سورة آل عمران سورة مدنية وآياتها مائتان نزلت بعد الأنفال والمراد بعمران هو والد مريم أم عيسى عليهما السلام وآل عمران هم عيسى ويحيى ومريم وأمها.
و تسمى الزهراء : لأنها كشفت عما التبس على أهل الكتاب في شأن عيسى عليه السلام.
و الأمان : لأن من تمسك بها فيما آمن من الغلط في شانه.
و الكنز : لتضمنها الأسرار العيسوية.
و المجادلة : لنزول نيف وثمانين آية منها في مجادلة الرسول صلى الله عليه وسلم نصارى نجران.
و سورة الاستغفار : لما فيها من قوله تعالى :﴿ و المستغفرين بالأسحار ﴾ ( آل عمران ١٧ ).
***
من أهداف سورة آل عمران
١- بيان معنى الدين ومعنى الإسلام فليس الدين هو كل اعتقاد في الله إنما هو صورة واحدة من صور الاعتقاد فيه سبحانه صورة التوحيد المطلق الناصع القاطع :
توحيد الألوهية التي يتوجه إليها البشر.
وتوحيد القوامة على البشر وعلى الكون كله فلا يقوم شيء إلا بالله تعالى ولا يقوم على الخلائق إلا الله تعالى
٢- تصوير حال المسلمين مع ربهم واستسلامهم له وتلقيهم لكل ما يأتيهم منه بالقبول والطاعة والإتباع الدقيق.
٣- التحذير من ولاية غير المؤمنين والتهوين من شأن الكافرين مع هذا التحذير وتقرير أنه لا إيمان ولا صلة بالله مع تولي الكفار الذين لا يحتكمون لكتاب الله ولا يتبعون منهجه في الحياة.
٤- بيان أن اللذائذ الدنيوية زائلة والآخرة خير وأبقى.
٥- محبة الله سبحانه لا تتم إلا بمتابعة الرسول صلى الله عليه وسلم.
٦- بيان قصص بعض المصطفين الأخيار كمريم وزكريا ويحيى وعيسى عليهم السلام و ما جرى لعيسى من المعجزات والرد على من ادعى أنه ابن الله.
٧- أمر النبي أن يدعو أهل الكتاب إلى المباهلة والدعاء بأن ينزل الله لعنته على الكافرين.
٨- بيان أنه تعالى أخذ الميثاق على الأنبياء : أن يؤمنوا بجميع الرسل وأن من صفة محمد كونه مصدقا لما معهم.
٩- بيان أفضلية البيت الحرام على غيره وأن حجه واجب على المستطيع.
١٠- ذكر غزوة أحد وبيان أن طريق الجنة : الجهاد والعمل الصالح وان كثيرا من الأمم حاربت مع أنبيائهم.
١١- النبي صلى الله عليه وسلم رحيم بأمته ولو كان سيء الأخلاق لابتعد الناس عنه وقد حثه القرآن على مشاورة أصحابه والعزم على التوكل على الله وقد تفضل الله على الخلق برسالة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم.
١٢- بيان حال الشهداء وفضلهم ومنزلتهم السامية عند الله.
١٣- بيان أن بعض أهل الكتاب آمنوا وحث المؤمنين على الصبر والمرابطة والتقوى والتمسك بالوحدانية المطلقة.
ﰡ
التفسير :
﴿ ألم ﴾
تحدثا عن فواتح السورة في أول سورة البقرة وتكلمنا عن الحروف المقطعة التي بدأت بها بعض السور وآراء العلماء في هذه الفواتح ترجع إلى رأيين اثنين.
أحدهما : أنها جميعا مما استأثر الله به ولا يعلم معناها أحد سواه وهذا رأي كثير من الصحابة والتابعين.
ثانيهما : أن لها معنى وقد ذهبوا في معناها مذاهب شتى فمنهم من قال هي أسماء للسورة ومنهم من قال هي رموز لبعض أسماء الله تعالى أو صفاته ومنهم من قال هي حروف للتنبيه ومنهم من ذكر أنها حروف للتحدي والإعجاز وبيان أن الخلق عاجزون عن الإتيان بمثل القرآن مع انه مركب من هذه الحروف المقطعة التي يتخاطبون بها وفي هذا دليل على أنه ليس من صنع بشر بل تنزيل من حكيم حميد.
المفردات :
الحي : ذو الحياة وهي صفة تستتبع الاتصاف بالعلم والإرادة.
القيوم : القائم على كل شيء بكلائته وحفظه.
رغم أن بعض الناس قد يؤهلون أرباب كثيرة ويعبدون أشياء عدة إلا أن الحقيقة الخالدة هي أن كافة المخلوقات تنتمى إلى الله الذي لم يكن له شريك له أبدا فهو الله الحي القيوم واهب الحياة للخلق أجمعين لا عون ولا مدد إلا منه وهو المعين ولا معين سواه لا شبيه في صفاته ولا ند له في ذاته ولا مثيل له ولا شريك له ولذا فاتخاذ إله آخر أيا كان مع الله في الأرض أو السماء إن هو إلا زور وبهتان مبين.
روى ابن جرير وابن إسحق وابن المنذر أن هذه الآيات وما بعدها إلى نحو ثمانين آية نزلت في نصارى نجران إذ وفدوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانوا نحو ستين راكبا وخاصموه في عيسى ابن مريم و قالوا من أبوه ؟ وقالوا على الله تعالى الكذب والبهتان فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم : " ألستم تعلمون انه لا يكون ولدا إلا وهو يشبه أ باه ؟ قالوا بلى قال ألستم تعلمون أن ربنا حي لا يموت وأن عيسى يأتي عليه الفناء ؟ قالوا بلى قال ألستم تعلمون أن ربنا قيم على كل شيء يكلؤه ويحفظه ويرزقه ؟ قالوا بلى قال فهل يملك عيسى من ذلك شيئا ؟ قالوا لا قال ألستم تعلمون أن ربنا صور عيسى في الرحم كيف شاء وأن ربنا لا يأكل الطعام ولا يشرب الشراب ولا يحدث الحدث ؟ قالوا بلى قال ألستم تعلمون أن عيسى حملته أمه كما تحمل المرأة ثم وضعته كما تضع المرأة ولدها ثم غذي كما يغذي الصبي ثم كان يأكل الطعام ويشرب الشراب ويحدث الحدث ؟ قالوا بلى قال فكيف يكون هذا كما زعمتم فعرفوا ثم أبوا إلا جحودا فأنزل الله :﴿ ألم الله لا إله إلا هو الحي القيوم ﴾ إلى آخر الآيات ".
و وجه الرد عليهم فيها انه تعالى بدأ بذكر التوحيد لينفي عقيدة التثليث بادئ ذي بدء ثم أتبع ذلك بما يؤكده من كونه حيا قيوما أي قامت به السموات والأرض وهي قد وجدت قبل عيسى فكيف تقوم به قبل وجوده.
و يذكر البيضاوي في تفسيره ( أنوار التنزيل وأسرار التأويل ) رواية تفيد أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال : " اسم الله الأعظم في ثلاث سور ( ١١٦ ).
في البقرة : الله لا إله إلا هو الحي القيوم.
و في آل عمران : الله لا إله إلا هو الحي القيوم.
وفي طه : وعنت الوجوه للحي القيوم.
نزل عليك الكتاب يعني القرآن وللقرآن أسماء كثيرة وردت متفرقات في ثنايا الكتاب العزيز فهو القرآن والكتاب والفرقان والذكر... وغير ذلك من الأسماء العديدة التي أوردها السيوطي في كتابه ( الإتقان ) وقد عبر عن القرآن بالكتاب للإيذان بأنه هو الكتاب المتميز الذي ينصرف إليه هذا الاسم عند الإطلاق والألف واللام فيه للعهد أي الكتاب المعهود او الإشارة إلى أنه مشتمل على ما في غيره من الكتب السماوية من المقاصد المشتركة بين الأديان فكأنه جنس الكتب السماوية والألف فيه على هذا للجنس.
﴿ بالحق ﴾ أي بالصدق الذي لا شبهة فيه.
فقد أنزل الله القرآن متلبسا بالحق في جميع صوره من توحيد الله وتنزيهه عن الصاحبة والولد وإخباره عن أحوال الأمم السابقة وشهادته بنبوة محمد صلى الله عليه سلم وبيان ما جاء به من العبادات والمعاملات والأخلاق وأحوال الآخرة فكل هذه الصور من الحق نزل بها القرآن.
﴿ مصدقا لما بين يديه ﴾.
الضمير في يديه يعود على الكتاب، والمعنى أن الكتاب العزيز مصدقا لما قبله من الكتب السماوية التي أنزلها الله على رسله ومحقق لها فيها نزلت به فإن الله سبحانه لم يبعث رسولا قط إلا بالدعوة إلى توحيده والإيمان به وتنزيه عما لا يليق به سبحانه مثل صحف إبراهيم وزبور داود وتوراة موسى.
قال أبو مسلم المراد منه انه تعالى لم يبعث نبيا قط إلا بالدعاء إلى توحيده والإيمان به وتنزيهه عما لا يليق به و الأمر بالعدل والإحسان وبالشرائع التي هي صلاح كل زمان فالقرآن مصدق لتلك الكتب في كل ذلك( ١١٧ ).
﴿ التوراة والإنجيل ﴾ أي أنزل التوراة والإنجيل
التوراة والإنجيل
يقول الأستاذ أبو الأعلى المودودي في تفسير هذه الآيات ما يأتي :
يفهم الناس بوجه عام أن المراد بالتوراة هي الأسفار الخمسة الأولى من العهد القديم ( ١١٩ ) وأن المقصود بالإنجيل أناجيل العهد الجديد الشهيرة( ١٢٠ ) ومن هنا ظهرت هذه المشكلة.
أي هذه الكتب يا ترى هي كلام الله حقا ؟ وهل يصدق القرآن فعلا كل ما ورد فيها من أقوال الحقيقة ان التوراة ليست هي الأسفار الخمسة الأولى من العهد القديم بل هي منشورة في بطنها وأن الإنجيل ليس هو الأناجيل الأربعة بل هو موجود بين سطورها.
فالمراد بالتوراة أصلا تلك الأحكام التي نزلت على موسى عليه السلام منذ بعثته وإلى وفاته أي في مدة ما تقارب اثنين وأربعين عاما كانت منها تلك الوصايا العشر التي دونها الله على ألواح وأعطاها له. أما بقة الأحكام فقد أمر موسى عليه السلام بكتابة اثنتي عشرة نسخة منها وأعطاها لأسباط بني إسرائيل الاثني عشر وأعطى نسخة من هذه النسخ إلى بني لاوي أحد أسباط بني إسرائيل كي يحفظوها وكان هذا الكتاب يسمى بالتوراة وقد ظل سليما محفوظا ككتاب مستقل حتى أول تدمير لبيت المقدس وكانت نسخة بني لاوي والألواح الحجرية توضع في تابوت العهد ويعرفها بنو إسرائيل باسم ( التوراة ) غير أن غفلتهم ونسيانهم وصل إلى حد أنه حين حدث ترميم الهيكل السليماني في عهد ( يوسياه ) ملك يهوذا عثر كبير الكهان على التوراة موضوعة في مكان ما في ( خلقيا ) وأعطاها إلى كاتب الملك كأعجوبة أثرية فأخذها الكاتب وقدمها للملك كاكتشاف مدهش عجيب ( أنظر الملوك الثاني إصحاح ٢٢ من ١٣٠٨ ).
و حين فتح ( بختنصر ) أورشليم وأحرق الهيكل والمدينة بأكملها وسواها بالتراب فقد بنو إسرائيل نسخ التوراة الأصلية التي كانت لديهم أعداد جد قليلة منها وكانوا قد أسدلوا عليها ستائر النسيان.
ثم عادت بقية بنو إسرائيل من الأسر البابلي في عهد الكاهن عزرا ( عزير ) إلى أورشليم وبنى بيت المقدس من جديد دوّن عزرا كل تاريخ بني إسرائيل بعون من بعض أكابر القوم وهو ما يضم الآن الأسفار السبعة عشر الأولى من العهد القديم.
و الأسفار الأربعة من هذا التاريخ التي تحوي سيرة موسى عليه السلام وهي الخروج واللاويين والعدد والتثنية أدرجت فيها آيات التوراة التي كانت في يد عزرا ومعاونية حسب موقعها وفق ترتيب نزولها.
فالتوراة الآن إذن هي تلك الأجزاء المتفرقة التي تتناثر فيها سيرة موسى عليه السلام بين صفحات العهد القديم ونستطيع أن نتبينها من بين هذا السرد التاريخي بعلامة واحدة هي أننا إذا وجدنا مصنف سيرة موسى يقول : قال الله لموسى كذا... أو قال موسى : الرب إلهكم يقول كذا.. فلنعلم ان جزءا من التوراة قد بدأ هنا ثم إذا استؤنف سرد السيرة فنعلم ان هذا الجزء قد انتهى وإذا ما أسهب مصنف التوراة في شرح وتفسير شيء ما في موضع وسط صفحاتها تعذر على المرء العادي أن يميز ما إذا كان هذا الجزء من التوراة أم من الشرح والتفسير ومع ذلك فمن لهم بصيرة في تدبر الكتب السماوية في مقدورهم أن يعرفوا إلى حد ما التفاسير والشروح التي أضيفت وألحقت بهذه الأجزاء على نحو صحيح.
و القرآن يسمى هذه الأجزاء المتناثرة التوراة ويصدقها والحقيقة أننا لو جمعنا هذه الجزاء وقارناها بالقرآن فلن نجد قيد شعرة من الاختلاف في الأحكام الجزئية في بعض المواضع والمتدبر لكليهما اليوم يستطيع أن يحس إحساسا واضحا بأن كلا الرافدين صادر من منبع واحد.
كذلك فالإنجيل في أصله هو تلك الخطب والأقوال التي قالها المسيح عليه السلام حتى آخر عامين أو ثلاثة من حياته بوصفه نبيا من عند الله أما هل كتبت هذه الكلمات الطيبة في حياته أم لا فليس عندنا أي مصدر نستسقي منه المعلومات حول ذلك وقد يجوز ان يكون بعض الناس قد دونوها ويجوز أن بعض المؤمنين به سمعوها وحفظوها شفاهة على أي حال حين كتبت رسائل مختلفة عن سيرته الطاهرة بعد ردح من الزمن أدرجت فيها إلى جانب البيان التاريخي تلك الأقوال والخطب التي وصلت إلى مصنفي هذه الرسائل عن طريق الروايات الشفهية أو المذكرات المكتوبة وكتب متى ومرقص ولوقا و يوحنا التي تسمى اليوم ( أناجيل ) ليست هي الإنجيل الأصلي وإنما الإنجيل الحق أقوال المسيح التي أدرجت بين سطورها وليس لدينا وسيلة للتعرف عليها أو التفريق بينها وبين كلام كتاب سيرة المسيح عليه السلام سوى أنه حين يقول المؤلف قال المسيح كذا أو علم المسيح الناس كذا.. فهذه هي أجزاء الإنجيل الأصلي والقرآن يسمي هذه الأجزاء بالإنجيل ويصدقها ولو جمع امرؤ اليوم هذه الأجزاء المنثورة بين صفحات العهد الجديد وقارنها بالقرآن لما وجد بين كليهما سوى فرق طفيف وحتى هذا الفرق البسيط الذي يدركه من يقوم بهذه المقارنة يمكن حله وإزالته بسهولة ويسر بعد التفكير فيه بعقل بعيد عن التعصب( ١٢١ ).
ذو انتقام : ذو عقوبة شديدة لمن عصاه لا يقدر على العقاب بمثلها أحد.
من قبل القرآن لأجل هدايته الناس حين انزلها على موسى وعيسى فلم يكن فيها شيء من الضلال الذي يشتملان عليه الآن ( ١١٨ ).
و أنزل الفرقان ما يفرق بين الحق والباطل والمعنى الأقرب أن المقصود بالفرقان هو القرآن الكريم وقد ذهب بعض المفسرين إلى أنه فصل بين الحق والباطل في أمر عيسى لأن سورة آل عمران تحدثت في نصفها الأول عن عيسى عليه السلام وبينت حقيقته ونفت ان يكون ابنا لله وناقشت من ذهب إلى تأليهه وذهب مفسرون آخرون إلى أن القرآن فصل بين الحق والباطل في أحكام الشرائع فقد احل الحلال وحرم الحرام وفرض الفرائض وسن الأخلاق الرفيعة...
أخرج ابن جرير عن محمد بن جعفر بن الزبير أنه أي القرآن الفاصل بين الحق والباطل فيما اختلف فيه الأحزاب من أمر عيسى عليه السلام وغيره.
﴿ إن الذين كفروا بآيات الله لهم عذاب شديد ﴾ المراد بالكافرين النصارى الذين نزل صدر السورة بسببهم أو كل كافر فيدخل هؤلاء فيه دخولا أوليا.
و المراد بآيات الله الكتب المنزلة على الرسل او ما يعمها وغيرها كالآيات والمعجزات.
﴿ و الله عزيز ذو انتقام ﴾ العزيز الغالب الذي لا يغلب والانتقام العقوبة وكلمة عزيز للإشارة إلى القدرة التامة على العقاب.
و الجملة سيقت لتقرير الوعيد السابق عليها.
المفردات :
لا يخفي : لا يغيب.
التفسير :
٥- ﴿ إن الله لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء ﴾ إن الله واسع العلم لا يخفى عليه شيء كائن في الأرض ولا في السماء لعلمه بما يقع في العالم من كلي أو جزئي فهو العالم بما كان وما يكون وهو مطلع على كفر من كفر بآيات الله وإيمان من آمن بها وهو مجازيهم عليه والمسيحيون يؤمنون بألوهية عيسى غافلين عن انه بشر محدود المعرفة فكيف يكون إلها ؟.
و عبر عن علمه تعالى بذلك إيذانا بأن علمه سبحانه بالكائنات ولو كانت في أقصى غايات الخفاء ليس من شأنه أن يكون فيه شائبة خفاء بوجه من الوجوه بل هو في غاية الوضوح والجلاء ( ١٢٢ ).
يصوركم : يخلقكم على ما يشاء من صورة.
الأرحام : جمع رحم وهي مكان الحمل مشتق من الرحمة.
هو الذي يمنحكم الصورة التي يشاء ويمنحكم الخصائص المميزة لهذه الصورة وهو وحده الذي يتولى التصوير بمحض إرادته ومطلق مشيئته.
قال أبو السعود في التفسير :
( يصوركم كائنين على مشيئته تعالى تابعين لها في قبول الأحوال المتغايرة من كونكم نطفا ثم علقا ثم مضغا غير مخلقة ثم مخلقة وفي الاتصاف بالصفات المختلفة من الذكورة والأنوثة والحسن والقبح وغير ذلك من الصفات ).
﴿ لا إله إلا ه ﴾ إذ لا يتصف بشيء مما ذكر من الشؤون العظيمة الخاصة بالألوهية أحد ليتوهم ألوهيته.
﴿ العزيز الحكيم ﴾ المتناهي في القدرة والحكمة ولذلك يخلقكم على ما ذكر من النمط البديع.
و في هذه اللمسة تجلية لشبهات النصارى في عيسى عليه السلام ونشأته ومولده فالله هو الذي صور عيسى ( كيف يشاء ) لا إن عيسى هو الرب او هو الابن أو هو الأقنوم اللاهوتي الناسوتي إلى آخر ما انتهت إليه التصورات المنحرفة الغامضة المجانية لفكرة التوحيد.
المفردات :
محكمات : واضحات.
متشابهات : محتملات لعدة معان لا يتضح مقصودها فاشتبه أمرها على الناس.
زيغ : ميل عن الحق إلى الباطل.
ابتغاء الفتنة : طلبا لها.
الراسخون في العلم : الثابتون فيه.
الألباب : العقول الخالصة.
المعنى العام للآية :
هو الذي انزل عليك القرآن وكان من حكمته أن جعل منه آيات محكمات محددة المعنى بينة المقاصد، هي الأصل وإليها المرجع وأخر متشابهات يبق معناها على أذهان كثير من الناس وتشتبه على الراسخين في العلم وقد نزلت هذه المتشابهات لتبعث العلماء على العلم والنظر ودقة الفكر في الاجتهاد وفي البحث في الدين.
و شأن الزائغين عن الحق أن يتبعوا ما تشابه من القرآن رغبة في إثارة الفتنة وهم يؤولون الآيات حسب أهوائهم وهذه الآيات لا يعلم تأويلها الحق إلا الله والذين ثبتوا في العلم وتمكنوا منه وأولئك المتمكنون منه يقولون إننا نوقن بأن ذلك من عند الله لا نفرق في الإيمان بالقرآن بين محكمه ومتشابهه وما يعقل ذلك إلا أصحاب العقول السليمة التي لا تخضع للهوى والشهوة.
و يتعلق بتفسير الآية ما يأتي :
١- المحكم والمتشابه
المحكمات : من أحكم الشيء بمعنى وثقه وأتقنه والمعنى العام لهذه المادة المنع فإن كل محكم يمنع بإحكامه تطرق الخلل إلى نفسه او غيره ومنه الحكم وحكمة الفرس قيل وهي أصل المادة.
و المتشابه : يطلق في اللغة على ما له أفراد أو أجزاء يشبه بعضها بعضا وعلى ما يشتبه من الأمر أي يلتبس قال في الأساس ( وتشابه الشيئان واشتبها وشبهته به وشبهته إياه واشتبهت الأمور وتشابهت :
التبست لأشباه بعضها بعضا وفي القرآن المحكم والمتشابه ).
٢- آراء العلماء في المحكم.
( أ ) هو الحلال والحرام... روى عن ابن عباس ومجاهد.
( ب ) هو ما علم العلماء تأويله...
( ج ) هو ما استقل بنفسه ولم يحتج إلى البيان.
( د ) هو ما لم يحتمل من التأويل إلا وجها واحدا.
( ه ) هو الأمر والنهي والوعد والوعيد والحلال والحرام.
( و ) عن ابن مسعود قال أنزل القرآن على خمسة أوجه :
حرام وحلال ومحكم ومتشابه وأمثال فأحل الحلال وحرم الحرام وآمن بالمتشابه واعمل بالمحكم واعتبر بالأمثال.
( ز ) قال ابن عباس :﴿ هن أم الكتاب ﴾ هن أصل الكتاب اللاتي يعمل عليهن في الأحكام ومجمع الحلال والحرام.
٣- آراء العلماء في المتشابه
( أ ) هو ما لم يكن للعلماء إلى معرفته سبيل كقيام الساعة.
( ب ) هو الحروف المقطعة في فواتح السورة كقوله ﴿ آلم ﴾ ونحو ذلك وقد جاء في تفسير المنار أن المفسرين قد اختلفوا في المحكم والمتشابه على أقوال :
( أحدهما ) أن المحكمات هي قوله :﴿ قل تعالوا اتل ما حرم ربكم عليكم ألا تشركوا به شيئا.. ﴾ ( الأنعام ١٠١ ). إلى آخر الآية والآيتين اللتين بعدها ( ١٢٣ ). والمتشابهات هي التي تشابهت على اليهود وهي أسماء حروف الهجاء المذكورة في أوائل السور.
( ثانيها ) أن المحكم هو الناسخ والمتشابه هو المنسوخ.
( ثالثها ) أن المحكم ما كان دليله واضحا لائحا كدلائل الوحدانية والقدرة والحكمة والمتشابه ما يحتاج في معرفته إلى التدبر والتأمل.
( ورابعها ) أن المحكم كل ما أمكن تحصيل العلم بدليل جلي أو خفي والمتشابه ما لا سبيل إلى العلم به كوقت قيام الساعة ومقادير الجزاء على الأعمال ( ١٢٤ ).
٤- الوقف والوصل
في قوله تعالى :
﴿ و ما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا ﴾.
العلماء في تفسير هذه الآية رأيان :
١- رأى بعض السلف وهو الوقوف على لفظ الجلالة وجعل قوله والراسخون في العلم كلام مستأنف وعلى هذا المتشابه لا يعلم نأو يله إلا الله واستدلوا على ذلك بأمور منها :
( أ ) أن الله ذم الذين يتبعون تأويله.
( ب ) أن قوله :﴿ يقولون آمنا به كل من عند ربنا ﴾ ظاهر في التسليم المحض لله تعالى ومن عرف الشيء وفهمه لا يعبر عنه بما يدل على التسليم المحض.
و هذا رأي كثير من الصحابة رضوان الله عليهم كأبي بن كعب وعائشة.
٢- ويرى بعض آخرون الوقف على لفظ " العلم " ويجعل قوله :﴿ يقولون آمنا ﴾ كلام مسأنف وعلى هذا فالمتشابه يعلمه الراسخون وإلى هذا ذهب ابن عباس وجمهرة من الصحابة وكان ابن عباس يقول أنا من الراسخين في العلم، أنا أعلم تاويله.
وردوا على أدلة الأولين بأن الله تعالى إنما ذم الذين يتبعون التأويل بذهابهم فيه إلى ما يخالف المحكمات يبتغون بذلك الفتنة والراسخون في العلم ليسوا كذلك فإنهم أهل اليقين الثابت الذي لا اضطراب فيه فالله يفيض عليهم فهو المتشابه بما يتفق مع فهم المحكم ( ١٦٥ ) ويشهد لصحة هذا الرأي أمران :
أحدهما : إن الله تعالى ما أنزل القرآن إلا ليعلم به فلا ينبغي أن يكون فيه ألغاز ومعميات لا يمكن فهمها وإدراكها فمتشابهه يجب أن يرد إلى محكمه كما قال تعالى :﴿ هن أم الكتاب ﴾ أي مرجعه عند الاشتباه.
و ثانيهما : أن الله تعالى أثنى على الراسخين في العلم بقوله :﴿ وما يذكر إلا أولوا الألباب ﴾ ففي وصفهم بأنهم أصحاب العقول الخالصة المتذكرة دليل على أنهم استعملوها في كشف المتشابهات والتذكر به.
٥- الحكمة في وجود المتشابه
( أ ) امتحان قلوب المؤمنين في التصديق به.
( ب ) هو حافز للعقول على النظر فيه.
( ج ) البحث في المتشابه ومحاولة فهمه من حظ الخاصة كما ان التسليم والتفويض من حظ العامة
قال الزمخشري : فإن قلت فهلا كان القرآن كله محكما ؟
قلت : لو كان كله محكما لتعلق الناس به لسهولة مأخذه ولأعرضوا عما يحتاجون فيه إلى الفحص والتأمل والنظر والاستدلال ولو فعلوا ذلك لعطلوا الطريق الذي لا يتوصل إلى معرفة الله وتوحيده إلا به ( ١٦٢ ).
و لما في المتشابه من الابتلاء بين الثابت على الحق والتزلزل فيه ولما في تقادح العلماء وإتعاب القرائح في استخراج معانيه ورده إلى المحكم من الفوائد الجلية والعلوم الجمة ونيل الدرجات عند الله ولأن المؤمن المعتقد أن لا مناقضة في كلام الله ولا اختلاف فيه إذا رأى فيه ما يناقض ظاهره وأهمه طلب ما للمحكم ازداد طمأنينة إلى معتقده و قوة إيمانه..
٦- زعم التناقض
زعم النصارى أن القرآن فيه تناقض حين نفي بنوة عيسى لله ثم أثبتها حين ذكر أنه روح منه وهذا زيغ منهم يبتغون به الفتنة فإن المراد من قوله : " وروح منه " أنه صادر من الله فكما أن كل شيء صادر من الله بالخلق والإبداع فكذلك روح عيسى وصدق الله إذ يقول :﴿ لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد ﴾ ( الإخلاص ٣-٤ ).
٧- صفات الله
جاء في القرآن الكريم آيات تدل بظاهرها على ان لله وجها ويدين وجهة في السماء ومكانها هو العرش ونحو ذلك مما يوهم التشبيه والجسمية والانتقال وآيات أخرى تثبت له صفات مختلفة من العلم والقدرة والكلام ونحوها.
وطائفة ثالثة : منها ما يصرح بأنه لا تركه الأبصار ومنها ما يدل على جواز رؤيته تعالى.
فرأى رجال السلف الصالح متابعة الصحابة والتابعين في موقفهم منها.
" فغلبوا أدلة التنزيه لكثرتها ووضوح دلالتها وعلموا استحالة التشبيه وقضوا بأن الآيات من كلام الله فآمنوا بها ولم يتعرضوا لمعناها ببحث ولا تأويل ( ١٢٧ ) وقد سئل الإمام مالك عن معنى قوله تعالى : " الرحمن على العرش استوى " فقال " الاستواء معلوم والكيفية مجهولة والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة " ( ١٢٨ ).
و يقول الدكتور عبد الحليم محمود في تفسير سورة آل عمران :
و نشأت المشكلة حينما بدأ الباحثون يتعرضون للآيات التي وردت في القرآن الكريم والتي توهم التشبيه كاليد والوجه والاستواء أو التي وردت في الأحاديث كالنزول والصورة والأصابع.
بدأت المشكلة حينما تعرض بعض الباحثين لهذه الألفاظ وأمثالها : تأويلا لها أو نفيا لمعناها أو تفسيرا او شرحا... (... والموقف الذي يقفه من أراد متابعة السلف الصالح إذن تجاه كلمات الصورة واليد والنزول إنما هو الإيمان بها مع التنزيه لله تعالى عن الجسمية وتوابعها وليس كمعنى ذلك أن هذه الألفاظ معطلة عن المعنى بل لها معنى يليق بجلال الله وعظمته مما ليس بجسم ولا عرض في جسم وأن يؤمن بأن ما وصف الله تعالى به نفسه أو وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم فهو كما وصفه وحق بالمعنى الذي أراده وعلى الوجه الذي قال وأن لا يحاول لها تفسيرا ولا تأويلا.
و شعار السلف معروف في هذه الكلمات وهو :
" أمروها كما جاءت " - يقول الإمام الرازي في كتابه ( أساس التقديس ) :" إن هذه المتشابهات يجب القطع فيها بأن مراد الله تعالى فيها شيء غير ظواهرها ثم يجب تفويض معناها إلى الله تعالى ولا يجوز الخوض في تفسيرها. ".
إن الأصول الدقيقة للعقيدة والشريعة قاطعة الدلائل مدركة المقاصد وهي أصل هذا الكتاب.
و الذين في قلوبهم زيغ يتركوا الأصول الواضحة ويجرون وراء المتشابه لأنهم يجدون فيه مجالا لإيقاع الفتنة بالتأويلات المزلزلة للعقيدة والاختلافات التي تنشأ عن بلبلة الفكر نتيجة إقحامه فيما لا مجال للفكر في تأويله وأما الراسخون في العلم فيقولون في طمأنينة وثقة آمنا به كل من عند ربنا أي الجميع في المحكم والمتشابه حق وصدق وكل واحد منهما يصدق الآخر ويشهد له وليس شيء من عند الله بمختلف ولا متضاد.
و روى الإمام أحمد ان رسول الله صلى الله عليه وسلم سمع قوما يتدارسون فقال ( إنما هلك من كان من قبلكم بهذا ضربوا كتاب الله بعضه ببعض وإنما أنزل كتاب الله ليصدق بعضه بعضا فلا تكذبوا بعضه ببعض فما علمتم منه فقولوا به وما جهلتم فكلوه إلى عالمه ) ( ١٢٩ ).
المفردات :
لا تزغ قلوبنا : لا تملها عن الحق.
من لدنك : من عندك.
التفسير :
٨- ﴿ ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إن هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب ﴾.
هذه الآية من تتمة كلام الراسخين في العلم فهو أمام المتشابه من القرآن يؤمنون به ويصدقون بأنه كلام الله وينحنون بعقولهم أمام كلام ربهم قائلين آمنا به كل من عند ربنا ثم يسترسلون في الدعاء سائلين الله الثبات على الحق والاستمرار على الهدى ولكن لن يكون ذلك إلا بتوفيق الله لهم.
و يذهب الشريف الرضى في تفسيره هنا إلى أنه دعاء بالتثبيت على الهداية وإمدادهم بالألطاف التي معها يستمرون على الإيمان وعلى طريق المعتزلة يسوق الشريف تفسيره في نطاق جدلي ينتهي إلى الجواب السليم فيجري تساؤلا بقوله وكيف يكون مزيغا لقلوبهم بألا يفعل اللطف ؟ ثم يتولى الإجابة قائلا :
من حيث كان المعلوم له متى قطع إمدادهم بألطافه وتوفيقه زاغوا وانصرفوا عن الإيمان ويمضي شارحا ضاربا المثل قائلا : ويجري هذا مجرى قولهم :
اللهم لا تسلط علينا من لا يرحمنا ومعناه لا تخل بيننا وبين من لا يرحمنا فيتسلط علينا.
﴿ و هب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب ﴾ هم يعرفون أنهم لا يقدرون على شيء إلا بفضل الله ورحمته وإنهم لا يملكون قلوبهم فهي في يد الله... فيتجهون إليه بالدعاء أن يمدهم بالعون والنجاة.
روى ابن أ بي حاتم عن سلمة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول " يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك " ( ١٣٠ ) ثم قرأ :﴿ ربنا لا تزغ قلوبنا بعد أن هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب ﴾.
الوهاب : كثير الهبات والعطايا أي إنك أنت وحدك الوهاب لكل موهوب وفيه دليل على أن الهدى بتوفيق الله والضلال بعدم الإعانة منه لتقصير العبد في سلوكه سبيله وأنه المتفضل بما ينعم على عباده من غير أن يجب عليه شيء.
ليوم لا ريب فيه : ليوم لا يصح أن يشك فيه وهو يوم القيامة.
أي أنت يا ربنا جامع المهتدين والزائغين لحسابهم وجزائهم في يوم لا ينبغي لأن يرتاب ي وقوعه ليجزي كل إنسان بما عمله في الدنيا من خير وشر.
﴿ إن الله لا يخلف الميعاد ﴾ : هذه الجملة من كلام الله بعد أن تم كلام الراسخين في العلم كأن القوم لما قالوا :" إنك جامع الناس ليوم لا ريب فيه " صدقكم الله في ذلك وأيد كلامكم بقوله " إن الله لا يخلف الميعاد " وقيل هو كلام الراسخين.
و المعنى على هذا :
إنك لا تخلف وعدك للمسلمين والكافرين بالثواب والعقاب.
و التأكيد بإن وإظهار لفظ الجلالة بدلا من الضمير يفيد التأكيد نفي الريب كما يفيد تأكيد قيام الساعة تأكيدا حاسما.
المفردات :
وقود النار : وقود النار بالفتح ما توقد وبالضم الاشتعال.
التفسير :
١٠- ﴿ إن الذين كفروا لن تغني عنهم أموالهم ﴾ التي يبذلونها في جلب المنافع ودفع المضار. ﴿ و لا أولادهم ﴾ الذين بهم ستناصرون وعليهم يعتمدون.
﴿ من الله شيء ﴾ أي من عذاب الله شيئا من الإغناء أي لن تدفع عنهم شيئا من عذابه.
قال الله تعالى :﴿ يوم لا ينفع مال ولا بانون إلا من أتى الله بقلب سليم ﴾. ( الشعراء ٨٨- ٨٩ ).
﴿ و أولئك هم وقود النار ﴾ بفتح الواو أي حطبها وقرئ بالضم بمعنى أهل وقودها وأكثر اللغويين على أن الضم للمصدر أي التوقد والفتح للحطب.
وقال الزجاج المصدر مضموم ويجوز فيه الفتح وهذا كقوله تعالى : إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم أنتم لها واردون ( الأنبياء ٩٨ ).
المفردات :
كدأب : الدأب العادة والصنيع والحال والشأن والأمر.
التفسير :
قال ابن عباس كصنيع آل فرعون أو كسنة آل فرعون وكفعل آل فرعون وكشبه آل فرعون والألفاظ متقاربة.
و الدأب بالتسكين والتحريك أيضا كنهر ونهر الصنيع والحال والشأن والأمر والعادة كما يقال لا يزال هذا دأبي ودأبك.
و قال امرؤ القيس :
كدأب من أم الحويرث قبلها | وجارتها ام الرباب بمسأل |
و المعنى في الآية :
لن تغني عن هؤلاء الكفار أموالهم ولا أولادهم شأنهم في هذا شأن آل فرعون حيث لم تغن عنهم ما ملكوه من أموال طائلة وما أنجبوه من أبناء عديدين فأغرقوا وأدخلوا نارا بسبب كفرهم وكما دخلوا النار بكفرهم فسيدخلها كل كافر مفسد.
و الذين من قبلهم أي الأمم الكافرة التي كذبت الرسل.
﴿ كذبوا بآياتنا ﴾ وبيان تفسير لدأبهم الذي فعلوا على طريقة الاستئناف المبني على السؤال المقدر.
و الآيات : المعجزات والبراهين التي أيد بها الر سل أو الأدلة على وجود الله ووحدانيته أو هما معا.
فأخذهم الله بذنوبهم أي عاقبهم وأهلكهم بسببها وقد استعمل الأخذ لأن من ينزل به العقاب يصير كالمأخوذ المأسور الذي لا يقدر على التخلص.
﴿ و الله شديد العقاب ﴾ أي الأخذ بالذنب فيه تهويل للمؤاخذة وزيادة تخويف للكفرة وهو تذليل مقرر لمضمون ما قبله من الأخذ للجميع وتكلمة له
المفردات :
المهاد : الفراش.
سبب النزول :
روى أبو داود في سننه ووالبيهقي في الدلائل عن طريق ابن إسحق عن ابن عباس : " أن الرسول صلى الله عليه وسلم لما أصاب من بدر ورجع إلى المدينة جمع اليهود في سوق بني قينقاع وقال : يا معشر اليهود أسلموا قبل أن يصيبكم الله بما أصاب قريشا فقالوا يا محمد لا يغرنك من نفسك أن قتلت نفرا من قريش : كانوا أغمارا لا يعرفون القتال إنك والله لو قاتلتنا لعرفت أنا نحن الناس وانك لم تكن مثلنا.. ؛ فأنزل الله :﴿ قل للذين كفروا ستغلبون وتحشرون إلى قوله لأولي الأبصار ﴾ وحكم الآية يعم جميع الكافرين نزلت بسبب اليهود :
المعنى : قل يا محمد لهؤلاء الكفار ستغلبون – ألبتة - عن قريب وستحشرون بعد موتكم إلى جهنم وبئس الفراش جهنم التي مهدتموها لأنفسكم بذنوبكم وآثامكم.
و التعبير عن جهنم بالمهاد للتهكم بهم فإن المهاد هو الفراش الذي يمهد ليستراح عليه ولا مهاد ولا راحة في السعير وقد صدق الله وعده بقتل يهود بني قريظة ( ١٣١ ) وإجلاء بني النضير وفتح خبير ( ١٣٢ ) و ضرب على من عاداهم وهو من أوضح شواهد النبوة حيث أخبر القرآن به قبل وقوعه.
المفردات :
آية : الآية هنا العبرة والموعظة.
فئة : الفئة الطائفة من الناس.
الأبصار : البصائر والعقول.
التفسير :
١٣- ﴿ قد كان لكم في فئتين التقتا... ﴾
أي قل لأولئك اليهود الذين غرتهم أموالهم واعتزوا بأولادهم وأنصارهم لا تغرنكم كثرة العدد ولا المال والولد فليس هذا سبيل النصر والغلب فالحوادث التي تجري في الكون أعظم دليل على تفنيد ما تدعون.
انظروا إلى الفئتين اللتين التقتا يوم بدر فئة قليلة من المؤمنين تقاتل في سبيل الله كتب لها الفوز والغلب على الفئة الكثيرة من المشركين.
و في هذا عبرة أيما عبرة لذوي البصائر السليمة التي استعملت العقول في ما خلقت لأجله من التأمل في الأمور والاستفادة منها.
و وجه العبرة في هذا أن هناك قوة فوق جميع القوى التي تؤيد الفئة القليلة فتغلب الفئة الكثيرة بإذن الله.
﴿ فئة تقاتل في سبيل الله ﴾ أي فئة مؤمنة في أعلى درجات الإيمان تجاهد في سبيل الله لإعلاء كلمة الله وحماية الحق والدفاع عن الدين وأهله.
﴿ وأخرى كافرة ﴾ أي فئة أخرى كافرة، والمراد بها كفار قريش. وكان المسلمون في بدر ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلا معهم فرسان وستة أدرع وثمانية سيوف، وأكثرهم رجالة. وكان المشركون قريبا من ألف.
﴿ يرونهم مثليهم ﴾ أي يرى المشركون المسلمين مثلي عدد المشركين قريبا من ألفين أو مثلي عدد المسلمين. والمراد من الرؤية الظن والحسبان وقد كثر الله المسلمين في أعين المشركين ليهابوهم فيحترزوا عن قتالهم أو انزل الله الملائكة حتى صار عدد المسلمين كثيرا في نظر المشركين.
رأي العين. أي رؤية ظاهرة لا لبس فيها.
لقد كنت هناك مواقف مختلفة للمعركة فقبل المعركة قلل الله المسلمين في أعين المشركين حتى يجترئوا عليهم كما قلل الله المشركين في أعين المسلمين ويقينهم بالنصر.
قال تعالى :﴿ و إذ يريكموهم إذ التقيتم في أعينكم قليلا ويقللكم في أعينهم ليقضي الله أمرا كان مفعولا وإلى الله ترجع الأمور ﴾ ( الأنفال ٤٤ ).
فلما بدأت المعركة والتحم الجيشان كثر عدد المسلمين في أعين الكفار ليهابوهم وتتزلزل أقدامهم فيفشلوا وينهزموا.
و يحتمل أن المسلمين كثروا أولا في أعين المشركين ليحصل لهم الرعب والخوف والجزع والهلع ثم لما حصل اتصاف والتقى الفريقان قلل الله هؤلاء في أعين هؤلاء ليقدم كل منهما على الآخر ليقضي الله أمرا كان مفعولا.
ومضمون الآيات يرجع الرأي الأول والعبرة أنه كان هناك تقليل للعدد في مواطن وتكثير للعدد في مواطن أخرى من المعركة وان ذلك كان سبيلا من سبل النصر.
﴿ والله يؤد بنصره من يشاء ﴾ والله يقوى بنصره وعونه من يشاء من عباده فالنصر والظفر إنما يحصلان بتأييد الله ونصره لا بكثرة العدد ولا بقوة الشوكة ولا بقوة السلاح وقد تقف بعض العقبات في طريق النصر ولكن العاقبة دائما للمتقين.
﴿ إن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار ﴾ إن في التكثير والتقليل وغلبة القليل مع عدم العدة على الكثير الشاكي السلاح ﴿ لعبرة ﴾ أي لاعتبارا وآية وموعظة ﴿ لأولي الأبصار ﴾ لذوي العقول والبصائر.
المفردات :
حب الشهوات : حب المشتهيات للنفس.
المقنطرة : المجمعة أو المضعفة.
المسومة : الراعية في المرعى مأخوذ من سوم خيله إذا أرسلها في المرعى أو المطهمة الحسان.
و الأنعام : الإبل والبقر والغنم والمعز. والحرث : مصدر مراد به المزروع.
التفسير :
في آية واحدة يجمع السياق القرآني أحب شهوات الأرض إلى نفس الإنسان : النساء والبنين والأموال المكدسة والخيل والأرض الخضراء والأنعام.. وهي خلاصة الرغائب الأرضية إما بذاتها وإما بما تستطيع أن توفره لأصحابها من لذائذ أخرى.
و قد بدأت الأية أنواع المشتهيات بقولها :
١ – ﴿ من النساء ﴾ وقدمهن على الكل لأن التمتع بهن أكثر والاستئناس بهن أتم إذ يحصل منهن أتم اللذات.
٢- البنين المراد بهم الأولاد الذكور للتكثر بهم والتفاخر والزينة و قيل المراد بهم الأولاد مطلقا كما قال تعالى :﴿ إنما أولادكم وأموالكم فتنة ﴾ ( الأنفال ٢٨ ) وفي الحديث ( الولد مجبنة مبخلة ) ( ١٣٣ ) والعلة في حب الزوجة وحب الولد واحدة وهي تسلسل النسل وبقاء النوع وهي حكمة مطردة في غير الإنسان من الحيوانات الأخرى.
وقدم حب النساء على حب الأولاد مع ان حبهن قد يزول وحب الأولاد لا يزول لأن الولد يعظم فيه الغلو والإسراف كحب المرأة فكم من رجل جنى حبه للمرأة على أولاده وكم من غني عزيز يعيش أولاده عيشة الذل والفقر بسبب حب والدهم لغير أمهم.
٣- ﴿ و القناطير المقنطرة ﴾ أي الأموال الكثيرة من الذهب والفضة والقناطير جمع قنطار ويطلق أحيانا على المال الكثير بغير عدد وقد يستعمل في مقدار كثير معين من المال وهو ١٢ ألف أوقية.
وفي القاموس القنطار مائة رطل من الذهب والفضة ووصف القناطير بالمقنطرة للمبالغة فمن عادة العرب ان يصفوا الشيء بما يشتق منه للمبالغة كقولهم ألوف مؤلفة وبدر مبدرة وإبل مؤبلة ودراهم مدرهمة وظل ظليل.
و نهم المال هو الذي ترسمه القناطير المقنطرة ولو كان يريد مجرد الميل إلى المال لقال والأموال أو الذهب او الفضة ولكن القناطير المقنطرة توحي بالنهم الشديد لتكديس الأموال ذلك ان التكديس ذاته شهوة. بغض النظر عما يستطيع المال توفيره لصاحبه من الشهوات الأخرى.
و حب المال غريزة فطرية وقد يبلغ النهم بالإنسان في جمع المال ان ينسى ان المال وسيلة لا مقصد فيفتن في الوصول إليه الفنون المختلفة ولا يبالي أمن حلال كسب ام من حرام.
و قد أباح الإسلام الملكية ولكنه هذبها وقلم أظافرها واوجب ان يكون تملك المال لمن طرق سليمة كما أوجب فيه الزكاة وغير ذلك من الواجبات وبذلك يكون المال نعمة لا نقمة فنعم المال الصالح للرجل الصالح.
روى البخاري ومسلم عن ابن عباس أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال ( لو كان لابن آدم واديان من ذهب لتمنى أن يكون لهما ثالث ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب ويتوب الله على من تاب ) ( ١٣٤ ).
٤- والخيل المسمومة : التي ترعى في الأودية يقال سام الدابة رعاها وأسامها أخرجها إلى المرعى كما قال تعالى :﴿ منه شراب ومنه شجر فيه تسيمون ﴾. ( النحل ١٠ ).
و قال ابن جرير : المسومة المعلمة التي عليها السيمياء وهي العلامة.
و قال أبو مسلم : المراد من هذه العلامات الأوضاح والغرر التي تكون في الخيل وهي أن تكون الأفراس غرا وقال النابغة :
بسمر كالقداح مسموات | عليها معشر أشباه جن |
و كل من الخيل الراعية التي تقتني للتجارة والمطهمة التي يقتنيها الكبراء والأغنياء للمفاخرة من متاع الدنيا الذي يتنافس فيه. ومن الناس من يغلو في حب الخيل وأشباهها حتى يفوق عنده كل حب.
٥ – والأنعام وهي الإبل والبقر والغنم، والأنعام مال أهل البادية بها ثروتهم وفيها تكاثرهم وتفاخرهم ومنها معايشهم ومرافقهم.
و قد امتن الله بالأنعام على عباده فقال :
﴿ و الأنعام خلقها لكم فيها دفء ومنافع ومنها تأكلون ولكم فيها جمال حين تريحون وحين تسرحون وتحمل أثقالكم إلى بلد لم تكونوا بالغيه إلا بشق الأنفس إن ربكم لرءوف رحيم والخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينة ويخلق الله ما لا تعلمون ﴾ ( النحل ٥- ٨ ).
٦- والحرث : أي الزرع والنبات والشجر على اختلاف أنزاعه وهو قوام حياة الإنسان والحيوان في البدو والحضر.
﴿ ذلك متاع الحياة الدنيا ﴾ أي ذلك الذي ذكر من الأنواع الستة هو ما يستمتع به الناس في حياتهم الدنيا أي الأولى.
﴿ و الله عنده حسن المآب ﴾. والله عنده المرجع في الحياة الآخرة التي تكون بعد موت الناس وبعثهم لا ينبغي لهم ان يجعلوا كل همهم في هذا المتاع القريب العاجل بحيث يشغلهم عن الاستعداد لما هو خير منه في الآجل.
و الإسلام دين وسط فهو لم يحرم التمتع بالطيبات فإن التمتع بها حلال كما قال سبحانه :﴿ قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة ﴾ ( الأعراف ٣٢ ). فالزوجة الصالحة نعمة والدنيا متاع وخير متاعها الزوجة الصالحة.
و الابن الصالح نعمة والمال نعمة وهو وسيلة لإخراج الزكاة والصدقة وكذلك الخيل والأنعام والحرث.
و لكن على المؤمن ألا يشتغل بها عن طاعة الله وألا يجعلها أكبر همه أو شاغلا له عن آخرته.
فإذا اتقى ذلك واستمتع بها بالقصد والاعتدال فهو السعيد في الدارين.
و من دعاء المؤمنين :
﴿ ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار ﴾ ( البقرة ٢٠١ ).
المفردات :
أؤنبكم : الهمزة للاستفهام والمراد منه التنبيه والتشويق إلى ما ينبئهم به والإنباء الإخبار فكأنه يقول إني مخبركم بخبر يستدعي انتباهكم وشوقكم إلى سماعه فاستمعوا إليه.
و أزواج مطهرة : زوجات مطهرة من الأدناس حسية ومعنوية.
و رضوان : الرضوان الرضا العظيم.
التفسير :
١٥- ﴿ قل أؤنبكم بخير من ذلكم للذين اتقوا عند ربهم جنات تجري من تحتها الأنهار... ﴾
بعد ان بين سبحانه زخارف الدنيا وزينتها وذكر ما عنده من حسن المآب إجمالا أمر رسوله بتفصيل ذلك المجمل للناس مبالغة في الترغيب.
و المعنى قل لقومك وغيرهم أأخبركم بخير ما تقدم ذكره من النساء والبنين إلى آخره وجيء بالكلام على صورة الاستفهام لتوجيه النفوس إلى الجواب وتشويقها إليه وقوله خير يشعر بأن تلك الشهوات خير في ذاتها ولا شك في ذلك إذ هي من اجل النعم التي أنعم بها على الناس وإنما يعرض الشر فيها كما يعرض في سائر نعم الله على عباده كالحواس والعقول وغيرها.
ثم أجابهم عن هذا الاستفهام المشوق فقال :
﴿ للذين اتقوا عند ربهم جنات تجري من تحتها الأنهار... ﴾
جعل ما أعد للمتقين من الجزاء على التقوى نوعين :
نوعان جسمانيا نفسيا وهو الجنات وما فيها من الخيرات والأزواج المطهرات.
ونوعا روحيا عقليا وهو رضوان الله تعالى.
قال القاسمي :
و للذين اتقوا خبر المبتدأ الذي هو : جنات.
و تجري صفة لها عند ربهم صفة للجنات في الأصل قدم فانتصب على الحال والعندية مقيدة لكمال علو رتبة الجنات وسمو طبقتها.
﴿ تجري من تحتها الأنهار ﴾ من أنواع الأشربة من العسل واللبن والخمر والماء وغير ذلك مما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر ( ١٣٥ ).
﴿ خالدين فيها ﴾ أي ماكثين فيها ابدا لا يبغون عنها حولا.
﴿ و أزواج مطهرة ﴾ من الدنس والخبث والأذى والحيض وغير ذلك مما يعتري نساء الدنيا.
﴿ و رضوان من الله ﴾ أي يحل عليهم رضوان من الله أكبر هو الفوز العظيم ( التوبة ٧٢ ).
روى الشيخان عن أبي سعيد الخدري أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال : " إن الله عز وجل يقول لأهل الجنة يا أهل الجنة فيقولون لبيك ربنا وسعديك فيقول هل رضيتم ؟ فيقولون ومالنا لا نرضى وقد أعطيتنا ما لم تعط أحدا من خلقك ؟ فيقول أنا أعطيكم أفضل من ذلك قالوا يا ربنا وأي شيء أفضل من ذلك ؟ يقول أحل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم بعده أبدا " ( ١٣٦ ).
﴿ و الله بصير بالعباد ﴾ أي عالم بمصالحهم فيجب أن يرضوا لأنفسهم ما اختار لهم من نعيم الآخرة وأن يزهدوا فيما زهدهم فيه من أمور الدنيا.
التفسير
هؤلاء المتقون هم الذين يقولون : ربنا إننا صدقنا بالذي أنزلته على رسولك محمد وسائر من سبقه من الرسل فاغفر لنا ذنوبنا واحفظنا من عذاب النار. قال الحاكم في الآية دلالة على أنه يجوز للداعي أن يذكر طاعته وما تقرب به إلى الله ثم يدعو ويؤيده ما في الصحيحين من حديث أصحاب الغار ( ١٣٧ ) وتوسل كل منهم بمصالح عمله ثم تفريج الباري تعالى عنهم.
المفردات :
و القانتين : والمطيعين لله والخاضعين له المقربين بعبوديتهم له.
بالأسحار : الأسحار جمع سحر وهو آخر الليل قبيل الفجر.
التفسير :
الصابرين : على البأساء والضراء وحين البأس.
و الصادقين : في إيمانهم وأقوالهم ونياتهم.
و القانتين : المطيعين لله الخاضعين له.
والمنفقين : أموالهم في حقوق الله تعالى وحقوق ذويهم في أنواع البر التي ندبهم الله ورسوله إليها.
و المستغفرين بالأسحار أي هم يعبدون الله ويصلون بالليل وفي آخر الليل يستغفرون الله تعالى والأسحار جمع السحر وهو الهزيع الأخير من الليل قبل الفجر.
روى ابن جرير عن حاطب قال سمعت رجلا في السحر في ناحية المسجد وهو يقول يا رب أمرتني فأطعتك وهذا السحر فاغفر لي فنظرت فإذا هو ابن مسعود وثبت في صحيح البخاري ومسلم وغيرهما من المسانيد والسنن من غير وجه عن جماعة من الصحابة أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال " ينزل ربنا تبارك وتعالى كل ليلة إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الأخير يقول : من يدعوني فأستجيب له ؟ من يسألني فأعطيه ؟ من يستغفر لي فأغفر له ؟ " ( ١٣٨ ).
و في رواية لمسلم : " ثم يبسط يديه تبارك وتعالى ويقول من يقرض غير عدوم ولا ظلوم ؟ " وفي رواية " حتى ينفجر الفجر ".
" ويروي أن بعض الصالحين قال لابنه : يا بني لا يكن الديك أحسن منك ينادي بالأسحار كونه وقت غفلة الناس عن التعرض للنفحات الرحمانية والألطاف الإلهية وعند ذلك تكون العبادة أشق والنية خالصة والرغبة وافرة مع قربه تعالى وتقدس من عباده ".
قال السيوطي : في الآية فضيلة الاستغفار في السحر وأن هذا الوقت أفضل الأوقات وقال الرازي : واعلم أن الاستغفار بالسحر له مزيد أثر في قوة الإيمان وفي كل العبودية " ( ١٣٩ ).
لطيفة :
قال الزمرخشي : الواو المتوسطة بين الصفات للدلالة على كمالهم في كل واحدة منها.
المفردات :
﴿ شهد الله ان لا إله إلا هو ﴾ : أي بين لعباده ذلك بالأدلة الواضحة فكأن ذلك منه شهادة وأي شهادة أما شهادة الملائكة وأولى العلم فهي إقرارهم بذلك.
قائما بالقسط : أي قائما بالعدل في تدبير الكون.
التفسير :
١٨- ﴿ شهد الله ان الإله إلا هو ﴾ أي علم وأخبر او قال أو بين أنه لا معبود حقيقي سوى ذاته العلية وتطلق هذه الشهادة على ما أقامه القرآن من الأدلة على وحدانيته كقوله تعالى :﴿ لو كان فيهما ألهة إلا الله لفسدتا ﴾ ( الأنبياء ٢٢ ).
و قوله عز شأنه :﴿ قل هو الله أحد ﴾ ( الإخلاص ١ ).
و قوله تعالى :﴿ فاعلم انه لا إله إلا الله ﴾ ( محمد ١٩ ).
و كما شهد الله بأنه لا إله إلا هو فقد شهد الملائكة الذين ﴿ لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون ﴾ ( التحريم ٦ ).
و كذلك أصحاب العلم والفكر السديد من الأنبياء والمرسلين وممن آمن بهم وكل من فكر في آيات الله الكونية فآمن به هؤلاء جميعا شهدوا لله بالوحدانية حال كونه قائما بالقسط والعدل في تدبيره للكون فبعدله قامت السموات والأرض.
... والعدل هنا هو الحكمة في التدبير الذي استقامت به أمور الكون.
﴿ لا إله إلا هو ﴾ لا يصدر عنه شيء إلا على وفق الاستقامة.
( وقال العارف الشعراني في الكتاب " الجواهر والدرر " سألت أخي أفضل الدين لم شهد الحق تعالى لنفسه بأنه لا إله إلا هو ؟ فقال :
لينبه عباده على غناه عن توحيدهم له وإنه هو الموحد نفسه بنفسه فقلت له فلم عطف الملائكة على نفسه دون غيرهم ؟ فقال : لأن علمهم بالتوحيد لم يكن حاصلا من النظر في الأدلة كالبشر وإنما كان علمهم بذلك حاصلا من التجلي الإلهي وذلك أقوى العلوم وأصدقها، فلذلك قدموا في الذكر على أولي العلم وأيضا فإن الملائكة واسطة بين الحق وبين رسله فناسب ذكرهم في الوسط فاعلم ذلك " ( ١٤٠ ).
المفردات :
بغيا بينهم : ظلما قائما فيهم وحسدا موجودا في بيئتهم.
التفسير :
١٩ – ﴿ إن الدين عند الله الإسلام... ﴾ الإسلام هنا معناه إخلاص الوجه لله تعالى فاليهودية إسلام في مدتها والمسيحية إسلام في فترتها والرسالة المحمدية إسلام بمعنى إخلاص الوجه لله والامتثال لطاعته.
و تسمية أتباع الدين الإسلامي في العصر الحاضر بالمسلمين كانت تسمية سابقة على وجودهم الزمني قال تعالى :﴿ و جاهدوا في الله حق جهاده هو اجتنابكم وما جعل عليكم في الدين من حرج ملة أبيكم إبراهيم هو سماكم المسلمين من قبل وفي هذا ليكون الرسول شهيدا عليكم وتكونوا شهداء على الناس ﴾. ( الحج ٧٨ ).
و إذا تتبعنا المعنى اللغوي لكلمة إسلام والمعنى الشرعي لها خرجنا بالنتائج الآتية :
- إن الدين وإسلام الوجه لله والتوحيد والإسلام كلها بمعنى واحد يفسر بعضها بعضا ويشرح بعضها بعضا.
- إن جوهر الشخصية الإسلامية أو شخصية المسلم في إسلام الوجه لله والتوحيد أو التدين الصادق أو الإسلام.
يقول ابن الأنباري المتوفى سنة ٣٢٨ه في المعنى اللغوي للإسلام : المسلم معناه المخلص لله في عباداته من قولهم سلم الشيء لفلان خلص له فالإسلام معناه إخلاص الدين والعقيدة لله تعالى.
و الإسلام لا يشير إلى شخص معين ولا إلى شعب معين ولا إلى إقليم معين ولا يحد بالبعثة المحمدية فرسالة نوح وإبراهيم وموسى وعيسى هي الإسلام بنص القرآن الكريم.
قال تعالى :﴿ ما كان إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا ولكن كان حنيفا مسلما وما كان من المشركين ﴾ ( آل عمران ٦٧ ).
ومن دعاء يوسف الصديق :
﴿ رب قد آتيتني من الملك وعلمتني من تأويل الأحاديث فاطر السموات والأرض أنت وليي في الدنيا والآخرة توفني مسلما وألحقني بالصالحين ﴾. ( يوسف ١٠١ ).
- و قال سيدنا موسى لقومه :
﴿ يا قوم إن كنتم آمنتم بالله فعليه توكلوا إن كنتم مسلمون ﴾ ( يونس ٨٤ ).
و في شأن عيسى يقول القرآن الكريم :
﴿ فلما أحس عيسى منهم الكفر قال من أنصاري إلى الله قال الحواريون نحن أنصار الله آمنا بالله واشهد بأنا مسلمون ربنا آمنا بما أنزلت واتبعنا الرسول فاكتبنا مع الشاهدين ﴾ ( آل عمران ٥٢- ٥٣ ).
معنى الآية :
إن الملة المرضية عند الله هي الإسلام فلا يقبل من احد دين غيره بعد رسالة محمد صلى الله عليه وسلم فقد أرسله مصدقا لما سبقه من الرسل والكتب ومهيمنا عليها يقر صحيحها ويقوم عوجها وينسخ ما قبله من الأديان والشرائع.
و كما أن الإسلام هو دين هذه الأمة الذي رضيه لها فهو دين جميع الانبياء والمرسلين وأممهم من قبل محمد صلى الله عليه وسلم فهو دين دائما في جميع الأزمان لاشتماله على توحيده تعالى وتنزيهه عن الصاحبة والولد واحتوائه على أصول الشرائع المشتركة بينهما... أما الفروع فإنها مختلفة باختلاف الأمم قال تعالى :﴿ لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا ﴾ ( المائدة ٤٨ ).
فإن ما يصلح منها لأمة لا يصلح لأمة أخرى.
" فالصيام مشروع في جميع الأديان ولكن كيفيته تختلف باختلاف الأمم والميراث مشروع في جميع الشرائع ولكن كيفيته تختلف باختلاف الأمم وهكذا الامر بالنسبة لباقي الأحكام " ( ١٤١ ).
﴿ وما اختلف الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم ﴾ لقد أخذ الله الميثاق على الانبياء والرسل أن يصدق بعضهم بعضا وان يؤمنوا بالنبي صلى الله عليه وسلم عند ظهروه وكان اليهود يبشرون بنبي سيظهر ويستفتحون به ويدعون الله أن ينصرهم بسببه.
و من دعاء اليهود في حروبهم مع المشركين :
( اللهم افتح علينا وانصرنا بالنبي المبعوث آخر الزمان ).
و كانوا يقولون لأعدائهم المشركين :
قد أظل زمان بنبي يخرج بتصديق ما قلنا فنقتلكم معه قتل عاد وإرم.
فلما ظهر الإسلام آمن بعضهم كعبد الله بن سلام وزيد ابن سعنة من أحبار اليهود وكفر أكثرهم من بعد ما جاءهم العلم اليقيني بأنه الحق إذ جاء الإسلام ونبيه وفق أوصافه ونعوته في كتبهم.
و ما كان اختلافهم فيه - من بعدما آتاهم العلم - إلا بغيا وحسدا.
قال تعالى :﴿ أم يحسدون الناس على ما أتاهم الله من فضله فقد آتينا آل إبراهيم الكتاب والحكمة وآتيناهم ملكا عظيما ﴾ ( النساء ٥٤ ).
﴿ بغيا بينهم ﴾ أي حسدا كائنا بينهم وطلبا للرئاسة وهذا تشنيع عليهم إثر تشنيع.
﴿ و من يكفر بآيات الله فإن الله سريع الحساب ﴾.
المعنى :
و من يجحد آيات الله الشاهدة بالإسلام هو الدين عند الله فإنه تعالى يجازيه ويعاقبه على كفره عن قريب فإنه سريع الحساب.
قال أبو السعود في التفسير :
﴿ فإن الله سريع الحساب ﴾ قائم مقام جواب الشرط علة له أي ومن يكفر بآياته تعالى فإن حسابه يأتي عن قريب أو يتم حسابه بسرعة فإن الله سريع الحساب.
و إظهار الجلالة لتربية المهابة وإدخال الروعة وفي ترتيب العقاب على مطلق الكفر بآياته تعالى من غير تعرض لخصوصية حالهم من كون كفرهم بعد إتيان الكتاب وحصول الاطلاع على ما فيه وكون ذلك للبغي دلالة على كمال شدة عقابهم ( ١٤٢ ).
المفردات :
فإن حاجوك : أي جادلوك.
أسلمت وجهي لله : أخلصت ذاتي ونفسي له تعالى.
و الأميين : المراد بهم من لا يكتبون من مشركي العرب من غير الكتابيين لشيوع الأمية فيهم.
المعنى :
فإن جادلك اهل الكتاب أو جميع الناس في الدين بعد ما جاءهم العلم به وظهرت لهم براهينه فقل لهم أسلمت وجهي لله أي أخلصت ذاتي ونفسي له ومن آمن معي اخلصوا له أنفسهم كذلك.
و إطلاق الوجه على الذات كلها لأنه ترجمان النفس وعليه تظهر آثارها وهو من إطلاق اسم الجزء على الكل لأهميته.
و المراد من الآية أن الله تعالى أمر نبيه صلى الله عليه وسلم أن يقول لأهل الكتاب ذلك ليعلموا أنه ليس مسئولا عن انحرافهم وكفرهم وان تبعة ذلك عليهم وحده وانه سائر في طريق عبادة الله تعالى وحده هو وأتباعه دون اكتراث بضلالهم لأن المحاجة والجدل معهم لا فائدة فيهما بعدما جاءهم العلم بأن ما عليه هو الحق.
﴿ و قل للذين أوتوا الكتاب والأميين أأسلمتم.. ﴾ أي قل يا محمد لأهل الكتاب من اليهود والنصارى. والأميين أي الذين لا كتاب لهم وهم مشركو العرب الذين عرفوا بهذا الوصف لعدم معرفة سوادهم الأعظم القراءة والكتابة قل لهم هل أجدى معكم هذا وأسلمتم متبعين لي كما فعل المؤمنون أم انتم بعد على الكفر.
