ﰡ
سورة مريم
بسم الله الرحمن الرحيم مكية [إلا آيتي ٥٨ و ٧١ فمدنيتان] وآياتها ٩٨ [نزلت بعد سورة فاطر] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة مريم (١٩) : الآيات ١ الى ٣]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
كهيعص (١) ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا (٢) إِذْ نادى رَبَّهُ نِداءً خَفِيًّا (٣)كهيعص قرأ بفتح الهاء «١» وكسر الياء حمزة، وبكسرهما عاصم، وبضمهما الحسن.
وقرأ الحسن ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ أى: هذا المتلوّ من القرآن ذكر رحمة ربك. وقرئ: ذكر، على الأمر «٢». راعى سنة الله في إخفاء دعوته، لأنّ الجهر والإخفاء عند الله سيان، فكان الإخفاء أولى، لأنه أبعد من الرياء وأدخل في الإخلاص. وعن الحسن: نداء لا رياء فيه، أو أخفاه لئلا يلام على طلب الولد في إبان الكبرة والشيخوخة «٣». أو أسره من مواليه الذين خافهم. أو خفت صوته لضعفه وهرمه، كما جاء في صفة الشيخ: صوته خفات، وسمعه تارات.
(٢). قوله «وقرأ الحسن ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ أى هذا الخ» يحتاج إلى تحرير، فان الرفع قراءة الجمهور. وقوله «ذكر على الأمر» أى ورَحْمَةِ رَبِّكَ بالنصب. (ع)
(٣). قوله «في إبان الكبرة والشيخوخة» في الصحاح: الكبر في السن، والاسم الكبرة بالفتح. وفيه أيضا:
شاخ الرجل يشيخ شيخا بالتحريك: جاء على أصله، وشيخوخة اه وليس فيه شيوخة. وفيه أيضا: إبان الشيء بالكسر والتشديد: وقته وأوانه. (ع)
[سورة مريم (١٩) : آية ٤]
قالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً وَلَمْ أَكُنْ بِدُعائِكَ رَبِّ شَقِيًّا (٤)
قرئ وَهَنَ بالحركات الثلاث، وإنما ذكر العظم لأنه عمود البدن وبه قوامه وهو أصل بنائه، فإذا وهن تداعى وتساقطت قوته، ولأنه أشد ما فيه وأصلبه، فإذا وهن كان ما وراءه أوهن. ووحده لأن الواحد هو الدال على معنى الجنسية، وقصده إلى أن هذا الجنس الذي هو العمود والقوام وأشد ما تركب منه الجسد قد أصابه الوهن، ولو جمع لكان قصدا إلى معنى آخر، وهو أنه لم يهن منه بعض عظامه ولكن كلها. إدغام السين في الشين عن أبى عمرو. شبه الشيب بشواظ النار في بياضه وإنارته وانتشاره في الشعر وفشوّه فيه وأخذه منه كل مأخذ، باشتعال النار، ثم أخرجه مخرج الاستعارة، ثم أسند الاشتعال إلى مكان الشعر ومنبته وهو الرأس. وأخرج الشيب مميزا ولم يضف الرأس: اكتفاء بعلم المخاطب أنه رأس زكريا، فمن ثم فصحت هذه الجملة وشهد لها بالبلاغة. توسل إلى الله بما سلف له من الاستجابة. وعن بعضهم أن محتاجا سأله وقال: أنا الذي أحسنت إلىّ وقت كذا. فقال: مرحبا بمن توسل بنا إلينا، وقضى حاجته.
[سورة مريم (١٩) : الآيات ٥ الى ٦]
وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوالِيَ مِنْ وَرائِي وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا (٥) يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا (٦)
كان مواليه- وهم عصبته إخوته وبنو عمه- شرار بنى إسرائيل، فخافهم على الدين أن يغيروه ويبدّلوه، وأن لا يحسنوا الخلافة على أمته، فطلب عقبا من صلبه صالحا يقتدى به في إحياء الدين ويرتسم مراسمه فيه مِنْ وَرائِي بعد موتى. وقرأ ابن كثير: من وراي، بالقصر، وهذا الظرف لا يتعلق بخِفْتُ لفساد المعنى، ولكن بمحذوف. أو بمعنى الولاية في الموالي: أى خفت فعل الموالي وهو تبديلهم وسوء خلافتهم من ورائي. أو خفت الذين يلون الأمر من ورائي.
وقرأ عثمان ومحمد بن على وعلى بن الحسين رضى الله عنهم. خفت الموالي من ورائي، وهذا على معنيين، أحدهما: أن يكون وَرائِي بمعنى خلفي وبعدي، فيتعلق الظرف بالموالي: أى قلوا وعجزوا عن إقامة أمر الدين، فسأل ربه تقويتهم ومظاهرتهم بولىّ يرزقه. والثاني: أن يكون
أى يرثني به وارث، ويسمى التجريد في علم البيان، والمراد بالإرث إرث الشرع والعلم، لأنّ الأنبياء لا تورّث المال. وقيل يرثني الحبورة وكان حبرا، ويرث من آل يعقوب الملك. يقال:
ورثته وورثت منه لغتان. وقيل «من» للتبعيض لا للتعدية، لأنّ آل يعقوب لم يكونوا كلهم أنبياء ولا علماء، وكان زكريا عليه السلام من نسل يعقوب بن إسحاق. وقيل: هو يعقوب بن ماتان أخو زكريا. وقيل: يعقوب هذا وعمران أبو مريم أخوان من نسل سليمان بن داود.
[سورة مريم (١٩) : آية ٧]
يا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا (٧)
سَمِيًّا لم يسمّ أحد بيحيى قبله، وهذا شاهد على أنّ الأسامى السنع جديرة بالأثرة، وإياها كانت العرب تنتحى في التسمية لكونها أنبه وأنوه وأنزه عن النبز، حتى قال القائل في مدح قوم:
سنع الأسامى مسبلى أزر | حمر تمس الأرض بالهدب «١» |
وقيل: مثلا وشبيها عن مجاهد، كقوله هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا وإنما قيل للمثل «سمىّ» لأنّ كل متشاكلين يسمى كل واحد منهما باسم المثل والشبيه والشكل والنظير، فكل واحد منهما سمىّ لصاحبه، ونحو «يحيى» في أسمائهم «يعمر، ويعيش» إن كانت التسمية عربية، وقد سموا بيموت أيضا، وهو يموت ابن المزرع، قالوا: لم يكن له مثل في أنه لم يعص ولم يهم بمعصية قط، وأنه ولد بين شيخ فان وعجوز عاقر، وأنه كان حصورا.
[سورة مريم (١٩) : آية ٨]
قالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا (٨)أى كانت على صفة العقر حين أنا شاب وكهل، فما رزقت الولد لاختلال أحد السببين، أفحين اختل السبيان جميعا أرزقه؟ فإن قلت: لم طلب أو لا وهو وامرأته على صفة العتىّ والعقر «١»، فلما أسعف بطلبته استبعدوا واستعجب؟ قلت: ليجاب بما أجيب به، فيزداد المؤمنون إيقانا ويرتدع المبطلون، وإلا فمعتقد زكريا أولا وآخرا كان على منهاج واحد: في أنّ الله غنى عن الأسباب، أى بلغت عتيا: وهو اليبس والجساوة في المفاصل والعظام كالعود القاحل «٢».
يقال: عتا العود وعسا من أجل الكبر والطعن في السن العالية. أو بلغت من مدارج الكبر ومراتبه ما يسمى عتيا. وقرأ ابن وثاب وحمزة والكسائي بكسر العين، وكذلك صليا، وابن مسعود بفتحهما «٣» فيهما. وقرأ أبىّ ومجاهد: عسيا «٤».
[سورة مريم (١٩) : آية ٩]
قالَ كَذلِكَ قالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً (٩)
كَذلِكَ الكاف رفع، أى الأمر كذلك تصديق له، ثم ابتدأ قالَ رَبُّكَ أو نصب بقال، وذلك إشارة إلى مبهم يفسره هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ ونحوه وَقَضَيْنا إِلَيْهِ ذلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دابِرَ هؤُلاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ وقرأ الحسن: وهو على هين، ولا يخرج هذا إلا على الوجه الأول:
أى الأمر كما قلت، وهو على ذلك يهون على. ووجه آخر: وهو أن يشار بذلك إلى ما تقدم من وعد الله، لا إلى قول زكريا. و «قال» محذوف في كلتا القراءتين: أى قال هو علىّ هين قال وهو علىّ هين، وإن شئت لم تنوه، لأن الله هو المخاطب، والمعنى أنه قال ذلك ووعده
أو أن يكون الولد من غير زوجته العاقر، فاستبعد الولد منهما وهما بحالهما، فاستخبر أيكون وهما كذلك، فقيل:
كذلك، أى: يكون الولد وأنتما كذلك، فقد انصرف الإيعاد إلى عين الموعود فزال الاشكال، والله أعلم. [.....]
(٢). قوله «كالعود القاحل» أى اليابس، كذا في الصحاح. (ع)
(٣). قوله «بفتحهما» لعله بفتحها. (ع)
(٤). قوله «عسيا» في الصحاح: عسى الشيخ يعسو عسيا: ولى وكبر، مثل عتا. (ع)
إذا رأى غير شيء ظنّه رجلا «٢»
وقرأ الأعمش والكسائي وابن وثاب: خلقناك.
[سورة مريم (١٩) : آية ١٠]
قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَ لَيالٍ سَوِيًّا (١٠)
أى اجعل لي علامة أعلم بها وقوع ما بشرت به. قال: علامتك أن تمنع الكلام فلا تطيقه، وأنت سليم الجوارح سوىّ الخلق، ما بك خرس ولا بكم. دل ذكر الليالي هنا، والأيام في آل عمران، على أن المنع من الكلام استمر به ثلاثة أيام ولياليهن.
[سورة مريم (١٩) : آية ١١]
فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرابِ فَأَوْحى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا (١١)
أوحى: أشار عن مجاهد، ويشهد له إِلَّا رَمْزاً. وعن ابن عباس: كتب لهم على الأرض سَبِّحُوا صلوا، أو على الظاهر، وأن: هي المفسرة.
[سورة مريم (١٩) : آية ١٢]
يا يَحْيى خُذِ الْكِتابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا (١٢)
أى خذ التوراة بحد واستظهار بالتوفيق والتأييد الْحُكْمَ الحكمة. ومنه:
واحكم كحكم فتاة الحي «٣»
ومن ثم كافح الزمخشري عن البقاء على التفسير الأول إلى الثاني بوجه من التأويل يلائم معتقد المعتزلة. فجعل المنفي الشيئية المعتد بها، وإن كانت الشيئية المطلقة ثابتة عنده للمعدوم، والحق بقاء الظاهر في نصابه.
(٢).
وضاقت الأرض حتى كان هاربهم | إذا رأى غير شيء ظنه رجلا |
(٣).
واحكم كحكم فتاة الحي إذ نظرت | إلى حمام سراع وارد الثمد |
قالت ألا ليتما هذا الحمام لنا | إلى حمامتنا ونصفه فقد |
فحبسوه فألفوه كما وجدت | ستا وستين لم تنقص ولم تزد |
ويروى «حسبوه» بتقديم السين على الباء.
[سورة مريم (١٩) : الآيات ١٣ الى ١٤]
وَحَناناً مِنْ لَدُنَّا وَزَكاةً وَكانَ تَقِيًّا (١٣) وَبَرًّا بِوالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّاراً عَصِيًّا (١٤)
حَناناً رحمة لأبويه وغيرهما، وتعطفا وشفقة. أنشد سيبويه:
وقالت حنان ما أتى بك هاهنا | أذو نسب أم أنت بالحي عارف «١» |
يتعطف على الناس ويتصدّق عليهم:
[سورة مريم (١٩) : آية ١٥]
وَسَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا (١٥)
وأحدث عهد من أمينة نظرة | على جانب العلياء إذ أنا واقف |
فقالت حنان ما أتى بك هاهنا | أذو نسب أم أنت بالحي عارف |
أذو نسب...
الخ، مع معرفتها سبب مجيئه وهو حبها، ربما يسأله أحد من أهلها فيجيبه بأحد هذين الجوابين.
[سورة مريم (١٩) : الآيات ١٦ الى ١٧]
وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِها مَكاناً شَرْقِيًّا (١٦) فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجاباً فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً سَوِيًّا (١٧)
إِذِ
بدل من مَرْيَمَ
بدل الاشتمال، لأنّ الأحيان مشتملة على ما فيها. وفيه أنّ المقصود بذكر مريم ذكر وقتها هذا، لوقوع هذه القصة العجيبة فيه. والانتباذ: الاعتزال والانفراد، تخلت للعبادة في مكان مما يلي شرقى بيت المقدس، أو من دارها معتزلة عن الناس. وقيل:
قعدت في مشرفة للاغتسال من الحيض محتجبة بحائط أو بشيء يسترها، وكان موضعها المسجد، فإذا حاضت تحوّلت إلى بيت خالتها، فإذا طهرت عادت إلى المسجد، فبينما هي في مغتسلها أتاها الملك في صورة آدمى شاب أمرد وضيء الوجه جعد الشعر سوىّ الخلق، لم ينتقص من الصورة الآدمية شيئا. أو حسن الصورة مستوى الخلق، وإنما مثل لها في صورة الإنسان لتستأنس بكلامه ولا تنفر عنه، ولو بدا لها في الصورة الملكية لنفرت ولم تقدر على استماع كلامه. ودلّ على عفافها وورعها أنها تعوّذت بالله من تلك الصورة الجميلة الفائقة الحسن، وكان تمثيله على تلك الصفة ابتلاء لها وسبرا لعفتها. وقيل: كانت في منزل زوج أختها زكريا ولها محراب على حدة تسكنه، وكان زكريا إذا خرج أغلق عليها الباب، فتمنت أن تجد خلوة في الجبل لتفلى رأسها، فانفجر السقف لها فخرجت فجلست في المشرفة وراء الجبل فأتاها الملك.
