَّ نَحْنُ مُهْلِكُوهَا ﴾ أي الطائعة، وقوله: ﴿ أَوْ مُعَذِّبُوهَا ﴾ أي العاصية، والمعنى أن كل أحد يفنى قبل يوم القيامة، قال تعالى:﴿ كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ ﴾[الرحمن: ٢٦] ولكن الفناء مختلف، فمنهم من يموت ميتة حسنة، ومنهم من يموت ميتة سوء. قوله: (بالموت) أي فالهلاك قد يستعمل في الموت، قال تعالى:﴿ إِن ٱمْرُؤٌ هَلَكَ ﴾[النساء: ١٧٦].
قوله: ﴿ كَانَ ذٰلِك ﴾ أي ما ذكر من الإهلاك والتعذيب. قوله: ﴿ مَسْطُوراً ﴾ أي فلا يغير ولا يبدل. قوله: ﴿ وَمَا مَنَعَنَآ أَن نُّرْسِلَ ﴾ الخ، سبب نزول هذه الآية، أنهم قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: اقلب لنا الصفا ذهباً، وسير لنا هذه الجبال عن مكة لنزرع مكانها، وأحي لنا آباءنا الموتى، فإن فعلت ذلك آمنا بك، فشرع النبي يسأل الله تعالى في ذلك، فنزلت هذه الآية، والمعنى ما كان السبب في تركنا إجابتهم عجزاً منا، بل السبب في ترك الإجابة غلبة رحمتنا بهم، فإنه قد جرت عادتنا، من أول الزمان إلى وقتك هذا، أن كل أمة طلبت من نبيها آية نأتيهم بها، فإذا كفروا استأصلناهم بالهلاك، وقد سبق في علمنا أن أمتك تبقى على وجه الأرض إلى يوم القيامة، ولو آتيناهم ما طلبوه ولم يؤمنوا، لاستأصلناهم بالهلاك، فلم يتم ما سبق في علمنا، فمنعهم مما طلبوه رحمة بأمتك جميعاً. قوله: (التي اقترحوها) أي كقلب الصف ذهباً، وغير ذلك مما يأتي في قوله وقالوا﴿ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّىٰ تَفْجُرَ لَنَا مِنَ ٱلأَرْضِ يَنْبُوعاً ﴾[الإسراء: ٩٠] الآيات. قوله: ﴿ مُبْصِرَةً ﴾ بكسر الصاد بإتفاق السبعة، وإسناد الإبصار لها مجاز، لأنها سبب في التبصر والاعتبار والاهتداء، وخصت معجزة صالح بالذكر هنا، لأن المكذبين لها ديارهم المهلكة قريبة منهم، يبصرونها في أسفارهم ذهاباً وإياباً. قوله: (المعجزات) دفع بذلك ما يقال إن في الآية تعارضاً، حيث نفى إرسال الآيات أولاً، وأثبته ثانياً. وحاصل الجواب أن يقال: إن المنفي أولاً الآيات المقترحة، والمثبت ثانياً المعجزات الغير المقترحة.
قوله: ﴿ وَإِذْ قُلْنَا لَكَ ﴾ إذ ظرف متعلق بمحذوف قدره المفسر بقوله: (اذكر). قوله: (فهو يعصمك منهم) أي قتلهم لا من أذاهم فإنه حاصل. قوله: ﴿ وَمَا جَعَلْنَا ٱلرُّءْيَا ﴾ المراد الرؤية بالبصر، واستعمالها بالألف قليل، والكثير استعمال البصرية بالتاء، والحلمية بالألف، وإنما عبر عنها بالألف لوقوعها بالليل، ولسرعة تقضيها كأنه منام. قوله: ﴿ وَٱلشَّجَرَةَ ﴾ معطوفة على الرؤيا. قوله: ﴿ ٱلْمَلْعُونَةَ ﴾ إسناد اللعن لها، إما حقيقة بالاعتبار أنها مؤذية ومذمومة ومطرودة عن رحمة الله، لأنها تخرج في أصل الجحيم، أو مجاز والمراد ملعون آكلوها. قوله: ﴿ فِي ٱلقُرْآنِ ﴾ الجار والمجرور متعلق بمحذوف صفة الشجرة، أي المذكورة في القرآن. قوله: (وهي الزقوم) هي أخبث الشجر المر تنبت بتهامة، وتكون في أصل الجحيم طعام أهل النار. قوله: (إذ قالوا النار تحرق الشجر) الخ، أي فقصدوا بذلك، إنكار قدرة الله تعالى وإثبات العجز له، والاستهزاء بقول الرسول، وهو غفلة منهم عن قدرة الله، معتمدين على المر العادي، مع أنه شوهد تخلفه في مثل النعامة، فإنها تبتلع الجمر والحديد المحمى بالنار ولا يحرقها، وطير السمندل يتخذ من وبره مناديل، فإذا اتسخت ألقيت في النار، فيزول وسخها وتبقى بحالها. قوله: ﴿ وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاۤئِكَةِ ٱسْجُدُواْ لأَدَمََ ﴾ كرر قصة آدم مع إبليس في القرآن مراراً، لابتناء السعادة والشقاوة عليها، وإشارة إلى أن السعيد هو من تبع آدم، والشقي هو من تبع إبليس، ليحصل ما ترتب على ذلك من النعيم المقيم لأهل السعادة، والعذاب الأليم لأهل الشقاوة. قوله: ﴿ ٱسْجُدُواْ لأَدَمََ ﴾ أي بعد أن قال لهم﴿ إِنِّي جَاعِلٌ فِي ٱلأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا ﴾[البقرة: ٣٠] قال لهم:﴿ إِنِّيۤ أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ ﴾[البقرة: ٣٠] ثم علمه أسماء الأشياء كلها، ثم عرض الله على الملائكة المسميات؛ وأمر آدم أن يقول للملائكة: أنبئوني بأسماء هؤلاء، قالوا: لا علم لنا إلا ما علمتنا، قال الله: يا آدم أنبئهم بأسمائهم، فلما أنبأهم بأسمائهم صار شيخاً لهم، فوجب تعظيمه واحترامه، فأمروا بالسجود له، وفاء ببعض حقوقه عليهم. قوله: (سجود تحية بالانحناء) دفع بذلك ما يقال: إن السجود لغير الله كفر، والملائكة بريئون منه، ويدفع أيضاً بأن السجود لآدم حقيقة بوضع الجبهة، وآدم كالقبلة كالمصلين للكعبة، وأيضاً محل كون السجود لغير الله كفراً، ما لم يكن الآمر به هو الله، وإلا فيجب امتثاله، وقد تقدم ذلك. قوله: ﴿ فَسَجَدُواْ ﴾ أي الملائكة جميعاً. قوله: ﴿ إَلاَّ إِبْلِيسَ ﴾ أي امتنع من السجود قولاً وفعلاً. قوله: ﴿ قَالَ أَأَسْجُدُ ﴾ إلخ، الاستفهام إنكاري فهو بمعنى النفي.
قوله: ﴿ قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَـٰذَا ٱلَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ ﴾ الهمزة للاستفهام، ورأى فعل ماض، والتاء فاعل، والكاف مؤكدة لتاء الخطاب، واسم الإشارة مفعول أول، و ﴿ ٱلَّذِي ﴾ بدل منه أو صفة له، و ﴿ كَرَّمْتَ ﴾ الموصول، والعائد محذوف تقديره كرمته، والمفعول الثاني محذوف تقديره لم كرمته عليّ؟ ولم يجبه الله عن هذا السؤال تحقيراً له، حيث اعترض على ملاه، وتكبر وحسد عباد الله، والإراءة هنا بمعنى الاخبار، ففيه مجاز مرسل، من بابا إطلاق السبب على المسبب، لأن شأن من كان رائياً لشيء أن يخبر به، وأطلق الاستفهام وأريد منه الطلب، ففيه مجاز مرسل على مجاز، وتقدم نظائر هذه الآية في الأنعام، وسيأتي في القصص. قوله: (خلقتني من نار) أي وهي أفضل العناصر الأربع. قوله: (لام القسم) أي مقدرة تقديره والله، وقوله: ﴿ لأَحْتَنِكَنَّ ﴾ جواب القسم، والجملة مستأنفة مرتبة على محذوف، والتقدير فطرده الله، فطلب اللعين الإمهال للنفخة الثانية، فأجابه الله بخلاف ما طلب فقال: ﴿ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ ﴾ الخ، والاحتناك في الأصل مأخوذ من حنك الدابة إذا جعل الرسن في حنكها، واحتنك الجراد الأرض أكل ما عليها، والياء في أخرتني ثابتة لبعض القراء وصلاً ووقفاً، ومحذوفة لبعضهم كذلك، وثابتة لبعضهم وصلاً، وحذفها وقفاً، فالقراءات ثلاث وكلها سبعية هنا، وأما التي تأتي في المنافقين، فالياء ثابتة للكل لثبوتها في الرسم. قوله: (ممن عصمته) أي عصمة واجبة كالأنبياء، أو جائزة كالصلحاء. قوله: ﴿ قَالَ ﴾ (تعالى) ﴿ ٱذْهَبْ ﴾ هذا تهديد له، وليس الأمر في المواضع الخمسة على حقيقته، بل هو استدراج وتهديد لأنه معصية، والله لا يأمر بها، على حد: إذا لم تستح فاصنع ما شئت. قوله: (إلى وقت النفخة الأولى) هذا جواب له على خلاف ما طلب، فإنه طلب الانظار إلى النفخة الثانية ليفر من الموت، فإنه يعلم أن لا موت بعد النفخة الثانية. قوله: ﴿ جَزَآؤُكُمْ ﴾ غلب المخاطب لأنه سبب في الأغواء قوله: ﴿ جَزَاءً ﴾ منصوب بالمصدر قبله. قوله: (وافر) أشار بذلك إلى أن اسم المفعول بمعنى اسم الفاعل. قوله: (بالغناء) بكسر الغين والمد، وهو تطريب الصوت بما يهيج الشهوات المحرمة. قوله: (وكل داع إلى معصية) كالكلام مع الأجنبية ونحوه. قوله: ﴿ بِخَيْلِكَ ﴾ الباء للملابسة، والمعنى صح عليهم حال كونك ملتبساً بجنودك الركاب والمشاة، فالمراد بالخيل ركابها، وذلك كقطاع الطرق، الذين يركبون الخيل، ويأخذون الأموال، ويقتلون النفوس. قوله: ﴿ وَشَارِكْهُمْ فِي ٱلأَمْوَالِ ﴾ أي بحملهم على كسبها وجمعها من الحرام، والتصرف فيها فيما لا ينبغي. قوله: (من الزنا) أي ومثله ما لو طلق الرجل امرأته ثلاثاً، وأتى منها بالأولاد، فإن الشيطان شريكه فيهم. قوله: ﴿ وَعِدْهُمْ ﴾ أي احملهم على اعتقاد عدم البعث والجزاء.
قوله: ﴿ إِنَّ عِبَادِي ﴾ الإضافة للتشريف. قوله: ﴿ لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ ﴾ أي بل هم محفوظون منك. قوله: ﴿ وَكَفَىٰ بِرَبِّكَ وَكِيلاً ﴾ أي إن الشيطان، وإن كان قادراً على الوسوسة بأقدار الله، فالله أرحم بعباده، فهو يدفع عنهم كيده وشره، فالمعصوم من عصمة الله، وليس للعبد قدرة على دفع الوساوس.- فائدة - ذكر اليافعي عن الشاذلي، أن مما يعين على دفع وسوسة الشيطان، أنك عند وسوسته لك، تضع يدك اليمنى على جانب صدرك الأيسر حذاء الأيسر بحذاء القلب وتقول: سبحان الملك القدوس والخلاق الفعال سبع مرات، ثم تقرأ قوله تعالى:﴿ إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ * وَمَا ذٰلِكَ عَلَى ٱللَّهِ بِعَزِيزٍ ﴾[إبراهيم: ١٩-٢٠] اهـ. قوله: ﴿ رَّبُّكُمُ ٱلَّذِي يُزْجِي لَكُمُ ٱلْفُلْكَ فِي ٱلْبَحْرِ ﴾ لما أخبر الله سبحانه وتعالى، بأن الشيطان مسلط على بني آدم، إلا من عصمه منهم، وحفظه بين أوصاف الحافظ للخلق من تسلط الشيطان، كأنه قال: ربكم الحافظ لكم هو الذي يزجي، والأزجاء الإجراء، يقال: زجاه وأزجاه بمعنى أجراه، والفلك السفينة. قوله: (السفن) يشير إلى أن الفلك مستعمل في الجمع. قوله: ﴿ فِي ٱلْبَحْرِ ﴾ أي عذباً وملحاً. قوله: ﴿ لِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ ﴾ أي الوصول إلى المقاصد دنيوية وأخروية فبالسفن يتوصل إلى التجارات والمكاسب وللحج وزيارة الصالحين. قوله: ﴿ إِنَّهُ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً ﴾ تعليل ثان لقوله: ﴿ يُزْجِي ﴾.
قوله: (الشدة) أي من أجل هبوب الريح. قوله: (خوف الغرق) أي من أجل خوفه. قوله: ﴿ ضَلَّ مَن تَدْعُونَ ﴾ أي ذهب عن قلوبكم وخواطركم كل معبود سواه فلا تدعون غير الله لكشفه. قوله: ﴿ إِلاَّ إِيَّاهُ ﴾ يحتمل أن يكون الاستثناء متصلا بحمل قوله من تدعون على جميع المعبودات بحق أو بباطل ويحتمل أن يكون منقطعاً بحمله على المعبود بباطل، وتكون على هذا إلا بمعنى لكن. قوله: (من الغرق) الجار والمجرور متعلق بنجاكم، وقوله: ﴿ إِلَى ٱلْبَرِّ ﴾ متعلق بمحذوف قدره المفسر بقوله: (وأوصلكم). قوله: ﴿ أَعْرَضْتُمْ ﴾ (عن التوحيد) أي تركتموه، فالكافر يرجع لعبادة الأصنام، والعاصي يرجع لغفلاته وشهواته، بعد أن كان الجميع آيبين متوجهين إلى الله خائفين منه. قوله: ﴿ وَكَانَ ٱلإِنْسَانُ كَفُوراً ﴾ كالتعليل لقوله: ﴿ أَعْرَضْتُمْ ﴾.