قال الزمخشري : " يعني أنه أتاكم من البينات ما يوجب الإسلام ويقتضي حصوله لا محالة فهل أسلمتم ؟ أم أنتم بعد على كفركم ؟ وهذا كقولك لمن لخصت له المسألة ولم تبق من طرق البيان والكف طريقا إلا سلكته هل فهمتها ؟ ومنه قول الله عز وجل وعلا ﴿ فهل انتم منتهون ﴾ ( المائدة ٩١ ). بعدما ذكر الصوارف عن الخمر والميسر وفي هذا الاستفهام استقصار وتعيير بالمعاندة وقلة الانصاف لأن المنصف إذا تجلت له الحجة لم يتوقف إذعانه للحق انتهى.
﴿ فإن أسلموا فقد اهتدوا ﴾ أي خرجوا من الضلال فنفعوا أنفسهم.
﴿ و إن تولوا فإنما عليك البلاغ والله بصير بالعباد ﴾ وإن اعرضوا عن الإسلام فلا يضرك إعراضهم فما عليك إلا بالتبليغ وقد فعلت فخلصت بذلك من التبعة والله بصير بالعباد عليم بأحوالهم فلا تخفى عليه أعمالهم فيجزي من أسلم بإسلامه، ويعاقب من أعرض على إعراضه. والجملة وعد ووعيد قال ابن كثير : هذه الآية وأمثالها من أصرح الدلالات على عموم بعثته صلوات الله وسلامه عليه إلى جميع الخلق كما هو معلوم من دينه ضرورة وكما دل عليه الكتاب والسنة في غير ما آية وحديث فمن ذلك قوله تعالى ﴿ قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا ﴾ ( الأعراف ١٥٨ ).
و قد أرسل النبي صلى الله عليه وسلم كتبه على ملوك الآفاق وطوائف بني آدم من عربهم وعجمهم كتابيهم وأميهم امتثالا لأمر الله له بذلك وروى البخاري أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال : " أعطيت خمسا لم يعطهن نبي من قبلي نصرت بالرعب مسيرة شهر وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا، وأحلت لي الغنائم وأعطيت الشفاعة وأُرسل كل نبي إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة. ( ١٤٣ )
المفردات :
المراد بالذين يكفرون بآيات الله هم اليهود خاصة.
بغير الحق : بغير شبهة لديهم.
القسط : العدل
فبشرهم بعذاب أليم : البشارة والبشرى الخبر السار تبسط له بشرة الوجه واستعمالها في الشر جاء على طريق التهكم والسخرية.
التفسير :
٢١- ﴿ إن الذين يكفرون بآيات الله ويقتلون النبيين بغير حق ويقتلون الذين يأمرون بالقسط من الناس فبشرهم بعذاب أليم ﴾.
إن الذين ينكرون آيات الله فيكفرون بما يجب الإيمان به ويقتلون أنبيائهم بغير جريمة تقتضي القتل ويقتلون الواعظين المذكرين الذين يأمرونهم بالعدل من صفوة الناس فأنذرهم يا محمد بعذاب شديد الإيلام والمراد بهم اليهود فإنهم قتلوا زكريا وابنه يحيى عليهما السلام وقتلوا حزقيال عليه السلام قتله قاض يهودي لمل نهاه عن منكر فعله وزعموا انهم قتلوا عيسى ابن مريم عليه السلام.
و روى ابن جرير عن أبي عبيدة بن الجراح قال :" قلت يا رسول الله أي الناس أشد عذابا يوم القيامة ؟ قال : رجل قتل نبيا أو رجلا أمر بالمعروف ونهى عن المنكر ثم قرأ الآية إن الذين يكفرون بآيات الله... ( ١٤٤ ).
ثم قال " يا أبا عبيدة قتلت بنو إسرائيل ثلاثة وأربعين نبيا من اول النهار في ساعة واحدة فقام مائة واثنا عشر رجلا من عباد بني إسرائيل فأمروا قتلتهم بالمعروف ونهوهم عن المنكر فقتلوا جميعا من آخر النهار " ( ١٤٥ ).
" والصفات المذكورة في الآية توحي بأن التهديد كان موجها لليهود فهذه سمتهم في تاريخهم يعرفون بها حتى ذكرت ولكن هذا لا يمنع أن يكون الكلام موجها للنصارى كذلك فقد كانوا حتى ذلك التاريخ قتلوا الألوف من أصحاب المذاهب المخالفة لمذهب الدولة الرومانية المسيحية بما فيهم من جاهروا بتوحيد الله تعالى وبشرية المسيح عليه السلام وهؤلاء ممن يأمرون بالقسط كما انه تهديد دائم لمن يقع منه مثل هذا الصنيع البشع وكثير ما هم في كل زمان.. " ( ١٤٦ ).
المفردات :
حبطت أعمالهم : بطلت أعمالهم الحسنة فضاع ثوابها.
التفسير :
اسم إشارة هنا مبتدأ وما فيه من معنى البعد للدلالة على ترامي أمرهم في الضلال وبعد منزلتهم في فظاعة الحال والموصول بما في حيز صلته خبره أي أولئك المتصفون بتلك الصفات القبيحة الذين بطلت أعمالهم التي عملوها من البر والحسنات ولم يبق لهل أثر في الدارين ( ١٤٧ ). أما في الدنيا فإبدال المدح بالذم والثناء باللعن والخزي ويدخل فيه ما ينزل بهم من القتل وأخذ الأموال منهم غنيمة والاسترقاق لهم إلى غير ذلك من الذل والصغار الظاهر فيهم وأما حبوط أعملهم في الآخرة فإبدال الثواب بالعذاب الأليم.
﴿ و مالهم من الناصرين ﴾ ينصرونهم من عذاب الله.
و قد دلت الآية على عظم حال الآمر بالمعروف وعظم ذنب قاتله لأنه قرن ذلك بالكفر بالله تعالى وقتل الأنبياء.
قال الحاكم : وتدل على صحة ما قيل أنه يأمر بالمعروف وإن خاف على نفسه وإن ذلك يكون أولى لما فيه من اعتزاز الدين وقد روى أبو داود ان الرسول صلى الله عليه وسلم قال " أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائز " ( ١٤٨ ).
المفردات :
ألم تر : استفهام لتعجيب النبي صلى الله عليه وسلم من حالهم.
أتوا نصيبا من الكتاب : أعطوا حظا منه والكتاب اسم جنس لكل كتاب سماوي والمقصود من النصيب التوراة والإنجيل.
و هم معرضون : وهم منصرفون.
التفسير :
٢٣- ﴿ ألم تر إلى الذين أتوا نصيبا من الكتاب يدعون إلى كتاب الله ليحكم بينهم ثم يتولى فريق منهم وهم معرضون ﴾.
أخرج ابن إسحق وجماعة عن ابن عباس قال :
دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم - بيت المدارس- مدرسة اليهود لدراسة التوراة على جماعة من يهود فدعاهم إلى الله فقال له نعيم ابن عمر والحارث ابن زيد على أي دين أنت يا محمد ؟ قال على ملة إبراهيم ودينه قالا فإن إبراهيم كان يهوديا فقال لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم فهلموا إلى التوراة فهي بيننا وبينكم فأنزل الله الآية ( ١٤٩ ).
و الخطاب في قوله تعالى :﴿ ألم تر ﴾ لكل من تتأتى منه الرؤية أو النبي صلى الله عليه وسلم والاستفهام للتعجيب من حالهم أي ألم تر إلى هؤلاء الذين يستحق أن تعجب لهم من اليهود كيف يعرضون عن العمل بالكتاب الذي يؤمنون به إذا لم يوافق أهوائهم ؟ وهذا دأب أرباب الديانات في طور انحلالها واضمحلالها ومن المفسرين من ذكر ان الآية إشارة إلى قصة تحاكم اليهود إلى النبي صلى الله عليه وسلم لما زنا منهم اثنان فحكم عليهما بالرجم فأبوا فقالوا لا نجد في كتابنا إلا التحميم ( ١٥٠ ) فجيء بالتوراة فوجد فيها الرجم فرجما فغضبوا فشنع عليهم بهذه الآية.
أخرج البخاري في كتاب التفسير سورة آل عمران باب ﴿ قل فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين ﴾.
عن عبد الله بن عمر رضي الله عنه قال : أن اليهود جاءوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم برجل وامرأة قد زينا. فقال لهم " كيف تفعلون بمن زنا منكم ؟ " قالوا نحممهما ونضربهما فقال لهم " لا تجدون في التوراة الرجم ؟ " فقالوا لا نجد فيها شيئا فقال لهم عبد الله بن سلام كذبتم ﴿ فاتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين ﴾ فوضع مدراسها الذي يدرسها منهم كفه على آية الرجم فطفق يقرأ ما دون يده وما وراءها ولا يقرأ آية الرجم فنزع يده عن آية الرجم فقال ما هذه الآية ؟ فلما رأوا ذلك قالوا هي آية الرجم فأمر بهما فرجما قريبا من موضع الجنائز عند المسجد ( ١٥١ ).
قال بعض المفسرون ومن ثمار هذه الآية ان من دعى إلى كتاب الله تعالى وإلى ما فيه من شرع وجب عليه الإجابة وقد قال العلماء رضي الله عنهم يستحب أن يقول سمعا وطاعة لقوله تعالى :﴿ إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا وأولئك هم المفلحون ﴾ ( النور ٥١ ) والمقصود من الفريق الذي تولى منهم علماؤهم فهم الذين كانوا يديرون النقاش والكلام مع الرسول صلى الله عليه وسلم.
المفردات :
أياما معدودات : يقصدون بها أيام عبادتهم للعجل.
و غرهم : وأطمعهم.
ما كانوا يفترون : ما كانوا يكذبون من ان النار لن تمسهم إلا أياما معدودات.
المعنى :
ذلك : إشارة إلى التولي والإعراض
بأنهم قالوا لن تمسنا النار إلا أياما معدودات : أي بسبب تسليمهم أمر العقاب على أنفسهم وبسبب هذا القول الذي رسخ اعتقادهم له فلم يبالوا معه بارتكاب المعاصي والذنوب.
و خلاصة هذا أنهم استخفوا بالعقوبة واستسهلوها اتكالا على اتصال نسبهم بالأنبياء واعتمادا على مجرد الانتساب إلى هذا الدين واعتقادا أن هذا كاف في نجاتهم.
و من استخف بوعيد الله تزول من نفسه حرمة الأوامر والنواهي فيقدم بلا مبالاة على انتهاك حرمات الدين ويتهاون في أداء الطاعات وهكذا شأن الأمم حين تفسق عن دينها ولا تبالي باجتراح السيئات وقد ظهر ذلك في اليهود ثم في النصارى ثم في المسلمين فإن كثيرا من المسلمين اليوم يعتقدون أن المسلم المرتكب لكبائر الإثم والفواحش. إما أن تدركه الشفاعات أو تنجيه الكفارات وإما أن يمنح العفو والمغفرة إحسانا من الله وفضلا. فإن فاته ذلك عذب على قدر خطيئته ثم يخرج من النار ويدخل الجنة وأما المنتسبون إلى سائر الأديان فهم خالدون في النار مهما كانت أعمالهم والقرآن قد ناط أمر الفوز والنجاة من النار بالإيمان الذي ذكر الله علاماته وصفات أهله وبالعمل الصالح والخلق الفاضل وترك الفواحش ما ظهر منها وما بطن كما جعل المغفرة لمن لم تحط به خطيئته اما الذين صار همهم إرضاء شهواتهم ولم يبق للدين سلطان على نفوسهم فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون والمراد بالأيام المعدودات هي أربعون يوما وهي مدة عبادة اليهود العجل.
و قال الشيخ محمد عبده : إنه لا يثبت في عدد هذه الأيام شيء ا ه. والسياق يفيد اعتقاد اليهود إنهم لا يعذبون إلا مدة قليلة لزعمهم إنهم أبناء الله وأحباؤه وخدعهم في دينهم ما كانوا يفترونه من هذا الزعم الذي لا نصيب له من الصحة.
المفردات :
ووفيت كل نفس ما كسبت : وأعطيت كل نفس جزاء ما عملته من خير أو شر وافيا.
التفسير :
﴿ فكيف إذا جمعناهم ليوم لا ريب فيه ﴾ أي فكيف يصنعون إذا جمعناهم للجزاء في يوم لا شك فيه من مجيئه.
و في هذا الاستفهام تهويل لما سيكون واستعظام لما أعد الله لهم بأنهم سيقعون فيما لا حيلة في دفعه والخلاص منه.
و أن ما حدثوا به أنفسهم وسهلوه عليها بتعليلاتهم وأباطيلهم تطمع بما لا يكون.
﴿ و وفيت كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون ﴾ أي ورأت كل نفس ما عملت من خير أو شر محضرا لا نقص فيه ثم جوزيت عليه وكان منشأ سعادتها أو شقائها ولا يفيدهم الانتماء إلى دين معين او مذهب خاص إذ لا امتياز لشعب على شعب وإن تسمى بعضهم بشعب الله ولا بين الأشخاص وإن لقبوا أنفسهم بأبناء الله فإن الجزاء يكون من جنس العمل في ذلك اليوم ﴿ يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا وما علمت من سوء تود لو ان بينها وبينه أمدا بعيدا ﴾ ( آل عمران ٣٠ ).
المفردات :
اللهم : أصله يا الله فحذف ( يا ) عوض عنها الميم وشددت لكونها عوض عن حرفين ولا تجمع الميم ( يا ) إلا شذوذا كقول الشاعر :
إني إذا ما حدث ألما | أقول يا اللهم يا اللهما |
بيدك الخير : بقدرتك منح الخير ومنعه.
سبب النزول :
روى الواحدي عن ابن عباس وأنس بن مالك أنه لما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة وعد أمته ملك فارس والروم فقال المنافقون واليهود هيهات من أين لمحمد ملك فارس والروم ؟ هم أعز وأمنع من ذلك ألم يكف محمد مكة والمدينة حتى يطمع في ملك فارس والروم ؟ فأنزل الله تعالى هذه الآية.
و روى غير ذلك في سبب النزول.
سياق الآية :
بينت الآيات السابقة أن الدين عند الله الإسلام وناقشت أهل الكتاب في إحجامهم عن الإيمان بالنبي محمد صلى الله عليه وسلم بغيا وحسدا على علمهم بصدقه ومعرفتهم بأمارات نبوته ثم بينت هذه الآية أن الملك لله يؤتيه من يشاء من عباده
٢٦- ﴿ قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك من تشاء ﴾.
أي أنت يا ربنا سبحانك لك السلطان الأعلى والتصرف التام في تدبير الأمور وإقامة ميزان النظام العام في الكائنات فأنت تأتي الملك من تشاء من عبادك إما تبعا للنبوة كما وقع لآل إبراهيم وإما بالاستقلال بحسب السنن الحكيمة الموصلة إلى ذلك واتباع الأسباب الاجتماعية بتكوين القبائل والشعوب وتنزع الملك ممن تشاء بانحراف الناس عن الطريق السوي الحافظ للملك من العدل وحسن الساسة وإعداد القوة بقدر المستطاع كما نزعه من بني إسرائيل وغيرهم وبظلمهم وفسادهم.
و تعز من تشاء : في الدنيا والآخرة بأسباب العزة والكرامة.
و تذل من تشاء : أن تذله في إحداهما او فيهما من غير ممانعة من الغير ولا مدافعة.
بيدك الخير : أي بقدرتك الخير كله لا بقدرة احد غيرك تتصرف فيه قبضا وبسطا حسبما تقتضيه مشيئتك.
إنك على كل شيء قدير : فقدرتك لا حدود لها وعطاؤك غير منقوص وأنت قادر على أن تعطي الملك من تشاء وتنزعه ممن تشاء.
من كتب التفسير :
١- جاء في تفسير أبي السعود :
روى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما خط الخندق عام الأحزاب وقطع لكل عشرة من أهل المدينة أربعين ذراعا وأخذوا يحفرونه خرج من بطن الخندق صخرة كالتل لم تعمل فيها المعاول فوجهوا سلمان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يخبره فجاء عليه السلام وأخذ منه المعول فضربها ضربة صدعتها وبرق منها برق أضاء ما بين لابتيها لكأن مصباحا في جوف بيت مظلم فكبر وكبر معه المسلمون وقال : أضاءت لي منها قصور الحيرة كأنها أنياب الكلاب. ثم ضرب الثانية فقال : أضاءت لي منها القصور الحمر من ارض الروم ثم ضرب الثالثة فقال : أضاءت لي قصور صنعاء وأخبرني جبريل ان أمتي ظاهرة على كلها فأبشروا فقال المنافقون : ألا تعجبون يمينيكم ويعدكم الباطل ويخبركم أنه يبصر من يرث قصور الحيرة ومدائن كسرى وأنها تفتح لكم وأنتم إنما تحفرون الخندق من الفرق لا تستطيعون أن تبرزوا فنزلت هذه الآية :﴿ قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء.. ﴾ ( ١٥٢ ).
٢- جاء في التفسير الوسيط لمجمع البحوث الإسلامية بالأزهر :
الملك بضم الميم في حق الله تعالى وهو على ما قاله المحققون صفة قائمة بذاته تعالى متعلقة بما سواه تعلق التصرف التام المقتضي الاستغناء المتصرف وافتقار المتصرف فيه ولا يصح إطلاقه بهذا المعنى على غير الله تعالى.
و هو أخص من الملك بكسر الميم فإنه صفة تقتضي الاستلاء والتسلط على شيء بطريق مشروع وتجعله صاحب الحق في التصرف من غير نظر إلى استغناء المتصرف وافتقار المتصرف فيه ولهذا يصح إطلاقه على غير الله تعالى.
٣- جاءت في المنتخب في تفسير القرآن العظيم للمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية بالقاهرة تعليقا في الهامش على قوله تعالى :﴿ تخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ﴾. هو ما يأتي.
" دورة الحياة والموت هي معجزة الكون وسر الحياة نفسها والسمات الرئيسية في هذه الدورة أن الماء وثاني أكسيد الكاربون والنيتروجين والأملاح غير العضوية في التربة تتحول بفضل طاقة الشمس والنباتات الخضراء وأنواع معينة من البكتيريا إلى مواد عضوية في صورة نفايات الأحياء ونواتج أيضها وتنفسها.
ثم في صورة أجسامها كلها عندما تموت وتستسلم لعوامل التحول البكتيري والكيماوي التي تحيلها على مواد غير عضوية بسيطة مهيأة للدخول في دورة جديدة من دورات الحياة وهكذا في كل لحظة من الزمان يخرج الخالق القدير حياة من الموت وموتا من الحياة وهذه الدورة المتكررة لا تتم إلا في وجود كائن أودعه الله سر الحياة كبذرة النبات مثلا.
و الآية الكريمة تذكر أولي الألباب بالمعجزة الأولى وهي خلق الحياة من مادة الأرض - لإخراج الميت من الحي وهذا هو الإعجاز بعينه.
روى الواحدي عن ابن عباس وأنس بن مالك أنه لما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة وعد أمته ملك فارس والروم فقال المنافقون واليهود هيهات من أين لمحمد ملك فارس والروم ؟ هم أعز وأمنع من ذلك ألم يكف محمد مكة والمدينة حتى يطمع في ملك فارس والروم ؟ فأنزل الله تعالى هذه الآية.
و روى غير ذلك في سبب النزول.
سياق الآية :
بينت الآيات السابقة أن الدين عند الله الإسلام وناقشت أهل الكتاب في إحجامهم عن الإيمان بالنبي محمد صلى الله عليه وسلم بغيا وحسدا على علمهم بصدقه ومعرفتهم بأمارات نبوته ثم بينت هذه الآية أن الملك لله يؤتيه من يشاء من عباده
٢٧- ﴿ تولج الليل في النهار وتولج النهار في الليل وتخرج الحي من الميت وتخرج الميت من الحي وترزق من تشاء بغير حساب ﴾.
المفردات :
تولج الليل في النهار : الولوج الدخول والإدخال ويراد به زيادة زمان الليل في النهار فيطول الليل ويقصر النهار ﴿ و تولج النهار في الليل ﴾ معناه عكس المعنى السابق.
وتخرج الحي من الميت : أي وتكون الأحياء من المواد الأولية التي لا حياة فيها كالهواء والماء والغذاء والتراب.
وتخرج الميت من الحي : وتجعل الحي يموت فتخرجه بذلك من جنس الأحياء
التفسير :
يطيل الله تعالى الليل في بعض فصول السنة بإضافة جزء من النهار إليه ويطيل النهار في بعض فصولها بزيادة جزء من زمان الليل فيه ويخرج الحي من المواد الأولية الميتة التي خلق منها كالماء والتراب وبعض عناصر الهواء ويخرج الميت من الحي بأن يفقده أسباب الحياة فيموت ويعود إلى أصله ويرزق من يشاء رزقه بغير حساب أي رزقا بغير تضييق عليه.
و كما يرزق من يشاء بغير حساب يضيقه على من يشاء لحكمة تقتضيه ولم يذكر ذلك في الآية لعلمه من أمثاله فيما سبق ولأن من يملك الإعطاء يملك المنع.
و يرى بعض المفسرون أن إخراج الحي من الميت معناه إخراج الجنين من النطفة أو الفرخ من البيضة وإن إخراج الميت من الحي معناه إخراج النطفة من الحيوان والبيضة من الدجاجة.
و لكن هذا الرأي لا يقبل إلا على سبيل التشبيه بجعل النطفة أو البيضة بجانب الحيوان الذي يتكون منها كالشيء الميت لعظم الفرق بينهما اما على الحقيقة فلا لأن النطفة مليئة بالكائنات الحية المتحركة كما يتبين ذلك تحت آلة التكبير – المجهر، ومثلها البيضة.
و كذا القول بأن المراد من الميت الذي يخرج من الحي : النطفة أو البيضة التي يخرجها الله من الحيوان لا يصح ان يقبل إلا على سبيل المجاز لما قدمناه.
و قال الحسن في معنى الآية يخرج المؤمن من الكافر والكافر من المؤمن فحمل الحياة والموت على المجاز وروى هذا التفسير عن أئمة أهل البيت.
و يمكن تفسيرها مجازا بمعنى : يخرج الطيب من الخبيث ويخرج الخبيث من الطيب والعالم من الجاهل والجاهل من العالم والذكي من البليد والبليد من الذكي وإلى غير ذلك، قال القفال : والكلمة محتملة لكل ما ذكر أما الكفر والإيمان فقد قال تعالى :
﴿ أو من كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها ﴾ ( الأنعام ١٢٢ ).
يريد كان كافرا فهديناه فجعل الموت كافرا والحياة إيمانا وسمى إخراج النبات من الأرض إحياء جعلها قبل ذلك ميتة فقال :
يحيي الأرض بعد موتها. ( الروم ٥٠ ).
و قال سبحانه :﴿ فسقناه على بلد ميت فأحيينا به الأرض بعد موتها ﴾ ( فاطر ٩ ).
و قال عز شأنه :﴿ كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا فأحياكم ثم يميتكم ثم إليه ترجعون ﴾ ( البقرة ٢٨ ).
المفردات :
أولياء : أصدقاء وأنصار.
من دون المؤمنين : متجاوزين المؤمنين إلى الكافرين.
فليس من الله في شيء : فليس من دين الله في شيء.
إلا ان تتقوا منهم تقاة : إلا لتقوا أنفسكم وتحفظوا مما يتقي ويحذر منهم.
المصير : المرجع.
سبب النزول :
روى عن ابن عباس قال : كان الحجاج بن عمرو وكهمس بن أبي الحقيق وقيس بن زيد والكل من اليهود يباطنون نفرا من الأنصار ليفتنوهم عن دينهم فقال رفاعة بن المنذر وعبد الله ابن جبير وسعد بن خيثمة لأولئك النفر :
اجتنبوا هؤلاء اليهود واحذروا مباطنتهم لا يفتنوكم عن دينكم فأبي أولئك النفر إلا مباطنتهم وملازمتهم فأنزل الله هذه الآية.
التفسير :
٢٨- ﴿ لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنون.. ﴾.
تقرر الآية أن موالاة الكافر خطر على من والاه وإنها لا تكون إلا عند الضرورة لاتقاء ضرر يكون من ناحية على أن لا تبلغ الموالاة بالدرجة المباطنة بخفايا المؤمنون.
و الموالاة تطلق لغة على الحب والصداقة والمباطنة بالأسرار وتطلق على النصرة وكلا المعنيين تصح إرادته ولهذا لا يحل للمؤمنين أن يوالوا الكافرين بأي معنى من معاني الموالاة ومن يفعل ذلك فليس من دين الله تعالى في شيء وقد يذكر ذلك صريحا في قوله تعالى :﴿ يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم ﴾ ( المائدة ٥١ ).
و قد تكرر النهي عن موالاة المؤمنين للكافرين في عديد من آي القرآن لخطورتها على كيانهم فهم دائما يتربصون بهم الدوائر ويبغونهم الفتنة وفي المسلمين سماعون لهم وهم المنافقون وضعاف النفوس.
قال الله تعالى :{ يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة وقد كفروا بما جاءكم من الحق... ( الممتحنة ١ ).
و قال عز شأنه :﴿ يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الكافرين أولياء من دون المؤمنين أتريدون أن تجعلوا لله عليكم سلطانا مبينا ﴾ ( النساء ١٤٤ ).
فعلى المؤمنون ان يحرزوا حتى يأمنوا شرهم عليهم ان يقصروا موالاتهم على المؤمنين لا يتجاوزونهم إلى الكافرين لغرض من الأغراض إلا أن يتقوا أنفسهم من ضرر من شأنه أن يتقي ويحذر فإذا اضطر المسلمون لموالاتهم دفاعا عن الوطن او المال أو العرض فلهم ذلك في حدود الضرورة.
و أجاز المحققون من العلماء الاستعانة بالكفار بشرط الحاجة والوثوق.. أما بدونها فلا تجوز.
و استدل بذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم استعان بيهود بني قينقاع ورضخ لهم ( ١٥٣ ) واستعان بصفوان بن أمية في هوازن.
على أن بعضهم ذكر أن الاستعانة المنهي عنها هي استعانة الذليل بالعزيز أما غيرها فلا.
جاء في تفسير القاسمي :
و اعلم أن الموالاة التي هي المباطنة والمشاورة وإفضاء الأسرار للكفار لا تجوز فإن قيل : قد جوز كثير من العلماء نكاح الكافرة وفي ذلك من الخلطة والمباطنة بالمرأة ما ليس بخاف فجواب ذلك أن المراد موالاتهم في الدين و فيما فيه تعظيم لهم.
فإن قيل في سبب نزول الآية : ان النبي صلى الله عليه وسلم منع عبادة ابن الصامت من الاستعانة باليهود على قريش ( ١٥٤ ) وقد حالف رسول الله صلى الله عليه وسلم اليهود على حرب قريش وفي هذا دلالة على جواز الاستعانة بهم.
و قد ذكر الراضي أنه يجوز الاستعانة بالفساق على حرب المبطلين قال : وقد حالف رسول الله صلى الله عليه وسلم اليهود على حرب قريش وغيرها إلى أن نقضوه يوم الأحزاب وحد صلى الله عليه الحلف بينه وبين خزاعة قال الراضي بالله وهو الظاهر عن آبائنا عليهم السلام وقد استعان على عليه السلام بقتلة عثمان ولعل الجواب والله أعلم أن الاستعانة جائزة مع الحاجة أو خشية مضرة منهم وعليه يحمل حديث عبادة بن الصامت.
﴿ لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين ﴾.
﴿ من دون المؤمنين ﴾ حال أي متجاوزين المؤمنين إليهم استقلالا أو اشتراكا وفيه إشارة إلى إنهم الأحقاء بالموالاة وأن في موالاتهم مندوحة عن موالاة الكفرة.
﴿ و من يفعل ذلك فليس من الله في شيء ﴾ أي ومن يوالي الكفرة فليس من ولاية الله في شيء تقع عليه اسم الولاية يعني أنه منسلخ من ولاية الله رأسا وهذا أمر معقول فإن موالاة الوالي وموالاة عدوه متنافيان ( ١٥٥ ).
﴿ إلا أن تتقوا منهم تقاة ﴾ أي تخافوا منهم محذورا فأظهروا معهم الموالاة باللسان دون القلب لدفعه، روى البخاري في كتاب الأدب باب المداراة مع الناس عن أبي الدرداء رضي الله عنه أنه قال " إنا لنكشر ( ١٥٦ ) في وجوه أقوام وقلوبنا تلعنهم ". ( ١٥٧ ).
﴿ و يحذركم الله نفسه ﴾ أي ذاته المقدسة فلا تتعرضوا لسخطه بمخالفته أحكامه وموالاته أعدائه وتهديد عظيم مشعر بتناهي المنهي في القبح وإضافة تحذيرهم إلى نفسه وإلى ذاته العلية إيذان ببلوغ المنهي عنه منتهى الخطورة.
التفسير :
٢٩- ﴿ قل إن تخفوا ما في صدروكم أو تبدوه يعلمه الله ويعلم ما في السموات وما في الأرض والله على كل شيء قدير ﴾.
هذه الآية واضحة الصلة بما قبلها وهي توحي بأن صلات متعددة من القرابة أو التجارة أو غيرهما كانت تربط بين معسكر المسلمين ومعسكر الكافرين.
و تبين هذه الآية أن الله مطلع وشاهد لما يخفيه الإنسان وما يظهره و قد شمل علم الله كل ما في السموات والأرض فقد أحاط بكل شيء علما وهو على كل شيء قدير.
و الآية فيها تحذير واضح من موالاة المؤمنين للكافرين وتهديد بأن الله عالم بخفايا النفوس ومطلع على الظاهر والباطن.
المفردات :
محضرا : يحضره ملائكة الله في الصحف.
أمدا بعيدا : غاية أو مسافة بعيدة.
التفسير :
تعرض الأية مشهدا من مشاهد القيامة. وهو يوم الحساب والجزاء، وفي هذا اليوم يقف الإنسان وجها لوجه أمام علمه الذي قدمه في الدنيا فالخير شاخص أمام صاحبه يفرح به وتشتد سعادته.
و تجد كل نفس أيضا : ما علمته من سوء وشر في الدنيا محضرا يوم القيامة في صحائفها لتساء به. وتتمنى حين تراه لو أن بينها وبينه مسافة بعيدة بعد المشرقين.
﴿ و يحذركم الله نفسه والله رءوف بالعباد ﴾ يخوفكم الله من نفسه إن خالفتم ما كلفكم به ومن رأفة الله ورحمته هذا التحذير وهذا التذكير وهو دليل على إرادته الخير والرحمة بالعباد.
التفسير :
قال القرطبي : روى أن المسلمين قالوا : يا رسول الله والله إنا لنحب ربنا فأنزل الله عز وجل :﴿ قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله. ﴾
و قال محمد بن جعفر بن الزبير : نزلت في نصارى نجران وذلك أنهم قالوا :" إنما نعظم المسيح حبا لله تعالى وتعظيما له " فأنزل الله الآية ردا عليهم. رواه محمد ابن إسحق.
و المعروف أن سبب النزول قد يتعدد لنازل واحد من القرآن الكريم والعبرة مع هذا بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.
أن تعالم الإسلام واضحة وأوامره واجبة الاتباع وحب الله ليس دعوى باللسان ولا هياما بالوجدان ولكنه التزام بأحكام الشرع واتباع لرسول الله صلى الله عليه وسلم " في كل ما جاء به، قال صلى الله عليه وسلم : " لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به " ( ١٥٨ ). فقد أتم الله الدين وأكمل على المسلمين نعمة الإسلام ووجب عليهم الإتباع دون الابتداع فمن ادعى عن عقله أو رأيه أو حكمه أصوب من حكم الله فقد احتكم إلى أحكام الجاهلية وخالف منهج القرآن وهدى نبي الإسلام.
روى البخاري في صحيحه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد " ( ١٥٩ ).
و روى البخاري في صحيحه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان : أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله وأن يكره أن يعود في الكفر كما يكره أن يقذف في النار " ( ١٦٠ ).
و جاء في تفسير ابن الكثير :
هذه الآية حاكمة على أن من ادعى محبة الله وليس على الطريقة المحمدية بأنه كاذب في دعواه حتى يتبع الشرع المحمدي والدين النبوي في جميع أقواله وأفعاله.
إن العمل بشرع الله يورث المسلم إخلاصا وحبا لله ولرسوله وأفضل درجات العبادة أن يعبد المؤمن ربه حبا له وشوقا إلى لقائه ورغبة في مرضاته وإذا داوم العبد على طاعة الله أحبه الله وغفر ذنبه وهداه إلى الطريق القويم.
روى الإمام مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن الله إذا أحب عبدا دعا جبريل فقال : إني أحب فلان فأحبه. قال : فيحبه جبريل ثم ينادي في السماء فيقول : إن الله يحب فلان فأحبوه فيحبه أهل السماء قال ثم يوضع له القبول في الأرض " ( ١٦١ ). وإذا أبغض الله عبدا دعا جبريل فيقول : إني أبغض فلان فأبغضه قال : فيبغضه جبريل وينادي في أهل السماء : إن الله يبغض فلانا فأبغضوه قال : فيبغضوه ثم توضع له البغضاء في الأرض ".
إن حقيقة الإسلام هي طاعة الله والرسول في جميع الأوامر والنواهي ومن أعرض عن طاعة الله ورسوله فقد أغلق باب الهدى وأعرض عن الإيمان.
و الإعراض عن الإيمان والنفور من شرع الله يؤدي إلى الكفر والعياذ بالله تعالى.
" أما لو كان تولية وإعراضه مجرد ترك لما أمر به اتباعا لشهواته مع اعتقاده ان ذلك حرام وأنه مذنب فيما يفعل ومقصر في حقه تعالى فإن الكفر بالنسبة له كفر للنعمة وعدم قيام بشكرها والله لا يحب من عصاه بكفر أو فجور " ( ١٦٢ ).
المفردات :
اصطفى : اختار والاصطفاء أخذ ما صفا من الشيء.
و آل إبراهيم وآل عمران : المراد بالآل فيهما من كان من ذريتهما من الأنبياء.
التفسير :
٣٣- ﴿ إن الله اصطفى آدم ونوحا وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين ﴾.
أي أن الله اختار هؤلاء وجعلهم صفوة العالمين بجعل النبوة والرسالة فيهم.
فأولهم : آدم خلقه الله بيده ونفخ فيه من روحه وعلمه أسماء كل شيء وأسكنه الجنة ثم أهبطه منها لما في ذلك من الحكمة.
و ثانيهم نوح : وهو الأب الثاني للبشر فقد حدث على عهد ذلك الطوفان العظيم فانقرض من السلائل البشرية من انقرض ونجا هو وأهله في الفلك العظيم وجاء من ذريته كثير من النبيين والمرسلين ثم تفرقت ذريته وانتشرت في البلاد وفشت فيهم الوثنية فظهر إبراهيم صلوات الله وسلامه عليه نبيا مرسلا ثم تتابع من بعده النبيون والرسل ومن ذريته وآله كإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وكان من أرفع أولاده قدرا وأنبههم ذكرا آل عمران وهم عيسى وأمه مريم ابنة عمران وينتهي نسبها إلى يعقوب عليه السلام وختمت النبوة بولد إسماعيل محمد صلوات الله وسلامه عليه المبعوث رحمة للعالمين وقد دعا إبراهيم ربه أن يبارك له في ذريته وأن يرسل فيهم رسولا يعلمهم هدى السماء ويرشدهم إلى الخير والمعروف ومن دعاء إبراهيم :﴿ ربنا وابعث فيهم رسولا منهم يتلوا عليهم آياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم إنك أنت العزيز الحكيم ﴾ ( البقرة ١٢٩ ).
ولذلك قال صلى الله عليه وسلم : " أنا دعوة أبي إبراهيم ". ﴿ على العالمين ﴾ أي عالمي زمانهم، أي اصطفى كل واحد منهم على عالمي زمانه.
وقد فضلهم الله بما آتاهم من النبوة والكتاب في معظمهم، وفي مريم : يحملها وولادتها من غير مماسة بشر مع طهارتها وانقطاعها لعبادة ربها، وإمدادها في مصلاها برزق الله في غير أوانه، واختيارها لتكون أما لعيسى : الذي شاء له مولده أن يكون بغير أب.
المفردات :
ذرية : الذرية في أصل اللغة الصغار من الأولاد ثم استعملت عرفا في الصغار والكفار وللواحد والكثير
التفسير :
أي ذرية يشبه بعضها بعضا في الخير والفضيلة التي كانت سببا في اصطفائهم وهذه الذرية هي التي ذكرها الله في سياق الكلام عن إبراهيم بقوله : ووهبنا له إسحاق ويعقوب كلا هدينا ونوحا هدينا من قبل ومن ذريته داوود وسليمان وأيوب ويوسف وموسى وهارون وكذلك نجزي المحسنين٨٤ وزكريا ويحيى وعيسى وإلياس كل من الصالحين٨٥ وإسماعيل واليسع ويونس ولوطا وكلا فضلنا على العالمين٨٦ ومن آبائهم وذرياتهم وإخوانهم واجتبيناهم وهديناهم إلى صراط مستقيم٨٧ ( الأنعام : ٨٤-٨٧ ).
المفردات :
نذرت لك ما في بطني : النذر ما يوجبه الإنسان على نفسه.
محررا : خالصا أي أوجبت على نفسي أن يكون ما في بطني لخدمة بيتك خالصا.
التفسير :
٣٥- ﴿ إذ قالت امرأة عمران رب إني نذرت لك ما في بطني محررا فتقبل مني إنك أنت السميع العليم ﴾.
امرأة عمران هي حنة بنت فاقوذا كما رواه إسحاق بن بشر عن ابن عباس والحاكم عن أبي هريرة وكانت هذه السيدة عاقر لا تلد وكانوا أهل بيت من الله بمكان فتحركت نفسها يوما لان تكون أما فلاذت بربها ودعته متضرعة أن يهب لها ولدا ونذرت إن حقق الله لها أمنيتها أن تجعل ولدها محررا أي خالصا للعبادة وخدمة بيت المقدس عتيقا من سوى ذلك فلا تشغله بشيء من أمورها.
﴿ فتقبل مني إنك أنت السميع العليم ﴾. أي تقبل مني قرباني وما جعلت لك خالصا والتقبل أخذ الشيء على وجه الرضا.
( قال أبو منصور في " التأويلات " جعلت ما في بطنها لله خالصا لم تطلب منه الاستئناس به ولا ما يطمع الناس فيه من أولادهم وذلك من الصفوة التي ذكر الله عز وجل، وهكذا الواجب على كل أحد إذا طلب ولدا ان يطلب للوجه الذي طلبت امرأة عمران وزكريا حيث قال :﴿ رب هب لي من لدنك ذرية طيبة ﴾ ( آل عمران ٣٨ ).
وما سأل إبراهيم :﴿ رب هب لي من الصالحين ﴾ ( الصافات ١٠٠ ).
وكقوله تعالى :﴿ والذين يقولون ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين واجعلنا للمتقين إماما ﴾. ( الفرقان ٧٤ ).
هكذا الواجب أن يطلب الولد، لا ما يطلبون من الاستئناس والاستنصار والاستعانة بأمر المعاش بهم ). -انتهى.
المفردات :
أعيذها بك : أجيرها بك وأصل العوذ الالتجاء إلى سواك والتعلق به يقال عاذ بفلان إذا استجار به.
الرجيم : المرجوم المطرود من الخير.
التفسير :
أي فلما وضعتها أنثى على خلاف ما كانت تأمله قالت متحسرة حزينة على فوات رجائها.
﴿ رب إني وضعتها أنثى ﴾ قالت ذلك وهي تعلم بمكانة ما وضعته والله وحده هو الذي يعلم بشأنها وما علق بها من عظائم الأمور ودقائق الأسرار وقالت في تحسرها :﴿ وليس الذكر كالأنثى ﴾ في خدمة بيت المقدس فإنهما مقصورة على الغلمان دون الإناث فكأنها تقول ما اصنع في نذري يا رب ؟
﴿ و إني سميتها مريم ﴾ وإني غير راجعة عما أنتويه من خدمتها بيت المقدس وإن كانت أنثى فإن لم تكن جديرة بسدانته فلتكن من العابدات القانتات، ومعنى مريم العابدة.
وقد أطلقت عليها اسم مريم في اليوم الذي ولدت فيه وهي السنة في شريعتنا أيضا.
فقد اخرج الشيخان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " ولد لي ولد سميته باسم أبي إبراهيم ". ( ١٦٤ ).
و اخرج الشيخان أيضا ان النبي صلى الله عليه وسلم حمل إليه وليد فحنكه وسماه عبد الله.
﴿ و إني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم ﴾.
وإني أجيرها بحفظك ورعايتك من الشيطان المطرود من الخير.
روى الشيخان عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " كل بني آدم يمسه الشيطان يوم ولادته أمه إلا مريم وابنها " ( ١٦٥ ). والمراد أن الشيطان يطمع في إغواء كل مولود بحيث يتأثر منه إلا مريم وابنها فإن الله تعالى عصمهما ببركة هذه الاستعاذة.
المفردات :
فتقبلها : أي قبل مريم في النذر مكان الذكر.
أنبتها : أي رباها تربية طيبة.
و كلفها زكريا : وجعل زكريا كافلا وضامنا لها وزكريا من ولد سليمان بن داود عليهما السلام.
المحراب : المحراب هنا هو المسمى عند أهل الكتاب بالمذبح وهو مقصورة في مقدم المعبد لها باب يصعد إليه بسلم ذي درج قليلة يكون من فيه محجوبا عمن في المعبد.
أني لك هذا : أي من أين هذا والأيام أيام قحط وجدب.
بغير حساب : أي بغير عد ولا إحصاء لكثرته.
التفسير :
٣٧- ﴿ فتقبلها ربها بقبول حسن... ﴾ أي فتقبل مريم من أمها ورضى أن تكون للعبادة وخدمة بيته على صغرها وأنوثتها وكان التحرير لا يجوز إلا لغلام عاقل قادر على خدمة البيت. :
﴿ وأنبتها نبتا حسنا ﴾. أي رباها تربية حسنة كما يربي النبات في الأرض ونماها صلاحا وعفة وسداد رأي.
﴿ وكلفها زكريا ﴾. أي جعل زكريا كافلا لها لتقتبس منه العلوم والمعارف لتمضي على سنته من الصلاح، وكان زوج أختها كما ورد في الصحيح " فإذا بيحيى وعيسى وهما ابنا الخالة " ويحيى ابن زكريا عليهما السلام.
وهكذا تهيأت لها البيئة الصالحة كما تهيأت لها الوراثة الصالحة فكانت سيدة نساء العالمين.
﴿ كلما دخل عليهما زكريا المحراب وجد عندها رزقا ﴾ وجد ألوانا من الطعام لم تكن توجد في مثل تلك الأحيان.
﴿ قال يا مريم أني لك هذا ﴾ ؟ أي من أين لك هذا والأيام أيام جدب وقحط أو من أين لك هذا ولا كافل لك سواي ؟
﴿ قالت هو من عند الله إن الله يرزق من يشاء بغير حساب ﴾. الله يرزق الناس جميعا بتسخير بعضهم لبعض وقد جرى العرف في كل زمان بإضافة الرزق إلى الله وليس في هذا دلالة أنه من خوارق العادات.
و يحتمل أن يكون جملة :﴿ إن الله يرزق من يشاء بغير حساب ﴾. من كلام الله تعالى وليس من كلا مهما سيقت : للإيذان أنه لا ينبغي أن تعجب من هذا الرزق فإن الله يرزق من يشاء بغير حساب.
والرزق قد يكون حسيا وقد يكون معنويا يشمل الهدى والتقى والربكة والتوفيق لصالح الأعمال. وفي الحديث الشريف : " ما رزق المرء بعد تقوى الله خيرا من المرأة الصالحة ".
المفردات :
هنالك : أي في ذلك المكان حيث هو قاعد عند مريم في المحراب أو في ذلك الوقت، وهنالك يشار به إلى المكان والزمان.
الذرية : الولد وتقع على الواحد والكثير.
طيبة : الطيب ما تستطاب أفعاله وأخلاقه.
سميع الدعاء : أي مجيبه.
التفسير :
٣٨- ﴿ هنالك دعا زكريا ربه قال رب هب لي من لدنك ذرية طيبة إنك سميع الدعاء ﴾. أي في هذا المكان الذي خاطبته فيه مريم بما ذكر دعا ربه بهذا الدعاء.
أو في تلك الحالة التي شاهدها قال زكريا في نفسه إن الذي جاء مريم بهذا الرزق لقادر على ان يصلح لي زوجتي ويرزقني منها ذرية فعند ذلك قام في المحراب وابتهل إلى الله تعالى قائلا :
" رب هب لي من عندك ذرية صالحة مباركة إنك كثير الإجابة لمن يدعوك ".
قال علماؤنا : وقفت النبوة في كتاب الله مرتين تتعلم من الصالحين الأولى : عندما وقف موسى أمام الخضر يقول له : هل اتبعك على ان تعلمن مما علمت رشدا. ( الكهف : ٦٦ ). والثانية : عندما وقف زكريا أمام مريم وسألها :﴿ أنى لك هذا قالت هو من عند الله إن الله يرزق من يشاء بغير حساب ﴾. ( آل عمران ٣٧ ). وتعلم زكريا من مريم التبتل إلى الله وإخلاص الدعاء والتعلم هنا من مشاهدة الحال أكثر من سماع الأقوال.
المفردات :
مصدقا بكلمة من الله : كلمة الله عيسى عليه السلام حيث جاء بقوله تعالى ( كن ) من غير توسط أب.
وحصورا : الحصور الذي لا يباشر النساء أو هو الذي يمنع نفسه من المعاصي.
التفسير :
ناداه جبريل عليه السلام وهو من جنس الملائكة كما تقول فلان ركب سفينة واحدة ويرى ابن جرير وغيره ان المراد جماعة من الملائكة إذ لا ضرورة تدعو إلى التأويل وبهذا قال قتادة وعكرمة ومجاهد.
نادته الملائكة وهو قائم يصلي في المسجد أن الله تعالى يبشرك بولد ذكر سماه الله يحيى وقد أحياه الله من أبوين كبيرين وحملت البشارة طائفة من البشريات فهو غلام ذكر.
وهو مؤمن يصدق بعيسى عليه السلام الذي سمي كلمة الله لأن الله خلقه بقوله ( كن ) فكان ومعنى تصديقه به إيمانه بأنه رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بذلك يكون أول من آمن به ويحيى اكبر من عيسى ومن صفات يحيى أنه سيكون سيدا والسيد من يسود قومه ثم أطلق على كل فائق في الدين والدنيا كما قال بعض المحققين ويمكن ان يجتمع فيه الأمران الرياسة في قومه والتفوق في الدين فإنه نبي الله ومن الصالحين.
ومن صفات يحيى أيضا أنه حصور... وفسره ابن عباس بأنه الذي لا يأتي النساء مع القدرة على ذلك. ولعل هذا لأن انهماكه في العبادة شغله عنهن.
وفسر الحصور بعض المفسرين : بأنه المبالغ في حصر النفس وحبسها عن المعاصي والشهوات.
ومن صفات يحيى التي بشر بها والده زكريا.
أنه سيكون نبيا من الصالحين.
أي سيوحي إليه إذا بلغ سن النبوة وسيكون في أعلى مراتب الصلاح.
وإذا أسند الفعل إلى الملائكة جاز تذكيره بتأويل الجمع كقوله تعالى :﴿ والملائكة يدخلون عليهم من كل باب ﴾. وجاز تأنيثه على تأويل الجماعة مثل قوله تعالى :
﴿ فنادته الملائكة وهو قائم يصلي في المحراب ﴾. والملائكة لا توصف بالذكورة ولا بالأنوثة فهم عباد مكرومون لا يأكلون ولا يشربون ولا يتناسلون ولا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون.
أني يكون : كيف يحصل لي.
المفردات :
بلغني الكبر : أدركتني الشيخوخة.
وامرأتي عاقر : عقيم لا تلد.
التفسير :
لما بشرته الملائكة بذلك وتحقق من البشارة تعجب من وقوع ذلك مع وجود الموانع فقد كان عمره ( ١٢٠ ) سنة وعمر زوجته ٩٨ سنة وهي عقيم لا تلد في صباها فكيف تلد في شيخوختها ؟
قال الشيخ محمد عبده :
" إن زكريا لما رأى من نعم الله على مريم من كمال إيمانها وحسن حالها واعتقادها ان المسخر لها والرازق لما عندها هو من يرزق من يشاء بغير حساب اخذ عن نفسه وغاب عن حسه وانصرف عن العالم وما فيه، واستغرق قلبه في ملاحظة فضل الله ورحمته فنطق بهذا الدعاء في حال غيبته وإنما يكون الدعاء مستجابا إذا جرى به اللسان بتلقين القلب حال استغراقه في الشعور بكمال الرب.
ولما عاد من سفره في عالم الوحدة إلى عالم الأسباب ومقام التفرقة وقد أوذن بسماع ندائه واستجابة دعائه سأل ربه عن كيفية الاستجابة وهي على غير السنة الكونية فأجابه بقوله :
﴿ قال كذلك الله يفعل ما يشاء ﴾ : أي الله يفعل ما شاء مثل ذلك من الأفعال الخارقة للعادة الخارجة عن القياس.
المفردات :
آية : أي علامة أعرف بها ميقات الحمل.
ألا تكلم الناس : أي لا تقدر على كلامهم من غير آفة.
إلا رمزا : الإشارة بيد أو رأس أوغيرها.
بالعشي : الوقت بعد الزوال إلى الغروب، وقيل من العصر إلى ذهاب صدر الليل.
الإبكار : من طلوع الفجر إلى وقت الضحى.
التفسير :
أي قال رب اجعل لي علامة تدلني على الحمل وقد سأل ذلك استعجال للسرور وقيل ليتلقي تلك النعمة بالشكر حين حصولها قال الله : علامتك ألا تقدر على مكالمة الناس ثلاثة أيام متوالية من غير آفة.
وتقييد عدم الكلام بالناس مؤذن بأنه كان غير محبوس عن ذكر الله تعالى وكان حديثه مع الناس في هذه المدة مقصورا على الإشارة باليد او الرأس او نحوهما وهذا معنى إلا رمزا وإنما جعلت آ يته ذلك لتخليص المدة لذكره تعالى شكرا على ما أنعم به عليه وقيل كانت عقوبة منه تعالى بسبب سؤاله الآية بعد مشافهة الملائكة إياه.
﴿ واذكر ربك كثيرا ﴾ : أي ذكرا كثيرا.
﴿ وسبح بالعشي والإبكار ﴾ : أي سبح الله ونزهه عما لا يليق به في وقت العشي من الزوال إلى الغروب وفي وقت الإبكار من الفجر إلى الضحى.
و المراد العشي والإبكار جميع الأوقات والذكر يتناول ما كان باللسان والقلب.
المفردات :
إن الله اصطفاك : قبلك واختارك لخدمة بيت المقدس وكان ذلك خاصا بالرجال.
وطهرك : من الأدناس او طهرك بالإيمان عن الكفر وبالطاعة عن العصيان.
واصطفاك على نساء العالمين : اختارك عليهن بان تكوني أما لعيسى من غير أب وجعلك وإياه آية للعالمين ولم يكن ذلك لأحد من النساء.
التفسير :
٤٢- ﴿ و إذ قالت الملائكة يا مريم إن الله اصطفاك وطهرك واصطفاك على نساء العالمين ﴾. الملائكة هنا يمكن أن تطلق على جبريل بدليل قوله تعالى في سورة مريم ﴿ فأرسلنا إليها روحنا فتمثل لها بشرا سويا ﴾ ( مريم ١٧.
ويجوز ان يكونوا جماعة من الملائكة قالت لمريم :
يا مريم إن الله اختارك لخدمة بيته ولم يكن يخدمه قبلك إلا الرجال وطهرك من الأدناس حسية كانت او خلقية او اعتقادية وبرأك من العيوب واختصك بولادة نبي دون ان يمسك رجل فكنت فريدة في ذلك بين نساء العالمين لطهرك ولفضلك او فضلك على نساء اهل زمانك كما فضل آسية امرأة فرعون على نساء أهل زمانها وفضل الله خديجة زوج النبي على نساء اهل زمانها وفضل الله فاطمة بنت محمد على نساء أهل زمانها وقد ورد ذلك في الحديث الشريف.
المفردات :
اقنتي لربك : داومي على طاعته.
واسجدي : واخضعي.
واركعي مع الراكعين : الركوع الانحناء والمراد لازمه وهو التواضع والخشوع في العبادة.
التفسير :
وقالت الملائكة لمريم :
داومي على طاعة ربك واخضعي له وصلي مع المصلين وقد أمرها الله بذلك حتى لا يحدث لها فتور او غفلة بعدما كانت مكانتها عند الله تعالى.
المفردات :
يلقون أقلامهم : أي الأقلام التي يكتبون بها التوراة او السهام والأزلام التي يضربون بها القرعة ويقامرون بها.
يختصمون : يتنازعون في كفالتها.
التفسير :
أي هذه أخبار قصصناها عليك من أخبار مريم وزكريا لم تشهدها أنت ولا أحد من قومك ولم تقراها في كتاب بل هي وحي نوحيه إليك على يد الروح الامين لتكون دلالة على صحة نبوتك وإلزاما للمعاندين الجاحدين.
وصدق الله العظيم { وما كنت تتلوا من قبله من كتاب ولا تخلطه بيمينك إذا لارتياب المبطلون ( العنكبوت ٤٨ ).
﴿ وما كنت لديهم غذ يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم وما كنت لديهم إذ يختصمون ﴾.
أي وما كانت يا محمد معاينا لفعلهم وما جرى من أمرهم في شأن مريم إذ يلقون أقلامهم أي سهامهم التي جعلوا عليها علامات يعرف بها من يكفل مريم على وجهة القرعة ﴿ وما كنت لديهم إذ يختصمون ﴾ بسببها تنافسا في كفالتها مع زوج خالتها زكريا يريدها لان خالتها معه ولأنه كان رئيس الأحبار ويرى انه أحق بها لذلك وكان كل واحد من القراء يريدها لأنها ابنة عالمهم فاقترحوا حلا لهذه المشكلة ان يقترعوا.
وطريقة الاقتراع لم يرد بها خبر صحيح وقد روى عن قتادة وغيرهم انهم ذهبوا إلى نهر الأردن واقترعوا هناك على ان يلقوا أقلامهم فأيهم ثبت في جريه الماء فهو كافلها فألقوا أقلامهم فاحتملها الماء إلا قلم زكريا فإنه ثبت ( ١٦٦ ).
وأيا كانت كيفية القرعة التي اتفقوا عليها فإن هذه القرعة كانت سبيلا إلى فوز زكريا عليه السلام بكفالة مريم.
وفي هذه الآية دليل على ان القرعة سبيل مشروع لتمييز الحقوق والاستفهام ( ١٦٧ ) ورد في القرآن في موضعين هذا الموضع وقوله تعالى :﴿ فساهم فكان من المدحضين ﴾ ( الصافات ١٤١ ). وروى الشيخان ان الرسول صلى الله عليه وسلم كان إذا أراد سفرا أقرع بين نسائه فأيهما خرج سهمها سافرت معه ( ١٦٨ ).
وإنباء القرآن بما وقع في كفالة مريم من نزاع وخصام ولجوء المتنازعين إلى القرعة دليل على نبوته صلى الله عليه وسلم لان ذلك لا يعلم إلا عن طريق الوحي.
قال تعالى :
﴿ وما كنت لديهم إذ يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم وما كنت لديهم إذ يختصمون ﴾. أي كانت عندهم في الحالين، حتى تعلم أمرهم. وإنما أعلمك الله بوحيه
بعد أن ذكر قصة مريم أردفها بقصة عيسى وقد ذكر هنا طرفا من القصة وفي سورة مريم نجد جانبا من القصة يناسب جو السورة ويؤكد ما فيها وهنا نجد جانبا آخر من القصص في القرآن يأتي لعدة أغراض منها.
١- بيان قدرة الله تعالى.
٢- تأكيد ما تهدف غليه الآيات السابقة على القصة.
٣- تحذير الكفار والطغاة من مصارع السابقين.
٤- تثبيت المؤمنين عن طريق استلهام مضمون القصة ومحتواها
﴿ إذ قالت الملائكة يا مريم إن الله يبشرك بكلمة منه اسمه المسيح عيسى ابن مريم وجيها في الدنيا والآخرة ومن المقربين ويكلم الناس في المهد وكهلا ومن الصالحين قالت رب أنى يكون لي ولد ولم يمسسني بشر قال كذلك الله يخلق ما يشاء إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون ﴾
المفردات :
يبشرك : التبشير الإخبار بالبشارة وهي الخبر السار وأطلق عليه ذلك لظهور أثره على البشرة.
المسيح : لفظ معرب واصله مشيحا وعيسى معرب يسوع بالعبرانية.
وجيها : صاحب جاه وكرامة.
التفسير :
٤٥- ﴿ إذ قالت الملائكة يا مريم إن الله يبشرك بكلمة منه اسمه المسيح عيسى ابن مريم وجيها في الدنيا والآخرة ومن المقربين ﴾.
المعنى :
اذكر يا محمد حين قالت الملائكة لمريم يا مريم إن الله يخبرك بخبر يسرك هو انه سيمن عليك بغلام اسمه المسيح عيسى ابن مريم ذي جاه وشرف في الدنيا بما يظهره الله على يده من المعجزات وبما اتصف به من الصلاح والتقوى وذي جاه في الآخرة بظهور صدقه وعلو درجته ومن المقربين إلى الله والناس المحبوبين لديهم.
ويلحق بالآية ما يأتي :
١- المراد من الملائكة هنا جبريل عليه السلالم لقوله تعالى في سورة مريم ﴿ فأرسلنا إليها روحنا فتمثل لها بشرا سويا ﴾ وذكر بلفظ الجمع لأنه رئيسهم.
٢- إطلاق لفظ كلمة على عيسى عليه السلام لانه خلق بغير أب بمقتضى كلمة التكوين المعبر عنها بقوله سبحانه ﴿ إنما أمره إذا أراد شيئا ان يقول له كن فيكون ﴾ ( آل عمران : ٥٩ ). وبما أن كن كلمة فلذا سمى ( كلمة ).
وقد خص المسيح بإطلاق الكلمة عليه وإن كان كل شيء بكلمة التكوين لانه لما فقد في تكوينه وحمل أمه به ما جعله الله سببا للحمل في العادة وهو تلقيح ماء الرجل بماء المرأة أضيف إلى الله وأطلقت الكلمة على هذا المكون إيذانا بذلك بخلاف الأشياء فإنها تنسب في العرف إلى الأسباب العادية.
٣- المسيح لقب لعيسى عليه السلام وهو من الألقاب ذات الشرف كالفاروق لعمر وهو لقب عبري ومعناه القائم على عبادة الله ومع كونه لقبا فقد صرخت الآية بانه اسم له والألقاب إذا اشتهرت صارت أسماء.
٤- قال القاسمي :
اسم الوليد الذي يميزه لقبا المسيح وعلما عيسى معرب يسوع بالسين المهملة كلمة يونانية معناها ( مخلص ) ويرادفها يشوع بالمعجمة إلا أنها عبرانية والمسيح بمعنى الممسوح او المدهون قال البقاعي وأصل هذا الوصف أنه كان في شريعتهم من مسحه الإمام بدهن القدس فكان طاهرا متأهلا للملك والعلم ولا ولايات الفاضلة مباركا فدل سبحانه على ان عيسى عليه السلام ملازما للبركة الناشئة عن المسح وإن لم يمسح.
بعد أن ذكر قصة مريم أردفها بقصة عيسى وقد ذكر هنا طرفا من القصة وفي سورة مريم نجد جانبا من القصة يناسب جو السورة ويؤكد ما فيها وهنا نجد جانبا آخر من القصص في القرآن يأتي لعدة أغراض منها.
١- بيان قدرة الله تعالى.
٢- تأكيد ما تهدف غليه الآيات السابقة على القصة.
٣- تحذير الكفار والطغاة من مصارع السابقين.
٤- تثبيت المؤمنين عن طريق استلهام مضمون القصة ومحتواها
٤٦- ﴿ ويكلم الناس في المهد وكهلا ومن الصالحين ﴾.
المفردات :
المهد : المهد هنا فراش الطفل الرضيع.
الكهل : من جاوز الثلاثين إلى إحدى وخمسين سنة. والكهل من خطه الشيب في جلال ووقار وهو بين حالي الغلومة والشيخوخة ومنه اكتهلت الروضة إذ عمها النوار.
التفسير :
وبشرتها الملائكة بأنه يكلم الناس طفلا في المهد مثلما يكلمهم وهو رجل ذو جلال ووقار فكلامه في كلتا الحالين كلام رصين مفيد نافع ومن كلامه في طفولته ما نطق به عقب ولادته :﴿ قال إني عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبيا وجعلني مباركا أينما كنت وأوصاني بالصلاة والزكاة مادمت حيا وبرا بوالدتي ولم يجعلني جبارا شقيا ﴾. ( مريم : ٣٠- ٣٢ ).
أما كلامه في كهولته فهو كلام الوحي والرسالة والكهل من وخطه الشيب او من جاوز الثلاثين إلى الأربعين والخمسين.
قال الأعرابي : يقال للغلام مراهق ثم محتلم ثم يقال تخرج وجهه ثم اتصلت لحيته ثم مجتمع ثم كهل وهو ابن ثلاثة وثلاثين سنة قال الأزهري وقيل له كهل حينئذ لانتهاء شبابه وكمال قوته.
﴿ ومن الصالحين ﴾ أي ومعدودا من الصالحين الذين انعم الله عليهم من النبيين والصديقين.
بعد أن ذكر قصة مريم أردفها بقصة عيسى وقد ذكر هنا طرفا من القصة وفي سورة مريم نجد جانبا من القصة يناسب جو السورة ويؤكد ما فيها وهنا نجد جانبا آخر من القصص في القرآن يأتي لعدة أغراض منها.
١- بيان قدرة الله تعالى.
٢- تأكيد ما تهدف غليه الآيات السابقة على القصة.
٣- تحذير الكفار والطغاة من مصارع السابقين.
٤- تثبيت المؤمنين عن طريق استلهام مضمون القصة ومحتواها
٤٧- ﴿ قالت ربي أني يكون لي ولد ولم يمسسني بشر قال كذلك الله يخلق ما يشاء إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون ﴾.
المفردات :
ولم يمسسني بشر : المس هنا كناية عن الجماع.
التفسير :
تلقت مريم البشارة كما يمكن ان تتلقاه فتاة واتجهت إلى ربها تناجيه وتتطلع إلى كشف هذا اللغز الذي يحير عقل الإنسان.
و من أين لي ولد ولم يتصل بي بشر والمولود لا يولد إلا من نكاح او من سفاح وأنا لم أتزوج زواجا حلالا ولست من اهل البغي والسفاح.
وفي سورة ومريم :{ قالت أني يكون لي غلام ولم يمسسني بشر ولم أك بغيا قال كذلك قال ربك هو علي هين ولنجعله آية للناس ورحمة منا وكان أمرا مقضيا ( مريم ٢٠-٢١ ).
لقد بلغنا جبريل ان الله يفعل بما يشاء ولو خالف القياس بدون معاناة ولا صعوبة ولا يحتاج تحقيق المراد إلى قوله تعالى : " كن " بل يكفي ان يريده الله فيحققه في الحين الذي أراده سبحانه فيه والأمر بكل محمول عند الأكثرين على انه تمثيل لتأثير قدرته تعالى في مراده بأمر المطاع للمطيع في حصول المأمور به من غير امتناع ولا توقف وأجاز بعضهم أن يكون ذلك على الحقيقة بان يتعلق كلام الله النفسي الذي هو بمعنى كن على ما أراد الله تكوينه فيكون ويحدث.
التفسير :
٤٨- ﴿ ويعلمه الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل ﴾.
في جملة ما بشرت به الملائكة مريم عن ولدها عيسى المنتظر ان الله تعالى يعلمه الكتابة بالقلم كما قاله ابن عباس وابن جرير أو يعلمه الخط والنظر في الكتب والعلم الصحيح ويفقهه في التوراة ويعلمه أسرار أحكامها وقد كان المسيح عليما بها يرشد قومه إلى أسرارها ومغازيها وكذلك يعلمه الإنجيل الذي أوحي به إليه.
وتعليم المسيح :﴿ الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل ﴾ صالح لان يكون موهبة إلهية ولان يكون بمعلم روى أنه لما ترعرع أسلمته أمه إلى المعلم ولكن لا ندري ماذا علمه المعلم ولعله علمه ما تضمنته الآية من الكتابة والتوراة اما الإنجيل فقد انزله الله عليه والحكمة يراد بها وضع الشئ في موضعه أو حسن التصرف وحسن الفهم والاستنباط وهي اقرب إلى الموهبة ويمكن ان تنمى بالجد والعمل قال تعالى :{ يؤتي الحكمة من يشاء ومن يؤتي الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا وما يذكر إلا أولوا الألباب سورة ( البقرة ٢٦٩.
المفردات :
الأكمه : من ولد أعمى.
الأبرص : من بجلده بقع بيضاء تخالف لون سائره.
التفسير :
لقد أرسل الله المسيح رسولا إلى بني إسرائيل وهذا يؤذن بخصوص بعثته إليهم روى ان الوحي آتاه وهو ابن ثلاثين سنة وكانت نبوته ثلاث سنين ثم رفع إلى السماء.