وقيل: قام بين يديها في صورة ترب لها اسمه يوسف من خدم بيت المقدس. وقيل: إنّ النصارى اتخذت المشرق قبلة لانتباذ مريم مكانا شرقيا. الروح: جبريل، لأنّ الدين يحيا به وبوحيه. أو سماه الله روحه على المجاز محبة له وتقريبا، كما تقول لحبيبك: أنت روحي. وقرأ أبو حيوة: روحنا، بالفتح، لأنه سبب لما فيه روح العباد، وإصابة الرّوح عند الله الذي هو عدّة المقرّبين في قوله فَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ فَرَوْحٌ وَرَيْحانٌ أو لأنه من المقرّبين وهم الموعودون بالروح، أى: مقرّبنا وذا روحنا.
[سورة مريم (١٩) : آية ١٨]
قالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا (١٨)
أرادت إن كان يرجى منك أن تتقى الله وتخشاه وتحفل بالاستعاذة به، فإنى عائدة به منك كقوله تعالى بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ.
[سورة مريم (١٩) : الآيات ١٩ الى ٢٠]
قالَ إِنَّما أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيًّا (١٩) قالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا (٢٠)
لأكون سببا في هبة الغلام بالنفخ في الدرع «١». وفي بعض المصاحف: إنما أنا رسول ربك أمرنى أن أهب لك. أو هي حكاية لقول الله تعالى.
[سورة مريم (١٩) : آية ٢١]
قالَ كَذلِكِ قالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكانَ أَمْراً مَقْضِيًّا (٢١)
جعل المسّ عبارة عن النكاح الحلال، لأنه كناية عنه، كقوله تعالى مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ والزنا ليس كذلك، إنما يقال فيه: فجر بها وخبث بها وما أشبه ذلك، وليس بقمن أن تراعى فيه الكنايات والآداب. والبغىّ: الفاجرة التي تبغى الرجال، وهي فعول عند المبرد «بغوى» فأدغمت الواو في الياء. وقال ابن جنى في كتاب التمام: هي فعيل، ولو كانت فعولا لقيل «بغوّ» كما قيل: فلان نهوّ عن المنكر وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً تعليل معلله محذوف أى: ولنجعله آية للناس فعلنا ذلك. أو هو معطوف على تعليل مضمر، أى لنبين به قدرتنا ولنجعله آية. ونحوه: وَخَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ وقوله وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ. مَقْضِيًّا مقدّرا مسطورا في اللوح لا بدّ لك من جريه عليك. أو كان أمرا حقيقا بأن يكون ويقضى لكونه آية ورحمة. والمراد بالآية: العبرة والبرهان على قدرة الله، وبالرحمة: الشرائع والألطاف، وما كان سببا في قوّة الاعتقاد والتوصل إلى الطاعة والعمل الصالح. فهو جدير بالتكوين.
[سورة مريم (١٩) : آية ٢٢]
فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكاناً قَصِيًّا (٢٢)
عن ابن عباس: فاطمأنت إلى قوله فدنا منها فنفخ في جيب درعها، فوصلت النفخة إلى بطنها فحملت. وقيل: كانت مدّة الحمل ستة أشهر. وعن عطاء وأبى العالية والضحاك: سبعة أشهر. وقيل: ثمانية، ولم يعش مولود وضع لثمانية إلا عيسى. وقيل: ثلاث ساعات. وقيل:
حملته في ساعة، وصوّر في ساعة، ووضعته في ساعة، حين زالت الشمس من يومها. وعن ابن عباس: كانت مدة الحمل ساعة واحدة، كما حملته نبذته. وقيل: حملته وهي بنت ثلاث عشرة سنة. وقيل: بنت عشر، وقد كانت حاضت حيضتين قبل أن تحمل. وقالوا: ما من
تدوس بنا الجماحم والتّريبا «٢»
أى تدوس الجماجم ونحن على ظهورها، ونحوه قوله تعالى تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ أى تنبت ودهنها فيها: الجار والمجرور في موضع الحال قَصِيًّا بعيدا من أهلها وراء الجبل. وقيل: أقصى الدار. وقيل: كانت سميت لابن عم لها اسمه يوسف، فلما قيل: حملت من الزنا، خاف عليها قتل الملك، فهرب بها فلما كان ببعض الطريق حدّثته نفسه بأن يقتلها، فأتاه جبريل فقال: إنه من روح القدس فلا تقتلها، فتركها.
[سورة مريم (١٩) : آية ٢٣]
فَأَجاءَهَا الْمَخاضُ إِلى جِذْعِ النَّخْلَةِ قالَتْ يا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هذا وَكُنْتُ نَسْياً مَنْسِيًّا (٢٣)
فَأَجاءَهَا أجاء: منقول من جاء، إلا أن استعماله قد تغير بعد النقل إلى معنى الإلجاء. ألا تراك تقول: جئت المكان وأجاءنيه زيد، كما تقول: بلغته وأبلغنيه. ونظيره «آتى» حيث لم يستعمل إلا في الإعطاء، ولم تقل: أتيت المكان وآتانيه فلان. قرأ ابن كثير في رواية الْمَخاضُ بالكسر. يقال: مخضت الحامل مخاضا ومخاضا، وهو تمخض الولد في بطنها «٣».
طلبت الجذع لتستتر به وتعتمد عليه عند الولادة، وكان جذع نخلة يابسة في الصحراء ليس لها رأس ولا ثمرة ولا خضرة، وكان الوقت شتاء، والتعريف لا يخلو: إمّا أن يكون من تعريف الأسماء الغالبة كتعريف النجم والصعق، كأن تلك الصحراء كان فيها جذع نخلة متعالم عند الناس، فإذا قيل: جذع النخلة فهم منه ذلك دون غيره من جذوع النخل. وإمّا أن يكون تعريف الجنس، أى: جذع هذه الشجرة خاصة، كأن الله تعالى إنما أرشدها إلى النخلة ليطعمها منها الرطب الذي هو حرسة النفساء الموافقة لها، ولأن النخلة أقل شيء صبرا على البرد، وثمارها إنما هي من جمارها، فلموافقتها لها مع جمع الآيات فيها اختارها لها وألجأها إليها. قرئ مِتُّ بالضم والكسر. يقال: مات يموت ومات يمات. النسىّ: ما من حقه أن يطرح وينسى، كخرقة الطامث ونحوها، كالذبح: اسم ما من شأنه أن يذبح في قوله تعالى وَفَدَيْناهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ وعن
(٢). تقدم شرح هذا الشاهد بصفحة ١٣٨ من الجزء الأول فراجعه إن شئت اه مصححه.
(٣). قوله «وهو تمخض الولد في بطنها» في الصحاح «تمخض اللبن واستمخض» أى تحرك في الممخضة، وكذلك الولد إذا تحرك في بطن الحامل. (ع)
[سورة مريم (١٩) : آية ٢٤]
فَناداها مِنْ تَحْتِها أَلاَّ تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا (٢٤)
مِنْ تَحْتِها هو جبريل عليه السلام. قيل: كان يقبل الولد كالقابلة. وقيل: هو عيسى، وهي قراءة عاصم وأبى عمرو. وقيل تَحْتِها أسفل من مكانها، كقوله تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وقيل: كان أسفل منها تحت الأكمة، فصاح بها أَلَّا تَحْزَنِي وقرأ نافع وحمزة والكسائي وحفص مِنْ تَحْتِها وفي ناداها ضمير الملك أو عيسى. وعن قتادة: الضمير في تحتها للنخلة. وقرأ زرّ وعلقمة: فخاطبها من تحتها.
سئل النبي ﷺ عن السرىّ فقال: «هو الجدول «٤» ». قال لبيد:
(٢). قوله «من فرط الحيا والتشور من الناس» خوف إظهار العورة. أفاده الصحاح. (ع)
(٣). قوله «إذا بهتوها وهي عارفة... الخ» اتهموها بما ليس فيها. وقرفت: اتهمت. (ع) [.....]
(٤). أخرجه الطبراني في الصغير وابن عدى من رواية أبى سنان سعيد بن سنان عن أبى إسحاق عن البراء عن النبي صلى الله عليه وسلم. في قوله تعالى قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا قال: السرى النهر. قال الطبراني لم يرفعه عن أبى إسحاق إلا أبو سنان رواه عنه معاوية بن يحيى وهو ضعيف وأخرجه عند الرزاق عن الثوري عن أبى إسحاق عن البراء موقوفا، وكذا ذكره البخاري تعليقا عن وكيع عن إسرائيل عن أبى إسحاق. ورواه ابن مردويه من طريق آدم عن إسرائيل كذلك. وأخرجه الحاكم من وجه آخر عن أبى إسحاق موقوفا. وفي الباب عن ابن عمر رضى الله عنهما قال «إن السرى الذي قال الله تعالى لمريم: نهر أخرجه الله لتشرب منه، أخرجه الطبراني وأبو نعيم في الحلية في ترجمة عكرمة عن ابن عمر. ورواية عن أيوب بن نهيك، ضعفه أبو حاتم وأبو زرعة.
فتوسّطا عرض السّري فصدّعا | مسجورة متجاورا قلّامها «١» |
ما كان حزنها لفقد الطعام والشراب حتى تسلى بالسرى والرطب؟ قلت: لم تقع التسلية بهما من حيث أنهما طعام وشراب، ولكن من حيث أنهما معجزتان تريان الناس أنها من أهل العصمة والبعد من الريبة، وأن مثلها مما قرفوها به بمعزل، وأن لها أمورا إلهية خارجة عن العادات خارقة لما ألفوا واعتادوا، حتى يتبين لهم أنّ ولادها من غير فحل ليس ببدع من شأنها.
[سورة مريم (١٩) : الآيات ٢٥ الى ٢٦]
وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُساقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيًّا (٢٥) فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْناً فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا (٢٦)
تُساقِطْ فيه تسع قراآت: تساقط، بإدغام التاء. وتتساقط، بإظهار التاءين. وتساقط، بطرح الثانية. ويساقط، بالياء وإدغام التاء. وتساقط، وتسقط، ويسقط، وتسقط، ويسقط: التاء للنخلة، والياء للجذع. ورطبا تمييز أو مفعول على حسب القراءة. وعن المبرد:
جواز انتصابه بهزّى وليس بذاك. والباء في بِجِذْعِ النَّخْلَةِ صلة للتأكيد، كقوله تعالى وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ أو على معنى: افعلي الهزّ به، كقوله:
يجرح في عراقيبها نصلى «٣»
قالوا: التمر للنفساء عادة من ذلك الوقت، وكذلك التحنيك، وقالوا: كان من العجوة.
وقيل: ما للنفساء خير من الرطب، ولا للمريض خير من العسل، وقيل: إذا عسر ولادها لم
فمضى وقدمها وكانت عادة | منه إذا هي عردت أقدامها |
فتوسطا عرض السرى فصدعا | مسجورة متجاورا قلامها |
القاقلى، وقيل مطلق النبات، وتجاوزه: كناية عن كثرته.
(٢). قوله «وقيل هو من السرو» في الصحاح «السرو» سخاء في مروءة. (ع)
(٣). تقدم شرح هذا الشاهد بالجزء الثاني صفحة ٥٧٨ فراجعه إن شئت اه مصححه.
وقيل: سوغ لها ذلك بالنطق إِنْسِيًّا أى أكلم الملائكة دون الإنس
[سورة مريم (١٩) : الآيات ٢٧ الى ٢٨]
فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَها تَحْمِلُهُ قالُوا يا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيًّا (٢٧) يا أُخْتَ هارُونَ ما كانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَما كانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا (٢٨)
الفرىّ: البديع، وهو من فرى الجلد يا أُخْتَ هارُونَ كان أخاها من أبيها من أمثل بنى إسرائيل. وقيل: هو أخو موسى صلوات الله عليهما. وعن النبي صلى الله عليه وسلم: «إنما عنوا هرون النبىّ «٣» » وكانت من أعقابه في طبقة الإخوة، بينها وبينه ألف سنة وأكثر. وعن السدى: كانت من أولاده، وإنما قيل: يا أخت هرون، كما يقال يا أخا همدان، أى: يا واحدا منهم. وقيل: رجل صالح أو طالح في زمانها، شبهوها به، أى: كنت عندنا مثله في الصلاح، أو شتموها به، ولم ترد إخوة النسب، ذكر أن هرون الصالح تبع جنازته أربعون ألفا كلهم يسمى
(٢). لم أره هكذا وأخرج عبد الرزاق من حديث جابر بلفظ «لا صمت يوم إلى الليل» وفيه حزام بن عثمان وهو ضعيف ولأبى داود من حديث على مثله. وقد تقدم في تفسير النساء.
(٣). لم أجده هكذا إلا عند الثعلبي بغير سند ورواه الطبري عن السدى. قوله وليس بصحيح. فان عند مسلم والنسائي والترمذي عن المغيرة بن شعبة. قال «بعثني النبي ﷺ إلى نجران فقالوا لي: أرأيتم شيئا يقرءونه يا أُخْتَ هارُونَ وبين موسى وعيسى ما شاء الله من السنين فلم أدر ما أجيبهم فقال لي النبي ﷺ هلا أخبرتهم أنهم كانوا يسمون بأسماء أنبيائهم والصالحين من قبلهم» وروى الطبري من طريق ابن سيرين «نبئت أن كعبا قال إن قوله تعالى يا أُخْتَ هارُونَ ليس بهارون أخى موسى فقالت له عائشة «كذبت. فقال لها يا أم المؤمنين إن كان النبي ﷺ قال فهو أعلم وإلا فأنا أجد بينهما ستمائة سنة».
هموا برجمها حتى تكلم عيسى عليه السلام. فتركوها.
