تفسير سورة الشعراء

زهرة التفاسير
تفسير سورة سورة الشعراء من كتاب زهرة التفاسير المعروف بـزهرة التفاسير .
لمؤلفه محمد أبو زهرة . المتوفي سنة 1394 هـ

(طسم) هذه حروف ابتدأت بها السورة، وقد ذكر أن معناها على الحقيقة لا نعلمها، بل اختص بها علم اللَّه تعالى واللَّه بكل شيء عليم، وقد نعرف حكمتها على قدر طاقتنا، وهي الإشارة إلى أن القرآن مكون من الحروف التي تنطقون بها، ولكنكم تعجزون عن أن تأتوا بمثله؛ لأنه من عند الله، ولأن النبي - ﷺ - أُمي لَا يقرأ ولا يكتب، فهو يعرف الكلمات ولا يعرف الحروف، فذكرها في القرآن دليل على أنه ليس من عند ذلك الأُميّ إنما هو من العالم بكل شيء الذي لا يغيب عن علمه شيء فى السماء، ولَا في الأرض، ولأن كبار المشركين قالوا فيما بينهم (لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ)، فإذا ابتدأت السورة بهذه الحروف الصوتية استرعاهم صوتها، فجاءوا متلهفين للاستماع، ويذهب عنهم ما اتفقوا.
5334
ولذا كانت أكثر السور المفتتحة بهذه الأحرف، يعقبها ذكر القرآن، وهنا جاء بعد هذه الحروف الصوتية قوله تعالى:
5335
(تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (٢)
- الإشارة في قوله تعالى: (تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ) للسورة أو آيات مضافة إلى الكتاب، والإضافة بمعنى (من) أيَّ آيات من الكتاب، وأضيفت إلى الكتاب كأنها كل الكتاب؛ لأن كل آية من الكتاب فيها خصائصه من إعجاز، وبيان وروعة، وكانت الإشارة بـ (تلك) التي تدل على البعد لعلو منزلتها، وارتفاع قدرها، وسموّ مكانها، و (الْمُبِينِ) معناها البين في ذاته والمبين للشرائع والتوحيد، وهداية البشر، وما من شيء يتعلق بالإيمان وشرائعه إلا بينه، لَا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها، فهذا الكتاب أو بعضه واضح الدلالة على أنه من عند اللَّه تعالى بإعجازه، ولقد كان محمد الصدوق طول حياته حتى إنه ما عرفت له كذبة قط، وهو الشفيق على قومه حريص على أن يؤمنوا به، حتى لَا تفوته فضيلة التصديق، ولا يفوتهم خير الإيمان، ولذا قال تعالى:
(لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (٣)
البخع قطع خيط العنق، أي إصابة النخاع الشوكي الذي يسير في فقرات العنق، فإن ذلك نهاية الفرج (أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِين) الضمير المنسبك من أن وما بعدها فاعل باخع، أي يبخعك ويقتلك ألا يكونوا مؤمنين، وهذا كقوله تعالى في أول سورة الكهف: (فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا (٦)، وكقوله تعالى: (فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَات) وقلنا إن فاعل: باخع هو ألا يكونوا مؤمنين، بعدا عن التأويل، لأن ما لَا يحتاج إلى التأويل أولى بالأخذ مما يحتاج إلى تأويل، ولأن التأويلات فيها بعد، وفيها خروج عن معنى الآية الظاهر.
وقوله: (أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ) يشير إلى أن بخع نفس الرسول - ﷺ -؛ لأنهم لم يكونوا مؤمنين أي لم يؤمنوا، والضمير كينونتهم أنهم من المؤمنين، فيكونوا قوة، وهم أقرب الناس إليه، وهو عليهم شفيق.
وقد بين سبحانه وتعالى أن اللَّه أراد أن يكونوا مختارين في إيمانهم، فيؤمنوا بعد الموازنة بين حالهم، وما يدعوهم إليه النبي، فيكون التكليف بعد الاختيار والموازنة، ويكون الجزاء على الإيمان، والجزاء على الامتناع.
5335
قال عز من قائل:
5336
(إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ (٤)
(إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ آيَةً)، أي معجزة من السماء قاهرة تقسرهم على الإيمان قسرا بحيث لَا يكون لديهم احتمال التكذيب أو الرد، أو التفكير، فيؤمنوا مقهورين مقسورين، غير مفكرين، وما كانت مثل هذه الآية من عند بعث أي رسول، بل كانت عقابا عاجلا في الدنيا على كفرهم على الاختيار، وبها ينتهي أمرهم وجدلهم.
والتعليق بـ (إنْ) يومئ إلى أن اللَّه لَا يغفل جلت قدرته؛ لأنه سبحانه كما تدل أعماله، يريد التكليف لَا مجرد الامتناع عن الشر والعصيان.
وقال سبحانه ما يدل على أن الآية التي لو شاء لأنزلها قاهرة مانعة من المخانعة، ولذا قال (عليهم) الدالة بكلمة (على) على القهر والقسرة، وذلك غير ما أودعه اللَّه الإنسان من علم وفكر أراد له به الخلافة في الأرض، وفضله على الخلق أجمعين، حتى على الملائكة، إن استقام وسار على الجادة.
(فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ)، أي فظلوا واستمروا لها خاضعين، وعبر عن خضوعهم بالأعناق على سبيل المجاز المرسل، إذ عبر باسم الجزء عن الكل، لأن لهذا الجزء مزية في هذا المقام عن بقية الأجزاء، إذ هو مظهر الخضوع والخنوع، وللإشارة إلى أن استكبار الكافرين هو الذي منعهم من الإيمان فعبر بهذا للدلالة على أنهم يخضعون ولأن العنق يعبر به عن الكبراء المتجبرين، فيقال عنق القوم أي كبارهم المسيطرون أو المتغطرسون، وهذه الآية كقوله تعالى: (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (٩٩)
وكقوله تعالى: (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً) وعبر بخاضعين التي هي وصف العقلاء بدل خاضعات التي هي مقتضى السياق للدلالة على أن المقصود من ذلك هو الأشخاص.
5336
ومما يجب التنبيه إليه أنه عبر بالماضي في معنى المضارع للدلالة على تأكد خضوعهم وأنهم يظلون خاضعين غير متمردين، ولكنه أراد الاختيار تكريما لبني آدم في الأرض كما أراد أن يجعله خليفة.
وقد بين سبحانه وتعالى تلقي المشركين للقرآن، فقال عز من قائل:
5337
(وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمَنِ مُحْدَثٍ إِلَّا كَانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ (٥) فَقَدْ كَذَّبُوا فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ (٦)
- الذكر هنا ليس القرآن كله، إنما هو بعض ما ينزل من مواعظ مذكرة، وقصص وأحكام تذكر، وعبَّر بلفظ، (وَمَا يَأتِيهِم مِّن ذِكرٍ) على أن ذلك قريب محدث مجرد لمعنى التذكر والتفكر لمن هو أهل لذلك، إلا كانت حالهم حال إعراض، فالاستثناء من أعم الأحوال، والجملة بعد (إلا) منصوبة في معناها على الحال. وإن هذا الذكر من الرحمة بهم؛ لأن التذكير رحمة، ولذا قال تعالى: (مَا يَأتِيهِم مِّن ذِكْرٍ منَ الرَّحْمَنِ) أي من اللَّه تعالى الذي هو مصدر الرحمة، والذي لَا يكون منه إلا ما هو رحمة، فهم يعرضون عن الذكر وهو رحمة بهم، فكل شيء منه رحمة جزاؤه رحمة، وعقابه رحمة، ومواعظه وشرائعه رحمة، و (مِن) في قوله تعالى: (مِّن ذِكرٍ) لبيان عموم الاستغراق، ومن الثانية للابتداء وبيان من صدر عنه التذكير الذي هو رحمة للعباد، وكانوا دالة على استمرارهم في الإعراض كأنه شأن من شئونهم، وحال دائمة من أحوالهم، وتقديم (عَنْهُ) عن متعلقها، وهي (معرضين) لأن التقديم يفيد معنى الاختصاص، أي كأنهم لا يعرضون إلا عن الحق، ومن فساد نفوسهم لَا يعرضون عن باطل، بل لا يعرضون إلا عن الحق لأنه يلائم فساد نفوسهم، وضلال تفكيرهم.
وقال تعالى:
(فَقَدْ كَذَّبُوا... (٦)
الفاء هنا لترتيب ما بعدها على ما قبلها، أي فإنه يترتب على هذا الإعراض التكذيب، أي بسبب ذلك الإعراض قد كذبوا الحق لما جاءهم، وبسبب ذلك سيأتيهم أنباء ما كانوا به يستهزئون والأنباء جمع نبأ، وهو الخبر العظيم الشأن الذي يؤثر في شأنهم، وإن المواعظ، والذكر الحكيم كان فيه إنذار بما يقع لهم في العاجلة والآجلة، ففي العاجلة يجعل اللَّه
5337
كلمة الذين كفروا السفلي، وكلمة الحق هي العليا بتوالي هزائم الشرك حتى تطهر منه أرض العرب، وفي الآخرة بعذاب الجحيم، ولذا قال تعالى: (فَسَيَأتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءونَ) الفاء كما أشرنا لبيان أن ما بعدها مترتب على ما قبلها والسبب لتأكيد الوقوع في المستقبل، والأنباء هنا الوقائع التي أنبا عنها القرآن الكريم، والنبي الحكيم، فهم يرون هذه الأخبار وقائع تقرع حسهم، وتنبه غافلهم، وتوجه اليقظ إلى الحق الصريح الواضح البين.
وقوله تعالى: (أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ) توبيخ لهم على استهزائهم، وقد كان له هذه الوقائع القارعة، وتقديم الجار والمجرور على يستهزئون فيه اختصاص نسبي، أي لَا يستهزئون إلا بالحق، وقلوبهم معرضة، ونفوسهم مصروفة عن الحق إلى الباطل، فلا يستهزئون له، وهذا تصوير نفسي لانحرافهم عن الجادة، والتواء تفكير، حتى لَا يكون منهم إلا الباطل وتأييده، ونصرته.
وإن هذه الآية كقوله تعالي: (وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ (٤) فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (٥).
مع لجاجتهم في الكفر والتكذيب والاستهزاء يذكرهم تعالى بنعمه عليهم بإيجاز فيقول:
5338
(أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (٧) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (٨) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (٩)
- الهمزة للاستفهام الإنكاري بمعنى التوبيخ، والواو عاطفة على فعل محذوف تقديره في القول افعلوا ذلك، ولم ينظروا، وهذا توبيخ على فعلهم؛ لأنهم استهزءوا بالحق، ونعم اللَّه تحوطهم وتستغرقهم (يَرَوا) معناه يرون، ولكنها هنا نظرة تأملية متتبعة وليست نظرة عاجلة خاضعة، بل ترجع البصر حينا بعد حين؛ ولذا كانت التعدية للدلالة على التتبع متبصرين إلى الأرض كيف ينبت
5338
فيها النبات، ويستغلظ سوقه، ويقوى عوده حتى يصير طعاما في ذاته أو حبا متراكبا، وهكذا، ولذا قال تعالى: (كَمْ أَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ) كم - هنا هي الخبر الدال على الكثرة، وموضعها في الإعراب النصب أي كثيرا ما أنبتنا فيها (مِن كُلِّ زَوْجٍ) من بيانية، أي أنبتنا من زوج أي شيئين متقابلين في اللون أو الذكورة والأنوثة، وغير ذلك من كل شيئين متقابلين في الألوان والطعوم، وكريم - أي كثير المنافع في الأكل والملبس، والمأوى، وإن هذه الجملة السامية فيها من دلائل الإعجاز بإيجاز القصر، الذي تكثر فيه المعاني مع قلة الألفاظ، فهذه الجملة شملت كلَ ما في معاني الإنبات، وثماره من زرع وغراس نخيل وعنب، وفواكه من كل ما تشمله الألفاظ، وتراه الأعين.
5339
(إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً... (٨)
الإشارة إلى الإنبات، أي إن في ذلك لآية، أي لعلامة تدل على قدرة القادر، ونراها كل يوم في حياتنا الخاصة والعامة، وهي حولنا تنبئنا بالعليم الخبير، القادر على كل شيء، فحولنا النخيل والأعناب، وحولنا الحب المتراكب، والزروع والحشائش التي تأكل منها أنعامنا، وتدر علينا الدر الوفير، ولكن مع هذه الآية الباهرة والدلائل القاهرة أكثرهم لَا يؤمنون، ولذا قال تعالى: (وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ) (كان) هي الدالة على الاستمرار، أي وقد استمر أكثرهم غير مؤمنين؛ لأنهم لم تدرك عقولهم، ولم يتدبروا ولم يتفكروا.
(وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (٩)
الواو عاطفة على ما ذكر من آيات بينات. والتعبير بربك للإشارة إلى معاني الخلق والربوبية والكلاءة والحفظ والرعاية والقيام على الحياة والأحياء، لأنه الحي القيوم (لَهُوَ) اللام لام التوكيد، (العزيز) أي الغالب (الرحيم) المتصف بصفة الرحمة الدائم، فهو رحيم بهذا الخلق والتكوين، ورحيم بهذه الرسائل التي أرسلها على أيدي الرسل، ورحيم بالبعث والنشور، ورحيم بكل ما ورد به الرسل من معجزات دالة على رسالاتهم، ورحيم بالعقاب والثواب، لأن ذلك حمل على الخير، وجزاء عليه.
* * *
5339
من قصة موسى عليه السلام
قال تعالى:
(وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (١٠) قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلَا يَتَّقُونَ (١١) قَالَ رَبِّ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (١٢) وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلَا يَنْطَلِقُ لِسَانِي فَأَرْسِلْ إِلَى هَارُونَ (١٣) وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (١٤) قَالَ كَلَّا فَاذْهَبَا بِآيَاتِنَا إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ (١٥) فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولَا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (١٦) أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ (١٧) قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ (١٨) وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ (١٩) قَالَ فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ (٢٠) فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْمًا وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ (٢١) وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرَائِيلَ (٢٢) قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ (٢٣) قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (٢٤) قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلَا تَسْتَمِعُونَ (٢٥) قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (٢٦) قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ (٢٧) قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (٢٨) قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ (٢٩) قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ (٣٠) قَالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٣١)
5340
فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ (٣٢) وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ (٣٣) قَالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ (٣٤) يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ (٣٥) قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَابْعَثْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ (٣٦) يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ (٣٧) فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (٣٨) وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ (٣٩) لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ كَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ (٤٠) فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ قَالُوا لِفِرْعَوْنَ أَئِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ (٤١) قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذًا لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (٤٢)
* * *
هذه قصة موسى وفرعون، والمقاولة التي جرت بين موسى الكليم، وفرعون الجبار العنيد، وإن فيها جزءا لم يذكر في قصة موسى وهارون، وهي المجاوبة التي كانت بين كليم اللَّه ومربيه حتى بلغ رشده، وفيها عَتْب المربي ودفاع من تربى ومجابهته بالحق القوي الصريح، وجاء ما هو مذكور في غير هذا الموضع من قصة العصا، ثم قصة النجاة، التي سنذكرها في موضعها فيما يلى، وإن ذكر التربية هو الذي اختصت به القصة، وجاء ذكر المعجزة، وأعمال السحرة تابعا، ولا يعد ذلك تكرارا لأصل القصة، إن كان طاغوت فرعون يذكر فيما تشبه التكرار تنبيها على الظلم والطغيان، كما يكرر ذكر طلب التوحيد، والنهي عن الشرك.
5341
(وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (١٠) قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلَا يَتَّقُونَ (١١).
الواو عاطفة هذا الكلام على ما سبقه، أو دالة على الاستئناف و (إِذْ) متعلقة بمحذوف، تقديره اذكر، أي اذكر لقومك قصة موسى، والتعبير بربك إشارة إلى أنه الكالئ الحامي المدبر القيوم على كل شيء، (أن) حرف تفسير للنداء، نداء اللَّه تعالى جلت قدرته، فالنداء (ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ
قَوْمَ فِرْعَوْنَ) وصفوا بالظلم؛ لأنهم هم الذين مكنوا فرعون من ظلمه، فكانوا ظالمين؛ لأنهم الذين أقاموه، وأيدوه، وطاوعوه، ومهدوا، وصاروا آلة طيعة لتنفيذ مظالمه، وإنه لا يسأل العامة عن ظلم الخاصة، حتى يروا الظلم فلا يستنكروه، وكذلك كان أهل مصر، وعبر عنهم بقوم فرعون لأنهم كانوا له تبعا، وقد فني وجودهم في وجوده، (أَلا يَتَّقُونَ) هذه جملة مستأنفة دالة على أنهم لم يتقوا، وأفرطوا في اتباع فرعون، وكان إسرافهم على أنفسهم، إذ إنهم لما لم يستنكروا أوغل هو في الطغيان بمقدار إسرافهم في الخضوع، فرد الطغاة وقاية للأنفس، واتقاء للَّه، و (ألا) دالة على التحريض والحث على التقوى، وهنا التفات من الخطاب إلى الغيبة، للدلالة على الغضب عليهم، وهناك قراءة بالخطاب ألا تتقون، ويكون النص محرضا لهم على التقوى.
وإن ذلك النص بعد فوات قرون، فيكون معناه أنهم كانوا في حال كان يجب أن يحرضوا فيها على التقوى، وأن موسى عليه السلام حرضهم عليها، ولم يتركهم لأنفسهم، وفي ذلك إشارة إلى أنه يجب أن يقمع كبراء قريش، وألا يستسلم الناس لهم، ويخنعوا لعبادة الأوثان.
وهناك قراءة بكسر نون (أَلا يَتَّقُونَ) وتكون منيبة عن ياء المتكلم، أي ألا تتقون اللَّه رب العالمين.
(قَالَ رَبِّ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (١٢) وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلَا يَنْطَلِقُ لِسَانِي فَأَرْسِلْ إِلَى هَارُونَ (١٣) وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (١٤) قَالَ كَلَّا فَاذْهَبَا بِآيَاتِنَا إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ (١٥)
5342
هذا جواب موسى لربه، وقد فصلت هذه الجملة لأنها جواب عن سؤال مقدر، وكيف أجاب موسى، وصدر كلامه بالنداء لربه، للدلالة على شعوره بأنه في كلاءته، وأنه سيعمل في رعايته وحمايته،
5343
(إِنِّي أَخَافُ أَن يُكَذِّبونِ) بكسر النون للإشعار بأن ياء المتكلم محذوف، والخوف هنا لَا يتضمن معنى النكوص عن الاستجابة لربه، إنما يتضمن معنى تقدير الموقف وإرادة الاستعداد، والشعور بعظم المهمة التي كلفه اللَّه تعالى إياها، وإنها تحتاج إلى جمع كل ما عنده من قوة، وقد أحس بموضع الضعف فيه، وهو البيان مع توقع الضيق والحرج، ولذا قال:
(وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلَا يَنْطَلِقُ لِسَانِي فَأَرْسِلْ إِلَى هَارُونَ (١٣)
ضيق الصدر هو من التكذيب والمباهتة في قوة من فرعون، وطغيانه، فيكون في شدة من هجوم الباطل المؤزر بالطغيان الفرعوني، مع حبسة اللسان فلا يستطيع رد إنكار أولئك الكاذبين المكذبين المزودين بطغيان عظيم، ولذا استغاث بربه قائلا:
(فَأَرْسِلْ إِلَى هَارُونَ) والفاء لبيان أن ما بعدها مترتب على ما قبلها، أي فإنه يترتب على هذه الحال التي أكون عليها أن أطلب إليك أن ترسل إلى أخي هارون بأن تجعل له رسالة معي، و (إلى) تدل على أن النهاية أن يكون رسولا معي، وِهذا كقوله تعالى: (رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي (٢٥) وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي (٢٦) وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي (٢٧) يَفْقَهُوا قَوْلِي (٢٨) وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي (٢٩) هَارُونَ أَخِي (٣٠) اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي (٣١) وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي (٣٢) كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا (٣٣) وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا (٣٤) إِنَّكَ كُنْتَ بِنَا بَصِيرًا (٣٥).
أجاب اللَّه تعالى طلب موسى عليه السلام، وقال في آية أخرى: (قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى) ولكن موسى عليه السلام ذكر أن له عندهم ذنبا، وأنه يخاف أن يقتلوه فقال:
(وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (١٤)
والنون مكسورة منيبة عن ياء متكلم محذوفة، والذنب ليس إثما ذاتيا، إنما هو ذنب عندهم، فهو ذنب لهم، قد قدر موسى الكليم أن يسطوا عليه ويقتلوه، وذلك الذنب أنه قتل واحدا من المصريين، لاعتدائه على إسرائيلي من قومه، وقد قال تعالى في ذلك في سورة القصص (وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلَانِ
5343
هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ (١٥) قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (١٦) قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِلْمُجْرِمِينَ (١٧).
هذا هو الذنب، وسنتكلم في مقدار كونه ذنبا عندما نتكلم على هذا في سورة القصص قريبا إن شاء اللَّه تعالى.
أجابهما اللَّه تعالى على طلب هارون، وعلى بث روح العمل، ودفع الخوف، فقال:
5344
(كَلَّا فَاذْهَبَا بِآيَاتِنَا إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ (١٥)
(كَلَّا) حرف للرد مع ردع، أو قوة في الرد، والفاء للإفصاح، لأنها تفصح عن شرط مقدر، أي إذا كان ذلك ما تخاف فاذهبا، والخطاب بالتثنية دليل على أنه أجيب سؤله بالنسبة لهارون (فَاذْهَبَا بِآيَاتِنَا) أي محملين بالآيات التي تدل على الرسالة، فإنه إذا كان قويا بسلطانه، فأنتما قويان بالحق الثابت بالآيات الباهرة القاهرة التي لَا يماري فيها إلا أثيم، ثم طمأنهما على أنه لَا يؤذيهما، فقال: (إِنَّا مَعَكُم مُّسْتَمِعُونَ) وقد أكد سبحانه وتعالى نصرتهما بثلاث مؤكدات أولها - إنَّ الدالة على التوكيد، والثاني المعية، في اللَّه معهما، ومن كان اللَّه معه لَا يغلب ولا يرهب أبدا، والثالثة أنه مستمع لما يجري مرتب عليه ما يستحقه أهل الطغيان، وهذا كقوله في سورة طه (إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى).
(فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولَا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (١٦) أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ (١٧)
الفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها، لأن المترتب على الأمر بالذهاب أن يأتياه ويخاطباه بأنهما رسول رب العالمين، وأفردت رسالتهما بالتعبير برسول رب العالمين للإشارة إلى أن الرسالة التي أرسلا بها واحدة، وأنهما كرسول واحد، وأن موسى يتلقى أمر ربه ويعاونه هارون في التوضيح والتبيين، فهما رسولان لرسالة واحدة، وقد ذكر أنهما رسولان في سورة طه، فقالا: (إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ)،
5344
على أساس أنهما رسولان، وإن كانت الرسالة واحدة، وأسندت إلى رب العالمين أي ربك ورب آبائك الأولين، ورب الناس أجمعين، فهو خطاب يوجب الخضوع للَّه تعالى من فرعون طاغية الأرض، ومن معه من قومه الذين يمالئونه، ويشجعونه.
5345
(أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ (١٧)
أن هنا تفسيرية، أي أن تفسير القول هو هم أرسل معنا بني إسرائيل، ويلاحظ هنا أن الرسالة ليست لبني إسرائيل خاصة؛ إنما هي دعوة إلى التوحيد، ورفع الظلم، وابتدى ببني إسرائيل، لأن ظلمهم صارخ، إذ هو يذبح أبناءهم ويستحيي نساءهم.
هذا الكلام الذي سبق كله كان أمر اللَّه تعالى لموسى، وكان كلام موسى وهارون لفرعون، فبماذا أجاب فرعون؟.
(قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ (١٨) وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ (١٩) قَالَ فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ (٢٠) فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْمًا وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ (٢١) وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرَائِيلَ (٢٢)
ابتدأ الكلام بعتب، واتهام بكفر النعمة، أو كفره بألوهيته، قال فرعون
(قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَليدًا) الاستفهام إنكاري بمعنى النفي. والمعنى: لقد ربيناك فينا، أي في وسطنا مكرما فينا عزيزا، أي خلطناك بأنفسنا خلطا وكأنك منا، (وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ)، أي أقصت فينا مختلطا بنا سنين، الظاهر أنه بقي فيهم حتى بلغ الرشد، وصار شابا سويا، يدبر أموره، ويعرف غاياته، ومقام رب العالمين، وخصوصا أن جزءا من التربية كان مع أمه، كما قال تعالى: (فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا) ويقال إنه مكث في بيت فرعون إلى أن بلغ ثلاثين سنة، والراجح عندنا أنه مكث حتى صار رجلا سويا، بدليل ما آتاه اللَّه من قوة عندما استغاثه الذي من شيعته على الذي من عدوه.