﴿ أني قد جئتكم بأية من ربكم أني أخلق لكم من الطين كهيئة الطير ﴾ أي ويجعله الله رسولا إلى بني إسرائيل يخبرهم أني قد جئتكم ببرهان من ربكم على نبوتي هو أني أنشئ لكم من الطين تمثال كهيئة الطير وشكله فانفخ فيه فيكون بعد النفخ طيرا بأمر الله الذي جعل ذلك معجزة وبرهانا على انه أرسلني إليكم فإن مثل ذلك لا يقدر عليه البشر لانه مما اختص الله به فإذا أمكن الله بعض عباده من ذلك فذلك يعتبر تأييدا من الله له في دعوى الرسالة.
﴿ وأبرئ الأكمه والأبرص واحيي الموتى بإذن الله ﴾ وأشفي الأكمه الذي ولدته أمه أعمى فيصير بصيرا واشفي من بجلده برص وهو بياض يخالف لون سائر الجلد وهاتان العلتان أعجزتا الأطباء في عصر عيسى وقد كان الطب تقدما جدا في عهده فأراهم الله المعجزة من جنس ما برعوا فيه وقد جرت السنة ان تكون معجزة كل نبي من جنس ما اشتهر في زمنه.
فأعطى موسى العصا واليد البيضاء حيث كان المصريون قد برعوا في السحر وأعطى عيسى من المعجزات ما هو من جنس الطب الذي حذقه أطباء عصره وأعطى محمدا صلى الله عليه وسلم القرآن حيث كان العرب قد برعوا في البيان واشتهروا بالفصاحة والبلاغة وفنون القول.
وتنفيذ الآية ان قدرة المسيح على شفاء المرضى كانت بإذن الله وان إحياء الموتى كان بإذن الله.
وفي كل معجزة من هذه المعجزات كان المسيح يلجا إلى الله ويدعوه فيحقق الله دعاءه دون ممارسة الوسائل الطبية.
و الامر متعلق بإرادة الله وقدرته والله على كل شيء قدير.
﴿ وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم ﴾ وأخبركم بما تأكلونه في بيوتكم ولم أشاهده وما تدخرونه للمستقبل من مال وطعام لا سبيل لي إلى عمله.
والمراد : الإخبار بهذين النوعين بخصوصهما وقيل المراد أنه يخبرهم بالمغيبات.
واقتصر على ذكر هذين الأمرين لحضورهما لديهم فلا يبقى لهم شبهة ولا شك
أن صدقه فيما أخبره به شاهد على صدقه في دعواه الرسالة إليهم.
﴿ إن في ذلك لآية لكم إن كنتم مؤمنين ﴾ إن في ذ لك لحجة ودلالة على صدقي في دعوى الرسالة إن كنتم مصدقين بآيات الله.
وقد ذكر في الإنجيل انه عليه السلام رد بصر أعميين في كفر ناحوم وأعمى في بيت صيدا ورجل ولد أعمى في أورشليم وشفى عشرة مصابين بالبرص في السامرة وابرأ أبرص في كفر ناحوم وأقام بن الأرملة من الموت في بلد نايين وأحيا ابنة جيروس في كفر ناحوم وألعازر في بيت عينا.
التفسير :
وأرسلت إليكم مصدقا لشريعة التوراة التي أنزلت على موسى ولأبيح لكم بأمر من الله بعض ما حرم عليكم من قبل وقد جئتكم بآية من الله على صدق رسالتي فاتقوا الله وأطيعوني.
( والآية تكشف عن طبيعة المسيحية الحقة فالتوراة التي تنزلت على موسى عليه السلام وهي تتضمن التشريع المنظم لحياة الجماعة وفق حجة ذلك الزمان وملابسات حياة بني إسرائيل ( بما أنها ديانة خاصة لمجموعة من البشر في فترة من الزمان ) هذه التوراة معتمدة في رسالة المسيح عليه السلام وجاءت رسالته مصدقة لها مع تعديلات تتعلق بإحلال ما حرم الله عليهم وكان تحريمه في صورة عقوبات حلت بهم على معاصي وانحرافات وأدبهم الله عليها بتحريم بعض ما كان حلالا لهم ثم شاءت إرادته أن يرحمهم بالمسيح عليه السلام فيحل لهم بعض الذي حرم عليهم.
ومن هذا يتبين ان طبيعة الدين - أي دين - يتضمن تنظيما لحياة الناس بالتشريع وألا يقتصر على الجانب التهذيبي الأخلاقي وحده ولا على المشاعر الوجدانية وحدها ولا على الشعائر والعبادات وحدها كذلك فهذا لا يكون دينا فما الدين إلا منهج الحياة الذي أراده الله للبشر نظام الحياة الذي يربط حياة الناس بمنهج الله ولا يمكن ان ينفك عنصر العقيدة الإيمانية عن الشعائر التعبدية وعن القيم الأخلاقية وعن الشرائع التنظيمية في أي دين يريد أن يصرف حياة الناس وفق المنهج الإلهي وأي انفصال لهذه المقومات يبطل عمل الدين في النفوس وفي الحياة ويخالف مفهوم الدين وطبيعته كما أراد الله.
( وهذا ما حدث للمسيحية فقد انتهت المسيحية إلى ان تكون نحلة بغير شريعة وعجزت المسيحية ان تكون نظاما شاملا للحياة البشرية واضطر أهلها إلى الفصل بين القيم الروحية والقيم العملية في حياتهم كلها ومن بينها النظام الاجتماعي الذي تقوم عليه هذه الحياة فالمسيحية كما جاء بها السيد المسيح هي الشريعة المنظمة للحياة المنبثق من التصور الاعتقادي في الله وهي تصدق بالتوراة وتؤيدها ولكن العداء بين اليهودية والمسيحية جعل كل فريق يرفض ما عند الفريق الآخر ) ( ١٦٩ ).
قال تعالى :﴿ ولئن أتيت الذين أوتوا الكتاب بكل آية ما اتبعوا فبلتك وما أنت بتابع قبلتهم وما بعضهم بتابع قبلة بعض ﴾. ( البقرة ١٤٥ ).
قال تعالى : ولئن أتيت الذين أوتوا الكتاب بكل آية ما تبعوا قبلتك وما انت بتابع قبلتهم وما بعضهم بتابع قبلة بعض } ( البقرة : ١٤٥ ).
التفسير :
يعلن المسيح حقيقة التوحيد والإيمان بالله وحده هذا الاعتقاد الذي قامت عليه جميع الرسالات السماوية ويؤيد المسيح عليه السلام أن المعجزات التي جاءهم بها لم يجيء بها من عند نفسه فما له قدرة عليها وهو بشر إنما جاءهم من عند الله ودعوته تقوم ابتداء على تقوى الله وطاعة رسوله ثم يؤكد ربوبية الله له ولهم على السواء فما هو برب وإنما هو عبد وان يتوجهوا بالعبادة إلى الله فلا عبودية إلا لله.. و يختم قوله بالحقيقة الشاملة فتوحيد الرب وعبادته وطاعة الرسول والنظام الذي جاء به هذا صراط مستقيم.. وما عداه عوج وانحراف وما قطعا بالدين.
المفردات :
فلما أحس : أصل الإحساس بإحدى الحواس ويستعار للعلم بلا شبهة وفي الأساس أحسست منه بمكر وما أحسسنا منه خيرا وهل تحس من فلان بخير.
و الأنصار : جمع نصر وهو من يؤيدك وينصرك.
الحواريون : جمع حواري وهو الصفي والناصر يقال فلان حواري فلان خاصته من أصحابه وناصريه.
التفسير :
٥٢- ﴿ فلما أحس عيسى منهم الكفر قال من أنصاري إلى اللهّ ﴾ فلما شعر عيسى من قومه بني إسرائيل بالإصرار على الكفر والعناد وقصد الإيذاء فقد صح انه قد لقي من اليهود شدائد كثيرة فقد كانوا يجتمعون عليه يستهزئون به ويقولون له يا عيسى ما أكل فلان البارحة ؟ وما ادخر في بيته لغد ؟ فيخبرهم فيسخرون منه حتى طال ذلك به وبهم وهموا بقتله فخافهم واختفى عنهم وخرج هو وأمه يسيحان في الأرض وفي هذا عبرة وتسلية للنبي صلى الله عليه وسلم.
ولما اشتد الكرب بعيسى واستيقن بالخطر المحدق اتجه إلى من خلصت نيته من قومه بقوله :﴿ من أنصاري الل ﴾ه.
وقد ورد هذا المعنى في قوله تعالى :
{ يا أيها الذين آمنوا كونوا أنصار الله كما قال عيسى ابن مريم للحواريون من أنصاري إلى الله ( الصف ١٤ ).
قال المسيح للمخلصين من قومه وخاصتهم من ينصرني ويؤيدني وأنا متجه إلى الله داعيا لدينه لا يصرفه عن ذلك صارف ولا يمنعه مانع ؟
فاستجاب له الخلصاء المتقون.
﴿ قال الحواريون نحن أنصار الله ﴾ أي قال خاصة أصحابه وناصريه نحن أنصار دين الله والباذلون كل ما في الوسع في تأييد دعوتك وسننضم معك في نصرة الله وتبليغ دعوته.
﴿ آمنا بالله واشهد بأنا مسلمون ﴾ أعلنوا إيمانهم واظهروا استعدادهم للبذل والتضحية واشهدوا المسيح بأنهم مسلمون منقادون لكل ما يريده الله منهم.
فاكتبنا من عندك ببركة هذا الإ يمان مع الشاهدين من جميع الأمم بصدق الانبياء والمرسلين ولا تجعلنا من المعاندين المكابرين الذين ينكرون الحق مع وضوح دليله.
ومكر الله فأبطل مكرهم فلم ينجحوا فيه ورفع عليه السلام إلى السماء وألقى شبهه على من قصد اغتياله حتى قتل.
قال ابن عباس لما أراد ملك بني إسرائيل قتل عيسى عليه السلام دخل عيسى خوخة فيها كوة فرفعه جبريل عليه السلام من الكوة إلى السماء فقال الملك لرجل خبيث منهم ادخل عليه فاقتله فدخل الخوخة فألقى الله عليه شبه عيسى عليه السلام فخرج إلى أصحابه يخبرهم أنه ليس في البيت فقتلوه وصلبوه ظنا منهم انه عيسى.
وقد جاء في إنجيل برنابا ما يصدق هذا المروى عن ابن عباس وفيه أيضا :
أن الخبيث هو يهوذا وكان من الحواريين المنافقين وهو الذي دلهم على مكانه وذلك ان عيسى جمع الحواريين تلك الليلة وأوصاهم وقال ليكفرن بي أحدكم فذهب يهوذا وأخبره بمكانه ومكان حوارييه فلما توجه إليه الملك برجاله ودخلوا عليه البيت لم يجدوه فقد رفعه الله إليه وألقى شبه عيسى على يهوذا فأمر الملك بقتله فقال له أنا يهوذا ؟ فقال الملك إن كنت يهوذا فأين عيسى ؟ فقال يهوذا إن كنت عيسى فأين يهوذا ؟ فلم يعبأ الملك بهذه المعارضة وصلبه لشبهه بعيسى ومن العجيب أن النصارى لا يعترفون بهذا الإنجيل مع انه وجد بمكتبة بابا روما وترجم إلى اللغة الإيطالية ثم إلى الإنجليزية وغيرهما من لغات العالم ولم يوجد بالعربية إلا بعدما ترجم إلى اللغة الإنجليزية أخيرا.
﴿ مكر الله ﴾ :
المكر لغة : هو تدبير خفي يقصد به إضرار من يمكر به ولا يطلق المكر على الله إلا بأسلوب المشاكلة المعروف في علم المعاني وهو التعبير عن الشيء بلفظ غيره لوقوعه في صحبته وقد أطلق هنا على إنجاء الله لعيسى وانتقامه من المنافق لوقوعه في صحبة مكرهم هكذا قال طائفة من العلماء.
وقال غير واحد : المكر هو التدبير المحكم وليس بممتنع على الله تعالى وفي الحديث الشريف " رب أعني ولا تعن علي... وامكر لي ولا تمكر علي ". ( ١٧٠ ).
ثم ختم الله الآية بقوله :﴿ والله خير الماكرين ﴾ أي أقواهم وأشدهم مكرا وانه أحسنهم مكرا لبعد تدبيره عن الظلم.
المفردات :
متوفيك : التوفي اخذ الشيء وافيا تاما ثم استعمل بمعنى الإماتة كما قال تعالى :﴿ الله يتوفى الأنفس حين موتها ﴾.
ومطهرك من الذين كفروا : بالرفع والتطهير من تهمة أمه بالزنا.
وجاعل الذين اتبعوك : بتصديق ما جئت به.
فوق الذين كفروا : بذلك.
التفسير :
٥٥- { إذ قال الله يا عيسى إني متوفيك ورافعك إلى ومطهرك من الذين كفروا وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة ثم إلى مرجعكم فأحكم بينكم فيما كنتم فيه تختلفون.
اختلف العلماء في المراد بالتوفي هنا.
١- فمن العلماء من قال إنه على حقيقته المعروفة إنه مرتبط بالآية السابقة.
والمعنى : ومكر اليهود بعيسى يريدون قتله ومكر الله فأحبط تدبيرهم وقال سبحانه وتعالى لعيسى ﴿ إني متوفيك ﴾ حين يأتي أجلك ولن أسلطهم عليك ليقتلوك وقد حقق الله وعده له إذ ألقى شبهه على يهوذا فقتلوه وأنجى عيسى ورفعه إليه وسيبقى إلى آخر الزمان ليبلغ شريعة محمد صلى الله عليه وسلم للناس ثم يتوفاه بعد ذلك كما ورد في السنة الصحيحة.
فالآية على هذا كناية عن عصمته من الأعداء مشفوعة بالبشارة برفعته.
٢- ومن العلماء من ذهب إلى ان الآية على ظاهرها وان التوفي هو الإماتة العادية وأن الرفع بعده للروح ولا غرابة في خطاب الشخص وإرادة روحه فالروح هي حقيقة الإنسان، والجسد كالثوب المستعار يزيد وينقص ويتغير والإنسان إنسان بروحه.
والمعنى : إني مميتك وجاعلك بعد الموت في مكان رفيع عندي كما قال إدريس عليه السلام :﴿ ورفعناه مكانا عليا ﴾ ونظرنا في تفسير هذه الآية يحكم علينا أن نشفع القرآن بالسنة الصحيحة التي تفيد ان عيسى عليه السلام قد رفع حيا بدون وفاة وتفيد انه سينزل آخر الزمان ليجدد ما درس من شريعة محمد صلى الله عليه وسلم.
روى الإمام مسلم عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " والله لينزلن ابن مريم حكما عادلا فليكسرن الصليب وليقتلن الخنزير، وليضعن الجزية، ولتتركن القلاص ( ١٧١ ). فلا يسعى عليها وليذهبن الشحناء والتباغض والتحاسد وليدعون على المال فلا يقلبه أحد " ( ١٧٢ ).
وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة ان الرسول صلى الله عليه وسلم قال : " كيف انتم إذا نزل فيكم ابن مريم وإمامكم منكم " ( ١٧٣ ).
وبما ان عيسى سيظل آخر الزمان فلابد ان يبق حيا إلى حين ينزل ويبلغ شرع الرسول محمد صلى الله عليه وسلم إذ لو مات قبل ذلك لكان نزوله هذا بعثا له في الدنيا ولا بعث إلا في الآخرة.
ومن المفسرين من ذهب إلى ان حديث الرفع والنزول في آخر الزمان حديث آحاد يتصل بأمر اعتقادي والأمور الاعتقادية لا يؤخذ فيها إلى بالدليل القاطع من قرآن أو حديث متواتر ولا يوجد هنا واحد منهما وقالوا ربما كان المراد بنزول المسيح وحكمه في الأرض غلبة روحه وسر رسالته على الناس بالأخذ بمقاصد الشريعة دون الوقوف عند ظواهرها والتمسك بقشورها دون لبابها ( ١٧٤ ) وسئل الشيخ محمد عبده عن المسيخ الدجال وقتل عيسى له فقال : " إن الدجال رمز للخرافات والدجل والقبائح التي تزول بتقرير الشريعة على وجهها والأخذ بأسرارها وحكمها وإن القرآن أعظم هاد إلى هذه الحكم والأسرار وسنة الرسول صلى الله عليه وسلم مبنية لذلك فلا حاجة للبشر إلى إصلاح وراء الرجوع إلى ذلك ( ١٧٨ ).
ونرى ان الدين لا يؤخذ بالرأي وان الحديث الصحيح قاطع الدلالة في هذا الموضوع فينبغي ان نقبل حكمه وقد مدح الله المؤمنين بأنهم يؤمنون بالمحكم ويفوضون إلى الله معرفة المتشابه مع الإيمان بما ورد على وجه الإجمال وتفويض حقيقة المراد إلى الله تعالى.
جاء في ضلال القرآن ما يأتي :
" لقد أرادوا صلب عيسى عليه السلام وقتله وأراد الله ان يتوفاه وان يرفعه إليه وان يطهره من مخالطة الذين كفروا والبقاء بينهم وهم رجس ودنس وان يكرمه فيجعل الذين اتبعوه فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة. وكان ما راده الله وأبطل الله مكر الماكرين ".
﴿ إذ قال الله يا عيسى إني متوفيك ورافعك إلى ومطهرك من الذين كفروا وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة ﴾
فأما كيف كانت وفاته وكيف كان رفعه... فهي أمور غيبية تدخل في المتشابهات التي لا يعلم تأويلها إلا الله ولا طائل وراء البحث فيها ولا في عقيدة ولا في شريعة والذين يجرون وراءها ويجعلونها مادة للجدل ينتهي بهم الحال إلى المراء وإلى التخطيط وإلى التعقيد دون ما جزم بحقيقة ودون ما راحة بال في أمر موكول إلى علم الله.
﴿ ومطهرك ممن الذين كفروا ﴾ أي أنجيك مما كانوا يريدون بك من الشر او مما كانوا يرمونه به من القبائح ونسبة السوء إليه.
﴿ وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة ﴾ من إكرام الله لعيسى انه قد جعل الذين اتبعوه في الدين وآمنوا به فوق الذين كفروا والمراد أنهم أعلى منهم روحا وأحسن خلقا وأكمل أدبا وقيل فوقهم في الحكم والسادة وإن يكن هذا غير مطرد بالنسبة لليهود والنصارى والمعروف الذي يحدثنا به التاريخ ان كل جماعة تتمسك بدينها وآدابه وأخلاقه لابد ان تكون فوق الجميع ( ١٧٦ ).
﴿ ثم إلى مرجعكم فأحكم بينكم فيما كنتم فيه تختلفون ﴾ أي ثم مصيركم إلى البعث فاحكم بينكم حينئذ فيما اختلفتم فيه من أمور الدين وهذا شامل للمسيح والمختلفين معه وشامل للاختلاف بين اتباعه والكافرين به وحينئذ يبين لهم الحق في كل ما اختلفوا فيه.
المعنى :
فأما الذين كذبوك وهو اليهود او كفروا بالحق وحادوا عنه أو جحدوا نبوة المسيح وجعلوه إلها او ابنا لله كل خارج عن الحق سيقع في العذاب الشديد في الدنيا بالقتل أو الأسر او الضيق النفسي وعدم الهداية والسعادة. وفي الآخرة ينتظرهم عذاب اشد وانكى وما لهم من ناصرين يدفعون عنهم عذاب الله.
المعنى :
إن الجزاء من جنس العمل فالكافر ينتظره العقاب في الدنيا والآخرة والمؤمن ينتظره الثواب في الدنيا والآخرة وإنه سبحانه يوفي المؤمنون أجورهم في الدنيا بطمأنينة النفس وهدوء البال وسعة الرزق والنصر والعود يستوي في ذلك الأفراد والجماعات فالقاعدة الإلهية العامة هي ان كل من آمن بالله وعمل صالحا فإن الله
سبحانه وتعالى يكتب له الفوز في الحياة الطيبة في الدنيا والآخرة يقول سبحانه فيما يتعلق بالإفراد :
{ من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم بأحسن ما كانوا يعملون :. ( النحل ٩٦ ).
ويقول سبحانه عن الجماعات :{ ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض. ( الأعراف : ٩٦ ).
وفي ختام هذه الآية نجد هذه القاعدة الأصلية.
﴿ والله لا يحب الظالمين ﴾ فالظلم خروج عن قوانين الفطرة وجور العدل ووضع الشيء في غير موضعه والظالم يتعرض لغضب الله في الدنيا ولعقوبة يوم القيامة.
قال صلى الله عليه سلم : " إن الله ليملي للظالم فإذا أخذه لم يفلته " ثم قرأ :{ وكذلك أخذ ربك القرى وهي ظالمة إن أخذه اليم شديد ( هود ١٠٢ ).
والظالم يتعرض للقصاص العادل في يوم الجزاء أخرج الإمام مسلم في صحيحه عن جابر رضي الله عنه أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال : " اتقوا الظلم فإن الظلم ظلمات يوم القيامة واتقوا الشح فإن الشح اهلك من كان قبلكم حملهم على ان سفكوا دماءهم واستحلوا محارمهم " ( ١٧٧ ).
المفردات :
من الآيات : من الحجج الدالة على صدقك.
والذكر الحكيم : والقرآن المحكم أو المتصف بالحكمة.
التفسير :
أي هذه الأنباء التي أنبأتك بها عن عيسى وأمه مريم وأمها، وزكريا وابنه يحيى وما قص من أمر الحواريين واليهود من بني إسرائيل نقرؤها لك على لسان جبريل وهو القرآن الحكيم الذي يبين وجوه العبر في الأخبار والحكم في الأحكام فيهدي المؤمنين إلى لب الدين وفقه الشريعة وأسرار الاجتماع البشري.
وفيها حجة على من حاجك من وفد نجران ويهود بني إسرائيل الذين كذبوك وكذبوا ما جئتهم به من الحق.
المفردات :
إن مثل عيسى : المثل الحال الغريبة والشأن البديع.
كن فيكون : أي صر بشرا فصار بشرا والتعبير بالمضارع بدل الماضي لتصويره بصورة الحاضر المشاهد إذانا بغرابته ﴿ فلا تكن ممن الممترين ﴾ الامتراء الشك أو الجدال أي لا تكن من الشاكين أو من المجادلين في شانه بعد وضوح الحق والخطاب لكل مكلف.
سبب النزول :
نزلت هذه الآيات على رسول الله صلى الله عليه وسلم عند حضور وفد نجران وكان من جملة شبههم ان قالوا يا محمد لما سلمت أنه لا أب لعيسى من البشر وجب أن يكون أبوه هو الله تعالى وزعموا ان معنى كونه " كلمة الله وروح الله " أن الله حل في أمه وان كلمة الله فيه فصار إنسانا وإلها فضرب مثلا بآدم ليرد به على الكافرين والمفتونين.
التفسير :
٥٩- ﴿ إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون ﴾ إن حال عيسى وصفته العجيبة في خلقه من غير أب كحال آدم أبي البشر أراد الله خلقه من تراب ثم قال له صر وكن بأمري بشرا سويا ذا لحم ودم وعظام وأعصاب وعقل وأراده فصار بشرا كما راده الله تعالى.
وتم بذلك خلقه من تراب دون أب وأم فكان بذلك أعجب من خلق عيسى من أم دون أب.
وإذا كنتم أيها النصارى لا تقولون بألوهية آدم ولا بنبوته لله فكيف تقولون بألوهية عيسى او بنبوته لله وهو من دون آدم في غرابة خلقه والآية دلالة على صحة القياس وشرعية النظر والاستدلال فقد احتج الله عليهم بخلق آدم من غير أب ولا ام وحيث لم يقولوا بألوهية آدم وجب القول بعدم ألوهية عيسى من باب أولى.
نزلت هذه الآيات على رسول الله صلى الله عليه وسلم عند حضور وفد نجران وكان من جملة شبههم ان قالوا يا محمد لما سلمت أنه لا أب لعيسى من البشر وجب أن يكون أبوه هو الله تعالى وزعموا ان معنى كونه " كلمة الله وروح الله " أن الله حل في أمه وان كلمة الله فيه فصار إنسانا وإلها فضرب مثلا بآدم ليرد به على الكافرين والمفتونين.
٦٠- ﴿ الحق من ربك فلا تكن من الممترين ﴾
أي هذا الذي أخبرتك به هو الحق في شان عيسى عليه السلام فدم على يقينك وعلى ما أنت عليه من الاطمئنان إلى الحق والتنزه عن الشك فيه.
والخطاب قد يوجه للنبي ويرد به كل من يجادل في شان عيسى وكل من يخالجه شك في أمره وتظهر فائدة ذلك من وجهين :
١- أنه إذا سمع صلى الله عليه وسلم مثل هذا الخطاب ازداد رغبة في الثبات على اليقين واطمئنان النفس.
٢- انه إذا سمعه غيره ازدجر ونزع عما يورث الامتراء إذ انه صلى الله عليه وسلم على جلالة قدره وقد خوطب بمثل هذا فما بالك بغيره ؟
٣- وذهب بعض المفسرين إلى ان الخطاب في هذه الآية ليس للنبي صلى الله عليه وسلم إذ لا يصح ان يكون الرسول شاكا أو مجادلا للباطل وإنما الخطاب لمن يجادل في شأن عيسى أو يشك في امره.
والمعنى :
الحق في شان عيسى نازل من ربك أيها المجادل في شأنه فلا تكونن من الشاكين في أمره بعدما أسفر الصبح لذي عينين بهذه الحجة القاطعة لكل ريب ويصح أن يكون الامتراء بمعنى المجادلة بالباطل أي فلا تكونن بعد هذا الحق النازل من ربك من المجادلين في الباطل والخطاب فيه كسابقه لغير رسول الله صلى الله عليه وسلم من المجادلين والشاكين أو هو لكل من بأتي منه الخطاب.
نزلت هذه الآيات على رسول الله صلى الله عليه وسلم عند حضور وفد نجران وكان من جملة شبههم ان قالوا يا محمد لما سلمت أنه لا أب لعيسى من البشر وجب أن يكون أبوه هو الله تعالى وزعموا ان معنى كونه " كلمة الله وروح الله " أن الله حل في أمه وان كلمة الله فيه فصار إنسانا وإلها فضرب مثلا بآدم ليرد به على الكافرين والمفتونين.
٦١- ﴿ فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم ثم نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين ﴾
المفردات :
حاجك : أي جادلك.
ثم نبتهل : أي ثم ندع الله مضارع من الابتهال وهو الدعاء.
التفسير :
الخطاب في هذه الآية للرسول صلى الله عليه وسلم لقد بينت الآيات السابقة حقيقة عيسى عليه السلام بما فيه كفاية وغناء لطالب الإيضاح والبيان.
وهنا يوجه الله تعالى رسوله الكريم إلى ان ينهي الجدل والمناظرة حول هذه القضية الواضحة وحول هذا الحق المبين.. والمعنى فمن جادلك في شأن عيسى بعد هذا البيان فلا تجادلهم في شأن منه وأفحمهم وقل لهم :﴿ تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم ثم نبتهل ﴾. ويضرع كل منا على الله تعالى ويدعوه ان يجعل لعنته على الكاذبين منا.
وقد حدث ان النبي صلى الله عليه وسلم لما نزلت هذه الآية اخبر وفد من نجران بها ودعاهم إلى اجتماع حاشد ومعهم نساؤهم وابناؤهم ليبتهل الجميع إلى الله تعالى أن ينزل لعنته على الكاذب من الفريقين.
وحضر الرسول في الموعد ومعه الحسن والحسين وفاطمة وعلي فلم يجدهم فقد تشاوروا فيما بينهم فقالوا للعاقب وكان صاحب رأيهم يا عبد المسيح ماذا ترى ؟ قال والله يا معشر النصارى لقد عرفتم أن محمدا لنبي مرسل ولقد جاءكم بالفصل من خبر صاحبكم ولقد علمتم أنه ما لاعن قوم نبيا قط فيبقى كبيرهم ولا نبت صغيرهم وإنه للاستئصال منكم إن فعلتم فإن كنتم أبيتم إلا إلف دينكم والإقامة على ما كنتم عليه من القول في صاحبكم فوادعوا الرجل وانصرفوا إلى بلادكم فأتوا النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا : يا أبا القاسم قد رأينا ألا نلاعنك ونتركك على دينك وان نرجع على ديننا ولكن ابعث معنا رجلا من أصحابك ترضاه لنا يحكم بيننا في أشياء اختلفنا فيها من أموالنا فإنكم عندنا رضا فأمر النبي أيا عبيدة ابن الجراح أن يخرج معهم ويقضي بينهم بالحق فيما اختلفوا فيه ( ١٧٨ ).
واخرج أبو نعيم في الدلائل عن الضحاك وابن عباس ان النبي صلى الله عليه وسلم صالحهم على الجزية ومقدارها ألف حلة في صفر ومثلها في رجب ودراهم وذلك بعد أن ا شار عليهم يهود المدينة بالصلح وعدم الملاعنة وقالوا هو النبي صلى الله عاليه وسلم الذي نجده في التوراة ( ١٧٩ ).
قد يقول قائل : ان الجزية فرضت بعد فتح مكة ووفد نجران جاء قبلها فكيف يقال إن الرسول صلى الله عليه وسلم صالحهم على الجزية ؟ الجواب أن ذلك من باب المصالحة على ترك المباهلة وجاء فرض الجزية بعد ذلك على وقف ما صنعه الرسول وقد أجيب بأجوبة أخرى فارجع إليها إن شئت في تفسير ابن كثير.
نزلت هذه الآيات على رسول الله صلى الله عليه وسلم عند حضور وفد نجران وكان من جملة شبههم ان قالوا يا محمد لما سلمت أنه لا أب لعيسى من البشر وجب أن يكون أبوه هو الله تعالى وزعموا ان معنى كونه " كلمة الله وروح الله " أن الله حل في أمه وان كلمة الله فيه فصار إنسانا وإلها فضرب مثلا بآدم ليرد به على الكافرين والمفتونين.
٦٢- ﴿ إن هذا لهو القصص الحق وما من إله إلا الله وإن الله لهو العزيز الحكيم ﴾.
المفردات :
وما من إله : ما : نافية ومن لتأكيد الاستغراق المفهوم من النكرة المنفية وهو كلمة ( إله ).
التفسير :
إن الذي قصصناه عليك في شان عيسى هو القصص الحق المطابق للواقع الذي لا يصح العدول عنه إلى ما عليه النصارى في شانه من انه الله وانه ابن الله أو ثالث ثلاثة.
﴿ وما من إله إلا الله ﴾ فلا شريك له في ملكه بأي وجه من الوجوه ولا معبود بحق سواه.
﴿ إن الله لهو العزيز الحكيم ﴾ أي الغالب الذي لا يقهر المتقن لما يصنعه ويدبره.
نزلت هذه الآيات على رسول الله صلى الله عليه وسلم عند حضور وفد نجران وكان من جملة شبههم ان قالوا يا محمد لما سلمت أنه لا أب لعيسى من البشر وجب أن يكون أبوه هو الله تعالى وزعموا ان معنى كونه " كلمة الله وروح الله " أن الله حل في أمه وان كلمة الله فيه فصار إنسانا وإلها فضرب مثلا بآدم ليرد به على الكافرين والمفتونين.
٦٣- ﴿ فإن تولوا فإن الله عليم بالمفسدين ﴾.
فإن اعرضوا عن اتباعك في دينك ولم يقبلوا عقيدة التوحيد التي جئت بها ولم يجيبونك إلى المباهلة فجزاؤهم وعقابهم عند الله وإن الله عليم بحال المفسدين فيجازيهم على فسادهم وإفسادهم وأظهر في مكان الإضمار فلم يقل عليم بهم بل قال عليم بالمفسدين لإظهار فسادهم واستحقاقهم للعقوبة وفي هذا تهديد بليغ لهم.
تمهيد :
بين الله فيما سلف أحوال عيسى عليه السلام وما يعتروه من الأطوار المنافية للألوهية ثم دعا أهل الكتاب إلى المباهلة فاعرضوا وبذلك انقطعت محجبتهم.
وهنا يدعوهم القرآن إلى أمر آخر هو أصل الدين وروحه الذي اتفقت عليه دعوة الأنبياء جميعا ألا وهو عبادة الله وحده لا شريك له فلما اعرضوا أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يقولوا لهم اشهدوا بأنا مسلمون.
المفردات :
أهل الكتاب : اليهود والنصارى.
تعالوا : اقبلوا ووجهوا النظر إلى ما دعيتم إليه.
إلى كلمة : إلى العمل بكلمة والمراد بها هنا الكلام الآتي بيانه في الآية الكريمة.
سواء بيننا وبينكم ولا يتخذ بعضنا بعضا : مستوية عادلة نعمل بها جميعا ولا نختلف فيها.
أرباب من دون الله : الرب هو السيد المربي الذي يطاع فيما يأمر وينهى ويراد به هنا ما له حق التشريع من تحريم وتحليل.
مسلمون : منقادون لله مخلصون له.
التفسير :
٦٤- ﴿ قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا... ﴾.
قل يا أهل الكتاب هلموا وانظروا في مقالة عادلة اتفقت عليها الرسل والكتب وأمرت بها التوراة والإنجيل والقرآن ثم بين هذه الكلمة فقال :
﴿ ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ﴾ لا صنما ولا كوكبا ولا نارا ولا ملائكة ولا غير ذلك.
﴿ ولا يتخذ بعضنا بعضا أرباب من دون الله ﴾ فلا يتخذ اليهود عزيرا ابنا لله ولا يتخذ النصارى المسيح ابنا لله ولا يقولون إنه ثالث ثلاثة.
وقد حوت هذه الآية وحدانية الالوهية ووحدانية الربوبية وهذا القدر متفق عليه في جميع الأديان فقد جاء إبراهيم بالتوحيد وجاء به موسى وعيسى ومحمد خاتم النبيين وقد جاء في أسفار العهد القديم نصوص عديدة ناطقة بتوحيد الله وتنزيهه عن الشريك ( ١٨٠ ).
وقد كان اليهود موحدين وفي التوراة يقول الله لموسى : " إن الرب إلهك لا يكن لك آلهة أخرى ".
ومنبع شقاء اليهود إتباعهم لرؤساء الدين فيما يقررون من الأحكام وجعله بمنزلة الأحكام المنزلة من عند الله وسار النصارى على هذا المنوال وزادوا مسألة غفران الخطايا وهي مسألة كان لها أثر خطير في المجتمع المسيحي حتى بلغ من أمرها ان ابتلعت الكنائس أكثر أموال الناس فقامت طائفة جديدة تطلب الإصلاح فرقة ( البروتستانت ) وقالت دعونا من هؤلاء الأرباب وخذوا الدين من الكتاب ولا تشركوا معه شيئا سواه من قول وفلان.
روى عدى ابن حاتم قال " أتيت رسول الله صلى الله صلى الله عليه وسلم وفي عنقي صليب من ذهب فقال يا عدى اطرح عنك هذا الوثن وسمعته يقرا في سورة براءة ﴿ اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباب من دون الله ﴾ فقلت : يا رسول الله لم يكونوا يعبدونهم فقال : اما كانوا يحللون لكم ويحرمون فلا تأخذون بأقوالهم قال نعم فقال عليه الصلاة والسلام : هو كذلك " ( ١٨١ ).
ثم قال له لنبي محمد صلى الله عليه وسلم :{ فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأننا مسلمون. أي فإن اعرضوا عما دعوتم إليه من توحيد الله وعدم إشراك غيره معه في العبادة فاعلموا أنهم لزمتهم الحجة ولكنهم إن أبوا الحق عنادا فقلوا لهم أنصفونا واشهدوا معترفين لنا بأننا مسلمون مخلصون لربنا.
وقد ورد في صحيح البخاري ان الر سول صلى الله عليه وسلم أرسل كتابه إلى قيصر ملك الروم يدعوه للإسلام وفيه :
بسم الله الرحمن الرحيم من محمد رسول الله إلى هرقل عظيم الروم سلام على من اتبع الهدى اما بعد فأسلم تسلم يؤتك الله أجرك مرتين فإن توليت فإنما عليك إثم الإريسين :
﴿ قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أرباب من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون ﴾. ( ١٨٢ ).
بين الله فيما سلف أحوال عيسى عليه السلام وما يعتروه من الأطوار المنافية للألوهية ثم دعا أهل الكتاب إلى المباهلة فاعرضوا وبذلك انقطعت محجبتهم.
وهنا يدعوهم القرآن إلى أمر آخر هو أصل الدين وروحه الذي اتفقت عليه دعوة الأنبياء جميعا ألا وهو عبادة الله وحده لا شريك له فلما اعرضوا أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يقولوا لهم اشهدوا بأنا مسلمون.
٦٥- ﴿ يا أهل الكتاب لما تحاجون في إبراهيم وما أنزلت التوراة والإنجيل إلا من بعده أفلا تعقلون ﴾.
المفردات :
تحاجون : تجادلون
التفسير :
أخرج ابن إسحق وابن جرير عن ابن عباس رضي الله عنه قال " اجتمعت نصارى نجران وأحبار يهود عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فتنازعوا عنده فقالت الأحبار ما كان إبراهيم إلا يهوديا وقالت النصارى ما كان إبراهيم إلا نصرانيا فانزل الله :
﴿ يا أهل الكتاب لم تحاجون في إبراهيم... ﴾ أي كيف تدعون أيها اليهود أنه كان يهوديا وقد كان زمنه قبل ان ينزل الله التوراة على موسى ؟
وكيف تدعون أيها النصارى انه كان نصرانيا وإنما حدثت النصرانية بعد زمنه بدهر ؟.
وما أنزلت التوراة والإنجيل إلا من بعده أفلا تعقلون.
أي وما أنزلت التوراة على موسى ولا الإنجيل على عيسى إلا من بعد إبراهيم بأحقاب طوال وقد قالوا : إن بين إبراهيم سبعمائة سنة، وبين موسى وعيسى حوالي ألف سنة ( ١٨٣ ).
﴿ أفلا تعقلون ﴾ إن المتقدم على الشيء لا يمكن ان يكون تابعا له.
بين الله فيما سلف أحوال عيسى عليه السلام وما يعتروه من الأطوار المنافية للألوهية ثم دعا أهل الكتاب إلى المباهلة فاعرضوا وبذلك انقطعت محجبتهم.
وهنا يدعوهم القرآن إلى أمر آخر هو أصل الدين وروحه الذي اتفقت عليه دعوة الأنبياء جميعا ألا وهو عبادة الله وحده لا شريك له فلما اعرضوا أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يقولوا لهم اشهدوا بأنا مسلمون.
٦٦- ﴿ هاأنتم هؤلاء حاججتم فيما لكم به علم فلما تحاجون فيما ليس لكم به علم والله يعلم وانتم لا تعلمون ﴾
ها أنتم هؤلاء حاججتم فيما لكم به علم من أمر موسى وعيسى ومحمد عليهم السلام فعندكم التوراة والإنجيل تعرفون منهما أمرهم وإن كنتم غيرتم فيما بدلتم فلماذا تحاجون في أمر دين إبراهيم وانتم لا علم لكم بتفاصيله ولا بما جاء به في صحفه ؟
﴿ والله يعلم وانتم لا تعلمون ﴾ أي والله يعلم ما غاب عنكم ولا تشاهدوه ولم يأتكم به الرسل من أمر إبراهيم وغيره مما تجادلون فيه.
بين الله فيما سلف أحوال عيسى عليه السلام وما يعتروه من الأطوار المنافية للألوهية ثم دعا أهل الكتاب إلى المباهلة فاعرضوا وبذلك انقطعت محجبتهم.
وهنا يدعوهم القرآن إلى أمر آخر هو أصل الدين وروحه الذي اتفقت عليه دعوة الأنبياء جميعا ألا وهو عبادة الله وحده لا شريك له فلما اعرضوا أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يقولوا لهم اشهدوا بأنا مسلمون.
٦٧- ﴿ ما كان إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا ولكن كان حنيفا مسلما وما كان من المشركين ﴾.
المفردات :
حنيفا مسلما : الحنيف المائل عن العقائد الزائفة المسلم : الموحد المخلص لله.
التفسير :
ما كان إبراهيم يهوديا كما ادعى اليهود ولا نصرانيا كما ادعى النصارى ولكن حنيفا أي مائلا عن الأديان الباطلة مسلما : أي على طريقة الإسلام من التوحيد.
﴿ وما كان من المشركين ﴾. الذين يسمون أنفسهم الحنفاء ويدعون انهم على ملة إبراهيم وهم قريش ومن وافقهم من العرب.
وليس المراد بكونه مسلما أنه كان على مثل ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم من الشريعة بالتفصيل فإنه يرد على هذا ان هذه الشريعة جاءت من بعده كما كانت التوراة والإنجيل من بعده وإنما المراد انه كان متحققا بمعنى الإسلام الذي يدل عليه لفظه وهو التوحيد والإخلاص لله في عمل الخير تحقيقا لقوله سبحانه ﴿ إن الدين عند الله الإسلام ﴾ ( آل عمران ١٩ ).
بين الله فيما سلف أحوال عيسى عليه السلام وما يعتروه من الأطوار المنافية للألوهية ثم دعا أهل الكتاب إلى المباهلة فاعرضوا وبذلك انقطعت محجبتهم.
وهنا يدعوهم القرآن إلى أمر آخر هو أصل الدين وروحه الذي اتفقت عليه دعوة الأنبياء جميعا ألا وهو عبادة الله وحده لا شريك له فلما اعرضوا أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يقولوا لهم اشهدوا بأنا مسلمون.
٦٨- ﴿ إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه وهذا النبي والذين آمنوا والله ولي المؤمنين ﴾.
روى عن ابن عباس انه قال : قال رؤساء اليهود : والله يا محمد لقد علمت أنا أولي بدين إبراهيم منك ومن غيرك وانه كان يهوديا وما بك إلا الحسد فأنزل الله تعالى هذه الآية.
ومعنى الآية :
أن أولي الناس بإبراهيم ونصرته وولايته هم الذين سلكوا طريقة منهاجه في عصره فوحدوا الله مخلصين له الدين حنفاء مسلمين غير مشركين وهذا النبي صلى الله عليه وسلم والذين آمنوا معه فإنهم اهل التوحيد الذي لا يشوبه اتخاذ الأولياء ولا التوسل بالشفعاء.
﴿ والله ولي المؤمنين ﴾ بالنصر والمعونة والمحبة.
تمهيد :
قال المفسرون :
ان اليهود دعوا معاذا وحذيفة وعمار إلى دينهم فانزل الله { ودت طائفة من اهل الكتاب لو يضلونكم.. الآية ( ١٨٤ ).
وقيل نزلت في اليهود والنصارى.
ولا شك انهم كانوا اشد الناس حرصا على إضلال المؤمنين سواء دعوا بعض الصحابة إلى دينهم ام لا.
وليس الإضلال خاصا بالدعوة بل كانوا يلقون ضروبا من الشك في النفس ليصدوها عن الإسلام من أغربها ما في الآية الآتية ( ٧٢ ).
المفردات :
ودت : ود الشيء أحبه.
طائفة : جماعة وهو الأحبار والرؤساء.
لو يضلونكم : لو بمعنى أن، أي يضلوكم.
وما يضلون إلا أنفسهم : الإضلال بمعنى الإهلاك مجازا فالمعنى وما يهلكون إلا أنفسهم بتمني إضلالكم أو بمعنى الإخراج عن الهدى فالمعنى وما تعود عاقبة الإضلال إلا على أنفسهم أو بمعنى الخداع فهم يخدعونكم وما يخدعون إلا أنفسهم في الحقيقة.
وما يشعرون : وما يفطنون لذلك.
والمعنى :
أحبت طائفة من اهل الكتاب ان يهلكوكم بالتفكير والإخراج عن الإيمان وما يهلكون إلا أنفسهم بما يفعلون وما يفطنون لذلك لزعمهم انهم على الحق.
قال المفسرون :
ان اليهود دعوا معاذا وحذيفة وعمار إلى دينهم فانزل الله { ودت طائفة من اهل الكتاب لو يضلونكم.. الآية ( ١٨٤ ).
وقيل نزلت في اليهود والنصارى.
ولا شك انهم كانوا اشد الناس حرصا على إضلال المؤمنين سواء دعوا بعض الصحابة إلى دينهم ام لا.
وليس الإضلال خاصا بالدعوة بل كانوا يلقون ضروبا من الشك في النفس ليصدوها عن الإسلام من أغربها ما في الآية الآتية ( ٧٢ ).
٧٠- ﴿ يا أهل الكتاب لم تفكرون بآيات الله وانتم تشهدون ﴾.
المفردات :
بآيات الله : الآيات هنا ما يدل على صدق نبوة محمد صلى الله عليه وسلم.
وأنتم تشهدون : أي تعلمون ما يدل على صحتها من التوراة والإنجيل.
التفسير :
لأي سبب تكفرون بما ترونه من البراهين الواضحة الدالة على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وانتم تشهدون بصحتها بما جاء من كتبهم من نعته والبشارة به.
أو : لماذا تفكرون بآيات القرآن النازل من عند الله وانتم تعلمون من التوراة والإنجيل ما يدل على صحتها ووجوب الاعتراف بها ؟
قال المفسرون :
ان اليهود دعوا معاذا وحذيفة وعمار إلى دينهم فانزل الله { ودت طائفة من اهل الكتاب لو يضلونكم.. الآية ( ١٨٤ ).
وقيل نزلت في اليهود والنصارى.
ولا شك انهم كانوا اشد الناس حرصا على إضلال المؤمنين سواء دعوا بعض الصحابة إلى دينهم ام لا.
وليس الإضلال خاصا بالدعوة بل كانوا يلقون ضروبا من الشك في النفس ليصدوها عن الإسلام من أغربها ما في الآية الآتية ( ٧٢ ).
٧١- ﴿ يا أهل الكتاب لم تلبسون الحق بالباطل وتكتمون الحق وانتم تعلمون ﴾.
المفردات :
تلبسون : تخلطون
التفسير :
يا أهل الكتاب لماذا تسترون الحق بالباطل أو تخلطونه به وذلك بتحريفكم آيات التوراة والإنجيل وسوء تأويلكم لها ؟ لماذا تكتمون الحق في شأن محمد وبشارته الموجودة في كتبكم وأنتم تعلمون انه حق وان ما جاء به هو من عند الله تعالى ؟
المفردات :
وجه النهار : أوله سمي وجها لأنه أول ما يواجهك منه.
التفسير :
٧٢- ﴿ وقالت طائفة من أهل الكتاب آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا وجه النهار واكفروا آخره لعلهم يرجعون ﴾.
سبب النزول :
قال الحسن والسدى : تواطأ اثنا عشر رجلا من أحبار يهود خيبر وقرى عرينة وقال بعضهم لبعض : ادخلوا في دين محمد أول النهار باللسان دون الاعتقاد واكفروا آخره وقولوا إنا نظرنا في كتبنا وشاورنا علماءنا فوجدنا محمد ليس بذلك وظهر لنا كذبه وبطلان دينه فإذا فعلتم ذلك شك أ صحابه في دينهم، وقالوا إنهم أهل كتاب وهو اعلم به فيرجعون عن دينهم إلى دينكم.. ( ١٨٥ ) واخرج ابن جرير عن مجاهد قال ( صلت يهود مع محمد صلاة الصبح وكفروا آخر النهار مكرا منهم ليروا الناس قد بدت لهم منه الضلالة بعد أن كانوا اتبعوه ) ( ١٨٦ ). قال الشيخ محمد عبده : هذا النوع الذي تحكيه الآية من صد اليهود عن الإسلام مبني على قاعدة طبيعية في البشر وهي ان من علامة الحق ألا يرجع عنه من يعرفه وقد فقه في هذا هرقل صاحب الروم فكان مما سأل عنه أبا سفيان من شؤون النبي صلى الله عليه وسلم عندما دعاه إلى الإسلام ( هل يرجع عن دين محمد من دخل فيه ؟ فقال أبو سفيان : لا ).
وقد أرادت هذه الطائفة ان تغش الناس من هذه الناحية ليقولوا لو أن ظهر لهؤلاء بطلان الإسلام لما رجعوا عنه بعد ان دخلوا فيه واطلعوا على باطنه وخوافيه إذ لا يعقل ان يترك الإنسان الحق بعد معرفته ويرغب عنه بعد الرغبة فيه بغير سبب.
لطيفة :
قال الرازي : الفائدة من إخبار الله تعالى عن تواطئهم على هذه الحيلة من وجوه :
الأول : ان هذه الحيل كانت مخفية فيما بينهم وما أطلعوا عليها أحد من الأجانب فلما أخبر الرسول عنها كان ذلك إخبار عن الغيب فيكون معجزا.
الثاني : انه تعالى لما اطلع المؤمنين على تواطئهم على هذه الحيلة لم يحصل لها اثر في قلوب المؤمنين ولولا هذا الإعلام لكان ربما أثرت في قلب بعض من في إيمانه ضعف.
الثالث : أن القوم لما افتضحوا في هذه الحيلة صار ذلك رادعا لهم عن الإقدام على أمثالها من الحيل والتلبيس.
المفردات :
أن يؤتي احد مثلما أوتيتم : أي كراهة ان يؤتى مثل ما أوتيتم.
او يحاجوكم عند ربكم : أي يحاجوكم به عند كتاب ربكم بالتحاكم إليه.
التفسير :
تواصي اليهود بألا يطيعوا المسلمين على شيء من أسرار كتابهم كالبشارة بنبينا محمد عليه الصلاة والسلام وأمارته ﴿ ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم ﴾.
من معاني الإيمان في اللغة الثقة والطمأنينة.
والمعنى : ولا تثقوا إلا بأبناء ملتكم من اليهود ولا تطمئنوا إلا إليهم فلا تذيعوا أسرارنا للمسلمين فإن ذلك يفسد علينا تدبيرنا.
وقد انتهى كلام اليهود عند قولهم { ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم : كما رجحه الفراء.
﴿ قل إن الهدى هدى الله ﴾ أي قل يا محمد لهؤلاء المتآمرين توبيخا لهم ان الهدى هدى الله تعالى فلا يتوقف على إظهاركم ما عندكم من البشائر بنبوة محمد والعلامات الدالة عليه ولا يزيله كفرهم آخر النهار بعد إيمانكم أوله فمن أراد الله هداه أقنعه بما أيد به رسوله من الآيات البينات وأورثه الطمأنينة التامة في قلبه وحفظه من كيد الكائدين وكشف له دسائسهم ومؤامراتهم.
ثم أمر الله ورسوله أن يقول لليهود :
﴿ أن يؤتي أحد مثل ما أوتيتم أو يحاجوكم عند ربكم ﴾.
وفي الكلام جملة مقدرة يقتضيها المقام والتقدير أتكيدون هذا الكيد كراهة ان يؤتى احد مثل ما أوتيتم أو يحاجوكم به عند ربكم ؟.
وجاء في تفسير القاسمي :
أي بمد الألف على الاستفهام في قراءة ابن كثير وتقديرها في قراءة غيره أي دعاكم الحسد والبغي حتى قلتم ما قلتم ودبرتموه الآن ﴿ يؤتي أحد مثل ما أوتيتم ﴾ من الشرائع والعلم والكتاب.
أو كراهة ان ﴿ يحاجوكم ﴾ أي الذين أوتوا مثل ما أوتيتم عند ربكم أي بالشهادة عليكم يوم القيامة انهم آمنوا وكفرتم بعد البيان الواضح فيفضحكم. " اه.
﴿ قل إن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء والله واسع عليم ﴾.
أي قل لهم إن الرسالة فضل من الله ومنه والله واسع العطاء وهو العليم بالمستحق فيعطيه من هو له أهل وفي هذا إيماء إلى ان اليهود قد ضيقوا هذا الفضل الواسع بزعمهم حصر النبوة فيهم وجهلوا الحكم والمصالح التي من أجلها يعطي النبوة من يشاء.
ويرى بعض المفسرين ان الآية كلها يمكن أن تكون خطابا من الله للمؤمنين على جهة التثبيت لقلوبهم وتنوير بصائرهم وحفظهم من تشكيك اليهود وتزويرهم في دينهم.
والمعنى :
ولا تصدقوا يا معشر المؤمنين إلا من تبع دينكم اما غيره فاحذروهم، قل لهم يا محمد إن الهدى هدى الله أنزله على محمد أما ما يقوله أعداء الإسلام فهو من تزويرهم فلا تصدقوا ان يؤتي أحد مثل ما أوتيتم من الهدى والحق ولا ان يحاجوكم بما لديهم من دينهم عند ربكم فلا قدرة لهم على ذلك قل إن الفضل بيد الله... إلخ.
وجاء في تفسير المنار وغيره تفسيرات أخرى للآية لا تخلوا من مآخذ.
أي إن فضله الواسع ورحمته العامة يعطيها بحسب مشيئته لا كما يزعم أهل الكتاب من قصرها على الشعب المختار من بني إسرائيل فهو يبعث من يشاء نبيا ويبعثه رسولا ومن اختصه بهذا فإنما يختصه بمزيد فضله وعظيم إحسانه لا بعمل قدمه ولا لنسب شرفه فالله لا يحابي أحدا لا فردا ولا شعبا تعالى الله عن ذلك علو كبيرا.
المفردات :
تأمنه : من أمنته بمعنى ائتمنته ويقال أمنته بكذا او على كذا.
قنطار : المراد به هنا العدد الكثير أو المال الكثير كما ان المراد بالدينار العدد القليل.
ليس علينا في الأميين سبيل : يعنون بالأميين العرب بجهلهم وقتئذ بالكتابة والقراءة.
سبيل : مؤاخذة وذنب ومعنى كلامهم ليس علينا فيما نأخذه من أموالهم مأخذ ولا حساب.
التفسير :
٧٥- ﴿ ومن اهل الكتاب من عن تأمنه بقنطار يؤده إليك ومنهم من إن تأمنه بدينار لا يؤده إليك... ﴾
هذه الآية من اظهر الأدلة على سماحة القرآن فقد تحدثت الآيات السابقة عن اهل الكتاب والكلام هنا موصول عنهم والآية تصفهم وتذكر ان منهم أمناء يؤدون الأمانة مهما كثر مقدارها ومنهم خونة يجحدون الأمانة مهما قل عددها.
فمن الأمناء عبد الله ابن سلام استودعه عربي قرشي ألفا ومائتي أوقية ذهبا حين كان ابن سلام على يهوديته فلما طلبها القرشي أداها إليه كاملة ومن الخونة رجل اسمه فنحاص بن عازوراء استودعه رجل آخر منم قريش دينارا فجحده ثم بينت الآية السبب في هذا السلوك ثم قالت ﴿ ذلك بأنهم قالوا ليس علينا في الأميين سبيل ﴾ أي ليس علينا إثم في أكل أموالهم فلا حساب ولا عقاب في أكل أموال العرب.
وخلاصة رأيهم ان كل من ليس من شعب الله المختار من أهل دينهم فلا يأبه الله له بل هو مبغض عنده محتقر لديه فلا حقوق له ولا حرمة لماله فكل ما يستطاع أخذه منه فلا ضير فيه ولا شك ان هذا من الصلف والغرور والغلو في الدين واحتقار المخالف وهضم حقوقه.
روى ابن جرير ان جماعة من المسلمين باعوا لليهود بعض سلع لهم في الجاهلية فلما أسلموا تقاضوهم الثمن فقالوا ليس علينا أمانة ولا قضاء لكم عندنا لأنكم تركتم دينكم الذي كنتم عليه وادعوا إنهم وجدوا ذلك في كتابهم فرد الله عليهم بقوله :
﴿ ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون ﴾ وهم إذ يقولون هذا - يكذبون على الله تعالى - عن عمد وعلم انهم كاذبون لأن من جاء من عند الله فهو في كتابه والتوراة التي بين أيديهم ليس فيها خيانة الأميين ولا أكل أموالهم بالباطل.
أخرج عبد الرزاق بن أبي صعصعة بن يزيد ان رجلا سال ابن عباس فقال : إنا نصيب في الغزو من أموال اهل الذمة الدجاجة والشاة. قال ابن عباس فتقولون ماذا ؟ قال نقول ليس علينا بذلك بأس قال ابن عباس : هذا كما قال أهل الكتاب :﴿ ليس علينا في الأميين سبيل ﴾ إنهم إذا أدوا الجزية لم تحل لكم أموالهم إلا بطيب أنفسهم ( ١٨٧ ).
و أخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير قال : لما قال اهل الكتاب :﴿ ليس علينا في الأميين سبيل ﴾ قال نبي الله صلى الله عليه وسلم : " كذب أعداء الله ما من شيء كان في الجاهلية إلا وهو تحت قدمي هاتين إلا الأمانة فإنها مؤداة إلى البر والفاجر " ( ١٨٨ ).
ويستفاد من الآية ما يأتي :
١- لا يحل لمسلم ان يخون أحدا ولو خالفه في الدين.
٢- لا يصح لمسلم ان يتصف بالخيانة مع من خانه.
٣- قال القرطبي : في الآية رد على الكفرة الذين يحرمون ويحللون غير تحريم الله وتحليله ويجعلون ذلك من الشرع
٤- استدل أبو حنيفة بالآية على ما ذهب إليه من مشروعية ملازمة الغريم بقوله تعالى لا يؤده إليك إلا ما دمت عليه قائما أي بالمطالبة والملازمة والإلحاح في استخلاص حقك.
ومن هدى السنة ما رواه أبو داود والترمذي والحاكم والطبراني والبخاري في التاريخ ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " أد الأمانة إلى من ائتمنك ولا تخن من خانك " ( ١٨٩ ).
والله تعالى يقول : ولا يجرمنكم شنآن قوم على الا تعدلوا ( المائدة ٨ ).
ولا نستطيع ان نبرأ هذه الآية حتى نؤكد إنصاف القرآن لأهل الكتاب فهو لم يجردهم جميعا من الأمانة أو الإيمان ومن هذا الإنصاف قوله تعالى :
﴿ ليسوا سواء من أهل الكتاب امة قائمة يتلون آيات الله آناء الليل وهم يسجدون ﴾ ( آل عمران ١١٣ ).
٧٦- ﴿ بلى فمن أوفى بعهده واتقى فإن الله يحب المتقين ﴾ أي بلى ليس عليكم في الأميين سبيل وعليكم الوفاء بعقودكم المؤجلة والأمانات فمن أقرضك مالا إلى اجل أو باعك بثمن مؤجل أو ائتمنك على شيء وجب عليك الوفاء به وأداء الحق له في حينه دون حاجة إلى الإلحاف في الطلب أو إلى التقاضي وبذلك قضت الفطرة وحتمت الشريعة.
وفي هذا إيماء إلى ان اليهود لم يجعلوا الوفاء بالعهد حقا واجبا لذاته بل العبرة عندهم بالمعاهدة فإن كان إسرائيليا وجب الوفاء له ولا يجب الوفاء لغيره.
وقد أمر القرآن بالوفاء بالعهد والأمانة قال تعالى :﴿ يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود ﴾.
- ومدح الله إبراهيم الخليل بقوله :﴿ وإبراهيم الذي وفى ﴾ ( النجم ٣٧ ).
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا إيمان لمن لا أمانة له ولا دين لمن لا عهد له " ( ١٩٠.
وروى البخاري في صحيحه عن عبد الله ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أربع من كن فيه منافقا خالصا ومن كان فيه خصلة منهن كان فيه خصلة من النفاق حتى يدعها إذا اؤتمن خان وإذا حدث كذب وإذا عاهد غدر وإذا خاصم فجر " ( ١٩١ ) وفي رواية : " ثلاث من كن فيه كان منافقا خالصا إذا حدث كذب وإذا وعد اخلف وإذا اؤتمن خان " ( ١٩٢.
المفردات :
يشترون : يستبدلون.
بعهد الله : بأمر الله المؤكد.
ثمنا قليلا : عوضا قليلا.
لا خلاق لهم : لا نصيب لهم.
ولا يزكيهم : ولا يطهرهم.
التفسير :
٧٧- ﴿ إن الذين يشترون بعهد الله وإيمانهم ثمنا قليلا أولئك لا خلاق لهم في الآخرة... ﴾
سبب النزول :
ذكرت لهذه الآية أسباب عديدة.
نذكر منها ما أخرجه أصحاب الكتب الستة وغيرهم عن ابن مسعود رضي الله عنه : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من حلف على يمين هو فيها فاجر ليقطع بها حق امرئ مسلم لقي الله وهو عليه غضبان ".
فقال الأشعث بن قيس : فيّ والله كان ذلك كان بيني وبين رجل من اليهود ارض فجحدني فقدمته إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم ألك بينة ؟ قلت لا فقال لليهودي احلف فقلت يا رسول الله إذا يحلف فيذهب مالي فانزل الله تعالى :
{ إن الذين يشترون بعهد الله.. الآية ( ١٩٣ ).
وما أخرجه ابن جرير عن عكرمة قال نزلت هذه الآية في أبي رافع ولبابة بن أبي الحقيق وكعب ابن الأشرف ويحيى بن الأخطب حرفوا التوراة وبدلوا نعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وحكم الأمانات وغيرها واخذوا على ذلك الرشوة.
والمعنى :
إن الذين يستبدلون بما عاهدهم الله عليه من بيان نعت محمد وعدم كتمانه ويتغاضون عن إيمانهم الكاذبة الفاجرة بالأثمان القليلة من أعراض الدنيا الزائلة مهما عظمت أولئك لا نصيب لهم في ثواب الآخرة ولاحظ لهم في نعيمها.
﴿ ولا يكلمهم الله ﴾ : كلام فيه لطف بهم.
﴿ ولا ينظر إلبهم يوم القيامة ﴾ بعين رحمته تعالى.
﴿ ولا يزكيهم ﴾ أي يطهرهم من دنس الذنوب بالمغفرة بل يأمر بهم إلى النار ولهم عذاب اليم على الكتمان واستبدالهم عهد الله والحلف زورا واستحلالهم اخذ المقابل على التزوير.
قال القرطبي : " وقد دلت هذه الآية والأحاديث على ان حكم الحاكم لا يحل المال في الباطن بقضاء الظاهر إذا علم المحكوم له بطلانه.
وفي حديث صحيح عن ام سلمة قالت : قال الرسول صلى الله عليه وسلم : " إنكم تختصمون إلي وإنما أنا بشر ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي له على نحو ما أسمع فمن قضيت له بحق مسلم فإنما هي قطعة من النار.. فليأخذها او ليتركها " ( ١٩٤ ).
المفردات :
يلوون بألسنتهم بالكتاب : يميلونها بالكتاب عدولا به عن الحق تحريفا او تأويلا.
واللي : الميل يقال لوي برأسه إذا أماله والكتاب والتوراة والإنجيل.
التفسير :
٧٨- ﴿ وإن منهم لفريقا يلوون ألسنتهم بالكتاب لتحسبوه من الكتاب ويقولون هو من عند الله وما هو من عند الله ويقولون على الله الكذب وهو يعلمون ﴾.
روى الضحاك عن ابن عباس : ان الآية نزلت في اليهود والنصارى جميعا وذلك انهم حرفوا التوراة والإنجيل وألحقوا بكتاب الله تعالى ما ليس منه.
والمعنى :
وإن من أهل الكتاب الخائنين جماعة من علمائهم يحرفون كلام الله ويميلون به عن القصد لتظنوا أيها المسلمون حينما تسمعونهم ان ما حرفوه من صميم كتابهم الذي أنزله الله على رسولهم. وما هو - في الحقيقة - من الكتاب بل من كلامهم ويؤكدون نسبته على الكتاب بقولهم :﴿ هو من عند الله ﴾ بل من عند أنفسهم ﴿ ويقولون على الله الكذب ﴾ بنسبته إليهم ﴿ وهم يعلمون ﴾ انهم عليه سبحانه يكذبون وكما وقع التحريف في القراءة وقع في تأويل النصوص في الكتابة.
ولهذا ترى النتاقض والتكاذب والتهافت بين نسخها.
فمن يقرأ الأناجيل الأربعة يجد الاختلاف بينها واسع النطاق وبخاصة فيما تورده عن صلب المسيح عليه السلام وكذلك التوراة.
وأما احتجاج الرسول بقوله :﴿ فأتوا بالتوراة إن كنتم صادقين ﴾ ( آل عمران ٩٣ ).
فيحمل على ان رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعلم ببقاء بعض ما يفي بالغرض سالما عن التغيير فإنهم لم يغيروا جميع ما في التوراة إما لجهلهم بدلالة ما بقي من المقصود أو لصرف الله إياهم تغييره.
المفردات :
والحكم : أي الحكمة وهي إصابة الحق.
ربانيين : منسوبين إلى الرب سبحانه والألف والنون يزدان للمبالغة كثيرا كلحياني العظيم اللحية ورقباني الغليظ الرقبة والمراد من الرباني : العالم الفقيه الراسخ في علوم الدين وقيل الحكيم التقي.
التفسير :
٧٩- ﴿ ما كان لبشر ان يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوة ثم يقول للناس كونوا عبادا لي من دون الله ولكن كونوا ربانيين بما كنتم تعلمون الكتاب وبما كنتم تدرسون ﴾
لا يزال الكلام متصلا مع وفد نجران فإنه روى ان السورة كلها إلى قوله ﴿ وإذ غدوت من أهلك... ﴾ نزلت بسببهم... ذكره القرطبي.
وروى ابن إسحاق وغيره عن ابن عباس رضي الله عنهما قال :" قال أبو رافع القرظي حين اجتمعت الأحبار من اليهود والنصارى من أهل نجران عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعاهم إلى الإسلام : أتريد يا محمد أن نعبدك كما تعبد النصارى عيسى ابن مر يم ؟ فقال رجل من اهل نجران نصراني يقال له : الرئيس : أو ذاك تريد منا يا محمد ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " معاذ الله أن نعبد غير الله او نأمر بعبادة غيره ما بذلك أمرني " فانزل الله تعالى الآية ( ١٩٥ ).