[سورة مريم (١٩) : آية ٢٩]
فَأَشارَتْ إِلَيْهِ قالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا (٢٩)
فَأَشارَتْ إِلَيْهِ أى هو الذي يجيبكم إذا ناطقتموه. وقيل: كان المستنطق لعيسى زكريا عليه السلام. وعن السدى: لما أشارت إليه غضبوا وقالوا: لسخريتها بنا أشدّ علينا من زناها. وروى أنه كان يرضع، فلما سمع ذلك ترك الرضاع وأقبل عليهم بوجهه، واتكأ على يساره وأشار بسبابته. وقيل: كلمهم بذلك، ثم لم يتكلم حتى بلغ مبلغا يتكلم فيه الصبيان كانَ لإيقاع مضمون الجملة في زمان ماض مبهم يصلح لقريبه وبعيده، وهو هاهنا لقريبه خاصة، والدال عليه مبنى الكلام، وأنه مسوق للتعجب. ووجه آخر: أن يكون نُكَلِّمُ حكاية حال ماضية، أى: كيف عهد قبل عيسى أن يكلم الناس صبيا في المهد فيما سلف من الزمان حتى نكلم هذا.
[سورة مريم (١٩) : الآيات ٣٠ الى ٣٣]
قالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتانِيَ الْكِتابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا (٣٠) وَجَعَلَنِي مُبارَكاً أَيْنَ ما كُنْتُ وَأَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ ما دُمْتُ حَيًّا (٣١) وَبَرًّا بِوالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيًّا (٣٢) وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا (٣٣)
أنطقه الله أوّلا بأنه عبد الله ردا لقول النصارى الْكِتابَ هو الإنجيل. واختلفوا في نبوّته، فقيل: أعطيها في طفوليته: أكمل الله عقله، واستنبأه طفلا نظرا في ظاهر الآية.
وقيل: معناه إنّ ذلك سبق في قضائه. أو جعل الآتي لا محالة كأنه قد وجد مُبارَكاً أَيْنَ ما كُنْتُ عن رسول الله ﷺ «نفاعا حيث كنت «٢» » وقيل: معلما للخير.
(٢). أخرجه أبو نعيم في الحلية في ترجمة يونس بن عبيد عن الحسن عن أبى هريرة بهذا وأتم منه. وقال تفرد به هشيم عن يونس وعنه شعيب بن محمد الكوفي ورواه ابن مردويه من هذا الوجه.
وجنس السلام علىّ خاصة فقد عرض بأن ضدّه عليكم. ونظيره قوله تعالى وَالسَّلامُ عَلى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدى يعنى أنّ العذاب على من كذب وتولى، وكان المقام مقام منا كرة وعناد، فهو مئنة لنحو هذا من التعريض.
[سورة مريم (١٩) : آية ٣٤]
ذلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ (٣٤)
قرأ عاصم وابن عامر قَوْلَ الْحَقِّ بالنصب. وعن ابن مسعود: قال الحق، وقال الله- وعن الحسن: قول الحق، بضم القاف، وكذلك في الأنعام قَوْلُهُ الْحَقُّ والقول والقال والقول بمعنى واحد، كالرهب والرهب والرهب. وارتفاعه على أنه خبر بعد خبر، أو بدل، أو خبر مبتدأ محذوف. وأما انتصابه فعلى المدح إن فسر بكلمة الله، وعلى أنه مصدر مؤكد لمضمون الجملة إن أريد قول الثبات والصدق، كقولك: هو عبد الله حقا. والحق لا الباطل، وإنما قيل لعيسى «كلمة الله» و «قول الحق» لأنه لم يولد إلا بكلمة الله وحدها، وهي قوله كُنْ من غير واسطة أب، تسمية للسبب باسم السبب، كما سمى العشب بالسماء، والشحم بالنداء ويحتمل إذا أريد بقول الحق عيسى، أن يكون الحق اسم الله عزّ وجل، وأن يكون بمعنى الثبات والصدق، ويعضده قوله الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ أى أمره حق يقين وهم فيه شاكون يَمْتَرُونَ يشكون. والمرية: الشك. أو يتمارون: يتلاحون «١»، قالت اليهود: ساحر كذاب، وقالت النصارى: ابن الله وثالث ثلاثة. وقرأ على بن أبى طالب رضى الله عنه:
تمترون، على الخطاب. وعن أبىّ بن كعب: قول الحق الذي كان الناس فيه يمترون.
[سورة مريم (١٩) : آية ٣٥]
ما كانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحانَهُ إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (٣٥)
كذب النصارى وبكتهم بالدلالة على انتفاء الولد عنه، وأنه مما لا يتأتى ولا يتصور في العقول وليس بمقدور عليه، إذ من المحال غير المستقيم أن تكون ذاته كذات من ينشأ منه
[سورة مريم (١٩) : آية ٣٦]
وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (٣٦)
قرأ المدنيون وأبو عمرو بفتح أن. ومعناه: ولأنه ربى وربكم فاعبدوه، كقوله وَأَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً والأستار وأبو عبيد بالكسر على الابتداء. وفي حرف أبىّ: إن الله، بالكسر بغير واو، وبأن الله، أى: بسبب ذلك «١» فاعبدوه.
[سورة مريم (١٩) : آية ٣٧]
فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ (٣٧)
الْأَحْزابُ اليهود والنصارى عن الكلبي. وقيل النصارى لتحزبهم ثلاث فرق: نسطورية ويعقوبية وملكانية. وعن الحسن: الذين تحزبوا على الأنبياء لما قص عليهم قصة عيسى اختلفوا فيه من بين الناس مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ أى من شهودهم هول الحساب والجزاء في يوم القيامة أو من مكان الشهود فيه وهو الموقف. أو من وقت الشهود، أو من شهادة ذلك اليوم عليهم، وأن تشهد عليهم الملائكة والأنبياء وألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بالكفر وسوء الأعمال. أو من مكان الشهادة أو وقتها. وقيل: هو ما قالوه وشهدوا به في عيسى وأمه.
[سورة مريم (١٩) : الآيات ٣٨ الى ٤٠]
أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنا لكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٣٨) وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (٣٩) إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْها وَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ (٤٠)
لا يوصف الله تعالى بالتعجب وإنما المراد أن أسماعهم وأبصارهم يومئذ جدير بأن يتعجب منهما بعد ما كانوا صما وعميا في الدنيا. وقيل: معناه التهديد بما سيسمعون ويبصرون مما يسوءهم ويصدع قلوبهم. أوقع الظاهر أعنى الظالمين موقع الضمير: إشعارا بأن لا ظلم أشد من ظلمهم، حيث أغفلوا الاستماع والنظر حين يجدى عليهم ويسعدهم. والمراد بالضلال المبين: إغفال النظر والاستماع قُضِيَ الْأَمْرُ فرغ من الحساب وتصادر الفريقان إلى الجنة والنار. وعن النبي صلى
[سورة مريم (١٩) : الآيات ٤١ الى ٤٥]
وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِبْراهِيمَ إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا (٤١) إِذْ قالَ لِأَبِيهِ يا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ ما لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً (٤٢) يا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ ما لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِراطاً سَوِيًّا (٤٣) يا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطانَ إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلرَّحْمنِ عَصِيًّا (٤٤) يا أَبَتِ إِنِّي أَخافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذابٌ مِنَ الرَّحْمنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطانِ وَلِيًّا (٤٥)
الصدّيق: من أبنية المبالغة. ونظيره الضحيك والنطيق. والمراد، فرط صدقه وكثرة ما صدّق به من غيوب الله وآياته وكتبه ورسله، وكان الرجحان والغلبة في هذا التصديق للكتب والرسل أى: كان مصدقا بجميع الأنبياء وكتبهم، وكان نبيا في نفسه، كقوله تعالى بَلْ جاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ أو كان بليغا في الصدق، لأن ملاك أمر النبوة الصدق، ومصدق الله بآياته ومعجزاته حرىّ أن يكون كذلك، وهذه الجملة وقعت اعتراضا بين المبدل منه وبدله، أعنى إبراهيم. وإِذْ قالَ
نحو قولك: رأيت زيدا، ونعم الرجل أخاك. ويجوز أن يتعلق إذ بكان أو بصديقا نبيا، أى: كان جامعا لخصائص الصديقين والأنبياء حين خاطب أباه تلك المخاطبات.
والمراد بذكر الرسول إياه وقصته في الكتاب أن يتلو ذلك على الناس ويبلغه إياهم، كقوله وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْراهِيمَ وإلا فالله عز وجل هو ذاكره ومورده في تنزيله. التاء في يا أَبَتِ عوض من ياء الإضافة، ولا يقال يا أبتى، لئلا يجمع بين العوض والمعوض منه. وقيل: يا أبتا، لكون الألف بدلا من الياء، وشبه ذلك سيبويه بأينق، وتعويض الياء فيه عن الواو الساقطة.
انظر حين أراد أن ينصح أباه ويعظه فيما كان متورطا فيه من الخطأ العظيم والارتكاب الشنيع
وفي آخره «فيأمن هؤلاء. وينقطع رجاء هؤلاء».
إنك خليلي، حسن خلقك ولو مع الكفار، تدخل مداخل الأبرار»
، فإن كلمتي سبقت لمن حسن خلقه: أظله تحت عرشي، وأسكنه حظيرة القدس، وأدنيه من جواري. وذلك أنه طلب منه أو لا العلة في خطئه طلب منبه على تماديه، موقظ لإفراطه وتناهيه، لأن المعبود لو كان حيا مميزا، سميعا بصيرا، مقتدرا على الثواب والعقاب، نافعا ضارا، إلا أنه بعض الخلق: لاستخفّ عقل من أهله للعبادة ووصفه بالربوبية، ولسجل عليه بالغىّ المبين والظلم العظيم وإن كان أشرف الخلق وأعلاهم منزلة كالملائكة والنبيين. قال الله تعالى وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْباباً أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ وذلك أن العبادة هي غاية التعظيم، فلا تحق إلا لمن له غاية الإنعام: وهو الخالق الرزاق، المحيي المميت، المثيب المعاقب، الذي منه أصول النعم وفروعها. فإذا وجهت إلى غيره- وتعالى علوا كبيرا أن تكون هذه الصفة لغيره- لم يكن إلا ظلما وعتوا وغيا وكفرا وجحودا، وخروجا عن الصحيح النير إلى الفاسد المظلم، فما ظنك بمن وجه عبادته إلى جماد ليس به حس ولا شعور؟ فلا يسمع- يا عابده- ذكرك له وثناءك عليه، ولا يرى هيآت خضوعك وخشوعك له، فضلا أن يغنى عنك بأن تستدفعه بلاء فيدفعه، أو تسنح لك حاجة فيكفيكها. ثم ثنى بدعوته إلى الحق مترفقا به متلطفا، فلم يسم أباه بالجهل المفرط، ولا نفسه بالعلم الفائق، ولكنه قال: إن معى طائفة من العلم وشيئا منه ليس معك، وذلك علم الدلالة على الطريق السوي فلا تستنكف، وهب أنى وإياك في مسير وعندي معرفة بالهداية دونك، فاتبعنى أنجك من أن تضل وتتيه. ثم ثلث بتثبيطه ونهيه عما كان عليه: بأن الشيطان- الذي استعصى على ربك الرحمن الذي جميع ما عندك من النعم من عنده، وهو عدوّك الذي لا يريد بك إلا كل هلاك وخزى ونكال وعدوّ أبيك آدم وأبناء جنسك كلهم- هو الذي ورّطك في هذه الضلالة وأمرك بها وزينها لك، فأنت إن حققت النظر عابد الشيطان، إلا أن إبراهيم عليه السلام لإمعانه في الإخلاص ولارتقاء همته في الربانية لم يذكر من جنايتي الشيطان
(٢). أخرجه الطبراني في الأوسط وابن عدى، والحكيم الترمذي في النوادر من حديث أبى هريرة وفيه مؤمل ابن عبد الرحمن الثقفي عن أبى أمية بن يعلى الثقفي وهما ضعيفان [.....]
في ما لا يَسْمَعُ
وما لَمْ يَأْتِكَ يجوز أن تكون موصولة وموصوفة، والمفعول في لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ
منسى غير منوي، كقولك: ليس به استماع ولا إبصار شَيْئاً
يحتمل وجهين، أحدهما: أن يكون في موضع المصدر، أى: شيئا من الغناء، ويجوز أن يقدر نحوه مع الفعلين السابقين. والثاني: أن يكون مفعولا به من قولهم: أغن عنى وجهك إِنِّي قَدْ جاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ ما لَمْ يَأْتِكَ فيه تجدد العلم عنده.
[سورة مريم (١٩) : آية ٤٦]
قالَ أَراغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يا إِبْراهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا (٤٦)
لما أطلعه على سماجة صورة أمره، وهدم مذهبه بالحجج القاطعة، وناصحه المناصحة العجيبة مع تلك الملاطفات، أقبل عليه الشيخ بفظاظة الكفر وغلظة العناد، فناداه باسمه، ولم يقابل يا أَبَتِ بيا بنىّ، وقدّم الخبر على المبتدأ في قوله أَراغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يا إِبْراهِيمُ لأنه كان أهمّ عنده وهو عنده أعنى، وفيه ضرب من التعجب والإنكار لرغبته عن آلهته، وأن آلهته، ما ينبغي أن يرغب عنها أحد. وفي هذا سلوان وثلج لصدر رسول الله ﷺ عما كان يلقى من مثل ذلك من كفار قومه لَأَرْجُمَنَّكَ لأرمينك بلساني، يريد الشتم والذمّ، ومنه الرَّجِيمِ المرمىّ باللعن. أو لأقتلنك، من رجم الزاني. أو لأطردنك رميا بالحجارة.