قوله: ﴿ أَفَأَمِنْتُمْ ﴾ الهمزة داخلة على محذوف، والفاء عاطفة على ذلك المحذوف، والتقدير أنجوتم من الغرق فأمنتم الخ، والاستفهام للتوبيخ. قوله: ﴿ أَن يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ ٱلْبَرِّ ﴾ أي يخفيكم في باطن الأرض، والمعنى أنتم وإن أمنتم من الغرق في البحر، لا تأمنون من الخسف في البر، والأفعال الخمسة تقرأ بالنون والياء سبعيتان. قوله: (كقارون) أي فقد وقع به الخسف، قال الله تعالى:﴿ فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ ٱلأَرْضَ ﴾[القصص: ٨١].
قوله: (أي نرميكم بالحصباء) أي بسبب ريح تأتيكم. قوله: (كقوم لوط) أي فقد نزلت عليهم حجارة من السماء أهلكتهم. قوله: (حافظاً منه) أي مما ذكر من الخسف وإرسال الحصباء. قوله: ﴿ تَارَةً ﴾ مصدر وتجمع على تيرة وتارات. قوله: (إلا قصفته) أي كسرته. قوله: ﴿ فَيُغْرِقَكُم ﴾ مرتب على محذوف قدره المفسر بقوله: (فتكسر فلككم). قوله: (بكفركم) أي بسببه، وأشار بذلك إلى أن ما مصدرية، ويصح أن تكون اسم موصول، أي بسبب الذي كفرتم به. قوله: (نصيراً) أي ناصراً لكم علينا، فيحفظكم ويمنع عنكم ما فعلناه بكم. قوله: (أو تابعاً يطالبنا) الخ، تفسير ثان لتبيعا. والمعنى عليه لا تجدوا لكم مطالباً يأخذ ثأركم منا. قوله: ﴿ وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي ءَادَمَ ﴾ أي شرفناهم على جميع المخلوقات، بأمور جليلة عظيمة، منها أنهم ياكلون بايديهم لا بأفواهه، ومنها كونهم معتدلي القامة، على شكل حسن وصورة جميلة، ومنها أن الله خلق لهم ما في الأرض جميعاً، ومنها إخدام الملائكة الكرام لهم، حتى جعل منهم حفظة وكتبة لهم، وغير ذلك. قوله: (بالعلم) أي والعقل. قوله: (ومنه طهارتهم بعد الموت) أي فذوات بني آدم طاهرة بعد الموت، ونجاسة الكفار منهم معنوية لخبث باطنهم، وعليه يحمل قوله تعالى:﴿ إِنَّمَا ٱلْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ ﴾[التوبة: ٢٨].
قوله: (على الدواب) أي الإبل والخيل والبغال والحمير. قوله: ﴿ مِّنَ ٱلطَّيِّبَاتِ ﴾ أي المستلذات كاللحم والسمن واللبن والحبوب والفواكه في جميع الأزمان. قوله: ﴿ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَىٰ كَثِيرٍ ﴾ الخ، أي ميزناهم بفضائل ليست في كثير من غيرهم. قوله: (فمن بمعنى ما) أي فهي مستعملة في غير العقلاء، ويكون المراد بالكثير، جميع ما سواهم من غير الملائكة. قوله: (أو على بابها) أي فهي مستعملة في العقلاء، وغلبوا على غيرهم. قوله: (والمراد تفضيل الجنس) أي فجنس الإنسان، أفضل من جنس الملائكة، وهذا جواب عما يقال: لا نسلم أن جميع البشر أفضل من جميع الملائكة، فأجاب: بأن التفضيل بالجنس، فلا ينافي أن رؤساء الملائكة، أفضل من عامة البشر. قوله: (إذ هم) أي الملائكة. قوله: (أفضل من البشر) ظاهرة مطلقاً، وهو خلاف التحقيق، والتحقيق الذي عليه الأشاعرة، أن خواص البشر كالأنبياء والرسل، أفضل من خواص الملائكة، وهم جبريل وميكائيل وإسرافيل وعزرائيل، وعوام البشر وهم الصلحاء، أفضل من عوام الملائكة وهم ما عدا الرؤساء الأربعة.
قوله: ﴿ يَوْمَ نَدْعُواْ ﴾ ﴿ يَوْمَ ﴾ معمول لمحذوف قدره المفسر بقوله: (اذكر). والمعنى اذكر يا محمد هذا اليوم وهوله لأمتك، ليكون داعياً إلى الاتعاظ والخوف، فيحملهم على الاستعداد. قوله: ﴿ كُلَّ أُنَاسٍ ﴾ وزنه فعال، ويجوز حذف همزته فيقال ناس، فيصير وزنه عال. قوله: (نبيهم) أي لما روي عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم،" فينادى يوم القيامة: يا أمة إبراهيم، يا أمة موسى، يا أمة عيسى، يا أمة محمد صلى الله عليه وسلم، فيقوم أهل الحق الذين اتبعوا الأنبياء، فيأخذون كتبهم بأيمانهم، ثم ينادي الأتباع: يا أتباع نمرود. يا أتباع فرعون، يا أتباع فلان وفلان، من رؤساء الضلال وأكابر الكفار، فيأخذون كتبهم بشمائلهم من وراء ظهرهم "قوله: (أو بكتاب أعمالهم) أي لقوله تعالى:﴿ وَكُلَّ شيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِيۤ إِمَامٍ مُّبِينٍ ﴾[يس: ١٢] وما ذكره المفسر قولان في تفسير الإمام، وبقي أقوال أخر، قيل المراد به الكتاب الذي أنزل عليهم، فينادى في القيامة: يا أهل التوراة، يا أهل الإنجيل، يا أهل القرآن، ماذا عملتم في كتابكم؟ هل امتثلتم أوامره؟ هل اجتنبتم نواهيه؟ وقيل: المراد به المذهب الذي كانوا يعبدون الله عليه، فيقال: يا حنفي، يا شافعي، يا معتزلي، يا قدري، ونحو ذلك، وقيل: المراد به عمل البر الذي اشتهر به في الدنيا، فينادي أهل الصدقات، وأهل الجهاد، وأهل الصيام وغير ذلك، وقيل المراد به الأمهات، لأن الإمام جمع أم، كخفاف جمع خف، فينادي الخلق بأمهاتهم فيقال: يا ابن فلانة، ستراً على ولد الزنا، ورعاية حق عيسى، وإظهار شرف الحسن والحسين، ورد هذا القول الزمخشري وقال: إنه من بدع المفسرين. قوله: (فيقال يا صاحب الخير) هو على حذف مضاف، أي يا صاحب كتاب الخير. قوله: (وهو يوم القيامة) وله أسماء كثيرة منها: الساعة والحاقة والقارعة والواقعة يوم الدين ويوم الجزاء ويوم الحشر، وغير ذلك. قوله: ﴿ فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ ﴾ من إما شرطية أو موصولة، ودخلت الفاء في خبرها، لشبهها بالشرط. قوله: ﴿ فَأُوْلَـٰئِكَ يَقْرَؤونَ كِتَابَهُمْ ﴾ أي وإن لم يكونوا قارئين في الدنيا، وحين يقرؤون كتابهم يظهرون لأهل الموقف، قال تعالى حكاية عنه:﴿ فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَـٰبَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَآؤُمُ ٱقْرَءُواْ كِتَـٰبيَهْ ﴾[الحاقة: ١٩] الخ. قوله: (قدر قشرة النواة) الصواب أن يقول: قدر الخيط الذي في قلب النواة، وأما القشرة التي ذكرها فهي القطمير، وأما النقير فهو الذي في النقرة التي في ظهرها، والثلاثة مذكورة في القرآن.
قوله: ﴿ وَمَن كَانَ فِي هَـٰذِهِ أَعْمَىٰ ﴾ أي وهو الذي يعطي كتابه بشماله، فيسود وجهه حينئذ ويحصل له الندم، قال تعالى:﴿ وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَٰبَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يٰلَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَٰبِيَهْ ﴾[الحاقة: ٢٥] الخ. قوله: ﴿ أَعْمَىٰ ﴾ (عن الحق) أي فالمراد أعمى القلب لا يبصر رشده. قوله: (وقراءة الكتاب) أي قراءة سارة، وإلا فهو يقرؤه قراءة يحصل له بها الندم والحسرة والحزن. قوله: ﴿ وَأَضَلُّ سَبِيلاً ﴾ أي لأنهم حينئذ لا ينفعهم الإيمان. قوله: (عنه) أي عن طريق النجاة. قوله: (ونزل في ثقيف) أي وهم قبيلة يسكنون الطائف، وحاصله أنهم قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: لا ندخل في أمرك حتى تعطينا خصالاً نفتخر بها على العرب، لا نعشر ولا نحشر ولا نجبى في صلاتنا، فالمراد بقولهم لا نشعر، لا نعطي العشر من الزكاة، وبقولهم لا نحشر، لا نؤمر بالجهاد، وبقولهم لا نجبى بضم النون وفتح الجيم وتشديد الباء الموحدة مكسورة، لا نركع ولا نسجد في صلاتنا، والمراد لا نصلي، وكل رباً لنا فهو لنا، وكل رباً علينا، فهو موضوع عنا، وأن تمتعنا باللات سنة، حتى نأخذ ما يهدى لها، فإذا أخذناه كسرناها وأسلمنا، وأن تحرم وادينا كما حرمت مكة، فإن قالت العرب: لم فعلت ذلك؟ فقل: إن الله أمرني، فسكت النبي وطمع القوم في سكوته أن يعطيهم ذلك، فأنزل الله ﴿ وَإِن كَادُواْ ﴾ الخ. قوله: (مخففة) أي واسمها ضمير الشأن. قوله: (يستنزلونك) أي يطلبون نزولك عن الحكم الذي أوحيناه إليك من الأوامر والنواهي. قوله: ﴿ لِتفْتَرِيَ ﴾ أي تختلق وتكذب. قوله: ﴿ غَيْرَهُ ﴾ أي غير ما أوحينا إليك. قوله: ﴿ وَإِذاً ﴾ هي حرف جواب وجزاء تقدر بلو الشرطية كما قال المفسر. قوله: ﴿ لاَّتَّخَذُوكَ ﴾ جواب قسم محذوف تقديره والله لاتخذوك، وهو مستقبل في المعنى، لاقتضاء المجازاة الاستقبال. قوله: (وهو صريح) أي قوله: ﴿ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ ﴾.
قوله: (لم يركن) أي بالطريق الأولى، وقوله: (ولا قارب) أي بمنطوق التركيب. والمعنى امتنع قربك من الركون لوجود تثبيتنا إياك، وإذا امتنع القرب من الركون، فامتناع الركون أولى. قوله: (لو ركنت) المناسب أن يقول: لو قاربت الركون، لأن جواب لولا هو المقاربة، ولأن حسنات الأبرار سيئات المقربين، فإن المقاربة من فعل القبيح لا عذاب عليها عموماً، والكاملون يشدد عليهم على قدر مقامهم قال العارف: وإذا منحت القرب فاعرف قدره إن السخي لمن يحب شحيحقوله: (أي مثلي ما يعذب غيرك) أي من جميع الخلق، والمعنى لو قاربت الركون، لأنزلنا عليك عذاباً في الدنيا والآخرة، مثل عذاب الخلق مرتين. قوله: (مانعاً منه) أي من العذاب المضاعف. قوله: (لما قال له اليهود) الخ، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قدم المدينة، كره اليهود مقامه فيها حسداً، فأتوه فقالوا: يا أبا القاسم، لقد علمت ما هذه بأرض الأنبياء، فإن أرض الأنبياء الشام، وهي الأرض المقدسة، وكان بها إبراهيم والأنبياء، فإن نبياً مثلهم فائت الشام، وإنما يمنعك من الخروج إليها مخافة الروم، وإن الله سيمنعك من الروم إن كنت رسوله، فسار النبي بجيشه على ثلاثة أميال من المدينة، وفي رواية إلى ذي الحليفة، حتى يجتمع إليه أصحابه، ويأتي الإذن من الله فيخرج، فنزلت هذه الآية، فرجع، وسلطه الله عليهم، فقتل منهم بني قريظة، وأجلى بني النضير بعد زمن قليل، وهذا مبني على أن الآية مدنية، وأما على أن الآية مكية، فالمراد بالأرض أرض العرب، والمعنى همّ المشركون أن يخرجوه منها، فمنعهم الله عنه، ولم ينالوا منه ما أملوه.