واخرج ابن أبي حاتم فقال : كان ناس من يهود يتعبدون الناس من دون ربهم بتحريفهم كتاب الله عن موضعه فقال :﴿ ما كان لبشر. ﴾ الآية.
وأيا كان سبب النزول فمعنى الآية ما صح وما استقام لبشر اصطفاه ربه لتبليغ الرسالة إلى خلقه وأعطاه الكتاب الذي يرشد الناس إلى عبادة ربهم وأعطاه الحكمة أي حسن التصرف في الأمور وأعطاه النبوة العاصمة من الخطأ ثم يتنكر لربه الذي اختاره لهداية خلقه فيقول للناس كونوا عبادا لي إشراكا مع الله أو إفرادا : متجاوزين توحيد الله إلى ما طلبته منكم ولكن يقول لهم : كونوا علماء عاملين كاملين في العلم والعمل لأنكم تعلمون الناس والكتاب فأولى بكم ان تتبعوه ولا تحيدوا عنه.
والتعبير بلفظ ( ثم ) لاستعباد حصول ذلك القول من الرسول.
وإذا كان لا يصح لبشر آتاه الله الكتاب والحكمة والنبوة ان يدعو الناس إلى عبادة نفسه فلا يصح له أن يدعوهم إلى عبادة غيره من باب أولي.
وبهذه الآية حصل الرد البليغ من الله تعالى على النصارى الذين ألهوا المسيح وعبدوه وعلى اليهود الذين ألهوا عزيرا وقدسوه وعلى من زعم ان محمدا صلى الله عليه وسلم يقصد بنبوته ان يدعو الناس إلى عبادته وإلى الأحبار الذين يتعبدون الناس من دون ربهم بتحريفهم كتاب الله عن موضعه لمصلحتهم.
وخلاصة الرد : أن رسل الله براء مما يصنعه أتباعهم فإنهم لا يعقل ان يأمرهم بهذا الكفر وذلك هو ما يقوله عيسى عليه السلام لربه لما يسأله :﴿ أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله ﴾ ثم قال :{ سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق إن كنت قلته فقد علمته تعلم ما في نفسي ولا اعلم ما في نفسك إنك أنت علام الغيوب ما قلت لهم إلا ما أمرتني به أن اعبدوا الله ربي وربكم وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم وأنت على كل شيء شهيد ( المائدة ١١٦- ١١٧ ).
والآية توجب على اهل العلم ان يقرونه بالعمل حتى لا تزل قدم بعد ثبوتها.
المفردات :
ولا يأمركم : بالنصب معطوف على يقول في الآية السابقة داخل معه في حيز ما لا يجوز على الرسل.
المعنى :
ما كان لبشر آتاه الله الكتاب والحكم والنبوة ان يقول للناس كونوا عبادا لي من دون الله ولا ان يأمركم أن تتخذوا الملائكة والنبيين أربابا أيليق به وهو رسول الله أن يأمركم بالكفر بعد إن انتم مخلصون منقادون لربكم ؟
ومن قرأ : ولا يأمركم بالرفع فعلى الاستئناف.
والمقصود من القراءتين واحد. وهو استحالة حدوث ذلك من الرسول.
وإذا كان سبب النزول وفد نجران فلا إشكال في قوله تعالى لهم :﴿ بعد إذ انتم مسلمون ﴾ فإن الإسلام يراد به حينئذ والاستعداد للدين الحق إرخاء للعنان ومجاراة لهم.
وقيل عن سبب نزول الآيتين ما أخرجه عبد بن حميد عن الحسن قال :
بلغني ان رجلا قال : يا رسول الله نسلم عليك كما يسلم بعضنا على بعض ؟ أفلا نسجد لك ؟ قال : " لا ولكن أكرموا نبيكم واعر فوا الحق لأهله فإنه لا ينبغي أن يسجد لأحد من دون الله تعالى " ( ١٩٦ ). وعلى هذا فالإسلام على ظاهره.
المفردات :
ميثاق النبيين : الميثاق العهد الموثق المؤكد.
لما آتيتكم : اللام الموطئة للقسم وما بمعنى الذي كان نقله سيبويه عن الخليل أي الذي آتيتكموه وقيل إن ما شرطية بمعنى إن وهو الظاهر.
وحكمة : أي نبوة سميت حكمة لأنها منبعها.
إصري : عهدي وميثاقي.
التفسير :
٨١- ﴿ وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمن به ولتنصرنه ﴾
واذكر يا محمد لأهل الكتاب كيف اخذ الله العهد على النبيين جميعا لئن آتيتكم من كتاب تبلغونه لأممكم وحكمة – أي نبوة ورسالة إليهم- ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتصدقن بأنه مرسل من عندي إلى الناس ولتنصرنه بالتبشير به وحض أممكم على ان تؤمن به إذا بعث إليهم وتنصره تؤيده فيما جاء به ؟
قال الله تعالى لهم بعد أخذ الميثاق عليهم : هل أقررتم بالإيمان به ونصرته وأخذتم على ذلكم عهدي وقبلتموه لتنفذوه وتعملوا به ؟ قالوا أقررنا ووافقنا. قال الله تعالى : فليشهد بعضكم على بعض بهذا الإقرار وأنا معكم من الشاهدين على إقراركم وشهادة بعضكم على بعض.
والمراد من الرسول الذي يجيئكم مصدقا لما معكم كل رسول يعاصرهم ؟ أو يأتي بعدهم فالآية الكريمة تفيد ان الله تعالى اخذ الميثاق على الأنبياء ان يصدق بعضهم بعضا ويؤيده ولا يعارضه ويوصي باتباعه فإن دين الجميع واحد قال صلى الله عليه وسلم " الأنبياء بنو علات ( ١٩٧ ) أمهاتهم شتى ودينهم واحد " ( ١٩٨ ).
وبعموم الرسول اخذ سعيد بن جبير وقتادة وطاووس والسدى والحسن وهو ظاهر الآية قال طاووس : أخذ الله ميثاق الأول من الانبياء : ان يؤمن بما جاء به الآخر.
ومن العلماء من قال : والمراد من الرسول هو محمد صلى الله عليه وسلم وهو الأرجح وبه قال الإمام علي رضي الله عنه فقد أخرج عنه ابن جرير قال : " لم يبعث الله نبيا من آدم فمن بعده إلا اخذ عليه العهد في محمد صلى الله عليه وسلم لئن بعث وهو حي ليؤمنن به ولينصرنه ويأمره فيأخذ العهد على قومه ".
وسواء أكانت الآية عامة في تأييد جميع الرسل بعضهم لبعض وحث أممهم على اتباعهم أم خاصة بتأييدهم لنبوة محمد صلى الله عليه وسلم ونصرته بحث أممهم على تأييده إن بعث- فالغرض من الآية : أن محمدا صلى الله عليه وسلم وقد أيده الله بالمعجزات المحققة لرسالته وجاء مصدقا لما مع الأنبياء قبله فهو مؤيد من المرسلين قبله وأن على أهل الكتاب المعاصرين له : ان يؤمنوا امتثالا لما جاء عنه في كتب رسلهم فإن كتب المرسلين توصي بالإيمان بكل رسول.
والقرآن الكريم جرى على هذا المنهج قال تعالى :{ قولوا آمنا بالله وما انزل إلينا وما أنزل على إبراهيم وإسماعيل وإسحق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي النبيون من ربهم لا نفرق بين احد منهم ونحن له مسلمون. ( البقرة ١٣٦ ).
أي فمن أعرض عن الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم بعد هذا الميثاق والإقرار والشهادة فأولئك هم الخارجون في الكفر إلى أفحش مراتبه المستحقون لأشد العقاب.
ولما كان دين الانبياء واحدا ودين محمد هو دين الانبياء جميعا أتبع هذا التهديد قوله :
المفردات :
أسلم : دان بالإسلام او انقاد وخضع.
التفسير :
٨٣- ﴿ أفغير دين الله يبغون وله اسلم من في السموات والأرض طوعا وكرها وإليه ترجعون ﴾.
سبب النزول :
ذكر الواحدي في سبب النزول عن ابن عباس رضي الله عنهما : ان اهل الكتاب اختصموا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما اختلفوا فيه من دين إبراهيم عليه السلام كل فرقة زعمت انها أولى بدينه. فقال صلى الله عليه وسلم : " كلا الفريقين بريء من دين إبراهيم " فغضبوا وقالوا : والله ما نرضى بقضائك ولا نأخذ بدينك فانزل الله هذه الآية ( ١٩٩ ).
وعلى أي حال كان سبب النزول فالكلام في هذه الآية مع اهل الكتاب الذين استمسكوا بدينهم ونازعوا في الإسلام وأعرضوا عنه.
فبعد ان اخبرهم الله تعالى أنه أوصى الانبياء بتأييده ونصرته وأنذر من تولى عنه ووبخهم على إعراضهم وأنكر عليهم قال ما معناه :
أيتولى هؤلاء عن الإسلام إلى أديانهم المحرفة المنسوخة فيبغون بذلك دينا غير دين الله كيف يطلبون في دينه سبحانه وتعالى وقد استسلم وخضع له من في السموات والأرض طائعين وكارهين فمشيئة الله نافذة فيهم وقدره جار عليهم أحبوا ذلك ام كرهوا فالصحيح مستسلم لقدر الله محب لما وهبه الله من صحة والعليل منقاد لقدر الله بمرضه طوعا وكرها...
وهكذا كل أقدار الله تجري في خلقه فيخضعون لها وإن جرت على غير ما يحبون ويشتهرون فما شاءه الله كان وما لم يشأ لم يكن فكيف يتمرد اهل الكتاب على دين هذا الإله القوي الفعال ويكفرون به مع انهم إليه يرجعون مقهورين فيحاسبهم على طغيانهم وكفرهم.
وتحتمل ان يكون المراد به : ما يشتمل العقلاء وغيرهم ويكون المعنى ولمشيئته تعالى خضع وإنقاذ جميع الكائنات في السموات والأرض : طائعة او مسخرة كما في قوله تعالى { ألم تر أن الله يسجد له من في السموات ومن والأرض والشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدواب وكثير من الناس وكثير حق عليه العذاب ( الحج ١٨ ).
المفردات :
والأسباط : الأسباط الحفدة والمراد بهم هنا ذرية يعقوب عليه السلام فهم حفدة لأبيه إسحاق وجده إبراهيم.
التفسير :
لما بين الله تعالى : انه اخذ الميثاق على كل نبي : أن يؤمن بغيره من الانبياء وانه لا يصح لأهل الكتاب ان يكفروا بدين الله الذي انزله على محمد وهو ممن أخذ الله الميثاق على الإيمان بهم ودينهم لما بين الله هذا كله أمر نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم ان يؤمن بمن سبقه من الانبياء وألا يفرق في الإيمان بين احد من رسله ليكون في الإيمان بهم كما كانوا في شان إخوانهم الانبياء وهو خاتمهم.
المعنى : قل يا محمد معبرا عن نفسك وعن المؤمنين :﴿ آمنا بالله وما انزل علينا ﴾ وما انزل علينا على إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب } والأنبياء من أبنائه ﴿ والأسباط ﴾ من كتب ﴿ وما أتوتي موسى وعيسى ﴾ من التوراة والإنجيل وما أعطي سائر الأنبياء من ربهم من مختلف الكتب :﴿ لا نفرق ﴾ بينهم فلا نؤمن ببعض ونكفر ببعض كما فعل اليهود إذ كفروا بعيسى ومحمد عليهما السلام وكما فعل النصارى إذ كفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم ونحن له منقادون نطيعه فيما أمرنا به وننتهي عما نهانا عنه.
ومن يطلب دينا غير دين الإسلام يتدين به : عقيدة وعملا فلن يقبله الله منه لانه غير ما شرعه الله لخلقه وإذا كان الله لا يقبل دينا غير دين الإسلام فكل من دان بغيره يكون في الآخرة من الخاسرين لانه محروم الثواب خالد في العقاب.
روى أحمد في مسنده عن النبي صلى الله عليه وسلم : " والذي نفسي بيده لو أصبح فيكم موسى بن عمران ثم اتبعتموه وتركتموني لضللتم " ( ٢٠٠ ).
وروى أبو يعلى والبراز وأورده ابن كثير : " لو كان موسى حيا بين أظهركم ما حل له إلا إتباعي " وفي رواية : " لو كان موسى وعيسى حيين لما وسعهما إلا اتباعي ".
التفسير :
٨٦- { كيف يهدي الله قوما كفروا بعد إيمانهم وشهدوا ان الرسول حق وجاءهم البينات والله لا يهدي القوم الظالمين.
سبب النزول :
أخرج عبد الله بن حميد وغيره عن الحسن انهم -اهل الكتاب من اليهود والنصارى رأوا نعت محمد صلى الله عليه وسلم في كتابهم واقروا وشهدوا انه حق فلما بعث من غيرهم حسدوا العرب على ذلك فأنكروا وكفروا بعد إقرارهم.
المعنى :
أي سبيل لأنه يهدي الله قوما كفروا بمحمد بعدما آمنوا به قبل مبعثه مطابقا لما جاء عنه في كتبهم وجاءتهم الآيات الواضحات المعجزات الشاهدات بصدقه والله لا يهدي القوم الظالمين لأنفسهم بكفرهم ماداموا مصرين على عنادهم وحسدهم للرسول على ما آتاه الله من فضله.
أخرج عبد الله بن حميد وغيره عن الحسن انهم -اهل الكتاب من اليهود والنصارى رأوا نعت محمد صلى الله عليه وسلم في كتابهم واقروا وشهدوا انه حق فلما بعث من غيرهم حسدوا العرب على ذلك فأنكروا وكفروا بعد إقرارهم.
المفردات :
لعنة الله : أي الطرد من رحمته.
ولا هم ينظرون : أي ولا هم يمهلون فعذابهم مستمر أو لا ينظر إليهم ولا يعتد بهم.
بعد أن بين الله شناعة الكفر بعد الإيمان ووضح أن شريعة الرسول حق بما ايده الله به من الآيات أتبعه عقاب أولئك الكافرين وذكر ان : أولئك الذين كفروا بعدما جاءهم الرسول مؤيدا بالآيات والمعجزات بعدما عقدوا العزم على الإيمان به حين يبعث - يلعنهم الله - ويطردهم من رحمته وتلعنهم الملائكة وتطلب لهم الطرد من رحمة الله ويلعنهم الناس أجمعون من اهل الإيمان أتباع الحق خالدين في اللعنة أو في جهنم التي هي مقر الملعونين لا يخفف عنهم العذاب ولا هم يمهلون بأن يؤخر عنهم العذاب من وقت لآخر بل العذاب موصول مستمر.
ويجوز ان يكون معنى ﴿ ولاهم ينظرون ﴾ ولا ينظر الله إليهم نظر رحمة لا يعتد بهم فهم مهملون متركون في عذابهم.
وهذه الآية وما قبلها وما بعدها إلى قوله تعالى : ومالهم من ناصرين وإن نزلت في أهل الكتاب الذين جحدوا نبوة محمد صلى الله عليه وسلم بعد مبعثه مع انهم كانوا مجمعين على الإيمان به حين يبعث لكنها عامة الحكم في كل من يكفر بعد الإيمان فتشمل المرتدين بعد الإسلام.
أخرج عبد الله بن حميد وغيره عن الحسن انهم -اهل الكتاب من اليهود والنصارى رأوا نعت محمد صلى الله عليه وسلم في كتابهم واقروا وشهدوا انه حق فلما بعث من غيرهم حسدوا العرب على ذلك فأنكروا وكفروا بعد إقرارهم.
المفردات :
لعنة الله : أي الطرد من رحمته.
ولا هم ينظرون : أي ولا هم يمهلون فعذابهم مستمر أو لا ينظر إليهم ولا يعتد بهم.
بعد أن بين الله شناعة الكفر بعد الإيمان ووضح أن شريعة الرسول حق بما ايده الله به من الآيات أتبعه عقاب أولئك الكافرين وذكر ان : أولئك الذين كفروا بعدما جاءهم الرسول مؤيدا بالآيات والمعجزات بعدما عقدوا العزم على الإيمان به حين يبعث - يلعنهم الله - ويطردهم من رحمته وتلعنهم الملائكة وتطلب لهم الطرد من رحمة الله ويلعنهم الناس أجمعون من اهل الإيمان أتباع الحق خالدين في اللعنة أو في جهنم التي هي مقر الملعونين لا يخفف عنهم العذاب ولا هم يمهلون بأن يؤخر عنهم العذاب من وقت لآخر بل العذاب موصول مستمر.
ويجوز ان يكون معنى ﴿ ولاهم ينظرون ﴾ ولا ينظر الله إليهم نظر رحمة لا يعتد بهم فهم مهملون متركون في عذابهم.
وهذه الآية وما قبلها وما بعدها إلى قوله تعالى : ومالهم من ناصرين وإن نزلت في أهل الكتاب الذين جحدوا نبوة محمد صلى الله عليه وسلم بعد مبعثه مع انهم كانوا مجمعين على الإيمان به حين يبعث لكنها عامة الحكم في كل من يكفر بعد الإيمان فتشمل المرتدين بعد الإسلام.
أخرج عبد الله بن حميد وغيره عن الحسن انهم -اهل الكتاب من اليهود والنصارى رأوا نعت محمد صلى الله عليه وسلم في كتابهم واقروا وشهدوا انه حق فلما بعث من غيرهم حسدوا العرب على ذلك فأنكروا وكفروا بعد إقرارهم.
٨٩- ﴿ إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا فإن الله غفور رحيم ﴾
يعني : أي من تابوا من بعد كفرهم وأصلحوا ما افسدوا بالندم والإقبال على الطاعة بعد الإدبار عنها فإن الله غفور رحيم لأن الله عظيم الغفران بليغ الرحمة وذلك من عظيم كرمه ووافر رحمته.
وقيل معنى أصلحوا : دخلوا في الصلاح كما يقال أصبحوا دخلوا في الصباح وعلى هذا يكون الفعل لازما غير متعد بخلافه على المعنى السابق فهو متعد.
تمهيد :
علم اليهود بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم قبل ان يبعث وذلك من خلال بشارات الأنبياء به فلما بعثه الله رسولا نبيا من نسل إسماعيل جحدوا نبوته حقدا وحسدا.
قال الشيخ محمد عبده :
كان اليهود يعرفون بشارات الأنبياء بمحمد صلى الله عليه وسلم وكانوا عازمين على اتباعه إذا جاء في زمنهم وانطبقت عليه العلامات وظهرت فيه البشارات ثم أنهم كفروا به وعاندوا بعد مجيئه بالبينات لهم وظهرت الآيات على يديه والله لا يهدي أمثال هؤلاء الضالين ( ٢٠١ ).
المفردات :
وأولئك هم الضالون : الذين أخطأوا طريق النجاة.
التفسير :
٩٠- { إن الذين كفروا بعد إيمانهم ثم ازدادوا كفرا لن تقبل توبتهم وأولئك هم الضالون.
﴿ إن الذين كفروا بعد إيمانهم ﴾ وشهادتهم ان الرسول حق ازدادوا كفرا بمقاومة الحق وإيذاء الرسول والصد عن سبيل الله بالكيد والتشكيك وبالحرب والكفاح وبالتمادي في الكفر والمعاصي.
﴿ لن تقبل توبتهم ﴾ : لان الشر قد تغلغل في نفوسهم وتمكن فيها الكفر فإذا أرادت التوبة وجدت من الموانع ما يحول بينها وبين قبول الحق والخير.
﴿ وأولئك هم الضالون ﴾ عن طريق الحق المخطئون سبيل النجاة.
قال لا حافظ أبو بكر البزار عن عكرمة عن ابن عباس : أن قوما اسلموا ثم ارتدوا ثم أسلموا ثم ارتدوا فأرسلوا إلى قومهم يسألون لهم فذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت هذه الآية :
{ إن الذين كفروا بعد إيمانهم ثم ازدادوا كفرا لن تقبل توبتهم ( ٢٠٢ ).
وقد اختار الطبري رأي قتادة وعطاء والحسن في أن هذه الآية نزلت في اليهود كفروا بعيسى والإنجيل ثم ازدادوا كفرا بمحمد والقرآن وبالذنوب التي اكتسبوها.
وقال أبو العالية : نزلت في اليهود والنصارى كفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم بعد إيمانهم بنعته وصفته ثم ازدادوا كفرا بإقامتهم على كفرهم.
وعلماء القرآن يذكرون أن سبب نزول الآية قد يتعدد ويعبر عنه بتعدد السبب والنازل واحد.
وسواء أكان سبب النزول اليهود وحدهم أو اليهود والنصارى أو تكرر الردة من بعض الناس فإن الآية بعمومها تشمل كل من يكفر بعد إيمان فيدخل في حكمها من ارتد عن الإسلام.
وظاهر الآيات يخالف ما صرح به القرآن في غير موضع كقوله سبحانه :﴿ وهو الذي يقبل التوبة عن عباده ﴾ ( الشورى ٢٥ ). والجواب ان التوبة لمن أناب إلى الله ورجع إليه صادقا في حياته وهو متمتع بصحته وقوته.
أما الذين يصرون على الكفر ويزدادون كفرا والذين يلجون في الكفر حتى تفلت الفرصة المتاحة وينتهي أمد الاختيار ويأتي دون الجزاء هؤلاء لا توبة لهم ولا نجاة.
قال تعالى :﴿ إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب فأولئك يتوب الله عليهم وكان الله عليما حكيما وليس التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إني تبت الآن ولا الذين يموتون وهم كفار وأولئك اعتدنا لهم عذابا أليما ﴾ ( النساء ١٧- ١٨ ).
ورى احمد والترمذي وابن ماجه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :" إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر " ( ٢٠٣ ).
من تفسير القاسمي :
" وقد أشكل على كثير من المفسرين قوله تعالى :﴿ لن تقبل توبتهم ﴾ مع ان التوبة مقبولة عند الجمهور فأجابوا أن المراد عند حضور الموت.
قال الواحدي : في الوجيز : لن تقبل توبتهم لانهم لا يتوبون إلا عند حضور الموت وتلك التوبة لا تقبل.
وقيل عدم قبول توبتهم كناية عن عدم توبتهم أي لا يتوبون وقيل لان توبتهم لا تكون إلا نفاقا لارتدادهم وازديادهم كفرا وبقى للمفسرين وجوه أخرى هي في التأويل أبعد مما ذكر.
ولا أرى هذه الآية إلا كآية النساء :
{ إن الذين آمنوا ثم كفروا ثم آمنوا ثم آمنوا ثم ازدادوا كفرا لم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم سبيلا ( النساء ١٣٧ ).
وكلتاهما مما يدل صراحة على أن من تكررت ردته لا تقبل توبته وإلى هذا ذهب إسحاق واحمد وذلك لرسوخه في الكفر.
وقد أشار القاشاني إلى ان هذه الآية مع التي قبلها يستفاد منها أن الكفرة قسمان :
قسم رسخت هيئة استيلاء النفوس الأمارة على قلوبهم فيهم وتمكنت وتناهوا في الغي والاستشراء وتمادوا في البعد والعناد حتى صار ذلك ملكة لا تزول.
وقسم لم يرسخ ذلك فيهم بعد ولم يصر على قلوبهم رينا ويبقى من وراء حجاب النفس مسكة من نور استعدادهم عسى ان تتداركهم رحمة من الله وتوفيق فيندموا فأشار إلى القسم الأول بقوله ﴿ إن الذين كفروا بعد إيمانهم ﴾ إلى آخره وإلى الثاني بقوله ﴿ إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا- انتهى ﴾ ( ٢٠٣ ).
علم اليهود بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم قبل ان يبعث وذلك من خلال بشارات الأنبياء به فلما بعثه الله رسولا نبيا من نسل إسماعيل جحدوا نبوته حقدا وحسدا.
قال الشيخ محمد عبده :
كان اليهود يعرفون بشارات الأنبياء بمحمد صلى الله عليه وسلم وكانوا عازمين على اتباعه إذا جاء في زمنهم وانطبقت عليه العلامات وظهرت فيه البشارات ثم أنهم كفروا به وعاندوا بعد مجيئه بالبينات لهم وظهرت الآيات على يديه والله لا يهدي أمثال هؤلاء الضالين ( ٢٠١ ).
٩١- ﴿ إن الذين كفروا وماتوا وهم كفار فلن يقبل من أحدهم ملء الأرض ذهبا ولو افتدى به أولئك لهم عذاب أليم وما لهم من ناصرين ﴾
المفردات :
ولوا افتدى به : معطوف على شرط مقدر يقتضيه المقام : لو أنفقه فيما يراه خيرا في الدنيا ولو افتدى به في الآخرة.
التفسير :
تشير هذه الآية إلى مشهد من مشاهد القيامة حيث يرى الكافر ما اعد له من العذاب الشديد فيتمنى ان يفتدي نفسه من النار بملء الأرض ذهبا بوزن جبالها وتلالها وترابها ورمالها وسهلها ووعرها وبرها وبحرها.
﴿ إن الذين كفروا لو ان لهم ما في الأرض جميعا ومثله معه ليفتدوا به من عذاب يوم القيامة ما تقبل منهم ولهم عذاب أليم ﴾ ( المائدة ٣٦ ).
وروى الشيخان والإمام احمد أن انس ابن مالك ان النبي صلى الله عليه وسلم قال يقال للرجل من اهل النار يوم القيامة أرأيت أن لو كان لك ما على الأرض من شيء أكنت مفتديا ؟ قال فيقول : نعم. فيقول الله قد أردت منك أهون من ذلك قد أحذت عليك في ظهر أبيك آدم ألا تشرك بي شيئا فأبيت إلا ان تشرك " ( ٢٠٥ ).
وقدر الزمخشري الكلام بمعنى : لن يقبل من احد منهم فدية ولو افتدى بملء الأرض ذهبا... فإذا رفضت الفدية قفي هذه الحالة كان تنبيها على ان ثم أحوالا أخر لا ينفع فيها القبول بطريق الأولى بالنسبة إلى الحالة المذكورة.
وهذا كله تسجيل بأنه لا محيص ولا مخلص لهم من الوعيد وإلا فمن المعلوم انهم أعجز عن الفلس في ذلك اليوم.
ونظير هذا التقدير من هذه الأمثلة أن يقول القائل : لا أبيع هذا الثوب بألف دينار ولو سلمتها إلي في يدي هذه ( ٢٠٦ ).
وقال ابن كثير : من مات على الكفر فلن يقبل منه خيرا أبدا ولو كان قد انفق ملء الأرض ذهبا فيما يراه قربة
كما سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن عبد الله بن جدعان وكان يقري الضيف ويفك العاني ويطعم الطعام هل ينفعه ذلك ؟ فقال " لا إنه لم يقل يوما من الدهر : رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين " ( ٢٠٧ ).
وفي ختام الآية نجد هذا الوعيد.
﴿ أولئك لهم عذاب أليم وما لهم من ناصرين ﴾ وأولئك المصرون على الكفر حتى ماتوا لهم عذاب شديد الإيلام وما لهم من ناصرين يدفعون العذاب عنهم او يخفونه كما كانوا ينصرونهم في الدنيا إذا حاول أحد أذاهم او إيقاع المكروه بهم.
علم اليهود بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم قبل ان يبعث وذلك من خلال بشارات الأنبياء به فلما بعثه الله رسولا نبيا من نسل إسماعيل جحدوا نبوته حقدا وحسدا.
قال الشيخ محمد عبده :
كان اليهود يعرفون بشارات الأنبياء بمحمد صلى الله عليه وسلم وكانوا عازمين على اتباعه إذا جاء في زمنهم وانطبقت عليه العلامات وظهرت فيه البشارات ثم أنهم كفروا به وعاندوا بعد مجيئه بالبينات لهم وظهرت الآيات على يديه والله لا يهدي أمثال هؤلاء الضالين ( ٢٠١ ).
٩٢- { لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون وما تنفقوا من شيء فإن الله به عليم.
المفردات :
لن تنالوا : لن تصيبوا ولن تدركوا.
البر : الخير والإحسان.
مما تحبون : بعض ما تحبون فلا ينفقونه كله.
التفسير :
في هذه الآية استئناف خطاب للمؤمنين سيق لبيان ما ينفعهم ويقبل منهم إثر بيان ما لا ينفع الكفرة ولا يقبل منهم أي لا تبلغوا حقيقة البر وتلحقوا بزمرة الأبرار بناء على تعريف البر للجنس أو لن تنالوا بر الله سبحانه وهو ثوابه وجنته حتى تنفقوا في سبيل الله تعالى ما تحبون أي تهوونه ويعجبكم من كرائم أموالكم ﴿ وما تنفقوا من شيء فإن الله به عليم ﴾... أي شيء تنفقونه في سبيل الله تعالى طيبا أو خبيثا فالله مجازيكم به بحسب ما يعلم من نيتكم ومن موقع ذلك من قلوبكم فرب منفق مما يحب لا يسلم من الرياء ورب فقير معدم لا يجد ما يحب فينفق منه ولكن قلبه يفيض بالبر ولو يجد ما أحبه لأنفقه أو أكثره.
وفي الآية حث على إنفاق الجيد وإخلاص النية وابتغاء وجه الله والدار الآخرة.
وقريب من هذه الآية قوله تعالى :{ يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم ومما أخرجنا لكم ممن الأرض ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون ولستم بآخذيه إلا ان تغمضوا فيه واعلموا ان الله غني حميد ( البقرة ٢٦٧ ).
وروى الشيخان عن انس بن مالك قال : كان أبو طلحة أكثر الأنصار بالمدينة مالا من نخل وكان أحب لمواله إليه بيرحاء " موضع " وكانت مستقبلة المسجد وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدخلها ويشرب من ماء فيها طيب قال انس : فلما أنزلت هذه الآية :﴿ لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون ﴾ قام أبو طلحة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله إن الله تبارك وتعالى يقول في كتابه :﴿ لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون ﴾ وإن أحب أموالي إلى بيرحاء وإنها صدقة لله عز وجل أرجو برها وذخرها عند الله فضعها يا رسول الله حيث أراك الله فقال ر سول الله صلى الله عليه وسلن " بخ بخ ذلك مال رابح ذلك مال رابح وقد سمعت ما قلت وإني أرى أن تجعلها في الأقربين " قال أبو طلحة افعل يا رسول الله فقسمها أبو طلحة في أقاربه وبني عمه ( ٢٠٨ ).
وفي الصحيحين أن عمر قال : يا رسول الله لم أصب مالا قط هو أنفس عندي من سهمي الذي هو بخيبر فما تأمرني به قال " احبس الأصل وأسبل الثمرة " ( ٢٠٩ ).
ورى الحافظ أبو بكر البراز ان عبد الله بن عمر قال : حضرتني هذه الآية ذكرت ما أعطاني الله فلم أجد شيئا أحب إلى من جارية لي رومية فقلت هي حرة لوجه الله فلو أني أعود في شيء جعلته لله لنكحتها يعني تزوجتها فأنكحتها نافعا ( مولى كان يحبه كأحد أولاده ).
***
وسلام على المرسلين... والحمد لله رب العالمين
تم تفسير الجزء الثالث ويليه تفسير الجزء الرابع إن شاء الله تعالى
بسم الله الرحمن الرحيم
المفردات :
حلا : أي حلالا وهو مصدر نعت به ولذلك يستوي فيه الواحد والجمع والمذكر والمؤنث كما قال تعالى :( لا هن حل ).
إسرائيل : هو يعقوب عليه السلام وبنوه : ذريته.
المعنى الإجمالي :
اعترض اليهود عن استباحة المسلمين بعض الأطعمة كلحوم الإبل وألبانها وادعوا أن ذلك حرمته شريعة إبراهيم فرد الله سبحانه دعواهم ببيان أن تناول كل المطعومات كان مباحا لبني يعقوب من قبل نزول التوراة إلا ما حرمه يعقوب على نفسه لسبب يختص به فحرموه على أنفسهم وأمر الله نبيه أن يطلب منهم أن يأتوا من التوراة بدليل يثبت أن شريعة إبراهيم تحرم ذلك إن كانوا صادقين فعجزوا وأفحموا.
التفسير :
جاء في تفسير النيسابوري١ ما يأتي :
بعد أن قرر سبحانه الدلائل الدالة على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وبعد توجيه الإلزامات الواردة على اهل الكتاب في هذا الباب أجاب عن شبهة للقوم وتقرير ذلك من وجوه :
أحدهما : أنهم كانوا يعولون في إنكار شرع محمد صلى الله عليه وسلم على إنكار النسخ ٢ فأورد عليهم أن الطعام الذي حرمه إسرائيل على نفسه كان حلالا ثم صار حراما عليه وعلى أولاده وهو النسخ، ثم إن اليهود لما توجه عليهم هذا السؤال زعموا ان ذلك كان حراما من لدن آدم ولم يحدث نسخ فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بأن يطالبهم بإحضار التوراة إلزاما لهم وتفضيحا ودلالة على صحة نبوة محمد صلى الله عليه وسلم لأنه كان أميا فامتنع أن يعرف هذه المسألة الغامضة من علوم التوراة إلا بخبر السماء.
وثانيهما : أن اليهود قالوا له انك تدعي أنك على ملة إبراهيم فكيف تأكل لحوم الإبل وألبانها وتفتي بحلها مع أن ذلك كان حراما في دين إبراهيم فأجيبوا بأن ذلك كان حلالا لإبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب إلا ان يعقوب حرمه على نفسه بسبب من الأسباب وبقيت تلك الحرمة في أولاده فأنكروا ذلك فأمروا بالرجوع إلى التوراة.
وثالثها : لما نزل قوله تعالى :﴿ فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم ( النساء ١٦٠ ) وقوله :{ وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر ﴾ ( الانعام ١٤٦ ) إلى غير ذلك من الآيات الدالة على انه إنما حرم عليهم كثير من الأشياء جزاء لهم على بغيهم وظلمهم غاظهم ذلك واشمئزوا وامتعضوا من قبل أن ذلك يقتضي وقوع النسخ ٣ومن قبل انه تسجيل عليهم بالبغي والظلم وغير ذلك من مساويهم فقالوا لسنا بأول من حرمت عليه وما هو إلا تحريم قديم فنزلت :﴿ كل الطعام كان حلا لبني إسرائيل ﴾٤.
من إشارات الآية :
يمكن أن نلحظ في هذه الآية بيان لخصال اليهود وعنادهم ولجاجتهم في الخصومة ويتضح ذلك من الآتي :
١- لقد أنكروا النسخ وقالوا هو شبيه بالبداء وذلك لا يليق بالله تعالى والبداء هو أن تعمل عملا او تقرر رأيا ثم يبدو لك ان الأفضل ترك هذا العمل أو تغيير هذا الرأي وهذا أمر يليق بالمخلوق بالمخلوق لقصر رأيه وتبدل أفكاره وحكمه ولا يليق بالخالق ومن هنا أنكروا النسخ.
وقد بين القرآن ان أمر سنة الله التدرج في التشريع ومراعاة مصالح الناس واختيار ما يناسب مراحل حياتهم فقد أمر المسلمين بالصبر في مكة ثم أمروا بالجهاد في المدينة وحرمت الخمر على مراحل وأبيح زواج المتعة في اول عهد المسلمين بالإسلام وعند خروجهم للجهاد ثم حرم زواج المتعة وهو الزواج المؤقت.
وهكذا نجد ان حكمة الله نسخ الأحكام وتبديلها بما هو انسب لعباده قال تعالى :{ ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها ألم تعلم أن الله على كل شيء قدير ( البقرة ١٠٦ ).
٢- نلحظ عناد اليهود ومكابرتهم حيث ادعوا أن تحريم لحوم الإبل وألبانها قديم من عهد الرسل السابقين فكذبهم الله تعالى.
٣- ادعى اليهود أن التوراة حرمت عليهم لحوم الإبل وألبانها إتباعا لطريقة إسرائيل حيث حرمها على نفسه ثم على ذريته وأبنائه متابعة لأبيهم فطلب الله منهم أن يأتوا بالتوراة إن كانوا صادقين.
( وبالرجوع إلى التوراة في مظان هذا الموضوع لم نجد فيها أساسا لدعواهم أن ذلك التحريم شرعه الله أي عهد من عهود النبوات ولا لدعواهم أن التحريم انتقل إليهم من الشرائع السابقة ولا لدعواهم أن الله حرمها عليهم بتحريم يعقوب لها على نفسه ولقد كان اليهود يدعون أن ذلك شرع قديم ولكن الرسول كشف الغطاء عن الحق فبهتوا وبان لهم –بذلك- أنهم في ضلالهم يعمهون ) ٥.
في اعقاب الآية :
قد يقول إنسان : أن الله تعالى قد مدح اليهود وأثنى على إيمانهم ووصفهم بصفات طيبة مثال ذلك آيات كثيرة وردت في القرآن الكريم ومنها قوله تعالى :{ يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وإني فضلتكم على العالمين ( البقرة ٤٧ ) والجواب ان الله مدح اليهود عندما آمنوا بموسى واتبعوا تعاليم التوراة ودفعوا تكاليف الإيمان فكان كل هذا سببا في مدحهم والثناء عليهم وتفضيلهم على اهل زمانهم ثم لما حرفوا التوراة واعتدوا في السبت واتهموا مريم في شرفها وظهر منهم العدوان والعناد وإنكار رسالة محمد صلى الله عليه وسلم فقد استحقوا عقوبة الدنيا وعذاب الآخرة.
ونجد آيات كثيرة في القرآن الكريم تشير إلى هذا مثل قوله تعالى :﴿ فبما نقضتم ميثاقكم لعناهم وجعلنا قلوبهم قاسية يحرفون الكلم عن مواضعه ونسوا حظا مما ذكروا به ﴾ ( المائدة ١٣ ) وقوله عز شانه ﴿ لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه فلبئس ما كانوا يفعلون ﴾ ( المائدة ٧٨-٧٩ ).
٢- من مسند الإمام احمد عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : حضرت عصابة من اليهود نبي الله صلى الله عليه وسلم فقالوا : حدثنا عن خلال نسألك عنها لا يعلمهن إلا نبي قال سلوني ما شئتم قال أخبرنا أي الطعام حرم إسرائيل على نفسه ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ٦ ( أنشدكم بالذي أنزل التوراة على موسى : هل تعلمون ان إسرائيل مرض مرضا شديدا وطال سقمه فنذر لله نذرا لئن شفاه الله من سقمه ليحرمن أحب الأشياء إليه وأحب الطعام إليه وكان أحب الطعام إليه لُحمان الإبل وأحب الشراب إليه ألبانها فقالوا اللهم نعم قال اللهم اشهد عليهم ٧.. إلى آخر الحديث.
وتفيد الآثار ان يعقوب عليه السلام اشتكى مرضا فنذر لله تعالى لئن شفاه الله من هذا المرض ليحرمن على نفسه لحوم الإبل وألبانها أو عروقها.
قال ابن جرير الطبري : وأولى هذه الأقوال بالصواب قول ابن عباس الذي رواه الأعمش عن حبيب عن سعيد عنه أن ذلك العروق ولحوم الإبل لان اليهود مجمعة إلى اليوم على ذلك من تحريمها كما كان عليه من ذلك أوائلها.
ويرى الشيخ محمد عبده : ان المراد بإسرائيل في قوله تعالى :﴿ إلا ما حرم إسرائيل على نفسه ﴾ هو شعب بني إسرائيل.
وتابعه على هذا الرأي السيد رشيد رضا في تفسير المنار حيث قال :
والمتبادر عندي أن المراد بما حرمه إسرائيل على نفسه : ما امتنعوا من أكله وحرموه على أنفسهم بحكم العادة والتقليد لا بحكم من الله كما يعهد مثل ذلك في جميع الأمم ومنه تحريم العرب للبحيرة والسائبة ٨ وغير ذلك مما حكاه القرآن عنهم. ا ه.
وعند التحقيق ترى أيها القارئ أن رأي الشيخ محمد عبده مرجوح لا راجح وخصوصا إذا عرفنا أسباب نزول الآية وما رواه الإمام أحمد في مسنده عن سبب نزولها.
وفائدة قوله تعالى :﴿ من قبل ان تنزل التوراة ﴾ : أنه لو كان شرع له ولبني إسرائيل ذلك لذكر في التوراة لانه سابق على نزولها على موسى.
اعترض اليهود عن استباحة المسلمين بعض الأطعمة كلحوم الإبل وألبانها وادعوا أن ذلك حرمته شريعة إبراهيم فرد الله سبحانه دعواهم ببيان أن تناول كل المطعومات كان مباحا لبني يعقوب من قبل نزول التوراة إلا ما حرمه يعقوب على نفسه لسبب يختص به فحرموه على أنفسهم وأمر الله نبيه أن يطلب منهم أن يأتوا من التوراة بدليل يثبت أن شريعة إبراهيم تحرم ذلك إن كانوا صادقين فعجزوا وأفحموا.
٩٤- ﴿ فمن افترى على الله الكذب من بعد ذلك فأولئك هم الظالمون ﴾
المفردات :
افترى على الله الكذب أي اختلقه والفرية هي الكذب.
التفسير :
فمن اختلق الكذب من بعد قيام الحجة وظهور البينة ﴿ فأولئك هم الظالمون ﴾ لأنفسهم بالكفر ولمن أضلوهم بالإغواء.
وما في الآية من تهديد ينتظم كل من افترى الكذب على الله بعد ما تبين له الحق واليهود داخلون في ذلك بالأولى.
اعترض اليهود عن استباحة المسلمين بعض الأطعمة كلحوم الإبل وألبانها وادعوا أن ذلك حرمته شريعة إبراهيم فرد الله سبحانه دعواهم ببيان أن تناول كل المطعومات كان مباحا لبني يعقوب من قبل نزول التوراة إلا ما حرمه يعقوب على نفسه لسبب يختص به فحرموه على أنفسهم وأمر الله نبيه أن يطلب منهم أن يأتوا من التوراة بدليل يثبت أن شريعة إبراهيم تحرم ذلك إن كانوا صادقين فعجزوا وأفحموا.
٩٥- ﴿ قل صدق الله فاتبعوا ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين ﴾
المفردات :
حنيفا : أي مائلا عن العقائد الباطلة فالحنف هو ميل عن الضلال إلى الاستقامة والحنف ميل عن الاستقامة إلى الضلال.
التفسير :
أي يا محمد قل لليهود بعد ظهور كذبهم فيما زعموا.
ظهر صدق الله في كل ما أخبر به على لسان نبيه وفيما شرعه القرآن وإن الله لصادق في كل حين ولكن المناسبة هنا حاضرة لتقرير هذه الحقيقة.
﴿ فاتبعوا ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين ﴾ فاتبعوا ملة إبراهيم فقد كان على الحنيفية السمحة ودين إبراهيم هو الأصل وعليه كان يعقوب وهو دين محمد فلئن أرادوا الصدق حقا فعليهم بدين إبراهيم وعليهم إذن ان يدينوا بالإسلام الذي ترجع جذوره إلى ملة إبراهيم وأن يتوجهوا إلى البيت الذي بناه والذي هو أول بيت خصص للعبادة.
لقد جاء إبراهيم برسالة الإسلام وجاء الرسل بهذه الرسالة السامية ثم جاء القرآن بالرسالة الإسلامية واضحة بينة كاملة تامة.
كما قال تعالى :﴿ قل إنني هداني ربي إلى صراط مستقيم دينا قيما ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين ﴾ ( الأنعام ١٦١ ).
وقال تعالى :﴿ ثم أوحينا إليك أن نتبع ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين ﴾ ( النحل ١٢٣ ).
المفردات :
أول بيت : أول موضع لعبادة الله وحده.
وضع للناس : خصص لعبادتهم.
بكة : من أسماء مكة وبكة علم على البلد الحرام وقيل بكة : للبيت ومكة البلد، أصله من البك وهو الازدحام.
سبب النزول :
روى عن مجاهد قال : تفاخر المسلمون واليهود فقالت اليهود بيت المقدس أفضل وأعظم من الكعبة لأنه مهاجر الأنبياء وفي الأرض المقدسة وقال المسلمون بل الكعبة أفضل فأنزل الله الآية٩.
التفسير :
إن أول بيت أقيم لعبادة الله وحده هو البيت الحرام بمكة فقد بناه إبراهيم عليه السلام بأمر الله وعاونه في البناء ولده إسماعيل وأمره الله ان يؤذن في الناس بالحج إليه قال تعالى :﴿ وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالا وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق ﴾( الحج ٢٧ ).
قال النيسابوري في تفسيره :
والبيت الحرام أول بيت وضع للناس مباركا فيه الهدى والرحمة والبركة.
واعلم أن الغرض الأصلي من ذكر هذه الأولوية بيان الفضيلة وترجيحه على بيت المقدس ولا تأثير لأولية البناء في هذا المقصود وإن كان الأرجح ثبوت تلك الأولوية أيضا..
ومن فضائل البيت الحرام ان الآمر ببنائه الرب الجليل والمهندس جبريل وبانيه الخليل وتلميذه ابنه إسماعيل ومنها أنه محل إجابة الدعوات ومهبط الخيرات والبركات ومصعد الصلوات والطاعات.
ومنها أن الحيوانات المتضادة في الطباع لا يؤذي بعضها بعضا عنده كالكلاب والظباء.
ومن فضائل البيت أمن سكانه فلم ينقل ألبته ان ظالما هدم الكعبة أو خرب مكة بالكلية وأما بيت المقدس فقد هدمه بختنصر بالكلية وقصة أصحاب الفيل الذين صدهم الله عن البيت الحرام معروفة مشهورة١٠.
ومن بركات البيت الحرام انه مكان لأكبر عبادة جامعة للمسلمين وهي فريضة الحج وإليه يتجه المسلمون في صلاتهم على اختلاف أجناسهم وألوانهم وأماكنهم.
الوضع والبناء :
أخرج الشيخان واللفظ لمسلم عن أبي ذر رضي الله عنه قال : سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أول بيت وضع في الأرض ؟ قال المسجد الحرام قلت ثم أي ؟ قال المسجد الأقصى قلت كم بينهما ؟ قال أربعون عاما ثم الأرض لك مسجد فحيثما أدركتك الصلاة فصل١١.
قال ابن القيم في زاد المعاد تعقيبا على هذا الحديث قد أشكل هذا الحديث على من لم يعرف المراد به فقال معلوم ان سليمان بن داود هو الذي بنى المسجد الأقصى وبينه وبين إبراهيم أكثر من ألف عام وهذا من جهل القائل فإن سليمان كان له من المسجد الأقصى تجديده لا تأسيسه والذي أسسه هو يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم السلام بعد بناء إبراهيم للكعبة بهذا المقدار أي بأربعين عاما ١٢
أولية زمان شرف ومنزله :
ذهب بعض المفسرين إلى ان أولية البيت الحرام زمانية بالنسبة إلى وضع البيوت مطلقا فقالوا إن الملائكة بنته قبل خلق آدم وإن بيت المقدس بني بعده بأربعين عاما قال الشيخ محمد : عبده : إذا صح الحديث فلا شيء في العقل يحيله ولكن الآية لا تدل عليه ولا يتوقف الاحتجاج بها على ثبوته.
وبيت المقدس المعروف الذي انصرف إليه الإطلاق قد بناه سليمان بالاتفاق والمعروف أنه تم بناؤه سنة ١٠٠٥ قبل ميلاد المسيح عليه السلام١٣.
وذهب آخرون إلى أنه أول البيوت في الشرف والرفعة ( وعن علي ان رجلا قال له هو اول بيت ؟ قال لا قد كان قبله بيوت ولكنه أول بيت وضع للناس مباركا فيه الهدى والرحمة والبركة ) ١٤.
( هذا وإن أخبار التاريخ ليست مما بلغ على أنه دين والموضوعات المروية في بناء الكعبة كثيرة ولا حاجة إلى إضاعة الوقت في ذكرها وبيان وضعها ) ١٥.
من تفسير الفخر الرازي :
قال الفخر الرازي : في اتصال هاتين الآيتين بما قبلها وجوه، الأول : أن المراد منهما الجواب عن شبهة أخرى من شبهات اليهود في إنكار نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وذلك لأنه لما حولت القبلة إلى الكعبة طعن اليهود في نبوته وقالوا إن بيت المقدس أفضل من الكعبة وأحق بالاستقبال وذلك لانه وضع قبل الكعبة وهو ارض المحشر وقبلة جملة الأنبياء وإذا كان كذلك كان تحويل القبلة إلى الكعبة باطلا فأجاب الله عنه بقوله :{ إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة.. فبين سبحانه أن الكعبة أفضل من بيت المقدس وأشرف فكان جعلها قبلة أولى.. ١٦.
والمراد بالأولية أنه اول بيت وضعه الله لعبادته في الأرض وقيل المراد بها كونه أولا في الوضع وفي البناء ورووا في ذلك آثارا ليس فيها ما يعتمد عليه١٧.
﴿ للذي ببكة ﴾ بكة لغة في مكة عند الأكثرين والباء والميم تعقب إحداهما الأخرى كثيرا ومنه ضربة لازم وضربة لازب وقيل مكة وبكة موضع المسجد وفي الصحاح بكة اسم مكة.
وأما اشتقاق بكة فمن قولهم بكة إذا زحمه ودفعه وعن أبي سعيد بن جبير سميت بكة لانهم يتباركون فيها أي يزدحمون في الطواف وهو قول محمد بن علي الباقر ومجاهد وقتادة قال بعضهم رأيت محمد بن علي الباقر يصلي فمرت امرأة بين يديه فذهبت أدفعها فقال : دعها فإنها سميت بكة لانه يبك بعضهم بعضا تمر المرأة بين يدي الرجل وهو يصلي والرجل بين يدي المرآة وهي تصلي ولا بأس بذلك في هذا المكان ويؤكد هذا قول من قال : بكة موضع المسجد لان المطاف هناك وفيه الازدحام.
وقيل : سميت بكة لأنها تبك أعناق الجبابرة أي تدقها لم يقصدها جبار بسوء إلا اندقت عنقه.. ) ١٨ ﴿ مباركا وهدى للعالمين ﴾ أي كثير الخير والبركة والنماء والزيادة لما يحصل لمن حجه واعتمره وعكف عنده وطاف حوله من الثواب وتكفير الذنوب.
قال : صلى الله عليه وسلم " صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام " ١٩.
وقال في تفسير ابن كثير ما يأتي :
قال قتادة : إن الله بك به الناس جميعا فيصلي النساء أمام الرجل ولا يفعل ذلك ببلد غيرها وقال شعبة عن إبراهيم : بكة البيت والمسجد وقال عكرمة البيت وما حوله بكة وما وراء ذلك مكة وقال مقاتل بن حيان بكة موضع البيت وما سوي ذلك مكة.
وقد ذكروا لمكة أسماء كثيرة :( مكة وبكة والبيت العتيق والبيت الحرام والبلد الأمين وأم القرى والقادس لأنها تطهر من الذنوب والمقدسة والحاطمة والرأس والبلدة والبنية والكعبة ).
﴿ وهدى للعالمين ﴾ : أي هو بذاته مصدر هداية لأنه قبلتهم ومتعبدهم وفي استقباله توجيه للقلوب والعقول إلى الخير ولعله لا تمر ساعة من ليل أو نهار وليس فيه أناس يتوجهون إلى ذلك البيت يصلون فأي هداية للعالمين اظهر من هذه الهداية ؟ ٢٠.
قال النيسابوري في تفسيره :
( ولو استحضر العاقل في نفسه ان الكعبة كالنقطة وصفوف المتجهين إليها في الصلوات في أقطار الأرض وأكنافها كالدوائر المحيطة بالمركز ولا شك أنه يحصل فيما بين هؤلاء المصلين أشخاص أرواحهم علوية وقلوبهم قدسية وأسرارهم نورانية وضمائرهم ربانية علم انه إذا توجهت تلك الأرواح الصافية إلى كعبة المعرفة واستقبلت أجسادهم هذه الكعبة الحسية اتصلت أنوار أولئك الأرواح بنوره وعظم لمعان الأضواء الروحانية في سره ) ٢١.
روى عن مجاهد قال : تفاخر المسلمون واليهود فقالت اليهود بيت المقدس أفضل وأعظم من الكعبة لأنه مهاجر الأنبياء وفي الأرض المقدسة وقال المسلمون بل الكعبة أفضل فأنزل الله الآية٩.
٩٧- ﴿ فيه آيات بينات مقام إبراهيم ومن دخله كان آمنا... ﴾الآية
المفردات :
آيات بينات : دلائل واضحات.
مقام إبراهيم : أي محل قيام إبراهيم وهو الحجر الذي قام عليه لما ارتفع بناء البيت أو هو المكان الذي يقوم فيه الصلاة والعبادة.
آمنا : أي أوجب الله الأمان لمن يأوي إليه فلا يعتدي عليه بقتل أو أذى.
حج : بالكسرة هو لغة في مصدر حج يحج.
التفسير :
أي في البيت دلالات واضحات على أنه من بناء إبراهيم عليه السلام.
منها : مقام إبراهيم وهو الحجر الذي يقوم عليه عند بناء البيت أو المكان الذي كان يقوم فيه للصلاة والعبادة.
ومنها : وجوب الأمن لداخله استجابة لدعاء إبراهيم عليه السلام بقوله :{ وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا بلدا آمنا.. ( البقرة ١٢٦ ).
ومنها : وجوب الحج إليه استجابة لنداء إبراهيم كما في قوله تعالى :{ وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالا وعلى كل ضامر يأتيك من كل فج عميق. ( الحج ٢٧ ).
وكما ثبت هذا بالقرآن فهو ثابت أيضا تاريخيا ومعروف بالتواتر لدى العرب جيلا بعد جيل.
ومع دلالة هذه الآيات البينات على أولية البيت الزمنية فهي كذلك أدلة واضحة على فضله وعلو شانه.
وقد عرضت الآية فرضية الحج بقوله تعالى :﴿ ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا ﴾
والحج : أحد الأركان الخمسة للإسلام فمن استطاعه لزمه وندب إليه وتعجيله والاستطاعة تكون بوجود الزاد والماء والراحة والقدرة البدنية وامن الطريق.
والمقصود من الزاد : ما يكفيه من الطعام مدة سفره في حجه زائدا على نفقة من تلزمه نفقته ممن يعول والمراد من الراحلة وسيلة الانتقال أيا كانت.
﴿ ومن كفر فإن الله غني عن العالمين ﴾.
أي ومن أنكر الفريضة أو تهاون فيها فوبال ذلك عائد عليه وحده لأن الله سبحانه غني عن العالمين فلا تنفعه طاعتهم ولا تضره معصيتهم ﴿ ومن شكر فإنما يشكر لنفسه ومن كفر فإن ربي غني كريم ﴾ ( النمل ٤٠ ).
وفي أسلوب الآية وختامها بقوله تعالى :
﴿ ومن كفر فإن الله غني عن العالمين ﴾ ما يدل على أهمية فريضة الحج منزلتها عند الله وأنه فريضة لا يحل بها لأحد أن ينكرها وإلا كان كافرا بشريعة الله كما لا يجوز له أن يتكاسل عنها حتى لا يكون كافرا بنعم الله عليه غير شاكرا له على أفضاله.
المفردات :
بآيات الله : المراد بها الآيات الدالة على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ومنها آيات القرآن الكريم.
شهيد : مشاهد لما تعملون رقيب عليه.
التفسير :
﴿ قل يا اهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله.. الآية ﴾
المعنى : أمر الله نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم أن يوبخ كفار أهل الكتاب على كفرهم بما جاء به من الحق فقال تعالى :﴿ قل يا اهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله.. الآية ﴾.
وإنما دعاهم بقوله ﴿ يا أهل الكتاب ﴾ للمبالغة في تقبيح كفرهم فإن من كان على بينة من كتاب الله : تهدي إلى الحق يكون كفره اشد قبحا من غيره فقد جاء في كتابهم من الأمارات الواضحة ما يشهد بصدق محمد صلى الله عليه وسلم وصحة نبوته إذ كانوا يتحدثون بذلك قبل بعثته فلما بعث تفرقوا واختلفوا.
وقد ختمت الآية بقوله تعالى :﴿ والله شهيد على ما تعملون ﴾ لتشديد التوبيخ وتأكيد الإنكار عليهم وتهديدهم على هذا الكفر القبيح
المفردات :
تصدون عن سبيل الله : تمنعون الناس عن طريقه وهو الإسلام.
تبغونها عوجا : تريدونها معوجة.
وانتم شهداء : تشهدون بأنها سبيل مستقيمة.
التفسير :
وهذا أمر آخر من الله لنبيه صلى الله عليه وسلم بتوبيخهم على الإضلال إثر أمره إياه بتوبيخهم على الضلال.
وتكرير الخطاب ﴿ يا أهل الكتاب ﴾ لتأكيد المبالغة في التوبيخ لأن ذلك العنوان - كما يستدعي منهم الإيمان بما هو مصدق لما معهم - يستدعي منهم كذلك دعوة الناس إليه وترغيبهم فيه فصدهم عنه بعد كفرهم به وهم يعلمون انه حق في أقصى مراتب القبح وأبعد درجات الجحود إذ لم يكتفوا بكفرهم وضلالهم بل أمعنوا في الإضلال وأوغلوا في الفتنة فاحتالوا لفتنة المسلمين وصد من يريد الإسلام عن الدخول فيه. وادعوا أن صفة محمد صلى الله عليه وسلم ليست في كتبهم ولا وجدت البشارة به عندهم.
ثم أفصح عن غايثهم من جحودهم وكفرهم فقال سبحانه من قائل :﴿ تبغونها عوجا وأنتم شهداء وما الله بغافل عما تعملون ﴾ أي تريدون أن تكون سبيل الله معوجة وأنتم تشهدون أنها لا تحوم حولها شائبة اعوجاج.
ثم ختم الآية بقوله تعالى :﴿ وما الله بغافل عما تعلمون ﴾ وفي هذا التهديد والوعيد ما لا يخفى.
ولما كان كفرهم صريحا ظاهرا ختمت الآية الأولى بشهادة الله تعالى على ما يعملون.
ولما كان صدهم للمؤمنين بطريق السر والخفية ختمت الآية الثانية بما يحسم حيلتهم من إحاطة علمه سبحانه وتعالى- بأعمالهم.
كان اليهود في المدينة يكونون طابورا خامسا يثيرون الفتن والقلاقل ويشيعون الفرقة في صفوف المسلمين وكان اليهود في الجاهلية قوة وقدرة مالية فكانت لهم زراعة وثروة ومنزلة في المدينة المنورة وكانت تسمى ( يثرب ) فلما هاجر المسلمون من مكة إلى المدينة آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين والأنصار ووحد صفوفهم وجمع كلمتهم وانتقلت سيادة المدينة وزعامتها إلى جماعة المسلمين وقد ألهب ذلك نيران الحقد والبغض في نفوس اليهود فأنكروا رسالة النبي صلى الله عليه وسلم :{ جحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا ( النمل ١٤ ).
وكان شيوخ اليهود يضمرون نيران العدوان والفتنة بين الأوس والخزرج من اهل المدينة.
وقد ورد في تفسير الطبري والنيسابوري وغيرهما كما ورد في أسباب النزول للسيوطي وأسباب النزول للواحدي أن سبب نزول هذه الآية محاولة اليهود تفريق صفوف المسلمين.
قال زيد بن أسلم : مر شاس بن قيس اليهودي وكان شيخا قد غبر ٢٢ في الجاهلية عظيم الكفر شديد الضغن على المسلمين شديد الحسد لهم فمر على نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأوس والخزرج في مجلس جمعهم يتحدثون فيه فغاظه ما رأى من جماعتهم وألفتهم وصلاح ذات بينهم في الإسلام بعد الذي كان بينهم في الجاهلية من العدوان فقال قد اجتمع ملأ بني قيلة ٢٣ بهذه البلاد لا والله ما لنا معهم إذا اجتمعوا بها من قرار فأمر شابا من اليهود كان معه فقال : اعمد إليهم فاجلس معهم ثم ذكرهم بعاث وما كان فيه وأنشدهم بعض ما كانوا تقاولوا فيه من الأشعار وكان بعاث يوم اقتتلت فيه الأوس والخزرج وكان الظفر فيه للأوس على الخزرج ففعل فتكلم القوم عند ذلك فتنازعوا وتفاخروا حتى تواثب رجلان من الحيين أوس بن قيظي أحد بني حارثة من الأوس، وجابر بن صخر أحد بني سلمة من الخزرج فتقاولا وقال أحدهما لصاحبه : إن شئت رددتها جذعا وغضب الفريقان جميعا وقالا ارجعا السلاح السلاح موعدكم الظاهرة وهي حرة فخرجوا إليها فانضمت الأوس والخزرج بعضها إلى بعض على دعواهم التي كانوا عليها في الجاهلية فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فخرج إليهم فيمن معه من المهاجرين حتى جاءهم فقال يا معشر المسلمين أتدّعون الجاهلية وأنا بين أظهركم بعد أن أكرمكم الله بالإسلام وقطع به عنكم أمر الجاهلية وألف بينكم فترجعون إلى ما كنتم عليه كفارا الله الله فعرف القوم أنها نزعة من الشيطان وكيد من عدوهم فألقوا السلاح من أيديهم وبكوا وعانق بعضهم بعضا ثم انصرفوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سامعين مطيعين فأنزل الله عز وجل :﴿ يا أيها الذين آمنوا ﴾ يعني الأوس والخزرج ﴿ إن تطيعوا فريقا من الذين أتوا الكتاب ﴾ يعني شاسا وأصحابه ﴿ يردوكم بعد إيمانكم كافرين ﴾قال جابر ابن عبد الله ما كان طالع أكره إلينا من رسول الله صلى الله عليه وسلم فأومأ إلينا بيده وأصلح الله تعالى ما بيننا فما كان شخص أحب إلينا من رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما رأيت يوما أقبح ولا أوحش أولا وأحسن آخرا من ذلك اليوم٢٤.
﴿ يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا فريقا من الذين أتوا الكتاب يردوكم بعد إيمانكم كافرين ﴾
أي إن استمعتم إلى ما يلقيه بعض أهل الكتاب بينكم من دسائس ولنتم لهم لا يكتفون بإيقاع العداوة والبغضاء بينكم بل يتجاوزون ذلك إلى محاولتهم إعادتكم إلى وثنيكم القديمة وكفركم بالله بعد إيمانكم.
وقد وصف سبحانه الذين يحاولون الوقيعة بين المؤمنين بأنهم فريق من الذين أتوا الكتاب إنصافا لمن لم يفعل ذلك منهم.
ونعتهم بأنهم أوتوا الكتاب للإشعار بان تضليلهم متعمد وبأن تآمرهم على المؤمنين مقصود فهم اهل كتاب وعلم ولكنهم استعملوا علمهم في الشرور والآثام.
وقوله :﴿ ويردوكم ﴾ أصل الرد الصرف والإرجاع إلا أنه هنا مستعار فلتغيير الحال بعد المخالطة فيفيد معنى التصيير كقول الشاعر :
فرد شعورهن السود بيضا | ورد وجوههن البيض سودا |
وشبيه بهذه الآية قوله تعالى :﴿ ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارا حسدا من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم الحق ﴾ ( البقرة ١٠٩ ).
المفردات :
يعتصم بالله : يستمسك بدينه.
التفسير :
أي : كيف يتصور منكم الكفر أو يسوغ لكم ان تسيروا في أسبابه وآيات الله تقرأ على مسامعكم غضة طرية صبح مساء ورسول الله صلى الله بين ظهرانيكم يردكم إلى الصواب إن أخطأتم ويزيح شبهكم إن التبس عليكم أمر.
وهذا قوله تعالى :﴿ ومالكم لا تؤمنون بالله والرسول يدعوكم لتؤمنوا بربكم وقد اخذ ميثاقكم إن كنتم مؤمنين ﴾ ( الحديد ٨ ).
قال ابن كثير : وكما جاء في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه يوما " أي المؤمنين أعجب إيمانا ؟ قالوا الملائكة قال وكيف لا يؤمنون والوحي ينزل عليهم ؟ قالوا فنحن قال : وكيف لا تؤمنون وأنا بين أظهركم ؟ قالوا : فأي الناس أعجب إ يمانا ؟ قال : قوم يجيئون من بعدكم يجدون صحفا فيؤمنون بما فيها ".
وقوله :﴿ وأنتم تتلى عليكم آيات الله وفيكم رسوله ﴾ جملتان حاليتان من فاعل تكفرون وهو ضمير الجماعة وهاتان الجملتان هما محط الإنكار والاستبعاد.
أي أن كلا من تلاوة آيات الله وإقامة الرسول فيهم وازع لهم عن الكفر ودافع لهم إلى التمسك بعرى الإيمان.
قال قتادة : أما الرسول فقد مضى إلى رحمة الله وأما الكتاب فباق على وجه الدهر.
﴿ ومن يعتصم بالله فقد هدي إلى صراط مستقيم ﴾ أي ومن يستمسك بدين الله وهو الإسلام ويلتجئ إلى الله في كل أحواله ويتوكل عليه حق التوكل فقد هدي إلى الطريق الذي لا عوج فيه ولا انحراف.
قال القرطبي : واصل العصم المنع فكل مانع شيئا فهو عاصمه والممتنع به معتصم به ولذلك قيل للحبل عصام وللسبب الذي يتسبب به الرجل إلى حاجته عصام وأفصح اللغتين إدخال الباء كما قال عز وجل :﴿ واعتصموا بحبل الله جميعا ﴾.
وقد جاء اعتصمته كما قال الشاعر :
إذا أنت جازيت الإخاء بمثله | وآسيتني ثم اعتصمت حباليا |
وفي ختام الآية نجد انها محتملة لمعنيين :
المعنى الأول : أن الكفر بعيد عنكم ولا يتأتى منكم الكفر لان الوحي ينزل عليكم والرسول بينكم وفي هذا المعنى ما يومىء إلى إلقاء اليأس في قلوب هذا الفريق من اليهود من أن يصلوا إلى ما يبتغونه من تفريق المؤمنين لأن الوحي والنبي عصمة لهم.