وأصل الرجم: الرمي بالرجام «٣» مَلِيًّا زمانا طويلا من الملاوة: أو مليا بالذهاب عنى
(٢). قوله «وسماه الله تعالى المشهود له» لعله «مشهود له بأن رضوانه أكبر من الثواب» فليحرر. (ع)
(٣). قوله «وأصل الرجم الرمي بالرجام» أى الحجارة الضخام، كذا في الصحاح. (ع)
[سورة مريم (١٩) : الآيات ٤٧ الى ٤٨]
قالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كانَ بِي حَفِيًّا (٤٧) وَأَعْتَزِلُكُمْ وَما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُوا رَبِّي عَسى أَلاَّ أَكُونَ بِدُعاءِ رَبِّي شَقِيًّا (٤٨)
قالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سلام توديع ومتاركة، كقوله تعالى لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجاهِلِينَ وقوله وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً وهذا دليل على جواز متاركة المنصوح والحال هذه. ويجوز أن يكون قد دعا له بالسلامة استمالة له. ألا ترى أنه وعده الاستغفار. فإن قلت: كيف جاز له أن يستغفر للكافر وأن يعده «١» ذلك؟ قلت:
قالوا أراد اشتراط التوبة عن الكفر، كما ترد الأوامر والنواهي الشرعية على الكفار والمراد اشتراط الإيمان، وكما يؤمر المحدث والفقير بالصلاة والزكاة ويراد اشتراط الوضوء والنصاب.
وقالوا: إنما استغفر له بقوله وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كانَ مِنَ الضَّالِّينَ لأنه وعده أن يؤمن.
واستشهدوا عليه بقوله تعالى وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ ولقائل أن يقول: إنّ الذي منع من الاستغفار للكافر إنما هو السمع، فأمّا القضية العقلية فلا تأباه، فيجوز أن يكون الوعد بالاستغفار والوفاء به قبل ورود السمع، بناء على قضية العقل، والذي يدل على صحته قوله تعالى إِلَّا قَوْلَ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ فلو كان شارطا للإيمان لم يكن مستنكرا ومستثنى عما وجبت فيه الأسوة. وأمّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ فالواعد هو إبراهيم لا آزر، أى: ما قال وَاغْفِرْ لِأَبِي إلا عن قوله لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وتشهد له قراءة حماد الرواية: وعدها أباه. والله أعلم حَفِيًّا الحفىّ: البليغ في البر والإلطاف، حفى به وتحفى به وَأَعْتَزِلُكُمْ أراد بالاعتزال المهاجرة إلى الشام. المراد بالدعاء العبادة، لأنه منها ومن وسائطها. ومنه قوله ﷺ «الدعاء هو العبادة «٢» » ويدل
(٢). أخرجه أبو داود وبقية أصحاب السنن وابن حبان والحاكم من حديث النعمان بن بشير. وأخرجه أحمد وإسحاق وابن أبى شيبة وأبو يعلى والبزار والطبراني وابن ابى حاتم والطبري من حديثه وأخرجه ابن مردويه من حديث البراء بن عازب رضى الله عنهما.
[سورة مريم (١٩) : الآيات ٤٩ الى ٥٠]
فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلاًّ جَعَلْنا نَبِيًّا (٤٩) وَوَهَبْنا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنا وَجَعَلْنا لَهُمْ لِسانَ صِدْقٍ عَلِيًّا (٥٠)
ما خسر على الله أحد ترك الكفار الفسقة لوجهه، فعوّضه أولادا مؤمنين أنبياء مِنْ رَحْمَتِنا هي النبوّة عن الحسن. وعن الكلبي: المال والولد، وتكون عامّة في كل خير دينى ودنيوى أوتوه. لسان الصدق: الثناء الحسن. وعبر باللسان عما يوجد باللسان كما عبر باليد عما يطلق باليد وهي العطية. قال:
إنى أتتنى لسان لا أسر بها «١»
يريد الرسالة. ولسان العرب: لغتهم وكلامهم. استجاب الله دعوته وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ فصيره قدوة حتى ادّعاه أهل الأديان كلهم. وقال عز وجل مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ ومِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً، ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وأعطى ذلك ذرّيته فأعلى ذكرهم وأثنى عليهم، كما أعلى ذكره وأثنى عليه.
[سورة مريم (١٩) : آية ٥١]
وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مُوسى إِنَّهُ كانَ مُخْلَصاً وَكانَ رَسُولاً نَبِيًّا (٥١)
المخلص- بالكسر-: الذي أخلص العبادة عن الشرك والرياء. أو أخلص نفسه وأسلم وجهه لله. وبالفتح: الذي أخلصه الله. الرسول: الذي معه كتاب من الأنبياء: والنبىّ:
الذي ينبئ عن الله عز وجل وإن لم يكن معه كتاب، كيوشع.
[سورة مريم (١٩) : آية ٥٢]
وَنادَيْناهُ مِنْ جانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْناهُ نَجِيًّا (٥٢)
إنى أتتنى لسان لا أسر به | من علو لا كذب فيه ولا سحر |
فجاشت النفس لما جاء فلهم | وراكب جاء من تثليث معتمر |
[سورة مريم (١٩) : آية ٥٣]
وَوَهَبْنا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنا أَخاهُ هارُونَ نَبِيًّا (٥٣)
مِنْ رَحْمَتِنا من أجل رحمتنا له وترأفنا عليه: وهبنا له هرون. أو بعض رحمتنا، كما في قوله وَوَهَبْنا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنا. وأَخاهُ على هذا الوجه بدل. وهارُونَ عطف بيان، كقولك: رأيت رجلا أخاك زيدا. وكان هرون أكبر من موسى، فوقعت الهبة على معاضدته وموازرته كذا عن ابن عباس رضى الله عنه.
[سورة مريم (١٩) : الآيات ٥٤ الى ٥٥]
وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِسْماعِيلَ إِنَّهُ كانَ صادِقَ الْوَعْدِ وَكانَ رَسُولاً نَبِيًّا (٥٤) وَكانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ وَكانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا (٥٥)
ذكر إسماعيل عليه السلام بصدق الوعد وإن كان ذلك موجودا في غيره من الأنبياء، تشريفا له وإكراما، كالتلقيب بنحو: الحليم، والأوّاه، والصدّيق، ولأنه المشهور المتواصف من خصاله. عن ابن عباس رضى الله عنه: أنه وعد صاحبا له أن ينتظره في مكان، فانتظره سنة. وناهيك أنه وعد في نفسه الصبر على الذبح فوفى، حيث قال سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ كان يبدأ بأهله في الأمر بالصلاح والعبادة ليجعلهم قدوة لمن وراءهم، ولأنهم أولى من سائر الناس وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ، وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ، قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ ناراً ألا ترى أنهم أحق بالتصدّق عليهم، فالإحسان الديني أولى. وقيل أَهْلَهُ أمته كلهم من القرابة وغيرهم، لأنّ أمم النبيين في عداد أهاليهم. وفيه أنّ من حق الصالح أن لا يألو نصحا للأجانب فضلا عن الأقارب والمتصلين به، وأن يحظيهم بالفوائد الدينية ولا يفرط في شيء من ذلك.
[سورة مريم (١٩) : الآيات ٥٦ الى ٥٧]
وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا (٥٦) وَرَفَعْناهُ مَكاناً عَلِيًّا (٥٧)
قيل: سمى إدريس لكثرة دراسته كتاب الله عزّ وجل، وكان اسمه أخنوخ، وهو غير صحيح، لأنه لو كان أفعيلا من الدرس لم يكن فيه إلا سبب واحد وهو العلمية، فكان منصرفا، فامتناعه من الصرف دليل العجمة. وكذلك إبليس أعجمى، وليس من الإبلاس كما يزعمون،
بلغنا السّماء مجدنا وسناؤنا | وإنّا لنرجو فوق ذلك مظهرا «٣» |
(٢). أخرجه الطبري وابن مردويه من رواية عطية عنه.
(٣).
ولا خير في حلم إذا لم يكن له | بواد وتحمى صفوه أن يكدرا |
ولا خير في جهل إذا لم يكن له | حليم إذا ما أورد الأمر أصدرا |
بلغنا السماء مجدنا وسناؤنا | وإنا لنرجو فوق ذلك مظهرا |
تخييل، والمراد بالجهل: عجلة الاقدام على عظائم الأمور. والإيراد جعل الشيء واردا. والإصدار: جعله صادرا. والمراد تسبب في وجوده وإعظامه وفي تحقيره وإعدامه. ويحتمل أنه شبه الأمر المعضل بحيوان يورده صاحبه إلى الماء تارة ويرجعه أخرى، على طريق المكنية، والإيراد والإصدار تخييل. ويجوز أن فاعل أورد ضمير الجهل، وفاعل أصدر ضمير الحليم، أى: إذا تسبب الجهل والشجاعة في أمر خطاء أرجعه الحليم وأبطله، فلا بد من اجتماع الحلم والجرأة معا حتى يكمل الرجل. ومجدنا وسناؤنا بالرفع بدلا من فاعل بلغنا. وقيل: هما مفعولان فهما بالنصب. وانظر ما وجهه، ولعله أنهما ظرفان اعتباريان، أى: بلغنا السماء في المجد والسناء. أو بدلان من السماء، بأن شبههما بها، ثم أطلقها عليهما وأبدلهما منها، وهو أوجه من الظرفية. ولو قيل على النصب: أنهما تمييزان، كان وجيها، لكنه على رأى الكوفيين القائلين بجوازه معرفة، ولما ادعى بلوغ السماء بنى عليه ما يبنى على المحسوس فقال: وإنا لنرجو مظهرا فوق ذلك.
(٤). أخرجه البزار وأبو نعيم والبيهقي في الدلائل لها من طريق يعلى بن الأشرف عنه وله طريق أخرى عند البيهقي وذكر القصيدة.
[سورة مريم (١٩) : آية ٥٨]
أُولئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْراهِيمَ وَإِسْرائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنا وَاجْتَبَيْنا إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُ الرَّحْمنِ خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيًّا (٥٨)أُولئِكَ إشارة إلى المذكورين في السورة من لدن زكريا إلى إدريس عليه السلام. و «من» في مِنَ النَّبِيِّينَ للبيان مثلها في قوله تعالى في آخر سورة الفتح وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً لأن جميع الأنبياء منعم عليهم. ومن الثانية للتبعيض، وكان إدريس من ذرية آدم لقربه منه لأنه جد أبى نوح. وإبراهيم عليه السلام من ذرية من حمل مع نوح:
لأنه من ذرية سام بن نوح، وإسماعيل من ذرية إبراهيم. وموسى وهرون وزكريا ويحيى من ذرية إسرائيل. وكذلك عيسى: لأنّ مريم من ذرّيته وَمِمَّنْ هَدَيْنا يحتمل العطف على من الأولى والثانية. إن جعلت الذين خبرا لأولئك كان إِذا تُتْلى كلاما مستأنفا. وإن جعلته صفة له كان خبرا. قرأ شبل بن عباد المكي: يتلى، بالتذكير، لأن التأنيث غير حقيقى مع وجود الفاصل. البكى: جمع باك، كالسجود والقعود في جمع ساجد وقاعد. عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اتلوا القرآن وابكوا، فإن لم تبكوا فتباكوا «١» » وعن صالح المري رضى الله عنه: قرأت القرآن على رسول الله ﷺ في المنام فقال لي: «هذه القراءة يا صالح، فأين البكاء» ؟ وعن ابن عباس رضى الله عنهما: إذا قرأتم سجدة سبحان فلا تعجلوا بالسجود حتى تبكوا، فإن لم تبك عين أحدكم فليبك قلبه. وعن رسول الله ﷺ «إن القرآن أنزل بحزن فإذا قرأتموه فتحازنوا «٢» » وقالوا: يدعو في سجدة التلاوة بما يليق بآيتها، فإن قرأ آية تنزيل السجدة قال: اللهم اجعلنى من الساجدين لوجهك المسبحين بحمدك، وأعوذ بك أن أكون من المستكبرين عن أمرك. وإن قرأ سجدة سبحان قال: اللهم اجعلنى من الباكين إليك الخاشعين لك. وإن قرأ هذه قال: اللهم اجعلنى من عبادك المنعم عليهم المهتدين، الساجدين لك، الباكين عند تلاوة آياتك.
[سورة مريم (١٩) : آية ٥٩]
فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَواتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا (٥٩)
(٢). أخرجه ابن مردويه من حديث ابن عباس بلفظ «فاقرؤه بحزن» وإسناده ضعيف. ورواه أبو يعلى والعقيلي. وأبو نعيم في ترجمة رباح بن عمرو العبسي من حديث أبى بريدة عن أبيه بلفظ «اقرءوا القرآن بحزن فانه نزل بحزن».
وعن إبراهيم ومجاهد رضى الله عنهما: أضاعوها بالتأخير. وينصر الأول قوله إِلَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ يعنى الكفار. وعن على رضى الله عنه في قوله وَاتَّبَعُوا الشَّهَواتِ من بنى الشديد، وركب المنظور، ولبس المشهور. وعن قتادة رضى الله عنه: هو في هذه الأمة. وقرأ ابن مسعود والحسن والضحاك رضى الله عنهم: الصلوات، بالجمع.
كل شر عند العرب: غىّ، وكل خير: رشاد. قال المرقش:
فمن يلق خيرا تحمد النّاس أمره | ومن يغو لا يعدم على الغى لائما «١» |
وقيل «غىّ» واد في جهنم تستعيذ منه أوديتها. وقرأ الأخفش يُلْقُونَ.
[سورة مريم (١٩) : آية ٦٠]
إِلاَّ مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ شَيْئاً (٦٠)
قرئ: يدخلون، ويدخلون: أى لا ينقصون شيئا من جزاء أعمالهم ولا يمنعونه، بل يضاعف لهم، بيانا لأن تقدّم الكفر لا يضرهم إذا تابوا من ذلك، من قولك: ما ظلمك أن تفعل كذا، بمعنى: ما منعك. أو لا يظلمون البتة، أى شيئا من الظلم.
[سورة مريم (١٩) : آية ٦١]
جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمنُ عِبادَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّهُ كانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا (٦١)
لما كانت الجنة مشتملة على جنات عدن أبدلت مها، كقولك: أبصرت دارك القاعة والعلالي. و «عدن» معرفة علم، بمعنى العدن وهو الإقامة، كما جعلوا. فينة، وسحر، وأمس
أمن حلم أصبحت تنكت واجما | وقد تعترى الأحلام من كان تائما |
فمن يلق خيرا يحمد الناس أمره | ومن يغو لا يعدم على الغى لائما |
أو هو علم لأرض الجنة، لكونها مكان إقامة، ولولا ذلك لما ساغ الإبدال، لأن النكرة لا تبدل من المعرفة إلا موصوفة، ولما ساغ وصفها بالتي. وقرئ: جنات عدن. وجنة عدن بالرفع على الابتداء. أى: وعدها وهي غائبة عنهم غير حاضرة. أو هم غائبون عنها لا يشاهدونها. أو بتصديق الغيب والإيمان به. قيل في مَأْتِيًّا مفعول بمعنى فاعل.