قوله: ﴿ لَيَسْتَفِزُّونَكَ ﴾ أي يزعجونك بمكرهم وعداوتهم. قوله: ﴿ وَإِذاً لاَّ يَلْبَثُونَ ﴾ العامة على ثبوت النون، ورفع الفعل لعطفه على قوله: ﴿ لَيَسْتَفِزُّونَكَ ﴾ وقرىء شذوذاً بحذف النون وخرجت على أنه منصوب بإذاً. قوله: ﴿ خِلافَكَ ﴾ وفي قراءة خلافك وهما سبعيتان والمعنى واحد. قوله: ﴿ إِلاَّ قَلِيلاً ﴾ صفة لمصدر أو لزمان محذوف، أي إلا لبثاً أو زماناً قليلاً. قوله: ﴿ سُنَّةَ مَن قَدْ أَرْسَلْنَا ﴾ سنة منصوب بنزع الخافض، كما أشار له المفسر بقوله: (أي كسنتنا) والمعنى يفعل باليهود من إهلاكهم لو أخرجوك، كسنتنا فيمن قد مضى من الرسل، حيث نهلك من أخرجهم، وهذا على أن الآية مدنية وعلى أنها مكية، فالمعنى نفعل بأهل مكة الذين عزموا على إخراجك، كما فعلنا بمن مضى قبلهم، وقد قطع الله دابرهم بسيفه صلى الله عليه وسلم في بدر وغيرها. قوله: ﴿ أَقِمِ ٱلصَّلاَةَ ﴾ أي دم على أداء الصلاة التي فرضها الله عليك، وهي الصلوات الخمس بشروطها وأركانها وآدابها. قوله: ﴿ لِدُلُوكِ ٱلشَّمْسِ ﴾ مادة الدلوك تدل على التحول والانتقال، ومنه الدلاك لعدم استقرار يده. وفي الزوال انتقال الشمس من وسط السماء إلى ما يليه، ويستعمل في الغروب أيضاً. قوله: (أي من وقت زوالها) أشار بذلك إلى أن اللام بمعنى من الابتدائية، والكلام على حذف مضاف، والدلوك بمعنى الزوال، ويصح أن تكون اللام على بابها للتعليل، ويصح أن تكون بمعنى بعد، والأسهل ما قاله المفسر. قوله: ﴿ إِلَىٰ غَسَقِ ٱلَّيلِ ﴾ الجار والمجرور متعلق بمحذوف حال من فاعل أقم، والتقدير أقم الصلاة، مبتدئاً من دلوك الشمس، منتهياً إلى غسق الليل. قوله: ﴿ وَقُرْآنَ ٱلْفَجْرِ ﴾ بالنصب عطف على الصلاة. قوله: (صلاة الصبح) أي وسميت قرآناً، لأنه أحد أركانها، فسميت باسم بعضها. قوله: (تشهده ملائكة الليل) إلخ، أي تحضره الملائكة الحفظة لما في الحديث" إن لله ملائكة يتعاقبون فيكم، ملائكة بالليل، وملائكة بالنهار، فيجتمعون عند صلاة الصبح، وعند صلاة العصر، فيصعد الذين باتوا فيكم، فيسألكم الله وهو أعلم بهم فيقول: ماذا تركتم عبادي؟ فيقولون تركناهم وهم يصلون، وأتيناهم وهم يصلون "، وأخذ مالك من الآية، أن الصلاة الوسطى هي الصبح.
قوله: ﴿ وَمِنَ ٱلْلَّيْلِ ﴾ الجار والمجرور متعلق بتهجد، و ﴿ وَمِنَ ﴾ بمعنى بعض، والتهجد في الأصل من الهجود، وهو النوم بالليل، ثم استعمل في الصلاة بالليل، بعد الانتباه من النوم، فهو من تسمية الأضداد، يستعمل في النوم وضده، والمعنى انتبه من نومك، وصل في جوف الليل والناس نيام. قوله: (بالقرآن) أي فالضمير عائد على القرآن، لا بالمعنى المتقدم ففيه استخدام. قوله: (فريضة زائدة لك) هذا مبني على أن قيام الليل، كان واجباً عليه دون أمته، وحينئذ فيكون معنى النافلة الزيادة اللغوية. قوله: (أو فضيلة) تفسير ثان، وهو مبني على أنه في حقه مندوب، فالنافلة على بابها. إن قلت: على هذا التفسير لا خصوصية للنبي صلى الله عليه وسلم بذلك، بل هم مندوب لأمته كذلك. أجيب: بأنها له علو درجات، وشكر لله على نعمائه لما في الحديث" " كان يقوم الليل حتى تورمت قدماه " فقالت له عائشة: أتفعل ذلك وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ فقال: " أفلا أكون عبداً شكوراً؟ " "ولغيره تكفير لذنوبه وخطراته، وتهجده صلى الله عليه وسلم لم يزد في رمضان ولا في غيره على ثلاث عشرة ركعة اثنتان خفيفتان، وما بقي طوال. قوله: ﴿ عَسَىٰ أَن يَبْعَثَكَ ﴾ الخ ﴿ عَسَىٰ ﴾ في كلام الله للتحقيق، لأنه وعد كريم وهو لا يتخلف. قوله: ﴿ مَقَاماً ﴾ منصوب بيبعثك لأنه مضمن معنى يقيمك، وإليه يشير المفسر بقوله: (يقيمك في الآخرة) ﴿ مَقَاماً ﴾.
قوله: (وهو مقام الشفاعة في فصل القضاء) أي حين يجمع الله الناس في صعيد واحد، وتدنو الشمس، حتى يكون بينها وبين رؤوس الخلائق قدر المرود، وتحيط النار بهم، والملائكة تحدق بهم سبع صفوف، حتى يكون على القدم ألف قدم، أو مائة ألف قدم على قدم، فيشيد الكرب على الخلائق، فيذهبون إلى آدم فيسألونه الشفاعة فيقول: إني أكلت من الشجرة، ولكن ائتوا نوحاً، فيأتونه فيسألونه الشفاعة فيقول: إني دعوت على قومي، ولكن ائتوا إبراهيم، فيأتونه فيقول: إني كذبت ثلاث كذبات، ولكن ائتوا موسى، فيأتونه فيقول: إن قتلت نفساً، ولكن ائتوا عيسى، فيأتونه فيقول: إن قومي عبدوني من الله، ولكن ائتوا محمداً صلى الله عليه وسلم، فيأتونه فيقول: أنا لها، أنا لها، فيستأذن الله فيؤذن له، ثم يخر ساجداً، ويثني على الله بثناء عظيم، فيقال: ارفع رأسك وقل تسمع، واشفع تشفع، وسل تعط، فيرفع رأسه، فحينئذ ينفض الموقف، ويدخل أهل الجنة الجنة، وأهل النار النار، ثم يشفع ثانياً، فيخرج من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان، وفي الحديث" أنا سيد ولد آدم ولا فخر، وبيدي لواء الحمد ولا فخر، آدم فمن دونه تحت لوائي "قوله: (لما أمر بالهجرة) فيه أن الآية مدنية، إلا أن يقال إنا ما هنا مرور على القول بأن السورة كلها مكية، وهو ما مشى عليه البيضاوي أول السورة كما تقدم.
قوله: ﴿ أَدْخِلْنِي ﴾ (المدينة) أي وتسمى طيبة وقبة الإسلام، وقد استنارت به صلى الله عليه وسلم. قوله: ﴿ مُدْخَلَ صِدْقٍ ﴾ المدخل بضم الميم، والمخرج كذلك، لأن فعلهما رباعي مصدران بمعنى الإدخال والإخراج. قوله: (مرضياً) أي تطمئن به نفسي بحيث لا يزعجني شيء. قوله: (لا ألتفت بقلبي إليها) أي إلى مكة لبلوغ الآمال بغيرها، وما تقدم من شرح تلك الآية، هو ما مشى عليه المفسر، وقيل أدخلني في أمرك الذي أرسلتني به من النبوة مدخل صدق، وأخرجني من الدنيا، وقد قمت بما وجب علي من حق النبوة مخرج صدق، وقيل أدخلني في طاعتك مدخل صدق، وأخرجني من المناهي مخرج صدق، وقيل أدخلني حيثما أدخلتني بالصدق، وأخرجني بالصدق، ولا تجعلني ممن يدخل بوجه، ويخرج بوجه، فإن ذا الوجهين لا يكون أميناً عند الله، ولورود تلك المعاني، استعملتها الصوفية على حسب مقاصدهم، لأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب. قوله: (قوة تنصرني بها على أعدائك) أي وقد أجاب الله دعاءه، فوعده بملك فارس والروم وقال له:﴿ وَٱللَّهُ يَعْصِمُكَ ﴾[المائدة: ٦٧]، وقال:﴿ لِيُظْهِرَهُ عَلَى ٱلدِّينِ كُلِّهِ ﴾[المائدة: ٣٣].
قوله: (وقل عند دخولك مكة) أي يوم الفتح. قوله: ﴿ وَزَهَقَ ٱلْبَاطِلُ ﴾ يقال زهق اضمحل، وزهقت روحه خرجت. قوله: (يطعنها) أي يطعن كلاً منها في عينه. قوله: (حتى سقطت) أي مع أنها كانت مثبتة بالحديد والرصاص، وبقي منها صنم خراعة فوق الكعبة، وكان من نحاس أصفر، فقال النبي: يا علي ارم به، فصعد فرمى به فكسره. قوله: ﴿ مِنَ ﴾ (للبيان) أي لبيان الجنس، وقدم على المبين اهتماماً بشأنه، فالقرآن قليله وكثيره، شفاء من الأمراض الحسية الظاهرية، بدليل ما ورد في حديث الفاتحة: وما يدريك أنها رقية وشفاء من الأمراض المعنوية الباطنية، كالاعتقادات الباطلة، والأخلاق المذمومة، كالكبر والعجب والرياء وحب الدنيا والحرص والبخل وغير ذلك لاشتماله على التوحيد وأدلته، وعلى مكارم الأخلاق وأدلتها، وما مشى عليه المفسر من أن ﴿ مِنَ ﴾ (للبيان) هو التحقيق لما ورد: خذ من القرآن ما شئت لما شئت، وورد: من لم يستشف بالقرآن لا شفاه الله، وقيل إنها للتبعيض، والمعنى أن منه ما يشفي من الأمراض، كالفاتحة وآيات الشفاء. قوله: (من الضلالة) أي سوء الاعتقاد، وخصت بالذكر مع أنه شفاء من الأمراض الحسية أيضاً، لأن الضلالة رأس الأمراض. قوله: ﴿ وَرَحْمَةٌ ﴾ أي بركة دنيوية وأخروية، فهو عطف عام. قوله: ﴿ لِّلْمُؤْمِنِينَ ﴾ أي فهم المنتفعون به دون غيرهم، ولكن يشترط حسن النية، والاعتقاد والجزم بالإجابة. قوله: ﴿ وَلاَ يَزِيدُ ٱلظَّالِمِينَ إَلاَّ خَسَاراً ﴾ أي نقصاً وطغياناً، لأنهم لا يصدقون به، فحرموا من الانتفاع به.
قوله: ﴿ وَإِذَآ أَنْعَمْنَا عَلَى ٱلإنْسَانِ ﴾ أي بأن أعطيناه الصحة والغنى. قوله: (الكافر) أي فهذه الأوصاف في حقه، وكل ما ورد في حق الكفار من الذم، فإنه يجر بذيله على عصاة الأمة المتصفين بتلك الأوصاف. قوله: ﴿ أَعْرَضَ ﴾ (عن الشكر) أي عن صرف النعم في مصارفها وتكبر وتعاظم. قوله: (ثنى عطفه) ألوى جانبه. قوله: (متبختراً) أي متكبراً. قوله: ﴿ كَانَ يَئُوساً ﴾ أي غير راج رحمة الله، ولا ينافي ما هنا قوله تعالى في الآية الأخرى ﴿ وَإِذَا مَسَّهُ ٱلشَّرُّ ﴾ فذو دعاء عريض لأن الكفار مختلفون، فبعضهم في حال الشر يكثر الدعاء، وبعضهم يقنط من رحمة الله، أو يقال: إنهم وإن أكثروا الدعاء ظاهراً هم قانطون في الباطن من رحمة الله. قوله: ﴿ عَلَىٰ شَاكِلَتِهِ ﴾ أي كل واحد منا ومنكم، ويعمل على حالته وطبيعته وروحه التي جبل عليها، فالروح السعيدة صاحبها يعمل عمل السعداء، وتظهر منه الأخلاق المرضية، والأفعال الجميلة، وصاحب الروح الشقية، يعمل عمل الأشقياء، وتظهر منه الأخلاق القبيحة، والأفعال الخبيثة، وفي هذه الآية دليل على أن الظاهر عنوان الباطن. قوله: ﴿ أَهْدَىٰ ﴾ يجوز أن يكون من اهتدى على حذف الزوائد، وأن يكون من هدى المتعدي، وأن يكون من هدى القاصر بمعنى اهتدى، و ﴿ سَبِيلاً ﴾ تمييز على كل حال، وفي الآية اكتفاء، أي بمن هو أضل سبيلاً.