المعنى الثاني : استفهام إنكاري عن احتمال كفرهم مع أن معهم أسباب الإيمان.
قال ابن جرير الطبري : يعني بذلك جل ثناؤه :
وكيف تكفرون أيها المؤمنون بعد إيمانكم بالله وبرسوله فترتدوا على أعقابكم وأنتم تتلى عليكم آيات الله يعني حجج الله عليكم التي أنزلها في كتابه على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم وفيكم رسوله حجة أخرى عليكم لله مع آي كتابه يدعوكم جميع ذلك إلى الحق ويبصركم الهدى والرشاد وينهاكم عن الغي والضلال.
يقول لهم سبحانه وتعالى فما وجه عذركم عند ربكم في جحودكم نبوة نبيكم وارتدادكم على أعقابكم ورجوعكم إلى أمر جاهليتكم٢٦.
المفردات :
حق تقاته : أي حق تقواه.
التفسير :
١٠٢- ﴿ يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون ﴾.
التقوى هي الخوف من الجليل والعمل بالتنزيل والاستعداد ليوم الرحيل.
وقيل التقوى : هي ألا يراك حيث نهاك ولا يفقدك حيث أمرك.
ومعنى الآية : راقبوا الله تعالى وأطيعوا أمره واجتنبوا مخالفته بحيث يطاع ولا يعصى ويذكر ولا ينسى ويشكر ولا يكفر به.
﴿ ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون ﴾ أي لا تقابلوا ربكم إلا وأنتم على حالة الإسلام الصحيح.
والمراد : داوموا على التخلق بأخلاق الإسلام لان من شب على شيء شاب عليه ومن شاب على شيء مات عليه والمراد ومن مات على شيء بعث عليه.
قال الزمخشري في الكشاف : ولا تموتن معناه ولا تكونن على حال سوي حال الإسلام إذا أدرككم الموت وذلك كأن تقول لمن تستعين به على لقاء العدو لا تاتي إلا وانت على حصان فأنت لا تنهاه عن الإتيان ولكنك تنهاه عن خلاف الحال التي شرطت عليه وقت الإتيان.
وذهب بعض المفسرون إلى أن هذه الآية منسوخة نسختها الآية الكريمة :﴿ فاتقوا الله ما استطعتم ﴾ ( التغابن ١٦ ) والجمهور على انها غير منسوخة.
قال النيسابوري :
لما حذر الله المؤمنين من فتن أهل الكتاب أمرهم بمجامع الطاعات ومعاقد الخيرات فأولها لزوم سيرة التقوى.
وعن ابن عباس : لما نزلت ﴿ يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ﴾ هو ان يطاع فلا يعصى طرفة عين، وان يشكر فلا يكفر وان يذكر فلا ينسى أو هو القيام بالواجبات كلها بالابتعاد عن المحارم بأسرها وان لا يأخذه في الله لومة لائم ويقوم بالقسط ولو على نفسه أو الوالدين أو الأقربين شق ذلك على المسلمين فنزلت ﴿ فاتقوا الله ما استطعتم ﴾ والجمهور على انها غير منسوخة لان معنى حق تقاته واجب تقواه وكما يحق أن يتقى وهو أن يجتنب جميع معاصيه.. فلم يبق فرق بين الآيتين٢٧.
والمراد من قوله تعالى : فاتقوا الله حق تقاته هو عين المراد من قوله تعالى ﴿ فاتقوا الله ما استطعتم ﴾ ( التغابن ١٦ ) لان الله لا يكلف نفسا إلا وسعها.
والاستثناء مفرغ في قوله :﴿ ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون ﴾ أي لا تموتن إلا على حالة من الأحوال إلا على هذه الحالة الحسنة التي هي حال المداومة على التمسك بالإسلام وتعاليمه وآدابه.
المفردات :
بحبل الله : أي بالإسلام أو القرآن استعار له كلمة الحبل حيث إن التمسك به سبب النجاة كما التمسك بالحبل سبب السلامة.
ولا تفرقوا : أي ولا تتفرقوا حذفت إحدى التاءين تخفيفا.
فألف : أي فجمع.
شفا حفرة : الشفا طرف الشيء وحرفه مثل شفا البئر وشفا حفرة منه يقال فلان أشفى على الشيء إذا أشرفت عليه كأنه بلغ شفاه أي حده وحرفه.
التفسير :
أي : كونوا جميعا مستمسكين بكتاب الله وبدينه وبعهوده ولا تتفرقوا كما كان شأنكم في الجاهلية.
ثم يذكر الله المسلمين بنعمته عليهم نعمة تأليف القلوب ورأب الصدوع والارتفاع على حزازات الصدور والتفاني في غاية أسمى من الشخصيات الزائلة والأمجاد الفارغة والفخر بالعصبيات والأنساب.. وإنها لمعجزة تلك التي تحول شتاتا العرب إلى وحدة وعداوتهم على مودة وتربط على قلوبهم هذا الرباط الذي لم تشهد له البشرية من قبل أو من بعد نظيرا.
( والنص هنا يعمد إلى مكمن المشاعر والروابط ( القلب ) فلا يقول فألف بينكم إنما ينفذ إلى المكمن العميق فألف بين قلوبكم وهو تعبير مصور مقصود.
كذلك يرسم النص سورة لما كانوا عليه بل مشهدا حيا متحركا يتملاه الخيال ويتوقع في كل لحظة حركة كانت ستكون لو لم تدركهم معجزة الإيمان ﴿ وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها... ﴾ فيصور الخيال هؤلاء الأناس على سفا حفرة من النار ويظل يتوقع حركة السقوط المتوقعة حتى تتم حركة الإنقاذ المفاجئة ) ٢٨.
﴿ كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تهتدون ﴾ أي بمثل هذا البيان الواضح يبين الله لكم سائر آياته لكي تثبتوا على الهدى وتزدادوا فيه اعتصاما وقوة.
والقرآن حافل بالدعوة إلى الوحدة والأخوة والتماسك والتكافل والتراحم والتحذير من الفرقة والعداوة والبغضاء والسخرية والاستهزاء.
وبمثل هذا الهدى الإلهي والتوجيه النبوي رأينا وحدة لم يعرف التاريخ لها نظيرا وحدة الأخوة بين المهاجرين والأنصار وحدة الألفة والمودة على الدين الجديد والدعوة الإسلامية الخالدة.
قال تعالى :﴿ وألف بين قلوبكم لو أنفقتم ما في الأرض جميعا ما ألفت بين قلوبهم ولكن الله ألف بينهم إنه عزيز حكيم ﴾ ( الأنفال ٦٣ ).
روى البخاري ومسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " ترى المؤمنين في تراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد إذ اشتكى منه عضو تداعي له سائر جسده بالسهر والحمى " ٢٩.
وروى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " إن الله يرضى لكم ثلاثا ويسخط لكم ثلاثا يرضى لكم ان تعبدوه ولا تشركوا به شيئا وأن تعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا وأن تنصحوا من ولاه الله أمركم ويسخط لكم ثلاثا قيل وقال وكثرة السؤال وإضاعة المال " ٣٠.
والمراد بالأمة هنا الطائفة من الناس التي تصلح لمباشرة الدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والمراد بالخير ما فيه صلاح للناس ديني أو دنيوي... والمراد بالمعروف ما حسنه الشرع وتعارف العقلاء على حسنه والمنكر ضد ذلك.
والمعنى : ولتكن منكم أيها المؤمنون طائفة قوية بالإيمان عظيمة الإخلاص تبذل أقصى طاقتها وجهدها في الدعوة إلى الخير الذي يصلح من شأن الناس وفي أمرهم بالتمسك بالتعاليم وبالأخلاق التي توافق الكتاب والسنة والعقول السليمة وفي نهيهم عن المنكر الذي يأباه شرع الله وتنفر منه الطباع الحسنة.
وقد دلت الآية على ان الامة يجب عليها أن تخصص طائفة منها تقوم بالدعوة إلى الله كما قال سبحانه ﴿ فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون ﴾ وهذا لا يعفي سائر أفراد الأمة من القيام بهذا الواجب كل بحسب طاقته.
﴿ وأولئك هم المفلحون ﴾ أي وأولئك القائمون بواجب الدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هم الكاملون في الفلاح والنجاح.
( وقال بعض العلماء : وفي الآية دليل على وجوب الامر بالمعروف والنهي عن المنكر ووجوبه ثابت بالكتاب والسنة وهو من أعظم واجبات الشريعة المطهرة وأصل عظيم من أصولها وركن مشيد من أركانها وبه يرتفع سنامها ويكمل نظامها ) ٣١.
وقد أورد الحافظ بن كثير بعض الأحاديث النبوية الشريفة في الدعوة إلى المحافظة على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وقيام كل فرد من الامة بهذا الواجب بحسب قدرته وطاقته.
وهذان حديثان نبويان من تفسير ابن كثير :
١- جاء في صحيح مسلم عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من رأى منكم منكرا فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان " في رواية : " وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل " ٣٢.
٢- وروى الإمام أحمد عن حذيفة بن اليمان أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " والذي نفسي بيده لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر أو ليوشكن أن يبعث عليكم عقابا من عنده ثم لتدعنه فلا يستجب لكم " ٣٣.
وجاء في كتاب الترغيب والترهيب للمنذري طائفة من الأحاديث النبوية الشريفة تحث على الامر بالمعروف والنهي عن المنكر منها ما يأتي :
( أ ) روى الشيخان عن جرير بن عبد الله قال : بايعت النبي صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة فلقنني فيما استطعت والنصح لكل مسلم٣٤.
( ب ) روى أبو داود والترمذي وابن ماجه والنسائي : عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه قال " يا أيها الناس إنكم تقرءون هذه الآية { يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم ( المائدة ١٠٥ ). وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمهم الله بعقاب من عنده " ٣٥.
( ج ) روى الترمذي عن جابر بن عبد الله أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : سيد الشهداء حمزة بن عبد المطلب ورجل قام إلى إمام جائز فأمره ونهاه فقتله٣٦.
المعنى الإجمالي :
حثت الآيات السابقة على لزوم الوحدة والجماعة ودعت إلى الاعتصام بحبل الله وتخصيص طائفة من الهداة للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
وهنا تحذر الآيات من الفرقة وتدعو إلى الاعتبار بالذين تفرقوا واختلفوا من بعدما ما جاءهم البينات وما ينتظرهم من عذاب عظيم في ذلك اليوم الذي تبيض فيه وجوه وتسود فيه وجوه.
التفسير :
١٠٥- ﴿ ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءكم البينات وأولئك لهم عذاب عظيم ﴾.
احذروا الفرقة والاختلاف واعتبروا بمن سبقكم من الأمم وهم اليهود والنصارى حيث تفرق كل منهما فرقا مختلفة يكفر بعضها بعضا واختلفوا باستخراج التأويلات الزائغة وكتم الآيات الناطقة بسبب ما أخلدوا إليه من حطام الدنيا ولقد كان تفرقهم هذا واختلافهم من بعدما جاءهم البينات أي الآيات والحجج والبراهين الدالة على الحق والداعية إلى الاتحاد والوئام لا إلى التفرق والاختلاف.
والاختلاف المنهي عنه في هذه الآية إنما هو الاختلاف في الأصول أما الاختلاف في الفروع الناشئ عن الاجتهاد في فهم النصوص فأمر ثبت في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأقره ومن ثم كان للمجتهد المخطئ أجر كما أن للمصيب أجرين لأن الاختلاف في الفروع أفسح المجال للرخص والمسلمون بحاجة إليها٣٧.
ومن الأحاديث التي ذمت الخلاف ما رواه الإمام أحمد وأبو داود عن أبي عامر ( عبد الله بن لحى ) قال : حججنا مع ( معاوية ابن أبي سفيان ) فلما قدمنا مكة قام حين صلى صلاة الظهر فقال : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إن أهل الكتابين افترقوا في دينهم على اثنتين وسبعين ملة وإن هذه الأمة ستفترق على ثلاث وسبعين ملة - يعني الأهواء -كلها في النار إلا واحدة وهي الجماعة وانه سيخرج في أمتي أقوام تتجارى بهم الأهواء كما يتجارى الكلب ٣٨ بصاحبه لا يبقى منه عرق ولا مفصل إلا دخله " ٣٩.
ثم ختم الله سبحانه الآية ببيان سوء عاقبة المتفرقين والمختلفين في الحق فقال :﴿ وأولئك لهم عذاب عظيم ﴾.
أي وأولئك الموصوفون بتلك الصفات الذميمة لهم عذاب أليم بسبب تفرقهم واختلافهم الباطل.
( فأنت ترى القرآن الكريم قد نهى عن التفرق والاختلاف بأبلغ تعبير وألطف إشارة وذلك بأن بين لهم حسن عاقبة المعتصمين بحبل الله دون أن يتفرقوا وما بشر به سبحانه المواظبين على الدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من انهم هم المفلحون الفائزون.
ثم بين لهم سوء عاقبة التفرق والاختلاف الذي وقع فيه من سبقتهم من اليهود والنصارى وكيف أنه ترتب على تفرقهم واختلافهم أن كفر بعضهم بعضا وقاتلوا بعضهم بعضا على الزيغ والضلال هذا في الدنيا أما في الآخرة فلهؤلاء المتفرقون العذاب العظيم ) ٤٠.
حثت الآيات السابقة على لزوم الوحدة والجماعة ودعت إلى الاعتصام بحبل الله وتخصيص طائفة من الهداة للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
وهنا تحذر الآيات من الفرقة وتدعو إلى الاعتبار بالذين تفرقوا واختلفوا من بعدما ما جاءهم البينات وما ينتظرهم من عذاب عظيم في ذلك اليوم الذي تبيض فيه وجوه وتسود فيه وجوه.
١٠٦- ﴿ يوم تبيض وجوه وتسود وجوه فأما الذين اسودت وجوههم أكفرتم بعد إيمانكم فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون ﴾.
المراد ببياض الوجوه بهجتها وسرورها وبسواد الوجوه حزنها وكآبتها.
وشبيه بهذه الآية قوله تعالى :{ وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة ووجوه يومئذ باسرة تظن أن يفعل بها فاقرة ( القيامة ٢٢-٢٥ ).
وقوله سبحانه { ويوم القيامة ترى الذين كذبوا على الله وجوههم مسودة ( الزمر ٦٠ ).
وقوله عز شأنه :{ وجوه يومئذ مسفرة ضاحكة مستبشرة ووجوه يومئذ عليها غبرة ترهقها قترة أولئك هم الكفرة الفجرة ( عبس ٣٨-٤٢ ).
قال الزمخشري في تفسير :( البياض من النور والسواد من الظلمة : فمن كان من أهل نور الحق وسم ببياض اللون وإسفاره وإشراقه وابيضت صحيفته وأشرقت وسعى النور بين يديه ومن كان من أهل الباطل وسم بسواد اللون وكسوفه وكمده واسودت صحيفته وأظلمت وأحاطت به الظلمة من كل جانب نعوذ بالله وبسعة رحمته من ظلمة الباطل وأهله ) ٤١.
وذهب بعض العلماء إلى ان السواد والبياض محمولان على حقيقتها وذلك لأن اللفظ حقيقة فيهما ولا دليل يوجب ترك هذه الحقيقة فوجب الحمل على ذلك.
جاء في تفسير النيسابوري :
وفي أمثال هذه الألوان للمفسرين قولان :
أحدهما : إليه ميل أبي مسلم ان البياض مجاز عن الفرح والسواد عن الغم وهذا مجاز مستعمل قال تعالى :{ وإذا بشر أحدهم بالأنثى ظل وجهه مسودا وهو كظيم ( النحل ٥٨ ).
ولما سلم الحسن بن علي الامر إلى معاوية قال له رجل : يا أبا مسود وجوه المؤمنين.
ولبعض الشعراء في الشيب قوله :
يا بياض القرون سودت وجهي
عند بيض الوجوه سود القرون
وثانيهما أن السواد والبياض محمولان على ظاهرهما وهما النور والظلمة إذ الأصل في الإطلاق الحقيقة، فمن كان من أهل نور الحق وسم ببياض اللون وإسفاره وإشراقه وابيضت صحيفته وسعى النور بين يديه وبيمينه، ومن كان من اهل ظلمة الباطل وسم بسواد اللون وكمده واسودت صحيفته وأحاطت به الظلمة من كل جانب.
قالوا والحكمة في ذلك ان يعرف أهل الموقف كل صنف فيعظمونهم أو يصغرونهم بحسب ذلك ويحصل لهم بسببه مزيد بهجة وسرور أو ويل وثبور.
وقد اختار الفخر الرازي ان التعبير القرآني في الآية محمول على المجاز لا على الحقيقة فقال : وهذا مجاز مشهور، قال تعالى :{ وإذا بشر أحدهم بالأنثى ظل وجهه مسودا وهو كظيم ( النحل ٥٨ ).
ويقال لفلان عندي يد بيضاء وتقول العرب لمن نال بغيته وفاز بمطلوبه ابيض وجهه ومعناه الاستبشار والتهلل ويقال لمن وصل إليه مكروه : أريد وجهه وأغبر لونه، وتبدلت صورته، وعلى هذا فمعنى الآية : أن المؤمن يرد يوم القيامة على ما قدمت يداه فإن رأى ما يسره ابيض وجهه بمعنى استبشر بنعم الله وفضله، وعلى ضد ذلك إذا رأى الكافر أعماله القبيحة محصاة عليه أسود وجهه بمعنى أنه يشتد حزنه وغمه٤٢.
ومن الطرائف ما روى أن شخصين أحدهما أبيض والآخر أسود تقابلا فقال الأسود :
ألم تر ان سواد العين لا شك نورها
وان بياض العين لا شيء فاعلم
وان سواد المسك لا شيء مثله
وان بياض اللفت حمل بدرهم
فقال الأبيض :
ألم تر أن بياض البدر لا شيء مثله
وان سواد الفحم حمل بدرهم
وان رجال الله بيض وجوههم
وان سود الوجوه مأواهم جهنم
وهي مغالطة من الأبيض لأن سواد أهل النار ليس سواد الخلقة ولكنه سواد الظلمة والمعصية.
وفي الأثر ( كم من وجه صبيح ولسان فصيح وجسم مليح غذا بين أحشاء النار يصيح ).
وكان زعيم المنافقين حسن الهيئة جميل الصوت يجيد تزويق الكلام فقال فيه القرآن :{ وإذا رأيتهم تعجبك أجسامهم وإن يقولوا تسمع لقولهم كأنهم خشب مسندة يحسبون كل صيحة عليهم هم العدو فاحذرهم قاتلهم الله أني يؤفكون. ( المنافقون : ٤ ).
وقد ورد في هدى النبوة " إن الله لا ينظر إلى صوركم ولا إلى أموالكم وإنما ينظر إلى قلوبكم وأعمالهم ".
زمما تقدم يتضح أن الراجح في سواد الوجوه وبياضها، هو أنهما محمولان على المجاز لا على الحقيقة، وان بياض الوجه لا يقرب صاحبه إلى الله وان سواد الوجه لا يبعد صاحبه عن الله وإنما يقرب الإنسان من الله العمل الصالح ويبعده عن الله العمل الصالح.
﴿ فأما الذين اسودت وجوههم أكفرتم بعد إيمانكم فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون ﴾.
أي أما الذين اسودت وجوههم فيقال لهم على سبيل التوبيخ أكفرتم بعد إيمانكم ؟ فذوقوا العذاب بسبب كفركم.
والاستفهام في قوله تعالى : أكفرتم للتوبيخ والتعجب من حالهم قال الألوسي : والظاهر من السياق أن هؤلاء هم اهل الكتاب وكفرهم بعد إيمانهم هو كفرهم برسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الإيمان به قبل مبعثه وقيل هم جميع الكفار لإعراضهم عما وجب عليهم من الإقرار بالتوحيد حين أشهدهم على أنفسهم ﴿ ألست بربكم قالوا بلى ﴾ ( الأعراف ١٧٢ ) ويحتمل ان يراد بالإيمان الإيمان بالقوة والفطرة وكفر جميع الكفار بعد هذا الإيمان لتمكنهم بالنظر الصحيح والدلائل الواضحة والآيات البينة من الإيمان بالله تعالى وبرسوله صلى الله عليه وسلم٤٣.
و قوله :﴿ فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون ﴾ أي فادخلوا جهنم وذوقوا مرارة العذاب وآلامه بسبب استمراركم على الكفر وموتكم عليه.
حثت الآيات السابقة على لزوم الوحدة والجماعة ودعت إلى الاعتصام بحبل الله وتخصيص طائفة من الهداة للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
وهنا تحذر الآيات من الفرقة وتدعو إلى الاعتبار بالذين تفرقوا واختلفوا من بعدما ما جاءهم البينات وما ينتظرهم من عذاب عظيم في ذلك اليوم الذي تبيض فيه وجوه وتسود فيه وجوه.
١٠٧- ﴿ وأما الذين ابيضت وجوههم ففي رحمة الله هم فيها خالدون ﴾ أي وأما الذين ابيضت وجوههم بركة إيمانهم وعملهم الصالح ففي رحمة الله أي ففي جنته ونعيمها لأنها محل الرحمة ومكانها هم فيها خالدون أي خلودا أبديا سرمديا في نعيم لا يحد بحد ولا يبلغ العقول مداه.
ومما تقدم نجد أن الناس فريقان يوم القيامة.
كفار اسودت وجوههم ومؤمنون ابيضت وجوههم وقد ذكر بعض العلماء أن الذين اسودت وجوههم يوم القيامة هم الخوارج لأنهم كفروا بعد إيمانهم.
وقال آخرون : عنى بذلك كل من كفر بالله بعد الإيمان.
وقال آخرون بل الذين عنوا بقوله ﴿ أكفرتم بعد إيمانكم ﴾ هم المنافقون كانوا أعطوا كلمة الإيمان بألسنتهم وأنكروها بقلوبهم وأعمالهم.
قال ابن جرير الطبري بعد ان ذكر هذه الآراء.
وأولى الأقوال التي ذكرناها في ذلك بالصواب القول الذي ذكرناه على أبي بن كعب أنه عني بذلك جميع الكفار وأن الإيمان الذي يوبخون على ارتدادهم عنه هو الإيمان الذي أقروا به يوم قيل لهم :﴿ الست بربكم قالوا بلى شهدنا ﴾ ( الأعراف ١٧٢ ) وذلك ان الله جل ثناؤه جعل جميع اهل الآخرة فريقين أحدهما سوداء وجوههم والآخر بيضاء وجوههم فمعلوم إذا لم يكن هنالك إلا هذان الفريقان أن جميع الكفار داخلون في فريق من اسود وجهه وان جميع المؤمنين داخلون في فريق من ابيض وجهه.
حثت الآيات السابقة على لزوم الوحدة والجماعة ودعت إلى الاعتصام بحبل الله وتخصيص طائفة من الهداة للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
وهنا تحذر الآيات من الفرقة وتدعو إلى الاعتبار بالذين تفرقوا واختلفوا من بعدما ما جاءهم البينات وما ينتظرهم من عذاب عظيم في ذلك اليوم الذي تبيض فيه وجوه وتسود فيه وجوه.
١٠٨- ﴿ تلك آيات الله نتلوها عليك بالحق وما الله يريد ظلما للعالمين ﴾
هذه الحقائق التي تتصل بعذاب الكافرين ونعيم المؤمنين أو هذه الآيات البينات والحجج الواضحات نتلوها عليك يا محمد بالحق أي محقين عادلين فيما بيناه من جزاء للعباد حسب أعمالهم وما الله يريد ظلما للعالمين : أي ليس بظالم لهم بل هو الحكم العدل الذي لا يجور لانه القادر على كل شيء العالم بكل شيء فلا يحتاج مع ذلك إلى ان يظلم أحدا من خلقه.
سورة آل عمران سورة مدنية وآياتها مائتان نزلت بعد الأنفال والمراد بعمران هو والد مريم أم عيسى عليهما السلام وآل عمران هم عيسى ويحيى ومريم وأمها.
و تسمى الزهراء : لأنها كشفت عما التبس على أهل الكتاب في شأن عيسى عليه السلام.
و الأمان : لأن من تمسك بها فيما آمن من الغلط في شانه.
و الكنز : لتضمنها الأسرار العيسوية.
و المجادلة : لنزول نيف وثمانين آية منها في مجادلة الرسول صلى الله عليه وسلم نصارى نجران.
و سورة الاستغفار : لما فيها من قوله تعالى :﴿ و المستغفرين بالأسحار ﴾ ( آل عمران ١٧ ).
***
من أهداف سورة آل عمران
١- بيان معنى الدين ومعنى الإسلام فليس الدين هو كل اعتقاد في الله إنما هو صورة واحدة من صور الاعتقاد فيه سبحانه صورة التوحيد المطلق الناصع القاطع :
توحيد الألوهية التي يتوجه إليها البشر.
وتوحيد القوامة على البشر وعلى الكون كله فلا يقوم شيء إلا بالله تعالى ولا يقوم على الخلائق إلا الله تعالى
٢- تصوير حال المسلمين مع ربهم واستسلامهم له وتلقيهم لكل ما يأتيهم منه بالقبول والطاعة والإتباع الدقيق.
٣- التحذير من ولاية غير المؤمنين والتهوين من شأن الكافرين مع هذا التحذير وتقرير أنه لا إيمان ولا صلة بالله مع تولي الكفار الذين لا يحتكمون لكتاب الله ولا يتبعون منهجه في الحياة.
٤- بيان أن اللذائذ الدنيوية زائلة والآخرة خير وأبقى.
٥- محبة الله سبحانه لا تتم إلا بمتابعة الرسول صلى الله عليه وسلم.
٦- بيان قصص بعض المصطفين الأخيار كمريم وزكريا ويحيى وعيسى عليهم السلام و ما جرى لعيسى من المعجزات والرد على من ادعى أنه ابن الله.
٧- أمر النبي أن يدعو أهل الكتاب إلى المباهلة والدعاء بأن ينزل الله لعنته على الكافرين.
٨- بيان أنه تعالى أخذ الميثاق على الأنبياء : أن يؤمنوا بجميع الرسل وأن من صفة محمد كونه مصدقا لما معهم.
٩- بيان أفضلية البيت الحرام على غيره وأن حجه واجب على المستطيع.
١٠- ذكر غزوة أحد وبيان أن طريق الجنة : الجهاد والعمل الصالح وان كثيرا من الأمم حاربت مع أنبيائهم.
١١- النبي صلى الله عليه وسلم رحيم بأمته ولو كان سيء الأخلاق لابتعد الناس عنه وقد حثه القرآن على مشاورة أصحابه والعزم على التوكل على الله وقد تفضل الله على الخلق برسالة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم.
١٢- بيان حال الشهداء وفضلهم ومنزلتهم السامية عند الله.
١٣- بيان أن بعض أهل الكتاب آمنوا وحث المؤمنين على الصبر والمرابطة والتقوى والتمسك بالوحدانية المطلقة.
١٠٩- ﴿ ولله ما في السموات وما في الأرض وإلى الله ترجع الأمور ﴾.
أي الجميع ملك له وحده : خلقا وتدبيرا وتصرفا وإحياء وإماتة وإثابة وتعذيبا.
﴿ وإلى الله ترجع الأمور ﴾ يئول التصرف في شئون الدنيا والآخرة فيحكم بالحق والعدل والحق يقتضي أن يكون لكل عمل جزاؤه وأن يكون لكل شيء وزنه وألا يترك الناس سدى وألا يكون الخير والشر سواء.
المفردات :
أمة : الأمة : الجماعة.
الفاسقون : الخارجون عن طاعة الله.
١١٠- ﴿ كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله.. الآية ﴾.
المعنى :
وجدتم خير امة خرجت للناس لأنكم تأمرون بالمعروف أي بالقول أو الفعل الجميل المستحسن في الشرائع والعقول ويأباه أهل الإيمان القويم والعقل السليم٤٤.
وجاء في ظلال القرآن ما يأتي :
{ كنتم خير امة أخرجت للناس.. أخرجت.. إنه لتعبير يلفت النظر لفظ أخرج وبناؤه للمجهول.. وهو يكاد يشي باليد الخفية المدبرة تخرج هذه الأمة إخراجا وتدفعها إلى الظهور دفعا من ظلمات الغيب ومن وراء الستار السرمدي الذي لا يعلم ما وراءه إلا الله.
إنها للفظة تصور حركة خفية لطيفة الدبيب حركة تخرج على مسرح الوجود أمة.. فيا لها من يد قادرة مدبرة تشي بها لفظة مصورة معبرة٤٥.
والخطاب في هذه الآية الكريمة بقوله تعالى :﴿ كنتم ﴾ للمؤمنين الذين عاصروا النبي صلى الله عليه وسلم ولمن أتى بعدهم واتبع الإسلام إلى يوم الدين.
جاء في تفسير ابن كثير ما يأتي :
قال ابن عباس في قوله تعالى :﴿ كنتم خير امة أخرجت للناس ﴾ قال هم الذين هاجروا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة والصحيح ان هذه الآية عامة في جميع الامة كل قرن بحسبه وخير قرونهم الذين بعث فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم الذين يلونهم كما قال في الآية :
﴿ وكذلك جعلناكم امة وسطا. أي خيارا{ لتكووا شهداء على الناس... ﴾ ( البقرة ١٤٣ ).
وفي مسند أحمد وجامع الترمذي من رواية حكيم بن معاوية عن أبيه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " أنتم توفون سبعين أمة انتم خيرها وأكرمها على الله عز وجل " ٤٦ وهو حديث مشهور وقد حسنه الترمذي.
وإنما حازت هذه الأمة قصب السبق إلى الخيرات بنبيها محمد صلوات الله وسلامه عليه فإنه أشرف خلق الله وأكرم الرسل على الله وبعثه الله بشرع كامل عظيم لم يعطه نبي قبله ولا ر سول من الر سل٤٧.
وقد ساق ابن كثير تفسيره أحاديث كثيرة في فضل أمة محمد صلى الله عليه وسلم ونقل منها الأستاذ محمد علي الصابوني خمسة عشر حديثا نبويا شريفا في كتاب ( مختصر تفسير ابن كثير ) منها ما رواه البخاري ومسلم ومنها ما رواه الإمام احمد ومنها ما روى في كتب السنن وسننقل منها هذا الحديث الشريف :
روى مسلم عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم انه قال " عرضت على الأمم فرأيت النبي ومعه الرهط والنبي ومعه الرجل والرجلان والنبي وليس معه احد إذ رفع لي سواد عظيم فظننت انهم أمتي فقيل : هذا موسى وقومه ولكن انظر إلى الأفق فنظرت فإذا سواد عظيم فقيل انظر إلى الأفق الآخر فإذا سواد عظيم فقيل لي : هذه أمتك ومعهم سبعون ألفا يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب ) ثم نهض فدخل منزله فخاض الناس في أولئك الذين يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب فقال بعضهم : فلعلهم الذين ولدوا في الإسلام ولم يشركوا بالله شيئا وذكروا أشياء فخرج عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال :( ما الذي تخوضون فيه ؟ ) فأخبروه فقال ( هم الذين لا يرقون ولا يسترقون ولا يكتوون ولا يتطيرون وعلى ربهم يتوكلون ) فقام عكاشة بن محصن فقال : ادع الله ان يجعلني منهم قال :( أنت منهم ) ثم قام رجل آخر فقال : ادع الله ان يجعلني منهم قال : سبقك بها عكاشة ) ٤٨.
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر :
لقد بين الحق سبحانه وتعالى سبب أفضلية هذه الأمة فقال :﴿ تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله ﴾ وهم ثلاث ركائز :
الأمر بالمعروف والدعوة إلى الخير والكمال والسير على صراط المستقيم.
والنهي عن المنكر : والتحذير من الفعل القبيح والسلوك المستهجن والنهي عن ارتكاب الفواحش واقتراف المعاصي.
والإيمان بالله : اليقين الجازم بوجوده وطاعته وإخلاص العبادة له والتمسك بأمره والبعد عما نهى عنه.
والآية الكريمة وسام علوي لهذه الأمة إذا قامت بدورها وأدت واجبها وأطاعت خالقها واهتدت بسنة نبيها ورسولها.
فهل وعت الأمة الإسلامية الملئ بالضعف والهوان والفسوق والعصيان والأثرة والتنازع والاختلاف والتخلف والتأخر وضعف الهمم والعزائم كل هذا يدمي قلوب المؤمنين الصادقين.
ولا صالح لآخر هذه الامة إلا بما صلح به أولها :( إيمان صادق وعمل مخلص وتحمل تبعة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ).
قال ابن كثير بعد أن ساق طائفة من الأحاديث النبوية في فضل الأمة المحمدية : فهذه الأحاديث في معنى قوله :﴿ كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله ﴾.
فمن اتصف من هذه الأمة بهذه الصفات دخل معهم في هذا المدح كما قال : قتادة : بلغنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه في حجة حجها رأى من الناس دعة فقرأ هذه الآية :﴿ كنتم خير أمة أخرجت للناس ﴾ ثم قال ( من سره أن يكون من هذه الأمة فيؤد شرط الله فيها ) رواه ابن جرير.
﴿ ولو آمن أهل الكتاب لكان خير لهم ﴾.
أي ﴿ ولو آمن أهل الكتاب ﴾ بما انزل على محمد صلى الله عليه وسلم ﴿ لكان خير لهم ﴾ : أي لكان إيمانهم خيرا لهم في دنياهم وآخرتهم ولنالوا الخيرية التي ظفرت بها الأمة الإسلامية ولكنهم لم يؤمنوا فامتنع الخير فيهم لامتناع الإيمان الصحيح منهم.
﴿ منهم المؤمنون وأكثرهم الفاسقون ﴾ أي قليل منهم من يؤمن بالله وما انزل إليكم وما انزل إليهم كعبد الله ابن سلام وأضرابه.
وأكثرهم الفاسقون. أي المتمردون في الكفر الخارجون عن الحدود.
إن الله تعالى لا يحابي أمة من الأمم ولا شعبا من الشعوب لقد نصر المؤمنين عندما كانوا أهلا للنصر لقد مكنهم الله في الأرض فأورثهم عروش الأكاسرة والقياسرة وأذل اليهود وهم شعب غليظ الرقبة وفتح لهم البلاد ومكنهم من العباد فلما أعرض المسلمون عن هدى الله وشرعه مكن منهم عدوهم جزاء وفاقا لأعمالهم. ومن هنا نعلم أن الشرط في نفي ضرر اليهود الذي يؤثر في الامة الإسلامية هو ان تكون مؤمنة بربها حق الإيمان متبعة لهدى رسولها محمد صلى الله عليه وسلم.
جاء في تفسير سورة آل عمران للأستاذ الدكتور محمد سيد طنطاوي :
فإن قال قائل : ولكن اليهود قد انتصروا على المسلمين وأقاموا لهم دولة في بقعة من أعز بقاع البلاد الإسلامية وهي فلسطين فهل تخلف وعد الله ؟
والجواب على ذلك أن وعد الله تعالى ما تخلف ولن تخلف وقد حققه سبحانه لأسلافنا الصالحين الذين آمنوا به حق الإيمان ولكن المسلمين في هذا العصر هم الذين تغيرت أحوالهم فقد فرطوا في دينهم وأضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات وتفرقوا شيعا وأحزابا وتنكبوا الطريق القويم ولم يباشروا الأسباب التي شرعها الله تعالى لبلوغ النصر ولم يحسنوا الشعور بالمسئولية.. فلما فعلوا ذلك تبدل حالهم من الخير إلى الشر ومن القوة إلى الضعف وسلط الله عليهم من لا يخافهم ولا يرحمهم ٥٣ لأن الله تعالى :{ لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم ( الرعد ١١ ). وإذا عاد المسلمون إلى أمر ربهم وتعاليم دينهم عاد إليهم المجد والعز والرفعة والنصر. { ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز. ( الحج ٤٠ ).
المفردات :
ولوكم الأدبار : يعطوكم ظهوركم منهزمين.
التفسير :
سيقت هذه الآية لتطمئن المؤمنين الصادقين بان هؤلاء الفاسقين من اهل الكتاب لن يستطيعوا إلحاق أي ضرر بالغ بهم ما داموا معتصمون بدينهم وكل ما يستطيعون أن يلحقوه بهم لا يتعدى أن يكون ضررا يسيرا كالطعن والشتم والسخرية والتهديد والوعيد.
﴿ وإن يقاتلوكم يولوكم الأدبار ثم لا ينصرون ﴾.
بشرت الآية المسلمين بثلاث بشارات :
الأولى : انهم في مأمن من الضرر البليغ من جهة اهل الكتاب.
الثانية : ان اهل الكتاب لو قاتلوهم فإن المؤمنين سيكون لهم النصر عليهم.
الثالثة : أن أهل الكتاب لن يحرزوا نصرا على المؤمنين ولن تكون لهم شوكة أو قوة للأخذ بثأرهم بعد هزيمتهم أمام المؤمنين.
جاء في تفسير ابن كثير وهكذا وقع فإنهم يوم خيبر أذلهم الله وأرغم أنوفهم وكذلك من قبلهم من يهود المدينة ( بني قينقاع ) ( وبني النضير ) ( وبني قريظة ) كلهم أذلهم الله وكذلك النصارى بالشام كسرهم الصحابة في غير ما موطن وسلبوهم ملك الشام أبد الآبدين ودهر الداهرين ولا تزال عصابة الإسلام قائمة بالشام حتى ينزل عيسى عليه ابن مريم وهم كذلك، ويحكم بملة الإسلام وشرع محمد عليه أفضل الصلاة والسلام فيكسر الصليب ويقتل الخنزير ويضع الجزية ولا يقبل إلا الإسلام.
إن الله تعالى لا يحابي أمة من الأمم ولا شعبا من الشعوب لقد نصر المؤمنين عندما كانوا أهلا للنصر لقد مكنهم الله في الأرض فأورثهم عروش الأكاسرة والقياسرة وأذل اليهود وهم شعب غليظ الرقبة وفتح لهم البلاد ومكنهم من العباد فلما أعرض المسلمون عن هدى الله وشرعه مكن منهم عدوهم جزاء وفاقا لأعمالهم. ومن هنا نعلم أن الشرط في نفي ضرر اليهود الذي يؤثر في الامة الإسلامية هو ان تكون مؤمنة بربها حق الإيمان متبعة لهدى رسولها محمد صلى الله عليه وسلم.
جاء في تفسير سورة آل عمران للأستاذ الدكتور محمد سيد طنطاوي :
فإن قال قائل : ولكن اليهود قد انتصروا على المسلمين وأقاموا لهم دولة في بقعة من أعز بقاع البلاد الإسلامية وهي فلسطين فهل تخلف وعد الله ؟
والجواب على ذلك أن وعد الله تعالى ما تخلف ولن تخلف وقد حققه سبحانه لأسلافنا الصالحين الذين آمنوا به حق الإيمان ولكن المسلمين في هذا العصر هم الذين تغيرت أحوالهم فقد فرطوا في دينهم وأضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات وتفرقوا شيعا وأحزابا وتنكبوا الطريق القويم ولم يباشروا الأسباب التي شرعها الله تعالى لبلوغ النصر ولم يحسنوا الشعور بالمسئولية.. فلما فعلوا ذلك تبدل حالهم من الخير إلى الشر ومن القوة إلى الضعف وسلط الله عليهم من لا يخافهم ولا يرحمهم ٥٣ لأن الله تعالى :{ لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم ( الرعد ١١ ). وإذا عاد المسلمون إلى أمر ربهم وتعاليم دينهم عاد إليهم المجد والعز والرفعة والنصر. { ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز. ( الحج ٤٠ ).
المفردات :
ضربت عليهم الذلة : أحيطوا بالذلة كما تحيط الخيمة بمن ضربت عليه والمراد بالذلة الهوان والصغار.
ثقفوا : وجدوا.
بحبل : بعهد.
باءوا : رجعوا.
المسكنة : الضعف والحاجة الناشئة عن فطرة فيهم.
التفسير :
إن هؤلاء اليهود أحاطت بهم الذلة في جميع أحوالهم أينما وجدوا وحيثما حلوا إلا في حال اعتصامهم بعهد من الله أو بعهد من الناس.
وقال السيخ محمد عبده : إن حالهم معكم أن يكونوا أذلاء مهضومي الحقوق رغم أنوفهم إلا بحبل من الله وهو ما قررته شريعته لهم إذا دخلوا في حكمكم من المساواة في الحقوق والقضاء وتحريم إيذائهم وهضم شيء من حقوقهم وحبل من الناس هو ما تقتضيه المشاركة في المعيشة من احتياجكم إليهم في بعض الأمور أي فهذا القدر المستثنى من عموم الذلة لم يأتهم من أنفسهم وإنما جاءهم من غيرهم٤٩.
وأجاز بعض المفسرين : أن يراد من حبل الناس لجوءهم إلى قوة غالبة في الأرض من غير المسلمين يستظلون بحمايتهم ويستمدون منهم العون والقوة كما هو شأنهم في هذا الزمان٥٠.
﴿ وباءوا بغضب من الله ﴾ أي رجعوا به مستحقين له :﴿ وضربت عليهم المسكنة ﴾ أي فرضت عليهم وألصقت بهم فاليهودي يشعر في نفسه دائما بالفقر وإن كان موسرا غنيا وبالضعف وإن كان قويا.
﴿ ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله ويقتلون الأنبياء بغير حق ﴾.
( يكشف القرآن الكريم عن سبب هذا القدر المكتوب على اهل الكتاب فإذا هو الكفر بآيات الله وقتل الأنبياء بغير حق المنبعثان بدورهما عن العصيان والاعتداء وإذن فهم الجزاء العادل إنه الذلة في مقابل التمرد والمسكنة في مقابل التطاول والهزيمة في مقابل الاعتداء.. جزاء وفاقا وما ربك بظلام للعبيد ) ٥١.
﴿ ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون ﴾ أي ذلك الكفر والقتل للأنبياء كائن بسبب عصيانهم واعتدائهم المستمر على حدود الله.
وتلك طبيعة اليهود دائما : تمرد على الدين واعتداء على حرمات الله وحقوق عباده.
و قد ارتكب اليهود هذه القبائح وهم عالمون بجرمهم مخالفون لشرع الله عن تعمد وإصرار.
قال الزمخشري في تفسير الكشاف :
فإن قلت قتل الأنبياء لا يكون إلا بغير الحق فما فائدة ذكره هنا قلت : معناه أنهم قتلوه بغير الحق عندهم لأنهم لم يقتلوا ولا أفسدوا في الأرض فيقتلوا وإنما نصحوهم ودعوهم إلى ما ينفعهم فلو سئلوا وأنصفوا من أنفسهم لم يذكروا وجها يستحقون به القتل عندهم٥٢.
إن الله تعالى لا يحابي أمة من الأمم ولا شعبا من الشعوب لقد نصر المؤمنين عندما كانوا أهلا للنصر لقد مكنهم الله في الأرض فأورثهم عروش الأكاسرة والقياسرة وأذل اليهود وهم شعب غليظ الرقبة وفتح لهم البلاد ومكنهم من العباد فلما أعرض المسلمون عن هدى الله وشرعه مكن منهم عدوهم جزاء وفاقا لأعمالهم. ومن هنا نعلم أن الشرط في نفي ضرر اليهود الذي يؤثر في الامة الإسلامية هو ان تكون مؤمنة بربها حق الإيمان متبعة لهدى رسولها محمد صلى الله عليه وسلم.
جاء في تفسير سورة آل عمران للأستاذ الدكتور محمد سيد طنطاوي :
فإن قال قائل : ولكن اليهود قد انتصروا على المسلمين وأقاموا لهم دولة في بقعة من أعز بقاع البلاد الإسلامية وهي فلسطين فهل تخلف وعد الله ؟
والجواب على ذلك أن وعد الله تعالى ما تخلف ولن تخلف وقد حققه سبحانه لأسلافنا الصالحين الذين آمنوا به حق الإيمان ولكن المسلمين في هذا العصر هم الذين تغيرت أحوالهم فقد فرطوا في دينهم وأضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات وتفرقوا شيعا وأحزابا وتنكبوا الطريق القويم ولم يباشروا الأسباب التي شرعها الله تعالى لبلوغ النصر ولم يحسنوا الشعور بالمسئولية.. فلما فعلوا ذلك تبدل حالهم من الخير إلى الشر ومن القوة إلى الضعف وسلط الله عليهم من لا يخافهم ولا يرحمهم ٥٣ لأن الله تعالى :{ لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم ( الرعد ١١ ). وإذا عاد المسلمون إلى أمر ربهم وتعاليم دينهم عاد إليهم المجد والعز والرفعة والنصر. { ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز. ( الحج ٤٠ ).
المفردات :
قائمة : مستقيمة عادلة من أقمت العود فقام على معنى استقام.
آناء الليل : ساعاته وأوقاته.
١١٣- ﴿ ليسوا سواء من اهل الكتاب أمة قائمة يتلون آيات الله آناء الليل وهم يسجدون ﴾.
أي ليس أهل الكتاب متساوين في الكفر وسوء الأخلاق بل منهم طائفة قائمة بأمر الله مطيعة لشرعه مستقيمة على طريقته ثابتة على الحق ملازمة له لم تتركه كما تركه الأكثرون من اهل الكتاب وضيعوه.
والمراد بهذه الطائفة من اهل الكتاب أولئك الذين أسلموا منهم واستقاموا على أمر الله وأطاعوه في السر والعلن.
( كعبد الله بن السلام ) و( وأسد بن عبيد ) و( ثعلبة بن شعبة ) و( النجاشي ومن آمن معه من النصارى ) فهؤلاء قد آمنوا بكل ما يجب الإيمان به ولم يفرقوا بين أنبياء الله ورسله فمدحهم الله على ذلك وأثنى عليهم.
روى عن قتادة أنه كان يقول في الآية ( ليس كل القوم هلك قد كان لهم لله فيهم بقية ) وروى عن ابن عباس انه قال في الأمة القائمة ( أمة مهتدية قائمة على أمر الله لم تنزع عنه وتتركه كما تركه الآخرون وضيعوه ) ٥٤.
قال الإمام محمد عبده : هذه الآية من العدل الإلهي في بيان حقيقة الواقع وإزالة الإبهام السابق وهي دليل على ان دين الله واحد على ألسنة جميع الانبياء وان كل من أخذه بإذعان وعمل فيه بإخلاص فأمر بالمعروف ونهى عن المنكر فهو من الصالحين٥٥.
﴿ من أهل الكتاب امة قائمة ﴾
أي مستقيمة عادلة من قولك : أقمت العود فقام بمعنى استقام.
واختار ذلك الزمخشري في الكشاف.
ورجع بعض المفسرين أن معناها موجودة ثابتة على التمسك بالدين الحق ملازمة له غير مضطربة في التمسك به.
كما قال في قوله :﴿ إلا ما دامت عليه قائما ﴾
أي ملازما لمطالبته بحقك.
ومنه قوله تعالى :﴿ شهد الله " أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولوا العلم قائما بالقسط ﴾ أي ملازما له٥٦.
وفي ذلك تعرض بالمنحرفين عن الحق بأنهم لا يعدون من أهل الوجود وإنما حكمهم حكم العدم وفي مثلهم قال الشاعر :
خلقوا وما خلقوا لمكرمة | فكأنهم خلقوا وما خلقوا |
رزقوا وما رزقوا سماح يد | فكأنهم رزقوا وما رزقوا |
والمعنى الإجمالي للآية : ليس أهل الكتاب متساويين في الاتصاف بما ذكر من القبائح بل منهم قوم سلموا منها وهم الذين استقاموا على الحق ولزموه وأكثروا من تلاوة آيات الله في صلاتهم التي يتقربون بها إلى الله آناء الليل وأطراف النهار.
وآناء الليل أي أوقاته وساعاته والمراد بها صلاة العشاء أو الصلاة بين المغرب والعشاء أو الصلاة في منتصف الليل وهو الوقت الذي غارت فيه النجوم ونامت العيون وبقي الله الواحد القيوم.
قال الطبري في تفسير الآية وهذه الأقوال التي ذكرتها على اختلافها متقاربة المعاني وذلك ان الله تعالى ذكره وصف هؤلاء القوم بأنهم يتلون آيات الله في ساعات الليل وفي آناؤه وقد يكون تاليها في صلاة العشاء تاليها لها آناء الليل وكذلك من تلاها فيما بين المغرب والعشاء ومن تلاها جوف الليل فكل تال له ساعات الليل غير أن أولي الأقوال بتأويل الآية قول من قال : عنى بذلك تلاوة القرآن في صلاة العشاء لأنها صلاة لا يصليها احد من اهل الكتاب٥٧.
وقد نقل الفخر الرازي في هذه الآية قولين :
( الأول ) : أن المراد بهذه الأمة القائمة عبد الله بن سلام وأصحابه من المسلمين.
( الثاني ) : كل من أوتي الكتاب من أهل الأديان أي يتلون ما عندهم من مناجاة الله ودعائه والثناء عليه عز وجل وهي كثيرة في كتبهم وقد رجح الرأي الثاني الشيخ محمد عبده وتلميذه رشيد رضا في تفسير المنار.
ونقل صاحب المنار نقلا من زبور ( مزامير ) داود عليه السلام :
كقوله في المزمور السادس والثلاثين ( ٥- يا رب في السموات رحمتك أمانتك إلى الغمام ٦- عدلك مثل جبال الله وأحكامه لجة عظيمة ٧- ما أكرم رحمتك يا الله فبنو البشر في ظل جناحيك يحتمون ٨- يروون من دسم بيتك ومن نهر نعمتك تسقيهم ٩- لأن عندك ينبوع الحياة بنورك نرى نورا ١٠- أدم رحمتك للذين يعرفونك وعدك لمستقيمي القلب ).
وقوله في المزمور الخامس والعشرين ( ١- إليك يا رب ارفع نفسي ٢- يا إلهي عليك توكلت فلا تدعني أخزي لا تشمت بي أعدائي ٣- أيضا كل منتظريك لا يخزون ليخز الغادرون بلا سبب ٤- طرقك يا رب عرفني سبلك علمني ٥- دربني في حقك علمني لأنك أنت إله خلاصي.. ).
وأمثال هذه الأدعية والمناجاة كثيرة جدا وإذا رآها العربي البليغ غريبة الأسلوب فليذكر أنها ترجمة ضعيفة وان قراءتها بلغة اهل الكتاب اشد تأثير في النفس من قراءتها وترجمتها هذه٥٨.
أما السجود الذي أسنده إليهم فهو إما عبارة عن صلاتهم وإما استعمال له بمعناه اللغوي وهو التطامن والتذلل كما في قوله تعالى في خطاب مريم : واسجدي واركعي مع الراكعين ( آفل عمران ٤٣ ).
المفردات :
ويسارعون في الخيرات : يبادرون إليها ويتنافسون فيها.
التفسير :
تستمر هذه الآية في رسم صورة وضيئة لمن آمن من اهل الكتاب.
فقد آمنوا إيمانا عميقا بالله واليوم الآخر وعملوا بمقتضى هذا الإيمان فأمروا بالمعروف وأرشدوا الناس إلى الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم ونهوا عن المنكر وحذروهم من الكفر وسارعوا إلى فعل الخيرات منتقلين في كل أعمالهم من خير إلى خير وهو بسبب إيمانهم وأفعالهم الحميدة قد خرجوا من صفوف المذمومين إلى صفوف الممدوحين.
قال الفخر الرازي : واعلم أن وصفهم بالصلاح في غاية المدح ويدل عليه القرآن والمعقول.
أما القرآن فهو ان الله تعالى مدح بهذا الوصف أكابر الأنبياء بعد ان ذكروا إدريس وإسماعيل وذي الكفل وغيرهم :{ وأدخلناهم في رحمتنا إنهم من الصالحين ( الانبياء ٨٦ ).
وذكر حكاية عن سليمان أنه قال :﴿ وأدخلني برحمتك في عبادك الصالحين ﴾ ( النمل ١٩ ).
وأما المعقول فهو ان الصلاح ضد الفساد وكل ما لا ينبغي أن يكون فهو فساد سواء كان ذلك في العقائد أو الأعمال فإذا كان الصلاح معناه الأمثل والأفضل كان الصلاح دالا على أكمل الدرجات٥٩.
من تفسير الطبري :
﴿ يؤمنون بالله واليوم الآخر ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويسارعون في الخيرات وأولئك من الصالحين ﴾
يعني بقوله عز وجل :﴿ يؤمنون بالله واليوم الآخر ﴾ ويصدقون بالله والبعث بعد الممات ويعلمون ان الله مجازيهم بأعمالهم وليسوا كالمشركين الذين يجحدون وحدانية الله ويعبدون معه غيره ويكذبون بالبعث بعد الممات وينكرون المجازاة على الأعمال والثواب والعقاب وقوله : ويأمرون بالمعروف : أي يأمرون الناس بالإيمان بالله وتصديق محمد صلى الله عليه وسلم وما جاءهم به وينهون عن المنكر أي وينهون الناس عن الكفر بالله وتكذيب محمد وما جاءهم به من عند الله يعني بذلك أنهم ليسوا كاليهود والنصارى الذين يأمرون الناس بالكفر وتكذيب محمد فيما آتاهم به من عند الله ﴿ ويسارعون في الخيرات ﴾ أي يبتدرون فعل الخيرات لان من كان منهم فاسقا باء بغضب من الله لكفره بالله وآياته وعصيانه بربه واعتدائه في حدوده٦٠.
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر :
سياج الأمم وأساس رفعتها وتفوقها وقانون بقائها التناصح والتواصي بالحق والصبر وقد مدح الله أمة الإسلام بأنها خير امة إذا حافظت على هذه الأصول الثلاثة : الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والإيمان بالله ومدح طائفة من أهل الكتاب بثباتهم على الحق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وقد استحق بنو إسرائيل اللعنة من اجل ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
أخرج أبو داود في سننه عن عبد الله بن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن أول ما دخل النقص على بني إسرائيل أنه كان الرجل يلقى الرجل فيقول له : يا هذا اتق الله ودع ما تصنع فإنه لا يحل لك ثم يلقاه من الغد على حالة فلا يمنعه ذلك أن يكون أكليه وشريبه وقعيده فلما فعلوا ذلك ضرب الله على قلوب بعضهم ببعض ثم قال صلى الله عليه وسلم ﴿ لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داوود وعيسى ابن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون ﴾ ( المائدة ٧٨-٧٩ ). ثم قال : كلا والله : لتأمرن ولتنهن عن المنكر ولتأخذن على يد الظالم ولتأطرنه على الحق أطرا – أي ولتحملنه على اتباع الحق حملا- أو ليضربن الله بقلوب بعضكم على بعض ثم ليلعنكم كما لعنهم٦١.
المفردات :
فلن يكفروه : فلن يحرموا ثوابه وحسن الجزاء عليه والأصل في الكفر الستر أي : لن يحجب عنهم ذلك الأجر
التفسير :
أي : ما يقدمونه من أفعال الخير لن يضيع عند الله ثوابه ولا ينقص جزاؤه وإنما سيجازيهم الله عليه بما هم اهل له من ثواب جزيل وأجر كبير بدون أي نقصان أو حرمان.
والله عليم بالمتقين. أي لا يخفى عليه عمل الأتقياء ولا يذهب لديه اجر من أحسن عملا.
( فأنت ترى أن هذه الآيات الكريمة قد أنصفت المؤمنين الصادقين من أهل الكتاب ووصفتهم بجملة من الصفات الطيبة وصفتهم بأنهم طائفة ثابتة على الحق وأنهم يتلون آيات الله آناء الليل وأطراف النهار وأنهم مكثرون من التضرع إلى الله في صلواتهم وسجودهم وأنهم يؤمنون بالله واليوم الآخر وأنهم يأمرون بالمعروف وأنهم ينهون عن المنكر وأنهم يسارعون في الخيرات وأنهم من الصالحين.
ثم بشرهم سبحانه بحسن الجزاء لان الله عليم بأحوال عباده ولن يضيع أجر من أحسن عملا ) ٦٣.
التفسير :
﴿ إن الذين كفروا لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئا وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون ﴾
اختلف المفسرون في المراد بالذين كفروا فقيل هم بنو قريظة والنظير من اليهود وقيل هم مشركو قريش عامة وقيل هم أبو سفيان ورهطه خاصة وقيل إن كلام في الكفار عامة لعموم اللفظ فهم على إطلاقه ويدخل فيه اليهود وكذا مشركو مكة دخولا أوليا قالوا : إنهم كلهم كانوا يعتزون بكثرة الأموال ويعيرون النبي صلى الله عليه وسلم وأتباعه بالفقر ويقولون لو كان محمد على الحق ما تركه ربه في هذا الفقر وقيل : هم المنافقون٦٤.
والمعنى :
إن الذين كفروا بما يجب الإيمان به واغتروا بأموالهم وأولادهم في الدنيا لن تدفع عنهم أموالهم ولا أولادهم شيئا ولو يسيرا من عذاب الله الذي سيحيق بهم يوم القيامة بسبب كفرهم وجحودهم.
وليس المراد : خصوص الأموال والأولاد بل كل ما يعتبروه الإنسان في الغالب يدفع عن نفسه بالفداء بالمال أو الاستعانة بالأولاد.
وقد حكى القرآن غرور المترفين بالأموال والأولاد فقال سبحانه { وما أرسلنا في قرية من نذير إلا قال مترفوها إنا بما أرسلتم به كافرون وقالوا نحن أكثر أموالا وأولادا وما نحن بمعذبين ( سبأ ٣٤-٣٥ ). فاخبرهم الله تعالى لان الكافر لا ينفعه شيء من ذلك في الآخرة ولا مخلص له من العذاب ولا محيصا عنه.
وأولئك المتصفون بالكفر أ صحاب النار أهلها الملازمون لها هم فيها خالدون لا يبرحونها أبدا.
قال تعالى :﴿ والذين كفروا لهم نار جهنم لا يقضى عليهم فيموتوا ولا يخفف عنهم من عذابها كذلك نجزي كل كفور ﴾( فاطر ٣٦ ).
وقال سبحانه :﴿ وما هم بخارجين منها ولهم عذاب مقيم ﴾ ( المائدة ٣٧ ).
المفردات :
حرث قوم : زرعهم.
صر : برد شديد.
التفسير :
قال أكثر المفسرين : الصر : البرد الشديد.
وفي الصحاح : الصر بالكسر برد يضر بالنبات والحرث.
وقيل الصر : السموم الحارة وعن ابن عباس فيها صر أي نار وعلى القولين الغرض من التشبيه حاصل سواء كان بردا مهلكا أو حرا محرقا٦٥.
وقوله تعالى :﴿ إن الذين كفروا لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئا ﴾.. ﴿ شيئا ﴾ منصوب على أنه مفعول أي لن تغني عنهم أموالهم ولا أوالدهم شيئا من الإفناء والدفع وتنكير شيئا للتقليل.
وفي تفسير ابن كثير " صر " أي برد شديد وقال عطاء برد وجليد أو فيها صر أي نار وهو يرجع إلى القول الأول فإن البرد الشديد ولاسيما الجليد يحرق الزرع والثمار كما يحرق الشيء بالنار.
وترسم الآية مشهدا حسيا ينبض بالحركة يصور ضياع أعمال الكافرين وذهاب ما ينفقون في حياتهم الدنيا من أموال.
قال النيسابوري : والظاهر ان الضمير في ينفقون عائد إلى جميع الكفار وذلك أن إنفاقهم إما ان يكون لمنافع الدنيا فلا يبقى له أثر في الآخرة في حق المسلم فضلا عن الكافر وإما ان يكون لمنافع الآخرة فالكفر مانع عن الانتفاع به ولعلهم كانوا ينفقون في الخيرات كالإحسان إلى الضعفاء والأرامل راجين خيرا كثيرا في المعاد لكنهم إذا قدموا الآخرة رأوا كفرهم مبطلا لآثار تلك الخيرات فكان كمن زرع زرعا وتوقع منه نفعا كبيرا فأصابته جائحة فلا يبقى معه إلا الحزن والأسف.
ولعلهم كانوا ينفقون فيما ظنوه خيرا وهو معصية كإنفاق الأموال في إيذاء الرسول صلى الله عليه وسلم وفي تخريب ديار المسلمين.
ولا يبعد أيضا تفسير الآية بخيبتهم في الدنيا فإنهم أنفقوا أموالا كثيرة في تجهيز الجيوش والإغارة على المسلمين وتحملوا المتاعب ثم انقلب الامر عليهم واظهر الله الإسلام وأعز أهله فلم يبق مع الكفار من ذلك الإنفاق إلا الحيرة والحسرة وقيل المراد بالإنفاق ههنا هو جميع أعمالهم التي يرجون الانتفاع بها في الآخرة٦٦.
وجاء في ظلال القرآن :
( وتنظر فإذا نحن أمام حقل تهيأ للإخصاب ثم إذا العاصفة تهب إنها عاصفة باردة ثلجية تحرق هذا الحرث بما فيها من صر واللفظة ذاتها كأنما هي مقذوف يلقى بعنف فيصور معناه بجرسه النفاذ وإذا الحرث كله مدمر خرب.
إنها لحظة تم فيها كل شيء تم فيها الدمار والهلاك وإذا الحرث كله يباب... ذلك مثل ما ينفق الذين كفروا في هذه الدنيا ومثل ما بأيديهم من نعم الأموال والأولاد.. كله إلى هلاك وفناء دون متعة حقة ودون ما جزاء٦٧.
وقوله تعالى :﴿ أصابت حرث قوم ظلموا أنفسهم فأهلكته ﴾ أي أصابت زرع قوم ظلموا أنفسهم بالكفر وارتكاب المعاصي فدمرته وأهلكت ما فيه من ثمار وهم أحوج ما يكونون إلى هذا الزرع وتلك الثمار.
وما ظلمهم الله. بإحباط الأجر وذهاب الثواب على ما أنفقوا ولكن أنفسهم يظلمون ولكنهم هم الذين ظلموا أنفسهم بإيثارهم الكفر على الإيمان أو بترك النظر في الآيات البينات بعدما ظهرت لهم او بالجحود بعد النظر ونهوض الحجة٦٨.
المفردات :
بطانة : بطانة الرجل خاصته وموضع سره مأخوذ من بطانة الثوب. من دونكم من غير ملتكم
لا يألونكم خبالا : لا يقصرون ولا يدخرون في إنزال الخبال بكم والخبال الشر والفساد.
البغضاء : الحقد والكراهية.
التفسير :
١١٨- ﴿ يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالا ﴾.
أي : لا تتخذوا من غير المسلمين أصفياء : تجعلونهم مواضع سركم ومشورتكم لأنهم لا يدخرون وسعا في إلحاق الشر والفساد بكم.
ودوا ما عنتم أي : أحبوا ان يقع بكم ما يشق عليكم من أنواع المحن والبلاء في شئون دينكم ودنياكم.
قد بدت البغضاء من أفواههم أي : قد ظهرت الكراهية من أفواههم على فلتات ألسنتهم وما تخفي في صدورهم أكبر وما تنطوي عليه صدورهم من الحقد والكراهية لكم أكبر مما ظهر على أفواههم.
قد أوضحنا لكم الآيات الدالة على تشديد بغضهم لكم فلا توالوهم إن كنتم من ذوي العقول الواعية فإن مقتضى العقل السليم : ألا يتخذ الإنسان أحدا من غير ملته صفيا له ومحل ثقة.
وفي هذا البيان ما يقطع عذرهم إذا ما خالفوا عن أمر ربهم واتخذوا أولياءهم من أعدائهم.
المفردات :
بذات الصدور : بما انطوت عليه القلوب من الأسرار فإنه سبحانه يعلم السر وأخفى.
التفسير :
لما نهى الله المؤمنين عن موالاة الكافرين وبين انهم يبغضونهم ولا يدخرون وسعا في خبالهم عقب ذلك بما يؤكد وجوب الانتهاء عن موالاتهم فقال :
﴿ ها انتم أولاء تحبونهم ولا يحبونكم وتؤمنون بالكتاب كله ﴾.
أي : أنكم تخلصون لهم وتودونهم وترجون لهم بالخير ولكنهم لا يحبونكم ولا يرغبون إلا في خباكم وفسادكم ثم إنكم إلى جانب حبكم لهم تؤمنون بكل ما أنزل من الكتب السماوية وبالرسل الذين أنزلت عليهم.
وإذا لقوكم قالوا آمنا. نفاقا لكم وخداعا حتى تستبطنوهم وتخبروهم بأسراركم فيستغلون مودتكم فيما ينفعهم وفيما يجلب الخبال فيكم.
﴿ وإذ خلوا عضوا عليكم الأنامل من الغيظ ﴾ :
أي : إذا فارقوكم وخلصوا إلى أنفسهم عضوا أناملهم من الغيظ حسرة وأسفا حيث لم يجدوا على التشفي والنيل منكم سبيلا.
وعض الأنامل في الآية كناية عن شدة الغيظ
﴿ قل موتوا بغيظكم ﴾.
أي : قل لهم يا محمد : موتوا بغيظكم من بقائنا على الإسلام فإن الله متم نعمته ومكمل دينه ومعل كلمته ولو كره الكافرون.
﴿ إن الله عليم بذات الصدور ﴾ فيعلم ما تنطوي عليه ضمائرهم وتكنه سرائرهم من البغضاء والحسد. ويكفي المسلمين شره ويجازيكم عليه.
المعنى : إن نالكم خير- ولو كان قليلا - أحزنهم وإن نزلت بكم مصيبة فادحة يفرحوا بها ويشمتوا بكم.
وإن تصبروا. على عداوتهم وكيدهم وتتقوا الله في كل أموركم : بفعل الواجبات وترك المنهيات ومن ذلك ترك محبتهم وإطلاعهم على أسراركم.