ثم ذكر بعد المودة المقربة، ما فيه لوم له
(وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ... (١٩)
قرئت بفتح الفاء في فعلتك وكسرها، وعلى الفتح تكون للمرة وعلى الكسر تكون للهيئة،
5345
والمعنى في كلتا القراءتين القتلة التي قام بها الرجل القبطي، إذ استغاثه الذي من شيعته، قال فرعون: (وَأَنتَ مِنَ الْكَافِرِينَ)، أي الكافرين بألوهيته، وبأنه لم يكن ليذعن له كما يذعن الذين يعدونه إلها، ويقول لهم ليس لكم من إله غيري، وقال بعض المفسرين: المراد كفر النعمة، ولا نحسب أن فرعون يرى من كفر نعمته قتل واحد من الرعايا، ولو كان ذا صلة به كخادم أو نحوه، فموسى فيما أحسب كان أقرب إليه من كل الخدم، إذ امرأة فرعون قد اتخذته لها وله ولدا.
لم ينكر نبي اللَّه تعالى أنه فعلها كما وصف، ولكن أنكر أنه ملوم لكفره به، فقال:
5346
(قَالَ فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ (٢٠)
فعلتها إذ ذاك وأنا من الضالين، ضلالا بريئا، والضلال البرئ يكون بالجهل والنسيان والبعد عن التأني والصبر، وأخذ الأمور، والاكتفاء في الدفاع عن الحق بأقل الأضرار التي ينزلها بالمعتدي، فنبي اللَّه النقي يعترف بأنه لم يسلك طريق الجادة المستقيمة، وهذه حال موسى عليه السلام وإذاً معناها إذ ذاك، فالتنوين عوض عن المضاف إليه مرتبا الواقعة على مقدماتها من شر في القبطي أو المصري، معترفا بأنه ضال ضلالا بريئا كما ذكرنا.
ولما فعلها فَرَّ، فقال:
(فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ... (٢١)
الفاء عاطفة، وقد ذكر سبحانه وتعالى أسباب الفرارِ وكيف كان في سورة القصص، فقال عز من قائل (وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ (٢٠) فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٢١).
والفاء في قوله تعالى: (فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْمًا وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ) عاطفة، والحكم هو الحكمة أي التجربة، وبعد أن كان غفلا في النعمة في قصر فرعون اكتسب حكمة وتجربة، وعمل وكسب، فإن الشدة تصقل النفس، وتربي الحكمة ووزن الأمور والأفعال، ويصح أن يكون الحكم بمعنى الرسالة، والأول أولى؛ لأن التأسيس أولى من التأكيد، وجعلني رسولا من المرسلين الذين أرسلهم رب العالمين، فقد جعله اللَّه تعالى من أولي العزم من الرسل.
5346
ثم بين كليم اللَّه أن النعمة التي يمنُّ بها عليه هي نعمة سببها أشد النقم؛ لأنها كانت بسبب إيذائك المطلق لبني إسرائيل مما جعل أمه تلقيه في تابوت في اليم فيكون في قصر فرعون، فلولا هذه النقمة الفاجرة ما كانت تلك النعمة الِتي تمنُّ بها، وتستطيل عليَّ بذكرها، ولذا قال:
5347
(وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرَائِيلَ (٢٢)
الإشارة إلى نعمة التربية وليدا وإنه لبث فيهم من عمره سنين (تَمُنُّهَا عَلَيَّ) أي تمنُّ بها عليَّ أنَّك عَبَّدْت بني إسرائيل، وفي هذا إشارة إلى سبب النعمة، وهو أنه عَبَّدَ بني إسرائيل وأذلهم وذبح أطفالهم، واستحيا نساءهم فاضطرت أمه إلى ما كان مؤديا بإنعام الله إلى قصره، وإشارة أيضا إلى أنه يقابل هذه النعمة إذلاله لقومه بني إسرائيل.
اتجه فرعون من بعد ذلك إلى السؤال عن رب العالمين:
(قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ (٢٣) قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (٢٤) قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلَا تَسْتَمِعُونَ (٢٥) قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (٢٦)
الاستفهام من فرعون عن الذات العلية يتعرف ماهيتها وحقيقتها، فالاستفهام بم يدل على ذلك؟ أي ما هو؟ ما ذاته؟ قال موسى مجيبا، إجابة هادية مرشدة إلى أن الذات لَا يستفسر عنها، إنما يعرف رب العالمين بخلقه، فقال:
(رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (٢٤)
ورب السماوات تتضمن أنه خالقهما وموجودهما والقائم عليهما، كما قال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ أَن تَزولَا) وما بينهما هو الفضاء القائم، والذي تكون فيه السحاب وينزل منه المطر، وذكر السماوات فيه إشارة إلى أن اللَّه رب الشمس التي كانوا يعبدونها باطلا باسم رع (إِن كُنتُم مُّوقِنِينَ)، أي إن كنتم تريدون الحق الذي تسيرون عليه في طريق اليقين والإذعان، ولكن فرعون خشي على قومه من أن يتأثروا بقول موسى الكليم، فأراد أن ينبههم إلى سلطانه
(قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلَا تَسْتَمِعُونَ (٢٥) النص تحريض منه لمن حوله على الاستماع والتأمل وهو جدير بالنظر والتفكر، موهما لهم أن ذلك لَا يناقض ألوهيته ولا يعارضها، ولكنه جدير بالنظر، وقد يكون ذلك استنكارا لأن يكون لأجرام السماوات والأرض موجه غيره
5347
مما جعل موسى عليه السلام يوجه للتعريف برب العالمين إلى مقام آخر، يبين عظم ربوبيته على الماضين والحاضرين وإنكم وفرعون لستم إلا طبقة من طبقات الوجود الإنساني:
5348
(قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (٢٦) التفت فرعون لمن حوله كأنه ينبههم إلى إنكار موسى لألوهيته المقررة الثابتة عندهم، فنبههم موسى أولا: إلى أن اللَّه ربكم الذي خلقكم وأنشأكم، وخلق آباءكم الأولين ورباهم وكونهم، فهل فرعون خلق وقدر، وهو المخلوق الذي لا يخلق، ولا يقدر، وثانيا: إلى أن اللَّه رب آبائكم الأولين قبل أن يوجد فرعون، وثالثا: إلى أن الرب يجب أن يكون قديما باقيا، ولا يكون محدثا فانيا، كفرعون.
- كان كلام موسى عليه السلام متضمنا حجة قوية لإبطال ألوهية فرعون، وإنه بشر كسائر البشر، لَا يملك خلقا ولا إنشاء، ولذلك اتجه فرعون إلى رمى موسى بالجنون أولا، وتهديده بالسجن، فقال:
(قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ (٢٧) قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (٢٨) قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ (٢٩) قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ (٣٠)
أول رمية رمى فرعرن بها موسى هي الجنون، كما كان المشركون يقولون ذلك عن النبي - ﷺ -، وفي ذلك تسرية عن النبي صلى اللَّه تعالى عليه وسلم، وأكد فرعون جنون موسى بـ إنَّ، وبلام التوكيد، وبالجملة الاسمية، وذكره بوصف الرسالة تهكما وإمعانا في الإنكار والتنفير، وأنه مع جنونه المدعى أرسل إليكم، وفى ذلك تحريض على استنكار رسالته كأنه يقول: اختير لكم رسول مجنون.
ولكن موسى كليم اللَّه لم يرعه ذلك الكلام الباطل، ولم يهتز له، بل استمر فِى بيان بطلان ألوهية فرعون، فقال أن ربه رب الكون:
(رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (٢٨)
أي أن أقصى سلطان فرعون أن يكون في مصر، ومصر ليست إلا جزءا من الأرض، والرب الخالق يكون رب الجميع من سكان الأرض، والسماوات، والشرق والغرب، فهل تستطيع أن تدعي هذا؟ بل إنك لَا يمكن أن
5348
تتطاول إلا على أهل مصر، الذين تعودوا الخنوع لحكامهم في ماضيِهم وحاضرهم، فقول موسى عليه السلام لطاغوت مصر عن رب العالمين
5349
(رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ) إبطال واضح لألوهية فرعون المدعاة، وقد التفت موسى إلى من حوله الذين ينادون بألوهيته فقال محرضا لهم على التفكير بعقولهم، فقال: (إِن كنتُمْ تَعْقِلونَ) أي إن كنتم ذوي عقل تعقلون، وتعلمون أن الألوهية ليست أجزاء مجزأة، إنما هي سلطان على الوجود كله.
عندئذ أيقن فرعون أنه ينكر ألوهيته، وأنه يحرض من حوله على إنكارها، ويدعوهم إلى إعلان بطلانها، هذا وفي ذكر المشرق والمغرب بيان لقدرة اللَّه تعالى الباهرة، وتنبيه إلى ما يشاهدونه كل يوم من شروق الشمس وغروبها في المغرب، والشمس بذلك تنتقل في مداراتها، فهل فرعون يفعل هذا، إنه ليس برب، ولا بإلهٍ.
اتجه فرعون إلى حجته التي يحسبها دامغة، وهي ذريعة الطغيان فقال:
(قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ (٢٩)
اللام هي الممهدة للقسم، وقد أكد تهديده بقول يشبه القسم، أو أقسم بما يقسم به مثله في طغوانه، واتخذت معناها: جعلت لك إلها غيري، وكأن
الألوهية أمر يجعل، وليس إذعانا لحقيقة ثابتة في الوجود يخضع لها العبد بسلطان الربوبية وبسلطان الفطرة المدركة الواعية، وذلك ضلال كل من كان الطاغوت ديدنهم الذي لَا يخالفونه، (لأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ) هذا تهديد لموسى عليه السلام، أي لألقين بك في السجن، حيث لَا تستطيع قولا، وتكون في ضمن المسجونين الذين لَا يسمع لهم صوت، ولا قول.
ولكن موسى كليم اللَّه لم يرعه ذلك، ولم يرهبه، بل أخذ يدير القول إلى الحجة والبرهان فقال لفرعون:
(قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ (٣٠)
كان فرعون رجلا يؤمن بالأمر المحسوس، فجاراه موسى عليه السلام فيما يؤمن فقال ما قال: (أَوَلَوْ جِئْتكَ) الواو عاطفة على فعل محذوف تقديره يناسب
5349
المقام، وكأن سياق القول أتسجنني، ولو جئتك بشيء مبين، أي بحجة واضحة مبينة لرسالتي، ولبطلان ألوهيتك وعجزك، والشيء هو المعجزة الكبرى التي جاء بها موسى في ضمن تسع آيات بينات، وعبر بشيء في هذا المقام لأن العصا، وما معها شيء، ولتقريب القول إلى فرعون، ولتكون الحجة نتيجة لما يقاوله ويبطل قوله.
وفرعون يحسب أنه يعجز عن أن يأتي، فيقول:
5350
(قَالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٣١)
أي إن كان شأنك أنك صادق في زمرة الصادقين ولست كذابا ولا بهاتا، ولا مفتريا على فرعون وألوهيته.
* * *
المعجزة
* * *
(فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ (٣٢) وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ (٣٣) قَالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ (٣٤) يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ (٣٥)
الفاء عاطفة تفيد الترتيب والتعقيب، أي أنه بمجرد أن طلب الدليل جاءه تباعا معقبا للطلب، وكان الجواب عملا وليس قولا، ألقى عصاه في الأرض، فإذا هي ثعبان، (إذا) للمفاجأة أي فوجئ الناظر، فوجدها ثعبانا مبينا أي واضحا بينا،
وأتبعه بمعجزة أخرى، وأخرج يده، ففوجئ أيضا بأنها بيضاء للناظرين، وكان قد أخرجها من جيبه، فإذا هي بيضاء من غير سوء، كما قال تعالى في سورة القصص (اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِنْ رَبِّكَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ).
ويظهر أنه لم تكن يده في أصل خلقته بيضاء ناصعة البياض، فتغير لونها مفاجأة إلى ناصعة يعد معجزة حسية في ذاتها، وهي تومئ إلى أن يده ستكون مقدم خير على بني إسرائيل، وعلى مصر، إذ تكون قاضية على طغيان فرعون، ثانيا: حيرت المعجزة أو المعجزتان فرعون فرمى موسى بأنه ساحر ماهر عليم بالسحر، وأنه يريد بهذا السحر أن يخرج أهل مصر من أرضهم
(قَالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ (٣٤)
ثم أثار نخوتهم الوطنية، أو العداوة التي كانت بينهم وبين الهكسوس، فقال:
(يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ (٣٥)
حمله فرعون حماية لطغيانه أمرين:
الأمر الأول: أنه بهذا لَا يريد هداية وتعليما وإرشادا وإصلاحا، ولكن يريد أن يخرجكم من أرضكم بسحره، والإخراج يكون بألا يكون لكم سلطان في الأرض، بل يكون الأمر لغيركم وتكونون عبيدا تعيشون على هامش الحياة فيها.
الأمر الثاني: أن يكون له سلطان عليكم، وذلك ذهاب لسلطانكم، وإخراج لكم من دياركم، وإن ذلك كله بسحره، وهذا ينبئ عن الفزع، ولكنه فزع يتصور الويل والثبور وعظائم الأمور، وإلا ما كان السحر ذاته مزيلا للملك، ومخرجا من الديار.
وإنه في هذا يستحث قومه على معاندة موسى، وألا يميلوا كل الميل له، لأنه عدو الديار، ويكل الأمر إليهم (فَمَاذَا تَأمُرُونَ) يطلب استشارتهم متطامنا خاضعا، وقد أحس أن الأمر يخرج عن سلطانه، فيقول في استشارتهم فماذا تأمرون، أي ما الذي تأمرون به، وإني أنفذه.
أجابوا عن ذلك بأنهم يستفزون الشعب كله، وكأنهم توهموا أن في سحر موسى ما يخرج من الديار.
(قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَابْعَثْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ (٣٦) يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ (٣٧) فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (٣٨) وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ (٣٩) لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ كَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ (٤٠) فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ قَالُوا لِفِرْعَوْنَ أَئِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ (٤١)
(قَالوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ) أي أرجئه وأخاه، وحذفت الهمزة في آخر الكلمة تخفيفا، والهاء ضمير يعود على موسى عليه السلام، والمعنى أرجئه وأرجئ أخاه أمدا، وقيل أنه حبسهما، وليس عندنا ما يدل على ذلك، إنما الذي يدل عليه القول هو أنه أجلهما أمدا معلوما ليختبر الدليل الذي قدَّماه، ولا نحسب أنه كان عنده قوة على الحبس، فقد اضطرب أمره، وتحير تدبيره، وكان في فزع قد فوجئ بأسبابه، فاختل ميزان طاغوته، هذه هي الوصية الأولى التي تقدموا بها،
5351
والثانية: هي قولهم، وابعث في المدائن حاشرين. المدائن جمع مدينة، وحاشرين - جمع حاشر، أي جامع للناس يجمعهم في ميقات يوم معلوم، وسمي حاشرا للدلالة على أنه يجمع أكبر عدد ويحشرهم حشرا،
5352
(يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ (٣٧)
(يَأْتُوكَ) جواب الأمر فهو مجزوم لذلك، وفعل الشرط، (ابعث)، و (السَّحَّار) صيغة مبالغة من السحر، أي أنهم بارعون في السحر، لَا يغلبون، علماء بأسبابه، وما يكون فيه، بحيث لَا يغيب عنهم باب من أبوابه ولا طريق من طرائقه، ولا منهاج من مناهجه.
(فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (٣٨)
الفاء للترتيب والتعقيب النسبي، أي
فجمع السحرة باتخاذ الطريق الذي رسموه، والمنهاج الذي حفظوه، واللام بمعنى في، وهي كاللام في قوله تعالى: (أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ..).
وهذا الميقات المعلوم كان باقتراح موسى عليه السلام، كما قالِ تعالى في سورة طه: (فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِدًا لَا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلَا أَنْتَ مَكَانًا سُوًى (٥٨) قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى (٥٩).
وإن هذا يدل على أنه لم يكن مسجونا كما ادعى بعض المفسرين:
(وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ (٣٩)
القائل للناس مجهول غير مذكور، فمن هو القائل أهو فرعون؟ أم هم الحاشرون الذين بعثوا ليجمعوا الناس؛ وكان هذا الاستفهام للتأكد من اجتماعهم أجمعين وأنه لم يتخلف أحد، وللدلالة على العناية بالاجتماع لخطر موضعه، ولشدة حاجة فرعون إليه.
وقال الداعي غير المذكور أو الذي جهل
(لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ كَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ (٤٠)
لَعَلَّ للرجاء، وهو يدل على أنهم غير متأكدين من علمهم، كما أنه وجد أيضا أمر آخر، يدل على الشك في القلب، وهو التعبير في التعليق بإن الدالة على الشك، لَا بـ إذا الدالة على التحقيق، وفي تعبيرهم (نًتَّبِعُ السَّحَرَةَ) يشير إلى أنهم يسيرون وراءهم في حكمهم إن غلبوا.
(فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ قَالُوا لِفِرْعَوْنَ أَئِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ (٤١) قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذًا لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (٤٢)
لم يكونوا مؤمنين بفرعون الإيمان كله، بدليل أنهم طلبوا منه أجرا على عملهم، وكان عدولا في طلبهم؛ لأن حدودا الأجر بالوصول إلى الغاية كالطبيب الذي يطالب بالأجر على الشفاء لَا على العلاج والعمل، ولذا قالوا مؤكدين في حال الغلب (إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ) فأكدوا الأجر في حال الغلب بعدة مؤكدات أولها (كُنَّا)، لأن كان تدل على الكينونة الثابتة المستمرة التي تكون بعد المعركة والمغالبة، وثانيها - نحن - فهي تأكيد للضمير في (كُنَّا)، وثالثها - ذكر الغالبين بالوصف والتعريف، أي ولم ننهزم أمام موسى، بل غلبناهم، وهكذا ابتدءوا.
أجابهم فرعون بقوله:
(قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذًا لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (٤٢)
أقر طلبهم أولا،
بقوله (نعم) الدالة على استحقاقهم، وعدالة طلبهم، وقرر جزاءين:
الجزاء الأول: الأجر، وقال: إن لكم لأجرا مؤكدا الأجر بأنه لهم.
واستحقاقهم، وإنه أجر كبير لتنكير أجرا، أي أجرا عظيما لَا يقادر قدره.
والجزاء الثاني: الذي يعد جزاء كبيرا عند الملوك والطغاة، وهو أن يكونوا مقربين، وهذا التقريب إليه، يتضمن مزايا معنوية في نظرهم، وهو الرضا السامي، كما كنا نسمع من عبارات الثناء على المقربين عند الملوك والذين كانوا يقلدون فرعون في طغوانه، وإن كانوا في معاملة الرعية شرا منه، ويتضمن مزايا أخرى بأنهم ينالون جزاء مما يسلط على العباد بتسليطهم، ويتضمن مكاسب مادية من السعاية والإفساد، وقد أكد قربهم منه بمؤكدات أولها: إنَّ، وثانيها: اللام، وثالثها: الحكم بأنهم يكونون من ذوي الزلفى المحيطين به، فيكونون في ظلامه وظلمه، وبين أن ذلك نتيجة عملهم وذلك بالتعبير بـ (إذن) أي أنه نتيجة عملكم، حثا لهم على الجد والعناية.
* * *
5353
اللقاء
قال الله تعالى:
(قَالَ لَهُمْ مُوسَى أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ (٤٣) فَأَلْقَوْا حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقَالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ (٤٤) فَأَلْقَى مُوسَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ (٤٥) فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ (٤٦) قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (٤٧) رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ (٤٨) قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (٤٩) قَالُوا لَا ضَيْرَ إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ (٥٠) إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَا أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ (٥١)
* * *
التقى السحرة بموسى، وقال لهم:
5354
(أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ) فهو يعطيهم حق الابتداء ليأتوا بكل ما عندهم، ومكنهم من أن يكون بدء الرمي لهم ليسترهبوا الناس الحاشدين المجتمعين، ويكتسبوا من ذلك حماسة وقوة اندفاع، وهو يعلم أن اللَّه معه، وهو غالبهم بنصر اللَّه تعالى وقوة الحق الذي لَا يمكن اللَّه تعالى - الباطل منه أبدا.
(فَأَلْقَوْا حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ... (٤٤)
الفاء للعطف والتعقيب، أي أنهم سارعوا بإلقاء حبالهم وعصيهم، وكان لهم أثر شديد في نفوس المجتمعين كما جاء في سورة
5354
الأعراف (قَالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ (١١٦).
وقالوا وهم يلقون الحبال والعصي التي سحروا بها أعين الناس (وَقَالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ) أي متيمنين مقسمين بعزة فرعون مؤكدين بذلك أن الغلب لهم وأكدوا عليه أولا بـ أن، وباللام، وبـ نحن المؤكدة للضمير تأكيدا لفظيا. وبقصر الغلب عليهم بتعريف الطرفين أي أنهم وحدهم الغالبون دون غيرهم، ولن يغلب موسى وقد قالوا ذلك بعد التأكد من الأجر الكبير والتقريب.
5355
(فَأَلْقَى مُوسَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ (٤٥)
والفاء أيضا للعطف والتعقيب أي سارع موسى عليه السلام معتمدا على اللَّه تعالى، وعلى عزته، وقدرته سبحانه القاهرة، وقوله تعالى: (فَإِذَا هِيَ) هي للمفاجأة، أي أنه كانت المفاجأة الكبرى لهم وللحشد المجتمع، تبتلع ما يأفكون، أي تلقف الحبال والعصي التي كانوا يكذبون بها ويصرفون عن المعجزة بسحر أعين الناس واسترهابهم، والإفك بتضمن معنى الكذب والصرف عن الحق الواضح الجلي، وهنا تبدو المعجزة جلية بينة لأهل الخبرة في السحر، ويعلمون أن ما جاء به موسى ليس من نوع السحر، بك هو إعجاز اللَّه تعالى، ولذا قال تعالى عنهم:
(فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ (٤٦) قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (٤٧) رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ (٤٨)
والفاء كما قلنا لترتيب والتعقيب أي أنهم فور ما رأوا أن العصا تلقف ما يأفكون، فتبتلع مادة سحرهم التي تسحر العيون، ووجدوا حقيقة لَا تخييلا ولا وهما، فكان الحق فأسرعوا بالسجود، وقوله تعالى (فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ)، مبني للمفعول إشارة إلى أن إيمانهم وإذعانهم للحق هو الذي ألقاهم ساجدين، وكأنهم غير مختارين ولا مريدين، فالسجود كان مساوقا للعلم الذي أوتوه من معجزة موسى عليه السلام، و
(قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (٤٧) لأنه المنشئ القاهر القدير الكالئ الحامي.
(رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ (٤٨)
وإن هذا يدل على صفاء نفوس هؤلاء، وقد أشرنا في الآيات السابقة إلى أنهم لم يكونوا مذعنين لما يدعيه فرعون، كما يبدو من لحن أقوالهم.
5355
وإن أولئك آمنوا حقا وصدقا، إذ إنهم تركوا الأجر، وكان كبيرا، وتركوا الازدلاف إلى فرعون والقرب منه والتحكم باسمه، ورضوا بأن يُقطعوا ويصلبوا وذلك هو الإيمان حقا وصدقا.
طغى طغيان فرعون، وظهر حمقه، فبدل أن يذعن للحكم الذي اختاره ثار عليهم وقال:
5356
(قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (٤٩)
داهية نزلت بألوهية فرعون، وتأثيره في قومه، وبطلان حجته في رد موسى أمام حشد مجتمع، من مدائن مصر كلها ليشهدوا نصرته، فشهدوا بطلان حجته، وهزيمته، فاستخدم الطغيان ليحول الأذهان، ولتكون رهبته محل حجته (آمَنتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ) إذا جعلنا همزة أستفهام، في القول، وإذا لم يكن استفهام يكون ذكر الإيمان قبل الإذن منه، هو الاستنكار، كأنه ملك قلوبهم وأجسادهم وخواطرهم ونوازع نفوسهم، وهذا شأن كل جبار متحكم، كأنه ملك الأفئدة والعقول والنفوس؛ لأن الذين حوله يوعزون له بذلك، وبأن هذا حق الله فرضته الطاعة، ثم الألوهية الباطلة، وقوله تعالى - له - أي مذعنين خاضعين له.
ولم يفرض أنه الحق بموجب علمهم، وتفريقهم بين باطل السحر، ومعجزة الحق، بل فرض أنه كبيرهم الذي علمهم السحر ليموِّه على الناس، فقال إنه لكبيركم الذي علمكم السحر، فأنتم تتبعون معلمكم ولا تتبعوني.