والوجه أنّ الوعد هو الجنة وهم يأتونها. أو هو من قولك: أتى إليه إحسانا، أى: كان وعده مفعولا منجزا.
[سورة مريم (١٩) : آية ٦٢]
لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً إِلاَّ سَلاماً وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيها بُكْرَةً وَعَشِيًّا (٦٢)
اللغو: فضول الكلام وما لا طائل تحته. وفيه تنبيه ظاهر على وجوب تجنب اللغو واتقائه، حيث نزه الله عنه الدار التي لا تكليف فيها. وما أحسن قوله سبحانه وَإِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً وَإِذا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقالُوا لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجاهِلِينَ نعوذ بالله من اللغو والجهل والخوض فيما لا يعنينا. أى: إن كان تسليم بعضهم على بعض أو تسليم الملائكة عليهم لغوا، فلا يسمعون لغوا إلا ذلك، فهو من وادى قوله:
ولا عيب فيهم غير أنّ سيوفهم | بهنّ فلول من قراع الكتائب «٢» |
أو لأن معنى السلام هو الدعاء بالسلامة «٤». ودار السلام: هي دار السلامة، وأهلها عن الدعاء بالسلامة أغنياء، فكان ظاهره من باب اللغو وفضول الحديث، لولا ما فيه من فائدة الإكرام.
(٢). تقدم شرح هذا الشاهد بصفحة ١٤٢ من الجزء الثاني فراجعه إن شئت اه مصححه.
(٣). قال محمود: «يجوز أن يكون من قوله:
ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم | بهن فلول من قراع الكتائب |
(٤). عاد كلامه. قال: «ويجوز أن يكون متصلا على أن يكون السلام هو الدعاء بالسلامة... الخ» قال أحمد:
وهذا يجعله من المتصل على أصل الحقيقة. لا كالأول الناشئ عن المجاز. وفي هذا الباب بعد، لأنه يقتضى البت بأن الجنة يسمع فيها لغو وفضول، وحاش لله، فلا غول فيها ولا لغو.
ومنهم من يتغدى ويتعشى- وهي العادة الوسطى المحمودة، ولا يكون ثم ليل ولا نهار، ولكن على التقدير، ولأن المتنعم عند العرب من وجد غداء وعشاء. وقيل: أراد دوام الرزق ودروره، كما تقول: أنا عند فلان صباحا ومساء وبكرة وعشيا، يريد: الديمومة، ولا تقصد الوقتين المعلومين.
[سورة مريم (١٩) : آية ٦٣]
تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبادِنا مَنْ كانَ تَقِيًّا (٦٣)
نُورِثُ وقرئ: نورّث، استعارة، أى: نبقى عليه الجنة كما نبقى على الوارث مال المورّث ولأن الأتقياء يلقون ربهم يوم القيامة قد انقضت أعمالهم وثمرتها باقية وهي الجنة، فإذا أدخلهم الجنة فقد أورثهم من تقواهم كما يورّث الوارث المال من المتوفى. وقيل: أورثوا من الجنة المساكن التي كانت لأهل النار لو أطاعوا.
[سورة مريم (١٩) : آية ٦٤]
وَما نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ ما بَيْنَ أَيْدِينا وَما خَلْفَنا وَما بَيْنَ ذلِكَ وَما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا (٦٤)
وَما نَتَنَزَّلُ حكاية قول جبريل صلوات الله عليه حين استبطأه رسول الله صلى الله عليه وسلم. روى أنه احتبس أربعين يوما. وقيل: خمسة عشر يوما، وذلك حين سئل عن قصة أصحاب الكهف وذى القرنين والروح، فلم يدر كيف يجيب ورجا أن يوحى إليه فيه، فشق ذلك عليه مشقة شديدة وقال المشركون: ودّعه ربه وقلاه فلما نزل جبريل عليه السلام قال له النبي صلى الله عليه وسلم: أبطأت حتى ساء ظنى واشتقت إليك. قال: إنى كنت أشوق ولكنى عبد مأمور، إذا بعثت نزلت، وإذا حبست احتبست. وأنزل الله سبحانه هذه الآية وسورة الضحى «٢». والتنزل على معنيين: معنى النزول على مهل، ومعنى النزول على الإطلاق، كقوله:
(٢). ذكره الثعلبي عن عكرمة والضحاك وقتادة ومقاتل والكلبي. فقالوا، احتبس، فذكره سواء، وكأنه ملفق عندهم، فقد ذكره ابن إسحاق في السيرة. قال حدثني شيخ من أهل مصر عن عكرمة عن ابن عباس «أن قريشا جاءوا فقالوا: يا محمد، أخبرنا عن فتية ذهبوا في الدهر الأول- فذكر القصة- وفيها «فمكث فيما يذكرون خمسة عشرة ليلة لا يحدث الله إليه في ذلك وصار لا يأتيه جبريل. فذكره بتغير وزيادة ونقص. ورواه أبو نعيم في الدلائل من طريقه ومن طريق الكلبي عن أبى صالح عن ابن عباس نحوه. وقال أبطأ عنه خمسة عشر يوما لتركه الاستثناء.
فلست لإنسىّ ولكن لملأك | تنزّل من جو السّماء يصوب «١» |
الأرض التي بين أيدينا إذا نزلنا، والسماء التي وراءنا، وما بين السماء والأرض، والمعنى:
أنه المحيط بكل شيء لا تخفى عليه خافية ولا يعزب عنه مثقال ذرة، فكيف نقدم على فعل نحدثه إلا صادرا عما توجبه حكمته ويأمرنا به ويأذن لنا فيه. وقيل معنى وَما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا وما كان تاركا لك، كقوله تعالى ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى أى: ما كان امتناع النزول إلا لامتناع الأمر به. وأما احتباس الوحى فلم يكن عن ترك الله لك وتوديعه إياك، ولكن لتوقفه على المصلحة. وقيل: هي حكاية قول المتقين حين يدخلون الجنة، أى: وما ننزل الجنة إلا بأن من الله علينا بثواب أعمالنا وأمرنا بدخولها، وهو المالك لرقاب الأمور كلها السالفة
تعاليت أن تعزى إلى الانس جلة | وللانس من يعزوك فهو كذوب |
فلست باء نسى ولكن ملأكا | تنزل من جو السماء يصوب |
فلست لانسى ولكن لملأك
أى: فلست منسوبا لانسى ولكن لملك، وبالغ في ذلك حتى جعله نازلا من جهة السماء، يصوب: أى يقصد إلى جهة.
فحين عرفته على هذه الصفة، فأقبل على العمل واعبده: يثبك كما أثاب غيرك من المتقين. وقرأ الأعرج رضى الله عنه: وما يتنزل، بالياء على الحكاية عن جبريل عليه السلام والضمير للوحى.
وعن ابن مسعود رضى الله عنه: إلا بقول ربك. يجب أن يكون الخلاف في النسى مثله في البغي.
[سورة مريم (١٩) : آية ٦٥]
رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا (٦٥)
رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ بدل من ربك، ويجوز أن يكون خبر مبتدإ محذوف، أى هو رب السموات والأرض فَاعْبُدْهُ كقوله:
وقائلة خولان فانكح فتاتهم «١»
وعلى هذا الوجه يجوز أن يكون وَما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا من كلام المتقين، وما بعده من كلام رب العزة. فإن قلت: هلا عدى اصْطَبِرْ بعلى التي هي صلته، كقوله تعالى وَاصْطَبِرْ عَلَيْها؟
قلت: لأن العبادة جعلت بمنزلة القرن في قولك للمحارب: اصطبر لقرنك، أى اثبت له فيما يورد عليك من شدائد أريد أن العبادة تورد عليك شدائد ومشاق، فاثبت لها ولا تهن، ولا يضق صدرك عن إلقاء عداتك من أهل الكتاب إليك الأغاليط، وعن احتباس الوحى عليك مدة وشماتة المشركين بك. أى: لم يسم شيء بالله قط، وكانوا يقولون لأصنامهم: آلهة، والعزى إله وأما الذي عوض فيه الألف واللام من الهمزة، فمخصوص به المعبود الحق غير مشارك فيه.
وقائلة خولان فانكح فتاتهم | وأكرومة الحيين خلو كما هيا |
وبنى «أكرومة» من الكرم للدلالة على كثرة السكرم، كما أن أعجوبة من التعجب للدلالة على كثرته، والجملة حالية، فيحتمل أنها مانعة من نكاح الفتاة، أى قالت لي ذلك، والحال أن أكرومة الحيين أى كريمة حى أبى وحى أمى خلو بالضم: خالية من الأرواح كما كانت، فهي أولى من الفتاة بالزواج لقرابتها منى. ويحتمل أنها داعية إليه، فالمعنى: قالت لي ذلك والحال أن الفتاة التي هي أكرومة الحيين، أى حى أبيها وحى أمها من خولان، على ما هي عليه من البكارة، أو من الخلو من الأزواج لم تتزوج أحدا قبلي، فهي حقيقة بأن أتزوجها لكرم طرفيها، فعلم أن الكاف بمعنى على. ويجوز أن يشبه حالها الآن بحالها فيما مضى، فالكاف على أصلها. ويحتمل أن الواو للعطف، أى: قالت ذلك، وقالت: إنها خالية لم يطمثها أحد قبلك، فهي حقيقة بالزواج لذلك، لكنه بعيد.
مثلا وشبيها، أى: إذا صح أن لا معبود يوجه إليه العباد العبادة إلا هو وحده، لم يكن بد من عبادته والاصطبار على مشاقها وتكاليفها.
[سورة مريم (١٩) : الآيات ٦٦ الى ٦٧]
وَيَقُولُ الْإِنْسانُ أَإِذا ما مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا (٦٦) أَوَلا يَذْكُرُ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً (٦٧)
يحتمل أن يراد بالإنسان الجنس بأسره، وأن يراد بعض الجنس وهم الكفرة. فإن قلت: لم جازت إرادة الأناسى كلهم، وكلهم غير قائلين ذلك؟ قلت: لما كانت هذه المقالة موجودة فيمن هو من جنسهم، صح إسناده إلى جميعهم، كما يقولون: بنو فلان قتلوا فلانا، وإنما القاتل رجل منهم. قال الفرزدق:
فسيف بنى عبس وقد ضربوا به | نبا بيدي ورقاء عن رأس خالد «١» |
فإن قلت: بم انتصب إِذا وانتصابه بأخرج ممتنع لأجل اللام، لا تقول: اليوم لزيد قائم؟ قلت:
بفعل مضمر يدل عليه المذكور. فإن قلت: لام الابتداء الداخلة على المضارع تعطى معنى الحال، فكيف جامعت حرف الاستقبال؟ «٢» قلت: لم تجامعها إلا مخلصة للتوكيد كما أخلصت الهمزة في يا الله للتعويض واضمحل عنها معنى التعريف. و «ما» في إِذا ما للتوكيد أيضا، فكأنهم قالوا:
أحقا أنا سنخرج أحياء حين يتمكن فينا الموت والهلاك؟ على وجه الاستنكار والاستبعاد.
والمراد الخروج من الأرض، أو من حال الفناء. أو هو من قولهم: خرج فلان عالما، وخرج
والمعنى: أن الحذر لا ينفع من القدر كما وقع لورقاء، مع أنه في غاية الحرص، لا سيما أمام الملك. ويجوز أنه يريد ذم بنى عبس.
(٢). قال محمود: «إن قلت كيف اجتمعت اللام وهي للحال مع حرف الاستقبال... الخ» قال أحمد:
ولاعتقاد تناقض الحرفين: منع الكوفيين اجتماعهما، وإنما جردت اللام من معناها لتلائم «سوف» دون أن تجرد سوف لتلائم اللام، لأنه لو عكس هذا للغت سوف، إذ لا معنى لها سوى الاستقبال. وأما اللام إذا جردت من الحال بقي لها التوكيد، فلم تلغ، فتعين، والله أعلم.
لسوف أخرج. وعن طلحة بن مصرف رضى الله عنه: لسأخرج، كقراءة ابن مسعود رضى الله عنه: ولسيعطيك، وتقديم الظرف وإيلاؤه حرف الإنكار من قبل أن ما بعد الموت هو وقت كون الحياة منكرة، ومنه جاء إنكارهم، فهو كقولك للمسىء إلى المحسن: أحين تمت عليك نعمة فلان أسأت إليه: الواو عطفت لا يَذْكُرُ على يَقُولُ ووسطت همزة الإنكار بين المعطوف عليه وحرف العطف، يعنى: أيقول ذاك ولا يتذكر حال النشأة الأولى حتى لا ينكر الأخرى «١» فإن تلك أعجب وأغرب وأدل على قدرة الخالق، حيث أخرج الجواهر والأعراض من العدم إلى الوجود، ثم أوقع التأليف مشحونا بضروب الحكم التي تحار الفطن فيها، من غير حذو على مثال واقتداء بمؤلف. ولكن اختراعا وإبداعا من عند قادر جلت قدرته ودقت حكمته. وأما الثانية فقد تقدمت نظيرتها وعادت لها كالمثال المحتذى عليه. وليس فيها إلا تأليف الأجزاء الموجودة الباقية وتركيبها، وردها إلى ما كانت عليه مجموعة بعد التفكيك والتفريق. وقوله تعالى وَلَمْ يَكُ شَيْئاً دليل على هذا المعنى، وكذلك قوله تعالى وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ على أن رب العزة سواء عليه النشأتان، لا يتفاوت في قدرته الصعب والسهل، ولا يحتاج إلى احتذاء على مثال ولا استعانة بحكيم، ولا نظر في مقياس، ولكن يواجه جاحد البعث بذلك دفعا في بحر معاندته، وكشفا عن صفحة جهله. القراء كلهم على لا يَذْكُرُ بالتشديد إلا نافعا وابن عامر
[سورة مريم (١٩) : الآيات ٦٨ الى ٧٠]
فَوَ رَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّياطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا (٦٨) ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمنِ عِتِيًّا (٦٩) ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلى بِها صِلِيًّا (٧٠)
في إقسام الله تعالى باسمه تقدست أسماؤه مضافا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم: تفخيم لشأن رسول الله ورفع منه، كما رفع من شأن السماء والأرض في قوله تعالى فَوَ رَبِّ السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ والواو في وَالشَّياطِينَ يجوز أن تكون للعطف، وبمعنى مع، وهي بمعنى «مع» أوقع. والمعنى: أنهم يحشرون مع قرنائهم من الشياطين الذين أغووهم، يقرن كل كافر مع شيطان في سلسلة. فإن قلت:
هذا إذا أريد بالإنسان الكفرة خاصة، فإن أريد الأناسى على العموم «١» فكيف يستقيم حشرهم مع الشياطين؟ قلت: إذا حشر جميع الناس حشرا واحدا وفيهم الكفرة مقرونين بالشياطين.