ولا يضركم كيدهم شيئا. أي لا ينال منكم مكرهم وحيلهم التي يدبرونها لكم شيئا قليلا من الضرر بحفظ الله الذي وعد به ما دمتم تتقون الله وتخشون عقابه.
إن الله بما يعلمون. من الكيد لكم ومحاولة إلحاق الأذى بكم.
محيط. لا يعزب عنه من ذلك شيء.
ومقتضى علمه تعالى بما يعلمون : ان يحاسبهم ويجازيهم عليه.
وقرئ بتاء الخطاب. تعلمون. والخطاب للمؤمنين
والمعنى : إن الله محيط بما تعملونه أيها المؤمنون من الصبر والتقوى وسائر الطاعات والإذعان لما نهاكم عنه من مودة من ليس على دينكم وإطلاعهم على أسراركم.
وفيه إشارة إلى ان الامتثال مدعاة للغلب والفوز والانتصار وأن المخالفة عن أوامر الله سبيل الندامة والهلاك٦٩.
١٢٠ أية :
نلحظ أن سورة آل عمران تحدثت عن وحدانية الله وجلاله وعن مظاهر قدرته ورحمته، وعن جوانب من قصة آل عمران وعن الشبهات التي ساقها اليهود وألوان الحرب النفسية وساقت للمؤمنين من التوجيهات والعظات ما يهدي قلوبهم ويصلح بالهم ويكفل لهم النصر على أعدائهم من خلال ١٢٠ آية من بداية السورة.
٦٠ آية :
ثم تحدثت سورة آل عمران عن جوانب متعددة من غزوة احد في حوالي ٢٠ آية من الآية ١٢١ إلى الآية ١٨٠.
قصة غزوة احد
كانت غزوة بدر من الغزوات المشهورة في تاريخ الدعوة الإسلامية فقد انتصر أتباعها انتصارا مؤزرا على كفار قريش.. وصمم المشركون على ان يأخذوا بثأرهم من المسلمين فجمعوا جموعهم وخرجوا في جيش كبير ومعهم بعض نسائهم حتى يكون ذلك أبلغ في استماتة الرجال في القتال...
ووصل مشركو قريش ومعهم حلفاؤهم إلى أطراف المدينة في أوائل شوال من السنة الثالثة وكان عددهم يربو على ثلاثة آلاف رجل.
واستشار النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه في شأن هؤلاء المشركين الزاحفين إلى المدينة. فكان من رأي بعضهم – ومعظمهم من الشباب – الخروج لملاقاة المشركين خارج المدينة.
وكان من رأي فريق آخر من الصحابة استدراج المشركين إلى أزقة المدينة ومقاتلتهم بداخلها وكان النبي صلى الله عليه وسلم يميل إلى رأي الفريق الأول الذي يرى أصحابه الخروج لملاقاة المشركين خارج المدينة نظرا لكثرة عدد القائلين بذلك.
ثم دخل النبي صلى الله عليه وسلم بيته ثم خرج منه لبس آلة حربه. وشعر بعض المسلمين أنهم قد استكرهوا النبي صلى الله عليه وسلم على القتال فاظهروا له الرغبة في النزول على رأيه إلا انه لم يستجب لهم وقال كلمته التي تعلم الناس الحزم وعدم التردد :" ما ينبغي لنبي لبس لأمته ان يضعها حتى يحكم الله بينه وبين عدوه لقد دعوتكم إلى هذا الحديث فأبيتم إلا الخروج فعليكم بتقوى الله والصبر عند البأس وانظروا ما أمركم الله به فافعلوه.. " ٧٠.
ثم خرج النبي صلى الله عليه وسلم في ألف مقاتل من المسلمين حتى نزل قريبا من جبل " أحد " إلا أن " عبد الله بن أبي سلول " انسحب في الطريق بثلث الناس محتجا بأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأخذ برأيه بل أخذ برأي غيره.
وعسكر المسلمون بالشعب من أحد جاعلين ظهركم إلى الجبل ورسم النبي صلى الله عليه وسلم الخطة لكسب المعركة فجاءت خطة محكمة رائعة فقد وزع الرماة على أماكنهم وكانوا خمسين راميا وقال لهم انضحوا الخيل عنا بالنبل لا يأتوها من خلفنا إن كانت لنا او علينا فألزموا أماكنهم لا نؤتين من قبلكم ".
وفي رواية انه صلى الله عليه وسلم قال لهم :" احموا ظهورنا وإن رأيتمونا نقتل فلا تنصرونا وإن رأيتمونا نغنم فلا تشركونا " ٧١.
وأخيرا التقى الجمعان وأذن النبي صلى الله عليه وسلم لأتباعه أن يجادلوا أعدائهم وأظهر المسلمون أسمى صور البطولة والإقدام وكان شعائرهم في هذا الالتحام " أمت أمت ".
وما هي إلا جولات في أوائل المعركة حتى ولي المشركون المسلمون الأدبار ولم يغن عن المشركين شيئا ما كانت تقوم به نسوتهم من تحريض واستنهاض للعزائم.
قال ابن إسحاق : ثم أنزل الله تعالى نصره وصدق وعده فحثوهم بالسيوف حتى كشفوهم عن المعسكر وكانت الهزيمة لا شك فيها.
ورأى الرماة الهزيمة وهي تحل بقريش فتطلعت نفوسهم إلى الغنائم وحاول أميرهم " عبد الله بن جبير " أن يمنعهم عن ترك أماكنهم عملا بوصية رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أن معظمهم تركوا أماكنهم ونزلوا إلى ساحة المعركة ليشاركوا في جمع الغنائم والأسلاب...
وأدرك خالد ابن الوليد وكان مشركا أن ظهور المسلمين قد انكشفت بترك الرماة لأماكنهم فاهتبل الفرصة على عجل واستدار بمن معه من خيل المشركين خلف المسلمين فأحدق بهم واخذ في مهاجمتهم من مكان ما كانوا ليظنوا انهم سيهاجمون منه فقد كانوا يعتمدون على الرماة في حماية ظهورهم..
وعاد المشركون المنهزمون إلى مقاتلة المسلمين بعد ان رأوا ما فعله " خالد " ومن معه.
واضطربت صفوف المسلمين للتحول المفاجئ الذي حدث لهم إلا أن فريقا منهم اخذ يقاتل ببسالة وصبر.. واستشهد عدد كبير منهم وهم يحاولون شق طريقهم..
وأصيب النبي صلى الله عليه وسلم خلال ذلك بجروح بالغة وأشيع أنه قد قتل إلا انه صلى الله عليه وسلم جعل يصيح بالمسلمين إلي عباد الله إلى عباد الله.. فاجتمع إليه نحو ثلاثين رجلا ودافعوا عنه دفاع الأبطال المخلصين..
ومرت على المسلمين ساعة من احرج الساعات في تاريخ الدعوة الإسلامية فقد كان المشركون يهاجمون النبي صلى الله عليه وسلم بعناد وحقد وكان المسلمون مستميتين في الدفاع عن رسولهم وعن أنفسهم.
وكان لهذه الاستماتة آ ثار في تراجع المشركين وقد ظنوا أنهم قد أخذوا بثأرهم من المسلمين...
وخشي النبي صلى الله عليه وسلم أن يكون تراجع المشركين من أجل مهاجمة المدينة فقال لعل علي ابن أبي طالب اخرج في آثار القوم فانظر ماذا يصنعون فإذا هم جنبوا الخيل وامتطوا الإبل فإنهم يريدون مكة وإن ركبوا الخيل وساقوا الإبل فهم يريدون المدينة فوالذي نفسي بيده لئن أرادوها لأسرين إليهم ثم لأناجزنهم فيها.
قال علي : فخرجت في آثارهم فرايتهم جنبوا الخيل وامتطوا الإبل واتجهوا إلى مكة.
وعندما انصرف أبو سفيان نادى : إن موعدكم بدر العام المقبل فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لرجل من أصحابه قل له : نعم بيننا وبينك موعد.
وانتهت غزوة أحد باستشهاد حوالي سبعين صحابيا من بينهم حمزة بن عبد المطلب ومصعب بن عمير. وسعد بن الربيع.... وغيرهم من الأبطال الذين صدقو ما عاهدوا الله عليه
المفردات :
غدوت : أصل الغدو الذهاب أول النهار ثم استعمل في مطلق الخروج.
تبوئ المؤمنين مقاعد للقتال : تنزلهم الأماكن المناسبة للقتال
التفسير :
١٢١- ﴿ وإذ غدوت من أهلك تبوئ المؤمنين مقاعد للقتال والله سميع عليم ﴾
واذكر لهم يا محمد ليعتبروا ويتعضوا وقت خروجك مبكرا من حجرة زوجك عائشة إلى عزوة أحد.
﴿ تبوئ المؤمنين مقاعد للقتال ﴾ أي : تنزلهم وتسوئ لهم بالتنظيم والترتيب مواطن وأماكن للقتال بحيث يكونون في أحسن حال وأكمل استعداد لملاقاة أعدائهم.
وتشير الآية إلى ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم مع أصحابه قبل ان تبدأ المعركة فقد اهتم بتنظيم صفوفهم وبرسم الخطة الحكيمة التي تكفل لهم النصر.
فجعل للجيش ميمنة وميسرة وجعل الرماة على ظهر الجبل وأمر الجيش كله ألا يتحرك للقتال إلا عندما يأذن له بذلك.
﴿ والله سميع عليم ﴾ أي سميع لما تقولون عليم بضمائركم وأعمالكم فيجازي كل إنسان على حسب قوله ونيته وعمله والمقصود من هذه الجملة غرس الرهبة في قلوب المؤمنين حتى لا يعودوا إلى مثل ما حدث من بعضهم في غزوة أحد حيث خالفوا وصية رسول الله صلى اله عليه وسلم.
نلحظ أن سورة آل عمران تحدثت عن وحدانية الله وجلاله وعن مظاهر قدرته ورحمته، وعن جوانب من قصة آل عمران وعن الشبهات التي ساقها اليهود وألوان الحرب النفسية وساقت للمؤمنين من التوجيهات والعظات ما يهدي قلوبهم ويصلح بالهم ويكفل لهم النصر على أعدائهم من خلال ١٢٠ آية من بداية السورة.
٦٠ آية :
ثم تحدثت سورة آل عمران عن جوانب متعددة من غزوة احد في حوالي ٢٠ آية من الآية ١٢١ إلى الآية ١٨٠.
قصة غزوة احد
كانت غزوة بدر من الغزوات المشهورة في تاريخ الدعوة الإسلامية فقد انتصر أتباعها انتصارا مؤزرا على كفار قريش.. وصمم المشركون على ان يأخذوا بثأرهم من المسلمين فجمعوا جموعهم وخرجوا في جيش كبير ومعهم بعض نسائهم حتى يكون ذلك أبلغ في استماتة الرجال في القتال...
ووصل مشركو قريش ومعهم حلفاؤهم إلى أطراف المدينة في أوائل شوال من السنة الثالثة وكان عددهم يربو على ثلاثة آلاف رجل.
واستشار النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه في شأن هؤلاء المشركين الزاحفين إلى المدينة. فكان من رأي بعضهم – ومعظمهم من الشباب – الخروج لملاقاة المشركين خارج المدينة.
وكان من رأي فريق آخر من الصحابة استدراج المشركين إلى أزقة المدينة ومقاتلتهم بداخلها وكان النبي صلى الله عليه وسلم يميل إلى رأي الفريق الأول الذي يرى أصحابه الخروج لملاقاة المشركين خارج المدينة نظرا لكثرة عدد القائلين بذلك.
ثم دخل النبي صلى الله عليه وسلم بيته ثم خرج منه لبس آلة حربه. وشعر بعض المسلمين أنهم قد استكرهوا النبي صلى الله عليه وسلم على القتال فاظهروا له الرغبة في النزول على رأيه إلا انه لم يستجب لهم وقال كلمته التي تعلم الناس الحزم وعدم التردد :" ما ينبغي لنبي لبس لأمته ان يضعها حتى يحكم الله بينه وبين عدوه لقد دعوتكم إلى هذا الحديث فأبيتم إلا الخروج فعليكم بتقوى الله والصبر عند البأس وانظروا ما أمركم الله به فافعلوه.. " ٧٠.
ثم خرج النبي صلى الله عليه وسلم في ألف مقاتل من المسلمين حتى نزل قريبا من جبل " أحد " إلا أن " عبد الله بن أبي سلول " انسحب في الطريق بثلث الناس محتجا بأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأخذ برأيه بل أخذ برأي غيره.
وعسكر المسلمون بالشعب من أحد جاعلين ظهركم إلى الجبل ورسم النبي صلى الله عليه وسلم الخطة لكسب المعركة فجاءت خطة محكمة رائعة فقد وزع الرماة على أماكنهم وكانوا خمسين راميا وقال لهم انضحوا الخيل عنا بالنبل لا يأتوها من خلفنا إن كانت لنا او علينا فألزموا أماكنهم لا نؤتين من قبلكم ".
وفي رواية انه صلى الله عليه وسلم قال لهم :" احموا ظهورنا وإن رأيتمونا نقتل فلا تنصرونا وإن رأيتمونا نغنم فلا تشركونا " ٧١.
وأخيرا التقى الجمعان وأذن النبي صلى الله عليه وسلم لأتباعه أن يجادلوا أعدائهم وأظهر المسلمون أسمى صور البطولة والإقدام وكان شعائرهم في هذا الالتحام " أمت أمت ".
وما هي إلا جولات في أوائل المعركة حتى ولي المشركون المسلمون الأدبار ولم يغن عن المشركين شيئا ما كانت تقوم به نسوتهم من تحريض واستنهاض للعزائم.
قال ابن إسحاق : ثم أنزل الله تعالى نصره وصدق وعده فحثوهم بالسيوف حتى كشفوهم عن المعسكر وكانت الهزيمة لا شك فيها.
ورأى الرماة الهزيمة وهي تحل بقريش فتطلعت نفوسهم إلى الغنائم وحاول أميرهم " عبد الله بن جبير " أن يمنعهم عن ترك أماكنهم عملا بوصية رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أن معظمهم تركوا أماكنهم ونزلوا إلى ساحة المعركة ليشاركوا في جمع الغنائم والأسلاب...
وأدرك خالد ابن الوليد وكان مشركا أن ظهور المسلمين قد انكشفت بترك الرماة لأماكنهم فاهتبل الفرصة على عجل واستدار بمن معه من خيل المشركين خلف المسلمين فأحدق بهم واخذ في مهاجمتهم من مكان ما كانوا ليظنوا انهم سيهاجمون منه فقد كانوا يعتمدون على الرماة في حماية ظهورهم..
وعاد المشركون المنهزمون إلى مقاتلة المسلمين بعد ان رأوا ما فعله " خالد " ومن معه.
واضطربت صفوف المسلمين للتحول المفاجئ الذي حدث لهم إلا أن فريقا منهم اخذ يقاتل ببسالة وصبر.. واستشهد عدد كبير منهم وهم يحاولون شق طريقهم..
وأصيب النبي صلى الله عليه وسلم خلال ذلك بجروح بالغة وأشيع أنه قد قتل إلا انه صلى الله عليه وسلم جعل يصيح بالمسلمين إلي عباد الله إلى عباد الله.. فاجتمع إليه نحو ثلاثين رجلا ودافعوا عنه دفاع الأبطال المخلصين..
ومرت على المسلمين ساعة من احرج الساعات في تاريخ الدعوة الإسلامية فقد كان المشركون يهاجمون النبي صلى الله عليه وسلم بعناد وحقد وكان المسلمون مستميتين في الدفاع عن رسولهم وعن أنفسهم.
وكان لهذه الاستماتة آ ثار في تراجع المشركين وقد ظنوا أنهم قد أخذوا بثأرهم من المسلمين...
وخشي النبي صلى الله عليه وسلم أن يكون تراجع المشركين من أجل مهاجمة المدينة فقال لعل علي ابن أبي طالب اخرج في آثار القوم فانظر ماذا يصنعون فإذا هم جنبوا الخيل وامتطوا الإبل فإنهم يريدون مكة وإن ركبوا الخيل وساقوا الإبل فهم يريدون المدينة فوالذي نفسي بيده لئن أرادوها لأسرين إليهم ثم لأناجزنهم فيها.
قال علي : فخرجت في آثارهم فرايتهم جنبوا الخيل وامتطوا الإبل واتجهوا إلى مكة.
وعندما انصرف أبو سفيان نادى : إن موعدكم بدر العام المقبل فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لرجل من أصحابه قل له : نعم بيننا وبينك موعد.
وانتهت غزوة أحد باستشهاد حوالي سبعين صحابيا من بينهم حمزة بن عبد المطلب ومصعب بن عمير. وسعد بن الربيع.... وغيرهم من الأبطال الذين صدقو ما عاهدوا الله عليه
١٢٢- ﴿ إذ همت طائفتان منكم ان تفشلا والله وليهما وعلى الله فليتوكل المؤمنون ﴾.
المفردات :
همت طائفتان منكم أن تفشلا : أشرفتا على الهزيمة.
التفسير :
( الهم ) : هو حديث النفس واتجاهها إلى شيء معين دون ان تأخذ في تنفيذه فإذا أخذت في تنفيذه صار إرادة وعزما وتصميما.
تفشلا : من الفشل وهو الجبن والخور والضعف يقال فشل يفشل فشلا فهو فشل أي جبان ضعيف القلب.
والمعنى : اذكر يا محمد حين همت طائفتان وهما بنو حارثة من الأوس وبنو سلمة من الخزرج ان تفشلا وتضعفا وتجبنا عن القتال وتتبعها عبد الله بن أبي سلول عندما انخذل بثلث الناس وقال يا قوم علام نقتل أنفسنا وأولادنا ؟ فعصمهم الله فمضوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم٧٢.
وعن ابن عباس قال : أضمروا ان يرجعوا فعزم الله لهم الرشد فثبتوا والظاهر أنها ما كانت إلا همة وحديث نفس كما لا تخلو النفس عند الشدة من بعض الهلع ثم يردها صاحبها إلى الثبات والصبر ويوطنها على احتمال المكروه.. ولو كانت عزيمة لما ثبتت معها ولاية الله٧٣.
﴿ وعلى الله فليتوكل المؤمنون ﴾
التوكل هو الاعتماد على الله تعالى بعد الأخذ بالأسباب فإذا لم يأخذ الإنسان في الأسباب كان توكلا لا توكلا.
أي وعلى الله وحده لا على غيره فليكل المؤمنون أمورهم بعد اتخاذ الأسباب التي أمرهم سبحانه باتخاذها فإنهم متى فعلوا ذلك تولاهم سبحانه بتأييده ورعايته.
إن حديث القرآن في سورة آل عمران عن غزوة احد استمر قرابة ستين آية ولم يسر القرآن في أحداث الغزوة حسب ترتيب خروجها وأحداثها بل حسب مشيئة الحق سبحانه في ان ينتزع منها العبرة والعظة ويصور الجو الذي صاحبها وبذلك تتحول الغزوة إلى نقطة ارتكاز لثروة ضخمة من المشاعر والسمات والنتائج والاستدلالات يبدأ السياق منها ثم يستطرد حولها ثم يعود إليها ثم يجول في أعماق الضمائر وفي أغوار الحياة ويكرر هذا مرة بعد مرة والقرآن بهذا يأسو جراح المؤمنين ويثبت إيمانهم ويشحذ عزائمهم ويتخلل ذلك تربية وتعليم وبيان لسنن الله ونواميسه وبهذا كان القرآن كتاب الحياة أنشأ أمة وأقام دولة وربى أجيالا وصنع ضمائر وحرك همها وعزائم { صنع الله الذي أتقن كل شيء ( النمل ٨٨ ).
نلحظ أن سورة آل عمران تحدثت عن وحدانية الله وجلاله وعن مظاهر قدرته ورحمته، وعن جوانب من قصة آل عمران وعن الشبهات التي ساقها اليهود وألوان الحرب النفسية وساقت للمؤمنين من التوجيهات والعظات ما يهدي قلوبهم ويصلح بالهم ويكفل لهم النصر على أعدائهم من خلال ١٢٠ آية من بداية السورة.
٦٠ آية :
ثم تحدثت سورة آل عمران عن جوانب متعددة من غزوة احد في حوالي ٢٠ آية من الآية ١٢١ إلى الآية ١٨٠.
قصة غزوة احد
كانت غزوة بدر من الغزوات المشهورة في تاريخ الدعوة الإسلامية فقد انتصر أتباعها انتصارا مؤزرا على كفار قريش.. وصمم المشركون على ان يأخذوا بثأرهم من المسلمين فجمعوا جموعهم وخرجوا في جيش كبير ومعهم بعض نسائهم حتى يكون ذلك أبلغ في استماتة الرجال في القتال...
ووصل مشركو قريش ومعهم حلفاؤهم إلى أطراف المدينة في أوائل شوال من السنة الثالثة وكان عددهم يربو على ثلاثة آلاف رجل.
واستشار النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه في شأن هؤلاء المشركين الزاحفين إلى المدينة. فكان من رأي بعضهم – ومعظمهم من الشباب – الخروج لملاقاة المشركين خارج المدينة.
وكان من رأي فريق آخر من الصحابة استدراج المشركين إلى أزقة المدينة ومقاتلتهم بداخلها وكان النبي صلى الله عليه وسلم يميل إلى رأي الفريق الأول الذي يرى أصحابه الخروج لملاقاة المشركين خارج المدينة نظرا لكثرة عدد القائلين بذلك.
ثم دخل النبي صلى الله عليه وسلم بيته ثم خرج منه لبس آلة حربه. وشعر بعض المسلمين أنهم قد استكرهوا النبي صلى الله عليه وسلم على القتال فاظهروا له الرغبة في النزول على رأيه إلا انه لم يستجب لهم وقال كلمته التي تعلم الناس الحزم وعدم التردد :" ما ينبغي لنبي لبس لأمته ان يضعها حتى يحكم الله بينه وبين عدوه لقد دعوتكم إلى هذا الحديث فأبيتم إلا الخروج فعليكم بتقوى الله والصبر عند البأس وانظروا ما أمركم الله به فافعلوه.. " ٧٠.
ثم خرج النبي صلى الله عليه وسلم في ألف مقاتل من المسلمين حتى نزل قريبا من جبل " أحد " إلا أن " عبد الله بن أبي سلول " انسحب في الطريق بثلث الناس محتجا بأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأخذ برأيه بل أخذ برأي غيره.
وعسكر المسلمون بالشعب من أحد جاعلين ظهركم إلى الجبل ورسم النبي صلى الله عليه وسلم الخطة لكسب المعركة فجاءت خطة محكمة رائعة فقد وزع الرماة على أماكنهم وكانوا خمسين راميا وقال لهم انضحوا الخيل عنا بالنبل لا يأتوها من خلفنا إن كانت لنا او علينا فألزموا أماكنهم لا نؤتين من قبلكم ".
وفي رواية انه صلى الله عليه وسلم قال لهم :" احموا ظهورنا وإن رأيتمونا نقتل فلا تنصرونا وإن رأيتمونا نغنم فلا تشركونا " ٧١.
وأخيرا التقى الجمعان وأذن النبي صلى الله عليه وسلم لأتباعه أن يجادلوا أعدائهم وأظهر المسلمون أسمى صور البطولة والإقدام وكان شعائرهم في هذا الالتحام " أمت أمت ".
وما هي إلا جولات في أوائل المعركة حتى ولي المشركون المسلمون الأدبار ولم يغن عن المشركين شيئا ما كانت تقوم به نسوتهم من تحريض واستنهاض للعزائم.
قال ابن إسحاق : ثم أنزل الله تعالى نصره وصدق وعده فحثوهم بالسيوف حتى كشفوهم عن المعسكر وكانت الهزيمة لا شك فيها.
ورأى الرماة الهزيمة وهي تحل بقريش فتطلعت نفوسهم إلى الغنائم وحاول أميرهم " عبد الله بن جبير " أن يمنعهم عن ترك أماكنهم عملا بوصية رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أن معظمهم تركوا أماكنهم ونزلوا إلى ساحة المعركة ليشاركوا في جمع الغنائم والأسلاب...
وأدرك خالد ابن الوليد وكان مشركا أن ظهور المسلمين قد انكشفت بترك الرماة لأماكنهم فاهتبل الفرصة على عجل واستدار بمن معه من خيل المشركين خلف المسلمين فأحدق بهم واخذ في مهاجمتهم من مكان ما كانوا ليظنوا انهم سيهاجمون منه فقد كانوا يعتمدون على الرماة في حماية ظهورهم..
وعاد المشركون المنهزمون إلى مقاتلة المسلمين بعد ان رأوا ما فعله " خالد " ومن معه.
واضطربت صفوف المسلمين للتحول المفاجئ الذي حدث لهم إلا أن فريقا منهم اخذ يقاتل ببسالة وصبر.. واستشهد عدد كبير منهم وهم يحاولون شق طريقهم..
وأصيب النبي صلى الله عليه وسلم خلال ذلك بجروح بالغة وأشيع أنه قد قتل إلا انه صلى الله عليه وسلم جعل يصيح بالمسلمين إلي عباد الله إلى عباد الله.. فاجتمع إليه نحو ثلاثين رجلا ودافعوا عنه دفاع الأبطال المخلصين..
ومرت على المسلمين ساعة من احرج الساعات في تاريخ الدعوة الإسلامية فقد كان المشركون يهاجمون النبي صلى الله عليه وسلم بعناد وحقد وكان المسلمون مستميتين في الدفاع عن رسولهم وعن أنفسهم.
وكان لهذه الاستماتة آ ثار في تراجع المشركين وقد ظنوا أنهم قد أخذوا بثأرهم من المسلمين...
وخشي النبي صلى الله عليه وسلم أن يكون تراجع المشركين من أجل مهاجمة المدينة فقال لعل علي ابن أبي طالب اخرج في آثار القوم فانظر ماذا يصنعون فإذا هم جنبوا الخيل وامتطوا الإبل فإنهم يريدون مكة وإن ركبوا الخيل وساقوا الإبل فهم يريدون المدينة فوالذي نفسي بيده لئن أرادوها لأسرين إليهم ثم لأناجزنهم فيها.
قال علي : فخرجت في آثارهم فرايتهم جنبوا الخيل وامتطوا الإبل واتجهوا إلى مكة.
وعندما انصرف أبو سفيان نادى : إن موعدكم بدر العام المقبل فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لرجل من أصحابه قل له : نعم بيننا وبينك موعد.
وانتهت غزوة أحد باستشهاد حوالي سبعين صحابيا من بينهم حمزة بن عبد المطلب ومصعب بن عمير. وسعد بن الربيع.... وغيرهم من الأبطال الذين صدقو ما عاهدوا الله عليه
١٢٣- ﴿ ولقد نصركم الله ببدر وانتم أذلة فاتقوا الله لعلكم تشكرون ﴾
المفردات :
ببدر : بدر اسم لمكان بين مكة والمدينة كانت به الغزوة المعروفة باسمه.
وانتم أذلة : قليلو العدد والعدة.
التفسير :
تشير الآية إلى معركة بدر وكانت يوم الجمعة ١٧ رمضان سنة ٢ ه وهو يوم الفرقان الذي اعز الله فيه الإسلام وأهله وأذل الشرك واهله هذا مع قلة عدد المسلمين يومئذ فإنهم كانوا ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلا فيهم فارسا وسبعون بعيرا والباقون مشاة ليس معهم من العدد جميع ما يحتاجون إليه وكان العدو يومئذ ما بين التسعمائة إلى الألف في سوابغ الحديد والعدة الكاملة والخيول المسومة ٧٤ فأعز الله رسوله وأظهر وحيه وتنزيله.
وقرية بدر لا تزال إلى الآن في الطريق بين مكة والمدينة وهي اقرب إلى المدينة منها إلى مكة وقد زرت هذه القرية وشاهدت مكان المعركة واستشعرت فضل الله وعونه ومدده الذي أمد به المؤمنين في غزوة بدر فنصرهم على عدوهم مع قلة المسلمين وقلة عدتهم وكثرة عدوهم واستكمال عدته ولو تمت أمور هذه الغزوة بمقاييس القوة والاستعداد دون التوكل على الله لكان النصر لقريش دون المسلمين ولكن النصر جرى على سنة الله من نصر المؤمنين المتقين الصابرين المتوكلين على الله تعالى :﴿ ولقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلة ﴾.
وليس المراد بالذل أنهم كانوا ضعاف النفوس او كانوا راضين بالهوان.. وإنما المراد أنهم كانوا قليلي العدة والعدد فقراء في الأموال وفي وسائل القتال.
قال تعالى في آية أخرى :{ لقد نصركم الله في مواطن كثيرة ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئا ( التوبة ٢٥ ).
وقال الإمام احمد عن سماك قال : سمعت عياض الأشعري قال شهدت اليرموك وعلينا خمسة أمراء وقال عمر إذا كان قتالا فعليكم أبو عبيدة فكتبنا إليه أنه قد جاش إلينا الموت واستمددناه فكتب إلينا أنه قد جاء في كتابهم تستمدوني وإني أدلكم على من هو أعز نصرا وأحصن جندا الله عز وجل فاستنصروه فإن محمد صلى الله عليه وسلم قد نصر في بدر في اقل من عدتكم فإذا جاءكم كتابي هذا فقاتلوهم ولا تراجعوني قال فقاتلوهم فهزمناهم أربع فراسخ وأصبنا أموالا كثيرة٧٥.
فاتقوا الله في الثبات والصبر وامتثال أوامره واجتناب نواهيه.
لعلكم تشكرون. أي لعل الله أن ينعم عليكم بالنصر فتشكروه عليه.
نلحظ أن سورة آل عمران تحدثت عن وحدانية الله وجلاله وعن مظاهر قدرته ورحمته، وعن جوانب من قصة آل عمران وعن الشبهات التي ساقها اليهود وألوان الحرب النفسية وساقت للمؤمنين من التوجيهات والعظات ما يهدي قلوبهم ويصلح بالهم ويكفل لهم النصر على أعدائهم من خلال ١٢٠ آية من بداية السورة.
٦٠ آية :
ثم تحدثت سورة آل عمران عن جوانب متعددة من غزوة احد في حوالي ٢٠ آية من الآية ١٢١ إلى الآية ١٨٠.
قصة غزوة احد
كانت غزوة بدر من الغزوات المشهورة في تاريخ الدعوة الإسلامية فقد انتصر أتباعها انتصارا مؤزرا على كفار قريش.. وصمم المشركون على ان يأخذوا بثأرهم من المسلمين فجمعوا جموعهم وخرجوا في جيش كبير ومعهم بعض نسائهم حتى يكون ذلك أبلغ في استماتة الرجال في القتال...
ووصل مشركو قريش ومعهم حلفاؤهم إلى أطراف المدينة في أوائل شوال من السنة الثالثة وكان عددهم يربو على ثلاثة آلاف رجل.
واستشار النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه في شأن هؤلاء المشركين الزاحفين إلى المدينة. فكان من رأي بعضهم – ومعظمهم من الشباب – الخروج لملاقاة المشركين خارج المدينة.
وكان من رأي فريق آخر من الصحابة استدراج المشركين إلى أزقة المدينة ومقاتلتهم بداخلها وكان النبي صلى الله عليه وسلم يميل إلى رأي الفريق الأول الذي يرى أصحابه الخروج لملاقاة المشركين خارج المدينة نظرا لكثرة عدد القائلين بذلك.
ثم دخل النبي صلى الله عليه وسلم بيته ثم خرج منه لبس آلة حربه. وشعر بعض المسلمين أنهم قد استكرهوا النبي صلى الله عليه وسلم على القتال فاظهروا له الرغبة في النزول على رأيه إلا انه لم يستجب لهم وقال كلمته التي تعلم الناس الحزم وعدم التردد :" ما ينبغي لنبي لبس لأمته ان يضعها حتى يحكم الله بينه وبين عدوه لقد دعوتكم إلى هذا الحديث فأبيتم إلا الخروج فعليكم بتقوى الله والصبر عند البأس وانظروا ما أمركم الله به فافعلوه.. " ٧٠.
ثم خرج النبي صلى الله عليه وسلم في ألف مقاتل من المسلمين حتى نزل قريبا من جبل " أحد " إلا أن " عبد الله بن أبي سلول " انسحب في الطريق بثلث الناس محتجا بأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأخذ برأيه بل أخذ برأي غيره.
وعسكر المسلمون بالشعب من أحد جاعلين ظهركم إلى الجبل ورسم النبي صلى الله عليه وسلم الخطة لكسب المعركة فجاءت خطة محكمة رائعة فقد وزع الرماة على أماكنهم وكانوا خمسين راميا وقال لهم انضحوا الخيل عنا بالنبل لا يأتوها من خلفنا إن كانت لنا او علينا فألزموا أماكنهم لا نؤتين من قبلكم ".
وفي رواية انه صلى الله عليه وسلم قال لهم :" احموا ظهورنا وإن رأيتمونا نقتل فلا تنصرونا وإن رأيتمونا نغنم فلا تشركونا " ٧١.
وأخيرا التقى الجمعان وأذن النبي صلى الله عليه وسلم لأتباعه أن يجادلوا أعدائهم وأظهر المسلمون أسمى صور البطولة والإقدام وكان شعائرهم في هذا الالتحام " أمت أمت ".
وما هي إلا جولات في أوائل المعركة حتى ولي المشركون المسلمون الأدبار ولم يغن عن المشركين شيئا ما كانت تقوم به نسوتهم من تحريض واستنهاض للعزائم.
قال ابن إسحاق : ثم أنزل الله تعالى نصره وصدق وعده فحثوهم بالسيوف حتى كشفوهم عن المعسكر وكانت الهزيمة لا شك فيها.
ورأى الرماة الهزيمة وهي تحل بقريش فتطلعت نفوسهم إلى الغنائم وحاول أميرهم " عبد الله بن جبير " أن يمنعهم عن ترك أماكنهم عملا بوصية رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أن معظمهم تركوا أماكنهم ونزلوا إلى ساحة المعركة ليشاركوا في جمع الغنائم والأسلاب...
وأدرك خالد ابن الوليد وكان مشركا أن ظهور المسلمين قد انكشفت بترك الرماة لأماكنهم فاهتبل الفرصة على عجل واستدار بمن معه من خيل المشركين خلف المسلمين فأحدق بهم واخذ في مهاجمتهم من مكان ما كانوا ليظنوا انهم سيهاجمون منه فقد كانوا يعتمدون على الرماة في حماية ظهورهم..
وعاد المشركون المنهزمون إلى مقاتلة المسلمين بعد ان رأوا ما فعله " خالد " ومن معه.
واضطربت صفوف المسلمين للتحول المفاجئ الذي حدث لهم إلا أن فريقا منهم اخذ يقاتل ببسالة وصبر.. واستشهد عدد كبير منهم وهم يحاولون شق طريقهم..
وأصيب النبي صلى الله عليه وسلم خلال ذلك بجروح بالغة وأشيع أنه قد قتل إلا انه صلى الله عليه وسلم جعل يصيح بالمسلمين إلي عباد الله إلى عباد الله.. فاجتمع إليه نحو ثلاثين رجلا ودافعوا عنه دفاع الأبطال المخلصين..
ومرت على المسلمين ساعة من احرج الساعات في تاريخ الدعوة الإسلامية فقد كان المشركون يهاجمون النبي صلى الله عليه وسلم بعناد وحقد وكان المسلمون مستميتين في الدفاع عن رسولهم وعن أنفسهم.
وكان لهذه الاستماتة آ ثار في تراجع المشركين وقد ظنوا أنهم قد أخذوا بثأرهم من المسلمين...
وخشي النبي صلى الله عليه وسلم أن يكون تراجع المشركين من أجل مهاجمة المدينة فقال لعل علي ابن أبي طالب اخرج في آثار القوم فانظر ماذا يصنعون فإذا هم جنبوا الخيل وامتطوا الإبل فإنهم يريدون مكة وإن ركبوا الخيل وساقوا الإبل فهم يريدون المدينة فوالذي نفسي بيده لئن أرادوها لأسرين إليهم ثم لأناجزنهم فيها.
قال علي : فخرجت في آثارهم فرايتهم جنبوا الخيل وامتطوا الإبل واتجهوا إلى مكة.
وعندما انصرف أبو سفيان نادى : إن موعدكم بدر العام المقبل فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لرجل من أصحابه قل له : نعم بيننا وبينك موعد.
وانتهت غزوة أحد باستشهاد حوالي سبعين صحابيا من بينهم حمزة بن عبد المطلب ومصعب بن عمير. وسعد بن الربيع.... وغيرهم من الأبطال الذين صدقو ما عاهدوا الله عليه
١٢٤- ﴿ إذ تقول للمؤمنين ألن يكفيكم أن يمدكم ربكم بثلاثة آلاف من الملائكة منزلين ﴾.
المعنى : اذكر يا محمد إذ تقول للمؤمنين يوم بدر : ألن يكفيكم أن يمدكم ربكم بثلاثة آلاف منزلين من الله لتثبيتكم وتقوية قلوبكم على أعدائكم وإن أنتم توكلتم عليه وصبرتم.
قال ابن كثير : اختلف المفسرون في هذا الوعد هل كان يوم بدر أو يوم أحد على قولين احدهما ان قوله تعالى : إذ تقول للمؤمنين متعلق بقوله : ولقد نصركم الله ببدر.
والقول الثاني : يرى أصحابه ان هذا الوعد متعلق بقوله تعالى :﴿ وإذ غدوت من اهلك تبوئ المؤمنين مقاعد للقتال... ﴾ وذلك يوم احد.
( والقول الأول قول أكثر المفسرين لان الكلام متصل بقصة بدر ولأن العدة والعدد يوم بدر كانا أقل وكان الاحتياج إلى المدد أكثر " ٧٦.
نلحظ أن سورة آل عمران تحدثت عن وحدانية الله وجلاله وعن مظاهر قدرته ورحمته، وعن جوانب من قصة آل عمران وعن الشبهات التي ساقها اليهود وألوان الحرب النفسية وساقت للمؤمنين من التوجيهات والعظات ما يهدي قلوبهم ويصلح بالهم ويكفل لهم النصر على أعدائهم من خلال ١٢٠ آية من بداية السورة.
٦٠ آية :
ثم تحدثت سورة آل عمران عن جوانب متعددة من غزوة احد في حوالي ٢٠ آية من الآية ١٢١ إلى الآية ١٨٠.
قصة غزوة احد
كانت غزوة بدر من الغزوات المشهورة في تاريخ الدعوة الإسلامية فقد انتصر أتباعها انتصارا مؤزرا على كفار قريش.. وصمم المشركون على ان يأخذوا بثأرهم من المسلمين فجمعوا جموعهم وخرجوا في جيش كبير ومعهم بعض نسائهم حتى يكون ذلك أبلغ في استماتة الرجال في القتال...
ووصل مشركو قريش ومعهم حلفاؤهم إلى أطراف المدينة في أوائل شوال من السنة الثالثة وكان عددهم يربو على ثلاثة آلاف رجل.
واستشار النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه في شأن هؤلاء المشركين الزاحفين إلى المدينة. فكان من رأي بعضهم – ومعظمهم من الشباب – الخروج لملاقاة المشركين خارج المدينة.
وكان من رأي فريق آخر من الصحابة استدراج المشركين إلى أزقة المدينة ومقاتلتهم بداخلها وكان النبي صلى الله عليه وسلم يميل إلى رأي الفريق الأول الذي يرى أصحابه الخروج لملاقاة المشركين خارج المدينة نظرا لكثرة عدد القائلين بذلك.
ثم دخل النبي صلى الله عليه وسلم بيته ثم خرج منه لبس آلة حربه. وشعر بعض المسلمين أنهم قد استكرهوا النبي صلى الله عليه وسلم على القتال فاظهروا له الرغبة في النزول على رأيه إلا انه لم يستجب لهم وقال كلمته التي تعلم الناس الحزم وعدم التردد :" ما ينبغي لنبي لبس لأمته ان يضعها حتى يحكم الله بينه وبين عدوه لقد دعوتكم إلى هذا الحديث فأبيتم إلا الخروج فعليكم بتقوى الله والصبر عند البأس وانظروا ما أمركم الله به فافعلوه.. " ٧٠.
ثم خرج النبي صلى الله عليه وسلم في ألف مقاتل من المسلمين حتى نزل قريبا من جبل " أحد " إلا أن " عبد الله بن أبي سلول " انسحب في الطريق بثلث الناس محتجا بأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأخذ برأيه بل أخذ برأي غيره.
وعسكر المسلمون بالشعب من أحد جاعلين ظهركم إلى الجبل ورسم النبي صلى الله عليه وسلم الخطة لكسب المعركة فجاءت خطة محكمة رائعة فقد وزع الرماة على أماكنهم وكانوا خمسين راميا وقال لهم انضحوا الخيل عنا بالنبل لا يأتوها من خلفنا إن كانت لنا او علينا فألزموا أماكنهم لا نؤتين من قبلكم ".
وفي رواية انه صلى الله عليه وسلم قال لهم :" احموا ظهورنا وإن رأيتمونا نقتل فلا تنصرونا وإن رأيتمونا نغنم فلا تشركونا " ٧١.
وأخيرا التقى الجمعان وأذن النبي صلى الله عليه وسلم لأتباعه أن يجادلوا أعدائهم وأظهر المسلمون أسمى صور البطولة والإقدام وكان شعائرهم في هذا الالتحام " أمت أمت ".
وما هي إلا جولات في أوائل المعركة حتى ولي المشركون المسلمون الأدبار ولم يغن عن المشركين شيئا ما كانت تقوم به نسوتهم من تحريض واستنهاض للعزائم.
قال ابن إسحاق : ثم أنزل الله تعالى نصره وصدق وعده فحثوهم بالسيوف حتى كشفوهم عن المعسكر وكانت الهزيمة لا شك فيها.
ورأى الرماة الهزيمة وهي تحل بقريش فتطلعت نفوسهم إلى الغنائم وحاول أميرهم " عبد الله بن جبير " أن يمنعهم عن ترك أماكنهم عملا بوصية رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أن معظمهم تركوا أماكنهم ونزلوا إلى ساحة المعركة ليشاركوا في جمع الغنائم والأسلاب...
وأدرك خالد ابن الوليد وكان مشركا أن ظهور المسلمين قد انكشفت بترك الرماة لأماكنهم فاهتبل الفرصة على عجل واستدار بمن معه من خيل المشركين خلف المسلمين فأحدق بهم واخذ في مهاجمتهم من مكان ما كانوا ليظنوا انهم سيهاجمون منه فقد كانوا يعتمدون على الرماة في حماية ظهورهم..
وعاد المشركون المنهزمون إلى مقاتلة المسلمين بعد ان رأوا ما فعله " خالد " ومن معه.
واضطربت صفوف المسلمين للتحول المفاجئ الذي حدث لهم إلا أن فريقا منهم اخذ يقاتل ببسالة وصبر.. واستشهد عدد كبير منهم وهم يحاولون شق طريقهم..
وأصيب النبي صلى الله عليه وسلم خلال ذلك بجروح بالغة وأشيع أنه قد قتل إلا انه صلى الله عليه وسلم جعل يصيح بالمسلمين إلي عباد الله إلى عباد الله.. فاجتمع إليه نحو ثلاثين رجلا ودافعوا عنه دفاع الأبطال المخلصين..
ومرت على المسلمين ساعة من احرج الساعات في تاريخ الدعوة الإسلامية فقد كان المشركون يهاجمون النبي صلى الله عليه وسلم بعناد وحقد وكان المسلمون مستميتين في الدفاع عن رسولهم وعن أنفسهم.
وكان لهذه الاستماتة آ ثار في تراجع المشركين وقد ظنوا أنهم قد أخذوا بثأرهم من المسلمين...
وخشي النبي صلى الله عليه وسلم أن يكون تراجع المشركين من أجل مهاجمة المدينة فقال لعل علي ابن أبي طالب اخرج في آثار القوم فانظر ماذا يصنعون فإذا هم جنبوا الخيل وامتطوا الإبل فإنهم يريدون مكة وإن ركبوا الخيل وساقوا الإبل فهم يريدون المدينة فوالذي نفسي بيده لئن أرادوها لأسرين إليهم ثم لأناجزنهم فيها.
قال علي : فخرجت في آثارهم فرايتهم جنبوا الخيل وامتطوا الإبل واتجهوا إلى مكة.
وعندما انصرف أبو سفيان نادى : إن موعدكم بدر العام المقبل فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لرجل من أصحابه قل له : نعم بيننا وبينك موعد.
وانتهت غزوة أحد باستشهاد حوالي سبعين صحابيا من بينهم حمزة بن عبد المطلب ومصعب بن عمير. وسعد بن الربيع.... وغيرهم من الأبطال الذين صدقو ما عاهدوا الله عليه
١٢٥- ﴿ بلى إن تصبروا وتتقوا ويأتوكم من فورهم هذا يمددكم ربكم بخمسة آلاف من الملائكة مسومين ﴾.
المفردات :
من فورهم : أي من ساعتهم.
مسومين : مسومين بكسر الواو المشددة متخذين سمة أي علامة تميزهم وبفتحها بمعنى معلمين من الله تعالى.
التفسير :
بلى : أي نعم يكفيكم الإمداد بثلاثة آلاف من الملائكة منزلين من الله ولكنه سبحانه يعدكم بأنكم إن تصبروا على قتال أعدائكم وعلى كل ما أمركم الله بالصبر عليه وتتقوا الله وتخشوه وتجتنبوا معاصيه ويأتوكم من فورهم هذا. أي ويعالجكم المشركون مسرعين ليحاربوكم وقد أعددتم أنفسكم لقتالهم إذ فعلتم ذلك يمددكم ربكم بخمسة آلاف من الملائكة معلمين أنفسهم او خيلهم بعلامات مخصوصة.
في أعقاب الآية :
إذا كان الله تعالى قد أمد المؤمنين بالملائكة في بدر فهل كانت وظيفتهم القتال مع المؤمنين : او كانت وظيفتهم تثبيت المؤمنين فقط :
يرى كثير من العلماء أن الملائكة قد قاتلت مع المؤمنين.
قال القرطبي : تظاهرت الروايات بأن الملائكة حضرت يوم بدر وقاتلت.
ويرى فريق آخر من العلماء أن الملائكة ما قاتلت مع المسلمين يوم بدر وإنما أمد الله المؤمنين بالملائكة لتثبيت نفوسهم وتقوية قلوبهم ولتخذيل المشركين وإلقاء الرعب في قلوبهم.
قال صاحب تفسير المنار :
ليس في القرآن الكريم نص ناطق بأن الملائكة قاتلت بالفعل وإنما ذكر الملائكة في سياق الكلام عن غزوة بدر في سورة الأنفال على انها وعد من الله تعالى بإمداد المؤمنين بألف من الملائكة.
وفسر هذا الإمداد بقوله عز وجل :
﴿ إذ يوحي ربك إلى الملائكة إني معكم فثبتوا الذين آمنوا سألقي في قلوب الذين كفروا الرعب فاضربوا فوق الأعناق واضربوا منهم كل بنان ﴾ ( الأنفال ١٢ ).
قال ابن جرير الطبري في معنى التثبيت :
" يقول قووا عزمهم وصححوا نياتهم في قتال عدوهم من المشركين ".
وقيل : كان ذلك معونتهم إياهم بقتال أعدائهم.
ونقل صاحب المنار نقولا كثيرة في تفسير هذه الآية وفي تفسير سورة الأنفال رجح فيها أن معونة الملائكة للمؤمنين كانت معنوية وان الملائكة لم تظهر القتال٧٧.
وقال النيسابوري :
أجمع أهل التفسير وأرباب السير انه تعالى أنزل الملائكة يوم بدر وأنهم قاتلوا الكفار وعن ابن عباس أنه لم تقاتل الملائكة سوى يوم بدر وفيها سواء كانوا عددا ومددا لا يقاتلون ولا يضاربون ومنهم من قال إن نصر الملائكة بإلقاء الرعب في قلوب الكفار وبإشعار المؤمنين بأن النصر لهم.
هل هذه مناقشة مجدية :
في كتب التفسير الكبرى مثل تفسير الطبري والنيسابوري وفخر الدين الرازي وتفسير المنار نجد نقاشا قويا بحجج وأسانيد وأدلة عقلية ونقلية حول موضوعين :
الأول : هل أمد الله تعالى المؤمنين في غزوة بدر بهذا العدد المذكور في الآية ١٢٤-١٢٥ من سورة آل عمران ؟.
فبعض المفسرين يرى ان الله أمد المؤمنين في بدر بخمسة آلاف من الملائكة وقال آخرون لم يزد المدد على ألف من الملائكة.
الموضوع الثاني : هل باشرت الملائكة القتال بنفسها ام اقتصرت مهمتها على تثبيت المؤمنين وإلقاء الرعب في قلوب المشركين ؟
والذي يطمئن إليه القلب أن الله تعالى أمد المؤمنين وإن ذلك كان من أسباب النصر.
أما النقاش في عدد الملائكة يوم بدر وهل كان ألفا أو خمسة آلاف ؟ والنقاش في عمل الملائكة يوم بدر فهو لون من ألوان الترف العقلي إن الملائكة من عالم الغيب ويكفينا كتاب الله ويكفي المسلم أن يعتقد بأن الله أوحي للملائكة بأن تثبت المؤمنين وتساعدهم في اكتساب النصر ولا يضير المسلم ان يجهل عدد الملائكة التي تنزلت ولا يزيد في يقينه أن يعتقد ان الملائكة باشرت القتال أو اقتصرت مهمتها على التثبيت وآراء الفريقين تحتملها النصوص ولا يزيد أن نرجح رأي فريق بل نحن اقرب إلى التسليم والتفويض وقولنا آمنا به كل من عند ربنا.
التفسير :
١٢٦- ﴿ وما جعله الله إلا بشرى لكم ولتطمئن قلوبكم به وما النصر إلا من عند الله العزيز الحكيم ﴾.
أي وما جعل الله الإمداد بالملائكة ولا الوعد به إلا بشارة لكم بالنصر وتطمينا لقلوبكم حتى تثبتوا أمام عدوكم وليس النصر إلا من الله وحده فهو العزيز الذي لا يغلب الحكيم الذي يفعل كل ما يريد فعله حسبما تقتضيه حكمته فالمدد بالملائكة او غيرها سبب وظاهر والسبب الحقيقي هو الله سبحانه وتعالى.
( ولقد حرص القرآن في كثير من آياته على تثبيت هذا المعنى في قلوب المؤمنين حتى لا يعتمدوا على الأسباب والوسائل التي بين أيديهم ويغتروا بها دون أن يلتفتوا إلى قدرة خالق الأسباب والوسائل فإنهم إذا اغتروا بالأسباب والوسائل ونسوا خالقها أتاهم الفشل من حيث لا يحتسبوا وكان أمرهم فرطا ) ٧٨.
والمؤمن الحق قوي الإيمان بربه واثق بقدرة خالقه فهو سبحانه يقول للشيء كن فيكون لكنه سبحانه جعل للنصر أسبابا وجعل لهذا الكون نواميس وقوانين، وأمرنا أن نأخذ بالأسباب مع اليقين الجازم بقدرة القادر فعلينا بطاعة الله وامتثال أمره واجتناب نهيه فمن أطاع الله أطاعه في كل شيء ﴿ يا أيها الذين آمنوا إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم ﴾ ( محمد ٧ ).
المفردات :
فينقلبوا خائبين : فيرتدوا منقطعي الآمال.
يكبتهم : الكبت شدة الغيظ أو وهن يقع في القلب.
ليقطع طرفا : لينقص فريقا من الكافرين بالقتل والأسر.
التفسير :
إن النصر من عند الله وقد نصر الله المؤمنين في بدر وهو سبحانه حكيم في إنزاله النصر وحكمة هذا النصر ان ينقص جانبا من الذين كفروا ويستأصلهم بالقتل وينقص من أرضهم بالفتح ومن سلطانهم بالقهر ومن أموالهم بالغنيمة.
أو يكتبهم ويغيظهم غيظا شديدا بسبب ما نزل بهم من هزيمة فيدعوا إلى ديارهم منكسرين مدحورين فقد كانوا يقصدون إطفاء نور الإسلام فخاب قصدهم وطاش سهمهم وعادوا وقد فقدوا الكثيرين من وجوههم وصناديدهم أما الإسلام فقد ازداد أتباعه إيمانا على إيمانهم ورزقهم الله النصر المبين.
كانت الحرب سجالا بين المؤمنين والكافرين وأرسل النبي صلى الله عليه وسلم سبعين قارئا لتعليم القرآن لبعض القبائل فقتلهم المشركون وقد اشتد حزن الرسول صلى الله عليه وسلم لموت القراء ودعا على المشركين٧٩.
وقد حدث مثل ذلك في غزوة أحد عندما لحقت الهزيمة بالمسلمين وأصيب رسول الله صلى الله عليه وسلم بجراح في وجهه الشريف وسال الدم منه فقال : " كيف يفلح قوم فعلوا هذا بنبيهم وهو يدعوهم إلى ربهم عز وجل " فأنزل الله ﴿ ليس لك من الأمر شيء أو يتوب عليهم أو يعذبهم فإنهم ظالمون ﴾٨٠.
وتفيذ الأحاديث الصحيحة ان النبي صلى الله عليه وسلم كان يدعو في صلاة الصبح بعد الركوع إذا قال سمع الله لمن حمده : " ربنا ولك الحمد " فيدعو بنجاة المستضعفين في مكة وربما دعا على المشركين الذين يقتلون المسلمون ويعذبونهم روى البخاري عن ابن عمر رضي الله عنهما قال : كان ر سول الله صلى الله عليه وسلم يدعو إلى رجال من المشركين يسميهم بأسمائهم حتى انزل الله تعالى :﴿ ليس لك من الأمر شيئا أو يتوب عليهم أو يعذبهم فإنهم ظالمون ﴾.
والآية تشير إلى حكمة إلهية عليا يريد الله تحقيقها في هذا الكون وهي أن يدفع المؤمنون ضريبة الإيمان بالجهاد والكفاح واحتمال الابتلاء قال تعالى :{ ولو يشاء ربك لجعل الناس امة واحدة ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم ( هود ١١٨-١١٩ ).
وقال عز شأنه :{ أحسب الناس ان يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون ولقد فتنا من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين ( العنكبوت ٢-٣ ).
أو تشير الآية إلى ان وظيفة الرسول البلاغ قال ﴿ إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء ﴾ ( القصص ٥٦ ) وقال سبحانه { فإنما عليك البلاغ وعلينا الحساب ( الرعد ٤٠ ).
روى ابن كثير عن محمد بن إسحاق في قوله ليس لك من الأمر شيء أي : لك من الحكم شيء في عبادي إلا ما أمرتك به فيهم.
والمعنى : أن مالك أمرهم على الإطلاق هو الله عز وجل وله حكمة يريد تحقيقها وليس لك يا محمد من التصرف في أمر عبادي شيء بل الأمر أمر لله فإما أن يتوب عليهم بالإيمان أو بتوجيههم للاعتبار فإن انتصار المسلمين قد يكون فيه للكافرين عظة وعبرة فيقودهم إلى الإيمان والتسليم فيتوب الله عليهم من كفرهم ويختم لهم بالإسلام والهداية.
﴿ او يعذبهم فإنهم ظالمين ﴾
أو يعذبهم بنصرة المسلمين عليهم بأسرهم او يعذبهم بالقتل والخزي والعذاب يوم القيامة لانهم ظلموا أنفسهم حين حرموها من النظر والاعتبار والهداية وأصروا على الكفر واستحبوا العمى على الهدى ﴿ وما ظلمهم الله ولكن كانوا أنفسهم يظلمون ﴾ ( النحل ٣٣ ).
سيقت هذه الآية لتأكيد ما تقدم من ان الامر كله بيد الله وحده.
ومعنى الآية :
إن لله جميع ما في السموات وما في الأرض ملكا وتصرفا وتدبيرا لا ينازعه في ذلك منازع ولا يعارضه معارض وهو سبحانه يغفر لمن يشاء أن يغفر له من المؤمنين فلا يعاقبه على ذنبه فضلا منه ويعذب من يشاء ان يعذبه عدلا منه ومغفرته اقرب ورحمته أرجى لانه كثير المغفرة والرحمة.
المفردات :
الربا : هو ربح المال يقال ربا المال يربو رباء أي زاد وأربى الشيء على الشيء أي زاد عليه.
أضعافا مضاعفة : أي زيادات مكررة وأضعافا جمع ضعف وضعف الشيء مثله الذي يصير به اثنين.
مضاعفة : فيه إشارة إلى تكرار التضعيف مرة بعد مرة.
التفسير :
١٣٠- ﴿ يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا الربا أضعافا مضاعفة واتقوا الله لعلكم تفلحون ﴾.
من شان القرآن أن يعني بتربية المؤمنين وإرشادهم وتعليمهم وفي الآية السابقة دروس وعبر من غزوة أحد وغزوة بدر وفي الآيتين ١٣٠-١٣١ دروس في تحريم الربا وتحذير من عقاب آكله.
وهي سنة القرآن في تخون المؤمنين بالموعظة والأمر والنهي والترغيب والترهيب والانتقال بالنفس البشرية من خبر إلى أمر إلى نهي.. رغبة في حمل النفس على تقبل الأوامر واجتناب النواهي والتزام الطاعة.
قال الإمام الرازي :
لما شرح الله عظيم نعمه على المؤمنين فيما يتعلق بإرشادهم إلى الأصلح لهم في أمر الدين وفي أمر الجهاد أتبع ذلك بما يدخل في الامر والنهي والترغيب والترهيب فقال :﴿ يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا الربا أضعافا مضاعفة.. ﴾ ٨١.
وكان الرجل في الجاهلية إذا كان له على إنسان مائة درهم مثلا إلى أجل فإذا حل الأجل ولم يكن المدين واجدا لذلك المال قال : زدني في المال حتى أزيد في الأجل فربما جعله مائتين ثم إذا حل الأجل الثاني فعل مثل ذلك ثم إلى آ جال كثيرة فيأخذ بسبب تلك المائة أضعافها فهذا هو المراد من قوله : أضعافا مضاعفة٨٢.
( كان يهود من المدينة من أشهر المتعاملين بالربا فنهي الله سبحانه المؤمنين أن يرتكبوا هذه الفعلة النكراء فإن الربا يجتث مال الفقير ويضيع جهده ويزيد في ثراء الأغنياء مع الدعة والراحة.. وهو الذي يقطع أواصر المودة والتعاطف بين الناس٨٣.
وقد سبق حديث عن الربا في الآية ٢٧٥-٢٧٦ من سورة البقرة وفيهما ما يدل على تحريم الربا قليلة وكثيرة عاجلة وآجلة وأن ليس للدائن سوى رأس ماله.
قال تعالى :{ الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس ذلك بأنهم قالوا إنما البيع مثل الربا واحل الله البيع وحرم الربا فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف وأمره إلى الله ومن عاد فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون يمحق الله الربا ويربي الصدقات والله لا يحب كل كفار أثيم. البقرة ٢٧٥-٢٧٦ ).
وقد ابتدأ سبحانه الآية التي نفسرها بقوله :
﴿ يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا الربا.. ﴾.
لبيان ان الربا ليس من شأن المؤمنين وإنما هو من سمات الكافرين الفاسقين.
وإذا كان الكافرون يستكثرون من تعاطي الربا فعلى المؤمنين أن يجتنبوا هذا الفعل القبيح وان يتحروا الحلال في كل أمورهم.
وخصه بالنهي لأنه كان شائعا في ذلك الوقت ولأنه كما ي قول القرطبي هو الذي أذن فيه بالحرب في قوله تعالى :﴿ فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله ﴾. والحرب يؤدن بالقتل فكأنه يقول لهم : إن لم تتقوا الربا هزمتم وقتلتم٨٤.
والمراد من الأكل الأخذ وعبر عنه بالأكل لما أنه معظم ما يقصد به ولشيوعه في المأكولات مع ما فيه من زيادة التشنيع.
والربا معناه الزيادة والمراد بها هنا تلك الزيادة التي كانت تضاف على الدين.
قال الإمام ابن جرير : عن عطاء قال : كانت ثقيف تداين بني المغيرة في الجاهلية فإذا حل الأجل قالوا : نزيدكم وتؤخرون.
وقال ابن زيد كان أبي زيد بن ثابت يقول : إنما كان ربا الجاهلية في التضعيف يكون للرجل على الرجل دين فيأتيه إذا حل الأجل فيقول : " تقضيني أو تزيدني " ٨٥.
وقوله : أضعافا حال من الربا وقوله مضاعفة صفة له.
الأضعاف جمع ضعف وضعف الشيء مثله وضعفاه مثلاه وأضعافه أمثاله.
وهذا القيد وهو قوله : أضعافا مضاعفة ليس لتقيد النهي به أي ليس للنهي عن أكل الربا في هذه الحالة وإباحته في غيرها بل هذا القيد لمراعاة الواقع ولبيان ما كانوا عليه في الجاهلية من التعامل الفاسد المؤدي إلى استئصال المال ولتوبيخ من كان يتعاطى بتلك الصورة البشعة.
وقد حرم الله تعالى أصل الربا ومضاعفته ونفر منه تنفيرا شديدا فقال تعالى :﴿ الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس ذلك بأنهم قالوا إنما البيع مثل الربا وأحل الله البيع وحرم الربا.. ﴾
وهذا النوع من الربا الذي نهى الله عنه هنا قوله :﴿ يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا الربا أضعافا مضاعفة ﴾ هو الذي يسمى عند الصحابة والفقهاء بربا النسيئة أو ربا الجاهلية وقد حرمه الإسلام تحريما قاطعا فقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم في خطبة الوداع : " ألا إن ربا الجاهلة موضوع أي مهدر وأول ربا أبدا ربا عمى العباس بن عبد المطلب " ٨٦.
وقال الإمام احمد ابن حنبل : عن ربا النسيئة يكفر من يجحد تحريمه.
ويقابل هذا النوع من الربا ربا البيوع وهو الذي ورد في حديث النبي صلى الله عليه وسلم الذي يقول فيه " البر بالبر مثلا بمثل يدا بيد والذهب بالذهب مثلا بمثل يدا بيد والفضة بالفضة مثلا بمثل يدا بيد. والشعير بالشعير مثلا بمثل يدا بيد. والملح بالملح مثلا بمثل يدا بيد فمن زاد أو استزاد فقد أربى " ٨٧.
وقد اتفق العلماء على ان بيع هذه الأصناف لابد ان يكون بغير زيادة بمثلها كقمح بقمح ولابد من قبضها وإذا اختلف الجنس كقمح الشعير جازت الزيادة ولابد من القبض في المجلس والتأخير يسمى ربا النساء والزيادة المحرمة تسمى ربا الفضل.
وللفقهاء في هذا الموضوع مباحث طويلة ليرجع إليها من شاء في مظانها : ثم ختم سبحانه الآية الكريمة بأمر المؤمنين بخشية الله وتقواه فقال :﴿ واتقوا الله لعلكم تفلحون ﴾.
أي : واتقوا الله بأن تجعلوا بينكم وبين محارمه ساترا ووقاية لعلكم تنالون الفلاح في الدنيا والآخرة.
أي : صونوا أنفسكم واحترزوا من الوقوع في الأعمال السيئة كتعاطي الربا وما يشابه ذلك لان في هذه الأعمال السيئة ما يؤدي بكم إلى دخول النار التي هيئت للكافرين.
وفي التعقيب على النهي عن تعاطي الربا بتقوى الله وباتقاء النار إشعار بأن الذي يأكل الربا يكون بعيدا عن خشية الله وعن مراقبته ويكون مستحقا لدخول النار التي أعدها الله تعالى للكافرين والفاسقين عن أمره.
قال صاحب الكشاف : كان أبو حنيفة إذا قرأ هذه الآية :﴿ واتقوا النار التي أعدت للكافرين ﴾ يقول هي أخوف آية في القرآن حيث أوعد الله المؤمنين بالنار المعدة للكافرين إن لم يتقوه في اجتناب محارمه٨٨.
أي أطيعوا الله في كل ما أمركم به ونهاكم عنه وأطيعوا الرسول الذي أرسله إليكم ربكم لهدايتكم وسعادتكم لعلكم بهذه الطاعة تكونون في رحمة الله فهو القائل وقوله الحق :﴿ إن رحمت الله قريب من المحسنين ﴾ ( الأعراف ٥٢ ).
وقد ذكر طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم مقترنة بطاعة الله تعالى تنبيه إلى ان طاعة الرسول طاعة لله. فقد قال تعالى :{ من يطع الرسول فقد أطاع الله ومن تولى فما أرسلناك عليهم حفيظا ( النساء ٨٠ ).
المفردات :
أعدت : هيئت.
التفسير :
١٣٢- ﴿ وسارعوا إلى مغفرة من ربكم.. ﴾ الآية.
لما حذر الله الآيات السابقة من الأفعال المستتبعة للعقاب عقبه بحث على الأفعال المستتبعة للثواب فقال :﴿ وسارعوا إلى مغفرة من ربكم ﴾. أي : بادروا وسابقوا إلى كل ما يحقق لكم مغفرة ربكم لذنوبكم ويوصلكم إلى نيل مرضاته ودخول جنته الواسعة وذلك يكون بإقبالكم على طاعته وامتثال أوامره واجتناب نواهيه.
﴿ وجنة عرضها السموات والأرض ﴾ أي : كعرضها وليس المراد التحديد وإنما هو كناية عن غاية سعتها وعظيم رحبها بما هو في تصور المخاطبين أوسع الأشياء وأرحبها وخص العرض بالذكر مع أنه دون الطول للمبالغة في البسط والسعة ويطلق العرض أيضا على السعة.
ويجوز ان يراد منه هذا المعنى هنا.
أعدت للمتقين. أي هيأها الله لعباده الذين يتقون عذابه بامتثال أوامره واجتناب محارمه.