ثم انتقل من التضليل إلى التهديد كشأن الطغاة دائما إذا ما حل بهم الدليل يسترون عجزهم بالتهديد، فيقول: (فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ) الفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها، واللام تفيد توكيد التهديد، وسوف - لبيان تأكيد العلم في المستقبل، وهو علم معاينة لَا علم إخبار، ولذا ذكر مما هدد به نافذا واقعا (لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ) أي: يد من جانب، ورجل من جانب، (وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ) إن التصليب يكون مقارنا للقتل، فكأنه هددهم بأمور ثلاثة أولها
5356
التعذيب بقطع الأيدي والأرجل من خلاف، وثانيها - القتل، وثالثها - التصليب؛ ليكونوا عبرة لغيرهم، إذ هم أول من شقوا عصا الطاعة، ونبذوا ألوهيته وراء ظهورهم.
هذا صوت التهديد الفرعوني فلنسمع صوت الإيمان، فقد أجابه المؤمنون بقولهم:
5357
(قَالُوا لَا ضَيْرَ إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ (٥٠) إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَا أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ (٥١)
الضَّير: المضار وإيقاع الضرر، أي لَا تملك أن تضارنا، فإنا قد عرفنا ما عندك، وقدرة ربنا، وأن ما عندك أمر ضئيل إلى زمن محدود، وما عند اللَّه باق لا ينتهي، وضررك ضرر عاجل موقوت ندفعه ويدفعه اللَّه عنا بخير دائم غير موقوت، وكأنَّهم لقوة إيمانهم يقولون: ما أنت، وما عذابك؟ إنه أذى ساعة، وما عند اللَّه خير دائم: (إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ) انقلب إليه، أي ترك ما هو فيه راجعا إلى الخير العظيم، و (إِلَى رَبِّنَا) متعلق بمنقلبون، وكان تقديمه لبيان الاختصاص وأنهم يرجعون إلى ربهم، لَا إلى غيره من أشباه فرعون.
(إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَا أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ (٥١)
إيمان قوي وصبر على البلاء، ورجاء ما عند اللَّه العزيز الحكيم، وذكروا طمعهم في غفرانه، ولم يذكروا تأكدهم منه؛ لأن شأن المؤمن الذي يذكر سيئاته أن يرجو ولا يطمع، ويخاف ولا يتأكد، ولتذكرهم لما أخطئوا به في جنب اللَّه لم يذكروا في طمعهم إلا أن يغفر لهم خطاياهم، والخطايا جمع خطيئة، وهو الإثم الذي استغرق النفس حتى امتلأ بالباطل، وكذلك كانوا في عهد الرحمن، وأي خطيئة أعظم من أن يعبدوا فرعون وهو الجبار حتى طمع فيهم وأذلهم، وأذل أرض مصر ومن فيها.
وقد قالوا في الخير الذي فعلوه مقابلين به الطمع في الغفران (أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ) من أهل مصر قوم فرعون، وأن وما بعدها مصدر في موضع جر باللام المحذوفة. وتقدير القول، لأن كنا أول المؤمنين أي لكوننا أول المؤمنين.
* * *
5357
النجاة
قال تعالى:
(وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (٥٢) فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ (٥٣) إِنَّ هَؤُلَاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ (٥٤) وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ (٥٥) وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ (٥٦) فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (٥٧) وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ (٥٨) كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ (٥٩) فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ (٦٠) فَلَمَّا تَرَاءَا الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ (٦١) قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ (٦٢) فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ (٦٣) وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الْآخَرِينَ (٦٤) وَأَنْجَيْنَا مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ (٦٥) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ (٦٦) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (٦٧) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (٦٨)
* * *
الواو استئنافية، وهي استئناف لبقية القصة الصادقة قصة موسى وفرعون الصادقة المصورة لوقوف الحق أمام جبروت أطغى الطغاة، وفي هذا الجزء من القصة خبر النجاة للمظلومين أمام الظالم وملئه.
5358
(وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي إِنَّكُم مُّتَّبَعُونَ) الإسراء هو السير ليلا، وقد صرح بالليل في القصة في بعض السور، وعبادي جمع عبد، والمراد بهم
5358
بنو إسرائيل الذين كان فرعون يذبح أبناءهم ويستحيي نساءهم، والتعبير بعبادي فيه إشارة إلى أن اللَّه عامل على إنقاذهم من فرعون وقومه، وأنه سبحانه وتعالى منقذهم كما شاء سبحانه.
ساروا متجهين إلى البحر، وأدرك فرعون أنهم عاملون على الإنقاذ، فخاف، وتوقع الأذى من بعد ما كان منه لموسى وهارون، وللسحرة الذين عاندوه، وقاوموا طغيانه ورفضوا ألوهيته، ولجئوا إلى اللَّه تعالى، وظهر خوفه وتوقعه الضرر، فأرسل رسله، كما قال تعالى، وعلل سبحانه السير ليلا بقوله:
(إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (٥٢)
5359
فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ (٥٣)
الفاء للترتيب والتعقيب والمعنى سارع فور انفصالهم وأرسل - حاشرين - أي جامعين للناس من كل مدائن مصر، وذلك ليلاحقهم بالأذى والقتل، وبرر دعوتهم لحربهم أو بالأحرى لقتلهم وسهل أمرهم بقوله:
(إِنَّ هَؤُلَاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ (٥٤) وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ (٥٥) وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ (٥٦) الشرذمة الجماعة المنقطعة التي لَا ناصر لها، وقد وصفهم بالقلة، فقال قليلون، وبذلك ذكر فيهم وصفين لاستضعافهم:
أولهما - أنهم منقطعون عن قومهم، ونصرائهم.
الثاني - قليلون، وذلك ليشجع قومه على اتباعهم وإهلاكهم، ويبين خوفه منهم، وإن حالهم مع انقطاعهم، وإنهم قليلون، وذكر غيظه منهم قائلا:
(وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ (٥٥) وأنهم قليلون يتوجب الحذر منهم، فقال:
(وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ (٥٦)
أي نخشى شرهم ونتوقعه، وذلك كما بدا من ضعفه أمامهم، فإن الحق يرهب أقوى الأقوياء ولو كان فرعون ذا الأوتاد، وقد أكد حذره وحذر من معه بعدة مؤكدات منها (إنَّ) الدالة على التحقيق، والتأكيد بجميع - والثالث - اللام.
ورابعها - التعبير بالجملة الاسمية الدالة على الاستمرار، كان إيذانا، لنخوفهم، وضياع الأمر من أيديهم، وإن أمر مصر يتساقط من جموحهم؛ ولذا قال تعالى:
(فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (٥٧) وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ (٥٨)
الفاء للعطف مع الترتيب والتعقيب، أي أنه سبحانه بعد هذا الفزع بين مآل أمرهم، وقد يقال: يكون إغراقهم معقبا لقول فرعون مع أن بينهما حوادث، والجواب عن ذلك الإشارة إلى أن اللَّه تعالى قدر ذلك واقعا وتكوينا، عندما أخذ فرعون الطاغي ومعه ذلك الذعر، فكأنه وقع عقبه، لتأكد وقوعه.
الجنات - هي مصدر ذاتها، فكأنها لعموم زرعها وثمارها، وأنها في وسط الصحارى من حولها شرفا وغربا، كأنها جنات في أعلاها وأدناها، وعيون، جمع عين، وهي الماء الثر النابع من جوف الأرض، وفي ذلك إشارة إلى نيلها السعيد الذي يجري من أعلاها لأدناها، وقد كانت الآبار بين مصر وليبيا، تجري فيها عيون الماء، فتخصبها، وكانت الأرض بينها وبين تونس، وكانت تسمى أفريقيا، وكانت أرضها مملوءة في باطنها بالمعادن والفلزات، وكنوز من سبقوهم من الفراعنة، كما لَا تزال آثار من قبل فرعون موسى، مملوءة بالآثار الدالة على قوة سلطانهم وثرائهم، والكنوز، الآثار أو كل ما استبطنته الأرض من معادن وكنوز - ومقام كريم - أي المقام اسم مكان من قام يقوم، أي مقام طيب حسن مع الاحترام والإجلال، وهي المنازل المشيدة.
ولمن تكون هذه المنازل بعدهم قال تعالى:
(كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ (٥٩)
أي أخرجناهم ذلك الإخراج من الجنات والعيون والكنوز، والمقام الكريم لنورثها بني إسرائيل، فنجعلهم ورثتهم، وقد كانوا يستضعفونهم، ويذبحون أبناءهم ويستحيون نساءهم، وكان ذلك ظلما، فأورث اللَّه المظلوم ظالمه، وهذا كقوله تعالى: (وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ (٥).
(فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ (٦٠)
لم يحس قوم فرعون بهم إلا في الصباح، (فَأَتْبَعُوهُمْ) أي ساروا وراءهم ولحقوهم، يقال اتبعه أي لحقه، وسار سيرا مسرعا وراءه، و (مُشْرِقِينَ)، أي وقت الشروق متجهين شرقا وراءهم، فقد اتجهوا إلى ناحية البحر الأحمر، حيث المعجزة الظاهرة الباهرة، وهو فلق البحر كل فرق كالطود العظيم، وقد جد جيش فرعون الذي دعا فيه بالنفير العام حتى تراءى لهم ففزع بنو إسرائبل منهم؛ لأن سابق الأذى خلع قلوبهم خلعا، ولذلك كان الخوف الشديد وقال تعالى:
(فَلَمَّا تَرَاءَا الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ (٦١)
الفاء فاء الإفصاح عن شرط مقدر، تقديره نحو فإذا تقاربا، وتراءى الجمعان أي صار كل واحد منهما على مرأى الآخر؛ لأن الترائي تفاعل الرؤية من الجانبين، بحيث صار كل واحد منهما يرى الآخر، قال بنو إسرائيل من فرط جزعهم (إِنَّا لَمُدْرَكُونَ) وقد أكدوا أنهم مدركوهم بـ إن وباللام، وبالجملة الاسمية، وهي جملة خبرية في ظاهرها، وفي حقيقتها كشف عن هلعهم وفزعهم، وكان على موسى أن ينبئهم بما يذهب عنهم الخوف، فقال اللَّه تعالى عنه:
(قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ (٦٢)
قال موسى عليه السلام ردا ومنعا: (كَلَّا) وهذه نفي لأن يدركوهم أو نفي لما يترتب على لحاقهم بهم، وقوله: (إِنَّ مَعِيَ ربِّي سَيَهْدِينِ) هي لإذهاب الخوف من نفوسهم، فإذا كانوا يرهبون بعزة فرعون الموهومة، فنحن في كلاءة اللَّه تعالى، ورعايته، اللَّه تعالى ربي الذي أنشأني وحاطني بحمايته وكلاءته، وهو الحي القيوم رب السماوات والأرض، ويهديني إلى طريق النجاة منهم، والسين لتأكيد هداية اللَّه لطريق النجاة في المستقبل وكانت النجاة.
(فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ (٦٣)
الفاء للترتيب والتعقيب، أي كان عقب طلب الاستهداء كان الإيحاء استجابة لموسى عليه السلام، كان الإيحاء لموسى أن اضرب بعصاك، أن تفسيرية، ضرب موسى بعصاه البحر، (فَانفَلَقَ فَكَانَ كُل فِرْق كَالطَّوْدِ الْعَظِيم)، الفلق هو شق الشيء حتى ينفصل بعضه عن بعضه، ويصير كل قسم منفصلا عن الآخر في كيانه، والفرق القسم المفروق عن الآخر، والطود هو الجبل العالي ووصفه بالعظيم لضخامته ومتانته وقوته، وهذا إعجاز حسي يجعل كل قلب يؤمن بالحق، ولو كان قلب فرعون طاغية الأرض، وكان هذا هاديا موسى أن يتقدم بني إسرائيل، فيدخلون في البحر، وهو يبس لَا يعوق سائرا وهو طريق معَبَّد، يسيرون فيه بيسر وسهولة.
اللَّه سبحانه وتعالى جرَّ الآخرين بتقليدهم أن يسيروا وراءهم، ولذا قال عز من قائل:
(وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الْآخَرِينَ (٦٤)
وأزلفنا، أي قربنا إليهم الآخرين، وهم فرعون وقومه، قربوا حاسبين أنهم ناجون كما نجا بنو إسرائيل، وحسبوها نعمة لهم و (ثَمَّ)، ظرف بمعنى مكان، الآخرون هم قوم فرعون، ووصفوا كذلك لأنهم متأخرون في اعتقادهم وعملهم وجاءوا متأخرين في سيرهم.
(وَأَنْجَيْنَا مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ (٦٥) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ (٦٦)
أنجى اللَّه موسى ومن معه من بني إسرائيل، وربما من قد آمن معهم من أهل مصر، كما آمن السحرة، ولذا أكد سبحانه وتعالى بما يفيد إغراقهم جميعا.
وكأن التعبير يتم للدلالة على فرق ما بين النجاة والإغراق والرشاد والضلالة، والعدالة والطغيان.
وإن هذه آية حسية عظيمة، ولذا قال تعالى:
(إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (٦٧)
أي آية دالة على رسالة موسى عليه السلام، وعلى قدرة اللَّه تعالى القوي القهار، وأنه وحده القادر على كل شيء، وأن الكون كله قبضة يمينه، و (آية) جيء بها نكرة لعظمها، وأنه لَا يقادر قدرها، ولا يعاظم أمرها، ولكن هل آمن كلهم، أو جلهم، قال تعالى:
(وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ)
هذه الجملة تدل بظاهر اللفظ أن الأكثرين لم يؤمنوا، فلم تأخذهم هذه الآية الباهرة إلى الإيمان واليقين، وتدل بمطويها أن من المصريين من آمن واتبع موسى عليه السلام.
(وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (٦٨)
استأنف اللَّه تعالى القول ببيان قدرته الظاهرة، وحكمته الباهرة، فقال: (وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) أي إن الله تعالى الذي خلقك وقام بربوبيته لحمايتك، وهو الحي القيوم، لهو العزيز، الغالب، الرحيم، فيما يعمل مما يسوء الظالمين ويكافئ المحسنين، وقد أكد اللَّه تعالى عزته ورحمته بعدة مؤكدات هي إنَّ، وذكر الربوبية، وباللام، وبضمير الفصل، وإن رحمته بادية في نظام هذا
5362
الوجود، وبادية في عدم تسويته بين المحسن، ومن لَا يحسن، ومن يعلم، ومن لا يعلم ومن يعدل ومن يظلم، واللَّه رءوف بالعباد.
- يلاحظ هنا أربعة أمور:
الأمر الأول - أن ما يتعلق بذكر التربية على لسان فرعون عاتبا أو لائما قد انفردت بذكره هذه السورة، وكذلك ما يتعلق بالإشارة إلى قتله رجلا من المصريين، واستحقاقه العقوبة عليه؛ لأنه كان ظالما.
الأمر الثاني - بيانه لرب العالمين، وسؤال فرعون عنه متهما، أو مستنكرا، لم يذكر بهذا التفصيل مرة أخرى وفي ذلك البيان تنبيه وإنكار لألوهية فرعون المزعومة الباطلة، وكذلك التهديد بالسجن إذا اتخذ إلها غيره، فإنه لم يذكر بهذا التأكيد في موضع آخر.
الأمر الثالث - أنه ذكرت معجزة العصا، وما ترتب عليها من إيمان السحرة، ثم إنذارهم بأن تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف، قد ذكر في آيات أخرى مع اختلاف في العبارات والسياق، وحذف في بعضها، ولكن مذكورة، ولا يعد الاختلاف في التعبير والتصوير مع زيادة أو نقص، لَا يعد تكرارا، وهذه المعجزة الحسية الباهرة ذكرها ضروري لبيان أن المعجزات الحسية التي يطلب المشركون من محمد - ﷺ - مثلها لَا تجدي ما دام القلب جاحدا، وما دام الكفر يسبق الإيمان في قلوب الجاحدين.
الأمر الرابع - أنه ذكر فلق البحر الذي صار كالطود العظيم، وهي معجزة، وهو في ذات الوقت أمرها شديد، ونذير للكافرين، وذكر مع اختلاف العبارات، وهو ضروري لبيان أن مآل المشركين كمآل فرعون أو أشد.
* * *
5363
قصة إبراهيم أبي الأنبياء
قال تعالى:
(وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ (٦٩) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ (٧٠) قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ (٧١) قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ (٧٢) أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ (٧٣) قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ (٧٤) قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (٧٥) أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ (٧٦) فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ (٧٧) الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ (٧٨) وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ (٧٩) وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ (٨٠) وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ (٨١) وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ (٨٢) رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (٨٣) وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ (٨٤) وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ (٨٥) وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالِّينَ (٨٦) وَلَا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ (٨٧) يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ (٨٨) إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (٨٩)
* * *
5364
جاءت في هذه السورة قصة إبراهيم بعد قصة من قصص موسى عليه السلام، لأن قصة موسى تسلية للنبي - ﷺ - بهلاك فرعون في طغيانه، وكيف غرق فرعون ومن معه من المعاونين الممالئين؛ لكي يكون ذلك بشارة بنصره على قريش، مهما يكن طغيانهم، فلن يكونوا كفرعون ذي الأوتاد.
وفى قصة أبي الأنبياء إبراهيم بيان لهم بما كان عليه أبو العرب الذي يفخرون بالانتساب إليه، وإنه محتدهم، وإنهم ضئضئ إبراهيم وذريته.
5365
(وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ).
الواو في معنى العاطفة، إذ فيها عطف قصة على قصة، والنبأ الخبر الخطير ذو الشأن العظيم، واتل أي اقصص عليهم قصة إبراهيم متلوة يتلو بعضها بعضا مرتبة منسقة ليروا فيها العبرة التي يعتبرون بها إن كانوا فرحين، جاء إبراهيم فرآهم يعبدون الأصنام فقال لهم مستنكرا لائما:
(إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ (٧٠)
و (إِذْ) متعلقة بـ (اتل)، أي اتل عليهم ماذا كان في ذلك الوقت، وقرب أبيه لقومه لبيان أن أباه في قرن معهم مساو لهم في الدعوة، وإذا كان قد طلب الغفران له ثم تاب عن ذلك، فهو معهم في الدعوة على سواء، والاستفهام إنكاري أو للتنبيه وطلب الإجابة؛ ونقول: إن الأول هو الأظهر والأبين.
أجابوه بقولهم:
(قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ (٧١)
لقد أجابوه، لأنهم لم يفهموا وجه استنكاره أو ظنوا أنه لَا وجه للاستنكار، والأصنام هي الحجارة التي نحتت تماثيل ليعبدوها، وقد جاءت بعض الروايات تقول: إن أباه كان يصنعها، ولعل ذلك وجه من ذِكْر أبيه مع قومه ابتداء.
والفاء في قوله تعالى: (فَنَظَلُّ) فاء الإفصاحِ، لأنها تفصح عن شرط محذوف، ونظل هنا بمعنى ندوم على عبادتها (عَاكفِين) أي مستمرين في عبادتها لا نني عن ذلك ليلا ولا نهارا، لَا في وقت معين.
وهنا نجد إبراهيم يبين لهم بطلان هذه العبادة، لأن المعبود يجب أن يكون أعلى من العابد كيانا، وأنفع وأضر، فقال لهم خليل اللَّه تعالى:
(قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ (٧٢) أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ (٧٣)
أول سؤال إنكاري وجهه إليهم: (قَالَ هَلْ يَسمَعُونَكُمْ) وتنادونهم عابدين، و (إذ) ظرف دال على الماضي، وتتعلق بيسمعونكم، وكان الظرف ماضيا دالا على مضارع لتصوير جهالتهم، إذ يدعون ما لا يستطيعون جوابا، وما لَا يستطيع أقل في الكون والوجود ممن يدعوه، إذ الداعي سميع مبصر، وهذه لَا تسمع ولا تبصر، ويصح أن نقول إن (تَدْعُونَ) معناها تعبدون، وكأنهم يعبدون ما لَا يسمع، ووجودهم أقل، إذ هم أحياء يسمعون، وهؤلاء جماد لَا حياة فيه.
(أَوْ يَنفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ) أو عاطفة، أي هل ينفعونكم أو يضرون؛ هل يملكون نفعا أو ضررا، وكأنه يقول لهم إن المعبود يكون موجودا، أو يكون نافعا أو ضارا يعبد رجاء نفعه أو اتقاء ضرره، ولا شيء من ذلك فكيف تعبدونهم؛ إنه ضلال العقل.
أجابوا متخلصين من الجدل الكاشف لجهلهم إنهم ما درسوا نفعهم ولا ضررهم، ولكن تبعوا آباءهم الأولين، فقالوا:
(قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ (٧٤)
بل، للإضراب الانتقالي من أسئلة إبراهيم، وإحراجهم وتقرير ما عندهم من حال سوء: (وجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُون) لم يسموا ما أخذوه عن آبائهم عبادة، وكأنَّهم لَا يفهمون معنى العبادة، ولا يدركون مرمى أفعالهم، كذلك، الإشارة إلى فعلهم الذي فعلوه، أي وجدنا آباءنا يفعلون مثل فعلنا، كقول العرب في عبادة الأوثان، (بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ (١٧٠).
(قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (٧٥) أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ (٧٦)
الفاء فاء الإفصاح وهي مؤخرة عن تقديم؛ لأن الاستفهام له الصدارة، والاستفهام للتنبيه، والمعنى فيما يفهم من كلام الله تعالى، أفرأيتم أي أشاهدتم ما تعبدون أنتم وآباؤكم الأولون إنه ضلال لَا أوافق عليه ولا أرضاه، ولذا
(فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ (٧٧)
الفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها، أي بسبب ذلك الضلال، والضمير في أنهم ضمير الحال. أي أن أنتم وهذه الحال التي هي
5366
عبادة الأوثان، وتقليد الآباء عدو لي أناهضها وأقاومها إلا عبادة رب العالمين.
فمعنى (إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ) على حذف مضاف إلا عبادة رب العالمين، وقد ذكر عليه السلام صفات رب العالمين التي أوجبت عبادته والإذعان له، فقال:
5367
(الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ (٧٨) وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ (٧٩) وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ (٨٠) وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ (٨١)
بعد أن ذكر لهم أن العاقل يعادي عبادة الأوثان، ولا يرضى إلا بعبادة الديان، أخذ إبراهيم يصف ربوبية اللَّه تعالى له في حياته من خلقه إلى موته، ثم بعثه، وأنها منبه دائم إلى استحقاقه وحده العبادة، وأنه لَا إله إلا هو، وفي ذلك توجيه للعرب سلالة إبراهيم عليه السلام إلى نعمه تعالى التي تغمرهم في حياتهم اليومية، والمستمرة، ما داموا في قيد الحياة، فذكر أول نعمة، وهي الخلق والهداية، (الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ) النون مكسورة إشارة إلى أن ياء المتكلم مطوية في الكلام طيا، والفاء لبيان أن ما بعدها مترتب على ما قبلها، فالهداية مترتبة على الخلق والتكوين، وقد يقول قائل، كيف يكون ذلك، والناس منهم شقي ضال، وسعيد مهدي، ولو كانت الهداية مترتبة على الخلق لكان الناس جميعا في هداية غير مقطوعة ولا ممنوعة؟ والجواب عن ذلك إن اللَّه تعالى خلق الناس مختارين يريدون، ويفعلون ويتحملون تبعات أعمالهم، إن شرا فشر، وإن خيرا فخير، ولكنه هيأ فيهم أسباب الهداية ودعأم إليها، فقال:
(وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (٧) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (٨)، وقال تعالى: (وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ).
نجد الخير ونجد الشر، وإذا كان سبحانه قد خلق في النفس المسلكين بالاستعداد لهما، فإنها إذا سلكت طريق الهداية فالهادي هو اللَّه سبحانه وتعالى
بما خلق من أسباب الهداية، ولذا قال تعالى: (وَلَكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ)، ومن يضل يسلك مختارا طريق الضلالة.
وإذا كان إبراهيم الرسول خليل اللَّه فإنه سلك طريق الهداية فاللَّه تعالى أرسله هاديا مرشدا، وجعله من أولي العزم من الرسل.
5367
والنعمة الثانية ذكرها إبراهيم بقوله تعالى كما حكى اللَّه تعالى عنه،
5368
(وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ (٧٩)
هذه نعمة أخرى من مظاهر الربوبية العالية، وهي أنه يطعم عباده، أي أنه سبحانه وتعالى هيأ لهم أسباب الطعام وأسباب الشراب، فطعام الإنسان لحم شهي، أو سمك طري، أو خبز، أو ثمر جني، وكل ذلك من اللَّه، فهو الذي أنبت النبات، وأثمر الغراس، وتغذى من النبات الأنعام، وهو سبحانه الذي خلق الأنهار والبحار التي تعيش فيها الأسماك، وهو الذي ينزل الأمطار فيشرب منها الإنسان والحيوان، وهكذا هو الذي يطعم ويسقي، بتضافر الأسباب سببا بعد سبب.