فقد حشروا مع الشياطين كما حشروا مع الكفرة. فإن قلت: هلا عزل السعداء عن الأشقياء في الحشر كما عزلوا عنهم في الجزاء؟ قلت: لم يفرّق بينهم وبينهم في المحشر، وأحضروا حيث تجاثوا حول جهنم، وأوردوا معهم النار ليشاهد السعداء الأحوال التي نجاهم الله منها وخلصهم، فيزدادوا لذلك غبطة إلى غبطة وسرورا إلى سرور، ويشمتوا بأعداء الله وأعدائهم، فتزداد مساءتهم وحسرتهم وما يغيظهم من سعادة أولياء الله وشماتتهم بهم. فإن قلت: ما معنى إحضارهم جثيا؟ قلت: أما إذا فسر الإنسان بالخصوص، فالمعنى أنهم يقبلون من المحشر إلى شاطئ جهنم عتلا «٢» على حالهم التي كانوا عليها في الموقف، جثاة على ركبهم، غير مشاة على أقدامهم، وذلك أن أهل الموقف وصفوا بالجثو. قال الله تعالى وَتَرى كُلَّ أُمَّةٍ جاثِيَةً على العادة المعهودة في مواقف المقاولات والمناقلات، من تجاثى أهلها على الركب، لما في ذلك من الاستيفاز والقلق وإطلاق الحبا وخلاف الطمأنينة. أو لما يدهمهم من شدّة الأمر التي
(٢). قوله «عتلا» العتل: الجذب العنيف. أفاده الصحاح- (ع)
أو أراد بالذين هم أولى به صليا: المنتزعين كما هم، كأنه قال: ثم لنحن أعلم بتصلية هؤلاء، وهم أولى بالصلى من بين سائر الصالين، ودركاتهم أسفل، وعذابهم أشدّ. ويجوز أن يريد بأشدّهم عتيا: رؤساء الشيع وأئمتهم، لتضاعف جرمهم بكونهم ضلالا ومضلين. قال الله تعالى الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْناهُمْ عَذاباً فَوْقَ الْعَذابِ بِما كانُوا يُفْسِدُونَ، وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَأَثْقالًا مَعَ أَثْقالِهِمْ واختلف في إعراب أَيُّهُمْ أَشَدُّ فعن الخليل أنه مرتفع على الحكاية. تقديره: لتنزعنّ الذين يقال فيهم أيهم أشد، وسيبويه على أنه مبنى على الضم لسقوط صدر الجملة التي هي صلته، حتى لو جيء به لأعرب. وقيل: أيهم هو أشد. ويجوز أن يكون النزع واقعا على مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ، كقوله سبحانه وَوَهَبْنا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنا أى لننزعن بعض كل شيعة، فكأنّ قائلا قال: من هم؟ فقيل: أيهم أشد عتيا. وأيهم أشد: بالنصب عن طلحة ابن مصرف وعن معاذ بن مسلم الهراء أستاذ الفراء. فإن قلت: بم يتعلق على والباء، فإنّ تعلقهما بالمصدرين لا سبيل إليه؟ قلت: هما للبيان لا الصلة. أو يتعلقان بأفعل، أى: عتوّهم أشد على الرحمن، وصليهم أولى بالنار، كقولهم: هو أشد على خصمه، وهو أولى بكذا.
[سورة مريم (١٩) : الآيات ٧١ الى ٧٢]
وَإِنْ مِنْكُمْ إِلاَّ وارِدُها كانَ عَلى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيًّا (٧١) ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيها جِثِيًّا (٧٢)
وَإِنْ مِنْكُمْ التفات إلى الإنسان، يعضده قراءة ابن عباس وعكرمة رضى الله عنهما:
وإن منهم. أو خطاب للناس «٢» من غير التفات إلى المذكور، فإن أريد الجنس كله فمعنى الورود دخولهم فيها وهي جامدة، فيعبرها المؤمنون وتنهار بغيرهم. عن ابن عباس رضى الله
(٢). قال محمود: «يحتمل أن يكون استئنافا خطابا للناس، ويحتمل أن يكون التفاتا» قال أحمد: احتمال الالتفات مفرع على إرادة العموم من الأول، فيكون المخاطبون أولا هم المخاطبين ثانيا، إلا أن الخطاب الأول بلفظ الغيبة، والثاني بلفظ الحضور. وأما إذا بنينا على أن الأول إنما أريد منه خصوص على التقديرين جميعا، فالثاني ليس التفاتا، وإنما هو عدول إلى خطاب العامة عن خطاب خاص لقوم معينين، والله أعلم. [.....]
. وعن جابر بن عبد الله أنه سأل رسول الله ﷺ عن ذلك؟ فقال: إذا دخل أهل الجنة الجنة قال بعضهم لبعض: أليس قد وعدنا ربنا أن نرد النار، فيقال لهم: قد وردتموها وهي جامدة «٢». وعنه رضى الله عنه أنه سئل عن هذه الآية؟ فقال: سمعت رسول الله ﷺ يقول «الورود الدخول، لا يبقى برّ ولا فاجر إلا دخلها، فتكون على المؤمنين بردا وسلاما كما كانت على إبراهيم، حتى إنّ للنار ضجيجا من بردها» «٣» وأما قوله تعالى أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ فالمراد عن عذابها. وعن ابن مسعود والحسن وقتادة: هو الجواز على الصراط، لأنّ الصراط ممدود عليها. وعن ابن عباس: قد يرد الشيء الشيء ولا يدخله، كقوله تعالى وَلَمَّا وَرَدَ ماءَ مَدْيَنَ ووردت القافلة البلد، وإن لم تدخله ولكن قربت منه. وعن مجاهد: ورود المؤمن النار هو مس الحمى جسده في الدنيا، لقوله عليه السلام «الحمى من فيح جهنم» «٤» وفي الحديث «الحمى حظ كل مؤمن من النار» «٥» ويجوز أن يراد بالورود: جثوّهم حولها. وإن أريد الكفار خاصة، فالمعنى بين.
الحتم: مصدر حتم الأمر إذا أوجبه، فسمى به الموجب، كقولهم: خلق الله، وضرب الأمير، أى: كان ورودهم واجبا على الله، أوجبه على نفسه وقضى به، وعزم على أن لا يكون غيره. قرئ نُنَجِّي وننجي، وينجى وينجى، على ما لم يسم فاعله. إن أريد الجنس بأسره فهو
(٢). روى عن جابر هكذا. قلت المحفوظ عن جابر ما سيأتى بعد. وروى ابن إسحاق وأبو عبيد في الغريب وابن المبارك في الزهد من طريق ومعه خالد بن معدان. قال «إذا جاز المؤمنون الصراط نادى بعضهم بعضا: ألم يعدنا ربنا» فذكره، ولم يذكره الواحدي والبغوي إلا من هذا الوجه.
(٣). رواه أحمد وابن أبى شيبة وعبد بن حميد. قالوا حدثنا سليمان بن حرب وأخرجه أبو يعلى والنسائي في الكنى والبيهقي في الشعب في باب النار، والحكيم في النوادر. السادس عشر، كلهم من طريق سليمان. قال حدثنا أبو صالح غالب بن سليمان عن كثير بن زياد عن أبى سمية قال «اختلفنا في الورود، فسألنا جابرا فذكر الحديث أتم منه» وخالفهم كلّهم الحاكم فرواه من طريق سليمان بهذا الاسناد فقال: عن سمية الأزدية عن عبد الرحمن بن شيبة بدل أبى سمية- عن جابر.
(٤). متفق عليه من حديث عائشة رضى الله عنها.
(٥). أخرجه البزار عن عائشة بهذا. وقال: تفرد برفعه عثمان بن مخلد عن هشيم بن مغيرة عن إبراهيم عن الأسود عنها. وقال الدارقطني: عثمان لا بأس به، لكن خولف في رفع هذا الحديث فرواه ببدل عن هشيم موقوفا. قلت: وقد روى مرفوعا من وجه آخر. أخرجه القضاعي من مسند الشهاب من طريق أحمد بن رشد الهلالي عن حميد بن عبد الرحمن الروالى عن الحسن بن صالح عن الحسن بن عمرو عن إبراهيم به. وزاد «وحمى ليلة تكفر خطايا سنة» في الباب عن أبى هريرة عن ابن ماجة والحاكم، وعن أبى ريحانة عند الطبراني، وعن أبى أمامة عند أحمد. وعن عثمان عند القتيلى وعن سعد بن معاذ عند ابن سعد في الطبقات وعن أنس عند الطبراني بالأوسط. وكلها ضعيفة وهي بمعناه لا بلفظه.
[سورة مريم (١٩) : آية ٧٣]
وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقاماً وَأَحْسَنُ نَدِيًّا (٧٣)
بَيِّناتٍ مرتلات الألفاظ، ملخصات المعاني، مبينات المقاصد: إما محكمات أو متشابهات، قد تبعها البيان بالمحكمات. أو بتبيين الرسول قولا أو فعلا. أو ظاهرات الإعجاز تحدّى بها فلم يقدر على معارضتها. أو حججا وبراهين. والوجه أن تكون حالا مؤكدة كقوله تعالى وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لأن آيات الله لا تكون إلا واضحة وحججا لِلَّذِينَ آمَنُوا يحتمل أنهم يناطقون المؤمنون بذلك ويواجهونهم به، وأنهم يفوهون به لأجلهم وفي معناهم، كقوله تعالى وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كانَ خَيْراً ما سَبَقُونا إِلَيْهِ. قرأ ابن كثير مَقاماً بالضم وهو موضع الإقامة والمنزل، والباقون بالفتح وهو موضع القيام، والمراد المكان والموضع.
والندىّ: المجلس ومجتمع القوم، وحيث ينتدون «١». والمعنى: أنهم إذا سمعوا الآيات وهم جهلة لا يعلمون إلا ظاهرا من الحياة الدنيا وذلك مبلغهم من العلم، قالوا: أىّ الفريقين من المؤمنين بالآيات والجاحدين لها أوفر حظا من الدنيا حتى يجعل ذلك عيارا على الفضل والنقص، والرفعة والضعة. ويروى أنهم كانوا يرجلون شعورهم ويدهنون ويتطيبون ويتزينون بالزين الفاخرة، ثم يدعون مفتخرين على فقراء المسلمين أنهم أكرم على الله منهم.
[سورة مريم (١٩) : آية ٧٤]
وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثاثاً وَرِءْياً (٧٤)
كَمْ مفعول أَهْلَكْنا ومِنْ تبيين لإبهامها، أى: كثيرا من القرون أهلكنا.
وكل أهل عصر قرن لمن بعدهم لأنهم يتقدمونهم. وهُمْ أَحْسَنُ في محل النصب صفة لكم.
ألا ترى أنك لو تركت هُمْ لم يكن لك بدّ من نصب أَحْسَنُ على الوصفية.
الأثاث: متاع البيت. وقيل: هو ماجد من الفرش. والخرثي: ما ليس منها. وأنشد الحسن بن على الطوسي:
تقادم العهد من أمّ الوليد بنا | دهرا وصار أثاث البيت خرثيّا «١» |
[سورة مريم (١٩) : آية ٧٥]
قُلْ مَنْ كانَ فِي الضَّلالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمنُ مَدًّا حَتَّى إِذا رَأَوْا ما يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضْعَفُ جُنْداً (٧٥)
أى مدّ له الرحمن، يعنى: أمهله وأملى له في العمر، فأخرج على لفظ الأمر إيذانا بوجوب ذلك، وأنه مفعول لا محالة، كالمأمور به الممتثل، لتقطع معاذير الضال، ويقال له يوم القيامة أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ ما يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ أو كقوله تعالى إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً أو مَنْ كانَ فِي الضَّلالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمنُ مَدًّا في معنى الدعاء بأن يمهله الله وينفس في مدّة حياته. في هذه الآية وجهان. أحدهما: أن تكون متصلة بالآية التي هي رابعتها، والآيتان اعتراض بينهما، أى قالوا: أى الفريقين خير مقاما وأحسن نديا حَتَّى إِذا رَأَوْا ما يُوعَدُونَ أى لا يبرحون يقولون هذا القول ويتولعون به لا يتكافون عنه إلى أن يشاهدوا الموعود رأى عين إِمَّا الْعَذابَ في الدنيا وهو غلبة المسلمين عليهم وتعذيبهم إياهم قتلا وأسرا وإظهار الله دينه على الدين كله على أيديهم. وإما يوم القيامة وما ينالهم من الخزي والنكال، فحينئذ يعلمون عند المعاينة أن الأمر على عكس ما قدروه، وأنهم شر مكانا وأضعف جندا، لا خير مقاما وأحسن نديا، وأن المؤمنين على خلاف صفتهم. والثاني: أن تتصل بما يليها. والمعنى: أن الذين في الضلالة ممدود لهم في ضلالتهم. والخذلان لا صق بهم لعلم الله بهم، وبأن الألطاف لا تنفع فيهم وليسوا من أهلها. والمراد بالضلالة: ما دعاهم من جهلهم وغلوهم في كفرهم إلى القول الذي قالوه. ولا ينفكون عن ضلالهم إلى أن يعاينوا نصرة الله المؤمنين أو يشاهدوا الساعة ومقدّماتها. فإن قلت: حتى هذه ما هي؟ قلت: هي التي تحكى بعدها الجمل. ألا ترى الجملة
المجلس الجامع لوجوه قومهم وأعوانهم وأنصارهم. والجند: هم الأنصار والأعوان.