١٣٤- ﴿ الذين ينفقون في السراء والضراء.. ﴾ الآية.
المفردات :
السراء : الرجاء واليسر.
الضراء : الشدة والعسر.
الكاظمين الغيظ : الممسكين عند امتلاء نفوسهم به فلا ينتقمون ممن غاظهم واصل الكظم : شد فم القربة عند امتلائها والغيظ : هيجان الطبع عند رؤية ما ينكر.
التفسير :
أي في اليسر والعسر والفرح والحزن والمنشط والمكره.
والمراد : أنهم ينفقون في كل أحوالهم فهي دائرة بين السراء والضراء وهذه هي الصفة الأولى.
وإنما ابتدأ بالإنفاق لأن الجود بالمال وبخاصة في حال العسرة والشدة من أشق الأمور على النفوس.
وفيه أقوى الأدلة على الإخلاص لأن حاجة المسلمين إلى الإنفاق آنذاك بل وكل آن كانت أشد لمجاهدة العدو ومواساة المسلمين.
ولأن النهي عن الربا يستدعي بديلا عنه ولذلك يقترن النهي عن الربا في القرآن بالحث على الصدقة.
وحذف مفعول ينفقون ليعم كل ما يصح للإنفاق أو لأن المراد وصفهم بالاتفاق دون نظر إلى ما ينفقون كما تقول : فلان يعطي ويمنع لا تقصد إلا وصفه بالإعطاء والمنع.
﴿ والكاظمين الغيظ ﴾
صفة ثانية وكظم الغيظ حبسه وكتمه مع القدرة على إمضائه والغيظ : هيجان الطبع عند رؤية ما ينكر والفرق بينه وبين الغضب على ما قيل أن الغضب يتبعه إرادة الانتقام ألبتة ولا كذلك الغيظ والغيظ أصل الغضب وكثيرا ما يتلازمان.
وكظم الغيظ من أجمل الأخلاق وأنبلها وأحبها إلى الله.
وفي الحديث الشريف : " من كظم غيظا وهو قادر على أن ينفذه ملأ الله جوفه أمنا وإيمانا " ٨٩.
وعبر في الصفة الأولى بالفعل المضارع ينفقون قصد الإرادة أن يجحدوا الإنفاق من آن لآخر.
وعبر بالكاظمين وهو اسم فاعل : لقصد الثبات والاستمرار على ضبط النفس.
﴿ والعافين عن الناس ﴾
هذه صفة ثالثة جاءت على اسم الفاعل للدلالة على الثبات والدوام أيضا.
والعفو : ترك عقوبة من يستحق العقوبة من الناس لذنب جناه وهو أكمل من كظم الغيظ لان الغيظ مجرد ضبط النفس ولا يلزمه الإغضاء عن الإساءة.
أما العفو فيقتضي تناسي الإساءة واعتبارها كأن لم تكن.
وفي الحديث الصحيح : ".. وما زاد الله عبدا بعفو إلا عزا " ٩٠
﴿ والله يحب المحسنين ﴾
أي كل المحسنين ويدخل فيهم من تقدم ذكرهم.
والحب : ميل القلب إلى المحبوب.
والمراد به في الآية ما يلزم عنه من الثواب والرضوان.
والمعنى : أن الله يرضى عن المحسنين جميعا ويجازيهم على إحسانهم أحسن الجزاء.
والإحسان يشمل : اتقاء العمل والإتيان به على الوجه الأكمل.
ومنه قول الرسول صلى الله عليه وسلم وقد سئل عن الإحسان :
" أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك " ٩١.
ويشكل أيضا : إيصال النفع إلى الغير ودفع الضرر عنه.
ولا يكمل الإحسان حتى يكون خالصا لوجه الله : لا ينتظر المحسن مكافاة عليه ولا يكون مكافاة على إحسان سابق وصل إليه.
وفي الحديث الشريف : " ليس الواصل بالمكافئ " ٩٢ والمراد بالواصل : المحسن.
وقال الثوري : الإحسان : أن تحسن إلى من أساء إليك فأما من أحسن إليك فإنه متاجرة كنقد السوق خذ مني وهات.
ولمكانة الإحسان عند الله أثاب عليه بأعلى أنواع الثواب وهو محبته سبحانه وتعالى كما قال في ختام الآية : والله يحب المحسنين.
المفردات :
فاحشة : الفاحشة كل ما عظم قبحه من الذنوب.
يصروا : يقيموا.
التفسير :
هذه هي الصفة الرابعة من صفات المتقين عطفت على ما قبلها وقوله تعالى :﴿ والله يحب المحسنين ﴾ جملة متوسطة بين المعطوف والمعطوف عليه : مشيرة إلى ما بينها من التفاوت في الفضل فإن درجة الأولين من التقوى أعلى وحظهم أوفى.
ويجوز ان يكون :﴿ والذين إذا فعلوا فاحشة ﴾ معطوف على ﴿ الذين ينفقون في السراء والضراء ﴾ فكأنه لما ذكر الصنف الأعلى من المتقين وهم : المتصفون بتلك الأوصاف الجميلة ذكر من دونهم فقال :﴿ والذين إذا فعلوا فاحشة ﴾.
أي أتوا بمعصية تفاقم قبحها وعظم شرها وخطرها.
﴿ أو ظلموا أنفسهم ﴾.
أي جنوا على أنفسهم بارتكاب أي ذنب من الذنوب الكبائر او الصغائر.
﴿ ذكر الله ﴾
أي تذكروا عظمته وجلاله وحقه في ان يعبد ولا يعصى وانه الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات.
فاستغفروا لذنوبهم. عقب تذكرهم لله.
والمراد بالاستغفار : الإقلاع عن الذنب والندم على فعله والعزم على عدم معاودته ورد المظالم لأصحابها.
أما التوبة بمجرد اللسان توبة الكاذبين.
وفي مثل هذه التوبة الكاذبة يقول بعض العارفين : استغفارنا هذا يحتاج إلى استغفار.
﴿ ومن يغفر الذنوب إلا الله ﴾
أي لا احد يقبل توبة التائبين ويعفو عن العاصين غيره سبحانه.
وفي هذا دعوة إلى الالتجاء إليه وطلب عفوه ومغفرته لانه لا ملجأ ولا منجي منه إلا إليه ولا حيلة للمذنب إلا طلب فضله سبحانه والتماس رحمته.
﴿ ولم يصروا على ما فعلوا ﴾ هذا عطف على ﴿ فاستغفروا لذنوبهم ﴾.
وجملة :﴿ ومن يغفر الذنوب إلا الله ﴾. متوسطة بين المتعاطفين.
ومعنى :﴿ ولم يصروا على ما فعلوا ﴾ أنهم لا يقيمون على معصية من المعاصي كبيرة كانت أم صغيرة بل يرجعون إلى الله ويتوبون إليه من قريب.
وهم يعلمون : أن من تاب الله عليه وان إقامتهم على الذنب ولو كان صغيرا قبح لا يليق بمؤمن لان الصغيرة لا تبقى صغيرة مع الإصرار كما الإصرار على الذنب يتنافى مع الاستغفار.
قال صلى الله عليه وسلم : " ما أصر من استغفر " ٩٣.
أولئك : أي الموصوفون بما تقدم من الصفات.
﴿ جزاؤهم مغفرة من ربهم ﴾ أي جزاؤهم على هذه الصفات التي تحلوا بها : ستر خطاياهم وعدم مؤاخذتهم عليها.
﴿ وجنات تجري من تحتها الأنهار ﴾ أي تجري من تحت قصورها الأنهار المختلفة التي ذكرها الله في قوله :
{ مثل الجنة التي وعد المتقون فيها انهار من ماء غير آسن وأنهار من لبن لم يتغير طعمه وانهار من خمر لذة للشاربين وانهار من عسل مصفى.. ( محمد ١٥ ).
وهذه الجنات ضمن تلك الجنة : التي اخبر سبحانه ان عرضها السموات والأرض.
خالدين فيها أي ماكثين فيها لا يخرجون منها أبدا كما قال سبحانه :﴿ وما هم منها بمخرجين ﴾ ( الحجر ٤٨ ).
﴿ ونعم اجر العاملين ﴾ ذلك المذكور من المغفرة والجنات.
المفردات :
خلت : مضت :
سنن : السنن والطرائق والمراد منها عقوبات الأمم المكذبة.
التفسير :
١٣٧- ﴿ قد خلت من قبلكم سنن فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين ﴾
يشبه ان تكون هذه الآيات في التعقيب على غزوة أحد ولعل إنسانا يتساءل عن سر هزيمة المؤمنين أو تعرضهم للبلاء وعن سر انتصار الكفار أو حصولهم على المال والغنى والسلطان في هذه الدنيا فبين سبحانه في هذه الآية ما يجيب على التساؤل :
والمراد بالسنن هنا : وقائع في الأمم المكذبة أجراها الله تعالى على حسب عادته وهي الإهلاك والدمار بسبب كفرهم وفسوقهم عن أمره.
والمعنى : انه قد مضت من قبل زمانكم طرائق سنها الله تعالى فالحق يصارع الباطل وينتصر أحدهما على الآخر بما سنه سبحانه من سنة النصر والهزيمة.
وقد جرت سننه في خلقه أن يجعل العاقبة للمؤمنين الصادقين وان يملى للكافرين ثم يأخذهم أخذ عزيز مقتدر فإن كنتم في شك من ذلك :﴿ فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين ﴾
أي فسيروا في الأرض متأملين متبصرين فسترون الحال السيئة التي انتهى إليها المكذبون من تخريب ديارهم وبقايا آثارهم.
قالوا ليس المراد بقوله فسيروا في الأرض الأمر بذلك لا محالة بل المقصود تعرف أحوالهم فإن حصلت هذه المعرفة بغير المسير في الأرض كان المقصود حاصلا٩٤.
﴿ فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين ﴾.
المقصود بهذا التعبير تصوير حالة هؤلاء المكذبين التي تدعو إلى العجب وتثير الاستغراب وتغرس الاعتبار والاتعاظ في قلوب المتأملين.
لان هؤلاء المكذبين مكن الله لهم في الأرض ومنحهم الكثير من نعمه ولكنهم لم يشكروه عليها فأهلكهم الله بسبب طغيانهم.
فهذه الآية وأشباهها من الآيات تدعو الناس إلى الاعتبار بأحوال من سبقوهم وإلى الاتعاظ بأيام الله وبالتاريخ وما فيه من أحداث وبالآثار التي تركها السابقون فإنها دليل واضح وشاهد يتحدث كما قال الشاعر :
تلك آثارنا تدل علينا | فانظروا بعدنا إلى الآثار |
المفردات :
موعظة : الموعظة التذكير بما يرقق القلب من : مرغبات في الطاعة ومنفرات عن المعصية.
التفسير :
اختار الطبري وبعض المفسرين ان تكون الإشارة في هذه الآية راجعة إلى ما تقدم ذكره من بيان سنن الله وقوانينه في النصر والهزيمة والمعنى : هذا الذي أوضحت لكم وعرفتكم به من أخبار هلاك الأمم السابقة فيه بيان للناس من العمي وهدى من الضلالة وموعظة للمتقين٩٥.
أما ابن كثير فذهب إلى أن اسم الإشارة يعود إلى القرآن الكريم فقال :
هذا بيان للناس يعني القرآن فيه بيان الأمور على جليتها.
﴿ وهدى وموعظة للمتقين ﴾ يعني القرآن فيه خبر ما قبلكم وهدى لقلوبكم.
وموعظة. أي زاجر عن المحارم والمآثم٩٦.
للمتقين. الذين طلبوا الحق وسلكوا طريقه.
وقد رجح الأستاذ سيد قطب ان المراد بهذه الآية هو القرآن الكريم فيقول :
والسنن التي يشير إليها السياق في الآية السابقة هي :
عاقبة المكذبين على مدار التاريخ ومداولة الأيام بين الناس حتى لا تدوم على حال والابتلاء لتمحيص السرائر وامتحان مدى الصبر على الشدائد واستحقاق النصر والمحق للكافرين " إن القرآن ليربط ماضي البشرية بحاضرها وحاضرها بماضيها.. وهؤلاء العرب الذين وجه إليهم القول اول مرة لم تكن حياتهم ولم تكن معارفهم قبل القرآن لتسمح لهم بمثل هذه النظرة الشاملة لولا هذا القرآن الذي أنشأهم به الله نشأة أخرى وخلق به منهم أمة تقود الدنيا إن النظام بين سكان هذه الأرض فضلا عن الربط بين السنن التي تجري وفقها الحياة جميعا... فها هو ذا القرآن ينقلهم من عزلة القبيلة وارتجال الفكرة إلى رابطة البشرية واطراد السنة وهي نقلة بعيدة لم تنبع من عوامل البيئة إنما حملتها إليهم هذه العقيدة بل حملتهم إليها وارتفعت بهم إلى مستواها في نصف جيل على حين أن غيرهم من معاصريهم لم يرتفعوا إلى هذا الأفق من التفكير إلا بعد قرون وقرون.
﴿ هذا بيان للناس وهدى وموعظة للمتقين ﴾
أجل هذا بيان للناس، للناس كافة فهو نقلة بشرية بعيدة ما كانوا ببالغيها لولا هذا البيان الهادي الذي لا يهتدي به ولا يتعظ إلا الذين تفتحت أرواحهم وأرهفت مداركهم بذلك الشعور العميق الهادي المنير : شعور التقوى في نفوس المتقين٩٧.
المفردات :
تهنوا : تضعفوا.
الأعلون : المتفوقون بالدين الظاهرون على العدو.
التفسير :
( الوهن ) هو الضعف واصله ضعف الذات قال تعالى حكاية عن زكريا : قال رب إني وهن العظم مني... ( مريم٤ ). أي ضعف جسمي وهو هنا مجاز عن خور العزيمة وضعف الإرادة وانقلاب الرجاء يأسا والشجاعة جبنا واليقين شكا ولذلك نهوا عنه.
والحزن ألم نفسي يصيب الإنسان عند فقد ما يحب أو عدم إدراكه او عند نزول أمر يجعل النفس في هم وقلق.
والقرآن هنا يأسو جراحهم ويمسح أحزانهم ويبعث في نفوسهم القوة والعزيمة والأمل والرجاء فيقول لهم :
لا تضعفوا ولا تجبنوا ولا تيأسوا من رحمة الله وفضله ولا تحزنوا لما أصابكم من جراح وآلام وقتلى.
وانتم الأعلون. عقيدتكم أعلى من عقيدتهم ومكانكم في الأرض أعلى فلكم وراثة الأرض التي وعدكم الله.
﴿ إن كنتم مؤمنين ﴾ جملة شرطية وجواب الشرط محذوف دل عليه ما قبله.
أي إن كنتم مؤمنين حقا فلا تهنوا ولا تحزبوا بل اعتبروا بمن سبقكم ولا تعودوا لما وقعتم فيه من أخطاء فإن الإيمان يوجب قوة القلب وصدق العزيمة والصمود في وجه الأعداء والإصرار على قتالهم حتى تكون كلمة الله هي العليا.
المفردات :
مس : المس الإصابة.
قرح : القرح الجرح أو ألمه.
نداولها : نجعلها متبادلة فنجعل الغلبة لهؤلاء مرة ولهؤلاء مرة أخرى.
التفسير :
القرح بالفتح والضم الجراح والآلام.
والمعنى :
إن تكونوا أيها المؤمنون قد أصابتكم الجراح من المشركين في غزوة أحد فأنتم قد أنزلتم بهم من الجراح في غزوة بدر مثل ما أنزلوا بكم في أحد ومع ذلك فإنهم بعد بدر قد عادوا لقتالكم فانتم أولى أن تتماسكوا بسبب إيمانكم ويقينكم وقيل إن المعنى : إن كانت قد أصابتكم الجراح في أحد فقد أصيب القوم بجراح مثلها في المعركة ذاتها.
قال الزمخشري : والمعنى إن نالوا منكم يوم احد فقد نلتم منهم قبله يوم بدر ثم لم يضعف ذلك قلوبهم ولم يثبطهم عن معاودتكم بالقتال فأنتم أولى ألا تضعفوا ونحوه ﴿ ولا تهنوا في ابتغاء القوم إن تكونوا تألمون فإنهم يألمون كما تألمون وتجرحون من الله ما لا يجرحون وكان الله عليما حكيما ﴾ ( النساء ١٠٤ ).
وقيل : كان ذلك يوم احد فقد نالوا منهم قبل ان يخالفوا أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم٩٨.
﴿ وتلك الأيام نداولها بين الناس ﴾
نداولها من المداولة وهي نقل الشيء من واحد إلى آخر.
والمعنى : إن الدنيا هي دول بين الناس لا يدوم سرورها ولا غمها لأحد ومن أمثال العرب : الحرب سجال والأيام دول.
إن الشدة بعد الرخاء والرخاء بعد الشدة هما اللذان يكشفان عن معادن النفوس فيتبين المؤمنون ويمتازون من المنافقين المستورين.
﴿ وليعلم الله الذين آمنوا ﴾
والله يعلم هؤلاء وهؤلاء ولكن انكشافهم يجعل هذا العلم متعلقا بأعمالهم بعد ان كان متعلقا بنواياهم والإسلام يعتبر العمل دائما ويحاسب عليه فهو هنا يجري على قانونه.
ومداولة الأيام وتوالي الشدة والرخاء وسيلة عملية لا تخطئ ومحك صادق لا يظلم والرخاء في هذا كالشدة فكم من نفوس تصبر للشدة وتتماسك ولكنها تتراخى بالرخاء وتنحل والنفس المؤمنة حقا تصبر للضراء ولا تستخفها السراء ويقينها أن ما أصابها من خير أو شر فبإذن الله.
جاء في التفسير الوسيط :
﴿ وليعلم الله الذين آمنوا ﴾
أي وتلك الأيام نداولها بين الناس لوجوه من المصالح وضروب من الحكم وليعلم الله المؤمنين المتميزين علما مقترنا بالواقع.
والمراد بالعلم هنا : العلم التنجيزي بالواقع وهذا لا ينافي علمه بهم قديما والمقصود أن يبرز في الواقع ما سبق في علمه عنهم قديما من تمييزهم بإيمانهم عن سواهم ليجزي كل بما عمل لا بما علمه الله أزلا في شأنه٩٩ وذلك هو المقصود بقوله تعالى :{ ما كان الله ليذر المؤمنين على ما انتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب ( آل عمران ١٧٩ ).
ويتخذ منكم شهداء. بيان لحكمة أخرى من مداولة الأيام بين الناس والشهداء جمع شهيد أي وليختار أناسا منكم يكرمهم بالشهادة في الدفاع عن الدين قال القرطبي : ويتخذ منكم شهداء أي يكرمهم بالشهادة أي ليقتل قوما منكم فيكونوا شهداء على الناس بأعمالهم.
وهو تعبير عجيب عن معنى عميق إن الشهداء المختارين يختارهم الله من بين المجاهدين ويجعلهم كذلك شهداء على الناس قال تعالى :﴿ إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة. ( التوبة ١١١ ). وجميع المؤمنين الصادقين سيكونون شهداء على الأمم السابقة يوم القيامة كما قال تعالى :{ وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا ﴾ البقرة ١٤٣ ).
﴿ والله لا يحب الظالمين ﴾ أي والله لا يحب الذين ظلموا أنفسهم بسبب كفرهم ونفاقهم وتخاذلهم عن نصرة الحق وإنما يحب المؤمنين الثائبين على الحق والمجاهدين بأنفسهم وأموالهم في سبيل إعلاء دين الله ونصرة شريعته.
المفردات :
وليمحص : ولينقي ويخلص.
ويمحق : يسحق ويهلك.
التفسير :
التمحيص : الاختبار والابتلاء والتطهير والمعنى ولقد فعل سبحانه ما فعل في غزوة احد لكي يظهر المؤمنين ويصفيهم من الذنوب ويخلصهم من المنافقين المندسين ولكي يهلك الكافرين ويمحقهم بسبب بغيهم ويطردهم.
فالآيات قد ذكرت أربع حكم لما حدث للمؤمنين في غزوة أحد وهي تحقق علم الله وإظهاره للمؤمنين وإكرام بعضهم بالشهادة وتطهير المؤمنين وتخليصهم من ذنوبهم ومن المنافقين ومحق الكافرين واستئصالهم رويدا رويدا.
أم : هنا أفادت الانتقال من الكلام السابق إلى الكلام اللاحق واستعباد أن يظنوا دخول الجنة بدون جهاد وصبر عليه.
والمعنى : بل أظننتم ان تدخلوا الجنة ولما يتحقق جهاد المجاهدين منكم وصبر الصابرين عليه فيعلم الله ذلك واقعا دالا على صدق الإيمان مستتبعا لدخول الجنان...
وكلمة لما : وإن أفادت نفي ما بعدها من الجهاد والصبر ولكنها تفيد توقع حصولها منهم وقد وقعا فعلا في الغزوات التي تلت احد١٠٠.
قال الطبري : المعنى : أظننتم يا معشر أصحاب محمد أن تنالوا كرامة ربكم ولما يتبين لعبادي المؤمنين المجاهدين منكم في سبيل الله والصابرون عند البأس على ما ينالهم في ذات الله من ألم ومكروه١٠١.
ويصح أيضا أن يكون العلم هنا بمعنى التمييز ويكون المعنى أم حسبتم أن تدخلوا الجنة جميعا ولما يميز الله المجاهدين منكم والصابرين من غيرهم١٠٢.
والآية الكريمة تشير إلى أن الطريق إلى الجنة ليس سهلا يسلكه كل إنسان وإنما هو طريق محفوف بالمكاره والشدائد ولا يصل إلى غايته إلا الذين جاهدوا وصبروا وصابروا١٠٣.
وجاء في تفسير المنار : والجهاد هنا أعم من الحرب للدفع عن الدين وأهله وإعلاء كلمته ومن الجهاد جهاد النفس الذي روى عن السلف التعبير عنه بالجهاد الأكبر ومن أمثلته مجاهدة الإنسان لشهواته ولاسيما في سن الشباب وجهاده بماله وما يبتلي به من مدافعة الباطل ونصرة الحق.
قال الإمام محمد عبده :.. إن لله في كل نعمة عليك حقا وللناس عليك حقا وأداء هذه الحقوق يشق على النفس فلابد من جهادها يسهل عليها آداؤها وربما يفضل بعض جهاد النفس جهاد الأعداء في الحب فإن الإنسان إذا أراد أن يبث فكرة صالحة في الناس أو يدعوهم إلى خيرهم من إقامة سنة أو مقاومة بدعة أو النهوض بمصلحة فإنه يجد أمامه من الناس من يقاومه ويؤذيه إيذاء قلما يصبر عليه احد وناهيك بالتصدي لإصلاح عقائد العامة وعادتهم وما الخاصة في ضلالهم إلا أصعب مراسا من العامة.
المفردات :
تمنون : أي ترغبون.
الموت : المراد به هنا القتال وقيل وهو على حقيقته طلبا للشهادة.
تلقوه : أي تلقوا سببه وهو القتال.
رأيتموه : أي رأيتم الموت برؤية من يموت في الحرب.
التفسير :
١٤٣- ﴿ ولقد كنتم تمنون الموت من قبل أن تلقوه.. ﴾ الآية
هذا الخطاب من الله تعالى عاتب فيه الذين ألحوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم في الخروج من المدينة إلى احد للقاء المشركين الذين نزلوا عنده قادمين من مكة لقتال المسلمين انتقاما ليوم بدر.
ولما التقى الجمعان انهزم فريق منهم ولم يثبتوا أمام المشركين وكان هؤلاء هم الذين ألحوا في الخروج ممن لم يشهدوا بدرا وتمنوا أن يحضروا مع النبي صلى الله عليه وسلم لينالوا به شرف الشهادة إن ماتوا أو أجر الجهاد وكرامة المجاهدين إن رجعوا كأصحاب بدر.
وقد عرف مما جاء في غزوة أحد : أن النبي صلى الله عليه وسلم كان أول الأمر يميل إلى البقاء في المدينة حتى إذا هاجمها كفار مكة صدهم المسلمون متحصنين بها.. الرجال يضربونهم بالسيوف والسهام والنساء والصبيان يقذفونهم بالحجارة وبكل ما تصل إليهم أيديهم لولا موقف الملحين.
والمعنى : ولقد كنتم تحبون الموت في سبيل الله وترغبون في الشهادة من قبل أن تلقوه وانتم بالمدينة.
﴿ فقد رأيتموه وانتم تنظرون ﴾ أي فقد تحققت أمنيتكم إذ استجاب الرسول صلى الله عليه وسلم لرغبتكم وأذن لكم بلقاء عدوكم فرأيتم الموت الذي تمنيتموه حين سقط شهداؤكم.
﴿ وانتم تنظرون ﴾ فما بالكم لم تثبتوا في قتال عدوكم ولو صبرتم لما هزمتم.
المفردات :
خلت : مضت.
ومن ينقلب على عقبيه : من يرتد عن دينه أو ينهزم.
التفسير :
لما التقى الجمعان في أحد ظهر المسلمون على المشركين في أول اللقاء وجعلوا يتعقبوهم ويجمعون الغنائم في إثرهم ولكن الرماة الذين أمرهم الرسول بحماية ظهور المسلمين منتصرين على المشركين : يتعقبونهم ويجمعون غنائمهم فتركوا أماكنهم ليشاركوا إخوانهم في جمع الغنائم مخالفين أمر الرسول فيما فعلوا فانتبه المشركون لما فعل الرماة فاحتلوا مكانهم فوق الجبل وجعلوا ينضحون المسلمين بالنبل واستطاعوا بذلك أن ينالوا من المسلمين حتى رمي ابن قميئة الرسول عليه السلام بحجر فشج رأسه وكسر رباعيته ثم أقبل يريد قتله، فدافع عن النبي صلى الله عليه وسلم مصعب بن عمير فقتله ابن قميئة – وهو يرى أنه قتل رسول الله – فصاح قائلا. قتلت محمدا وصرخ بها صارخ فسمع المسلمون فسرى الوهن في نفوس كثير منهم حتى قال بعض المستضعفين : ليت عبد الله بن أبي يأخذ لنا أمانا من أبي سفيان.
وقال ناس من المنافقين : لو كان نبيا حقا لما قتل.. ارجعوا إلى إخوانكم وإلى دينكم.
والتقى انس بن النضر بالمنهزمين من المسلمين فقال : يا قوم إن كان محمد قتل فإن رب محمد حي لا يموت فقاتلوا على ما قاتل عليه وموتوا كراما على ما مات عليه.
وشاء الله أن يحفظ رسوله لامته وان يظهر كذب ابن قميئة.
فنادي رسول الله صلى الله عليه وسلم : إلى عباد الله وكان حوله حينئذ أبو بكر وعمر وعلي وطلحة بن عبيد الله وجماعة من المسلمين فأقبل المنهزمون بعد ما سمعوا صوته عليه السلام فأنزل الله عتابا للمنهزمين : " وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل… إلى نهاية الآية فآتاهم الله ثواب الدنيا وحسن ثواب الآخرة والله يحب المحسنين ( آل عمران ١٤٨ ).
والمعنى وما محمد إلا رسول كسائر من مضى قبله من الرسل مهمته التبليغ وإلزام الحجة وسيمضي إلى ربه كسائر من مضى من الأنبياء { سنة الله في الذين خلوا من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلا ( الأحزاب ٦٢ )
{ إنك ميت وإنهم ميتون ( الزمر ٣٠ ).
﴿ أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ﴾
أي توليتم مدبرين من القتال منهزمين أمام الكفار أو ارتددتم عن دينكم كما وقع من بعض المنافقين.
وعلى كل : فالمراد أنه لا ينبغي أن تجعلوا وفاة الرسول بموت أو قتل سببا في توليكم منهزمين عن قتال الكفار وجهادهم واستبعادا لقتله فقد مضى من قبله أمثاله من الرسل وما كان موتهم أو قتلهم سببا في ارتداد أتباعهم عن دينهم ولا في تخليهم عن جهاد أعدائهم.
ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا. هذا وعيد من الله لكل من تهتز عقيدته أو يفر من المعركة أمام أعداء الإسلام.
والمعنى : ومن يدبر عن دينه لأي سبب أو ينهزم أمام الكافرين ولا يستبسل في الدفاع عن دينه ووطنه فلن يضر الله بما فعل من تولية مدبرا شيئا أي أقل ضرر وإنما يضر نفسه بتعرضها لسخط الله وازدراء الناس له كما يضر قومه فإن الله سبحانه وتعالى لا تنفعه طاعة الطائعين ولا تضره معصية العاصين.
﴿ وسيجزي الله الشاكرين ﴾ أي وسيجزي الله من شكروه بصبرهم على دينهم ولقاء عدوهم جزاء يليق بكرمه ومن ذلك النصر على الأعداء وحسن ثواب الآخرة.
والتعبير بقوله : وسيجزي الله الشاكرين يفيد ان جزاؤهم متوقع قريبا فإن السين للتقريب وقد حقق الله وعده ونصرهم فيما استقبلوه من غزوات وما عند الله في الآخرة أعظم وأكرم.
المفردات :
بإذن الله : أمره وقضائه.
مؤجلا : مؤقتا بوقت معلوم.
التفسير :
١٤٥- ﴿ وما كان لنفس ان تموت إلا بإذن الله كتابا مؤجلا ومن يرد ثواب الدنيا نؤته منها ومن يرد ثواب الآخرة نؤته منها وسنجزي الشاكرين ﴾.
الحياة بيد الله والموت بيد الله وفي الآية تعريض بمن خارت قواهم يوم أحد وضعفت عزائمهم وانكسرت نفوسهم حين أشيع أن النبي قد مات فبين القرآن أن النبي بشر يبلغ عن الله الرسالة ويؤدي الأمانة ويدركه الموت.
قال ابن كثير :﴿ وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله ﴾١٠٤ أي لا يموت أحد إلا بقدر الله وحتى لا يستوفي المدة التي ضربها الله له ولهذا قال : كتابا مؤجلا كقوله : وما يعمر من معمر ولا ينقص من عمره إلا في كتاب ( فاطر ١١ ) وكقوله { هو الذي خلقكم من طين ثم قضى أجلا مسمى عنده ( الأنعام : ٢ )
وهذه الآية فيها تشجيع للجبناء وترغيب لهم في القتال، فإن الإقدام لا ينقص من العمر والإحجام لا يزيد فيه، كما قال ابن أبي حاتم عن حبيب ابن ظبيان : قال رجل من المسلمين وهو ( حجر بن عدي ) : ما يمنعكم ان تعبروا إلى هؤلاء العدو هذه النطفة يعني دجلة ﴿ وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله كتابا مؤجلا ﴾ ثم أقحم فرسه دحلة فلما أقحم الناس ورآهم العدو قالوا : ديوان.. فهربوا.
كتابا مؤجلا. أي كتب لكل نفس أجلها كتابا مؤقتا بوقت معلوم لا يتقدم ولا يتأخر، والغرض تحريضهم على الجهاد وترغيبهم في لقاء العدو، فالجبن لا يزيد في الحياة والشجاعة لا تنقص منها، والحذر لا يدفع القدر، والإنسان لا يموت قبل بلوغ أجله وإن خاض المهالك واقتحم المعارك.
{ ومن يرد ثواب الدنيا نؤته منها. أي من أراد بعمله أجر الدنيا أعطيناه منها، وليس له في الآخرة من نصيب.
وفيها تعريض بما خالفوا وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم من الرماة الذين تركوا أماكنهم جريا وراء الغنائم فلم يحصلوا منها شيئا بل فقدوها وفقدوا أرواحهم وعزتهم وكرامتهم، وكان فعلهم هذا من أسباب هزيمة المسلمين في غزوة احد.
وحصول الدنيا للإنسان ليس بموضع غبطة، لأنها مبذولة للبر والفاجر.
قال تعالى :{ من كان يريد حرث الآخرة نزد له في حرثه ومن كان يريد حرث الدنيا نؤته منها وما له في الآخرة من نصيب ( الشورى ٢٠ ).
{ ومن يرد ثواب الدنيا نؤته منها. ومن يرد بعلمه وجهاده ثواب الآخرة وما ادخره الله فيها لعباده المتقين من أجر جزيل، أعطيناه الأجر كاملا مع ما قسمنا له في الدنيا.
وسنجزي الشاكرين. أي سنعطيهم من فضلنا ورحمتنا في الدنيا والآخرة بحسب شكرهم وعملهم.
جاء في تفسير المنار : ولا تنسين التقاليد الشائعة قارئ هذه الآيات عن سنن الله التي أثبتها في كتابه فيظن أن عطاءه تعالى وتفضيله لبعض الناس على بعض يكون جزافا، بل الإرادة تجري على السنن التي اقتضتها الحكمة ﴿ وكل شيء عنده بمقدار. ﴾ ( الرعد ٨ ). ولإرادة الإنسان دخل في تلك السنن والمقادير ولذلك قال : من كان يريد. ومن أراد. فاعرف قيمة إرادتك واعرف قبل ذلك قيمة نفسك فلا تجعلها كنفوس الحشرات التي تعيش زمنا محدودا ثم كأن لم تكن شيئا مذكورا١٠٥.
***
الإرادة تصغر الكبير، وتكبر الصغير، وترفع الوضيع وتضع الرفيع، وبها تتسع دائرة وجود الشخص، حتى تحيط بكرة الأرض، بل تكون أكبر من ذلك بما يتبوأ منازل الكرامة في عالم العقول والأرواح وإذا كان يريد بعلمه دار البقاء فإن وجوده يكون كبيرا بحسب كبر إرادته وواسعا بسعة مقصده وبذلك تعلو نفسه على نفوس من أخذوا إلى الشهوات وكان حظهم من علمهم كحظ الحشرات وغيرها من الحيوات : أكل وشرب وفساد وبغي من القوي على الضعيف ١٠٦
وهذه الآية الكريمة : يجوز ان تكون خاصة بأهل أحد وأن تكون عامة لهم ولغيرهم وهو أرجح فإنها من القواعد العامة في الدين.
وفي ختام تفسير هذه الآيات الكريمة يمكن ان نستخلص منها الحقائق الآتية :
١- محمد صلى الله عليه وسلم بشر من البشر وسيموت كما يموت سائر البشر.
٢- رسالة محمد صلى الله عليه وسلم عالمية خالدة لا تموت بموته وعلى أتباعه أن يحملوا عبء تبليغ الإسلام رسالة الله إلى البشر.
٣- الآجال بيد الله والحذر لا يمنع القدر ولن يموت إنسان قبل انتهاء أجله فلا داعي للجبن والتخاذل فالجهاد فريضة والشهيد يبلغ أرفع مراتب الجنات.
الحق له رجاله على مر التاريخ وكثير من الربانيين جاهدوا مع أنبيائهم وتحملوا تبعات الإيمان في ثبات وصدق ودعاء صادق لله وقد حقق الله لهم الرجاء فأعطاهم النصر في الدنيا والجنة في الآخرة.
المفردات :
وكأين من نبي : وكثير من الأنبياء.
ربيون : منسوبون إلى الرب بالتقوى والصلاح مفرده ربي.
وهنوا : الوهن شدة الضعف في القلب.
استكانوا : ذلوا وخضعوا لما يريد بهم عدوهم.
التفسير :
إن كثير من النبيين الذين خلوا قاتل معهم كثير من المؤمنين بهم المنتسبين إلى الرب تعالى في وجهة قلوبهم وفي أعمالهم، المعتقدين أن النبيين والمرسلين هداة ومعلمون، لا أرباب معبودون.
﴿ فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله ﴾ أي ما ضعف مجموعهم بما أصاب بعضهم من الجرح وبعضهم من القتل وإن كان المقتول هم النبي نفسه لأنهم يقاتلون في سبيل الله وهو ربهم لا في سبيل شخص نبيهم.
وما ضعفوا. عن الجهاد.
وما استكانوا. أي ما ذلوا ولاخضعوا لعدوهم.
قال قتادة : وما ضعفوا. أي : وما تضعضعوا لقتل نبيهم وما استكانوا. أي ما ارتدوا عن نصرتهم ولا دينهم ١٠٧.
***
والله يحب الصابرين. أي يحب الصابرين على مقاساة الشدائد والأهوال في سبيل الله.
جاء في ظلال القرآن :
( كم من نبي قاتل معه أبرار أتقياء كثيرون فما ضعفت نفوسهم لما أصابهم من البلاء والكرب والشدة والقتل والجراح وما ضعفت قواهم عن الاستمرار في الكفاح وما استسلموا للجزع ولا للأعداء... وهذا هو اللائق بالمؤمن التقي البار الذي يكافح عن عقيدة ويكافح في سبيل الله.
والله يحب الصابرين.
الذين لا تضعف نفوسهم ولا تتضعضع قواهم ولا تلين عزائمهم ولا يستكينون ولا يستسلمون للشدائد والأعداء١٠٨.
***
وتلحظ أن ترتيب الأوصاف جاء في نهاية الدقة بحسب حصولها في الخارج فإن الوهن الذي هو خور في العزيمة إذا تمكن من النفس أنتج الضعف الذي هو لون من الاستسلام والفشل ثم تكون بعدهما الاستكانة التي يكون معها الخضوع لكل مطالب الأعداء وإذا وصل الإنسان إلى هذه المرحلة في حياته كان الموت أكرم له من هذه الحياة.
وجاء في تفسير الكشاف :
( الربيون ) : هم الربانيون منسبون إلى الرب سبحانه وتعالى وقرئ بالحركات الثلاث فالفتح على القياس والضم والكسر من تغييرات النسب : ربيون وربُيون، وربيون والرَّبيون نسبة إلى الرب وزيادة الألف والنون فيه كزيادتها في جسماني.
وقال الزجاج : الربيون الجماعات الكثيرة واحدها ربي.
وفي ختام تفسير هذه الآيات الكريمة يمكن ان نستخلص منها الحقائق الآتية :
١- محمد صلى الله عليه وسلم بشر من البشر وسيموت كما يموت سائر البشر.
٢- رسالة محمد صلى الله عليه وسلم عالمية خالدة لا تموت بموته وعلى أتباعه أن يحملوا عبء تبليغ الإسلام رسالة الله إلى البشر.
٣- الآجال بيد الله والحذر لا يمنع القدر ولن يموت إنسان قبل انتهاء أجله فلا داعي للجبن والتخاذل فالجهاد فريضة والشهيد يبلغ أرفع مراتب الجنات.
الحق له رجاله على مر التاريخ وكثير من الربانيين جاهدوا مع أنبيائهم وتحملوا تبعات الإيمان في ثبات وصدق ودعاء صادق لله وقد حقق الله لهم الرجاء فأعطاهم النصر في الدنيا والجنة في الآخرة.
المفردات :
وإسرافنا في أمرنا : أي تجاوزنا الحد في ارتكاب الكبائر.
التفسير :
ما كان قولهم في حال الشدة وملاقاة الأعداء مع ثباتهم وقوتهم في الدين إلا طلب المغفرة من الله.
وإسرافنا في أمرنا. أي وتفريطنا وتقصيرنا في واجب طاعتك.
وثبت أقدامنا. أي ثبتنا في مواطن الحرب وثبتنا على الصراط المستقيم حتى لا تزحزحنا الفتن.
﴿ وانصرنا على القوم الكافرين ﴾ بك، الجاحدين لآياتك، المعتدين على أهل دينك.
***
والدعاء هنا يعبر عن قلب خاشع ويقين صادق ورجاء مخلص في غفران الذنوب وتثبيت الأقدام والنصر على القوم الكافرين.
قال الزمخشري في الكشاف :
وقوله : وما كان قولهم١٠٩... إلخ. هذا القول وهو إضافة الذنوب والإسراف إلى أنفسهم مع كونهم ربانيين هضما لها واستقصارا والدعاء بالاستغفار منها مقدما على طلب تثبيت الأقدام في مواطن الحرب والنصرة على العدو ليكون طلبهم إلى ربهم عن زكاة وخضوع هو أقرب إلى الاستجابة.
وفي ختام تفسير هذه الآيات الكريمة يمكن ان نستخلص منها الحقائق الآتية :
١- محمد صلى الله عليه وسلم بشر من البشر وسيموت كما يموت سائر البشر.
٢- رسالة محمد صلى الله عليه وسلم عالمية خالدة لا تموت بموته وعلى أتباعه أن يحملوا عبء تبليغ الإسلام رسالة الله إلى البشر.
٣- الآجال بيد الله والحذر لا يمنع القدر ولن يموت إنسان قبل انتهاء أجله فلا داعي للجبن والتخاذل فالجهاد فريضة والشهيد يبلغ أرفع مراتب الجنات.
الحق له رجاله على مر التاريخ وكثير من الربانيين جاهدوا مع أنبيائهم وتحملوا تبعات الإيمان في ثبات وصدق ودعاء صادق لله وقد حقق الله لهم الرجاء فأعطاهم النصر في الدنيا والجنة في الآخرة.
والفاء هنا لترتيب ما بعدها على ما قبلها أي أن هؤلاء الربانيين الذين أخلصوا في الجهاد والدعاء أعطاهم الله أجر الدنيا من النصر والغنيمة وقهر الأعداء كما أعطاهم حسن ثواب الآخرة بأن منحهم رضوانه ورحمته ومثوبته والنعيم بدار كرامته وهو ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر.
قال الشيخ محمد عبده وخص الله ثواب الآخرة بالحسن لمزيد في تعظيم أمره وتنبيه على أنه ثواب لا يشوبه أذى فليس مثل ثواب الدنيا عرضة للشوائب والمنغصات.
وفي ختام تفسير هذه الآيات الكريمة يمكن ان نستخلص منها الحقائق الآتية :
١- محمد صلى الله عليه وسلم بشر من البشر وسيموت كما يموت سائر البشر.
٢- رسالة محمد صلى الله عليه وسلم عالمية خالدة لا تموت بموته وعلى أتباعه أن يحملوا عبء تبليغ الإسلام رسالة الله إلى البشر.
٣- الآجال بيد الله والحذر لا يمنع القدر ولن يموت إنسان قبل انتهاء أجله فلا داعي للجبن والتخاذل فالجهاد فريضة والشهيد يبلغ أرفع مراتب الجنات.
الحق له رجاله على مر التاريخ وكثير من الربانيين جاهدوا مع أنبيائهم وتحملوا تبعات الإيمان في ثبات وصدق ودعاء صادق لله وقد حقق الله لهم الرجاء فأعطاهم النصر في الدنيا والجنة في الآخرة.
المفردات :
يردوكم على أعقابكم : أي يردوكم إلى ما كنتم عليه في الجاهلية.
التفسير :
١٤٩- ﴿ يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا الذين كفروا يردوكم على أعقابكم فتنقلبوا خاسرين ﴾.
عندما عاد المسلمون من غزوة أحد ولم يكتب لهم فيها النصر حاولت جهات كثيرة أن تثبط عزيمتهم وأن تشككهم في الإسلام.
قال ابن عباس : هم المنافقون قالوا للمؤمنين لما رجعوا من أحد لو كان نبيا ما أصابه فارجعوا إلى إخوانكم واطلبوا الأمان منهم وادخلوا في دينهم وابعثوا فئة تطلب الأمان لكم من أبي سفيان رأس المشركين يومئذ.
***
وقيل : نزلت بسبب قول أهل الكتاب للمؤمنين : لو كان محمد نبيا حقا لما غلب ولما أصاب أصحابه ما أصابهم.
جاء في تفسير الألوسي :
والمراد من الذين كفروا : إما المنافقون لأنهم هم الذين قالوا للمؤمنين عند هزيمتهم في أحد ارجعوا إلى إخوانكم وادخلوا في دينهم.. وإما أبو سفيان وأصحابه فالمراد بإطاعتهم الاستكانة لهم وطلب الأمان منهم... وإما اليهود والنصارى لأنهم هم الذين كانوا يلقون الشبه في الدين ويقولون : لو كان محمد نبيا لما غلبه أعداؤه.. وإما سائر الكفار١١٠.
وخصوص السبب لا يمنع إرادة العموم من اللفظ.
قال القرطبي في التفسير :
يا أيها الذين آمنوا. يا أيها الذين صدقوا الله ورسوله في وعد الله ووعيده وأمره ونهيه ﴿ إن تطيعوا الذين كفروا ﴾. يعني الذين جحدوا نبوة نبيكم محمد صلى الله عليه وسلم من اليهود والنصارى فيما يأمرونكم به وفيما ينهونكم عنه فتقبلوا رأيهم ونصحهم.
يردوكم على أعقابكم. يحملوكم على الردة بعد الإيمان والكفر بالله وآياته وبرسوله.
فتنقلبوا خاسرين. فترجعوا عن إيمانكم ودينكم الذي هداكم الله له خاسرين هالكين قد خسرتم أنفسكم وضللتم عن دينكم وذهبت دنياكم واخرتكم١١١.
وتلتقي كتب التفسير هنا على أن الهزيمة الجزئية التي أصابت المسلمين في غزوة أحد كانت مجالا لطمع الطامعين ودسائس الكفارو المنافقين في المدينة ممن انتهزوا الفرصة ليثبطوا من عزائم المسلمين ويخوفوهم عاقبة السير مع محمد ويصوروا لهم مخاوف القتال وعواقب الجهاد لذلك نزل القرآن ينصح المؤمنين بالتماسك والتآزر والصمود والاستغناء بالإسلام وبالقرآن عن نصيحة الكافرين والمنافقين وهي قاعدة لا تختص بزمانها ولا مناسبتها بل تمتد في الزمان والمكان ما دام الإنسان.
ثم فتح القرآن لهم باب الأمل والرجاء وشدد من عزائمهم بتذكيرهم أن الله هو مولاهم وناصرهم وهو القوي الذي لا يخذل أولياءه.
بل الله ناصركم إن امتثلتم أمره واجتنبتم نهيه وأعددتم لعدوه ما استطعتم من قوة وكنتم كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضا.
جاء في تفسير المنار :
بل الله مولاكم. فلا ينبغي أن تفكروا في ولاية أبي سفيان وحزبه ولا عبد الله بن أبي وشيعته ولا أن تصغوا لإغواء من يدعونكم إلى موالاتهم فإنهم لا يستطيعون لكم نصرا ولا أنفسهم ينصرون وإنما الله هو المولى القادر على نصركم١١٢.
وهو خير الناصرين. أي هو سبحانه خير ناصر خير معين فلا تستنصروا بغيره.
المفردات :
ومأواهم : المأوى المكان الذي يرجعون إليه.
مثوى : مثوى الإنسان مكان إقامته الدائمة.
التفسير :
تبين هذه الآية سبيلا من سبل النصر التي يمنحها الله لعباده المؤمنين عندما يأخذون بالأسباب ويستحقون عناية السماء فعند الله جنود كثيرة وأسلحة متنوعة يساعد بها من يستحق المساعدة منها سلاح الريح أرسله على المشركين في غزوة الأحزاب ومنها سلاح الرعب ألقاه في نفوس المشركين في أعقاب معركة أحد حين عزموا أن يعودوا ليستأصلوا شأفة المسلمين فقذف الله الرعب في قلوبهم فانهزموا١١٣.
ومنها ما يشبه الصواريخ ألقاها على أصحاب الفيل فجعلهم كعصف مأكول أي هالكين كزرع أكلته الماشية ومن أسلحة الله الملائكة أنزلها على المسلمين يوم بدر وعند الله أسلحة كثيرة ﴿ وما يعلم جنود ربك إلا هو وما هي إلا ذكرى للبشر ﴾ ( المدثر ٣١ ).
والرعب : هو الخوف والفزع.
والسلطان : الحجة والبرهان.
والمعنى : سنملأ قلوب المشركين خوفا وفزعا بسبب إشراكهم مع الله آلهة أخرى ليس لهم حجة على صحة ألوهيتها، ومرجعهم الذي يرجعون إليه يوم القيامة هو النار، وساء هذا المثوى والمستقر للكافرين١١٤.
وهل هذه الآية خاصة بيوم أحد أو هي عامة في جميع الأزمان ذكر كثير من المفسرين أنها خاصة بيم أحد لأن سياق الكلام في غزوة أحد.
فالكفار في غزوة أحد قد انتصروا على المسلمين وهزموهم ثم ألقى الله الرعب في قلوبهم فتركوهم وفروا منهم من غير سبب وسار المشركون إلى مكة ( فلما كانوا في بعض الطريق قالوا ما صنعنا شيئا قتلنا الأكثرين منهم ثم تركناهم ونحن قادرون ارجعوا حتى نستأصلهم بالكلية فلما عزموا على ذلك ألقى الله الرعب في قلوبهم ) ١١٥.
وقال بعض المفسرين : الآية غير خاصة بيوم أحد بل هي عامة في كل معركة يتقابل فيها المؤمنون مع الكافرين فيحق الله الحق بكلماته ويقطع دابر الكافرين.
فالآية بيان لسنة إلهية عامة :
إذا كان المؤمنون يتمسكون بمطالب الإيمان ومقتضياته كالمؤمنين السابقين.
قال الإمام محمد عبده :
إذا كان المؤمنين يتمسكون بمطالب الإيمان ومقتضياته كالمؤمنين السابقين وإذا كان الكافرون قد جحدوا وعاندوا وكابروا الحق كما فعل الكافرون في عهد البعثة المحمدية١١٦.
وبهذا يندفع قول من يقول : ما بالنا نجد الرعب كثيرا ما يقع في قلوب المسلمين ولا يقع في قلوب الكافرين ؟ فإن الذين يسمون أنفسهم مسلمين قد يكونون على غير ما كان عليه أسلافهم من الثبات والصبر وبذل النفس والمال في سبيل الله وتمني الموت في الدفاع عن الحق فمعنى المؤمنين غير متحقق فيهم وإنما رعب المشركين مرتبط بإيمان المؤمنين وما يكون له من آثار فحال المسلمون اليوم لا يقع حجة على القرآن لأ ن أكثرهم قد انصرفوا عن الاجتماع على ما جاء به الإسلام من الحق.
فالقرآن باق على وعده ولكن هات لنا المؤمنين ولك من إنجاز وعد الله ما تشاء١١٧.
قال تعالى :{ وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم.. ( النور ٥٥ ).
المفردات :
تحسونهم : أصل معناه تبطلون حسهم والمراد : تستأصلونهم قتلا.
فشلتهم : جبنتم وضعف رأيكم وأصابكم الخور فهزمتم.
وتنازعتم : افترقت كلمتكم واختلفتم.
ليبتليكم : ليختبركم.
التفسير :
تحسونهم : أي تقتلونهم يقال حسسته أحسه أي قتلته وفي المختار إذ تحسونهم أي تستأصلونهم قتلا وفي حاشية الجمل : تحسونهم أي تقتلونهم قتلا كثيرا فاشيا من حسه إذا أبطل حسه.
وكان ذلك في مطلع المعركة حيث بدأ المسلمون يقتلون المشركين ويخمدون حسهم قبل أن يلهيهم الطمع في الغنيمة عن الطاعة للقائد.
حتى إذا فشلتم وتنازعتم في الأمر وعصيتم من بعد ما أراكم ما تحبون منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة } وهو تقرير لحال الرماة وقد ضعف فريق منهم عن صد إغراء الطمع في الغنائم ووقع النزاع بينهم وبين من يرون الطاعة المطلة لأمر رسول الله وانتهى الأمر إلى العصيان بعدما شاهدوا بأعينهم طلائع النصر منقسمين إلى فريقين : فريق يرد غنيمة الدنيا وفريق يريد ثواب الآخرة.. وما كان لجيش ينقسم على نفسه في ميدان المعركة هكذا أن يظل في انتصاره وبخاصة ان الخلاف كان على عرض من أعراض الدنيا والمعركة معركة عقيدة أولا وأخيرا.
﴿ ثم صرفكم عنهم ليبتليكم ﴾. أي صرف قوتكم وبأسكم عن المشركين فانهزمتم وفررتم ليكون في هذا ابتلاء لكم وامتحان بما أصابكم منهم من الكر عليهم والإيقاع بكم.
﴿ ولقد عفا عنكم والله ذو فضل على المؤمنين ﴾ عفا عما وقع منكم من ضعف أمام شهواتكم وعصيان لأمر رسولكم وخروج على النظام الذي وضعه لكم ثم ما وقع كذلك من فرار وانقلاب عن ميدان المعركة حين قيل إن محمدا قد مات ومن يأس من جدوى المقاومة بعد محمد وكلها زلات تحسب على المؤمنين عفا الله عنكم فضلا منه ومنة تجاوزا عن ضعفكم البشري الذي لم تصاحبه نية سيئة ولا إصرار والله ذو فضل على المؤمنين.
المفردات :
تصعدون : تشتدون في العدو منهزمين.
ولا تلوون على أحد : ولا تلتفتون إليه لجدكم في الهرب فرارا من الطلب.
أخراكم : مؤخرة جيشكم.
أثابكم غما بغم : جزاكم الله غما بالهزيمة بسبب غمكم للرسول بالمخالفة أو غما متصلا بغم.
التفسير :
١٥٣- ﴿ إذ تصعدون ولا تلوون على أحد والرسول يدعوكم في أخراكم فأثابكم غما بغم لكيلا تحزنوا على مل فاتكم ولا ما أصابكم والله خبير بما تعملون ﴾.
والصعود : الارتفاع على الجبال والدرج والصعود أيضا الذهاب في صعيد الأرض والإبعاد فيها.
أي اذكروا أيها المؤمنون وقت أن كنتم مصعدين تهرولون بسرعة في بطن بوادي بعد ان اختلت صفوفكم واضطرب جمعكم وصرتم لا يعرج بعضكم على بعض ولا يلتفت أحدكم إلى غيره من شدة الهرب والحال أن رسولكم صلى الله عليه وسلم يدعوكم في أخراكم أي يناديكم في آخركم أو في جماعتكم الأخرى أو من خلفكم والمراد أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يدعو المنهزمين إلى الثبات وإلى ترك الفرار من الأعداء وإلى معاودة الهجوم عليهم وهو ثابت لم يتزعز ومعه نفر من أصحابه.
جاء في نور القرآن ما يأتي :
والعبارة ترسم صورة حركتهم الحسية وحركتهم النفسية في ألفاظ قلائل فهم مصعدون هربا في اضطراب ورعب ودهشة لا يلتفت أحد إلى أحد من الهول ولا يجيب أحد داعي أحد من الذعر والرسول يدعوهم وهم مصعدون إنه مشهد كامل في ألفاظ قلائل.
وكانت النهاية أن يجزيهم الله على الغم الذي تركوه في نفس الرسول بفرارهم غما يملأ صدورهم على ما كان منهم وعلى تركهم رسولهم يصيبه ما أصابه وهو ثابت دونهم وهم عنه فارون ذلك كي يتعلموا ألا يحفلوا بشيء يفوتهم ولا يحزنوا لأذى يصيبهم فهذه التجربة التي مرت بهم وذلك الندم الذي ساور نفوسهم وذلك الغم الذي استشعروه فيما فعلوه.. كل أولئك سيصغر في نفوسهم كل ما يفوتهم من عرض وكل ما يصيبهم من مشقة ويجعلهم أدق تقديرا للأمور كلها خيرها وشرها بعد هذه التجربة الأليمة لكيلا تحزنوا على ما فاتكم ولا ما أصابكم. والله المطلع على الخفايا يعلم حقيقة أعمالكم ودوافعكم وتأثراتكم والله خبير بما تعملون.
وفي تفسير الجلالين فأثابكم فجازاكم. غما الهزيمة. بغم بسبب غمكم للرسول وقيل الباء بمعنى على أي : مضافا على غم.
قالت المعتزلة : وليس الغرض تسليط الكفار على المسلمين ولكن الغرض ألا يبقى في قلوب المؤمنين اشتغال بغير الله ولا يحزنوا بالإدبار ولا يفرحوا بالإقبال.
وقال النيسابوري : ١١٨ :( المراد أنكم قلتم لو بقينا في هذا المكان وامتثلنا وقعنا في غم فوت الغنيمة فاعلموا أنكم لما خالفتم أمر الرسول صلى الله عليه وسلم وطلبتم الغنيمة وقعتم في غموم أخر كل واحد منها أعظم من ذلك فيصير هذا مانعا لهم من أن يحزنوا على فوات الغنيمة من وقعة أخرى ثم كان زجرهم على تلك المعصية بزاجر دنيوي زجرهم بزاجر أخروي فقال :﴿ والله خبير بما تعملون ﴾ عالم بجميع أعمالكم وقصودكم ودواعيكم فيجازيكم بحسب ذلك ) ١١٩.
المفردات :
أمنة : أمنا وسلاما.
يغشى : يغطي.
أهمتهم أنفسهم : شغلهم الاهتمام بها.
لبرز : لخرج ولظهر.
مضاجعهم : المراد بها مصارعهم في أرض الموقعة.
ولبتلي : ليختبر وهو العليم.
وليمحص ما في قلوبكم : وليطهرها من الشبهات وينقيها.
الأمنة بفتحتين مصدر كالأمن يقال أمن أمنا وأمانا وأمنة والنعاس هو الفتور في أول النوم.
المعنى الإجمالي :
ثم أسبغ الله عليكم بعد الغم نعمة الأمن وكان مظهرها نعاسا يغشى فريق الصادقين في إيمانهم وتفويضهم لله أما الطائفة الأخرى فقد كان همهم أنفسهم لا يعنون إلا بها، ولذلك ظنوا بالله الظنون الباطلة كظن الجاهلية ويقولون مستنكرين : هل كان لنا من أمر النصر الذي وعدنا به شيء ؟ قل أيها النبي الأمر كله في النصر والهزيمة لله يصرف الأمر في عباده إن اتخذوا أسباب النصر أو وقعوا في أسباب الهزيمة وهم إذ يقولون ذلك يخفون في أنفسهم أمرا لا يبدونه إذ يقولون في أنفسهم لو كان لنا اختيار لم نخرج فلم نغلب قل لهم : لو كنتم في منازلكم وفيكم من كتب عليهم القتل لخرجوا إلى مصارعهم فقتلوا وقد فعل الله ما فعل في أحد لمصالح جمة وليختبر ما في سرائركم من الإخلاص وليطهر قلوبكم والله يعلم ما في قلوبكم من الخفايا علما بليغا.
النوم في المعركة :
عندما اشتد خوف المسلمين في غزوة بدر أرسل الله عليهم النوم فهدأت أعصابهم واطمأنت نفوسهم واشتد يقينهم برعاية الله لهم ثم أنزل الله المطر في غزوة بدر فكان نعمة على المؤمنين حيث ثبتت الأرض من تحتهم وتطهروا وكان المطر وبالا على المشركين قال تعالى :
{ إذ يغشيكم النعاس أمنة منه وينزل عليكم من السماء ماء ليطهركم به ويذهب عنكم رجز الشيطان وليربط على قلوبكم ويثبت به الأقدام ( الأنفال ١١ ).
وكان النوم في غزوة بدر في ليلة المعركة قبل أن تبدأ.
اما في غزوة أحد فالراجح أنه كان في أعقاب المعركة بعد ان انتهت وأصاب المؤمنين فيها جراح وآلام فأرسل الله عليهم النوم فهدأ روعهم واستعدوا لملاحقة المشركين في غزوة حمراء الأسد ولما علم المشركون بذلك اسرعوا بالعودة إلى مكة.
قال الإمام محمد عبده :
اختلف المفسرون في وقت هذا النعاس، فقال بعضهم : إن ذلك كان في أثناء المعركة وإن الرجل كان ينام تحت ترسه كأنه آمن من كل خوف وفزع إلا المنافقين فإنهم أهمتهم أنفسهم فاشتد جزعهم وحمل بعضهم هذه الآية على آية الأنفال إذ يغشيكم النعاس أمنة منه. وإنما هذه في غزوة بدر وقد مضت السنة في الخلق بأن من يتوقع في صبيحة ليلتة هولا كبيرا ومصابا عظيما فإنه يتجافى جنبه عن مضجعه ويبيت بليلة الملسوع فيصبح خاملا ضعيفا، وقد كان المؤمنون يوم بدر يتوقعون مثل ذلك إذ بلغهم أن جيشا يزيد على ثلاثة أضعاف جيشهم سيحاربهم غدا وهو أشد منهم قوة وأعظم عدة فكان من مقتضى العادة أن يناموا على بساط الأرق والسهاد يضربون أخماسا في أسداس ويفكرون بما سيلاقون في غدهم من الشدة والبأس ولكن الله رحمهم بما أنزل عليهم من النعاس غشيهم فناموا واثقين بالله تعالى مطمئنين لوعده وأصبحوا على همة ونشاط في لقاء عدوهم فالنعاس لم يكن يوم بدر في وقت الحرب بل قبلها.
وأما النعاس يوم أحد فقد قيل : إنه كان في أثناء الحرب وقيل إنه كان بعدها وقد اتفق المفسرون وأهل السير على أن المؤمنين قد أصابهم يوم أحد شيء من الضعف والوهن لما أصابهم يوم أحد من الفشل والعصيان وقتل طائفة من كبارهم وشجعانهم فكانوا بعد انتهاء المعركة قسمين :
أقوياء الإيمان : الذين حزنوا وتألموا من التقصير في أسباب النصر، فأرسل الله عليهم النعاس، راحة لأجسامهم وبلسما لجراحهم، وما من أمة إلا وفيها الأقوياء والضعفاء.
و ضعفاء الإيمان : اشتد هلعهم ويئسوا من النصر وسلب الله عنهم عنايته فلم يرسل عليهم النوم بل شغلهم بأنفسهم فذلك قوله تعالى :{ وطائفة قد أهمتهم أنفسهم يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية فهذه الطائفة من المؤمنين الضعفاء ولا حاجة إلى جعلها من المنافقين كما قيل ١٢٠.
وقيل السيد رشيد رضا :
هذا وإن جمهور المفسرين قد جروا على خلاف ما اختاره الأستاذ الإمام في هذه الطائفة فقالوا : إن المراد بها المنافقون منهم الذين كانت تهمهم أنفسهم إذ كان هم المؤمنين محصورا فيما أصاب الرسول صلى الله عليه وسلم وما وقع لبعضهم من التقصير وكان في غشيان النعاس ونزول الأمنة على المؤمنين من دونهم معجزة ظاهرة ١٢١.
وتحرير الكلام في هذه المسألة أن الله تعالى بين لنا في كتابه ثلاث حقائق :
( الحقيقة الأولى ) أنه تعالى هو خالق كل شيء والذي بيده ملكوت كل شيء وبمشيئته يجري كل شيء فلا قاهر له على شيء وهو القاهر فوق كل شيء.
( الحقيقة الثانية ) أن خلقه وتدبيره غنما يجري بحسب مشيئته.
وحكمته على سنن مطردة ومقادير معلومة قال تعالى : قد خلت من قبلكم سنن.
( الحقيقة الثالثة ) أن من جملة سننه في خلقه وقدره في تدبير عباده ان الإنسان خلق ذا علم ومشيئة وإرادة وقدرة، فيعمل بقدرته وإرادته ما يرى بحسب ما وصل إليه علمه وشعوره أنه خير له، والآيات الناطقة بأن الإنسان يعمل وبعلمه تناط سعادته وشقاوته في الدنيا والآخرة كثيرة جدا.
و إننا نرى الكتاب العزيز يذكر بعض هذه الحقائق الثلاث في بعض الآيات ويسكت عن الأخرى لأن المقام يقتضي ذلك ولكل مقام مقال ولكنه ينكر على من يجحد شيئا منها ويبين للناس خطأه.
وكذلك الآية التي نحن بصدد تفسيرها تشير إلى بعض هذه الحقائق في قوله تعالى : قل إن الأمر كله لله ١٢٢.
أي بيده مقاليد الأشياء يقدر ويدبر كيف يشاء وقد قضى بأن يخرج المسلمون في أحد وأن ينهزموا لحكم يعلمها سبحانه وليستفيدوا من دروس الهزيمة فلا يفعلوا ما يؤدي إلى مثلها.
لقد كانت غزوة أحد ابتلاء وامتحانا تميز به طوائف الناس أمام هذا النوع من البلاء.
فمنهم أقوياء الإيمان وضعفاء الإيمان والمنافقين.
قال الله تعالى :﴿ وليبتلي الله ما في صدوركم وليمحص ما في قلوبكم والله عليم بذات الصدور ﴾.
أي نزل بكم ما نزل من الشدائد في أحد لتتعودوا تحمل الشدائد والمحن وليعاملكم سبحانه معاملة المختبر لنفوسكم فيظهر ما تنطوي عليه من خير أو شر حتى يتبين الخبيث من الطيب وليخلص ما في قلوبكم من المحن والأدران فإن القلوب يعتريها بحكم العادة أدران وأمراض من الغفلة وحب الشهوة فاقتضت حكمة الله تعالى أن ينزل بها من المحن والبلاء ما يكون بالنسبة لها كالدواء لمن عرض له داء.
والله عليم بذات الصدور. أي عليم بأسرارها وضمائرها الخفية التي لا تفارقها قال تعالى :{ إن الله لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء ( آل عمران ٥ ). وقال سبحانه { وإن تجهر بالقول فإنه يعلم السر وأخفى ( طه ٧ ).
ومع معرفته سبحانه بكل شيء وإحاطة علمه بالظاهر والباطن فقد اقتضت حكمته أن يمتحن عباده وأن يختبرهم ليظهر الخبيث من الطيب ويتبين المؤمن من المنافق وتظهر الخفايا المستكنة واضحة ظاهرة في سلوك الناس وتصرفاتهم ثم يكون الجزاء من جنس العمل ﴿ أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين ﴾ ( آل عمران ١٤٢ ).
المفردات :
استزلهم : أوقعهم في الزلل بما زينه لهم.
التفسير :
١٥٥ -﴿ إن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان إنما استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا ولقد عفا الله عنهم عن اله غفور حليم ﴾.