والنعمة الثالثة نعمة الشفاء من المرض، وحكى اللَّه تعالى فيها قول إبراهيم
(وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ (٨٠)
وقد ذكر المرض وشفاء اللَّه تعالى منه بعد الطعام والسقي للإشارة إلى أن بعض الأمراض سببها الإفراط في الطعام، كما ورد في بعض الآثار: المعدة بيت الداء، والحمية رأس الدواء. ومهما يكن من الطب والعلاج فالشفاء دائما من اللَّه واهب القوى، والقادر على كل شيء، وكثيرا ما يقول الطبيب وقد عجز: إن الشفاء بمعجزة، ويفوض الأمر إلى اللَّه تعالى القادر على كل شيء.
الأمر الرابع الذي تبدو فيه ربوبية اللَّه تعالى الكاملة
(وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ (٨١)
هذا شعور قوى بكمال الربوبية من خليل اللَّه تعالى إبراهيم عليه السلام، فهو وحده الذي يميت، ولو كان الإنسان في بروج مشيدة، وللناس آجال، فإذا جاء أجلهم لَا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون، وإنه بعد الموت البعث، وهو الحياة الأخرى الجديرة بأن تكون الحياة حقا وصدقا، كما قال تعالى: (وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ)، وعطف بـ (ثُمَّ) في موضعها، لأن البعث لَا يكون عقب الموت، بل يكون بينهما تراخ في الزمن حسا ومعنى، أما الحس فظاهر، وأما المعنوي فهو التفاوت بين حياة لاغية مكدودة، وحياة بالنسبة لمثل خليل اللَّه تعالى حياة هادئة لَا لغوب فيها، بل هي جنات النعيم.
5368
الحال الخامسة هو ما يرجوه إبراهيم الذي كان في حياته أُمَّةً، كما يقول تعالى: (إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا) وهو
5369
(وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ (٨٢)
أي أنه يطمع ويسمى طلبه طمعا، استصغارا لحسناته، واستكبارا لسيئاته كشأن أهل الورع الذين يتقون ويخافون، وتستشعر نفوسهم الخوف دائما، كما كانت حال محمد - ﷺ - فقد كان لعظيم مكانته يطلب رحمة اللَّه بالمغفرة لَا بالجزاء.
والخطيئة هي الذنب الذي يستغرق النفس، ويستولي عليها، وقد كان إبراهيم كسائر النبيين يحسب ذنبه كبيرا، وحسناته صغيرة، ويوم الدين هو يوم الحساب والجزاء.
ويتجه إبراهيم إلى ربه راجيا داعيا ضارعا قائلا:
(رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (٨٣) وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ (٨٤) وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ (٨٥) وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالِّينَ (٨٦)
ضرع إبراهيم إلى ربه فدعاه بما يدعو به الرجل الصالح الذي يريد أن يعاونه اللَّه تعالى في الخط المستقيم الذي يسلكه، فقال:
(رَبِّ هبْ لِي حُكْمًا وَأَلْحقْنِي بِالصَّالِحِينَ).
اتجه إلى ربه جل جلاله مناديا بالربوبية لأنها هي التي توجه وتربى النفوس، وتجعل الرجل ربانيا، وأول ما طلبه هو الحكم، وهو الحكمة الضابطة المانعة للنفوس من التردي في مهاوي الهوى، ومنازع الشيطان، والحكيم هو الذي يمنع نفسه ويحكم عليها بالتزام الجادة وسواء السبيل، ولقد قال أكثم بن صيفي: الصمت حكم وقليل فاعله، ونسب بعض الناس ذلك للنبي - ﷺ -، وإن الرجل المستقيم مبتدئ بنفسه فيروضها على الحكمة النافعة المهذبة، فإذا امتلأ قلبه بها اتجه اتجاها مستقيما، ونطق بالحق، وسلك طريق الحق، فكان الخلق المستقيم، وكانت المعاملات المستقيمة، وكانت الاستقامة في كل حياته، وقد دعا إبراهيم أن يهبه اللَّه حكما، يكون أولا على نفسه، وقال: (وَأَلْحقْنِي بِالصَّالحينَ) أي وفقني لكل أسباب الكمال، والعلو في النفس والخلق لألحقَ بأهل الكَمال والصلاح وأُعَدَّ في زمرة الأبرار.
5369
والدعوة الثانية هي دعوة بالعاقبة، وهي قوله ضارعا إلى ربه:
5370
(وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ (٨٤)
الآخرين أي الذين يجيئون بعده، و (لِسَانَ صِدْقٍ) فيه إضافة اللسان للصدق أي بأن يكون الصدق مستغرقا له، بحيث لَا يقال عنه إلا ما هو صدق، وأن يكون اللسان صادقا دائما، وأن يمتد الصدق منه وفيه إلى ما بعده، وإن لسان الصدق يكون بعده يكون بأمور، منها أن يكون ذكره حسنا صادقا من بعده، بأن يكون أثرا محمودا من بعده، ويكون نافعا بعد مماته كما كان نافعا في حياته، ومنها أن تكون دعوته إلى الحق باقية من بعده يرددها الناس، ويدعون إليها، ومنها أن تكون له محبة ومودة بين الناس من بعده، كما كانوا يودونه فيِ حياته، كما قال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا (٩٦).
هذا، وإن النص الكريم يدل على أن حب المحمدة بين الناس ليس أمرا غير صالح ما دام يقصد إليها النفع والخير، وعموم الإصلاح وما دام لَا يتعالى ولا يستطيل على الناس.
والدعوة الثالثة، هي ما ذكرنا بقوله:
(وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ (٨٥)
أي اجعلني في جنة النعيم، وعبر بهذا التعبير للإشارة إلى أن جنة النعيمَ تكون ميراثا للعمل الصالح، وطلبها من اللَّه تعالى مع أنه عمل عملا صالحا، للإشارة إلى أن عمله لَا يعطيه ذلك الحق إنما هبة من اللَّه تعالى ومنَّة وفضلًا، فلا يستحق عامل بعمله إلا أن يتغمده اللَّه برحمته.
بعد ذلك اتجه إلى ربه بالدعاء يصلح به نفسه، اتجه إلى ربه في شأن أبيه وقد وعده بأن يدعو له، كما جاء في سورة مريم: (سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا)، أنجز خليل اللَّه وعده، وقال ضارعا إلى ربه:
(وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالِّينَ (٨٦)
طلب ذلك من اللَّه، ولكنه لم يصر عليه، وإن كان قد أنجز وعده، ولكن تبرأ من هذا الاستغفار، كما قال في آية أخرى، (وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ (١١٤).
هذه الدعوات كلها مطالب من إبراهيم الخليل المخلص إلى ربه، وهي مطالب إيجابية، اتجه بعد ذلك إلى مطالب سلبية مانعة، فقال عليه السلام:
(وَلَا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ (٨٧) يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ (٨٨) إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (٨٩) وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ (٩٠) وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ (٩١)
الواو عاطفة، والجملة التماس من اللَّه تعالى ألا يخزيه يوم البعث، وذات البعث لَا خزيان فيه، إنما الخزي يوم الحساب ويوم تشهد عليهم أعضاؤهم بما فعلوا، وتنطق أعمالهم بما ارتكبوا، ولا ننسى أن الدعاء من خليل اللَّه، وكيف يتصور أن يخزيه اللَّه تعالى وهو رسوله، ولكن لفرط إحساسه بحق اللَّه تعالى يظن في نفسه القصور، ومعه الخزي، فإن دقة الإحساس تجعله يستصغر حسناته في جنب اللَّه تعالى العزيز الحكيم، وكلما قرب الإنسان من اللَّه تعالى أحس بقصوره، ولا يحس بعظمة ما فعل، ويحسب أنه من المقصرين، لَا من المقربين الصادقين.
وبين سبحانه وتعالى على لسان خليله الصافي نفسه وقلبه، فقال:
(يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ (٨٨)
يوم، بدل أو عطف بيان من يوم يبعثون، أي أنه في هذا اليوم لا ينفع المال ولا البنون اللذان هما عز هذه الحياة الدنيا وزينتها، كما قال اللَّه تعالى: (الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ...)، فالمال والبنون هما الزينة التي أعدت للفخر بها من أهل الدنيا.
(إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (٨٩)
القلب السليم هو القلب الخالي من أوشاب الوهم والشهوة والضلال، والاستثناء هنا يصح أن يكون متصلا بأن يكون من عموم نفي النفع بالمال والبنين إلا من كان ذا مال وبنين، وأعطى المال حقه، وربى البنين وأحسن تربيتهم فكانوا له عملا صالحا دائما؛ لأنه إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، وعلم ينتفع به، وولد صالح يدعو له. فمع المال والولد ينفع الإنسان إذا أتى اللَّه بقلب سليم من كل المفاسد في الدنيا، ويصح أن يكون الاستثناء منقطعا بمعنى لكن، ويكون المعنى لَا ينفع مال ولا بنون، ولكن من أتى اللَّه بقلب سليم من مطامع المال وغطرسة البنين، لَا يعتز إلا باللَّه، وقد سلم قلبه وكل أحاسيسه له سبحانه.
5371
ْقال تعالى:
(وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ (٩٠) وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ (٩١)
أزلفت، أي قربت إلى الزلفة وهي الحظوة الحسنة، فمعنى
5372
(وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ) أي قربوا إلى موضع حظوتهم وجزائهم على الحسنى حسنى مثلها أو أكبر منها، وقوله تعالى: (لِلْمُتَّقِينَ)، أي للذين عرفوا اللَّه تعالى واتقوه وخافوا عذابه، ورجوا رحمته، وهذه الجنة هي جزاؤهم جزاء موفورا.
وإذا كان هذا جزاء المؤمنين قد قرب إليهم زلفة وحظوة، فقد برزت الجحيم، وهي نار اللَّه الموقدة للكافرين، ولذا قال عز من قائل:
(وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ (٩١)
أي ظهرت واضحة، لأن برز معناها: ظهرت وقربت منهم، والتفعيل مبالغة في الظهور أي رأوا الجحيم رؤيا العيان فعلموا مآلهم ونهايتهم بالعيان، والغاوون هم الضالون الكافرون.
بعد ذلك البيان في قصة إبراهيم، وما فيها هنا لم يذكر في سور أخرى إلا بعض ما يتعلق بعبادة الأصنام ذكر سبحانه بعض ما يكون يوم القيامة.
* * *
قال تعالى:
(وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (٩٢) مِنْ دُونِ اللَّهِ هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ أَوْ يَنْتَصِرُونَ (٩٣) فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ (٩٤) وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ (٩٥) قَالُوا وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ (٩٦) تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (٩٧) إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (٩٨) وَمَا أَضَلَّنَا إِلَّا الْمُجْرِمُونَ (٩٩) فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ (١٠٠) وَلَا صَدِيقٍ حَمِيمٍ (١٠١) فَلَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (١٠٢) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (١٠٣) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (١٠٤)
* * *
5372
هذه النصوص السامية مصورة لحال الكافرين وما أضلوهم في يوم القيامة وأول اتجاه إلى مجاوبتهم، وقد كانوا يتخذونها شفعاء تقربهم إلى اللَّه زلفى، أن يسألوا عن هذا الادعاء أهو ظاهر فيها اليوم فيقال لهم:
5373
(وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (٩٢) مِنْ دُونِ اللَّهِ هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ أَوْ يَنْتَصِرُونَ (٩٣)
أين الأصنام أو الأشخاص التي حكم أوهامكم أن تعبدوها من دوني هل أمدتكم بنصر أو شفاعة أو تقريب زلفة أو حظوة، (أَوْ يَنتَصِرُونَ) أو هنا لمعنى الإضراب، فليست قائمة مقام - أم - والمعنى فيها الإضراب عن أن ينصروكم، أهم ينتصرون، بأن تحمي نفسها من عذاب واقع أو متوقع، والاستفهام إنكاري لإنكار الواقع، فهو للتوبيخ، إذ كانوا يحسبون أن لها قوة تنصر، فتبين أنها لا تنصر غيرها، ولا تنتصر لنفسها.
(فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ (٩٤) وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ (٩٥)
الكب إلقاء الشيء على أعلاه أو على وجهه، والكبكبة، تساقط الشيء في هوة بتدهور، ويقول الزمخشري: الكبكبة توالي الكب، فهو يكب ثم يكب أخرى، ويتوالى الكب، وهكذا حتى يصل إلى القاع.
والفاء هنا للإفصاح، لأنها تفصح عن شرط مقدر، أي إذا كانوا لا ينصرون، ولا ينتصرون، فإنهم كبكبوا فيها هم، والغاوي - الواقع في الغواية والضلالة، أي أنه يكب فيها ما كانت تعبد، هي والذين ضلوا، وهذا التعبير كناية عن أن من كانوا يحسبونه شفيعا لَا قدرة له، وإنه يلقى في النار ولو كان لا يحس ولا يشعر.
(وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ (٩٥)
الجند هو مما يستعان به في القتال، أو مادته، وإبليس قال لربه. (لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعينَ إِلَّا عبَادَكَ مِنْهُمُ الْمخْلَصينَ)، وجنود إبليس أشخاص من الإنس، قَد أشربوا فَى أنفسهم شره، فَكانوا له جندا، ويصح أن يكون من جنوده المطامع والأهواء والشهوات والأوهام، فكل هؤلاء يكبكبون في النار، وقد أكد سبحانه وتعالى ذلك تأكيدا لفظيا بقوله تعالى: (أَجْمَعونَ) فالنار لَا يتخلف عنها عاص ولا تذره.
(قَالُوا وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ (٩٦) تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (٩٧) إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (٩٨) وَمَا أَضَلَّنَا إِلَّا الْمُجْرِمُونَ (٩٩)
كان الاختصام بين المعبود الباطل والعابد في جهنم، وكأنما وهب الحجارة أن تتكلم وتبين، أو هو بيان للحال التي كانوا عليها وقد تكشفت الأمور، وزال زيغ الباطل، والضمير يعود إلى الكافرين الذين أزلهم الشيطان، وقوله تعالى: (وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ) جملة حالية، أي قال المشركون، وهم يختصمون مع ما عبدوهم،
(إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (٩٧)
(إِنْ) هنا هي المخففة من إنَّ الثقيلة واسمها ضمير الشأن، أي إنه الحال والشأن كنا لفي ضلال مبين، اللام للتوكيد، وقد أكدوا ضلالهم بها، وبأن الضلال استغرقهم كما يستغرق الظرف ما فيه، أي احتواهم، وصاروا يسارعون في أرجائه من ضلال إلى ضلال، وهو بين واضح يدركه العقلاء، ولكن ضاعت ألبابهم في وسط ذلك التيه من الضلال، وقد قرروا الحق الآن، فقال:
(إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (٩٨)
(إِذْ)، ظرف متعلق بـ (كُنَّا)، وإذ ظرف دال على الماضي وذكر مع المضارع لتصوير حالهم في الماضي، والتسوية بين آلهتهم ورب العالمين. موضع استنكارهم في ذلك اليوم لأنهم أدركوا أن هذه حجارة لا تعبد، بل يرمى بها، وهذا رب العالمين الذي خلق العقلاء جميعا، وقام على ربوبيتهم، فهو الحي القيوم اللطيف الخبير، ثم أقروا بمن كانوا خاضعين لهم، قالوا:
(وَمَا أَضَلَّنَا إِلَّا الْمُجْرِمُونَ (٩٩)
(مَا) نافية، أي ما أضلنا إلا المجرمون الذين اتبعناهم، وفي الواقع، إن الجو كله كان جوا إجراميا، فهم يترامون بالإجرام، وكان الإجرام فيهم جميعا؛ لأنهم اشتركوا جميعا في تكوين رأي عام فاسد، يروج فيه الباطل، ويختفي فيه الحق الصادع، فكانوا في ضلال يترامون به، ولا يخلص منه واحد منهم.
(فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ (١٠٠) وَلَا صَدِيقٍ حَمِيمٍ (١٠١) فَلَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (١٠٢)
الفاء فاء الإفصاح؛ لأنها تفصح عن شرط مقدر، وتقدير القول، إذا كان الذين صاحبونا وشجعونا مجرمين، فما لنا من شفيع يشفع لنا، ويضم صوته إلى صوتنا، ولا صديق حميم يتألم معنا، ويرفع عنا مقت ربنا، أو يشاركنا، فينقص منا ما يصيبنا من مقت وسوء عاقبة، ويتمنون نادمين، ولات حتى مندم، وعدد الشافعين، لأنهم في الشدة يكونون كثيرين، وذكر الصدق مفردا لأن الصديق الحميم يكون قليلا، وليس كثيرا.
(فَلَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (١٠٢)
الفاء أيضا للإفصاح لأنها سدت عليهم كل منافذ النجاة، فتمنوا رجعة إلى الدنيا كرة أخرى يؤمنون فيها، ويدركون الحق ويذعنون له، (لو) هنا للتمني، وهو تمني أن يعودوا إلى الدنيا كرة أخرى، والفاء فاء السببية، وأن مضمرة بعدها، أي فنكون بسبب ذلك من المؤمنين المذعنين للحق الذين لَا يمارون فيه.
كان الكلام في يوم الآخرة عندما قال عليه السلام يوم لَا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى اللَّه بقلب سليم، ولقد أشار سبحانه من بعد ذلك إلى تتمة القصة، فقال سبحانه:
(إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (١٠٣) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (١٠٤)
الإشارة إلى قصص إبراهيم، وما جاء فيها على لسان إبراهيم من بيان فضل الربوبية، والإذعان لحقها، وقد جاء في البيضاوي تلك العبارات المدركة في بيان معنى (لآية) لحجة وعظة لمن أراد أن يستبصر بها ويعتبر، فإنها جاءت على أنظم ترتيب وأحسن تقرير، ويتبعه المتأمل فيها لغزارة علمه، لما فيها من الإشارة إلى أصول العلوم الدينية والتنبيه على دلائلها، وحسن دعوته للقوم، وحسن مخالفته معهم وكمال إشفاقه عليهم، وتصور الأمر في نفسه وإطلاق الوعد، والوعيد على سبيل الحكاية؛ تعريضا وإيقاظا لهم ليكون أدعى للاستماع والقبول.
ومع هذه الحجة الباهرة، والوصايا التي تقنع بذاتها، وتلزم بحقيقتها، كان أكثرهم غير مؤمنين، ولذا قال: (وَمَا كَانَ أَكثَرُهُم) وإذا كان الأكثرون غير مؤمنين، فمعنى ذلك أن المؤمنين كانوا الأقل عددا؛ وذلك لأن الشيطان يتحكم في الكثرة، ويعاون أهل الشر بعضهم بعضا.
(وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (١٠٤)
الغالب الرحيم مع أنه القادر القاهر على كل شيء هو الرحيم وكان رحيما بهم في أنه لم يعجل بالعذاب، بل أمهل أهل الشر حتى يكون اليوم، وكان رحيما بهم في أنه لم يسو الصحيح بالسقيم والمحسن بالمسيء، وكان رحيما بهم في أن وضع عذابا للمجرمين، لكيلا يوغلوا في إجرامهم، ففي هذا الوصف بالرحمة إنذار وتبشير؛ لأن العالم لَا يقوم على المساواة بين الخير والشر، ولكل موضعه.
* * *
5375
من قصص قوم نوح
قال تعالى:
(كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ (١٠٥) إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلَا تَتَّقُونَ (١٠٦) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (١٠٧) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (١٠٨) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (١٠٩) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (١١٠) قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ (١١١) قَالَ وَمَا عِلْمِي بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (١١٢) إِنْ حِسَابُهُمْ إِلَّا عَلَى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ (١١٣) وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الْمُؤْمِنِينَ (١١٤) إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ (١١٥) قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ (١١٦) قَالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ (١١٧) فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحًا وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (١١٨) فَأَنْجَيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (١١٩) ثُمَّ أَغْرَقْنَا بَعْدُ الْبَاقِينَ (١٢٠) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (١٢١) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (١٢٢)
* * *
جاءت قصة إبراهيم بعد قصة موسى؛ لأن موسى قاوم أشد طواغيت الدنيا وأهلكه اللَّه تعالى بعد المعركة، وذلك فيه إيذان بأن محمدًا سيهزم الجمع من المشركين، ويولون الدبر، وجاء بعده قصص من إبراهيم تأديبا للعرب، لأنه أبوهم الذي يشرفون بمحتده ويحتمون بمسجده أول بيت وضع للناس، ولعلهم يهتدون بهديه، ويطيعون بطاعته، ويتأدبون بأدبه.
5376
وجاء من بعد بقصص من قصص نوح الأب الثاني للخليقة، وفيه ذكر شذوذ الكافرين من العرب، ولذلك ابتدأ سبحانه القصص بتكذيبهم، ولم يبتدئه برسالة نوح عليه السلام، فقال تعالى:
(كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ (١٠٥) إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلَا تَتَّقُونَ (١٠٦) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (١٠٧) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (١٠٨).
5377
(كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ) ابتدأ القول الكريم بتكذيب قوم نوح للمرسلين، أي أن طبعهم، وما آل إليه أمرهم أنهم يكذبون الرسالة الإلهية على لسان رسول يبشر وينذر، فهم لَا يكذبون نوحا وحده، وإنما يكذبون أصل الرسالة الإلهية لأنهم ماديون لَا يؤمنون إلا بالمادة، ولا يؤمنون بالغيب، ولب الإيمان هو الإيمان بالغيب، فلا إيمان لمن لَا يؤمن بالغيب.
(إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلَا تَتَّقُونَ (١٠٦)
إذ ظرف للماضي متعلق بقوله:
(كَذَّبَتْ قَومُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ) كأنهم جابهوا نوحا عليه السلام، وهو يقول لهم (أَلَا تَتَّقُونَ) بإنكار أصل الرسالة، وكأنهم يقولون: ما لنا ورسالتك، ورسالة غيرك وقوله: (أَلَا تَتَّقُونَ) ألا للتحريض والحث علي التقوى، وما أجدر كل منكر جبار، أن يطالب بالتقوى، واتخاذ وقاية لأنه يكون مغرورا، وكل من يتدلى بالغرور، يطالب باتخاذ وقاية ليمتلئ بالتقوى ووراء التقوى الإيمان.
(إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (١٠٧)
أكد رسالته لهم بـ إن المؤكدة، وتقديم الجار والمجرور (لَكُمْ) أي لكم خاصة، ووصف نفسه بالأمانة، والأمانة تقتضي ألا يكذب على اللَّه، فيدعى عليه الرسالة، وهو لم يرسله، وتقتضي الأمانة فيما يخبرهم، ومع الأمانة الرعاية والمحبة والإخلاص لهم، والبر بهم.
ولأنه رسولهم الذي أرسل إليهم طالبهم بتقوى اللَّه والطاعة فقال:
(فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (١٠٨)
أي أطيعونى لأن هنا ياء المتكلم مقدرة في القول بدليل كسر النون المنبئ عنها، طالبهم بأمرين: تقوى اللَّه، لأن قلوبهم جامدة جافية عن ربها، إذ ليس فيهم إيمان بشيء، ولا خوف من حاضر ولا غائب، ولا علاج للنفس اللاهية الجافية إلا بالتقوى، أو الدعوة إليها، والأمر الثاني طاعة الرسول، ولا سبيل لطاعته إلا أن تمتلئ نفوسهم بالتقوى، ومهابة اللَّه والخضوع له.
5377
والفاء في قوله تعالى:
5378
(فَاتَّقُوا اللَّهَ) لترتيب ما بعدها على ما قبلها، أي بسبب أن الرسول أمين لكم اتقوا اللَّه وأطيعون.
(وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ... (١٠٩)
(مِنْ) لاستغراق النفي، أي لَا أسألكم على هذا التبليغ أي أجر مما يتعلق بالدنيا، لَا أسألكم جاها، ولا رياسة، ولا سلطانا، ولا غاية، ولا مالا، ولا أي عرض من أعراض الدنيا، (إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ) إن نافية، أي ليس لي أجر إلا عند اللَّه تعالى، وعبر بـ على للإشارة إلى علو هذا الأجر وهو يعلو عليكم، ولا يمكن أن تتساموا إليه؛ لأنه من رب العالمين الذي يدين له العالمون أجمعون بالربوبية والطاعة والخضوع.
وإذا كنت لَا أجدْ منكم جزاء ولا شكورا
(فَاتَّقُوا اللَّهَ وأَطِيعُونِ) الفاء للإفصاح، لأنها تفصح عن شرط مقدر كأنه هو: إذا كنت أمينا لكم ولا أريد عرضا من أعراض الدنيا، فاتقوا اللَّه، وأطيعوني، لفضل الإخلاص والأمانة - أجابه قومه على هذه الدعوة المخلصة إلى الحق بالتمرد.
(قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ (١١١)
الأرذلون جمع أرذل أي الذي بلغ أقصى المهانة في نظرهم، وهم الفقراء والضعفاء والعبيد، وكأنَّهم يتخذون قوة الحق من قوة معتنقيه، وحالهم، ولأنهم لَا يريدون أن يتساووا بهم، ودعوة الرسل المساواة بين القوي والضعيف. والغني والفقير، والاستفهام إنكاري لإنكار الوقوع، أي لَا يقع منا اتباع لك، بحيث نتساوى مع الأرذلين الذين اتبعوك، وكذلك فعلت قريش مع النبي - ﷺ -، لقد ذكروا ذلك للنبي - ﷺ - ونهى اللَّه نبيه أن يلتفت إليهم (وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ (٥٣) وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٥٤)، وفي قراءة وأتباعك جمع تبع أي ليس معك إلا الأرذلون.
5378
أجابهم نوح على امتناعهم عن الإيمان بسبب إيمان الضعفاء والفقراء والعبيد، وهذا من سخف تفكيرهم، وتفكيرهم المادي الذي بنوا فيه تقدير الناس على أساس قوتهم المادية الجسمية، وأموالهم، أجاب عليه السلام بقوله:
5379
(قَالَ وَمَا عِلْمِي بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (١١٢) إِنْ حِسَابُهُمْ إِلَّا عَلَى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ (١١٣) وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الْمُؤْمِنِينَ (١١٤) إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ (١١٥) الاستفهام هنا للتنبيه إلى أنه لَا يعلم ما كانوا يعملون لنيل رزقهم، وأنه لا يهتم به، إنما يهمه فقط إجابة دعوته، وما يحرضهم عليه من تقوى وهداية، أي أنه عليه السلام لَا يهتم بالذي كانوا يعملونه وهم مستمرون على عمله سواء كانوا يمتهنون صناعات صغيرة، أو صناعات كبيرة، إن ذلك لَا يعنيه،
(إِنْ حِسَابُهُمْ إِلَّا عَلَى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ (١١٣) أي ما حسابهم إلا على ربي لو شعرتم بالحق وأدركتموه.
(وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الْمُؤْمِنِينَ (١١٤)
نفى عن نفسه أن يكون من شأنه أن يطرد من استجاب وآمن بالحق واستجاب دعوته، أي أنه ما أرسل لتوزيع الأعمال على الناس، إنما أرسل لدعوة الحق والإيمان، وترى أن النفي لوصفه بطرد المؤمنين، فهو نفي عن شأنه بوصف كونه رسولا داعيا إلى الحق، لَا يهمه إلا استجابة دعوته.
(إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ (١١٥)
(إِنْ) نافية، أي ما أنا إلا نذير مبين، أي إلا منذر مبين، فلا يهمني إلا بيان ما فيه الإنذار، وبيان ما فيه من تبشير، ويلاحظ أن قول نوح عليه السلام فيه تهديد لهم، ولذا اقتصر على ذكر الإنذار، ولم يذكر التبشير، مع أن أصل الرسالة للأمرين.
وقد أمر اللَّه تعالى محمدا - ﷺ - وقد جوبه من المشركين بما جوبه به نوح عليه السلام، وقال اللَّه تعالى له:
(وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ (٥٢).
وهكذا توافقت أقوال المشركين من عهد نوح الأب الثاني للخليقة إلى عهد قوم محمد خاتم النبيين، وكان الجواب واحدا أحرج قوم نوح والمبطل إذا أحرج هدد وأنذر.
(قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ (١١٦)
يئسوا من رده، وهو يحجهم بالحجة تلو الحجة، فانتقلوا من الجدل العقيم منهم إلى التهديد بالرجم بالحجارة، وقد فقدوا كل عناصر الود، وأعلنوا القطيعة وقالوا مصرين على الكفر: (لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ) اللام هي الدالة على القسم، بأنه إذا لم ينته يكون الرجم جزاءه، وطريق معاملته، وينتقلون من حال الرجم بالقول إلى حال الرجم بالحجارة، (لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ) هذا جواب القسم، واللام واقعة فيه مؤكدة، والتوكيد أيضا بنون التوكيد الثقيلة، وبذلك بلغوا أقصى حدود التكذيب مع التهديد العنيف. عندئذ اتجه إلى ربه قائلا:
(قَالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ (١١٧)
بكسر النون للإيماء إلى ياء المتكلم المحذوفة، وصدر القول بالنداء إلى ربه للإشارة بالنداء إلى طلب النصر والعون، والمدد الكريم منه جلت قدرته، وهو الذي أظلهم بنعمة الربوبية، وقوله: (إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ) فيه إيماء إلى أنهم كذبوه، في حال كان يرجو إيمانهم؛ لأنهم أولا قومه، وعرفوا صدقه، وخوفه عليهم، ورفقه بهم، ورغبته لخيرهم، ومع كل هذا كذبوه وقطعوا صلته وأعلنوا عداوته، وهددوه بالرجم، وإن لم يذكره لربه، لأنه عليم بهم يرى ويسمع.
اتجه إلى ربه يدعوه إلى أن يفصل بينه وبينهم:
(فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحًا وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (١١٨)
وقد كان تهديدهم له بالرجم خطا فاصلا بينه وبينهم، وأخبره اللَّه تعالى بقوله تعالى: (لَن يُؤْمِن مِن قَوْمِكَ إِلَّا مَن قَدْ آمَنَ فَلا تَبْتَئسْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ)، والفاء للإفصاح، وتقدير القول إذا كانوا كذبوكَ ولا يؤمن إلا من قد آمن فلا تبتئس.
والفتح معناه الحكم والفصل بـ ألا يمكنهم منه، وممن آمن معه وما آمن معه إلا قليل.
وقد أجابه اللَّه تعالى إلى مطلبه فور دعائه إليه.
(فَأَنْجَيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (١١٩) ثُمَّ أَغْرَقْنَا بَعْدُ الْبَاقِينَ (١٢٠)
5380
الفاء عاطفة للترتيب والتعقيب، أي أنه فور دعائه أجابه،
5381
(فَأَنجَيْنَاهُ وَمَن مَّعَهُ) أي الذين معه في الإيمان والإذعان والتصديق وناصروه، وإن كانوا قليلا، وقوله تعالى: (الْمَشْحُونِ) الذي حمل فيه كل ما يحتاجون حتى تستوى على بر السلامة، وهذا قوله تعالى: (حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ (٤٠).
هذه عاقبة نوح، ومعه أهل الإيمان من قومه، والطائعين له من أهله، أما الباقون فقد قال تعالى فيهم:
(ثُمَّ أَغْرَقْنَا بَعْدُ الْبَاقِينَ (١٢٠)
والعطف بـ (ثُمَّ) في موضعه؛ لأن التفاوت بين الحالين ثابت، إذ هو بعد وتفاوت بين الإنجاء والإهلاك، ولأنه تفاوت بين غضب اللَّه على الباقين، ورضاه على المؤمنين، وقوله - بعد - فيها إشارة إلى أن الغرق كان بعد صناعة الفلك، وركوبه، ومجيء السيول المغرقة التي كان الموج فيها كالجبال، وغير ذلك مما هو مذكور بتفصيل في سورة هود.
ثم قال تعالى:
(إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (١٢١)
أي لمعجزة قاهرة دالة على رسالة نوح عليه السلام، وعلى قوة صبره، وعلى إيمانه بربه، ومع ذلك ما كان أكثرهم مؤمنين، بل ما آمن معه إلا عدد قليل، وهذا دليل على أن المعجزة الحسية التي كانوا يطالبون بها وقتا بعد آخر، ليس من شأنهما أن تحملهم على الإيمان حملا، إذا لم تكن النفوس راضية مرضية، متجهة إلى الايمان من غير معوق من سلطان أو مال، أو غرور مبين وقوة دنيوية.
(وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (١٢٢)
أي الغالب، والرحيم، الذي يرحم عباده باختبارهم، وعقاب المسيء وثواب المحسن، وإمهالهم حتى لَا يكون أمل في رجوعهم إلى ربهم، وإنابتهم إلى خالقهم.
* * *
5381
عاد وهود
قال تعالى:
(كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ (١٢٣) إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلَا تَتَّقُونَ (١٢٤) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (١٢٥) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (١٢٦) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (١٢٧) أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ (١٢٨) وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ (١٢٩) وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ (١٣٠) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (١٣١) وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ (١٣٢) أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ (١٣٣) وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (١٣٤) إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (١٣٥) قَالُوا سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْوَاعِظِينَ (١٣٦) إِنْ هَذَا إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ (١٣٧) وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (١٣٨) فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (١٣٩) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (١٤٠)
* * *
إن هذه الآيات الكريمات
5382
(كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ (١٢٣) إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلَا تَتَّقُونَ (١٢٤) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (١٢٥) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (١٢٦) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (١٢٧).
5382
هى التي قدمت بها قصة نوح عليه السلام، وذكرها هنا ليس تكرارا من غير معانٍ واضحة بينة، وهي تدل أولا على أن الكافرين بالرسل لَا يعارضون الآيات، وينكرونها، إنما هم لجحودهم ينكرون أصل الرسالة الإلهية إلى البشر، فهم لا يؤمنون باللَّه تعالى، إذ لَا يؤمنون بالغيب، وإنما يؤمنون بالأمور المحسوسة فقط، والإيمان بالغيب هو التدين، كما قال تعالى في أوصاف المؤمنين الذين يؤمنون بالغيب.
وتدل ثانيا - على أن الرسل أمناء اللَّه تعالى على خلقه، وإرشادهم وتقويمهم، كما كان يقول كل رسول:
5383
(إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (١٢٥)
وهم يكونون من المعروفين بالأمانة في أقوالهم، لتكون شهرتهم بالأمانة دليلا على صدقهم ابتداء، فلا يفاجئون بما يتوهم كذبه.
وتدل ثالثا - على أن رسل اللَّه لَا مطمع لهم في أمر دنيوي، إنما يريدون الهداية والتقوى والإيمان، وأنهم لَا يرجون أجرا إلا من رب العالمين يوم تجزى كل نفس ما كسبت.
وتدل رابعا - على أن التقوى مطلب النبيين أجمعين؛ ولذلك قال كل منهم في مبدأ دعوته
(فَاتَّقُوا اللَّهَ).
وتدل خامسا - على أن طاعة الرسول واجبة لأنها طاعة للَّه تعالي، وكما قال الله تعالى: (مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ)، وإن ذلك ليس تكرارا، ولكنه تأكيد بيان طبائع المشركين وبيان هداية الرسل.
ويظهر أن عادًا كانوا يعنون بالبناء والتشييد، ولذا قال لهم نبيهم:
(أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ (١٢٨) وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ (١٢٩) وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ (١٣٠) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (١٣١)
الاستفهام إنكاري لإنكار الواقع، إذ إنهم بنوا فعلا، والريع، اسم جنس جمعي لريعة، وهو الذي يفرق بينه وبين مفرده بالتاء المربوطة، أو ياء النسبة، والريع ما ارتفع من الأرض، وقيل: أبراج الحمام، لأنها تبنى على مرتفع وتكون
5383
مرتفعة، وآية معناها علامة، وليس المراد منها آية الكون أو الكتاب، بل المراد مطلق علامة. ومعناها هنا أنهم اتخذوا علامات للطرقات في الجبال أو فجاج الجبال، وكانوا يتخذونها ليهتدوا في البر وفي السير، فيتعرفوا بها الطرقات حيث ساروا.
ووجه العبث في بنائها أنهم يغالون في الارتفاع بها مفاخرة، فهم يعيثون، ولا يكتفون بقدر الحاجة، وكل ما يزيد عن قدر الحاجة يكون عبثا، وكل ما يدفع إلى البطر فهو عبث، أيا كان نوعه.
وذكر الزمخشري أن العبث فيها أنه لَا حاجة إلى هذه العلامات، لأن تهديهم إلى الطرق، وكان لهم بها علم، وقد قال تعالى: (وَعَلامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ).
5384
(وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ (١٢٩)
أي تبنون أماكن وقصورا مشيدة مصنوعة صناعة محكومة تبقى على الأزمان وتناطح الدهر، لعلكم تخلدون، أي ترجون لها أن تخلدوا فيها، والمصانع جمع مصنع، وهو مكان الصنع الجيد، والصنع إتقان العمل، ويقال للحاذق المجيد صَنَعٌ بفتحتين، وللحاذقة المجيدة صناع، ويقال صنَّاع، فالمصانع، القصور المجود بناؤها، المزخرف طلاؤها، وكأنهم يرجون أن تكون جنتهم التي يخلدون فيها.
وقد بين سبحانه، أنهم يبنون، ويستعلون عابثين، ويبنون القصور المشيدة لعلهم يخلدون، وذلك لتكون لهم السلطة والقهر والغلب، ولذا قال في وصفهم عز من قائل:
(وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ (١٣٠)
الخطاب لعاد قوم هود، وهو وصف لحالهم وهو أنهم جبابرة في طغيانهم، والتجبر، يدفع إلى الأذى والسيطرة بالباطل، والتدابر والتقاطع وإن هذه حالهم، القوي فيهم يأكل الضعفاء، فالحقوق مهضومة، والباطل رافع رأسه فيهم،
5384
وخاطبهم، بذلك نبيهم هود عليه السلام عن ربه العليم الحكيم. والبطش السطو، والعسف قتلا بالسيوف، أو ضربا بالسياط، والجبار المتسلط العاتي، وقد نفى اللَّه تعالى عن نبيه أن يكون جبارا فقال: (وَمَا أَنتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ)، ومعنى ْالنص أنكم يا عاد طغاة جبارون إذا بطشتم عاسفين كان بطشكم بطش جبارين يسومون الضعفاء الذل والهوان.
ويجب أن تتخلفوا عن هذا الوصف الذميم، وترفقوا بأنفسكم، ولذا قال لهم هود ذاكرا عن ربه:
5385
(فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (١٣١)
الفاء للإفصاح، أي إذا كنتم كذلك غير مترفقين (فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ) أي اجعلوا بينكم وبين غضب اللَّه وقاية، واجعلوا التقوى شعاركم يذهب غروركم بالقوة، وأطيعون فيما أنقل لكم من شرع الله تعالى والنظام المحكم.
ولقد أخذ هود عليه السلام يذكرهم بنعم الله عليهم، وأنها توجب أن يملئوا أنفسهم بتقواه خوفا من عذابه، وشكرا لنعمته
(وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ (١٣٢) أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ (١٣٣) وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (١٣٤) إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (١٣٥)
الواو عاطفة، وقد أمرهم بالتقوى عامة، وبالطاعة كذلك، وهنا يأمرهم بتقوى صاحب النعمة التي أنعمها عليهم، والذي أمدهم بالنعم التي كانت بها قوتهم في الأرض وقدرتهم على البطش كالجبارين، والأمر بالتقوى يتحقق بان تمتلئ نفوسهم بتقواه وللحمل على الوقاية، وأن تكون قلوبهم خاشعة مملوءة بمهابته، ومخافته، لَا أن يكون أمرهم بورا، ولا يرهبون، ولا يقدرون، وقوله تعالى: (بِمَا تَعْلَمُونَ) علما محسوسا ترونه، وتتبحبحون فيه، وما اتخذتموه قوة للبطش والظلم، ولم تتخذوه قوة للعدل وإقامة القسطاس المستقيم.
(أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ (١٣٣)
أي أمدكم بكل أسباب القوة، أمدكم بالأنعام، وهي رمز لقوة المال، وفيها رغد العيش، ومتعة النفوس، كما قال تعالى في سورة
5385
النحل (وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ) والبنون هم قوة النفر، وبها يكون السلطان القوي، وبالمال وبالبنين تكتمل زينة الحياة الدنيا، كما قال تعالى: (المَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا...).
فإذا كنتم تبطشون بهذا الخير الذي أمدكم، فاذكروا في أوقات بطشكم من أعطاكم ما اتخذتموه سببا، واجعلوه سببا للتقوى وشكر النعمة.
5386
(وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (١٣٤)
والجنات جمع جنة، وهي تشمل النخيل والكروم، والعيون عيون الماء التي يكون بها سقيهم ورعيهم، ونباتهم وكلؤهم التي ترعى فيها أنعامهم، فكل هذه نعم توجب الشكر، وتوجب امتلاء القلوب بتقوى من أمدهم بها، ومكنهم بمعايش في الأرض جعلت لهم قوة، فلا يصح أن يبطشوا، بل يشكرونها، وتمتلئ بخوف معطيها، لأن من يمنح يمنع، ولأنه يريد السعادة للناس، ولذا قال لهم:
(إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (١٣٥)
وقد ذكرهم بنعمه أولا، وأشار إلى أنهم اتخذوا هذه النعم ذريعة ليكونوا أقوياء باطشين، لَا أن يكونوا شاكرين، وقد أنذرهم بعد بعذاب اللَّه تعالى التي ينزل بمن يظلمون ويفسدون في الأرض، فإنه لَا يفسد الأرض غير الظلم والطغيان، قال الرسول الشفيق بقومه: (إِنِّي أَخَافُ) مشفقا عليكم منذرا لكم (عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيم) وهو يوم القيامة، يوم لَا ينفعهم مال ولا بنون إلا من أتى اللَّه بقلب سليم، وقد أكد العذاب وإن، وبوصف العذاب بأنه عظيم لَا يقادر قدره، وكان تنكيره لبيان كبره وشدته، وأنه فوق التقدير والوصف.
ذكرهم بالنعمة، ثم أنذرهم بالجزاء، ولكن لم يرعووا، ولم يستيقظوا، وكانوا في عمياء ضالة، ولذا رأوا هذا وقالوا:
(قَالُوا سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْوَاعِظِينَ (١٣٦) إِنْ هَذَا إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ (١٣٧)
5386
الوعظ يجمع بين معنى التذكير بالخير، وإثارة النفس إلى الخير، والزجر المقترن بالتخويف، وقد جمع كلام نبي اللَّه هود على المعنيين، فهو أولا ذكرهم بالنعم التي هي خير محض، ثم أنذرهم بالعذاب الشديد، فقالوا مصرين على ما هم عليه
5387
(قَالُوا سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُن مِّنَ الْوَاعِظِينَ)، أي تساوى عندنا حالك إذا كنت الواعظ المذكر بالنعم، والمنذر بالنقم، أم لم تكن من الواعظين، بأن تركتنا في أمورنا، وحالنا.
ولم يكتفوا بذلك بل تهجموا على ما يدعو إليه، وقالوا:
(إِنْ هَذَا إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ (١٣٧)
و (إِنْ) نافية، أي ما هذا إلا خلق الأولين، وفي النص الكريم قراءتان:
إحداهما - بضم الخاء واللام، والمعنى على هذا يتضمن أولا أن ما هم عليه من شرك، وقد اتبعوا فيه آباءهم، كما قال المشركون ة وجدنا عليه آباءنا، ويتضمن ثانيا أن ما هم عليه من بطش جعلهم جبارين هو خلق الأولين من قومهم، ولذا عبروا بخلق بدل دين ليشملهما معا.
والقراءة الثانية هي (خَلْقُ) بفتح الخاء وسكون اللام، ويكون المعنى إن هذا الوعظ إلا ما اختلقه الأولون وافتراؤهم، كما قال المشركون عن القرآن الكريم، (إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ).
ولشدة غرورهم وعظم تكذيبهم قالوا:
(وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (١٣٨)
الباء لتأكيد نفي التعذيب، وإن ذلك النفي يتضمن ثلاثة أمور: أولها - أنهم لغرور يقررون أنهم لَا يعذبون، وليس من شأنهم أن يعذبوا، ويتضمن ثانيا إنكار البعث وتلك خلة الكافرين، ويتضمن ثالثا، أنه إن كان بعث فلن يكون العذاب نصيبهم، بل تكون حالهم في الآخرة هي حالهم في الدنيا، ذلك ما يأفكون به، وهم الضالون.
ولقد كان الهلاك هو نهايتهم، ولذا قال تعالى:
5387
(فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (١٣٩) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (١٤٠)
5388
الفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها، أي ترتب على ما قالوا الحكم بتكذيبهم، والفاء الثانية عاطفة للترتيب والتعقيب، أي عقب تكذيبهم، فأهلكوا بريح صرصر عاتية، كما قال تعالى: (وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ)، وقال: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً)، أي إن في هلاكهم بعد التكذيب، ونفيهم للتعذيب والبعث، وبطشهم وقوتهم وغرورهم لآية دالة على قدرة اللَّه تعالى، وأنه يأخذ الظالمين في قدرتهم، ولا يعجزون الله، فما كانوا معجزين.
ثم حكم اللَّه تعالى عليهم باستمرار كفر أكثرهم، وكانوا بذلك مستحقين لما نزل بهم، ولذا قال تعالى: (وَمَا كانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ) فما كان الهلاك للمؤمنين بل كان للكثوة الكافرة، وما أغنى عنهم طغيانهم وبطشهم.
(وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (١٤٠)
(وَإِنَّ رَبَّكَ)، والخطاب للنبي - ﷺ - لهو العزيز الغالب الذي هو فوق كل شيء، الرحيم في أحكامه، وإمهاله، ومن رحمته ألا يتساوى المحسن مع المسيء، ولا الأعمى والبصير، والله هو العليم الحكيم، وقد أكد سبحانه وتعالى عزته ورحمتة بـ إنَّ المؤكدة، وباللام، وبضمير الفصل، وبأنه وحده المختص بالعزة والرحمة.
وقد كان سبحانه يعقب قصة كل نبي بهاتين الآيتين.
* * *
5388
صالح وثمود
قال اللَّه تعالى:
(كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ (١٤١) إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صَالِحٌ أَلَا تَتَّقُونَ (١٤٢) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (١٤٣) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (١٤٤) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (١٤٥) أَتُتْرَكُونَ فِي مَا هَاهُنَا آمِنِينَ (١٤٦) فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (١٤٧) وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ (١٤٨) وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا فَارِهِينَ (١٤٩) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (١٥٠) وَلَا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ (١٥١) الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ (١٥٢) قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ (١٥٣) مَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا فَأْتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (١٥٤) قَالَ هَذِهِ نَاقَةٌ لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (١٥٥) وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ (١٥٦) فَعَقَرُوهَا فَأَصْبَحُوا نَادِمِينَ (١٥٧) فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (١٥٨) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (١٥٩)
* * *
ابتدأ اللَّه تعالى قصة صالح مع ثمود بما ابتدأ به قصة نوح وإبراهيم، وعاد قوم هود، من بيان أنهم يكذبون المرسلين، وكأنهم لَا يؤمنون برسالة اللَّه تعالى إلى أهل الأرض، وبأن الرسول أخوهم ومنهم كشأن الرسل دائما يرسلون إلى أقوامهم، وإنهم يعرفون بالأمانة والصبر بينهم، وإن أول مطلب لهم منهم
5389
يقربهم إلى اللَّه زلفى هو أن يملئوا نفوسهم بالتقوى، حتى يعمر قلبهم بالإيمان به، ويبتعدوا عن التمرد، وينتقلوا من طريق الشر إلى طريق الخير، فيأمرهم بتقوى اللَّه وطاعته، لأن طاعته طاعة للَّه تعالى، وقد أشرنا إلى ذلك في معاني الآيات الأولى لقصة هود وعاد، وهذا هو معنى الآيات الخمس الأولى من قصة صالح وثمود، وهي قوله تعالى:
5390
(كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ (١٤١) إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صَالِحٌ أَلَا تَتَّقُونَ (١٤٢) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (١٤٣) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (١٤٤) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (١٤٥).
ابتدأ سبحانه وتعالى بأن خاطبهم أخوهم صالح، يذكر لهم أنهم قد أوتوا نعما، فلا يمكن أن يتركوا هملا من غير مسئولية على ما حملوا من نعم، فبقدر النعمة تكون النقمة، كما قال تعالِى: (أَفَحَسِبْتمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ)، فقال لهم
(أَتُتْرَكُونَ فِي مَا هَاهُنَا آمِنِينَ (١٤٦) فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (١٤٧) وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ (١٤٨) وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا فَارِهِينَ (١٤٩)
أتتركون - الهمزة للاستفهام الإنكاري بمعنى نفي الوقوع، أي لَا تتركون فيما هاهنا، أي في هذا المكان آمنين، أي لَا تتركون في هذا المكان آمنين من الموت والحساب والعقاب أو الثواب إن حبستم أنفسكم، ولكن الموت حق عليكم وهو يأتيكم بكل الأسباب، وذلك يستدعي أن تفكروا في عواقب أموركم، ولا تحسبوا أثها نعمة لَا حساب عليها، ولا عواقب تعقبها، إن خيرا فالنعيم بعدها، وإن شرا فالعذاب الأليم من ورائها.
(فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (١٤٧)
الجار والمجرور متعلق بـ تتركون، أو بـ آمنين، والجنات جمع جنة والعيون عيون الماء المثمرة كما أشرنا من قبل، والجنات الأشجار الباسقة من كروم، وتفاح ورمان وغيرها، وزروع، جمع زرع وهو النبات الذي يكون منه الحب المتراكب ويتغذى منه الإنسان، والذي يكون منه السنابل من قمح وأرز وغير ذلك من النعم التي أنعم بها على الإنسان في غذائه، ويشمل النبات والحشائش التي تكون كلأ الأنعام، وخص النخل بالذكر، لأنه كان غذاء العرب،
5390
حتى سمى العرب أمة التمر واللبن، وكان ذكره بعد النبات لبيان إنعام اللَّه تعالى على الإنسان بالغذاء بكل أنواعه، فأهل المدر غذاؤهم من النبات ذي الحب المتراكب، وفرى السنابل، وأهل الوبر غذاؤهم من النخل في أكثره، واللَّه هو المنعم للفريقين.
والضمير في قوله تعالى:
5391
(طَلْعُهَا هَضِيمٌ) يعود على النخل؛ لأن النخل أنثى، أو لأنه جمع ما لَا يعقل، إذ النخل اسم جنس جمعي للنخلة، ويفرق بين المفرد والجمع بالتاء أو ياء النسب، وقد فرق بينهما هنا بالتاء.
والطلع، ما يطلع من جوف النخل كنصل السيف، والهضيم اللطيف المنضم المتلاصق في وعائه في الجوف قبل أن يظهر، وهو اليانع النضيج، وهذه الأوصاف تكون بحسب الحال، وبحسب المآل إذ يكون منه البلح الرطب، وأجود التمر.
بعد ذلك ذكر نعمة عليهم، ولهم فيها عمل بتهيئة الأسباب، فقال تعالي:
(وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا فَارِهِينَ (١٤٩)
في فارهين هذه القراءة، وفيها قراءة أخرى فَرِهين، وكلاهما بمعنى واحد، ولا اختلاف في المعنى بين القراءتين، أي يبنون في الجبال بيوتا، لَا بلبنات ينقلونها، بل بنحت فيه تسوية وبرد، وإذهاب أجزاء وإبقاء أجزاء، (فَارِهِينَ) حال ومعناها حاذقين متحصنين بها معجبين متجبرين.
وهذا الكلام من اللَّه سبحانه وتعالى يفيد أنهم في نعم بما في الأرض من جنات وعيون، وزروع ونخل طيب وبيوت تنحتونها وتسوونها من الجبال، ويحسبون أنهم متروكون ويأكلون ويشربون، ويتلهون متجبرين عابثين.
(فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (١٥٠) وَلَا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ (١٥١) الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ (١٥٢)
الفاء هنا للإفصاح، أي إذا كنتم على هذه الحال من النعم التي أحاطت بكم، فاتقوا اللَّه، أي فاملئوا أنفسكم بتقوى اللَّه ومهابته شكرا للنعمة، وتوقعا
5391
للحساب الذي لَا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها، وأطيعوني فيما أنقل إليكم من شرائع ربكم التي فيها استقامة أموركم، وصلاح أحوالكم.
وإن الناس هم الذين يفسدون الناس، ويخلقون في الأرض أجواء فاسدة، وأولئك هم المسرفون، ولذا قال بعد هذا
5392
(وَلَا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ (١٥١)
والمسرفون هم الذين يخرجون بطبيعتهم البشرية عن حد الاعتدال، إلى حد الإسراف، فيسرفون في شهواتهم حتى يصيروا عبيدا للشهوات، ويسرفون في أوهامهم، فيحسبون ما تدفع إليه الأوهام حقيقة، وليست إلا وهما باطلا، ويسرفون في طلب السلطان فلا يحسبون أنه لإقامة العدل والقسطاس المستقيم، ويسرفون في القوة فلا يحسبونها لحماية الضعفاء، بل يظنونها للاستعلاء والاستكبار عليهم، وليجعلوهم عبيدا أذلاء.
وهكذا كان المسرفون مفسدين لنفوسهم ولمجتمعهم؛ ولذا قال تعالى في وضعهم العام:
(الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ (١٥٢)
وصف اللَّه تعالى المسرفين في ذات أنفسهم أنهم يفسدون في الأرض ولا يصلحون، ذلك بأنهم بإسرافهم على أنفسهم في شهواتهم، وقواتهم، وغرائزهم يميلون إلى الأثرة فيجعلون كل ما وهبهم اللَّه لأنفسهم، وليس لغيرهم حق من الحقوق، فيكون الاعتداء الظالم، ويكون التغالب لسيطرة الباطل، وهضم الحقوق، وأي فساد للناس أكثر من أن يكون قانون الغابة هو الحكم بين الناس، (وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ (٢٥١).
فالمسرفون يفسدون دائما ولا يصلحون، قرر اللَّه لهم وصفين: إيجابي، وهو الفساد المترتب على إسرافهم، والوصف الثاني سلبي فقال: (وَلا يُصْلِحُونَ) أي لَا يمكن أن يكون منهم إصلاح كالذي يدعيه الطغاة من الحكام، والأقوياء من الأمراء من أنهم يصلحون بين الناس، وإن الوجود في حاجة إليهم، ولا نشعر، فهذا النص السامي يرد كلامهم في أعناقهم، إلا أن يخرجوا عن إسرافهم في نفوسهم، وعلى مجتمعهم.
5392
وقوله: (الَّذِينَ يُفْسِدُونَ) بدل من المسرفين، أو عطف.
ونلاحظ ملاحظة بيانية، وهي أنه تعالى عبَّر عن الإسراف بالوصف للإشارة إلى أن الإسراف إذا استمكن في النفس ترتب عليه ذلك الفساد وعدم الإصلاح.
وبماذا أجاب المشركون تلك الموعظة الهادية الزاجرة
(قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ (١٥٣) مَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا فَأْتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (١٥٤)
يظهر أن هذا القول الطيب سرى في نفوسهم، ولكنهم بدل أن ينطقوا بالحق ويذعنوا له نطقوا بالباطل،
5393
(قَالُوا إِنَّمَا أَنتَ مِنَ الْمُسحَّرِينَ) المسحر هو الذي أوتي علم السحر، فكانت له قدرة على الإتيان بالقول الخادع الذي يوجد تخييلات الحق وليس بحق، وإنك بهذا التسحير الذي علمته تصرف الأنظار عن الحق، فتسحر فكر الناس كما يسحر الساحر أعين الناس ويسترهبهم بفعله، وقولهم هدا فيه قصر له على أنه من المسحرين، وذلك لأن (إنما) من أدوات الحصر، ولقد رمى المشركون كتاب اللَّه تعالى، فقالوا إنه قول ساحر.
وأكد ذلك بقولهم من بعد كما أكدوا جحودهم بقولهم:
(مَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا فَأْتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (١٥٤)
أي لَا يمكن أن تكون رسولا، لأنك لست إلا بشرا مثلنا، وكذلك قال المشركون لمحمد - ﷺ -، قالوا: (مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ).
أي أنه لَا يكفي لإثبات رسالتك ما قلت ما دمت بشرا مثلنا فأت بآية، أي دليل يدل على أنك رسول من قبل رب العالمين إن كنت من الصادقين، ويظهر أنهم كانوا زراعا، ذوي أنعام وإبل، فجاءت المعجزة من قبل ما يألفون، ويربون، وهو أنه أتى لهم بناقة هي ناقة اللَّه، وقد كان على علم بالجمال وخواصها، وخصوصا إناثها كما كان قوم فرعون على علم بالسحر، يعلمون ما هو سحر، وما ليس بسحر، كذلك هؤلاء يعلمون ناقة اللَّه من بين نوق البشر، قال لهم صالح.
(قَالَ هَذِهِ نَاقَةٌ لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (١٥٥) وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ (١٥٦)
الشِّرْب الحظ من الماء المشروب، وهذا هو حق الشرب، والشِّرْب في اصطلاح الفقهاء حظ الزرع من الماء، والمراد قدر شرب الناقة، وقوله: (وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْم مَّعْلُوم) أي أن لهذه الناقة المخصوصة شرب يوم معلوم ولكم شرب يوم معلوم.
وهذه الناقة ناقة مولودة كسائر النوق، أم أن الله تعالى أتى لهم بناقة خاصة لم تولد مثل سائر النوق؟، ظاهر الآية أنها ناقة ولدت كسائر النوق، ولكن كان لها خواص معلومة، ففي شربها تشتف شربها ولا تبقى منه شيئا وتدر في آخر النهار لبنا خالصا سائغا للشاربين، والإعجاز، في هذا، ولكن روي عن ابن عباس أن اللَّه تعالى جعل لهم ناقة خرجت من الجبل حمراء عشراء قد مضى لحملها عشرة أشهر ترد الماء فتشربه، وتأتي بقدره تماما لبنا، وهو كلام مقبول إذا ورد عن المبعوث محمد - ﷺ -، فهو مبين القرآن وموضحه (وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ)، وإني أميل إلى أن أترك النص على عمومه، ولكن لا بد أن نفرض أن لهذه الناقة خواص وصفات فيها ما يبهر العقول، وبوجه الأنظار إلى قدرة اللَّه تعالى، وليكن من خواصها أن تشرب الماء في الغداة وفي العشي تعطي لبنا بقدره، وهذا دال على قدرة اللَّه تعالى، وعلى أنها آية من آياته لها دلالتها وإعجازها وإثبات رسالة صالح عليه السلام.
وإذا كانت ناقة لها صفة المعجزة وأنها دليل الرسالة، فإنه يجب إشعارها بصفة خاصة بها، ولذا قال تعالى:
(وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ (١٥٦)
نهوا عن أن يمسوها بأي سوء أو أذى، لأن الله حارسها وحاميها، وهي معجزة نبيه، ولأن النفس الطيبة لَا تؤذي الطيب. وهذه ناقة تشرب الماء فتحوله إلى لبن بقدرة اللَّه تعالى وعلمه لإظهار معجزة نبيه، وآية نبوته، ولكن الوسواس الخناس يجري في الدم البشري. واليوم العظيم - ووصفه بالعظيم لعظم العذاب فيه، وهو يوم في الدنيا بهلاكهم بسببه، وفي الآخرة بالعذاب المقيم لعصيانه، إذ يلقون في الجحيم.
(فَعَقَرُوهَا... (١٥٧)
أي نحروها، وذلك لوسوسة الشيطان لهم؛ ولأن النفس تحاول معرفة الغريب من الأشياء، وهي مولعة بالغريب من الأمور، ولقد كان وجودها بينهم فوق أنها دلالة النبوة، ومعجزة النبي مثيرة لاستغرابهم، وحملهم على الضبط، فلما عقروها، وقدروا خواصها (فَأَصْبَحُوا نَادِمِينَ) على فعلتهم، لما فاتهم من خيرها، ولأنهم رأوا خواصها، ولأنهم توقعوا العقاب الأليم بعدها، ولذا قال تعالى فيهم: (فَآصْبَخوا نَادِمِينَ)، أي أن الندم استغرقهم، وصار حالا دائمة لهم.
والعاقر بلا ريب بعضهم، ولكنه برضاهم؛ لأنهم لم ينهوه، فنسب الفعل إليهم، لأنهم لم يتناهوا عن هذا المنكر الذي نبهوا بالنهي عنه تنبيها شديدا وأنذروا بعذاب يوم عظيم.
ولم يمنع الندم العذاب عنهم
(فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ... (١٥٨)
أي أن العذاب سيطر عليهم كأنه أخذهم إليه أخذا. وقال الحافظ ابن كثير في هذا العذاب: هو أن أرضهم زلزلت زلزالا شديدا، وجاءتهم صيحة عظيمة اقتلعت القلوب من محالها، وأتاهم من الأمر ما لم يكونوا يحتسبون وأصبحوا في ديارهم جاثمين.
(إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ) الإشارة إلى الناقة وهي معجزة، وعقرها، ونزول العذاب بعده، وهذه كلها آيات بينات على نبوة صالح، وعلى قدرة اللَّه الباهرة، وعلى فرض الضلالة الظاهرة.
ومع هذه الآيات (مَا كَانَ أَكثَرُهُم مُؤْمِنِينَ) بل كان المؤمنون هم القلة الظاهرة، لأن إبليس يجري في نفوس أتباعه مجرى الدم، والله بكل شيء عليم.
(وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (١٥٩)
الخطاب لمحمد - ﷺ - ليسليه بهذا القصص الحكيم المشتمل على العبر ليصبر كما صبر قبله النبيون، وليعلم أن المعجزات الحسية لَا تتبعها الهداية الحتمية، والقرآن هو المعجزة الكبرى، وإن لم تكن في إعجازها حسية، والعزيز هو الغالب القوي العليم بالنفوس وشقوتها وسعادتها، وهدايتها وضلالها.
* * *
5395
قصة لوط وقومه
قال تعالى:
(كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ (١٦٠) إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلَا تَتَّقُونَ (١٦١) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (١٦٢) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (١٦٣) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (١٦٤) أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ (١٦٥) وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ (١٦٦) قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ (١٦٧) قَالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقَالِينَ (١٦٨) رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ (١٦٩) فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ (١٧٠) إِلَّا عَجُوزًا فِي الْغَابِرِينَ (١٧١) ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ (١٧٢) وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ (١٧٣) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (١٧٤) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (١٧٥)
* * *
الآيات الخمس في قوله تعالى:
5396
(كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ (١٦٠) إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلَا تَتَّقُونَ (١٦١) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (١٦٢) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (١٦٣) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (١٦٤).
قد ذكرنا أن هذه الآيات الخمس الحكيمة تنبئ أولا - عن أن الضالين يسارعون إلى التكذيب، وينكرون رسالة اللَّه إلى أهل الأرض، يدل على ذلك (كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ) وكذلك قوم نوح وعاد وثمود، وقوم لوط.
5396
وتدل ثانيا، على أن الرسول يكون من بينهم، ولذلك عبر عنه بأنه أخوهم وقبل ذلك في نوح وهود وصالح، ويقال في لوط أيضا.
وتدل ثالثا، على أمانة من أرسل إليهم، وأنهم عرفوا بين أقوامهم بذلك، وتدل رابعا، على أنهم لَا يطلبون أجرا من جاه أو من مال إنما يطلبون الأجر من عند اللَّه وحده.
وقد أشرنا إلى ذلك من قبل، وقد خاطب بعد ذلك نبي اللَّه لوط قومه مستنكرا شنيع أفعالهم، فقال عليه السلام فيما حكاه اللَّه عنه من
5397
(أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ (١٦٥)
الذكران جمع ذكر كذكور، ولكن جاء النص كذلك ليكون تشنيعا أشد، وأحسب أنه لَا يكون ذكرانا جمعا إلا لذكور الإنسان، وفي التعبير (أَتَأتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ) كناية لطيفة، والاستفهام لاستنكار الواقع بمعنى التوبيخ وبيان شناعة العمل، لأنه ضد الفطرة، وعبر بالإتيان كإتيان الرجل المرأة، ولكنه في دبره، فهو إفساد للفطرة، وأحسن من عبَّر عنه بالشذوذ الجنسي؛ لأنه دليل على فساد الفطرة وشناعة الفعل في ذاته، وقوله تعالى (مِنَ الْعَالَمِينَ) أي من أهل المعرفة والعلم، ولا يرضى بذلك إلا من هو أشد فسادا من الفاعلين، وإن ذلك يشيع ويكثر كلما فسدت الفطر، وقد كثر في الماضي في قوم لوط، وكثر في الحاضر في أهل أوربا وأمريكا، ولا حول ولا قوة إلا باللَّه.
وإنهم ليتركون الفطرة، ولذا قال تعالى:
(وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ (١٦٦)
تذرون، فعلها الماضي لَا يُذْكَرُ، ولكن الزمخشري ذكره في كتابه أساس البلاغة ونص على أنه يقال: ذروا هذا الأمر، فيقولون (وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُم مِّنْ أَزْوَاجِكُم) تدل على الترك والإهمال، وتلك إحدى الكبر، كأنهم يرتكبون أمرين: أولا الفعل مع الذكران، وإهمال الأزواج، ولذلك قالوا إن التعبير بـ (تَذَرُونَ) أبلغ من تتركون، والآية تدل على أن الفطرة
5397
هي ما يكون مع الأزواج، والآخر ضد الفطرة، ثم صرح اللَّه تعالى بأنهم ظالمون وعادون، فقال عز من قائل: (بَلْ أَنتمْ قَوْمٌ عَادُونَ) بل للإضراب الانتقالي بأن انتقل من وصف عملهم الآثم، إلى وصف أشخاصهم، و (عادون) جمع عاد، وهو الظالم المعتدي الذي تجاوز الحد، فقد تجاوزوا حد الفطرة، وخرجوا عليها، وشذوا عن الإنسانية.
بعد هذه الموعظة الزاجرة، أجابوه إجابة الغواية الفاجرة، هددوه بالرجم (كما ورد في آية أخرى) أو الإخراج من البلد والنفي في مكان بعيد، كما في هذه الآية.
(قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ (١٦٧) قَالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقَالِينَ (١٦٨) رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ (١٦٩)
قالوا مصممين موثقين قولهم باليمين،
5398
(لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ) اللام هي اليمينية، أي أقسموا بما يقسمون به إذا لم تنته، وكان النداء لتأكيد أن الخطاب له، ولم تكن لمودة بجمعهم، إنما هو لنفرة شديدة لتفرقهم، لأنه يحول بينهم وما يشتهون من خروج على الفطرة والطبع الإنساني، والمقسم به لتكونن من المخرجين؛ أو المرجومين، واللام واقعة في جواب القسم، وقد أكدوا الإخراج أو الرجم بها، وبأن يصير في عداد المرجومين أي أنه يرجم ويقبر، ويكون في عداد الأموات الذين يموتون بالرمي بالحجارة، حتى ماتوا، وأكدوا الرجم أيضا بنون التوكيد الثقيلة وكذلك التأكيد على إخراجه فيكون بعيدا عنهم ويرتاحوا من مواعظه.
وكانوا في فجورهم الذي لجوا فيه واستمرءوه، وهو لَا يستمرأ إلا عند ذوي الطباع الشاذة الخارجة عن الفطرة وهم فاسقون أقوياء جبارون، فلم يسع نبي اللَّه إلا أن يعلن استنكاره لفعلهم الذي يجافى الفطرة الإنسانية.
(قَالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقَالِينَ (١٦٨)
عملهم هو هذا الفجور الذي أصروا عليه ولم يتركوه، وأرادوا قتل النبي الذي بيَّن قبحه لهم بأقبح وأفجر قتلة وهو الرجم، أعلن النبي الأمين بغضه الشديد له عساهم يرتدعون، أو يقلعون عنه إن كان فيه بقية من الإنسانية قال
5398
لهم: (إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقَالِينَ) أي المبغضين له بغضا شديدا، يقال قلى فلان الأمر أبغضه بغضا شديدا وعافه وقدم الجار والمجرور لعظيم النفرة من عملهم، وقد أشار إلى أن الناس جميعا يبغضون ذلك؛ لأنه مناف للفطرة، بقوله: (مِنَ الْقَالِينَ) أي المبغضين له بغضا شديدا، أي اجعلني في تعداد الناس الذين استقبحوه ونفروا منه.
ولقد علم عقبى فعلهم، والأثر السيئ الذي يعقبه، فقال:
5399
(رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي... (١٦٩)
اتجه إلى ربه ضارعا أي مناديا (رَبِّ) أي كالئي ومن يحميني، ومن أنعم على بربوبيته وكلاءته، نجني وأهلي مما يعملون، أي من أثر ما يفعلون من معصية تخر لها الجبال الشواهق، فإنه قد نجاه فعلا من هذه الفعلة الفاجرة، لأنه قلاها وأبغضها، إنما الذي يضرع إليه، أن ينجو من آثار هذه الفعلة الشنعاء، وقد أجابه اللَّه تعالى إلى دعائه فقال:
فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ (١٧٠) إِلَّا عَجُوزًا فِي الْغَابِرِينَ (١٧١) ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ (١٧٢) وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ (١٧٣)
فنجاه اللَّه تعالى من أثر هذه الجريمة الفاجرة، وعقوبتها الصارمة هو وأهله أجمعين إلا امرأة عجوزا كانت في الغابرين وهي امرأة لوط، فقد كانت فيها ممالئة لهم،
(ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ (١٧٢)
أي الذين ردغوا في حمأة الرذيلة، وقد أمطر اللَّه عليهم مطرا من الحجارة، فساء، أي ما أسوأ من هؤلاء المنذرين، وقد ذكر سبحانه العقاب تفصيلا في سورة هود فقال عز من قائل في لقاء الملائكة وأعقابه.
(وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالَ هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ (٧٧) وَجَاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِنْ قَبْلُ كَانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ قَالَ يَا قَوْمِ هَؤُلَاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلَا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ (٧٨) قَالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ (٧٩) قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ (٨٠) قَالُوا يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَلَا يَلْتَفِتْ
5399
مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ (٨١) فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ (٨٢) مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ (٨٣).
هذه كانت آيات اللَّه تعالى لآل لوط، وما آمن أكثرهم، ولذا قال تعالى:
5400
(إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (١٧٤) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (١٧٥)
أي إن في ذلك الإهلاك الذي أهلكهم به، وما كان لهم من مواعظ زاجرة لآية منبهة مرشدة لهم وللمشركين من بعدهم ممن يعاصرونكم، وبيان لأن الفساد والطغيان مرتعه هلاك لَا ريب فيه، وما كان أكثرهم عند هلاكهم مؤمنين، فاللَّه لا يهلك المؤمنين بجزاء من عنده، ولكن يهلكون باعتداء البشر إن لم يتخذوا الأسباب واللَّه ناصرهم ومؤيدهم.
وختم آيات قصة قوم لوط بما ختم به قصة إبراهيم ونوح وهود وثمود ببيان عزته ورحمته وربوبيته فقال:
(وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (١٧٥)
أكد عزته ورحمته بذكر أن ذلك من مقتضى الربوبية، وأنه غالب، وأنه رحيم في إمهاله، وأن يفرق بين المحسن والمسيء كما يكون الفرق بين الأعمى والبصير، والظلمات والنور.
* * *
شعيب وأصحاب الأيكة
(كَذَّبَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ (١٧٦) إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلَا تَتَّقُونَ (١٧٧) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (١٧٨) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (١٧٩) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (١٨٠) أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ (١٨١) وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ (١٨٢) وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (١٨٣)
5400
وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ (١٨٤) قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ (١٨٥) وَمَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ (١٨٦) فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (١٨٧) قَالَ رَبِّي أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ (١٨٨) فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (١٨٩) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (١٩٠) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (١٩١)
* * *
5401
الأيك الشجر الملتف واحده أيكة، والمراد أصحاب الشجر الملتف الذي صار أيكة يعاش في ظلها، ونرى سيدنا شعيبا نبي اللَّه أحيانا يذكر أنه بعث إلى مدين قومه، وأحيانا يذكر أنه بعث لأصحاب الأيكة، ويظهر أن المؤدى واحد، لأن مدين كانت تسكن حول هذه الأشجار الملتفة، فهي منتفع بها، وذكرت الأيكة دون مدين لأنها موضع نعمتهم، وقال بعض المفسرين إنه بعث إلى أمتين مدين وأصحاب الأيكة، وإني أميل إلى الأول، وهو الأوضح الذي يسبق إلى الذهن.
والآيات الخمس من قوله تعالي: (كَذَّبَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ (١٧٦) إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلَا تَتَّقُونَ (١٧٧) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (١٧٨) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (١٧٩) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (١٨٠).
قلنا من قبل إن هذه الآيات تصور وحدة الشرك في أنه لَا يؤمن بالرسالة الإلهية، وأنهم ينكرون أن يكون الرسول بشرًا، كما يبدو من جحودهم، وأن الرسول يكون منهم، وأنه معروف فيهم بالأمانة والصدق، وأنه كان محل صدق عندهم، لَا يكذبونه، وأنه بهذه الأمانة والثقة والإرسال من اللَّه تعالى يدعوهم، وأنه لَا يطلب جاها ولا مالا، ولا ملكا، وإنما يطلب الجزاء والرضا من اللَّه
5401
تعالى: (إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ) أي ليس أجرا إلا ما يكون من الله تعالى، بثواب من عنده، ورضا من لدنه، وهو أكبر من كل جزاء.