[سورة مريم (١٩) : آية ٧٦]
وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدىً وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً وَخَيْرٌ مَرَدًّا (٧٦)
وَيَزِيدُ معطوف على موضع فليمدد، لأنه واقع موقع الخبر، تقديره: من كان في الضلالة مدّ أو يمدّ له الرحمن. ويزيد: أى يزيد في ضلال الضال بخذلانه، ويزيد المهتدين هداية بتوفيقه وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ أعمال الآخرة كلها. وقيل: الصلوات. وقيل: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر، أى هي خَيْرٌ ثَواباً من مفاخرات الكفار وَخَيْرٌ مَرَدًّا أى مرجعا وعاقبة، أو منفعة، من قولهم: ليس لهذا الأمر مردّ:
وهل يرد بكاى زندا «١»
فإن قلت: كيف قيل خير ثوابا كأنّ لمفاخراتهم ثوابا، حتى يجعل ثواب الصالحات خيرا منه؟ قلت:
كأنه قيل:
ثوابهم النار. على طريقة قوله:... فأعتبوا بالصّيلم «٢»
وقوله:
شجعاء جرّتها الذّميل تلوكه... أصلا إذا راح المطي غراثا «٣»
وقوله:
تحيّة بينهم ضرب وجيع «٤»
ثم بنى عليه خير ثوابا. وفيه ضرب من التهكم الذي هو أغيظ للمتهدد من أن يقال له: عقابك النار. فإن قلت: فما وجه التفضيل في الخير كأن لمفاخرهم شركا فيه؟ قلت: هذا من وجيز كلامهم، يقولون: الصيف أحرّ من الشتاء، أى: أبلغ من الشتاء في برده.
(٢). تقدم شرح هذا الشاهد بالجزء الأول صفحة ١٠٥ فراجعه إن شئت اه مصححه
(٣). الشجع: سرعة نقل القوائم. والشجعاء: السريعة السير. والجرة- بالكسر-، ما يجتره البعير من كرشه يمضغه. والذميل: نوع من السير. واللوك: المضغ. والأصل: جمع أصيل، وهو من العصر للغروب. والرواح:
من الظهر إليه. والغراث: الجياع. يصف ناقته بسرعة السير، وشبه السير عندها بجرتها، يجامع سرعة الحركة وانطباع الناقة واستلذاذها لكل. وجعلها تبرزه شيئا فشيئا كالجرة للمبالغة. وفيه دلالة على خلو بطنها من العلف إذا راح، أى: إذا كان غيرها لا يجد قوة على السير، فالغرث: استعارة. ويجوز أن المعنى أنها سريعة في السير ولو كانت جائعة كغيرها من المطايا، فالغرث حقيقته.
(٤). تقدم شرح هذا الشاهد بالجزء الأول صفحة ٦٠ فراجعه إن شئت اه مصححه
[سورة مريم (١٩) : الآيات ٧٧ الى ٨٠]
أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآياتِنا وَقالَ لَأُوتَيَنَّ مالاً وَوَلَداً (٧٧) أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً (٧٨) كَلاَّ سَنَكْتُبُ ما يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذابِ مَدًّا (٧٩) وَنَرِثُهُ ما يَقُولُ وَيَأْتِينا فَرْداً (٨٠)لما كانت مشاهدة الأشياء ورؤيتها طريقا إلى الإحاطة بها علما وصحة الخبر عنها، استعملوا «أرأيت» في معنى «أخبر» والفاء جاءت لإفادة معناها الذي هو التعقيب، كأنه قال: أخبر أيضا بقصة هذا الكافر، واذكر حديثه عقيب حديث أولئك أَطَّلَعَ الْغَيْبَ من قولهم:
أطلع الجبل: إذا ارتقى إلى أعلاه وطلع «١» الثنية. قال جرير:
لاقيت مطّلع الجبال وعورا «٢»
ويقولون: مرّ مطلعا لذلك الأمر، أى عاليا له مالكا له، ولاختيار هذه الكلمة شأن، يقول:
أو قد بلغ من عظمة شأنه أن ارتقى إلى علم الغيب الذي توحد به الواحد القهار. والمعنى: أن ما ادعى أن يؤتاه وتألى عليه لا يتوصل إليه إلا بأحد هذين الطريقين: إما علم الغيب، وإما عهد من عالم الغيب، فبأيهما توصل إلى ذلك؟ قرأ حمزة والكسائي: ولدا، وهو جمع ولد، كأسد في أسد. أو بمعنى الولد كالعرب في العرب. وعن يحيى بن يعمر: ولدا، بالكسر. وقيل في العهد:
كلمة الشهادة. وعن قتادة: هل له عمل صالح قدّمه فهو يرجو بذلك ما يقول؟ وعن الكلبي: هل عهد الله إليه أنه يؤتيه ذلك؟ عن الحسن رحمه الله: نزلت في الوليد بن المغيرة، والمشهور أنها في العاصي بن وائل. قال خباب بن الأرت: كان لي عليه دين فافتضيته، فقال: لا والله حتى تكفر بمحمد. قلت: لا والله لا أكفر بمحمد حيا ولا ميتا ولا حين تبعث. قال: فإنى إذا مت بعثت؟ قلت: نعم. قال: إذا بعثت جئتني وسيكون لي ثم مال وولد فأعطيك «٣». وقيل:
(٢).
إنى إذا مضر علىّ تحدثت | لاقيت مطلع الجبال وعورا |
جمع وعر، أى: صعب مفعول لاقيت، أو المفعول هو مطلع. ووعورا: حال، لا سيما على رواية فتح واوه على أنه صيغة مبالغة، يقول: إذا تقولت على مضر ما لا أرتضيه، أو تكلمت في قتلى، وجدت في مطالع الجبال أشياء صعابا فأعجز عن الهرب. أو المعنى: أنه يقتحم الصعاب ولا يبالى بها ويهرب منهم. وعلى الحالية: لاقيت مطلع الجبال حال كونه أماكن صعبة، والمطلع متعدد لإضافته لمتعدد، وعلى فتح الواو فظاهر.
(٣). متفق عليه من طريق مسروق عن خباب أتم منه. [.....]
إذا ما انتسبنا لم تلدني لئيمة «١»
أى تبين وعلم بالانتساب أنى لست بابن لئيمة. والثاني: أن المتوعد يقول للجاني: سوف أنتقم منك، يعنى أنه لا يخل بالانتصار وإن تطاول به الزمان واستأخر، فجرد هاهنا لمعنى الوعيد وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذابِ مَدًّا أى نطوّل له من العذاب ما يستأهله ونعذبه بالنوع الذي يعذب به الكفار المستهزءون. أو نزيده من العذاب ونضاعف له من المدد. يقال: مده وأمده بمعنى، وتدل عليه قراءة علىّ بن أبى طالب: ونمد له بالضم. وأكد ذلك بالمصدر، وذلك من فرط غضب الله، نعوذ به من التعرّض لما نستوجب به غضبه وَنَرِثُهُ ما يَقُولُ أى نزوى عنه ما زعم أنه يناله في الآخرة ونعطيه من يستحقه. والمعنى مسمى ما يقول. ومعنى ما يَقُولُ وهو المال والولد. يقول الرجل: أنا أملك كذا، فتقول له: ولى فوق ما تقول، ويحتمل أنه قد تمنى وطمع أن يؤتيه الله في الدنيا مالا وولدا، وبلغت به أشعبيته «٢» أن تألى على ذلك في قوله لَأُوتَيَنَّ لأنه جواب قسم مضمر، ومن يتأل على الله يكذبه، فيقول الله عز وجل هب أنا أعطيناه ما اشتهاه، إما نرثه منه في العاقبة ويأتينا فردا غدا بلا مال ولا ولد، كقوله عز وجل وَلَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى... الآية فما يجدى عليه تمنيه وتأليه. ويحتمل أن هذا القول
رمتني عن قوس العدو وباعدت... عبيدة زاد الله ما بيننا بعدا
إذا ما انتسبنا لم تلدني لئيمة... ولم تجدى من أن تقرى بها بدا
لزائد بن صعصعة النقعسى، كانت له امرأة اسمها عبيدة فطمحت عليه وكانت أمها سرية، فعرض لها بذلك، يقول:
رمتني بأمر قبيح كأنه نبلة صادرة عن قوس العدو، أو أبعدتنى عنها بعد النبلة عن القوس: أى تسببت في ذلك وبالغت في بعد الرمي، و «زاد الله» جملة دعائية، ثم قال: إذا أظهرنا نسبنا يتبين أنى لم تلدني لئيمة بخلافك، ولم تجدى مفرا ولا غنى من إقرارك بتلك القضية. ويجوز أن المعنى: أنه لا بد من إقرارك بأمك اللئيمة، وعلم مرجع الضمير من ذكر المقابلة وهو أمه، وهذا أدق في التبكيت. ويروى: به، أى: بذلك النسب. وفي الالتفات من الغيبة إلى الخطاب نوع من التشنيع والتوبيخ، كأنه عجب الناس أولا من حالها، ثم التفت يبكتها بلؤم أمها وأنها رقيقة.
(٢). قوله «أشعبيته» في الصحاح «أشعب» اسم رجل كان طماعا. وفي المثل: أطمع من أشعب اه. ومنه:
أخذت الأشعبية، بمعنى: خصلة أشعب، وهي الطمع. (ع)
[سورة مريم (١٩) : الآيات ٨١ الى ٨٢]
وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا (٨١) كَلاَّ سَيَكْفُرُونَ بِعِبادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا (٨٢)
أى ليتعززوا بآلهتهم حيث يكونون لهم عند الله شفعاء وأنصارا ينقذونهم من العذاب كَلَّا ردع لهم وإنكار لتعززهم بالآلهة. وقرأ ابن نهيك كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبادَتِهِمْ أى سيجحدون كلا سيكفرون بعبادتهم، كقولك: زيدا مررت بغلامه. وفي محتسب ابن جنى: كلا بفتح الكاف والتنوين، وزعم أن معناه كل هذا الرأى والاعتقاد كلا. ولقائل أن يقول: إن صحت هذه الرواية فهي كلا التي هي للردع، قلب الواقف عليها ألفها نونا كما في قواريرا. والضمير في سَيَكْفُرُونَ للآلهة، أى: سيجحدون عبادتهم وينكرونها ويقولون: والله ما عبدتمونا وأنتم كاذبون. قال الله تعالى وَإِذا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكاءَهُمْ قالُوا رَبَّنا هؤُلاءِ شُرَكاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُوا مِنْ دُونِكَ فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكاذِبُونَ أو للمشركين: أى ينكرون لسوء العاقبة أن يكونوا قد عبدوها. قال الله تعالى: ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا وَاللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا في مقابلة لَهُمْ عِزًّا والمراد ضدّ العز وهو الذل والهوان، أى:
يكونون عليهم ضدا لما قصدوه وأرادوه، كأنه قيل: ويكونون عليهم ذلا، لا لهم عزا أو يكونون عليهم عونا، والضدّ: العون. يقال من أضدادكم: أى أعوانكم وكأن العون سمى ضدا لأنه يضاد عدوك وينافيه بإعانته لك عليه. فإن قلت: لم وحد؟ قلت: وحد توحيده قوله عليه السلام: «وهم يد على من سواهم «١» » لاتفاق كلمتهم وأنهم كشيء واحد لفرط تضامهم وتوافقهم ومعنى كون الآلهة عونا عليهم: أنهم وقود النار وحصب جهنم، ولأنهم عذبوا بسبب عبادتها
[سورة مريم (١٩) : آية ٨٣]
أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّياطِينَ عَلَى الْكافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا (٨٣)
الأز، والهزّ، والاستفزاز: أخوات، ومعناها التهييج وشدة الإزعاج، أى: تغريهم على المعاصي وتهيجهم لها بالوساوس والتسويلات. والمعنى: خلينا بينهم وبينهم «١» ولم نمنعهم ولو شاء لمنعهم قسرا. والمراد تعجيب رسول الله ﷺ بعد الآيات التي ذكر فيها العتاة والمردة من الكفار، وأقاويلهم، وملاحتهم، ومعاندتهم للرسل، واستهزاؤهم بالدين:
من تماديهم في الغىّ وإفراطهم في العناد، وتصميمهم على الكفر، واجتماعهم على دفع الحق بعد وضوحه وانتفاء الشكّ عنه، وإنهما كهم لذلك في اتباع الشياطين وما تسوّل لهم،
[سورة مريم (١٩) : آية ٨٤]
فَلا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّما نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا (٨٤)
عجلت عليه بكذا: إذا استعجلته منه، أى: لا تعجل عليهم بأن يهلكوا ويبيدوا، حتى تستريح أنت والمسلمون من شرورهم، وتطهر الأرض بقطع دابرهم، فليس بينك وبين ما تطلب من هلاكهم إلا أيام محصورة وأنفاس معدودة، كأنها في سرعة تقضيها الساعة التي تعد فيها لو عدت. ونحوه قوله تعالى وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ، كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ ما يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا ساعَةً مِنْ نَهارٍ وعن ابن عباس رضى الله عنه: أنه كان إذا قرأها بكى وقال: آخر العدد خروج نفسك، آخر العدد فراق أهلك، آخر العدد دخول قبرك. وعن ابن السماك أنه كان عند المأمون فقرأها، فقال: إذا كانت الأنفاس بالعدد ولم يكن لها مدد، فما أسرع ما تنفد.