قوله: ﴿ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ ٱلرُّوحِ ﴾ سبب نزولها كما قال ابن عباس: أن قريشاً اجتمعوا وقالوا: إن محمداً نشأ فينا بالأمانة والصدق، وما اتهمناه بكذب، وقد ادعى ما ادعى، فابعثوا نفراً إلى اليهود بالمدينة واسألوهم عنه، فإنهم أهل كتاب، فبعثوا جماعة إليهم فقالت: سلوه عن ثلاثة أشياء، فإن أجاب عن كلها، أو لم يجب عن شيء منها فليس بنبي، وإن أجاب عن اثنين، ولم يجب عن واحد فهو نبي، فاسألوه عن فتية فقدوا في الزمن الأول ما كان أمرهم؟ فإنه كان لهم حديث عجيب. وعن رجل بلغ شرق الأرض وغربها ما خبره؟ وعن الروح. فسألوا النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أخبركم بما سألتم غداً، ولم يقل إن شاء الله، فلبث الوحي اثني عشر، وقيل خمسة عشر، وقيل أربعين يوماً، وأهل مكة يقولون: وعدنا محمد غداً، وقد أصبحنا لا يخبرنا بشيء، حتى حزن رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكث الوحي، وشق عليه ما يقول أهل مكة، ثم نزل جبريل عليه السلام: بقوله تعالى:﴿ وَلاَ تَقُولَنَّ لِشَاْىءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذٰلِكَ غَداً * إِلاَّ أَن يَشَآءَ ٱللَّهُ ﴾[الكهف: ٢٣-٢٤] ونزل في الفتية﴿ أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ ٱلْكَهْفِ وَٱلرَّقِيمِ كَانُواْ مِنْ آيَاتِنَا عَجَباً * إِذْ أَوَى ٱلْفِتْيَةُ إِلَى ٱلْكَهْفِ ﴾[الكهف: ٩-١٠] الآيات. ونزل فيمن بلغ المشرق والمغرب﴿ وَيَسْأَلُونَكَ عَن ذِي ٱلْقَرْنَيْنِ ﴾[الكهف: ٨٣] الآيات. ونزل في الروح قوله تعالى ﴿ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ ٱلرُّوحِ ﴾ الآية، فأصل السؤال من اليهود، والناقل له قريش. قوله: ﴿ عَنِ ٱلرُّوحِ ﴾ أي عن حقيقة الروح الذي به حياة البدن، وهذا هو الأصح، وقيل الروح التي سألوه عنها هو جبريل، وقيل ملك له سبعون الف وجه، لكل وجه سبعون الف لسان، يسبح الله تعالى بجميع ذلك، فيخلق الله تعالى بكل تسبيحة ملكاً، وقيل إنهم جند من جنود الله على صورة بني آدم، لهم أيد وأرجل ورؤوس، ليسوا بملائكة ولا أناس يأكلون الطعام، وقيل ملك عظيم عن يمين العرش، لو شاء أن يبتلع السماوات السبع في لقمة واحدة لابتلعها، ليس شيء أعظم منه إلا العرش، يشفع يوم القيامة في أهل التوحيد، متحجب عن الملائكة، لو كشف لهم عنه لاحترقوا من نوره، وقيل عيسى، وقيل القرآن. قوله: ﴿ مِنْ أَمْرِ رَبِّي ﴾ أي بما استأثر الله بعلمه وهذا هو الصحيح، وقيل الروح هي الدم، وقيل النفس، ونقل عن بعض أصحاب مالك أنها صورة كجسد صاحبها، وفي الآية اقتصار على وصف الروح، كما اقتصر موسى في جواب قول فرعون: وما رب العالمين، على ذكر صفاته، فإن إدراكه بالكنه على ما هو عليه لا يعلمه إلا الله. قوله: ﴿ وَمَآ أُوتِيتُم مِّنَ ٱلْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً ﴾ رد لقول اليهود: أوتينا التوراة وفيها العلم الكثير، بدليل القراءة الشاذة وما أوتوا، وقيل الخطاب عام لجميع الخلق، أي إن الخلق عموماً، وإن أعطوا من العلم ما أعطوا، فهو قليل بالنسبة لعلمه تعالى. قوله: ﴿ وَلَئِن شِئْنَا ﴾ هذا امتنان من الله تعالى على نبيه صلى الله عليه وسلم بالقرآن، وتحذير له عن التفريط فيه، والمقصود غيره، والمعنى حافظوا على العمل بالقرآن، واحذروا من التفريط فيه، فإننا قادرون على إذهابه من صدوركم ومصاحفكم، ولكن إبقاؤه رحمة بكم. قوله: (لام قسم) أي وجوابه قوله: ﴿ لَنَذْهَبَنَّ ﴾، وجواب الشرط محذوف لدلالة جواب القسم عليه. قوله: (لكن أبقيناه) أشار بذلك إلى أن الاستثناء منقطع، وقدره بلكن على طريقة البصريين، وعند الكوفيين يقدر ببل، وقوله: (أبقيناه) إلى أقرب قيام الساعة، فعند ذلك يرفع من المصاحف والصدور لما في الحديث" لا تقوم الساعة حتى يرفع القرآن من حيث نزل، له دوي حول العرش، فيقول الله: ما لك؟ فيقول: أتلى فلا يعمل بي، ولا يرفع القرآن حتى تموت حملته العاملون به، ولا يبقى إلا لكع بن لكع، فعند ذلك يرفع من المصاحف والصدور، ويفيضون في الشعر، فتخرج الدابة، وتقوم القيامة بأثر ذلك "قوله: (حيث أنزله) علة لقوله: ﴿ إِنَّ فَضْلَهُ كَانَ عَلَيْكَ كَبِيراً ﴾.
قوله: (وغير ذلك) أي ككونك خاتم المرسلين، وسيد ولد آدم، ونحو ذلك.
قوله: ﴿ قُل لَّئِنِ ٱجْتَمَعَتِ ٱلإِنْسُ وَٱلْجِنُّ ﴾ اللام موطئة لقسم محذوف، وجوابه قوله: ﴿ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ ﴾ ولم يقل والملائكة، مع أنه معجز لهم أيضاً، لأنهم مسلمون منقادون، فلا يحتاج للرد عليهم. قوله: ﴿ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ ﴾ أي لأنه خارج عن طوق البشر، لأن الكلام على حسب علم المتلكم، وهو قد أحاط بكل شيء علماً، وقوله: ﴿ بِمِثْلِهِ ﴾ أي كلا أو بعضاً، قال بعضهم: إن أقل الإعجاز يقع بآية، قال البوصيري: أعجز الجن آية منه والإنس فهلا تأتي به البلغاءوقال بعضهم: إن أقل الإعجاز يكون بأقصر سورة، لأنه لم يكن في القرآن آية مفردة، بل الآية تستلزم مناسبة لما قبلها وما بعدها، فتكون ثلاث آيات. قوله: ﴿ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ ﴾ الخ، عطف على محذوف تقديره: لا يأتون بمثله، ولو لم يكن بعضهم لبعض ظهيراً، ولو كان الخ (قوله نزل رداً) الخ مرتبط بما قبله. قوله: ﴿ وَلَقَدْ صَرَّفْنَا ﴾ أي كررنا وأظهرنا، ومن زائدة في المفعول، أي صرفنا للناس كل مثل، والمثل المعنى الغريب. قوله: ﴿ فَأَبَىٰ أَكْثَرُ ٱلنَّاسِ ﴾ أي امتنعوا. قوله: (جحوداً للحق) الجحود الإنكار مع العلم والمعاندة، فهو أخص من مطلق إنكار. قوله: ﴿ وَقَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ ﴾ الخ، لما أقام الحجة عليهم ولم يستطيعوا ردها، أخذوا يطلبون أشياء على وجه العناد فقالوا ﴿ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ ﴾ الخ، روى عكرمة عن ابن عباس،" أن نفراً من قريش اجتمعوا بعد غروب الشمس عند الكعبة، وطلبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاءهم، فقالوا: يا محمد، إن كنت جئت بهذا الحديث، يعنون القرآن، تطلب به مالاً، جمعنا لك من أموالنا، حتى تكون أكثرنا مالاً، وإن كنت تريد الشرف سودناك علينا؛ وإن كنت تريد ملكاً ملكناك علينا، وإن كان هذا الذي بك رئياً من الجن تراه قد غلب عليك لا تستطيع رده، بذلنا لك أموالنا في طلب الطب حتى نبرئك منه، وكانوا يسمون التابع من الجن رئياً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما بي شيء مما تقولون، ولكن الله بعثني إليكم رسولاً، وأنزل علي كتاباً، وأمرني أن أكون بشيراً ونذيراً، فبلغتكم رسالة ربي ونصحت لكم، فإن تقبلوا مني، فهو حظكم من الدنيا والآخرة، وإن تردوه عليّ، أصبر لأمر الله عز وجل، حتى يحكم الله بيني وبينكم، فقالوا: يا محمد، إن كنت صادقاً فيما تقول، فسل لنا ربك الذي بعثك فليسير عنا هذا الجبل الذي قد ضيق علينا، ويبسط لنا بلاداً، ويفجر لنا فيها الأنهار "، إلى آخر ما قص الله عنهم. قوله: ﴿ حَتَّىٰ تَفْجُرَ ﴾ بضم التاء وفتح الفاء وتشديد الجيم مكسورة، وبفتح التاء وضم الجيم مخففة، قراءتان سبعيتان هنا فقط، وأما قوله فتفجر، فبالقراءة الأولى لا غير. قوله: ﴿ يَنْبُوعاً ﴾ أي عيناً لا يغور ماؤها ولا يذهب. قوله: ﴿ جَنَّةٌ ﴾ أي بستان. قوله: ﴿ كَمَا زَعَمْتَ ﴾ أي قلت: إن نشأ نخسف بهم الأرض، أو نسقط عليهم كسفاً من السماء. قوله: ﴿ كِسَفاً ﴾ بسكون السين وفتحها، قراءتان سبعيتان. قوله: ﴿ قَبِيلاً ﴾ حال من الله والملائكة، أي حال كونهم مرئيين لنا.
قوله: ﴿ أَوْ تَرْقَىٰ ﴾ هو بفتح القاف مضارع رقي بكسرها، والمصدر رقياً ومعناه الصعود الحسي، وأما في المعاني فبفتح القاف في الماضي والمضارع، يقال رقى في الخير، وأما الرقيا للمريض فماضيها رقى كرمى. قوله: (لو رقيت) بكسر القاف. قوله: ﴿ نَّقْرَؤُهُ ﴾ حال مقدره من الضمير في علينا أو نعت لكتاب. قوله: (تعجيب) أي من اقتراحاتهم، وتنزيه له سبحانه وتعالى عن أن يشاركه أحد في ألوهيته. قوله: ﴿ هَلْ كُنتُ إِلاَّ بَشَراً رَّسُولاً ﴾ أي وليس في طاقتي الإتيان بما تطلبونه. قوله: ﴿ وَمَا مَنَعَ ٱلنَّاسَ أَن يُؤْمِنُوۤاْ ﴾ أن وما دخلت عليه في تأويل مصدر مفعول ثان لمنع، والتقدير وما منع الناس الإيمان، وقوله: ﴿ إِلاَّ أَن قَالُوۤاْ ﴾ في تأويل مصدر فاعل ﴿ مَنَعَ ﴾.
وقوله: ﴿ إِذْ جَآءَهُمُ ٱلْهُدَىٰ ﴾ ظرف لقوله: ﴿ مَنَعَ ﴾ والمعنى لا يمنع الناس من الإيمان وقت مجيء الهدى لهم إلا قولهم ﴿ أَبَعَثَ ٱللَّهُ بَشَراً رَّسُولاً ﴾ وخص بالذكر مع أن الموانع لهم كثيرة لأنه أعظمها. قوله: ﴿ قُل ﴾ (لهم) أي رداً لشبهتهم. قوله: ﴿ لَوْ كَانَ فِي ٱلأَرْضِ مَلاۤئِكَةٌ ﴾ الخ. أي فجرت عادة الله في خلقه، أنه لا يرسل لخلقه رسولاً إلا من جنسهم، لأنهم يألفونه ويستطيعون خطابه، بخلاف ما إذا أرسل لهم رسولاً من غير جنسهم، فإنهم لا يستطيعون رؤيته ولا خطابه، لعدم الإلفة بينهم، فلو كان في الأرض ملائكة يمشون مثلكم وتألفونهم، لأنزل عليكم ملكاً رسولاً. قوله: ﴿ مُطْمَئِنِّينَ ﴾ أي مستوطنين بها، لا يعرجون إلى السماء. قوله: ﴿ شَهِيداً ﴾ أي على أني رسول الله إليكم، وقد بلغتكم ما أرسلت إليكم، وأنكم كذبتم وعاندتم. قوله: ﴿ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيراً بَصِيراً ﴾ فيه تسلية له صلى الله عليه وسلم، ووعيد للكفار.
قوله: ﴿ وَمَن يَهْدِ ٱللَّهُ ﴾ أي من يخلق فيه الهدى، وقوله: ﴿ فَهُوَ ٱلْمُهْتَدِ ﴾ أي يكون كذلك في الدنيا، بمعنى أنه يكون حاله في الدنيا مطابقاً لما قدره الله له أزلاً، وبذلك اندفع ما يقال: إن فيه اتحاد الشرط والجزاء، والمهتد بحذف الياء من الرسم هنا وفي الكهف، فإنها في الموضعين من ياءات الزوائد، وأما في النطق، فتحذف وصلاً ووقفاً عند بعض القراء، ووقفاً لا وصلا عند بعضهم. قوله: ﴿ فَلَن تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَآءَ ﴾ أي أنصاراً. قوله: ﴿ عَلَىٰ وُجُوهِهِمْ ﴾ الجار والمجرور متعلق بمحذوف حال من الهاء في ﴿ وَنَحْشُرُهُمْ ﴾ قدره المفسر بقوله: (ماشين)، روي عن أنس،" أن رجلاً قال: يا رسول الله، قال الله: الذين يحشرون على وجوههم إلى جهنم، أيحشر الكافر على وجهه؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أليس الذي أمشاه على الرجلين في الدنيا، قادراً على أن يمشيه على وجهه يوم القيامة "؟ وروي أيضاً:" يحشر الناس يوم القيامة ثلاثة أصناف: صنفاً مشاة، وصنفاً راكباً، وصنفاً على وجوههم، قيل يا رسول الله، وكيف يمشون على وجوههم؟ قال: " إن الذي أمشاهم على أقدامهم، قادر أن يمشيهم على وجوههم، أما إنهم يلقون بوجوههم كل حدب وشوك "والحدب ما ارتفع من الأرض. قوله: ﴿ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمّاً ﴾ أي لا يبصرون ولا ينطقون ولا يسمعون، إن قلت: كيف وصفهم الله بذلك هنا، وأثبت لهم ضد تلك الأوصاف في قوله:﴿ وَرَأَى ٱلْمُجْرِمُونَ ٱلنَّارَ ﴾[الكهف: ٥٣]،﴿ دَعَوْاْ هُنَالِكَ ثُبُوراً ﴾[الفرقان: ١٣]،﴿ سَمِعُواْ لَهَا تَغَيُّظاً وَزَفِيراً ﴾[الفرقان: ١٢]؟ أجيب: بأن المعنى عمياً لا يرون ما يسرهم، وبكماً لا يتكلمون بحجة، وصماً لا يسمعون ما يسرهم، أو المعنى يحشرون معدومي الحواس، ثم تعاد لهم. قوله: ﴿ مَّأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ ﴾ أي مسكنهم ومقرهم. قوله: ﴿ كُلَّمَا خَبَتْ ﴾ أصله خبوت كقعدت، تحركت الواو، وانفتح ما قبلها، قلبت الفاً، فالتقى ساكنان، حذفت الألف لالتقائهما. قوله: (سكن لهبها) أي بأن أكلت جلودهم ولحومهم. قوله: ﴿ زِدْنَاهُمْ سَعِيراً ﴾ أي بدلناهم جلود غيرها، فتعود ملتهبة متسعرة. قوله: ﴿ ذَلِكَ ﴾ أي ما ذكر من أن مأواهم جهنم، وإعادتهم بعد فنائهم. قوله: ﴿ وَقَالُواْ ﴾ معطوف على ﴿ كَفَرُواْ ﴾.