ابتدأ شعيب دعوته في قومه بعد ذكر الأمانة التي توجب التصديق، فقال:
* * *
(أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ (١٨١) وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ (١٨٢) وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (١٨٣)
* * *
يظهر أن مدين أو أصحاب الأيكة كانوا قوما تجارا، وإن الشرائع السماوية جاءت لمنع الاعتداء على المال، وعلى الأنفس، وإذا كانوا تجارا، كاهل مكة فإن أخص ما يدعون به ألا يطففوا الكيل والميزان، ولذا كانت أخص دعوة شعيب بعد التوحيد ألا يطففوا الكيل والميزان حتى لَا ينالهم الويل الذي هدد به في قوله تعالى: (وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ (١) الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ (٢) وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ (٣).
قال شعيب لقومه:
5402
(أوْفُوا الْكيْلَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ).
أوفوا الكيل، أعطوه في معاملتكم وافيا، كامل الوفاء غير منقوص، (وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ) المخسر هو الذي ينقص المكيال، فيدفع معامله إلى الخسران، بألا يخسره ولا يعطيه حقه، وقوله تعالى: (وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ) أبلغ في الدلالة من ولا تخسروا، لأن معنى لَا تكونوا من الطائفة التي اعتادت الإخسار، لَا تكونوا في صفوفهم فتصاب تجارتكم بالكساد، لأن الناس لَا يقبلون على الشراء، إلا ممن استقام في طريقته، وأعطى المتعاملين حقوقهم، ولأن الإخسار أكل مال الناس بالباطل، ولأنه ظلم، والظلم نتيجته وخيمة دائما.
(وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ (١٨٢)
القسطاس، الميزان الذي يوزن به، ومعنى (وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ)، أي زنوا بالميزان المستقيم الذي لَا يظلم في ميزانه، بل يكون في اعتدال واضح، وهو
5402
يتضمن نوعين من النهي: أولهما - ألا يكون الميزان غير منتظم في رفعه وخفضه، والثاني - ألا يتعمد الخلل فيه، فيخفضه ويرفعه كما يريد كما يكتال ظالما، وكما يكيل ظالما، وإن ذلك إفساد للثقة التي هي أساس التعامل العادل، وأكل لمال الناس بالباطل، وظلم مبين، وإفساد للعلاقات الإنسانية التي تربط الناس بعضهم ببعض.
5403
(وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (١٨٣)
الأموال من حيث تقديرها تنقسم إلى قسمين: أموال مثلية وحداتها متحدة في القيمة إذا توافر اتحاد الجنس والنوع والصفة في جودة أو رداءة، وهذه تقدر بالكيل أو الوزن، وقد نهى سبحانه على لسان نبيه شعيب عليه السلام من التطفيف فيها.
والقسم الثاني أموال قيمية لَا يحد قيمتها الكيل والوزن، ولكن يحد قيمتها تقويم المقومين، وهنا يجري فيها البخس والشطط، ولقد نهى سبحانه في هذا النص عن البخس بأن تقوَّم بأقل من قيمتها، وكل نقص في القيمة هو نقص في المالية فيكون فيه الظلم، وأكل أموال الناس، ولذا قال اللَّه تعالى على لسان (وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ)
أي لَا تنقصوا قيمة ما عند الناس، والمعنى الظاهر لَا تبخسوا أشياء الناس، ولكن عبر ذلك التعبير القرآني السامي العميق لفائدتين جليلتين - أولاها - أن بخس قيم الأشياء بخس للناس أنفسهم، فمن بخس تقدير القيم، فقد ظلم، وأعظم الجريمة. الفائدة الثانية - أن في ذلك إبهاما ثم بيانا، فيكون ذلك توكيدا للمعنى فضل توكيد.
وبعد أن نهى عن تطفيف الكيل والميزان، وبخس قيم الأشياء. نهى عن الاعتداء بشكل عام، فقال عز من قائل:
(وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ)
5403
وذلك يشمل إفساد زرع غيره، أو منع الماء عنه، أو إتلافه، أو ألا يعطيه حقه من الماء، أو ما يجري بين المختلطين من مساحة، والعثى أو العثو، الفساد النفسي أو المادي، ونميل إلى العثى النفسي، والمعنى القصد إلى العثو مفسدين حال مؤكدة لمعنى العثو، لأن العثو يؤدي إلى الفساد في الجماعة، فيتقاطعون، ويتدابرون.
5404
(وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ (١٨٤)
الواو عاطفة، أي خلقكم وخلق الجبلة الأولين، والجبلة الجماعات المجبولة على سير وأخلاق سبقوا إليها، سواء أكانت خيرا أم كانت شرا، والسياق يقول اتقوا الله، واملئوا قلوبكم بالخوف منه، أنتم والذين سبقوكم، وجبلوا على ما سلكوه واتبعوه، والأمر بالتقوى لهم، ولمن جبلوا عليه، ليصادرهم في دعواهم، إنهم يتبعون ما كان يعبد آباؤهم، فالتقوى مطلوبة منكم، وممن سبقوكم، وإن كانوا يجأرون بالشرك فإنهم مطالبون بالتقوى كما تطالبون.
دعاوى واضحة في إقامة العدل في المعاملات الإنسانية التي تقوم عليها المعيشة ليستقيم أمر الناس في هذه الحياة العاملة الكادحة، والتي يقرها أهل العقول جميعا، ولكن قومه يقولون متمردين:
(قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ (١٨٥) وَمَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ (١٨٦)
الْمُسَحَّر - الذي سحر أي صار مسحورا بقوة، والتضعيف لتشديد وقوعه تحت السحر، كما قال تعالى عن بعض الرسل (إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا).
وقيل: المسحَّر الذي يملأ سحرته وهي الرئة، وبذلك يشيرون إلى أنه محتاج إلى طعام يأكله، ولذا كانت كل أوامره في الكيل والوزن.
والأول هو الواضح الأوضح، وأكثر الأنبياء لقوة نفوسهم، وسيطرتهم على العامة من أقوامهم رموا بالسحر، وقد رمي به محمد - ﷺ -، (إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا).
(وَمَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا... (١٨٦)
أي لست أنت إلا بشرا مثلنا، وكيف تكون من بيننا رسولا ونبيا، أي أنه في نظرهم لَا يكون الرسول منهم أو مثلهم يأكل مما يأكلون منه، ويشرب مما يشربون، وذكروا النتيجة، وهي أنه ما دام منهم أو مثلهم فليس نبيا، ولذا قالوا بعد ذلك (وَإِن نَّظنُّكَ لَمِنَ الْكَاذِبِين) إن هنا هي المخففة من الثقيلة، واسمها هو ضمير الشأن والحال أي إنه الحال والشأن نظنك لمن الكاذبين، والدليل على أنها مخففة من الثقيلة اللام في قوله تعالى لمن الكاذبين، وقد أكدوا رميهم له بالكذب بـ إنْ وباللام، وبعده في صفوف الكاذبين البهاتين.
والظن هنا معناه العلم القطعي، ولكن عبروا بالظن أو باقي القول، وإن أرادوا العلم، وكان من أدب العرب في القول أن يؤثروا الظن على القطع، وإن كانوا ظالمين.
وطلبوا معجزة، فقالوا:
(فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (١٨٧) قَالَ رَبِّي أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ (١٨٨)
الكسف، جمع كِسْفَة أي قطع من السماء، فلم يطلبوا رسالة مع ملك أو نحو ذلك، بل كانوا قساة من طبعهم ماديين، طلبوا أن ينزل عليهم قطعا من السماء، وقد أشبههم في هذه من بعدهم كفار قريش، فقالوا: (اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (٣٢)، وإن ذلك أشد الحمق وأفحشه، فكانوا مثلهم.
أجابهم اللَّه تعالى بعذاب شديد من جنس ما طلبوا وهو سحابة كانت من ورائها صيحة شديدة، فكانوا في ديارهم جاثمين، ولقد قال لهم نبي الله مفوضا الأمر إلى ربه
(قَالَ رَبِّي أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ (١٨٨)
وهذه الجملة السامية فيها تفويض وتهديد، أما التفويض فهو أنه قال: ربي أعلم بما تعملون، فهو يفوض الأمر للَّه سبحانه.
وأما التهديد فهو أيضا في هذه الجملة السامية من حيث إنه يعلم وحده بكافة ما تعملون من تطفيف في الكيل والميزان، وبخس للناس أشياءهم وعثو في
5405
الأرض فسادا بالاعتداء على حقوق العباد وأموالهم في زرع يزرعونه، وغرس يغرسونه، وماء يسقون به زرعهم، ما يعثون فيه بفسادهم وظلمهم وضلالهم. وقد جعل اللَّه تعالى عقابهم من جنس ما طلبوا، إذ طلبوا كسفا من السماء.
والفاء في قوله تعالى: (فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفًا) للإفصاح، أي إذا كانت مرسلا وأنت بشر مثلنا، (فَأَسْقِطْ) وهو طلب دال على الاستهانة بالرسالة.
أنزل اللَّه العذاب من جنس ما طلبوه، فقال:
5406
(فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (١٨٩) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (١٩٠) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (١٩١)
الظُّلَّة: السحابة التي تكون مظلة لما تحتها، وقد تكون ذات حرارة شديدة، كقوله تعالى: (لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ) وإن السحابة إذا كانت حارة فيها نار يكون العذاب شديدا، والألم مريرا، لأنه تكون النار حيث يرجى الظل لَا الحرور، وقالوا إنه في يوم الظلة أحسوا بالحر، فلجئوا إلى ظل سحابة، فكانت الظلة القاتلة، ووراءها الدمار، فأصبحوا في عذاب وبذلك كان العذاب الساحق الماحق من جنس ما طلبوا، وهو كسفا من السماء.
وكانت هذه آية من اللَّه مرشدة هادية لمن يعيشون مثل عيشهم ظلما وعدوانا، وأكلا لمال الناس بالباطل والعدوان، والعثو في الأرض فسادا، وهي دالة على أن شعيبا كان يدعوهم بالحق، وهم المبطلون.
وإذا أنزل عليهم هذه الساحقة ما أنزلها على كثرة مؤمنة، بل أنزلها على كثرة فاسقة ضالة ظالمة، ولذا قال: (وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ).
وإن ربك الكالئ الحافظ القائم على خلقه بربوبيته هو العزيز الغالب القوي الرحيم الذي يرحم عباده، ولا يسوى بين المحسن والمسيء، وقد أكد سبحانه عزته ورحمته بـ إِنَّ، وباللام وبضمير الفصل.
* * *
5406
القرآن عربي مبين
قال تعالى:
(وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (١٩٢) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (١٩٣) عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (١٩٤) بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ (١٩٥) وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ (١٩٦) أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ (١٩٧) وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ عَلَى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ (١٩٨) فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ مَا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ (١٩٩) كَذَلِكَ سَلَكْنَاهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (٢٠٠) لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (٢٠١) فَيَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (٢٠٢)
* * *
كان هذا القصص الكريم الذي شمل بعضا من قصة موسى الكليم وإبراهيم الخليل، وقوم نوح، وعاد، وثمود، وأصحاب الأيكة مصورا لطبائع المفسدين ومقاومة النبمنِن، وطلب المعجزات المادية واستجابة اللَّه تعالى لهم في معجزاتهم، وكفر أكثرهم من غير ارتداع، أخذ يبين سبحانه من بعد ذلك المعجزة الكبرى الخالدة، وهي القرآن الكريم، فقال:
5407
(وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (١٩٢) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (١٩٣) عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (١٩٤)
الضمير في قوله تعالى: (إِنَّهُ) يعود على القرآن الكريم؛ لأنه وإن لم يكن له ذكر في اللفظ هو مذكور في نفوس المؤمنين والمشركين، أما ذكره في قلوب المؤمنين، فلأنها عامرة به سامعة لتلاوته وتقشعر أبدانهم لسماعه، ويطمئنون بتلاوته، وأما ذكر الجاحدين له فلأنهم في حيرة من بلاغته، وأصابت قلوبهم
5407
فصاحته، وهم في ردهم له يخالط نفوسهم بحلاوته وجلاله فهو مذكور عند المؤمن به، والجاحد له.
وقد وصفه اللَّه سبحانه وتعالى بثلاث صفات معلية له مشرفة بنسبته فوق شرفه الذاتي من بلاغة وشمول الشرع.
الأولى - أنه تنزيل من رب العالمين، والتنزيل النزول جزءا بعد جزء منجما مقطعا، ليسهل حفظه، وليرتل ترتيلا، وليعلم النبي قراءته وتلاوته، ويتعلَّمها منه أصحابه، وبذلك تكون تلاوة القرآن مرتلا متواترة، كما قال تعالى: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ)، وقد أشرنا إلى ذلك في عدة مواضع عند ذكر معاني الذكر الحكيم.
5408
الثانية - أنه نزل بالوحي نزل به الروح الأمين على قلبك، الروح الأمين هو جبريل، وهو روح القدس، نزل بهذا القرآن،
وكان نزوله على قلبك، فاتصل به ووعاه، وحفظه مرتلا (لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ) لأنك تعلمت علمه وأوتيت حكمته، وعلمت شريعته لتكون من المنذرين أهل الضلالة عن غوايتهم، ودعوتهم إلى التوحيد، ولما ذكر المنذر دون المبشر، وهو بشير ونذير، لأن هداية المشركين تكون أولا بالإنذار، والتبشير يكون بالإقلاع عن الشرك، ولذلك كان أول دعوته بالإنذار، إذ قال: (إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُم بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ)، عندما استجاب لقوله تعالى: (وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ) وقد كان النبي - ﷺ - يقول: أنا النذير العريان.
الثالثة - أنه باللغة العربية، ولذا قال عز من قائل:
(بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ (١٩٥)
اللسان هنا اللغة، لأنها تكون باللسان، وهو متميزها، وأداتها، وأطلق اللسان وأريد المسبب له وهو اللغة، وكل لغة تخص لسانا في أدائها ونغمتها وصوتها. وأداؤها في القرآن الكريم كان باللغة العربية فليس بقرآن ما لا يكون باللغة العربية، فترجمة القرآن إن كانت ممكنة (وهى ليست ممكنة) ليست قرآنا، وقوله: (مُّبِينٍ) أي واضح في تميزه ومعانيه، ومقاصده، ومعانيه وهي في أعلى درجات الإعجاز بهذا البيان، ولغيره مما اشتمل عليه.
الرابعة - أن أكثر ما فيه من معانٍ وقصص، وشرائع في زبر الأولين، أي أن القرآن الكريم بعضه في كتب الأولين، والزبر جمع زبور، وهو الكتاب، وإن ذلك يكون على أن الضمير يعود إلى الكتاب ومقتضى السياق، ويكون المعنى على هذا إن هذا الكتاب مشار إليه في الكتب السابقة، وهو مهيمن عليها مبين للصحيح، كما في قوله تعالى: (وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ).
ويصح أن يكون الضمير عائدا على النبي - ﷺ -، لأنه مبشر به في التوراة والإنجيل، كما قال تعالي: (الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (١٥٧).
(أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ (١٩٧) وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ عَلَى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ (١٩٨) فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ مَا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ (١٩٩)
الواو عاطفة على فعل، وسياق القول الحكيم أينكرون، ولم يكن لهم آية تدل على الصدق أن يعلمه علماء بني إسرائيل وهم أهل علم بالكتاب، والضمير يعود إلى القرآن في (يَعْلَمَهُ) أي إذا كنتم مدعين جهلكم أو لم تكن عند دلالة على الصدق أن يعلم خبره علماء بني إسرائيل، وما كفروا به إلا عنادا وطغيانا، أو نقول كما قال بعض التابعين: المراد من علماء بني إسرائيل العدول الذين آمنوا واهتدوا كعبد الله بن سلام، وقيل: وسلمان الفارسي، وابن عباس اختار التعميم حتى يشمل من آمن، ومن لم يؤمن، وقد قال تعالى في بني إسرائيل: (وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ (٨٩) بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا
5409
أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْيًا أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ (٩٠).
فهم كانوا يعلمون القرآن ومحمدا، وكانوا يستفتحون به جيرانهم من أهل المدينة الذين كانوا يشركون.
وقيل أن الضمير في (أن يَعْلَمَهُ) يعود على محمد - ﷺ -، ولكن الأظهر هو ما قررنا.
أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ (١٩٧)
5410
وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ عَلَى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ (١٩٨) فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ مَا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ (١٩٩).
الضمير يعود على القرآن الكريم، لو نزله الله على بعض الأعجمين الذين لا يعرفون العربية لكان أعجميا بغير العربية، فقرأه عليهم بالأعجمية ما فهموه وما آمنوا به، واستمر عدم إيمانهم به، وتقديم الجار والمجرور (به) على متعلقه لبيان أهمية عدم الإيمان، وإن عدم الإيمان لسببين: أولهما أنه جاء من رجل أجنبي عنهم، ومن نعم اللَّه أن كان الرسول منهم، كما قال تعالى: (لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (١٢٨).
الثاني أنه لَا ينزل عليهم بالعربية فلا يفهموِن كما قال تعالى: (وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ (٤٤).
(كَذَلِكَ سَلَكْنَاهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (٢٠٠)
المشبه هو ما عليه الشرك من تكذيب وجحود، وسلكناه أي أدخلناه، والظاهر، أن المعنى، كهذا الجحود والكفر والتكذيب أدخلنا القرآن في قلوب المجرمين، فهم لَا ينظرون إليه نظرة هداية واسترشاد وتعرف للحقيقة وأوجه إعجاز، بل ينظرون إليه نظرا فيه عور لَا يعرفون حقيقته، ولا يدركون الغاية، ولا يعرفون الحق لاعوجاج نظرهم.
ومن كان هذا نظرهم لَا يمكن أن يؤمنوا، ولذا قال تعالى في أمرهم.
(لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (٢٠١) فَيَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (٢٠٢)
5410
قال تعالى:
5411
(لا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الأَلِيمَ) أي إن ذلك شأنهم، ولذلك كان النفي داخلا على المضارع، لأن فيه تصويرا لعدم إيمانهم، إذ هم ماديون حسيون لَا يؤمنون إلا بالحس، وما يشبهه، هذا معنى قوله: (حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الأَلِيمَ) المؤلم الشديد في إيلامه؛ أي لَا يؤمنون إلا بما يحسون، وكذلك شأن الكافرين لَا يؤمنون بالغيب، بل يؤمنون بما يرون ويحسون فقط، والفرق بين الإيمان والكفر هو الإيمان بالغيب، فالكافر لَا يؤمن إلا بالحس والتجربة المحسة.
قوله تعالى:
(فَيَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (٢٠٢)
الفاء فاء السببية، أي يترتب ما بعدها على ما قبلها، وهي عاطفة على يروا، أي أنهم في جهالتهم عمون عن الحق لَا يدركونه، ولا يتوقعونه، (فَيَأتِيَهُم) والضمير يعود إلى الساعة؛ لأنها في أذهانهم جميعا مؤمنين بها أو جاحدين لها، فهي مستولية عليهم إيمانا أو استغرابا، فتأتيهم مباغتة لهم حيث يستمرئون الحياة الدنيا وما فيها من متع غافلة غير شاعرة، وقد ألهتهم لواهيها، وتكاثرها.
وإنهم إذ يكونون في الآخرة يحسون بطلب العودة، وقال تعالى في حالهم
* * *
قال تعالى:
(فَيَقُولُوا هَلْ نَحْنُ مُنْظَرُونَ (٢٠٣) أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ (٢٠٤) أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ (٢٠٥) ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ (٢٠٦) مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ (٢٠٧) وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا لَهَا مُنْذِرُونَ (٢٠٨) ذِكْرَى وَمَا كُنَّا ظَالِمِينَ (٢٠٩) وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ (٢١٠) وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ (٢١١) إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ (٢١٢)
* * *
5411
يأتيهم العذاب من حيث لَا يشعرون، ولقد كانوا وهم في غرور الدنيا ولهوها يكذبون النبي الذي يخوفهم بعذاب الله ويتحدونه، فيستعجلونه، كما قال تعالى: (وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِمُ الْمَثُلاتُ)، ولكنهم في الآخرة وقد رأوه عيانا يطلبون التأجيل، ويعجبون من الاستعجال، فيقولون:
5412
(فَيَقُولُوا هَلْ نَحْنُ مُنْظَرُونَ (٢٠٣) أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ (٢٠٤)
الاستفهام هنا يدل على التمني، أي يتمنون أن يكونوا منظرين، أي مؤجلين، وقد كانوا يهددون ويخوفون في الدنيا أن يكون ما يرون تهديدا وتخويفا، وينظرون فيه حتى يكون منهم أحر، ويستدركون ما فاتهم، ولكن لات حين مناص، ويترتب على رجائهم الانتظار والتاجيل التعجيل بالعذاب، فيقولون
(أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ (٢٠٤)
والفاء دالة على ترتيب ما بعدها على ما قبلها، وهي مؤخرة عن تقدم، وتقدير القول فأبعذابنا يستعجلون أي يترتب عن تمني الانتظار التعجب من الاستعجال، والاستفهام الثاني لاستنكار التعجيل، وبعذابنا تتعلق بالاستعجال، وتقدم عليه، لأنه يخيل إليهم أن الاستعجال خاص بعذابهم وحدهم، ونسوا ما فعلوا من ظلم، وما اجترحوا من سيئات.
وإن ذلك العذاب منطقي، فقد متعوا سنين وأوعدوا، وذكر لهم ما يوعدون، وهذا وقت الجزاء، ولذا قال:
(أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ (٢٠٥) ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ (٢٠٦)
يذكر سبحانه العجب من حالهم، وإنكارهم ما ذكروا به في تمتعهم سنين، والفاء مؤخرة عن تقديم الاستفهام، لأن الاستفهام له الصدارة دائما، والاستفهام للتعجب، والمعنى فأريتهم كيف متعناهم بزخارف الدنيا سنين مهما تكثر فهي معدودة محدودة، وإذا تحقق ما يوعدون من عذاب يطلبون التأجيل، ويعجبون من التعجيل أو الاستعجال، ولا استعجال أبدا بل كل شيء في وقته المحدود وأمده المعلوم، وقوله تعالى:
(ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ (٢٠٦)
العطف بـ (ثُمَّ) له معناه فإن ما بين البعث والتمتع سنين محدودة كبير في نظرهم، والتفاوت بين المتعة والعذاب يسوغ التفاوت والبعد بـ (ثُمَّ)، ونحوها؛ لأنه ثمة فارق وتفاوت بين المتعة وما ينزل لهم من عذاب دائم مقيم.
5412
وإن المتعة التي يعقبها عذاب أليم لَا تجدي ولا تنفع ولا ترفع، ولقد كانوا يتوهمون أن ما هم فيه من تمتع يكفيهم، ولكن
5413
(مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ (٢٠٧)
(مَا) هنا موصول حرف، وليست موصولا اسميا بمعنى الذي، لأن الصلة في الموصول الاسمى يجب أن تشتمل على ما يربطها بالاسم من ضمير، أو نحوه، ولا ضمير يربطها، فهي إذن موصول حرفي يكون وما بعده مصدرا منسبكا، وتقديره: وما كان تمتعهم هذه السنين طالت أو قصرت مغنيا عنهم في الآخرة رافعا عذابهم الشديد النازل بهم، كما كانوا يتوهمون أنه لَا بعث، وأنه إن كان بعث فليس بمعقول أن يعاقبوا، وأن يكون أولئك الضعفاء المرذولون والعبيد المهينون هم المثوبين، وكانوا دائما معتمدين على دوام تمتعهم في السنين المحدودة والأمد المعلوم.
وأنهم قد أنذروا، فالملام في عقوبتهم عليهم هم وحدهم، ولذا قال عز من قائل:
(وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا لَهَا مُنْذِرُونَ (٢٠٨) ذِكْرَى وَمَا كُنَّا ظَالِمِينَ (٢٠٩)
أي ما أهلكنا أي قرية، والقرية المدينة العظيمة أو القبيل، ومن دالة على عموم النفي واستغراقه، إلا كان لها منذرون بالعذاب الشديد من رسلِ اللَّه تعالى الذين يتكلمون عن اللَّه تعالى، وقد قال تعالى: (وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا)، وقال تعالى: (وَإِن مِّنْ أُمَّة إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ). وإن الرسول يذكرهم دائما، وتبقى في رءوس المعتبِرين منهم ذكرى دائمة باقية حتى يجنبهم ما أنذروا به، ولذا قال تعالى:
(ذِكْرَى وَمَا كُنَّا ظَالِمِينَ (٢٠٩)
أي أن ذلك الإنذار على ألسنة الرسل تذكير لهم أن اعتبروا واخشوا وخافوا، وأكد سبحانه أنه لَا يظلِمهم، فيأتيهم بالعذاب من غير إنذار، فقال تعالى: (وَمَا كُنَّا ظَالِمِينَ) (كان) هنا دالة على النفي الدائم، أو نفي الشأن، أي وما كان من شأننا الظلم، كما قال تعالى في آية أخرى، (وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ)، ولقد قال في إنذارهم (وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ (٤٤).