[سورة مريم (١٩) : آية ٨٥]
يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمنِ وَفْداً (٨٥)
نصب يَوْمَ بمضمر، أى يوم نَحْشُرُ ونسوق: نفعل بالفريقين ما لا يحيط به الوصف. أو اذكر يوم نحشر. ويجوز أن ينتصب بلا يملكون. ذكر المتقون بلفظ التبجيل، وهو أنهم يجمعون إلى ربهم الذي غمرهم برحمته وخصهم برضوانه وكرامته، كما يفد الوفاد على الملوك منتظرين للكرامة عندهم. وعن علىّ رضى الله عنه: ما يحشرون والله على أرجلهم، ولكنهم على نوق رحالها ذهب، وعلى نجائب سروجها ياقوت «٢».
(٢). أخرجه ابن أبى شيبة وعبد الله بن أحمد في زيادات المسند، والطبري وابن أبى حاتم من رواية عبد الرحمن ابن إسحاق بن النعمان بن سعد بن على نحوه، وأخرجه ابن أبى داود في كتاب البعث من هذا الوجه مرفوعا. ورواه ابن عدى من حديث ابن عباس رضى الله عنهما مرفوعا أيضا.
[سورة مريم (١٩) : آية ٨٦]
وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلى جَهَنَّمَ وِرْداً (٨٦)وذكر الكافرون بأنهم يساقون إلى النار بإهانة واستخفاف كأنهم نعم عطاش تساق إلى الماء. والورود: العطاش لأنّ من يرد الماء لا يرده إلا لعطش وحقيقة الورد: المسير إلى الماء، قال:
ردى ردى ورد قطاة صمّا | كدريّة أعجبها برد الما «١» |
[سورة مريم (١٩) : آية ٨٧]
لا يَمْلِكُونَ الشَّفاعَةَ إِلاَّ مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً (٨٧)
الواو في لا يَمْلِكُونَ إن جعل ضميرا «٢» فهو للعباد، ودل عليه ذكر المتقين والمجرمين لأنهم على هذه القسمة. ويجوز أن تكون علامة للجمع، كالتي في «أكلونى البراغيث» والفاعل مَنِ اتَّخَذَ لأنه في معنى الجمع، ومحل مَنِ اتَّخَذَ رفع على البدل، أو على الفاعلية. ويجوز أن ينتصب على تقدير حذف المضاف، أى: إلا شفاعة من اتخذ. والمراد: لا يملكون أن يشفع لهم، واتخاذ العهد: الاستظهار بالإيمان والعمل. وعن ابن مسعود أن النبي ﷺ قال لأصحابه ذات يوم: «أيعجز أحدكم أن يتخذ كل صباح ومساء عند الله عهدا» قالوا: وكيف ذلك؟ قال: «يقول كل صباح ومساء: اللهم فاطر السموات والأرض عالم الغيب والشهادة إنى أعهد إليك بأنى أشهد أن لا إله إلا أنت وحدك لا شريك لك وأن محمدا
(٢). قال محمود: «يحتمل أن تكون الواو في لا يملكون ضميرا... الخ» قال أحمد: وفي هذا الوجه تعسف من حيث أنه إذا جعله علامة لمن فقد كشف معناها وأفصح بأنها متناولة جمعا، ثم أعاد على لفظها بالافراد ضمير اتخذ، ففيه الاعادة على لفظها بعد الاعادة على معناها بما يخالف ذلك، وهو مستنكر عندهم لأنه إجمال بعد إيضاح، وذلك تعكيس في طريق البلاغة، وإنما محجتها الواضحة الإيضاح بعد الإجمال. والواو على إعرابه، وإن لم تكن عائدة على من إلا أنها كاشفة لمعناها كشف الضمير العائد له، فتنبه لهذا العقد، فانه أروج من النقد:
وفي عنق الحسناء يستحسن العقد
[سورة مريم (١٩) : الآيات ٨٨ الى ٩١]
وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً (٨٨) لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدًّا (٨٩) تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا (٩٠) أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمنِ وَلَداً (٩١)
قرئ إِدًّا بالكسر والفتح. قال ابن خالويه: الإدّ والأدّ: العجب. وقيل: العظيم المنكر. والإدّة: الشدّة. وأدنى الأمر وآدنى: أثقلنى وعظم علىّ إدّا تَكادُ قراءة الكسائي ونافع بالياء. وقرئ «ينفطرن» «٢» الانفطار من فطره إذا شقه. والتفطر، من فطره إذا شققه وكرر الفعل فيه. وقرأ ابن مسعود: ينصدعن، أى تهد هدّا، أو مهدودة، أو مفعول له، أى: لأنها تهدّ. فإن قلت: ما معنى انفطار السموات وانشقاق الأرض وخرور الجبال؟
ومن أين تؤثر هذه الكلمة في الجمادات؟ قلت: فيه وجهان، أحدهما: أن الله سبحانه يقول:
كدت أفعل هذا بالسماوات والأرض «٣» والجبال عند وجود هذه الكلمة غضبا منى على من
اللهم فاطر السموات والأرض- فذكره مختصرا، وفي الباب عن أبى بكر رضى الله عنه، أخرجه الحكيم الترمذي في النوادر في السادس والسبعين بعد المائة.
(٢). قوله «وقرئ ينفطرن» يفيد أن القراءة المشهورة «يتفطرن» بالتاء. (ع)
(٣). قال محمود: «معناه: كدت أهدّ السموات وأفطر الأرض... الخ» قال أحمد: ويظهر لي وراءها معنى آخر والله أعلم، وذلك أن الله تعالى قد استعار لدلالتها على وجوده عز وجل موصوفا بصفات الكمال الواجبة له، أن جعلها تسبح بحمده. قال تعالى تُسَبِّحُ لَهُ السَّماواتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ ومما دلت عليه السموات والأرض والجبال بل وكل ذرة من ذراتها: أن الله تعالى مقدس عن نسبة الولد إليه:
وفي كل شيء له آية... تدل على أنه واحد
فالمعتقد نسبة الولد إلى الله تعالى قد عطل دلالة هذه الموجودات على تنزيه الله وتقديسه، فاستعير لابطال ما فيها من روح الدلالة التي خلقت لأجلها، إبطال صورها بالهد والانفطار والانشقاق «فسبحان من قسم عباده، فجعل العباد، تستلذ فتسبح بتسبيح داود، يكاد ينهد لمقاله من هو عن باب التوفيق مطرود مردود.
على حالة لو أنّ في القوم حاتما | على جوده لضنّ بالماء حاتم «١» |
إنّا بنى نهشل لا ندّعى لأب «٣»
أى لا ننتسب إليه.
(٢). لم أره بلفظ «من ادعي» وإنما هو عند مسلم بلفظ «انتمى» أخرجه من حديث على بن أبى طالب رفعه «من ادعى إلى غير أبيه أو انتمى إلى غير مواليه- الحديث»
(٣).
إنا بنى نهشل لا ندعى لأب | عنه ولا هو بالأبناء يشرينا |
يكفيه إن نحن متنا أن يسر بنا | وهو إذا ذكر الآباء يكفينا |
[سورة مريم (١٩) : آية ٩٢]
وَما يَنْبَغِي لِلرَّحْمنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً (٩٢)انبغى: مطاوع «بغى» إذا طلب، أى: ما يتأتى له اتخاذ الولد وما ينطلب لو طلب مثلا، لأنه محال غير داخل تحت الصحة. أما الولادة المعروفة فلا مقال في استحالتها. وأما التبني فلا يكون إلا فيما هو من جنس المتبنى، وليس للقديم سبحانه جنس، تعالى عما يقول الظالمون علوا كبيرا.
[سورة مريم (١٩) : الآيات ٩٣ الى ٩٥]
إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلاَّ آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً (٩٣) لَقَدْ أَحْصاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا (٩٤) وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَرْداً (٩٥)
مَنْ موصوفة لأنها وقعت بعد كل نكرة، وقوعها بعد رب في قوله:
ربّ من أنضجت غيظا صدره «١»
وقرأ ابن مسعود وأبو حيوة آتِي الرَّحْمنِ على أصله قبل الإضافة. الإحصاء الحصر والضبط يعنى: حصرهم بعلمه وأحاط بهم وَعَدَّهُمْ عَدًّا الذين اعتقدوا في الملائكة وعيسى وعزير
رب من أنضجت غيظا قلبه... قد تمنى لي موتا لم يطع
ويرانى كالشجا في حلقه... عسرا مخرجه ما ينتزع
لم يضرني غير أن يحسدني... فهو يزقو مثل ما يزقو الضوع
ويحيينى إذا لاقيته... وإذا يخلو له لحمى رتع
لسويد بن أبى كاهل اليشكري، ويتعين أن «من» نكرة موصوفة، لأن رب لا تجر إلا النكرة، ونضج اللحم والعنب ونحوهما نضجا فهو نضيج وناضج: أدرك وبلغ أوانه واستوى، أى: رب شخص طبخت قلبه من حر غيظه منى ولم يطع، أى لا يستطاع تحمل سببه. والشجا: ما نشب في الحلق من عظم ونحوه. وعسرا الخ: حال منه. ومخرجه أى خروجه مرفوع بالوصف، لم يضرني شيئا من الضرر غير الحسد، من ضاره يضيره ضيرا إذا ضره، فهو يزقو أى يصيح مثل صياح الضوع: وهو ذكر اليوم، وكثر تشبيه العرض المطعون فيه باللحم المأكول على طريق التصريحية، ثم شبهه الشاعر بالمرعى المخصب ترتع فيه البهائم. أو شبه المغتاب بهيمة في المرعي على طريق المكنية والرتع تخبيل. ويحتمل استعارته للأكل الملائم للحم، ثم للطعن الملائم للعرض على طريق التصريح، أى: إذا يخلو له عرضي اغتاب كما يريد. [.....]
إشراك الذين زعموهم لله أولادا في عبادته، كما يخدم الناس أبناء الملوك خدمتهم لآبائهم، فهدم الله الكفر الأول فيما تقدم من الآيات، ثم عقبه بهدم الكفر الآخر. والمعنى: ما من معبود لهم في السموات والأرض من الملائكة ومن الناس إلا وهو يأتى الرحمن، أى: يأوى إليه ويلتجئ إلى ربوبيته عبدا منقادا مطيعا خاشعا خاشيا راجيا، كما يفعل العبيد وكما يجب عليهم، لا يدعى لنفسه ما يدعيه له هؤلاء الضلال. ونحوه قوله تعالى أُولئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخافُونَ عَذابَهُ وكلهم متقلبون في ملكوته مقهورون بقهره وهو مهيمن عليهم محيط بهم وبحمل أمورهم وتفاصيلها وكيفيتهم وكميتهم، لا يفوته شيء من أحوالهم، وكل واحد منهم يأتيه يوم القيامة منفردا ليس معه من هؤلاء المشركين أحد وهم برآء منهم.
[سورة مريم (١٩) : آية ٩٦]
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدًّا (٩٦)
قرأ جناح بن حبيش وُدًّا بالكسر: والمعنى: سيحدث لهم في القلوب مودّة ويزرعها لهم فيها من غير تودّد منهم ولا تعرّض للأسباب التي توجب الود ويكتسب بها الناس مودات القلوب، من قرابة أو صداقة أو اصطناع بمبرة أو غير ذلك، وإنما هو اختراع منه ابتداء اختصاصا منه لأوليائه بكرامة خاصة، كما قذف في قلوب أعدائهم الرعب والهيبة إعظاما لهم وإجلالا لمكانهم. والسين إما لأن السورة مكية وكان المؤمنون حينئذ ممقوتين بين الكفرة فوعدهم الله تعالى ذلك إذا دجا الإسلام. وإما أن يكون ذلك يوم القيامة يحببهم إلى خلقه بما يعرض من حسناتهم وينشر من ديوان أعمالهم. وروى أنّ النبي ﷺ قال لعلى رضى الله عنه: «يا علىّ قل اللهم اجعل لي عندك عهدا، واجعل لي في صدور المؤمنين مودّة «١» » فأنزل الله هذه الآية. وعن ابن عباس رضى الله عنهما: يعنى يحبهم الله ويحبهم إلى خلقه. وعن رسول الله ﷺ «يقول الله عز وجل يا جبريل قد أحببت فلانا فأحبه، فيحبه جبريل، ثم ينادى في أهل السماء: إنّ الله قد أحب فلانا فأحبوه، فيحبه أهل السماء، ثم يضع له المحبة في أهل الأرض»
» وعن قتادة: ما أقبل العبد إلى الله إلا أقبل الله بقلوب العباد إليه.
(٢). متفق عليه من حديث أبى هريرة بمعناه.
[سورة مريم (١٩) : الآيات ٩٧ الى ٩٨]
فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُدًّا (٩٧) وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزاً (٩٨)هذه خاتمة السورة ومقطعها، فكأنه قال: بلغ هذا المنزل أو بشر به وأنذر، فإنما أنزلناه بِلِسانِكَ أى بلغتك وهو اللسان العربي المبين، وسهلناه وفصلناه لِتُبَشِّرَ بِهِ وتنذر.
واللدّ: الشداد الخصومة بالباطل، الآخذون في كل لديد، أى في كل شق من المراء والجدال لفرط لجاجهم، يريد أهل مكة.
وقوله وَكَمْ أَهْلَكْنا تخويف لهم وإنذار. وقرئ تُحِسُّ من حسه إذا شعر به. ومنه الحواس والمحسوسات. وقرأ حنظلة تَسْمَعُ مضارع أسمعت. والركز: الصوت الخفي.
ومنه: ركز الرمح إذا غيب طرفه في الأرض. والركاز: المال المدفون.
عن رسول الله ﷺ «من قرأ سورة مريم أعطى عشر حسنات بعدد من كذب زكريا وصدق به، ويحيى ومريم وعيسى وإبراهيم وإسحاق ويعقوب وموسى وهرون وإسماعيل وإدريس، وعشر حسنات بعدد من دعا الله في الدنيا وبعدد من لم يدع الله» «١».