قوله: ﴿ خَلْقاً جَدِيداً ﴾ إما مصدر من معنى الفعل، أو حال أي مخلوقين. قوله: ﴿ أَوَلَمْ يَرَوْاْ ﴾ رد لإنكارهم البعث. قوله: ﴿ قَادِرٌ عَلَىٰ أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ ﴾ أي فلا يستبعد عليه إعادتهم بأعيانهم. قوله: (أي الأناسي) جمع إنسي وهو البشر. قوله: ﴿ وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلاً ﴾ معطوف على جملة ﴿ أَوَلَمْ يَرَوْاْ ﴾ فليس داخلا في حيز الإنكار. قوله: ﴿ لاَّ رَيْبَ فِيهِ ﴾ أي لا شك في ذلك الأجل. قوله: ﴿ قُل ﴾ لهم) أي شرحاً لحالهم التي يدعون خلافها حيث قالوا﴿ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّىٰ تَفْجُرَ لَنَا ﴾[الإسراء: ٩٠] الخ، أي لأجل أو ننبسط ونتسع في الرزق ونوسع على المقلين، فبين الله لهم، لأنهم لو ملكوا خزائن الله، لداموا على بخلهم وشحهم. قوله: ﴿ لَّوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ ﴾ يجوز أن المسألة من باب الاشتغال، و ﴿ أَنْتُمْ ﴾ مرفوع بفعل مقدر، يفسره الظاهر لأن لو لا يليها إلا الفعل ظاهراً أو مضمراً، والأصل لو تملكون، فحذف الفعل لدلالة ما بعده عليه، فانفصل الضمير وهو الواو. قوله: ﴿ إِذاً لأمْسَكْتُمْ ﴾ أي منعتم حق الله فيها. قوله: ﴿ خَشْيَةَ ٱلإِنْفَاقِ ﴾ علة للإمساك. قوله: (بخيلاً) أي ممسكاً عن بذل ما ينبغي فيما ينبغي، فالأصل في الإنسان الشح، والخارج عنه خالف أصله كما قال تعالى:﴿ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ ﴾[التغابن: ١٦].
قوله: ﴿ وَلَقَدْ آتَيْنَا ﴾ موطئة لقسم محذوف. قوله: ﴿ بَيِّنَاتٍ ﴾ إما منصوب بالكسرة صفة لتسع، أو مجرور بها صفة لآيات. قوله: (واضحات) أي ظاهرات دالة على صدقه. قوله: (وهي اليد) أي التي كان يضمها إليه ويخرجها، فتخرج بيضاء لها شعاع. قوله: (والعصا) أي التي يلقيها، فتصير حية عظيمة. قوله: (والطوفان) أي الماء حتى ملأ بيوتهم ومساكنهم، فكانوا لا يستطيعون أن يوقدوا ناراً أصلاً. قوله: (والجراد) أي فأكل زروعهم وحبوبهم. قوله: (والقمل) تقدم أنه قيل هو السوس، وقيل هو القمل المعروف. قوله: (والضفادع) أي فملأ بيوتهم وطعامهم وشرابهم. قوله: (والدم) أي فانقلبت مياههم دماً، حتى كادوا يموتون عطشاً. قوله: (والطمس) أي مسخ الأموال حجارة. قوله: (والسنين ونقص الثمرات) هذان شيء واحد، لأن نقص الثمرات لازم للسنين، وما ذكره المفسر في عد الآيات التسع هو المشهور، لأن هذه التسع هي التي ظهرت على يد موسى، تهديداً لفرعون وقومه رجاء إيمانهم، وقيل إن التسع هي: اليد والعصا والجراد والقمل والضفادع والدم وانفجار الماء من الحجر وانفلاق البحر ونتق الجبل وفيه بعد، لأن انفجار الماء من الحجر، وانفلاق البحر، ونتق الجبل، لم تكن مقصودة لفرعون، بل البحر كان لهلاكه، والباقي بعده، وقيل:" إن يهودياً سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عنها فقال: " إن لا تشركوا بالله شيئاً، ولا تسرقوا، ولا تزنوا، ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق، ولا تسحروا، ولا تأكلوا الربا، ولا تمشوا ببريء إلى ذي سلطان ليقتله، ولا تقذفوا محصنة، ولا تفروا من الزحف، وعليكم خاصة اليهود أن لا تعدوا في السبت "، فقبل اليهودي يده ورجله "، وعلى هذا فالمراد بالآيات، الأحكام التي كلفوا بها، وهي عامة ثابتة في جمع الشرائع، وقوله عليكم الخ، حكم زائد مخصوص باليهود. قوله: ﴿ فَسْئَلْ ﴾ (يا محمد) ﴿ بَنِي إِسْرَائِيلَ ﴾ أي ليكون قولهم الموافق لك حجة على المشركين، وعلى هذا، فالجملة معترضة بين قصة موسى وفرعون. قوله: (عنه) أي عن ما جرى بين موسى وفرعون. قوله: (سؤال تقرير) أي سؤالاً يترتب عليه التقرير من بني إسرائيل، وقوله: (للمشركين) اللام للتعليل أي لأجل المشركين، والمعنى اسأل يا محمد بني إسرائيل، عما جرى بين موسى وفرعون، ليكون ذلك داعياً لإيمان المشركين وانقيادهم. قوله: (أو فقلنا له) معطوف على قوله: (يا محمد)، والمعنى أن الخطاب لموسى، وحينئذ فيكون القول مقدراً، والمفعول محذوف، والتقدير اسأل فرعون بني إسرائيل، أي اطلبهم منه لنذهب بهم إلى الشام، يدل عليه قوله في الآية﴿ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِيۤ إِسْرَائِيلَ ﴾[الأعراف: ١٠٥].
قوله: (وفي قراءة) المناسب أن يقول وقرىء لأنها شاذة، وإنما القراءة السبعية بالأمر، وفيها وجهان الهمز وتركه، بنقل حركة الهمزة إلى الساكن. قوله: (بلفظ الماضي) أي بلا همز بوزن قال. قوله: ﴿ إِذْ جَآءَهُمْ ﴾ ظرف لآتينا على الاحتمال الأول، وعلى الثاني فقد تنازعه كل من آتينا وقلنا. قوله: ﴿ فَقَالَ لَهُ فِرْعَونُ ﴾ معطوف على مقدر، والتقدير إذ جاءهم فبلغهم الرسالة، ووقع بينهم ما وقع من المحاورات، فقال الخ. قوله: (مغلوباً على عقلك) أشار بذلك إلى أن ﴿ مَسْحُوراً ﴾ باق على معناه الأصل، أي أنك سحرت فغلب على عقلك، ويصح أن يكون بمعنى فاعل كمشؤوم، أي أظنك ساحراً لإتيانك بالغرائب والعجائب.
قوله: ﴿ لَقَدْ عَلِمْتَ ﴾ هو بفتح التاء خطاب لفرعون، أي فقال له موسى: يا فرعون والله لقد علمت أن هذه الآيات، ما أنزلها إلا رب السماوات والأرض عبراً، وإنما عناد، خوفاً على ضياع ملكك ورياستك. قوله: (وفي قراءة) أي وهي سبعية أيضاً، وقوله: (بضم التاء) أي والضمير لموسى، ويكون المعنى: لقد أيقنت وتحققت أن هذه الآيات التي جئت بها، منزلة من عند الله تعالى. قوله: ﴿ وَإِنِّي لأَظُنُّكَ ﴾ أي أتحققك وعبر بالظن مشاكلة، فإن ظن فرعون كذب، وظن موسى حق وصدق لظهور أماراته. قوله: (أو مصروفاً عن الخير) أي ممنوعاً منه. قوله: (يخرج موسى وقومه) أي بقتلهم جميعاً. قوله: ﴿ فَأَغْرَقْنَاهُ وَمَن مَّعَهُ جَمِيعاً ﴾ أي ففعلنا بهم ما أرادوه بموسى وقومه: ﴿ مِن بَعْدِهِ ﴾ أي بعد إغراقه. قوله: ﴿ ٱسْكُنُواْ ٱلأَرْضَ ﴾ أي أرض مصر والشام. قوله: (أي الساعة) أي القيامة ووعدها وقتها، وهو النفخة الثانية. قوله: ﴿ جِئْنَا بِكُمْ ﴾ أي أحييناكم وأخرجناكم من القبور. قوله: (جميعاً) أشار بذلك إلى أن ﴿ لَفِيفاً ﴾ اسم جمع لا واحد له من لفظه، وقيل مصدر لف لفيفاً، والمعنى جئنا بكم منضماً بعضكم لبعض. قوله: ﴿ وَبِٱلْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ ﴾ معطوف على قوله (ولقد صرفنا) وهذا على أسلوب العرب، حيث ينتقلون مما كانوا بصدده لشيء آخر، ثم يرجعون له، واختلف المفسرون في الحق الأول والثاني، فمشى المفسر على أن المراد بهما الحكم والمواعظ والأمثال التي اشتمل عليها القرآن، وإنما التكرير للتأكيد، إشارة إلى أنه لم يتغير ولم يتبدل إلى يوم القيامة، كما تغيرت التوراة والإنجيل، وقيل المعنى وما أنزلنا القرآن إلا بالحكمة المقتضية لإنزاله لا عبثاً، وما نزل إلا بالحكم والمواعظ، لاشتماله على الهداية إلى سبيل الرشاد، فالحق الأول كناية عن سبب نزوله، والحق الثاني هو ما اشتمل عليه من المعاني. قوله: (المشتمل عليه) أي المحتوي عليه القرآن. قوله: ﴿ إِلاَّ مُبَشِّراً وَنَذِيراً ﴾ حالان من الكاف في أرسلناك. قوله: (منصوب بفعل) أي فهو من باب الاشتغال، وعليه فجملة ﴿ فَرَقْنَاهُ ﴾ لا محل لها من الأعراب، والتنوين للتعظيم أي قرآناً عظيماً. قوله: ﴿ فَرَقْنَاهُ ﴾ هو بالتخفيف في القراءة المشهورة، وقرىء شذوذاً بالتشديد. قوله: (نزلناه مفرقاً) هذا أحد أقوال في تفسير قوله: ﴿ فَرَقْنَاهُ ﴾، وقيل بينا حلاله وحرامه، وقيل فرقنا به بين الحق والباطل. قوله: (أو وثلاث) أو لحكاية الخلاف، أي أنه اختلف في مدة نزول القرآن، هل هي عشرون سنة، أو ثلاث وعشرون، وهو المبني على الخلاف في تعاقب النبوة والرسالة وتقارنهما. قوله: ﴿ لِتَقْرَأَهُ ﴾ متعلق بفرقنا، وقوله: ﴿ عَلَى ٱلنَّاسِ ﴾ متعلق بتقرأه، وكذا قوله: ﴿ عَلَىٰ مُكْثٍ ﴾ ولا يلزم عليه تعلق حرفي جر متحدي اللفظ والمعنى بعامل واحد، لأن الأول في محل المفعول به، والثاني في محل الحال أي متمهلاً فاختلف المعنى. قوله: (مهل وتؤده) أي سكينة وتأن. قوله: (ليفهموه) أي ليسهل حفظه وفهمه. قوله: (على حسب المصالح) أي الوقائع التي تقتضي نزوله، فالحاصل أنه نزل مفرقاً لحكمتين: الأولى ليسهل حفظه، والثانية اقتضاء الوقائع، لذلك قال تعالى:﴿ وَلاَ يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلاَّ جِئْنَاكَ بِٱلْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً ﴾[الفرقان: ٣٣].
قوله: (تهديد لهم) أي فالمعنى أن إيمانكم لا يزيد القرآن كمالاً، وامتناعكم لا يورثه نقصاً.
قوله: ﴿ إِنَّ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْعِلْمَ ﴾ تعليل لقوله: ﴿ آمِنُواْ بِهِ أَوْ لاَ تُؤْمِنُوۤاْ ﴾ والمعنى إن لم تؤمنوا به، فقد آمن به من هو خير منك، وفيه تسلية له صلى الله عليه وسلم، أي لا تحزن على إعراضهم وعدم إيمانهم، وتسل بإيمان هؤلاء العلماء. قوله: (وهم مؤمنوا أهل الكتاب) أي كعبدالله بن سلام، وسلمان والنجاشي وأقرانهم. قوله: ﴿ لِلأَذْقَانِ ﴾ اللام بمعنى على، أو على بابها متعلقة بيخرّون، ويكون بمعنى يدلون، وخصت الأذقان بالذكر لأنها أول جزء من الوجه تقرب من الأرض عند السجود، و ﴿ سُجَّداً ﴾ حال، أي ساجدين لله على انجاز وعده الذي وعدهم به في الكتب القديمة، أنه يرسل محمداً صلى الله عليه وسلم، وينزل عليه القرآن. قوله: ﴿ وَيَقُولُونَ ﴾ أي في حال جودهم. قوله: (عن خلف الوعد) أي الذي رأيناه في كتبنا، بإنزال القرآن وإرسال محمد صلى الله عليه وسلم. قوله: (مخففة) أي واسمها ضمير الشأن، وقوله: ﴿ لَمَفْعُولاً ﴾ أي موفى ومنجزاً. قوله: (بزيادة صفة) أي وهي البكاء، ومراده بهذا دفع التكرار، وهو معنى قوله تعالى في سورة المائدة﴿ وَإِذَا سَمِعُواْ مَآ أُنزِلَ إِلَى ٱلرَّسُولِ تَرَىۤ أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ ٱلدَّمْعِ ﴾[المائدة: ٨٣] الخ. قوله: ﴿ وَيَزِيدُهُمْ ﴾ (القرآن) أي فالضمير يعود على القرآن، ويصح عوده على البكاء.