5413
ولقد كانوا يتوهمون أن القرآن قول كاهن، ولم ينزل من الله، ولكن نزل من الشياطين، كما ينزلون على الكهان، وذلك زعم باطل في أصله، وفي تطبيقه على القرآن الكريم، ونفى اللَّه ذلك نفيا مؤكدا فقال:
5414
(وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ (٢١٠) وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ (٢١١) إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ (٢١٢)
لقد ادعوا أن القرآن قول كاهن، وأقوال الكهان تتنزل بها الشياطين، وهي جمع شيطان وهم إخوان إبليس أو أتباعه وزمرته، وقد نفى اللَّه تعالى ذلك بثلاثة أمور.
أولها - أنه ما ينبغي لهم؛ لأنهم محرضون على الفساد، والقرآن هاد مرشد، وذلك احتجاج عليهم بحقيقة القرآن، فلا يمكن أن يتلاقى مع وساوس الشياطين ومفاسدهم، فما يصح أن يكون منهم.
والثاني - أنهم لَا يستطيعونه، لأنه معجز، وهو يعجز الجن والإنس كما قال اللَّه تعالي: (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا (٨٨).
والثالث - أنهم لَا يمكن أن ينقلوه أو يسرقوه، ويتنزلوا به على أهل
الكهانة، لأنهم معزولون عن ذلك، وهذا قوله تعالى: (إِنَّهمْ عَنِ السَّمْع لَمَعْزُولُونَ)، وقد أكد سبحانه وتعالى عزلهم بـ إن الدالة على التوكيد، وباللام، وبالجملة الاسمية.
ولقد تكلم الحافظ ابن كثير في هذه الأمور الثلاثة المانعة من أن تتنزل به الشياطين، فقال رضي اللَّه عنه " ذكر سبحانه أنه يمتنع عنهم ذلك من ثلاثة أوجه: أحدها: أنه ما ينبغي لهم، أي ليس هو من بغيتهم ولا من طلبتهم، لأن من سجاياهم الفساد، وإضلال العباد، وهذا فيه الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر ونور وهدى وبرهان عظيم، فبينه وبين الشياطين منافاة عظيمة، ولهذا قال تعالى:
(وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ... (٢١١)
وقوله تعالى: (وَمَا يَسْتَطِيعُونَ)، أي ولو انبغى لهم لما استطاعوا ذلك. قال تعالى: (لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ)، ثم بين أنه لو انبغى لهم واستطاعوا حمله وتأديته ما وصلوا إلى ذلك؛ لأنهم بمعزل حين استماع القرآن حال نزوله؛ لأن السماء ملئت حرسا شديدا وشهبا في مدة نزول القرآن على رسول اللَّه - ﷺ -، فلم يخلص أحد من الشياطين إلى استماع حرف واحد، ولم يجد منه لئلا يشتبه الأمر، وهذا من رحمته بعباده وحفظه لشرعه، وتأييده لكتابه ولرسوله، ولذا قال تعالى:
(إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ (٢١٢)
وكل هذا على أن الضمير في (به) من قوله تعالى: (وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ) يعود على القرآن، وهو في النفوس المؤمنة يملؤها، والمشركة يساورها، ولا احتمال سواه.
* * *
التوحيد لب الإيمان
قال تعالى:
(فَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ (٢١٣) وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ (٢١٤) وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٢١٥) فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ (٢١٦) وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (٢١٧) الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ (٢١٨) وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ (٢١٩) إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٢٢٠)
* * *
5415
الفاء للإفصاح عن شرط وتقديره إذا كان القرآن هو الحق، وهو يدعو إلى التوحيد،
5416
فلا تدع مع اللَّه إلها آخر، والدعاء هنا الالتجاء إليه والعبادة أي لا تعبد مع اللَّه إلها آخر، وتلجأ إليه (فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ)، أي فتكون بسبب ذلك من المعذبين، الفاء للسببية، ولذا نصب الفعل بعدها، ولقد كان النهي موجها إلى نبي الوحدانية، ليقتدي به غيره، وليعلم كل إنسان أن العذاب لاحق بمن يعبد مع اللَّه إلها آخر، فقلب العبادة: الوحدانية، ولب الإيمان ألا يكون مع اللَّه إله آخر.
بعد ذلك أمر سبحانه وتعالى أمرين متعلقين بالدعوة، فقال:
(وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ (٢١٤) وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٢١٥) فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ (٢١٦)
العشير القرابة القريبة، والأقربين جمع أقرب، وهو الأشد قرابة، وقد جاء في مفردات الراغب ما نصه:
والعشير أهل الرجل الذين يتكثر بهم، أي يصيرون له بمنزلة العدد الكامل، وذلك أن العشرة هي العدد الكامل، والمعنى أن العشير الأقارب الذين يعتز بهم، ويحس بأنه منهم، وأنهم منه، أنه - ﷺ - قد جاء في كتب السيرة وكتب السنة أنه عندما نزلت هذه الآية داعية إنذار عشيرته صار النبي - ﷺ - إلى الصفا، ودعا قريشا، ومنهم من حضر بشخصه، ومن لم يحضر بشخصه وبعث من يسمع عنه وقال لهم: " يا بني عبد المطلب، يا بني فهر، يا بني لؤي: أرأيتم لو أخبرتكم بأن عيرا بسفح هذا الجبل تريد أن تغير عليكم صدقتموني؟ قالوا: نعم، قال: فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد.
دعاهم عليه السلام هذه الدعوة، وهي أولى الدعوات، وكانت الدعوات قبل ذلك دعوات خاصة للزوجة والأهل والأصدقاء، فهذه أول دعوة عامة، أو شبه عامة وعمومها جزئي على أي حال.
هذه دعوة من لم يكن مؤمنا، وقد أرشده سبحانه إلى الرفق بالمؤمنين، لأنهم قوام ألدعوة، وعماد الحق، وقد تعرضوا للأذى باتباع النبي - ﷺ - فقال له
5416
لتعينهم على الإيمان ويروا الرحمة بجوار الأذى والعذاب
5417
(وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٢١٥) مِنْ: هنا بيانية، والمعنى اخفض جناحك لمن اتبعك، وهم المؤمنون، وخفض الجناح فيه استعارة فيها تشبيه، فشبه الحاني العطوف على من معه من المؤمنين بالطائر الذي يخفض جناحه ويحوط به فراخه، حتى ينضجوا ويستغنوا عن كلاءته، وحمايته.
هذا شأن من أطاعه من عشيرته ومن معه من المؤمنين، وقال فيمن عصاه:
(فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ (٢١٦)
الفاء: للإفصاح، والضمير في عصوك يعود إلى الأقربين، وإلى المؤمنين، وربما نميل إلى أن تكون على المؤمنين فقط، لأنه أقرب مذكور، ولأن خفض الجناح لهم مشروط بأنهم مؤمنون لَا يعصون، فإن عصوك أيها الرسول فتبرأ منهم، فإنك تخفض الجناح لتربيتهم وتهذيبهم، وإبقائهم على الحق لَا يخرجون عنه، فإن خرجوا فتبرأ منهم، وقل (إِنِّي بَرِيءٌ ممَّا تَعْمَلُون)، ويكون فيه عصيان لي، ولا يعتمد عليهم في هذا العصيان، والاعتماد كله يكون على الله، ولذا قال من بعد.
(وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (٢١٧) الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ (٢١٨) وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ (٢١٩) إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٢٢٠)
التوكل هو تفويض الأمر للَّه تعالى بعد أخذ الأسباب، فلا يظن أن الأسباب وحدها كافية، بل إنه لابد من الاعتماد على اللَّه تعالى بعد الأخذ في الأسباب، والعناية بها، والتوكل هو على اللَّه العزيز القوي الذي لَا يغلب، الرحيم بعباده في شدتهم والذي يجيب مطالبهم العادلة بفضل رحمته سبحانه، وقد وصف اللَّه تعالى بثلاث صفات، تبين أن الاعتماد عليه هو اعتماد على المحيط بكل شيء علما، فوصفه بثلاث صفات تفيد كمال العلم والعزة، وكمال السلطان والقهر. الصفة الأولى: أشار سبحانه وتعالى بقوله:
(الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ (٢١٨)
من منامك متجها إلى اللَّه تعبده، وإلى الناس تنفعهم وإلى نفسك تهذبها، وإلى صلاتك تقيمها.
5417
والصفة الثانية - أنه يعلم تقلب النبي - ﷺ -، ولذا قال:
5418
(وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ (٢١٩)
أي خرورك ساجدا لرب العالمين متقلبا من القيام إلى السجود، أي أنه يعلم أحوالك في صلاتك، فهو سبحانه ونعالى يعلمك في كل أحوالك، من وقت قيامك إلى سجودك في صلاتك.
الثالثة -
(إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٢٢٠)
أي الذي يعلم كل شيء منك علم من قد أحاط بكل شيء علما.
* * *
نبذات الشياطين
قال تعالى:
(هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ (٢٢١) تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (٢٢٢) يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ (٢٢٣) وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ (٢٢٤) أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ (٢٢٥) وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ (٢٢٦) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ (٢٢٧)
* * *
ادعى المشركون أن القرآن الكريم تنزلت به الشياطين، كما يزعمون أنها تتنزل على الكهان وأشباههم، فنفى اللَّه تعالى ذلك، وأخذ يبين صفات من تنزل عليهم الشياطين، وذكر أصنافا من هؤلاء الذين تنزل عليهم الشياطين فقال سبحانه وتعالى:
(هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَن تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ) الاستفهام للتنبيه، والتنبيء الإخبار بما له شأن، وللنفس به اهتمام، والتنزل النزول، ولا يقال عن اللَّه تعالى، وإنما يقال عن الملائكة فيقال تنزل كما قال تعالى: (تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ (٤) سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ (٥)، وهو
5418
ما يبث في النفوس من البشرى والاطمئنان، والشياطين لَا يقال في المفتري أو الآثم إلا التنزل، وقد جاء في المفردات للراغب الأصفهاني " لا يقال في المفترى والكذب وما كان من الشيطان إلا التنزل وعلى من تنزل الشياطين إلى آخر الآية والتنزل من الشياطين، هو ما يوسوسون به، ويوجهونها نحو الشر والإثم البين، ويلاحظ أن تنزل محذوفة التاء، وأصلها تتنزل.
ثم قال تعالى:
5419
(تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (٢٢٢)
الأفاك هو المفترِي الكاذب الذي
يصرف عن الحق، ويضل النفس ويذهب بالاطمئنان، والأثيم الذي تمرست نفسه بالإثم، وصار عنده استعداد للاستماع إلى الإفك الصارف والكذب البين.
والوصف الثاني لمن تنزل عليهم الشياطين هو ما بينه سبحانه بقوله
(يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ (٢٢٣)
يقال ألقى السمع إليه، أصغى إليه وجعل سمعه كله إليه لَا يسمع سواه والضمير في (يُلْقُونَ) يعود إلى كل أفاك أثيم، أي من صفة هؤلاء أنهم يصغون إليه، ويضعون سمعهم يلقونه إليه، وأكثرهم كاذبون، أي من صفات الكثرة الكاثرة منهم الكذب، فهم يستملون الشياطين ويروجونه بين الناس مبالغين في كذبهم.
وإن من هؤلاء: الشعراء الذين يقولون الكذب ويفترونه، ويتخيلونه، وليسوا كلهم بدليل هذا الاستثناء الذي سيجيء، ومن الشعراء الذين استثنوا في الجاهلية زهير بن أبي سلمى، وفي الإسلام حسان بن ثابت الذي كان يدعوه النبي للرد على المشركين، ووصفه النبي - ﷺ - بأن روح القدس يؤيده.
قال تعالى:
(وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ (٢٢٤)
الغاوون: جمع غاو وهو الصالح، وأولئك الذين يهيمون في ذكر النساء، وتصور وقائع كاذبة قد تنزل بها الشياطين عليهم حتى كانوا يقولون لكل شاعر شيطان، وقد أيد اللَّه تعالى تنزل الشياطين عليهم بقوله تعالى:
(أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ (٢٢٥) وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ (٢٢٦)
الاستفهام هنا لإنكار الوقوع فنفي النفي إثبات، والمعنى قد رأيتهم في كل واد من أودية القول يهيمون، أي يقولون، فقالوا في الغزل، والتشبب بالنساء وذكرهن وما يخفى من أجسامهن، وما يكون بينها وبين الرجل مما يجب ستره، والكلام فيه موقوف فيقول، كما ترى في معلقة امرئ القيس، وكما ترى في قصائد الفرزدق الذي كان يحاكى منهاجه، ويتفحش في القول، ولقد كانوا يتخيلون المآثم، ولا يفعلونها، كما كنت ترى من بعد في شعر عمر بن أبي ربيعة من غزل، وهكذا. وإن ذلك كله من تنزل الشيطان على الشعراء.
وإذا كان من كبار التابعين من كان يذكر في درسه بالمسجد الحرام شيئا من هذا الشعر كابن عباس فيما يروى عنه رضي اللَّه عنهما - فإنما كان ذلك لكي تستمر رواية شعر العرب.
وإن الشعر العربي فيه خير كثير، وفيه شر كبير، فلا يذم كله، ولا يمدح كله، وإنه ككل كلام عربي جيد في مبناه بليغ في ذاته يحمد لسنه، ويذم واسده في المعنى.
ويلاحظ أن ذكر الشعر بأنه تنزل به الشياطين لإبعاده عن القرآن، فالقرآن وحي اللَّه تعالى الذي نزل به الروح الأمين على قلب محمد - ﷺ - بلسان عربي مبين.
وقد استثنى سبحانه وتعالى من الشعراء الذين يتبعهم الغاوون الذين آمنوا، أو استثنى الذين آمنوا من الغاوين الضالين الذين يتبعون الشعراء فقال عز من قائل:
(إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ (٢٢٧)
ظاهر اللفظ أن الاستثناء من الشعراء، ويكون الاستثناء متصلا، والمعنى أن الشعراء يتبعهم الضالون، لأنهم في كل واد يهيمون، ويقولون ما لَا يفعلون
5420
فيستثنى من هؤلاء الشعراء الذين آمنوا وعملوا الصالحات، وامتلأت قلوبهم بذكر الله، وذكروا الله كثيرا، كعبد الله بن رواحة وحسان بن ثابت، وكعب بن زهير، وأولئك انتصروا للحق وناصروه، وكانوا يدفعون الهجاء عن النبي - ﷺ - ومنهم من قاد الجيوش، واستشهد أمام الروم في غزوة مؤتة، وهو عبد الله بن رواحة.
ويصح أن يكون الاستثناء منقطعا، ومستثنى من الضالين، ويكون معنى (إلا) لكن، والمعنى: والشعراء يتبعهم الغاوون إلى آخره، لكن الذين آمنوا وعملوا الصالحات وذكروا الله كثيرا بأن امتلأت قلوبهم بذكره، وانتصروا أي انتصفوا من المشركين من بعد ظلموا فإنهم يتبعون الحق ويتبعهم أهل الحق.
وقوله تعالى (مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا)، (ما) مصدر حرفي أي من بعد ظلمهم، وإرهاقهم في أمرهم، وكل هذا كان بيانا لنصرة الله تعالى من بعد الأذى في مكة، وإشارة إلى وعد الله تعالى بالنصر المبين، وانتصر معناها انتصف بنيله النصر، بعد جهاد في سبيل الله تعالى.
وقوله تعالى: (وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ).
السين هنا لتأكيد الفعل في المستقبل، والعلم الذي سيعلمونه هو علم المعاينة، إذ سيرون العذاب، وسيحسونه نازلا بهم، إذ يكونون في جهنم، وبئس المهاد، والتعبير بالموصول لبيان أن الصلة هي سبب ما ينزل بهم من عذاب شديد، لَا يعرفونه الآن، وسيعرفونه من بعد، وقد ظلموا أولا بالشرك، وثانيا بتكذيب الرسل، وثالثا بإنكارهم للقرآن، ورميهم له بأنه تنزل به الشياطين، وأنه كأقوال الكهان، وغير ذلك مما ظلمت به العقيدة، والحقائق، وقد أضافوا إلى ذلك ظلم العباد، والصد عن سبيل الله تعالى، والمنقلب هو انقلابهم من الطغيان إلى المهانة، ومن رغد العيش إلى شدته، وقد أبهم هذا المنقلب، تأكيدا للتهديد، والإنذار الشديد.
* * *
5421
(سُورَةُ النَّمْلِ)
تمهيد:
هذه سورة مكية نزلت بمكة. وسميت النمل؛ لأن قصة سليمان مع النَّمْلِ أخذت حيزا كبيرا منها، وعدد آياتها ٩٣ آية.
وقد ابتدأ سبحانه بحروف مفردة هي الطاء والسين، وقد ذكرنا حكمة ذكرها في سورة الشعراء وما سبقها، وقد كانت أول آية تتعلق بالقرآن، كشأن الأكثر في السور المبتدأة بحروف مفردة، تلك آيات القرآن الكريم، وبشرى للمؤمنين الذين يقيمون الصلاة، ويؤتون الزكاة، وهم بالآخرة هم يوقنون.
ثم بين سبحانه أحوال الذين لَا يؤمنون بالآخرة، وأنه تزين لهم أعمالهم، وأنهم في أعمالهم يعمهون، وأنهم هم الذين لهم سوء العذاب، وأنهم في الآخرة هم الأخسرون.
وقد بين مقام النبي - ﷺ - (وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ (٦).
وقد ذكر سبحانه بعد ذلك جزءا من قصة موسى في مدين: إذ ذهب يبحث لأهله عن نار، (إِنِّي آنَسْتُ نَارًا سَآتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُمْ بِشِهَابٍ قَبَسٍ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (٧)، وكان أن كلمه ربه، (فَلَمَّا جَاءَهَا نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا وَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (٨) يَا مُوسَى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٩) وَأَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى لَا تَخَفْ إِنِّي لَا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ (١٠) إِلَّا مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْنًا بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (١١) وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ فِي تِسْعِ آيَاتٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (١٢)
5422
فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ (١٣).
وإنهم راعتهم المعجزة، (وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (١٤).
ولقد كان ذلك الجزء الصغير من قصة موسى عليه السلام تمهيدا لقصة داوود وسليمان، وخصوصا سليمان فإنهما نبيان من أنبياء بني إسرائيل جاءا لإحياء شريعة التوراة فيمن جاء لذلك من الرسل.
ولقد قال تعالى في ذلك (وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا وَقَالَا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ (١٥) وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ (١٦).
وقد أوتي سليمان ملكا لم يكن لأحد من بعده (وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (١٧)
كما أوتي علم منطق الطير، فقد أوتي أيضا علم منطق كل شيء (حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِ النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (١٨) فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِنْ قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ (١٩) وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ (٢٠) لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (٢١).
ولكنه بعد ذلك أتى بخبر غريب كان له ما يفيد في سياسة سليمان (فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ (٢٢) إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ (٢٣) وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ (٢٤) أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ (٢٥) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (٢٦).
5423
سمع سليمان الملك الحكيم الخبر فلم يصدقه بادئ ذي بدء ولم يكذبه، بل أخذ يتفحصه قائلا: سننظر أصدقت أم كنت من الكاذبين، وكلفه أن يذهب بكتابه إليهم.
ذهب الكتاب إليها، فجمعت ملأها (قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ (٢٩) إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (٣٠) أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (٣١) قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنْتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّى تَشْهَدُونِ (٣٢) قَالُوا نَحْنُ أُولُو قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ (٣٣).
فردت قائلة:
(قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ (٣٤) وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ (٣٥).
جاء الرد والهدية إلى سليمان الملك العظيم قال: (أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتَاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ (٣٦) ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لَا قِبَلَ لَهُمْ بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْهَا أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ (٣٧).
وقبل أن يذهب إليهم بجنده أراد أن يعرف عرشها وسلطانها، (قَالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ (٣٩) قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ (٤٠).
جاءت الملكة إليه: (قَالَ نَكِّرُوا لَهَا عَرْشَهَا نَنْظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لَا يَهْتَدُونَ (٤١) فَلَمَّا جَاءَتْ قِيلَ أَهَكَذَا عَرْشُكِ قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهَا وَكُنَّا مُسْلِمِينَ (٤٢) وَصَدَّهَا مَا كَانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنَّهَا كَانَتْ مِنْ قَوْمٍ كَافِرِينَ (٤٣) قِيلَ لَهَا
5424
ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ سَاقَيْهَا قَالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوَارِيرَ قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (٤٤).
وبعد ذلك ذكر سبحانه بعضا من قصة ثمود وصالح، ودعاهم إلى عبادة اللَّه تعالى وحده، ولقد استعجلوا العذاب إذ دعاهم فقال لهم (يَا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ لَوْلَا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) وقد تقاسموا مع المفسدين على أن يهلكوه وأهله، ويقولوا لولجه (مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (٤٩) وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (٥٠). وقد ذكر سبحانه عاقبة الأمر على ثمود قوم صالح.
ثم ذكر سبحانه قصة لوط، وذكر لهم لوط ما عندهم من فواحش خرجوا بها عن الفطرة، قائلا لهم: (أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (٥٥) فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ (٥٦) فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَاهَا مِنَ الْغَابِرِينَ (٥٧) وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ (٥٨) قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ (٥٩).
بعد ذلك بين اللَّه سبحانه وتعالى الدلائل الكونية الدالة على وحدانية الخالق، وأنه ليس كمثله شيء، فقال سبحان: (أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا..).
ثم بعد أن بين هذه الحقيقة سألهم مستنكرا فعلهم (.. أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ).
ثم نبههم سبحانه إلى الأرض، وما في خلقها من عجائب، ووجه الأنظار
5425
إلى عجائبها، وقرارها وأنهارها وجبالها، وأنه جعل بين البحرين حاجزا، ثم استفهم منكرا موبخا (أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ). وذكر بعد ذلك تفضله سبحانه عليهم بإجابة المضطر إذا دعاه وكشفه السوء، وجعل الإنسان خليفة في الأرض، ويسأل سبحانه مستنكرا حالهم من الشرك (أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ) ويذكرهم سبحانه بهدايته لهم في ظلمات البر والبحر وإرساله الرياح مبشرات بين يدي رحمته، ويسالهم من بعد (أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ).
ويذكر سبحانه بذاته العلية، إذ يبدأ الخلق ثم يعيده، ويرزقه سبحانه وتعالى من السماء والأرض، ثم يسالهم مستنكرا حالهم (أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ).
ويأمر نبيه الكريم بأن ينبههم إلى أنه لَا يعلم من في السماء والأرض غيره، وشعورهم عندما يبعثون وإنهم يتداركون جهلهم عندما يبعثون، ويعلمون ما لم يكونوا علموه من قبل بالعيان، لَا بالأفهام. ويأمرهم سبحانه وتعالى أن يسيروا في الأرض ليعلموا مكانهم فيها، والعبر من أهلها، إذ طغوا وأكثروا فيها الفساد.
ويذكر لنبيه أنه ليس عليه إيمانهم، إنما عليه تبليغهم:
(وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (٧٠).
وذكر سبحانه بعد ذلك، استعجالهم لما يوعدون به من عذاب (وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (٧١) قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ (٧٢) وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَشْكُرُونَ (٧٣).
ويذكر سبحانه بعد - ذلك عموم علمه في السماء والأرض، ويقول عز من قائل: (وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (٧٥).
ويذكر من بعد مقام القرآن الكريم، (إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ
5426
أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (٧٦) وَإِنَّهُ لَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (٧٧) إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ بِحُكْمِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (٧٨).
ومما عليك من حسابهم من شيء.
(فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ (٧٩) إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (٨٠) وَمَا أَنْتَ بِهَادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلَالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ (٨١).
وبعد ذلك يذكر سبحانه ما يكون قرب البعث، وما يكون بعده:
(وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لَا يُوقِنُونَ (٨٢).
ويبين سبحانه بالإشارة الواضحة حال الناس يوم الحشر وحالهم وهم يقدمون على العذاب.
ثم يذكرهم سبحانه بغفلتهم عن آياته: (أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٨٦).
ويذكر سبحانه يوم الهول العظيم يوم البعث، ثم يذكر الحساب والثواب والعقاب: (مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ (٨٩) وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٩٠).
وإن عبادة اللَّه وحده هي الغاية الأولى: (إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (٩١) وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآنَ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّمَا أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ (٩٢) وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَتَعْرِفُونَهَا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (٩٣).
* * *
5427
ذكر معاني السورة
قال اللَّه تعالى:

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

(طس تِلْكَ آيَاتُ الْقُرْآنِ وَكِتَابٍ مُبِينٍ (١) هُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (٢) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (٣) إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ (٤) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ الْعَذَابِ وَهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ (٥) وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ (٦)
* * *
5428
Icon