قوله: (وكان صلى الله عليه وسلم) أشار بذلك إلى سبب نزولها وحاصله" أنه سجد صلى الله عليه وسلم ذات ليلة، فجعل يقول في سجوده: يا الله، يا رحمن، فقال أبو جهل: إن محمداً ينهانا عن آلهتنا وهو يدعو إلهين "قوله: (إلهاً آخر) أي وهو الرحمن، ظناً منهم أن المراد به مسيلمة الكذاب، لأن قومه كانوا يسمونه رحمان اليمامة، قال بعضهم في حقه: سميت بالمجد يا ابن الأكرمين أباً وأنت غيث الورى لا زلت رحماناوهجاه بعض المسلمين بقوله: سميت بالخبث يا ابن الأخبثين أباً وأنت شر الورى لا زلت شيطاناقوله: (أي سموه بأيهما) أي اذكروا في غير نداء. قوله: (أو نادوه) تفسير ثان لقوله: ﴿ ٱدْعُواْ ﴾ فعلى الأول يكون ناصباً لمفعولين: أولهما محذوف تقديره معبودكم، وعلى الثاني يكون ناصباً لمفعول واحد. قوله: (بأن تقولوا يا الله يا رحمن) أشار بذلك إلى أن أسماء الله توقيفية، فلا يجوز لنا أن نسميه باسم غير وارد في الشرع، قال صاحب الجوهرة: واختبر أن أسماء توقيفية. قوله: ﴿ أَيّاً ﴾ (شرطية) أي منصوبة بتدعو، فهي عاملة ومعمولة، والمضاف إليه محذوف قدره المفسر بقوله: (أي هذين). قوله: ﴿ فَلَهُ ٱلأَسْمَآءَ ٱلْحُسْنَىٰ ﴾ هذه الجملة جواب الشرط، وهو ما اشتهر على ألسنة المعربين، وقدر المفسر جوابه بقوله: (فهو حسن) فتكون الجملة دليل الجواب، والأسماء جمع اسم، وهو اللفظ الدال على ذات المسمى، وأسماؤه تعالى كثيرة، قيل ثلاثمائة وقيل ألف وواحد، وقيل مائة ألف وأربعة وعشرون ألفاً، عدد الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، لأن كل نبي تمده حقيقة اسم خاص به، مع امداد بقية الأسماء له لتحققه بجميعها، وقيل ليس لها حد ولا نهاية لها على حسب شؤونه في خلقه، وهي لا نهاية لها، والحسنى إما مصدر وصف به، أو مؤنث أحسن، كأفضل وفضلى، فأفرد لأنه وصف جمع القلة لما لا يعقل، فيجوز فيه الإفراد والجمع، وإن كان الأحسن الجمع، قال الأجهوري: وجمع كثرة لما لا يعقل الأفصح الإفراد فيه يأفلوغيره فالأفصح المطابقة نحو هبات وأفرات لائقةوحسن أسمائه تعالى، لدلاتها على معان شريفة هي أحسن المعاني، لأن معناها ذات الله أو صفاته. قوله: (كما في الحديث) أي ونصبه" إن لله عز وجل تسعة وتسعين اسماً، من أحصاها دخل الجنة، هو الله الذي لا إله إلا هو "" إلى آخر الرواية التي ذكرها المفسر واختارها، وإن كان الحديث وارداً بأوجه خمسة، لكونها أصح الروايات الواردة، ومنها:" إن لله تسعة وتسعين اسماً، مائة غير واحد، إنه وتر يحب الوتر، وما من عبد يدعو بها إلا وجبت له الجنة "ومنه:" إن " لله تسعة وتسعون اسماً، من احصاها كلها دخل الجنة، أسأل الله تعالى، الرحمن الرحيم، الإله الرب "إلى آخره. ومنها:" إن لله عز وجل، تسعة وتسعون اسماً، مائة إلا واحداً، إنه وتر، يحب الوتر، من حفظها دخل الجنة، الله الواحد الصمد "الخ. ومنها:" إن لله تعالى مائة اسم غير اسم، من دعا بها استجاب الله له "وكلها في الجامع الصغير، في حرف الهمزة مع النون، عن علي، وعن أبي هريرة، والحفظ والاحصاء عند أهل الظاهر، معرفة ألفاظها ومعانيها، وعند أهل الله، هو الاتصاف بها، والظهور بحقائقها، والعثور على مدارج نتائجها. قوله: (هو) ليس من الأسماء الحسنى، بل هو عند أهل الظاهر ضمير شأن يفسره ما بعده، وعند أهل الله اسم ظاهر يتعبدون بذكره، وعلى كل فهو زائد على التسعة والتسعين. قوله: (الله) هو أعظم الأسماء المذكورة، لكونه جامعاً لجميع الأسماء والصفات، وهو علم الذات الواجب المسمى لجميع المحامد، وأل لازمة له، لا لتعريف ولا غيره، وهو ليس بمشتق على الصحيح. قوله: (الذي لا إله إلا هو) نعت للاسم الجليل، أي الذي لا معبود غيره. قوله: (الرحمن) أي المنعم بجلائل النعم، كما وكيفاً، دنيوية وأخروية، ظاهرة وباطنة. قوله: (الرحيم) أي المنعم بدقائق النعم كماً وكيفاً، دنيوية وأخروية، ظاهرية وباطنية، والدقائق ما تفرعت عن الجلائل، كالزيادة في الإيمان، والعلم والمعرفة والتوفيق والعافية والسمع والبصر. قوله: (الملك) أي المتصرف في خلقه بالإيجاد والإعدام وغير ذلك، وتسمية غيره به مجاز. قوله: (القدوس) أي المنزه عن صفات الحوادث، وأتى به عقب الملك، لدفع توهم يطرأ عليه نقص كالملوك. قوله: (السلام) أي المؤمن من المخاوف والمهالك، أو الذي يسلم على عباده. قوله: (المؤمن) أي المصدق لرسله بالعجزات، ولأوليائه بالكرامات، ولعباده المؤمنين على ايمانهم واخلاصهم، لأنه لا يطلع على الأخلاص نبي مرسل ولا ملك مقرب، وإنما يعلم من الله. قوله: (المهيمن) أي المطلع على خطرات القلوب. قوله: (العزيز) من عز بمعنى غلب وقهر، فهو من صفات الجلال، أو من عز بمعنى قل، فلم يوجد له مثيل ولا نظير، فهو من صفات السلوب. قوله: (الجبار) أي المنتقم القهار، فيكون من صفات الجلال أو المصلح للكسر، يقال: جبر الطبيب الكسر أصلحه، فيكون من صفات الجمال. قوله: (المتكبر) من الكبرياء وهو التعالي في العظمة، وهي مختصة به تعالى، لما في الحديث القدسي:" العظمة إزاري، والكبرياء ردائي، فمن نازعني فيهما قصمته "قوله: (الخالق) أي الموجد للمخلوقات من العدم. قوله: (البارىء) أي المبرىء من الأسقام، أو المظهر لما في الغيب، من برىء بمعنى أظهر ما كان خفياً، فيرجع لمعنى الخالق. قوله: (المصور) أي المبدع للأشكال على حسب إرادته، فأعطى كل شيء من المخلوقات، صورة خاصة، وهيئة منفردة، يتميز بها على اختلافها وكثرتها. قوله: (الغفار) إما مأخوذ من الغفر بمعنى الستر، لأنه يستر على عباده قبائحهم، فيحجبها في الدنيا على الآدميين، وفي الآخرة عن الملائكة، ولو كانت موجودة في الصحف، أو من الغفر بمعنى المحو من الصحف، وهو مرادف للغفور والغافر، وقيل: إن الغافر هو الذي يغفر بعض الذنوب، والغفور الذي يغفر أكثرها، والغفار الذي يغفر جميعها، والصحيح الأول، لأنه لا مبالغة في أسماء الله، بل صيغتها صيغة نسبة، كتمار نسبة للتمر. قوله: (القهار) أي ذو البطش الشديد، فهو من صفات الجلال. قوله: (الوهاب) أي ذو الهبات العظيمة لغير غرض ولا علة، فالطاعات لا تزيد في ملكه شيئاً، وإنما رتب الثواب عليها من فضله وكرمه، وهذا الاسم من صفات الجمال. قوله: (الرزاق) أي معطي الأرزاق لعباده، دنيا وأخرى، قال تعالى:﴿ وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي ٱلأَرْضِ إِلاَّ عَلَى ٱللَّهِ رِزْقُهَا ﴾[هود: ٦] وهو بمعنى الرزاق، والرزق قسمان: ظاهر وهو الأقوات من طعام وشراب ونحو ذلك، وباطن وهو العلوم والأسرار والمعارف، فالأول رزق الأبدان، والثاني رزق الأرواح، وكل من عند ربنا. قوله: (الفتاح) أي ذو الفتح لما كان مغلوقاً، حسياً أو معنوياً، فهو المسهل لكل عسير، من خيري الدنيا والآخرة، فضلاً منه وإحساناً، وهذا وما قبله من صفات الجمال. قوله: (العليم) أي ذو العلم، وهو صفة أزلية قائمة بذاته تعالى، تتعلق بالواجبات والجائزات والمستحيلات، تعلق احاطة وانكشاف، لا يوصف بنظر ولا ضرورة ولا كسب. قوله: (القابض) أي ذو القبض ضد البسط، فهو جل وعز، قابض للأرزاق والأرواح وغير ذلك، فيكون من صفات الجلال. قوله: (الباسط) أي ذو البسط ضد القبض، فهو سبحانه وتعالى باسط الأرزاق في الدنيا والآخرة والقلوب وغير ذلك، قال تعالى:﴿ وَٱللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ ﴾[البقرة: ٢٤٥] وهذان الاسمان يظهر أثرهما في العبيد. وللعارفين مقدمات في القبض والبسط، فالمبتدىء يسمون تجليه قبظاً وبسطاً، والمتوسط يسمونه أنساً وهيبة، والكامل يسمونه جلالاً وجمالاً. قوله: (الخافض) أي لمن أراد خفضه، أي فهو خافض لكلمة الكفر وللظالمين ولكل متكبر وغير ذلك. قوله: (الرافع) أي ذو الرفع لأهل الإِسلام والعلماء والصديقين والأولياء والسماوات والجنة وغير ذلك من الحسي والمعنوي، والأول من صفات الجلال، والثاني من صفات الجمال. قوله: (المعز) أي خالق العز لمن يشاء من خلقه. قوله: (المذل) أي خالق الذل لمن أراد من عباده، والأول من صفات الجمال، والثاني من صفات الجلال. قوله: (السميع) أي ذو السمع، وهو صفة أزلية تتعلق بجميع الموجودات، تعلق احاطة وانكشاف. قوله: (البصير) أي ذو البصر، وهو صفة أزلية تتعلق بجميع الموجودات، تعلق احاطة وانكشاف، فهي مساوية في التعلق لصفة السمع، ولا يعلم حقيقة اختلافهما إلا الله تعالى، وهما مخالفان لتعلق العلم، لأن العلم يتعلق بالمعدومات والموجودات، وهما إنما يتعلقان بالموجودات فقط، وكل منها منزه عن صفات الحوادث، قال بعض العارفين: من أراد خفاء نفسه عن أعين الناس بحيث لا يرونه، فليقرأ عند مروره عليهم﴿ لاَّ تُدْرِكُهُ ٱلأَبْصَٰرُ وَهُوَ يُدْرِكُ ٱلأَبْصَٰرَ وَهُوَ ٱللَّطِيفُ ٱلْخَبِيرُ ﴾[الأنعام: ١٠٣] تسع مرات. قوله: (الحكم) أي ذو الحكم التام. قوله: (العدل) أي ذو العدل أو العادل، فلم يظلم مثقال ذرة، فأحكام الله لا جور فيها، بل دائرة بين الفضل والعدل، لأن الجور التصرف في ملك الغير بغير إذنه، ولا ملك لأحد معه، وأردف الحكم بالعدل، دفعاً لتوهم أن حكمه تارة يكون بالعدل، وتارة يكون بالجور. قوله: (اللطيف) أي العالم بخفيات الأمور، أو معطي الإحسان في صورة الامتحان، كإعطاء يوسف الصديق الملك في صورة الابتلاء لرقيه، وآدم الفوز الأكبر في صورة ابتلائه بأكله من الشجرة واخراجه من الجنة، ونبينا صلى الله عليه وسلم الفتح والنصر المبين في صورة ابتلائه بإخراجه من مكة، وهي سنة الله في عباده الصالحين.- فائدة - من قرأ قوله تعالى:﴿ ٱللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ وَهُوَ ٱلْقَوِيُّ ٱلْعَزِيزُ ﴾[الشورى: ١٩] في كل يوم تسع مرات، لطف الله به في أموره، ويسر له رزقاً حسناً، وكذلك من أكثر من ذكر اللطيف. قوله: (الخبير) أي المطلع على خفيات الأشياء، فيرجع لمعنى اللطيف على التفسير الأول، أو القادر على الإخبار بما عجزت عنه المخلوقات، قال بعضهم: من أراد أن يرى شيئاً في منامه، فليقرأ قوله تعالى﴿ أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ ٱللَّطِيفُ ٱلْخَبِيرُ ﴾[الملك: ١٤] تسع مرات عند نومه. قوله: (الحليم) هو الذي لا يعجل بالعقوبة على من عصاه وكفر به بل يمهله، فإن تاب محا عنه خطاياه، ومن أقبح ما تقول العامة: حلم ربنا يفتت الكبود، إذ معناه اعتراض على سعة حلمه، ولا يدرون أنه لولا حلمه علينا لخسف بنا، فسعة حلمه من أجلّ النعم علينا، قال العارف: الحمد لله على حلمه بعد علمه، وعلى عفوه بعد قدرته. قوله: (العظيم) أي الذي يصغر كل شيء عند ذكره، ولا يحيط به إدراك، ولا يعلم كنه حقيقته سواه، ففي الحديث:" سبحان من لا يعلم قدره غيره، ولا يبلغ الواصفون صفته "، فهو من الصفات الجامعة. قوله: (الغفور) تقدم معناه عند تفسيره اسمه الغفار. قوله: (الشكور) أي الذي يشكر عباده، أي يثني عليهم في الدنيا والآخرة، فيعطي الثواب الجزيل على العمل القليل، ويرفع ذكرهم في الملإ الأعلى. قوله: (العلي) أي المرتفع المنزه عن كل نقص، المتصف بكل كمال، المستغني عن كل ما سواه، المفتقر إليه كل ما عداه. قوله: (الكبير) هو والعظيم بمعنى واحد قوله: (الحفيظ) أي الحافظ للعالم العلوي والسفلي، دنيا وأخرى، قال تعالى:﴿ إِنَّ رَبِّي عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ ﴾[هود: ٥٧].
قوله: (المقيت) أصله المقوت، نقلت حركة الواو إلى الساكن، قبلها فقلبت الواو ياء لمناسبة ما قبلها، أي خالق القوت للأجساد والأرواح، دنيا وأخرى، وقوت الأجسام: الطعام والشراب ونفعها بذلك وتلذذها به، وقوت الأرواح: الإيمان والأسرار والمعارف وانتفاعهل بها، والكافر لا قوت لروحه. قوله: (الحسيب) أي الكافي من توكل عليه، أو الشريف الذي كل من دخل حماه تشرف، أو المحاسب لعباده على النقير والفتيل والقطمير، في قدر نصف يوم من أيام الدنيا أو أقل. قوله: (الجليل) أي العظيم في الذات والصفات والأفعال، فيرجع لمعنى العظيم والكبير. قوله: (الكريم) أي المعطي من غير سؤال، أو الذي عم عطاؤه الطائع والعاصي. قوله: (الرقيب) أي المراقب الحاضر المشاهد لكل مخلوق المتصرف فيه، وهو أعم من المهيمن، لأنه المطلع على خطرات القلوب، والرقيب المطلع على الظاهر والباطن. قوله: (المجيب) أي لدعوة الداعي، قال تعالى:﴿ ٱدْعُونِيۤ أَسْتَجِبْ لَكُمْ ﴾[غافر: ٦٠].
وفي الحديث:" ما من عبد يقول يا رب إلا قال الله لبيك يا عبدي "قوله: (الواسع) السعة في حقه تعالى، ترجع لنفي الأولية والآخروية والإحاطة، فهو من صفات السلوب، أو يراد منها: أن رحمته وسعت كل شيء، فيكون من صفات الجمال. قوله: (الحكيم) أي ذو الحكمة، وهي العلم التام والصنع المتقن. قوله: (الودود) أي المحبب لعباده الصالحين المحبين الراضي عليهم، قال تعالى:﴿ هَلْ جَزَآءُ ٱلإِحْسَانِ إِلاَّ ٱلإِحْسَانُ ﴾[الرحمن: ٦٠] أو الودود بمعنى المحبوب، لأنه محب ومحبوب، فمحبته لعباده: إنعامه عليهم، أو إرادة إنعامه، فترجع لمعنى الرضا، ومحبة عباده له: ميلهم إليه، وشغلهم به عمن سواه. قوله: (المجيد) أي الشريف، ومثله الماجد. قوله: (الباعث) أي الذي يبعث الأموات، أي يحييهم للحساب، ويبعث الرسل لعباده، لإقامة الحجة عليهم، والأرزاق الدنيوية والأخروية. قوله: (الشهيد) أي المطلع على الظاهر والباطن، فيرجع لمعنى الرقيب، وأما قوله تعالى:﴿ عَٰلِمُ ٱلْغَيْبِ وَٱلشَّهَٰدَةِ ﴾[الأنعام: ٧٣] فتسميته غيباً بالنسبة لنا، وإلا فالكل شهادة عنده. قوله: (الحق) أي الثابت الذي لا يقبل الزوال، أزلا ولا أبداً، فيرجع لمعنى واجب الوجود. قوله: (الوكيل) أي المتولي أمور خلقه، دنيا وأخرى. قوله: (القوي) أي ذو القدرة التامة، التي يوجد بها كل شيء ويعدمة على طبق مراده. قوله: (المتين) أي صاحب القوة العظيمة التي لا تعارض، ولا يعتريها نقص ولا خلل. قوله: (الولي) أي الموالي والمتابع للإحسان لعبيده، أو المتولي للخير والشر، بمعنى صدور الكل منه، فيرجع لمعنى الوكيل، ويشهد للأول قوله تعالى:﴿ ٱللَّهُ وَلِيُّ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ﴾[البقرة: ٢٥٧] الآية، وللثاني قوله تعالى:﴿ أَمِ ٱتَّخَذُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَآءَ ﴾[الشورى: ٩] فالله هو الولي، وأما الولي من الخلق، فمعناه الموالي لطاعة ربه، والمداوم عليها، أو من تولى الله أمره، فلم يكله لغيره. وقوله: (الحميد) أي المحمود، أي المستحق الحمد كله، والحمد لعبيده الصالحين، ولنفسه بنفسه. قوله: (المحصي) أي الضابط لعدد مخلوقاته، جليلها وحقيرها، قال تعالى:﴿ وَأَحْصَىٰ كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً ﴾[الجن: ٢٨].
قوله: (المبدىء) بالهمزة أي المنشىء من العدم إلى الوجود، وأما بغير همزة فمعناه المظهر، وليس مراداً هنا لكون الرواية بالهمزة. قوله: (المعيد) أي الذي يعيد الخلق بعد انعدامهم، قال تعالى:﴿ وَهُوَ ٱلَّذِي يَبْدَؤُاْ ٱلْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ﴾[الروم: ٢٧] وهو أهون عليه، واختلف أهل السنة في تلك الإعادة، قيل عن عدم محض، وقيل عن تفريق أجزاء، قال صاحب الجوهرة: وقل يعاد الجسم بالتحقيق عن عدم وقيل عن تفريققوله: (المحيي) أي المقوم للأبدان بالأرواح للخلائق من العدم، أي الناقل لهم من حالة العدم لحالة الحياة. قوله: (المميت) أي الخالق للموت، وهو عدم الحياة عما من شأنه الحياة، قال تعالى:﴿ خَلَقَ ٱلْمَوْتَ وَٱلْحَيَاةَ ﴾[الملك: ٢].
قوله: (الحي) أي ذو الحياة، وهي في حقه تعالى، صفة أزلية قائمة بذاته يستلزمها اتصافه بالمعاني والمعنوية. قوله: (القيوم) أي القائم بذاته تعالى، المستغني عن غيره، أي المقوم لغيره بقدرته، فهو المتصرف في العالم دنيا وأخرى. قوله: (الواجد) أي الغني، من الوجدان، وهو عدم نفاد الشيء، بمعنى أنه لو أغنى الخلق جميعاً، وأعطاهم سؤلهم، لم ينقص من ملكه، إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر. قوله: (الماجد) هو بمعنى المجيد المتقدم، وهو الشريف أو واسع الكرم. قوله: (الواحد) أي الذي لا ثاني به في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله فهو مستلزم لنفي الكموم الخمسة: المتصل والمنفصل في الذات، والمتصل والمنفصل في الصفات، والمنفصل في الأفعال، والمتصل فيها لا ينفى، بل هو تعلق القدرة والإرادة في سائر الكائنات ايجاداً واعداماً، فلا غاية له، قال تعالى:﴿ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ ﴾[الرحمن: ٢٩] أي كل لحظة ولمحة في شؤون يبديها ولا يبتديها، والوحدة في غيره نقص، وفي حقه كمال، كما ورد أنه واحد لا من قلة، بل وحدة تعزز وانفراد وتكبر، لانعدام الشبيه والنظير والمثيل، وفي بعض النسخ زيادة لفظ الأحد، وهو بمعنى الواحد، والصواب اسقاطه، لأنه ليس ثابتاً في حديث الترمذي الذي نسب الحديث إليه. قوله: (الصمد) أي الذي يقصد في الحوائج، فهو كالدليل للوحدانية. قوله: (القادر) أي ذو القدرة التامة، وهي صفة أزلية قائمة بذاته تعالى، تتعلق بالممكنات ايجاداً واعداماً على وفق الإرادة. قوله: (المقتدر) مبالغة في القدرة التي لا شبيه لها ولا مثيل ولا نظير، فيرجع لمعنى القوي المتين. قوله: (المقدم) بكسر الدال، أي لمن أراد من عباده. قوله: (المؤخر) أي لمن أراد تأخيره، قال تعالى:﴿ قُلِ ٱللَّهُمَّ مَالِكَ ٱلْمُلْكِ تُؤْتِي ٱلْمُلْكَ مَن تَشَآءُ وَتَنزِعُ ٱلْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَآءُ ﴾[آل عمران: ٢٦] الآية. قوله: (الأول) أي الذي لا افتتاح لوجوده. قوله: (الآخر) أي الذي لا انتهاء لوجوده. قوله: (الظاهر) أي الذي ليس فوقه شيء، ولا يغلبه شيء، أو الظاهر بآثاره وصنعه، ومن الحكم: هذه آثارنا تدل علينا، قال تعالى:﴿ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ ﴾[الرحمن: ٢٩].
قوله: (الباطن) أي الذي ليس أقرب منه شيء، أو الذي تحجب عنا بجلاله وهيبته، فلا تراه الأبصار في الدنيا، ولا تدرك حقيقته لأحد، دنيا ولا أخرى، وقد جمعت هذه الأسماء الأربعة في قوله صلى الله عليه وسلم:" اللهم أنت الأول فليس قبلك شيء، وأنت الآخر فليس بعدك شيء، وأنت الظاهر فليس فوقك شيء، وأنت الباطن فليس دونك شيء، اقض عنا الدين وأغننا من الفقر "قوله: (الوالي) أي المتولي على عباده، بالتصرف والقهر والإيجاد والإعدام، فيرجع لمعنى الملك. قوله: (المتعالي) أي أي المنزه عن صفات الحوادث، فيرجع لمعنى القدوس، وأتى به عقب الوالي، لدفع توهم طرو نقص عليه كالولاة. قوله: (البر) أي المحسن لعباده، الطائعين والعاصين. قوله: (التواب) أي كثير التوبة لعباده المذنبين، أي يقبل توبتهم إن تابوا، أو الذي يخلق التوبة في العبد فتظهر فيه، قال تعالى:﴿ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوۤاْ إِنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلتَّوَّابُ ٱلرَّحِيمُ ﴾[التوبة: ١٨]، وقال تعالى:﴿ وَهُوَ ٱلَّذِي يَقْبَلُ ٱلتَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُواْ عَنِ ٱلسَّيِّئَاتِ ﴾[الشورى: ١١٨].
قوله: (المنتقم) أي المرسل للنقم والعذاب على الكفار والجبابرة، الذين ماتوا مصرين على ذلك، فهو من صفات الجلال كقهار. قوله: (العفو) أي الذي لا يؤاخذ المذنب بالذنوب، بل يمحوها ويبدلها بحسنات. قوله: (الرؤوف) من الرأفة وهي شدة الرحمة، ومعناها بحقه تعالى: الانعام أو إرادته. قوله: (مالك الملك) أي المتصرف فيه على ما يريد ويختار، قال تعالى:﴿ يَحْكُمُ لاَ مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ ﴾[الرعد: ٤١].
قوله: (ذو الجلال) أي صاحب الهيبة والعظمة، وقوله: (والإكرام) أي الانعام والاحسان. قوله: (المقسط) أي الذي يحكم بالانصاف بين خلقه، وضده القاسط بمعنى الجائر. قوله: (الجامع) أي لكل كمال أو للخلق يوم القيامة، قال تعالى:﴿ وَهُوَ عَلَىٰ جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَآءُ قَدِيرٌ ﴾[الشورى: ٢٩] أو ما هو أعم وهو أولى. قوله: (الغني) أي ذو الغنى المطلق، وهو المستغني عن كل ما سواه، المفتقر إليه كل ما عداه. قوله: (المغني) أي المعطي الغنى لمن يشاء، دنيا وأخرى، قال تعالى:﴿ وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنَىٰ وَأَقْنَىٰ ﴾[النجم: ٤٨].
قوله: (المانع) أي الرافع عن عبيد المضار الدنيوية والأخروية، قال تعالى:﴿ إِنَّ ٱللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ ﴾[الحج: ٣٨]﴿ وَلَوْلاَ دَفْعُ ٱللَّهِ ٱلنَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ ٱلأَرْضُ ﴾[البقرة: ٢٥١].
قوله: (الضار) أي خالق الضر ضد النفع، وهو إيصال الشر لمن شاء من عباده. قوله: (النافع) أي خلق النفع ضد الضر، وهو إيصال الخير لمن شاء من عباده، دنيا وأخرى. قوله: (النور) أي الظاهر في نفسه المظهر لغيره، أو خالق النور. قوله: (الهادي) أي خالق الهدى والرشاد، الموصل له من أحب من عباده. قوله: (البديع) أي المبدع والمحكم كل شيء صنعه، أو المخترع الأشياء على غير مثال سابق. قوله: (الباقي) أي الدائم الذي لا يزول ولا يحول. قوله: (الوارث) أي الباقي بعد فناء خلقه، أو الذي يرجع إليه كل شيء، قال تعالى:﴿ إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ ٱلأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ ﴾[مريم: ٤٠]﴿ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ ﴾[القصص: ٨٨]﴿ أَلاَ إِلَى ٱللَّهِ تَصِيرُ ٱلأُمُورُ ﴾[الشورى: ٥٣].
قوله: (الرشيد) أي صاحب الرشد، وهو الذي يضع الشيء في محله، أو خالق الرشد في عباده، فيرجع لمعنى الهادي. قوله: (الصبور) أي الذي لا يعجل بالعقوبة على من عصاه، فيرجع لمعنى الحليم، والله أعلم بحقيقة معاني أسمائه وأسرارها. قوله: (رواه الترمذي) أي عن أبي هريره، وأعلم أن للعارفين في استعمال هذه الأسماء طرقاً، فمنهم من يستعملها نثراً، ومنهم من يستعملها نظماً، كالشيخ الدمياطي، وسيدي مصطفى البكري، وغيرهما، وأجل ما تلقيناه، منظومة أستاذنا بركة الوقت والزمان، وإمام العصر والأوان، القطب الشهير والشهاب المنير، أبو البركات، مهبط الرحمات، الذي عم فضله الكبير والصغير، شيخنا الشيخ أحمد بن محمد الدردير، فإنها عديمة النظير، لاحتوائها على الدعوات الجامعة، والأسرار اللامعة، بمظاهر تلك الأسماء، وهي آخر العلوم الإلهية التي ظهرت على لسانه، وقد ألقيت عليه في ليلة واحدة، فقام من فراشه وكتبها، وكان يقرؤها في كل يوم وليلة ثلاث مرات، فمن أراد الفوز الأكبر، والظفر بالمقصود، من خيري الدنيا والآخرة، فعليه بحفظها والمواظبة عليها، صباحاً ومساء، ومن أراد الاطلاع على بعض معانيها وفوائدها، فعليه بشرحنا عليها، فإن فيه النفع التام إن شاء الله تعالى. قوله: ﴿ وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاَتِكَ ﴾ سبب نزولها كما قال ابن عباس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان مختفياً بمكة، وكان إذا صلى بأصحابه، رفع صوته بالقرآن، فإذا سمعه المشركون، سبوا القرآن ومن أنزله ومن جاء به، فقال الله لنبيه ﴿ وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاَتِكَ ﴾ أي بقراءتك، ولا تخافت بها عن أصحابك فلا تسمعهم، وابتغ بين ذلك سبيلاً، وهذا الأمر قد زال من يوم إسلام عمر والحمزة فهو منسوخ، فللمصلي الجهر في الصلاة الجهرية، ولا يزيد على سماع المأمومين، وقيل نزلت في الدعاء، وروي ذلك عن عائشة وجماعة، ومثل الدعاء سائر الأذكار، فلا يجهر بها، ولا يخافت بها، بل يكون بين ذلك قواماً، وعلى هذا القول فالآية غير منسوخة، بل العمل بها، مستمر. قوله: ﴿ وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا ﴾ المخافتة عدم رفع الصوت، يقال خفت الصوت إذا سكن. قوله: (لينتفع أصحابك) علة للنهي عن المخافتة. قوله: ﴿ وَقُلِ ٱلْحَمْدُ لِلَّهِ ﴾ أي لم يكن له ولد لاستحالته عليه. قوله: (الألوهية) أي لم يكن له مشارك في ألوهيته، إذ لو كان معه مشارك فيها، لما وجد شيء من العالم، قال تعالى:﴿ لَوْ كَانَ فِيهِمَآ آلِهَةٌ إِلاَّ ٱللَّهُ لَفَسَدَتَا ﴾[الأنبياء: ٢٢] وقال تعالى:﴿ مَا ٱتَّخَذَ ٱللَّهُ مِن وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَـهٍ إِذاً لَّذَهَبَ كُلُّ إِلَـٰهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلاَ بَعْضُهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ ﴾[المؤمنون: ٩١].
قوله: ﴿ وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ وَلِيٌّ مِّنَ ٱلذُّلِّ ﴾ أي لم يكن له ناصر يمنع عنه الذل، لاستحالته عليه عقلاً، واستفيد من الآية أن له أولياء، لا من أجل الذل، بمعنى أنه ينصرهم ويتولى أمورهم، مع استغنائه عنهم كاستغنائه عن الكفار، وإنما اختيارهم وتسميتهم أولياء وأحباباً، فمن فضله واحسانه، وكما أنه يستحيل عليه الولي، بمعنى الناصر له من الذل، يستحيل عليه العدو، بمعنى الموصل الأذى إليه، وأما بمعنى أنه مغضوب عليه وليس راضياً بأفعاله غهو واقع. قوله: (أي لم يذل) أي لم يجر عليه وصف الذل، لا بالفعل ولا بالقوة. قوله: (عظمة عظمة) أي نزهه عن كل نقص. قوله: (وترتيب الحمد) الخ، دفع بذلك ما يقال: إن المقام للتنزيه لا للحمد، لأن الحمد يكون في مقابلة نعمه، وهنا ليس كذلك. أجيب: بأن الله كما يستحق الحمد لأوصافه، يستحقه لذاته. قوله: (آية العز) أي التي من قرأها مؤمناً بها حصل له العز والرفعة، وورد في عدة استعمالها، أنها ثلاثمائة وأحد وخمسون كل يوم، ويقول قبلها: توكلت على الحي الذي لا يموت، الحمد لله الذي لم يتخذ ولداً إلى آخرها. قوله: (جلال الدين المحلي) كان على غاية من العلم والعمل والزهد والورع والحلم، حتى كان من أخلاقه أنه يقضي حوائج بيته بنفسه، مع كونه كان عنده الخدم والعبيد. قوله: (وقد أفرغت فيه) والضمير عائد على ما في قوله: (آخر ما كملت به) وكذا بقية الضمائر. قوله: (جهدي) بفتح الجيم وضمها أي طاقتي. قوله: (وبذلت فكري) الفكر قوة في النفس، يحصل بها التأمل. قوله: (في نفائس) أي دقائق ونكات مرضية. قوله: (أراها) بفتح الهمزة وضمها. قوله: (تجدي) أي تنفع. قوله: (قدر ميعاد الكليم) أي وهو أربعون يوماً، لأنه سيأتي أنه ابتدأ فيه أول يوم رمضان، وختمه لعشرة من شوال، وفي ذلك إشارة إلى أن في هذه المدة، حصل لموسى الفتح، وإعطاء التوراة وهي كلام الله، فقد خلعت عليّ خلعة من خلعه، حيث فتح عليّ في تلك المدة، بخدمة كلام الله، والأخبار بذلك من باب التحدث بالنعمة، فإن هذا الزمن عادة، لا يسع هذا التأليف إلا بعناية من الله، سيما مع صغر سن الشيخ حينئذ، فإنه كان عمره أقل من ثنتين وعشرين سنة بشهور. قوله: (وهو) أي ما كملت به. قوله: (مستفاد من الكتاب المكمل) هذا تواضع من الشيخ، وإشارة إلى أنه حذا حذوه واقتفى أثره، فالشيخ المحلي قدس الله روحه، قد سن سنة حسنة لليخ السيوطي، فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة. قوله: (وعليه) أي الشيخ أو الكتاب المكمل، وهو متعلق بمحذوف خبر مقدم، و(الاعتماد) مبتدأ مؤخر، وقوله: (في الآي) الخ، متعلق بالاعتماد (المعول) معطوف على الاعتماد، عطف مرادف. قوله: (بعين الانصاف) إما على حذف مضاف، أي بعين صاحب الانصاف، أو في الكلام استعارة بالكناية، حيث شبه الانصاف بإنسان ذي عين، وطوى ذكر المشبه به، ورمز له بشيء من لوازمه وهو العين، فإثباته تخييل واحترز بعين الانصاف من عين الاعتساف، فإنها لا ترى محاسن أصلاً كما قال العارف: وعين الرضا عن كل عيب كليلة كما أن عين السخط تبدي المساوياقوله: (ووقف على خطأ) أي اطلع عليه. قوله: (فأطلعني) أي دلني عليه وعرفني به. قوله: (وقد قلت) أي شاكراً لله سالكاً سبيل الاعتذار. قوله: (إذ هداني) أي لأجل هدايته لي. قوله: (لما أبديت) متعلق بهداني. قوله: (فمن لي بالخطأ) أي من يتكفل لي بإظهار الخطأ. قوله: (فأرد عنه) أي أجيب عنه أو أصلحه. قوله: (ومن لي بالقبول) أي من يبشرني بالقبول من الله لهذا التأليف ولو حرفاً، لأن القبول من رحمة الله ومن رحمه لا يعذبه. قوله: (هذا) أي افهم وتأمل ما ذكرته لك. قوله: (في خلدي) بفتحتين معناه البال والقلب. قوله: (لذلك) أي لتأليف تلك التكملة. قوله: (المسالك) أي مسالك التفسير الذي هو أصعب العلوم، لاحتياجه إلى الجمع بين المعقول والمنقول. قوله: (وعسى الله) هذا ترج من الشيخ رضي الله عنه، وقد حقق الله رجاءه. قوله: (جماً) بفتح الجيم أي كثيراً. قوله: (غلفاً) أي معطاة ممنوعة من فهم علم التفسير لصعوبته قوله: (عمياً) أي لا تبصر، فإذا نظرت فيه وتأملته فأرجو أن يزول عنها العمى لتبصره وتدركه. قوله: (وآذاناً صماً) أي فبسماعه يزول عنها الصمم، وتصير مستمعة لدقائق التفسير. قوله: (وكأني بمن اعتاد المطولات) أي ملتبس بمن اعتاد، فالباء للملابسة، ويصح أن تكون بمعنى من، والمعنى وكأني قريب ممن اعتاد الخ. قوله: (وقد أضرب) أي أعرض. قوله: (وأصلها) أي وهي قطعة الجلال المحلي. قوله: (حسماً) الحسم المنع والقطع، وهو مفعول مطلق مؤكد لعامله المعني الذي هو أعرض، كأنه قال وقد أعرض إعراضاً. قوله: (وعدل) أي مال. قوله: (إلى صريح العناد) من إضافة الصفة للموصوف، أي العناد الصريح. قوله: (ومن كان في هذه) أي التكملة مع أصلها، وفي بمعنى عن، وقوله: (أعمى) اي معرضاً عنها، وغير واقف على دقائقها، وقوله: (فهو في الآخرة) المراد بها المطولات، وقوله: (أعمى) أي غير فاهم لها، وهو اقتباس من الآية الشريفة، والاقتباس تضمين الكلام شيئاً من القرآن أو الحديث، لا على أنه منه. قوله: (رزقنا الله) الخ، هذا الضمير وما بعده لما كمل به. قوله: (هداية) أي وصولاً للمقصود. قوله: (على دقائق كلماته) أي القرآن. قوله: (مع الذين أنعم الله عليهم) المراد بالمعية أنه يستمتع فيها برؤيتهم وزيارتهم والحضور معهم، وإن كان كل في منزلته. قوله: (فرغ من تأليفه) أي جمعه وتسويده بدليل قوله: (وفرغ من تبييضه). قوله: (سنة سبعين وثمانمائة) أي وذلك بعد وفاة الجلال المحلي بست سنين. قوله: (وفرغ من تبييضه) أي تحريره ونقله من المسودة. قوله: (سادس صفر) أي فكانت مدة تحريره أربعة أشهر إلا أربعة أيام. قوله: (السيوطي) بضم السين نسبة لسيوط قرية بصعيد مصر، واعلم أنه قد وجد بعد ختم هذه التكملة، مما هو منقول عن خط السيوطي ما نصه: قال الشيخ شمس الدين محمد بن أبي بكر الخطيب الطوخي، أخبرني صديقي الشيخ العلامة كمال الدين المحلي الخ، فليس من تأليف السيوطي، والله أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، قال مؤلفه: وكان الفراغ من تسويد هذا الجزء. يوم الخميس المبارك، ثالث عشر شعبان، سنة خمس وعشرين ومائتين وألف من هجرة من له العز والشرف، عليه أفضل الصلاة والسلام بمشهد الإمام الحسين رضي الله عنه تعالى عنه وعنا. يشير إلى اعتراض فيها بلطف، ومصنف هذه التكملة كلما أورد عليه شيئاً يجيبه والشيخ يبتسم ويضحك. قال شيخنا الإمام العلامة جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي مصنف هذه التكملة: الذي أعتقده وأجزم به، أن الوضع الذي وضعه الشيخ جلال الدين المحليّ رحمه الله تعالى في قطعته، أحسن من وضعي أنا بطبقات كثيرة، كيف وغالب ما وضعته هنا مقتبس من وضعه ومستفاد منه، لا مرية عندي في ذلك، وأما الذي رئي في المنام المكتوب اعلاه، فلعل الشيخ أشار به إلى المواضع القليلة التي خالفت وضعه فيها لنكتة وهي يسيرة جداً، ما أظنها تبلغ عشرة مواضع، منها: أن الشيخ قال في سورة ص: والروح جسم لطيف، يحيا به الإنسان بنفوذه فيه، وكنت تبعته أولاً، فذكرت هذا الحد في سورة الحجر، ثم ضربت عليه لقوله تعالى:﴿ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ ٱلرُّوحِ قُلِ ٱلرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي ﴾[الإسراء: ٨٥] الآية، فهي صريحة في أن الروح من علم الله تعالى لا نعلمه، فالإمساك عن تعريفها أولى، ولذا قال الشيخ تاج الدين بن السبكي في جميع الجوامع: والروح لم يتكلم عليها محمد صلى الله عليه وسلم فنمسك عنها. ومنها أن الشيخ قال في سورة الحج: الصابئون فرقة من اليهود، فذكرت ذلك في سورة البقرة وزدت أو النصارى بياناً لقول ثان، فإنه المعروف خصوصاً عند أصحابنا الفقهاء، وفي المنهاج: وإن خالفت السامرة اليهود، والصابئة النصارى في أصل دينهم حرمن، وفي شروحه: أن الشافعي رضي الله عنه نص على أن الصابئين فرقة من النصارى، ولا أستحضر الآن موضعاً ثالثاً، فكأن الشيخ رحمه الله تعالى يشير إلى مثل هذا، والله أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.