المعنى الإجمالي :
إن الذين انصرفوا منكم من الثبات في أماكنهم يا معشر المسلمين يوم التقى جمعكم وجمع الكفار للقتال في غزوة أ حد إنما جرهم الشيطان إلى الزلل والخطأ بسبب ما ارتكبوا من مخالفة الرسول ولقد تجاوز الله عنهم لأنه كثير المغفرة واسع الحلم.
الفرار من المعركة :
حذرت آيات القرآن وأحاديث النبي صلى الله عليه وسلم من التولي يوم الزحف أي الفرار يوم القتال.
قال تعالى :{ يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم الذين كفروا زحفا فلا تولوهم الأدبار ومن يولهم يومئذ دبره إلى متحرفا لقتال او متحيزا إلى فئة فقد باء بغضب من الله ومأواهم جهنم وبئس المصير ( الأنفال ١٥-١٦ ).
***
كما أمر القرآن بالثبات والاحتمال والاستعانة بذكر الله ليكون كل ذلك مددا وقوة لنفسية المحارب قال تعالى :{ يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون وأطيعوا الله ورسوله ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم واصبروا إن الله مع الصابرين ( الأنفال ٦٥-٤٦ ).
***
وفي غزوة أحد خالف الرماة أمر النبي صلى الله عليه وسلم وتركوا أماكنهم فاضطرب نظام المعركة وهجم المشركون على بقية الرماة فقتلوهم وأصابوا المسلمين إصابات بالغة وقد فر بعض المسلمين من المعركة متوجها نحو المدينة كما أن بعض المسلمين لم يثبت بجوار النبي صلى الله عليه وسلم بل فر إلى الجبل أو إلى غيره عندما اضطربت الصفوف.
" ولقد حكى لنا التاريخ أن هناك جماعة من المسلمين ثبتت إلى جانب النبي صلى الله عليه وسلم بدون وهن أو ضعف وقد أصيب ممن كان حوله أكثر من ثلاثين وكلهم كان يفتدي النبي صلى الله عليه وسلم بنفسه
قال صاحب المنار :
وهناك وجه آخر في تفسير هذه الآية وهو أن الذين تولوا هم جميع الذين تخلوا عن القتال من الرماة وغيرهم كالذين انهزموا عندما جاءهم العدو من خلفهم واستدل القائلون بهذا الوجه روى من أن عثمان بن عفان عوتب في هزيمته يوم أحد فقال إن ذلك خطأ عفا الله عنه.
***
ولقد قال المفسرون في صدد جملة ببعض ما كسبوا إنها تعني عصيان رسول الله صلى الله عليه وسلم وحب الغنيمة. وكراهية الموت.
***
وهذه الآية فيها تحذير للمسلمين من التولي يوم الزحف وتحذير لهم من طاعة الشيطان والاستماع إلى وسوسته لان طاعة الشيطان طريق إلى المعصية والوهن والضعف ومن سنة الله أن يعاقب الإنسان حينا في الدنيا للتعليم والتأديب وأن يصفح عنه أحيانا لمعرفته سبحانه بضعف البشر قال تعالى :﴿ وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير ﴾ ( الشورى ٣٠ ).
قال الأستاذ محمد عزة دروزة :
ولفقد علم الله إخلاصهم وما أصابهم من خسائر في الأرواح وجروح في الأجساد وحزن وجزع فاقتضت حكمته أن يغفر لهم زلتهم وأن يبشرهم بهذه البشرى تهدئة لروعهم وتضميدا لجراحهم وأن يكتفي بما وجهه إليهم الآيات من عتاب وتحذير وتنبيه وفي ذلك ما فيه من معالجة ربانية جليلة للموقف العصيب وتأميل في عوف الله وحلمه وغفرانه في كل موقف مماثل إذا لم تشبه شائبة من سوء نية وخبث طوية ١٢٣.
وإن الذين يموتون على الإيمان الحق أو يقتلون وهم يجاهدون في سبيل الله فإن لهم من مغفرة الله ورحمته ما هو خير مما يجمعه الكافرون من حطام الدنيا وأن كل من مات أو قتل فمرجعه إلى الله عز وجل وهو سبحانه مطلع وشاهد { فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره. ( الزلزلة ٧-٨ ).
المفردات :
ضربوا في الأرض : أوغلوا فيها.
غزى : جمع غاز وهو المقاتل.
التفسير :
هذه الآية تحذير للمؤمنين بأن لا يكونوا كالكفار الذين ينسون الله وقضاءه وحكمته ويقولون لمن يخرج غازيا أو سائحا او تاجرا فيموت أو يقتل إنه لو لم يخرج لما مات او قتل.
وذلك جهل منهم بأن الله قدر الآجال وأن الضرب في الأرض أو الغزو لا يكون سببا في الموت أو القتل
قال الفخر الرازي : وذلك لأن في الطباع محبة الحياة وكراهية الموت والقتل فإن قيل للمرء إذا تحررت من السفر والجهاد فأنت سليم طيب العيش وإن اندفعت على أحدهما وصلت إلى الموت والقتل فالغالب أن ينفر طبعه عن ذلك ويرغب في ملازمة البيت وكان ذلك من مكايد المنافقين في التنفير من الجهاد.
﴿ ليجعل الله ذلك حسرة في قلوبهم ﴾. أي قالوا ذلك ليصير ذلك الاعتقاد الفاسد حسرة في نفوسهم قال ابن كثير : أي خلق الله هذا الاعتقاد في نفوسهم ليزدادوا حسرة على موتاهم.
والله يحيي ويميت. فالموت يأتي للقاعد في بيته متى جاء أجله كما يأتي المجاهد في حربه كذلك وربما أصابت المنية القاعد ولم تنزل بالغازي.
والله بما تعملون بصير. أي علمه نافذ في جميع خلقه لا يخفى عليه من أمورهم شيء.
***
" ولقد احتوت الآية على قوة نافذة من شأنها أن تمد المؤمن بالصبر والرضا والتسليم لحكم الله والجرأة والإقدام وإيثار ما عند الله على حطام الدنيا وعدم الاستماع لوسوسة المنافقين ومرضى القلوب المماثلة في كل زمان ومكان " ١٢٤.
وإن الذين يموتون على الإيمان الحق أو يقتلون وهم يجاهدون في سبيل الله فإن لهم من مغفرة الله ورحمته ما هو خير مما يجمعه الكافرون من حطام الدنيا وأن كل من مات أو قتل فمرجعه إلى الله عز وجل وهو سبحانه مطلع وشاهد { فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره. ( الزلزلة ٧-٨ ).
ولئن قتلتم أيها المؤمنون في الجهاد أو متم في أثنائه على فراشكم بدون قتل فإن مغفرة الله لكم ورحمته بكم خير من حياة أولئك الكفار المقطوعة صلتهم بالله الهابطة إلى الأرض ومما يجمعون فيها من مال ومتاع.
وإن الذين يموتون على الإيمان الحق أو يقتلون وهم يجاهدون في سبيل الله فإن لهم من مغفرة الله ورحمته ما هو خير مما يجمعه الكافرون من حطام الدنيا وأن كل من مات أو قتل فمرجعه إلى الله عز وجل وهو سبحانه مطلع وشاهد { فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره. ( الزلزلة ٧-٨ ).
وإنكم لمحشورون إلى الله على كل حال سواء متم ميتة عادية أو قتلتم في الجهاد فخير إذن أن تلقوا الله وقد نهضتم بتكليف الإيمان وجاهدتم في سبيله حتى وافاكم الأجل الموعود الذي لا ينقص منه الجهاد.
وإن الذين يموتون على الإيمان الحق أو يقتلون وهم يجاهدون في سبيل الله فإن لهم من مغفرة الله ورحمته ما هو خير مما يجمعه الكافرون من حطام الدنيا وأن كل من مات أو قتل فمرجعه إلى الله عز وجل وهو سبحانه مطلع وشاهد { فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره. ( الزلزلة ٧-٨ ).
المفردات :
لنت لهم : رفقت بهم.
فظا : الفظ سيئ الخلق.
غليظ القلب : قاسية.
التفسير :
١٥٩- ﴿ فبما رحمة من الله لنت لهم.. ﴾ الآية
بيان لعظم حلم النبي صلى الله عليه وسلم ورحمة الله به وبهم بعدما كان منهم من مخافة أمر الرسول وفرارهم كما سبق بيانه.
أي : فبسبب رحمة واسعة من الله بك وبهم وفقك اله للصفح عنهم : فلنت لهم ووفقت بهم ولم تغلظ عليهم في الملام مع انهم فعلوا ما يقتضي أشد التعنيف إذ ترك أكثر الرماة أماكنهم فوق الجبل واشتغلوا بجمع الغنيمة فمكنوا المشركين من صعوده مكانهم وقلب ميزان المعركة لصالحهم وترتب عليه أن أكثر الجيش فر وترك الرسول في قلة من أصحابه فناله من أذى المشركين ما ناله حتى أرجفوا بقتله.. فكان لين الرسول معهم بعد ذلك رحمة من رحمات الله به وبهم إذ كان سببا في بقاء الإسلام وجمع قلوب المسلمين.
ولذا قال سبحانه وتعالى :
﴿ ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك ﴾
أي : ولو كنت جافي الطبع قاسي القلب فعاملتهم بقسوة وعنفتهم على ما كان منهم وأشحت عنهم غضبا عليهم لنفرت قلوبهم منك فتفرقوا عنك ولم تستطع أداء رسالتك وتبليغ دعوتك على وجهها الأكمل.
فلينه صلى الله عليه وسلم معهم على خطئهم وعفوه عنهم لم يكن عن ضعف وإنما كان ناشئا عن الرحمة التي فطره الله عليها.
فاعف عنهم واستغفر لهم
قال صاحب الكشاف : اعف عنهم فيما يتعلق بحقك واستغفر لهم فيما يتعلق بحق الله.
وشاورهم في الأمر.
أي : في أمر الحرب وغيره من كل أمر له خطر ولم ينزل في شأنه وحي استظهارا برأيهم وتطييبا لنفوسهم ورفعا لأقدارهم وتقريرا لسنة التشاور في الأمة الإسلامية.
وقد جاء في الكشاف : وعن الحسن رضي الله عنه : قد علم اله ما به إليهم حاجة ولكنه أراد أن يستن به من بعده.
وقيل : كانت العرب إذا لم يشاوروا في الأمر شق عليهم ذلك فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بمشاورة أصحابه لئلا يثقل عليهم استقلاله بالرأي دونهم وكان صلى الله عليه وسلم يدرك تمام الإدراك ما للمشاورة من أثر في الوصول إلى الصواب.
وفي ذلك يقول صلى اله عليه وسلم : " ما تشاور قوم قط إلا هدوا لأرشد أمرهم " ١٢٥.
فإذا عزمت فتوكل على الله.
أي : فإذا استقر رأيك وسكنت نفسك بعد المشاورة فامض الأمر ولا تتردد وتوكل على الله في تنفيذها ما عزمت عليه فإنه هو المعين لك في أمور الدين والدنيا.
إن الله يحب المتوكلين. عليه في جميع أمورهم وإنما يحبهم لأنهم أخلصوا نفوسهم له وطردوا عنها ما سواه إذ لم يروا في غيره غناء.
وحب الله لهم مجاز عن توفيقه وإرشاده لهم في الدنيا وحسن المثوبة في الآخرة.
والمراد أنه لا ناصر لكم سواه.
وفي هذا تنبيه إلى أن الأمر كله لله.
المفردات :
يخذلكم : يمنع عنكم النصر.
التفسير :
أمر للمؤمنين بأن يخصوا الله تعالى بالتوكل عليه والثقة به في جميع الأخذ بالأسباب.
والمراد بالتوكل غير التواكل الذي هو ترك الأخذ بالأسباب مما يقع فيه كثير من المسلمين بناء على خطئهم في فهم المراد من التوكل وهذا التواكل محرم شرعا..
المفردات :
يغل : يخون فالغلول الخيانة وأخذ الشيء خفية وخص في الشرع بالسرقة من المغنم قبل القسمة وفي قراءة ( يغل ) بضم الياء وفتح العين أي ينسب إلى الغلول.
التفسير :
١٦١- ﴿ وما كان لنبي أن يغل.. ﴾ الآية
أي ما صح وما استقام عقلا وشرعا لنبي من الأنبياء أن يخون في المغانم وغيرها أو ينسب إلى الخيانة.
وفي هذا تنزيه لمقامه صلى الله عليه وسلم عن جميع وجوه الخيانة في أداء الأمانة ومنها قسمة الغنائم وتنبيه على عصمته عليه السلام فإن النبوة تنافي ذلك.
والمراد : تنزيه ساحته صلى الله عليه وسلم عما ظنه الرماة الذين تركوا أمكانهم يوم أحد حرصا على الغنيمة وخوفا من أن يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم من أخذ شيئا فهم له.. فيحرموا فقال الرسول صلى الله عليه وسلم لهم معاتبا متعجبا " ظننتم أنا نغل ؟ ؟ " فنزلت الآية ١٢٦.
وعن مجاهد عن ابن عباس رضي الله عنهما قال " اتهم المنافقون رسول الله صلى الله عليه وسلم بشيء فقد فأنزل الله الآية ".
ومن يغلل يأت بما غل يوم القيامة.. الآية.
أي ومن يخن يأت بما خان فيه يوم القيامة يحمله أمام أهل المحشر ليفتضح أمره.
وقد وردت أحاديث كثيرة في عاقبة الغلول وجزائه وأنه من الكبائر.
فعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال : كان على ثقل ١٢٧ النبي صلى الله عليه وسلم رجل يقال له كركرة فمات فقال النبي صلى الله عليه وسلم : هو في النار فذهبوا ينظرون إليه فوجدوا عباءة قد غلها " ١٢٨.
وقد امتنع رسول الله صلى الله عليه وسلم من صلاة الجنازة على من غل ١٢٩.
ثم توفى كل نفس ما كسبت.
أي : تعطى كل نفس مكلفة جزاء ما عملت من خير أو شر وافيا تاما قليلا كان أو كثيرا.
والغال داخل في هذا العموم دخولا أوليا.
وهم لا يظلمون.
أي وكل الناس لا يظلمون بنقص من ثواب ما عملوه من الخير او زيادة في العقاب على ما اقترفوه من الشر { إن الله لا يظلم ذرة وإن تك حسنة يضاعفها ( النساء ٤٠ ).
المفردات :
باء بسخط : رجع بغضب شديد من الله.
المعنى : أغفلتم عن عدل الله فحسبتم أن من اتبع رضوان الله وسعى في تحصيله بفعل الطاعات وترك المنهيات كمن رجع بغضب شديد من الله عليه بسبب الكفر والمعاصي ومنها الغلول ؟
أي : لا يستوي من اتبع رضوان الله بالتزام شريعته فاستحق ثواب الله ونعيمه ومن حاد عنه فاستحق غضبه وشديد عقابه فلا محيد له عنه.
ومأواه جهنم.
أي : مقره ومثواه جهنم : يلقى فيها عذاب الهون جزاء تفريطه في أوامر الله تعالى ونواهيه.
وبئس المصير.
أي : وبئس مآله ومرجعه السيئ : جهنم.
أي : المتبعون رضوان الله والذين باءوا بسخطه ذوو درجات ومنازل متفاوتة في الثواب والعقاب.
فأصحاب الثواب متفاوتون في الدرجات والمستحقون لغضب الله وعذابه متفاوتون كذلك والدرجات تكون في النعيم وتكون في العذاب يدل على ذلك قوله { ولكل درجات مما عملوا ( الأنعام ١٣١ ).
والمراد بقوله تعالى :﴿ عند الله ﴾ في علمه تعالى وحكمه.
والله بصير بما يعملون.
أي : بصير بالأعمال التي عملوها من خير او شر سيجازيهم عليها كلا بحسبه من ثواب او عقاب.
المفردات :
من : المن التفضل والإنعام من غير مقابل.
من أنفسهم : من جنسهم.
الكتاب والحكمة : القرآن والسنة.
التفسير :
١٦٤- ﴿ لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم.. الآية ﴾
أي : أنعم الله تعالى وتفضل على المؤمنين ببعثه الرسول فيهم من جنسهم : عربيا مثلهم : نشأ بينهم وعرفوا أخلاقه وصفاته.
وإذا كان الرسول إليهم من جنسهم كان ذلك ابلغ في الامتنان حيث يسهل عليهم مخاطبته ومجالسته ومعرفة أمور الدين منه.
وبعثه صلى الله عليه وسلم فيهم وهو منهم شرف للعرب وفخر عظيم لهم وإن كانت رسالته عامة للعالمين وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين. ( الانبياء ١٠٧ ).
يتلو عليهم آياته. وهو القرآن بعد ان كانوا أهل جاهلية لم يطرق أسماعهم شيء من الوحي.
ويزكيهم. أي ويطهرهم مما كانوا فيه من دنس الجاهلية وخبيث المعتقدات حيث دعاهم إلى العقيدة الصحيحة والأخلاق الكريمة والأعمال الصالحة.
﴿ ويعلمهم الكتاب والحكمة ﴾
أي : ويعلمهم القرآن وشرائعه وحكمه وأحكامه والسنة وما اشتملت عليه من بيان لمبهم الكتاب وتفصيل لمجمله.
﴿ وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين ﴾
أي : وإنهم كانوا من قبل بعثته لفي ضلال وإضلال واضح الدلالة على الجهالة ظاهر لكل من اطلع على عاداتهم وأخلاقهم وعقائدهم.
المفردات :
أني هذا : من أين هذا.
التفسير :
كلام مستأنف سيق لإبطال بعض ما نشأ من الظنون الفاسدة بعد معركة أحد إثر إبطال بعض آخر منها.
والمعنى : أفعلتم ما فعلتم من أسباب الهزيمة ولما أصابتكم مصيبة يوم احد بقتل سبعين شهيدا منكم قد أصبتم مثليها يوم بدر بقتل سبعين من كفار قريش واسر سبعين منهم لما حدث هذا قلتم : من أين هذا الذي أصابنا وقد وعدنا الله النصر ؟
﴿ قل هو من عند أنفسكم ﴾. بسبب عصيانهم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث أمركم بالثبات في مكانكم فعصيتم.
﴿ إن الله على كل شيء قدير ﴾. فهو ينصركم حين تستحقون النصر ويكتب عليكم الغلبة حين تقصرون في التزام أسبابه.
وفي ختام الآية بما ذكر : ما يرشد إلى ان الأمر بيده جلت قدرته سبحانه وتعالى.
المفردات :
يوم التقى الجمعان : أي يوم احد حيث التقى جمع المؤمنين وجمع المشركين.
التفسير :
١٦٦- ﴿ وما أصابكم يوم التقى الجمعان.. الآية ﴾
أي : وما نزل بكم من استشهاد بعضكم يوم التقى الجمعان : جمع المؤمنين بقيادة رسول الله وجمع المشركين بقيادة أبي سفيان فبإذن الله أي فكائن بقضاء الله وقدره حسبنا جرت به سنته في خلقه وتلك الأيام نداولها بين الناس ( آل عمران ١٤٠ ).
وفي ذلك تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين ومواساة لهم فيما أصابهم فالمؤمن إذا عرف ذلك يرضى ويسلم بما قضاه الله وقدره.
وليعلم المؤمنين.
أي : وليظهر المؤمن الصادق من غيره وليميز الخبيث من الطيب
المفردات :
وليعلم : وليظهر ويميز.
نافقوا : النفاق إظهار الإ يمان وإبطان الكفر.
التفسير :
أي : وليظهر غير الصادقين في إيمانهم.
﴿ وقيل لهم تعالوا قاتلوا في سبيل الله أو ادفعوا ﴾.
أي : قيل للمنهزمين مع عبد الله بن أبي رأس المنافقين تعالوا قاتلوا في سبيل الله لإعلاء دينه ونصرة نبيه أو دافعوا عن أنفسهم وأموالكم إن لم تقاتلوا لوجه الله وممن قال لهم ذلك : عبد الله بن عمرو ابن الحرام.
﴿ قالوا لو نعلم قتالا لاتبعناكم ﴾
هذا استئناف بياني أي قالوا لو كنا نعلم أنكم تلقون قتالا لاتبعناكم وسرنا معكم أو قالوا استهزاء : لو نعلم فنون الحرب وأساليبها لاتبعناكم.
ثم كشف الله حقيقة أمرهم فقال :
هم للكفر يومئذ اقرب منهم للإيمان.
أي هم يوم قولهم ذلك أقرب للكفر منهم للإيمان حيث تركوا الجهاد في سبيل الله وقالوا ذلك كاذبين.
وإنما لم يصرح القرآن بحقيقة كفرهم لنطقهم بالشهادتين وهم في الواقع لا إيمان في قلوبهم
يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم.
هذه جملة تبين حال المنافقين الدائمة لا في هذا اليوم فقط أي. انهم يتكلمون بكلمة التوحيد وليس في قلوبهم منه شيئ لإضمارهم الكفر والعداوة والبغضاء لأهل الإسلام.
والله اعلم بما يكتمون.
أي : والله عليم بما انطوت عليه صدورهم من الشر والفساد وبأن ما قالوه بأفواههم ليس كائنا في قلوبهم بل مخالفا له.
المفردات :
فادرءوا عن أنفسكم الموت : أي يوم أحد حيث التقى جمع المؤمنين وجمع المشركين.
التفسير :
أي : الذين قالوا في حق إخوانهم في الدين او ذوي قرابتهم الذين خرجوا مع المؤمنين وقاتلوا وقد قعدوا هم عن مشاركتهم والجهاد معهم.
لو أطاعونا ما قتلوا. أي لو أطاعوا في ترك السير مع الرسول والمؤمنين ما قتلوا كما أننا لم تقتل.
وفي ذلك ما يدل على أن المنافقين حرضوا المؤمنين على التخاذل والقعود عن الجهاد.
قال فادرءوا. أي قل لهم يا محمد : إن كان القعود ينجي من الموت كما تزعمون. فادفعوا عن أنفسكم الموت الذي كتب عليكم.
إن كنتم صادقين فيما تزعمون ان الموت لم يقع بكم لأنكم قعدتم وجبنتم قال تعالى :{ قل لن ينفعكم الفرار إن فررتم من الموت او القتل وإذا لا تمتعون إلا قليلا قل من ذا الذي يعصمكم من الله إن الله أراد بكم سوء او أراد بكم رحمة ولا يجدون لهم من دون الله وليا ولا نصيرا ( الأحزاب ١٦- ١٧ ).
كانت حياة المسلمين في المدينة مفعمة بالجهاد والاستشهاد كان للمسلمين شهداء في بئر معونة وشهداء في غزوة بدر وشهداء في غزوة أحد وفي غيرها من الغزوات١٣٠.
وكان المنافقون يثبطون المسلمين عن الجهاد ويدعونهم على القعود في المدينة خوفا من الموت او القتل فبينت هاتان الآيتان فضل الشهادة ومنزلة الشهداء.
قال الواحدي : الأصح في حياة الشهداء ما روى عن النبي صلى الله عليه وسلم من ان أرواحهم في أجواف طيور خضر وأنهم يرزقون ويأكلون ويتنعمون.
وقد ورد هذا المعنى في سورة البقرة حيث قال سبحانه :
﴿ ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله أموات بل أحياء ولكن لا تشعرون ﴾ البقرة ١٥٤ ).
ولقد وروى المفسرون أحاديث عديدة في سياق هذه الآيات كتفسير وتوضيح وأورد الحافظ ابن كثير طائفة من الأحاديث النبوية الشريفة في الحث على الجهاد ومن أحاديث فضل الجهاد ما يأتي :
روى البخاري عن ابن المنكدر أنه سمع جابر يقول : لما قتل أبي جعلت أبكي وأكشف الثوب عن وجهه فجعل أصحاب رسول الله ينهونني والنبي صلى الله عليه وسلم لم ينه فقال النبي صلى الله عليه وسلم ( لا تبكيه او ما تبكيه ما زالت الملائكة تظله بأجنحتها حتى رفع ١٣١.
وروى الحاكم أبو عبد الله في صحيحه عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لما أصيب إخوانكم بأحد جعل الله أرواحهم في أجواف طير خضر ترد انهار الجنة وتأكل من ثمارها وتأوي إلى قناديل من ذهب معلقة في ظل العرش فلما وجدوا طيب مأكلهم ومشربهم ومقيلهم قالوا من يبلغ إخواننا أننا في الجنة نرزق لئلا يزهدوا في الجهاد ولا ينكلوا في الحرب ١٣٢ فقال الله عز وجل : أنا أبلغهم عنكم فأنزل الله تعالى ﴿ ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون ﴾ ١٣٣.
( قال أبو الضحى نزلت هذه الآية في اهل احد خاصة وقال جماعة من اهل التفسير : نزلت الآية في شهداء بئر معونة وقصتهم مشهورة ذكرها محمد ابن إسحاق في المغازي وقال آخرون : إن أولياء الشهداء كانوا إذا أصابتهم نعمة او سرور تحسروا وقالوا : نحن في النعمة والسرور وآباؤنا وأبناؤنا في القبور فانزل الله تعالى هذه الآية تنفيسا عنهم وإخبارهم عن حال قتلاهم ) ١٣٤.
والآية تبين منزلة الشهداء فهم في حياة سارة ونعيم لذيذ ورزق حسن عند ربهم وهذه الحياة الممتازة ترفعهم عن ان يقال فيهم كما يقال في غيرهم : أموات وإن كان المعنى اللغوي للموت بمعنى مفارقة الروح للجسد في ظاهر الامر حاصلا للشهداء كغيرهم من الموتى إلا أن هذه الحياة البرزخية التي أخبر الله بها عن الشهداء نؤمن بها كما ذكرها الله تعالى ولا ندرك حقيقتها لأنها من شؤون الغيب.
قال القرطبي في تفسير الآية :
( فقد أخبر الله تعالى في هذه الآيات عن الشهداء أنهم أحياء في الجنة يرزقون والذي عليه الكثيرون أن حياة الشهداء محققة ثم منهم من يقول : ترد إلبهم الأرواح في قبورهم فينعمون كما يحيا الكفار في قبورهم فيعذبون وصار قوم إلى ان هذا مجاز والمعنى انهم في حكم الله مستحقون للتنعم في الجنة وقال آخرون أرواحهم في أجواف طير خضر وأنهم يرزقون في الجنة ويأكلون ويتنعمون وهذا هو الصحيح من الاقوال لأن ما صح به النقل فهو الواقع وحديث ابن عباس نص يرفع الخلاف... ) ١٣٥.
والآية تثبت للشهداء حياة على نحو ما نؤمن بها ونفوض معرفة حقيقتها لله جاء في المنتخب في تفسير القرآن الكريم :
١٦٩- ﴿ ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا.. ﴾ ولا تظنن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل هم أحياء حياة استأثر الله بعلمها يرزقون عند ربهم رزقا حسنا.
يتألق السرور بالبشر من وجوههم بما أعطاهم الله بسبب فضله من المزايا ويفرحون بإخوانهم الذين تركوهم في الدنيا أحياء مقيمين على منهج الإيمان والجهاد وبأنه لا خوف عليهم من مكروه ولا هم يحزنون لفوات محبوب.
ويقول الأستاذ الدكتور محمد سيد طنطاوي :
( أي هؤلاء الشهداء فرحون بما آتاهم من فضله من شرف الشهادة ومن الفوز برضا الله ويسرون بما تبين لهم من حسن مآل إخوانهم الذين تركوهم من خلفهم على قيد الحياة لان الأحياء عندما يموتون شهداء مثلهم سينالون رضا الله وكرامته وسيظفرون بتلك الحياة الأبدية الكريمة كما ظفروا هم بها.
فالمراد بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم : رفقائهم الذين كانوا يجاهدون معهم في الدنيا ولم يظفروا بالشهادة بعد لانهم ما زالوا على قيد الحياة ) ١٣٦.
والآيتان من أورع ما يتلى على الجهاد وبيان فضل الشهادة وبيان منزلة الشهداء وجلال ثوابهم وطيب مقامهم ورفعة منزلتهم وهي منزلة يتمناها المؤمن الصادق حياة الشهيد في جوار ربه يتمنى لان يعود إلى الدنيا ليقتل في سبيل الله مرة ومرة ومرة لما يرى من فضل الشهادة، إن الشهيد قد قدم روحه وضحى بنفسه فكان له الجزاء الأوفى من جنس عمله وكان له حق على الله ان يحفظه من النار وان يدخله الجنة وان يسكنه في أعلى منازل الجنان.
جاءت ام حارثة على رسول الله صلى الله عليه وسلم تقول : يا ر سول الله إن حارثة قد قتل في الجهاد فأخبرني أهو في الجنة أم في النار ؟ فإن كان في الجنة صبرت وإن كان في النار بكيت فقال صلى الله عليه وسلم : اتق الله يا ام حارثة لأنها جنان وليست جنة وإن ابنك أصاب الفردوس الأعلى منها ١٣٧.
وقد تمثل المؤمنون المعاني الكريمة لهذه الآيات والأحاديث فحملوا راية الجهاد في سبيل الله وكان العباد والزهاد والمنقطعون للعبادة في المساجد يرون ان لهم ثوابا عظيما وكانت هناك مساجلات أدبية بين المتعبدين في المساجد والمجاهدين في ميادين الحرب.
روى الحافظ ابن عساكر عن محمد بن إبراهيم بن أبي سكينة قال : أملي علي عبد الله بن مبارك هذه الأبيات بطرسوس وأرسلها إلى الفضيل بن عياض سنة ١٧٠ه.
يا عابد الحرمين لو أبصرتنا | لعلمت انك في العبادة تلعب |
من كان يخضب خده بدموعه | فنحرونا بدمائنا تتخضب |
أو كان يتعب خيله في باطل | فخيولنا يوم الصبيحة تتعب |
ريح العبير لكم ونحن عبيرنا | وهج السنابك والغبار الاطيب |
ولقد أتانا من مقال نبينا | قول صحيح صادق لا يكذب |
لا يستوي غبار خيل الله في | أنف امرئ ودخان نار تلهب |
هكذا كتاب الله ينطق بيننا | ليس الشهيد بميت لا يكذب |
المعنى الإجمالي :
تتألق وجوه الشهداء بما من الله به عليهم من نعمة الشهادة ونعيم الجنة وعظيم الكرامة وبأنه لا يضيع أجر المؤمنين.
فهذه الآية استئناف مبين لما هم عليه من سرور يتعلق بذواتهم بعد ان بين سبحانه سرورهم بحال الذين لم يلحقوا بهم.
أي ان هؤلاء الشهداء يستبشرون بحال إخوانهم الذين لم يلحقوا بهم من خلفهم كما أنهم يستبشرون أيضا لأنفسهم بسبب ما انعم الله عليهم به من نعم جزيلة وبسبب ما تفضل به عليهم من زيادة الكرامة وسمو المنزلة وهذا يدل على ان هؤلاء الشهداء لا يهتمون بشأن أنفسهم فقط وإنما يهتمون أيضا بأحوال إخوانهم الذين تركوهم في الدنيا وفي ذلك ما فيه من صفاء نفوسهم وطهارة قلوبهم حيث أحبوا الخير لغيرهم كما أحبوه لأنفسهم.
والآية وإن نزلت في شهداء غزوة أحد إلا ان حكمها عام في جميع شهداء المؤمنين المجاهدين في سبيل الله.
المفردات :
القرح : الجرح.
قصة الآيات :
ورد في كتب التفسير ١٣٩ عدة روايات عن أسباب نزول هذه الآية : منها أنها نزلت في غزوة حمراء الأسد ومنها أنها نزلت في غزوة بدر الصغرى وتلتقي الروايات على أن حربا نفسية كانت في أعقاب غزوة أحد حاول المشركون منها تثبيط همم المسلمين ليكسبوا جولة بدون معركة عسكرية ولكن المسلمون المخلصون لبوا نداء الرسول وخرجوا في طلب المشركين ثم عادوا ظافرين غانمين إذ لم يجدوا عدوا وإنما سجلوا نصرا معنويا.
قال الفخر الرازي :
اعلم ان الله مدح المؤمنين على غزوتين تعرف إحداهما بغزوة حمراء الأسد والثانية بغزوة بدر الصغرى وكلتاهما متصلة بغزوة احد.
أما غزوة حمراء الأسد فهي المرادة من هذه الآية فإن الأصح في سبب نزولها أن أبا سفيان وأصحابه بعد ان انصرفوا من أحد وبلغوا الروحاء ندموا وقالوا : إنا قتلنا أكثرهم ولم يبق إلا القليل فلم تركناهم ؟ بل الواجب أن نرجع نستأصلهم فهموا بالرجوع.
فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فأراد ان يرهب الكفار ويريهم من نفسه ومن أصحابه قوة فندب أصحابه إلى الخروج في طلب أبي سفيان وقال لا أريد ان يخرج الآن معي إلا من كان معي في القتال في احد.
فخرج الر سول صلى الله عليه وسلم مع قوم من أصحابه حتى بلغوا حمراء الأسد وهي مكان على بعد ثمانية أميال من المدينة فألقى الله الرعب في قلوب المشركين فانهزموا.
١٧٢- ﴿ الذين استجابوا لله والرسول من بعدما أصابهم القرح للذين أحسنوا منهم واتقوا أجر عظيم ﴾
أي هؤلاء المؤمنين هم الذين أجابوا دعوته ولبوا نداءه وأتوا بالعمل على أكمل وجوهه واتقوا عاقبة تقصيرهم على ما هم عليه من جراح وآلام أصابتهم يوم احد لهم اجر عظيم على ما قاموا به من جليل الأعمال.
من المفسرين من ذكر ان الآيات نزلت في غزوة بدر الصغرى وهي بعد غزوة احد بسنة كاملة.
وهناك احتمال ان الآيات نزلت بعد الحادثين كلتيهما. وقد رجح الأستاذ محمد عزة دروزة أن الآيات نزلت في غزوة حمراء الأسد لأنها متكاملة مع ما سبقتها.
والمتبادر ان الآيات لم تنزل مستقلة وليست منفصلة عن سابقتها وكلمة الذين متصلة نظما بكلمة المؤمنين التي كانت خاتمة الآيات السابقة وان السلسلة كلها واحدة عقب أحداث وقعة احد ومشاهدها.
والآيات تحتوي صورة رائعة لاستغراق النبي صلى الله عليه وسلم في دعوته والجهاد في سبيلها وعمق إيمان الفئة المؤمنة التي كانت حوله وصبرها وتفانيها وقوة روحها واستغراقها في تأييد النبي وطاعته وبخاصة في الحالة التي نزلت فيها الآيات حيث خرجوا إلى عدو يزيد عليهم أضعافا كثيرة ويفوتهم في الوسائل وكانت جراحهم دامية وأجسادهم متعبة بما فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي كان مجروحا في وجهه مشجوشا في جبهته مكسورة رباعيته مكلومة شفته السفلى متوهنا منكبه الأيمن من ضربة أصابته وركبتاه مشجوجتان ١٤١. ويزيد في روعة الصورة ان النبي صلى الله عليه وسلم لم يندب معه إلا الذين شهدوا معركة احد وقاتلوا فيها ولم يهزموا وقد روى ان عددهم كان سبعين ١٤٢ ومما رواه المفسرون من واقع هذه الصورة خروج الجرحى حرصا على ثواب غزوة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ومن ذلك ان شابا ١٤٣ استشهد أبوه في المعركة ولم يكن شهدها بنفسه لأن أباه آلى عليه أن يتخلف إلى جانب سبع أخوات له فجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وطلب منه الإذن بالانضمام إليه بعد أن اخبره بعذره الذي منعه من شهود المعركة وفي هذا عظيم الأسوة والتلقين لكل مسلم في كل ظرف ومكان ١٤٤.
وفي معنى هذه الآيات قوله تعالى :{ ولما رأى المؤمنون الأحزاب قالوا هذا ما وعدنا الله ورسوله وصدق الله ورسوله وما زادهم إلا إ يمانا وتسليما ( الأحزاب ٢٢ ).
ورد في كتب التفسير ١٣٩ عدة روايات عن أسباب نزول هذه الآية : منها أنها نزلت في غزوة حمراء الأسد ومنها أنها نزلت في غزوة بدر الصغرى وتلتقي الروايات على أن حربا نفسية كانت في أعقاب غزوة أحد حاول المشركون منها تثبيط همم المسلمين ليكسبوا جولة بدون معركة عسكرية ولكن المسلمون المخلصون لبوا نداء الرسول وخرجوا في طلب المشركين ثم عادوا ظافرين غانمين إذ لم يجدوا عدوا وإنما سجلوا نصرا معنويا.
قال الفخر الرازي :
اعلم ان الله مدح المؤمنين على غزوتين تعرف إحداهما بغزوة حمراء الأسد والثانية بغزوة بدر الصغرى وكلتاهما متصلة بغزوة احد.
أما غزوة حمراء الأسد فهي المرادة من هذه الآية فإن الأصح في سبب نزولها أن أبا سفيان وأصحابه بعد ان انصرفوا من أحد وبلغوا الروحاء ندموا وقالوا : إنا قتلنا أكثرهم ولم يبق إلا القليل فلم تركناهم ؟ بل الواجب أن نرجع نستأصلهم فهموا بالرجوع.
فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فأراد ان يرهب الكفار ويريهم من نفسه ومن أصحابه قوة فندب أصحابه إلى الخروج في طلب أبي سفيان وقال لا أريد ان يخرج الآن معي إلا من كان معي في القتال في احد.
فخرج الر سول صلى الله عليه وسلم مع قوم من أصحابه حتى بلغوا حمراء الأسد وهي مكان على بعد ثمانية أميال من المدينة فألقى الله الرعب في قلوب المشركين فانهزموا.
١٧٣- ﴿ الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل ﴾
المفردات :
حسبنا الله : كافيا وحافظنا.
الوكيل : المتصرف او الكافي أو الكافل.
التفسير :
أي هم الذين قال لهم نعيم بن مسعود الأشجعي ومن وافقه وأذاع قوله : إن أبا سفيان وأعوانه جمعوا الجموع لقتالكم فاخشوهم ولا تخرجوا للقائهم.
روى عن ابن عباس ومجاهد وعكرمة ان الآية نزلت في غزوة أحد الصغرى ذلك ان أبا سفيان قال حين أراد ان ينصرف من أحد يا محمد موعدنا موسم بدر القابل إن شئت فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ذلك بيننا وبينك إن شاء الله وهذا مما اعتاده العرب في حروبهم.
فلما جاء الموعد خرج النبي على رأس فريق من أصحابه حتى بلغ بدرا فلم يجدوا قريشا وشهدوا سوق بدر وكان لهم فيها ربح تجاري عظيم ولم يلقوا كيدا أو سوء وابن سعد يذكر وقوع الغزوتين وأسبابها التي ذكرها المفسرون ١٤٠.
روى ان أبا سفيان خرج في العام التالي لغزوة أحد في جيش من اهل مكة حتى نزل ( مجنة ) من ناحية ( مر الظهران ) فألقى الله الرعب في قبله فبدا له الرجوع فلقي نعيم بن مسعود وقد قدم معتمرا فقال أبو سفيان : إني واعدت محمدا وأصحابه ان نلتقي بموسم بدر وان هذا عام جدب ولا يصلحا إلا عام نرعى فيه الشجر ونشرب فيه اللبن وقد بدا لي أن أرجع واكره أن يخرج محمد ولا اخرج فيزيدهم ذلك جرأة فاذهب إلى المدينة فثبطهم ولك عندي عشرة من الإبل أضعها في يدي سهيل بن عمرو فأتى نعيم المدينة فوجد المسلمين يتجهزون لميعاد أبي سفيان فقال لهم : أتوكم في دياركم فلم يفلت منكم أحد إلا شريد أفترون ان تخرجوا وقد جمعوا لكم ؟ فكان لكلامه وقع شديد في نفوس قوم منهم فقال صلى الله عليه وسلم : " والذي نفسي بيده لأخرجن ولو لم يخرج معي أحد " فخرج ومعه سبعون راكبا يقولون ( حسبنا الله ونعم الوكيل ) حتى وافى بدرا الصغرى فأقام بها ثمانية أيام، ينتظر أبا سفيان فلم يلق أحدا لأن أبا سفيان رجع بجيشه إلى مكة وكان معه ألفا رجل فسماه أهل مكة جيش السويق وقالوا لهم : إنما خرجتم لتشربوا السويق.
ووافى المسلمون سوق بدر وكانت معهم نفقات وتجارات فباعوا واشتروا أدما وزبيبا فربحوا وأصابوا بالدرهم درهمين وانصرفوا إلى المدينة سالمين غانمين.
وفي ذلك يقول تعالى : فزادهم إيمانا أي فزادهم هذا التخذيل إيمانا بالله ورغبة في الجهاد واستعداد للتضحية وقالوا في يقين صادق : حسبنا الله ونعم الوكيل. الله كافينا يرد عنا أعداءنا وينصرنا ونعم الكفيل الله تعالى.
من المفسرين من ذكر ان الآيات نزلت في غزوة بدر الصغرى وهي بعد غزوة احد بسنة كاملة.
وهناك احتمال ان الآيات نزلت بعد الحادثين كلتيهما. وقد رجح الأستاذ محمد عزة دروزة أن الآيات نزلت في غزوة حمراء الأسد لأنها متكاملة مع ما سبقتها.
والمتبادر ان الآيات لم تنزل مستقلة وليست منفصلة عن سابقتها وكلمة الذين متصلة نظما بكلمة المؤمنين التي كانت خاتمة الآيات السابقة وان السلسلة كلها واحدة عقب أحداث وقعة احد ومشاهدها.
والآيات تحتوي صورة رائعة لاستغراق النبي صلى الله عليه وسلم في دعوته والجهاد في سبيلها وعمق إيمان الفئة المؤمنة التي كانت حوله وصبرها وتفانيها وقوة روحها واستغراقها في تأييد النبي وطاعته وبخاصة في الحالة التي نزلت فيها الآيات حيث خرجوا إلى عدو يزيد عليهم أضعافا كثيرة ويفوتهم في الوسائل وكانت جراحهم دامية وأجسادهم متعبة بما فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي كان مجروحا في وجهه مشجوشا في جبهته مكسورة رباعيته مكلومة شفته السفلى متوهنا منكبه الأيمن من ضربة أصابته وركبتاه مشجوجتان ١٤١. ويزيد في روعة الصورة ان النبي صلى الله عليه وسلم لم يندب معه إلا الذين شهدوا معركة احد وقاتلوا فيها ولم يهزموا وقد روى ان عددهم كان سبعين ١٤٢ ومما رواه المفسرون من واقع هذه الصورة خروج الجرحى حرصا على ثواب غزوة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ومن ذلك ان شابا ١٤٣ استشهد أبوه في المعركة ولم يكن شهدها بنفسه لأن أباه آلى عليه أن يتخلف إلى جانب سبع أخوات له فجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وطلب منه الإذن بالانضمام إليه بعد أن اخبره بعذره الذي منعه من شهود المعركة وفي هذا عظيم الأسوة والتلقين لكل مسلم في كل ظرف ومكان ١٤٤.
وفي معنى هذه الآيات قوله تعالى :{ ولما رأى المؤمنون الأحزاب قالوا هذا ما وعدنا الله ورسوله وصدق الله ورسوله وما زادهم إلا إ يمانا وتسليما ( الأحزاب ٢٢ ).
ورد في كتب التفسير ١٣٩ عدة روايات عن أسباب نزول هذه الآية : منها أنها نزلت في غزوة حمراء الأسد ومنها أنها نزلت في غزوة بدر الصغرى وتلتقي الروايات على أن حربا نفسية كانت في أعقاب غزوة أحد حاول المشركون منها تثبيط همم المسلمين ليكسبوا جولة بدون معركة عسكرية ولكن المسلمون المخلصون لبوا نداء الرسول وخرجوا في طلب المشركين ثم عادوا ظافرين غانمين إذ لم يجدوا عدوا وإنما سجلوا نصرا معنويا.
قال الفخر الرازي :
اعلم ان الله مدح المؤمنين على غزوتين تعرف إحداهما بغزوة حمراء الأسد والثانية بغزوة بدر الصغرى وكلتاهما متصلة بغزوة احد.
أما غزوة حمراء الأسد فهي المرادة من هذه الآية فإن الأصح في سبب نزولها أن أبا سفيان وأصحابه بعد ان انصرفوا من أحد وبلغوا الروحاء ندموا وقالوا : إنا قتلنا أكثرهم ولم يبق إلا القليل فلم تركناهم ؟ بل الواجب أن نرجع نستأصلهم فهموا بالرجوع.
فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فأراد ان يرهب الكفار ويريهم من نفسه ومن أصحابه قوة فندب أصحابه إلى الخروج في طلب أبي سفيان وقال لا أريد ان يخرج الآن معي إلا من كان معي في القتال في احد.
فخرج الر سول صلى الله عليه وسلم مع قوم من أصحابه حتى بلغوا حمراء الأسد وهي مكان على بعد ثمانية أميال من المدينة فألقى الله الرعب في قلوب المشركين فانهزموا.
١٧٤- ﴿ فانقلبوا بنعمة من الله لم يمسسهم سوء ﴾.
فعاد المسلمون من بدر الثانية بنعمة السلامة مع الرغبة في الجهاد وفوزهم بثوابه وقد تظاهرت عليهم نعم الله فسلموا من تدبير عدوهم وأطاعوا رسولهم وربحوا في تجارتهم ونالوا فضل الله عليهم في إلقاء الرعب في قلوب عدوهم فلم ينلهم أذى.
واتبعوا رضوان الله. أي حرصوا على فعل ما يرضي الله تعالى عنهم من المبادرة على فعل الطاعات ومنها خروجه لبدر الصغرى وتركم المنهيات ففازوا برضوان الله وتأييده ونصره.
والله ذو فضل عظيم. أي ذو إحسان عظيم على العباد.
من المفسرين من ذكر ان الآيات نزلت في غزوة بدر الصغرى وهي بعد غزوة احد بسنة كاملة.
وهناك احتمال ان الآيات نزلت بعد الحادثين كلتيهما. وقد رجح الأستاذ محمد عزة دروزة أن الآيات نزلت في غزوة حمراء الأسد لأنها متكاملة مع ما سبقتها.
والمتبادر ان الآيات لم تنزل مستقلة وليست منفصلة عن سابقتها وكلمة الذين متصلة نظما بكلمة المؤمنين التي كانت خاتمة الآيات السابقة وان السلسلة كلها واحدة عقب أحداث وقعة احد ومشاهدها.
والآيات تحتوي صورة رائعة لاستغراق النبي صلى الله عليه وسلم في دعوته والجهاد في سبيلها وعمق إيمان الفئة المؤمنة التي كانت حوله وصبرها وتفانيها وقوة روحها واستغراقها في تأييد النبي وطاعته وبخاصة في الحالة التي نزلت فيها الآيات حيث خرجوا إلى عدو يزيد عليهم أضعافا كثيرة ويفوتهم في الوسائل وكانت جراحهم دامية وأجسادهم متعبة بما فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي كان مجروحا في وجهه مشجوشا في جبهته مكسورة رباعيته مكلومة شفته السفلى متوهنا منكبه الأيمن من ضربة أصابته وركبتاه مشجوجتان ١٤١. ويزيد في روعة الصورة ان النبي صلى الله عليه وسلم لم يندب معه إلا الذين شهدوا معركة احد وقاتلوا فيها ولم يهزموا وقد روى ان عددهم كان سبعين ١٤٢ ومما رواه المفسرون من واقع هذه الصورة خروج الجرحى حرصا على ثواب غزوة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ومن ذلك ان شابا ١٤٣ استشهد أبوه في المعركة ولم يكن شهدها بنفسه لأن أباه آلى عليه أن يتخلف إلى جانب سبع أخوات له فجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وطلب منه الإذن بالانضمام إليه بعد أن اخبره بعذره الذي منعه من شهود المعركة وفي هذا عظيم الأسوة والتلقين لكل مسلم في كل ظرف ومكان ١٤٤.
وفي معنى هذه الآيات قوله تعالى :{ ولما رأى المؤمنون الأحزاب قالوا هذا ما وعدنا الله ورسوله وصدق الله ورسوله وما زادهم إلا إ يمانا وتسليما ( الأحزاب ٢٢ ).
المفردات :
الشيطان : الشيطان هنا هو شيطان الإنس الذي غش المسلمين ليخذلهم وهو نعيم بن مسعود.
يخوف أولياءه : أي يخوفكم أنصاره من المشركين.
سياق الآيات :
انتهت غزوة احد بفوز المشركين وأصيب النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين بجراح وآلام وانكسار.
عندئذ اظهر بعض المنافقين كفرهم وصاروا يخوفون المؤمنين ويؤيسونهم من النصر والظفر بعدوهم، ويقولون لهم إن محمدا طالب ملك، فتارة يكون الأمر له وتارة عليه، ولو كان رسولا من عند الله ما غلب، إلى نحو هذه المقالة مما ينفر المسلمين من الإسلام فكان الرسول يحزن لذلك ويسرف في الحزن فنزلت هذه الآيات تسلية للرسول الأمين وتربية للمؤمنين.
التفسير :
١٧٥- ﴿ إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه فلا تخافوهم وخافون إن كنتم مؤمنين ﴾.
بين الله سبحانه للمؤمنين أن أولئك الذين يخوفونكم باعدائكم لتجبنوا عن لقائهم ليسوا إلا أعوانا للشيطان الذي يخوف أتباعه فيجعلهم جبناء ولستم منهم فلا تحفلوا بتخويهم وخافوا الله وحده إن كنتم صادقي الإيمان قائمين بما يفرضه عليكم هذا الإيمان.
وجاء في التفسير الحديث :
في هذه الآية تنبيه للمؤمنين فالشيطان يثير في نفوسهم الخوف من أوليائه ليقعدهم عن القتال فعليهم الا يستمعوا لوساوسه ولا يخافوهم بل يخافوا الله وحده إن كانوا مؤمنين حقا. اه
وتفيد الآية ان المؤمن لا يكون جبانا ولا ذليلا لان الموت والحياة بيد الله وإذا عرضت للإنسان أسباب الخوف فليستحضر في نفسه قدرة الله الذي بيده كل شيء وهو يجير ولا يجار عليه.
إن في استطاعة الإنسان أن يقاوم أسباب الخوف ويعود نفسه الاستهانة بها بالتمرين والتربية.
إذا عرضت للإنسان أساب الخوف فعليه ان يغالبها بصرفها عن ذهنه وشغله بما يضادها ويذهب بآثارها وهذا يدخل في اختيار الإنسان وهو الذي نيط به من التكليف.
انتهت غزوة احد بفوز المشركين وأصيب النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين بجراح وآلام وانكسار.
عندئذ اظهر بعض المنافقين كفرهم وصاروا يخوفون المؤمنين ويؤيسونهم من النصر والظفر بعدوهم، ويقولون لهم إن محمدا طالب ملك، فتارة يكون الأمر له وتارة عليه، ولو كان رسولا من عند الله ما غلب، إلى نحو هذه المقالة مما ينفر المسلمين من الإسلام فكان الرسول يحزن لذلك ويسرف في الحزن فنزلت هذه الآيات تسلية للرسول الأمين وتربية للمؤمنين.
١٧٦- ﴿ ولا يحزنك الذين يسارعون في الكفر إنهم لن يضروا الله شيا ﴾.
المفردات :
يسارعون في الكفر : أي يسارعون في نصرته والاهتمام بشئونه والتهوين من شأن المؤمنين وتخويفهم.
حظا في الآخرة : اي نصيبا من الثواب فيها.
التفسير :
كان للمنافقين مواقف شائنة في غزوة احد فقد عاد عبد الله بن أبي بثلث الناس ولما دارت الدائرة على المسلمين في أحد بسبب موقف المنافقين أولا وبسبب ترك الرماة أماكنهم فوق الجبل لحماية ظهور المسلمين ثانيا ورجعوا إلى المدينة أظهر المنافقون كثيرا من الشتامة والبغضاء وقالوا في حق الذين قتلوا في المعركة.. ﴿ لو كانوا عندنا ماتوا وما قتلوا ﴾ ( آل عمران ١٥٦ ).
ولما استعرض الرسول الأمين هذه المواقف حزن وتألم فأنزل الله هذه الآية لتسليته أي لا ينبغي يا محمد أن تحزن لمسارعة هؤلاء الضالين في الكفر فإنهم لم يضروا أوليائي بشيء من الضرر وقد استفاد المسلمون في هذه الغزوة إذ عرفوا أعداءهم المنبثين فأخذوا حذرهم. ﴿ يريد الله ألا يجعل لهم حظا في الآخرة ﴾. أي حكمته فيهم انه يريد بمشيئته وقدرته ألا يجعل لهم نصيبا في الآخرة بسبب ما أبدوه من أسباب الفرقة والتخذيل والشماتة. ﴿ ولهم عذاب عظيم ﴾ وعقاب أليم فوق عذاب الحرمان من نعيم الجنة.
وفي معنى هذه الآية قوله تعالى :{ يا أيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر من الذين قالوا آمنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم ومن اللذين هادوا.. ( المائدة ٤١ ).
انتهت غزوة احد بفوز المشركين وأصيب النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين بجراح وآلام وانكسار.
عندئذ اظهر بعض المنافقين كفرهم وصاروا يخوفون المؤمنين ويؤيسونهم من النصر والظفر بعدوهم، ويقولون لهم إن محمدا طالب ملك، فتارة يكون الأمر له وتارة عليه، ولو كان رسولا من عند الله ما غلب، إلى نحو هذه المقالة مما ينفر المسلمين من الإسلام فكان الرسول يحزن لذلك ويسرف في الحزن فنزلت هذه الآيات تسلية للرسول الأمين وتربية للمؤمنين.
١٧٧- إن الذين اشتروا الكفر بالإيمان لن يضروا الله شيئا ولهم عذاب أليم.
المفردات :
اشتروا الكفار بالإيمان : أي اخذوا الكفر بدلا من الإيمان كما يفعل المشتري من إعطاء شيء واخذ غيره بدلا منه.
التفسير :
والاشتراء في الآية الكريمة بمعنى الاستبدال على سبيل الاستعارة التمثيلية فقد شبه سبحانه الكافر الذي يترك الحق الواضح الذي قامت الأدلة على صحته ويختار بدله الضلال الذي قامت الأدلة على بطلانه بمن يكون في يده سلعة ثمينة جيدة فيتركها ويأخذ في مقابلها سلعة رديئة فاسدة.
والمعنى إن الذين استبدلوا الكفر بالإيمان لم يضروا دين الله ولا رسوله ولا أولياءه بشيء من الضرر وإنما يضرون بفعلهم هذا أنفسهم ضررا بليغا ولهم في الآخرة عذاب مؤلم شديد الإيلام بسبب إيثارهم الغي على الرشد والكفر على الإيمان والشر على الخير.
انتهت غزوة احد بفوز المشركين وأصيب النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين بجراح وآلام وانكسار.
عندئذ اظهر بعض المنافقين كفرهم وصاروا يخوفون المؤمنين ويؤيسونهم من النصر والظفر بعدوهم، ويقولون لهم إن محمدا طالب ملك، فتارة يكون الأمر له وتارة عليه، ولو كان رسولا من عند الله ما غلب، إلى نحو هذه المقالة مما ينفر المسلمين من الإسلام فكان الرسول يحزن لذلك ويسرف في الحزن فنزلت هذه الآيات تسلية للرسول الأمين وتربية للمؤمنين.
١٧٨- ﴿ ولا يحسبن الذين كفروا أنما نملي لهم خير لأنفسهم ﴾.
المفردات :
نملي لهم : الإملاء : الإمهال والتخلية بين العامل وعمله ليبلغ أقصى مداه من قولهم : أملى لفرسه إذا أرخى له الطول ليرعى كيف شاء منه الملأ للأرض الواسعة والملوان : الليل والنهار
التفسير :
أي لا يعتقدون الذين كفروا أن إمهالنا لهم وعدم تعجيلنا بعقوبتهم على كيدهم للإسلام خير لأنفسهم فإن الله يمهلهم ويؤخر عقوبتهم ثم يأخذهم أخذ عزيز مقتدر.
﴿ إنما نملي لهم ليزدادوا إثما ولهم عذاب مهين ﴾.
أي يستدرجهم الله تعالى ويرخي لهم الحبل على الغارب ليرتعوا في مراعي الشر ثم يستحقون العذاب المهين في الآخرة مقابل اعتزازهم في الدنيا بالكفر والمعاصي والكيد للإسلام والمسلمين والبادئ أظلم.
وفي معنى الآية قوله تعالى :{ يحسبون أنما نمدكم به من مال وبنين نسارع لهم في الخيرات بل لا يشعرون. ( المؤمنون ٥٥-٥٦ ).
وقوله سبحانه :{ فدرني ومن يكذب بهذا الحديث سنستدرجهم من حيث لا يعلمون ( القلم ٤٤ ).
وقوله عز شأنه :﴿ فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم إنما يريد الله ليعذبهم بها في الحياة الدنيا وتزهق أنفسهم وهم كافرون ﴾ ( التوبة ٥٥ ).
المفردات :
ليذر : ليترك.
يميز : يفرق ويعزل.
يجتبي : ليترك.
التفسير :
١٧٩- ﴿ ما كان الله ليدر المؤمنين على ما أنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب وما كان الله ليطعمكم على الغيب ولكن الله يجتبي من رسله من يشاء.. ﴾
أي : ليس من شأن الله تعالى ولا من حكمته وسنته في خلقه ان يترككم أيها المؤمنون على ما انتم عليه من اختلاط المؤمن بالمنافق بل الذي من شأنه وسنته ان يبتليكم ويمتحنكم بألوان المصائب والشدائد. حتى يظهر المؤمن الطيب المخلص ويستبين أمر النافقين الذين هتكت أستارهم وعرفت أسماؤهم وحقيقة نواياهم.
ولم تجر سنة الله باطلاع احد من خلقه على شيء من غيبه قال تعالى :{ عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا إلا من ارتضى من رسول فإنه يسلك من بين يديه ومن خلقه رصدا ( ٢٦-٢٧ ).
فالله تعالى يصطفي من رسله من يريد اصطفاءه فيطلعه على ما يشاء من غيبه كما يحدث للنبي محمد صلى الله عليه وسلم فقد أطلعه على ما دبره له اليهود حين هموا باغتياله وأطلعه على حال تلك المرأة التي أرسلها حاطب بن أبي بلتعة برسالة قريش لتخبرهم باستعداد الرسول صلى الله عليه وسلم لحربهم وأطلعه عن أحوال بعض المنافقين. ﴿ فآمنوا بالله ورسله ﴾ أي أطيعوا الله ورسوله واتبعوا فيما شرع لكم او : داوموا على ما انتم عليه من الإيمان بالله ورسوله.
﴿ وإن تؤمنوا وتتقوا فلكم أجر عظيم ﴾. وإن تصدقوا في إيمانكم وتتقوا ربكم بالتزام طاعته يدخلكم الجنة جزاء ونعم الجزاء إذ هي جزاء عظيم.
المفردات :
ما آتاهم : أي ما أعطاهم من المال والعلم والجاه.
سيطوقون ما بخلوا به : أي سيلزمون إثمه في الآخرة كما يلزم الطوق الرقبة وقد جاء في أمثالهم : تقلدها طوق الحمامة إذا جاء بما يسب به ويذم.
ميراث السموات والأرض : أي ما يتوارثه أهلهما من مال غيره.
تمهيد :
كان الكلام فيما مضى في التحريض على بذل النفس في الجهاد في سبيل الله بذكر ما يلاقيه المجاهدون من الكرامة عند ربهم في جنات النعيم.
وهنا شرع يحدث على بذل المال في الجهاد والمال شقيق الروح فذكر اشد أنواع الوعيد لمن يبخل بماله في هذه السبيل وأرشد إلى أن المال ظل زائل وان مدى الحياة قصير وإن الوارثين والموروثين سيموتون ويبقى الملك لله وحده.
ثم ذكر مقالة لليهود قد قالوها ثم كذبهم فيها ثم سلى رسوله وأبان ان تكذيبهم لك ليس ببدع منهم بل سبقوا من قبل بمثله من الانبياء السابقين.
التفسير :
١٨٠- ﴿ ولا يحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله هو خيرا لهم.. ﴾
أي ولا يظنن احد ان بخل الباخلين بم اعطاهم الله من فضله ونعمه هو خيرا لهم لانهم مطالبون بشكران النعم والبخل بها كفران لا ينبغي ان يصدر من عاقل.
والمراد من البخل بالفضل البخل به في أداء الزكاة المفروضة وفي الأحوال التي يتعين فيها بذل المال كالإنفاق لصد عدو يجتاح البلاد ويهدد استقلالها ويصبح أهلها أذلة بعد ان كانوا أعزة أو إنقاذ شخص من مخالب الموت جوعا.
ففي كل هذه الأحوال يجب بذل المال لانه يجري مجرى دفع الضرر عن النفس.
وليس الذم والوعيد على البخل بما يملك الإنسان من فضل ربه إذ إن الله أباح لنا الطيبات لنستمع بها ولأن العقل قاض بأن الله لا يكلف الناس بذل ما يكسبون ويبقون عراة جائعين ومن ثم قال في حق المؤمنين المهتدين ﴿ ومما رزقناهم ينفقون ﴾ ( البقرة ٣ ).
وجاءت الآية بطريق التعميم ترغيبا في بذل المال بدون تحديد ولا تعيين ووكل أمر ذلك إلى اجتهاد المؤمن الذي يتبع عاطفة الإيمان التي في قلبه وما تحدثه في النفس من أريحية بذل الواجب والزيادة عليه إذا هو تذكر أن في ماله حقا للسائل والمحروم.
﴿ بل هو شر لهم ﴾. أي هو شر عظيم لهم وقد نفى أولا ان يكون خيرا ثم أثبت كونه شرا لأن المانع للحق إنما يمنعه لانه يحسب أن في منعه خيرا له لما في بقاء المال في يده من الانتفاع به في التمتع باللذات وقضاء الحاجات ودفع الغوائل والآفات.
سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة. أي سيجعل ما بخلوا به من المال طوقا في أعناقهم ويلزمهم ذنبه وعقابه ولا يجدون إلى دفعه سبيلا كما يقال : طوقني الامر أي ألزمني إياه.
وخلاصة هذا ان العقاب على البخل لازم لابد منه.
وقال مجاهد : أن المعنى : سيكلفون ان يأتوا بمثل ما بخلوا به من أموالهم يوم القيامة عقوبة لهم فلا يستطيعون ذلك توبيخا لهم على معنى : هلا فعلتم ذلك حين كان ممكنا ميسورا ونظير هذا قوله تعالى :﴿ ويدعون إلى السجود فلا يستطيعون ﴾ ( القلم ٤٢ ).
ويرى بعضهم ان التطويق حقيقي وأنهم يطوقون بطوق يكون سببا لعذابهم فتصير تلك الأموال حيات تلتوي في أعناقهم فقد روى البخاري والنسائي عن أبي هريرة قال : " من آتاه الله مالا فلم يؤد زكاته مثل له شجاع ( ثعبان ) أقرع له زبيبتان يطوقه يوم القيامة فيأخذ بلهزميته ( شدقيه ) يقول أنا مالك أنا كنزك ثم تلا الآية " ١٤٥.
﴿ ولله ميراث السموات والأرض ﴾. أي لله وحده لا لأحد سواه ما في السموات والأرض ما يتوارث من مال وغيره فينقل من واحد إلى آخر لا يستقر في يد ولا يسلم التصرف فيه لأحد إلى ما يفني الوارثون والموروثون. ويبقى مالك الملك وهو الله رب العالمين.
فما لهؤلاء القوم يبخلون عليه بملكه ولا ينفقون في سبيله وابتغاء مرضاته.
وفي الآية إيماء إلى ان كل ما يعطاه الإنسان من مال وقوة وعلم فإنه عرض زائل وصاحبه فإنه غير باق فلا ينبغي أن يستبقي الفاني ما هو مثله في الفناء بل عليه ان يضع الأشياء في مواضعها التي لها وبذا يكون خليفة الله في أرضه محسنا للتصرف فيما استخلف.
﴿ والله بما تعملون خبير ﴾. أي والله لا تخفى عليه خافية من أعمالكم ولا ما تنطوي عليه جوانحكم فيجازي كل عامل بما عمل بحسب تأثير عمله في تزكية نفسه او تدسيتها ونيته في فعله كما جاء في الحديث : " إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى ".
كان الكلام فيما مضى في التحريض على بذل النفس في الجهاد في سبيل الله بذكر ما يلاقيه المجاهدون من الكرامة عند ربهم في جنات النعيم.
وهنا شرع يحدث على بذل المال في الجهاد والمال شقيق الروح فذكر اشد أنواع الوعيد لمن يبخل بماله في هذه السبيل وأرشد إلى أن المال ظل زائل وان مدى الحياة قصير وإن الوارثين والموروثين سيموتون ويبقى الملك لله وحده.
ثم ذكر مقالة لليهود قد قالوها ثم كذبهم فيها ثم سلى رسوله وأبان ان تكذيبهم لك ليس ببدع منهم بل سبقوا من قبل بمثله من الانبياء السابقين.
١٨١- ﴿ لقد سمع فالله قول الذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء.. ﴾.
المفردات :
سنكتب ما قالوا : أي سنعاقب عليه ولا نهمله.
ونقول ذوقوا عذاب الحريق : أصل الذوق وجود الطعم في الفم ثم استعمل في إدراك المحسوسات والحريق المحرق المؤلم وعذاب الحريق أي عذاب هو الحريق أي سننتقم منهم.
التفسير :
أي قد سمع الله قول هؤلاء الكافرين الذين قالوا هذه المقالة ولم يخف عليه وسيجزيهم عليه أشد الجزاء.
وهذا أسلوب يتضمن التهديد والوعيد كما يتضمن البشارة والوعد بحسن الجزاء في نحو " سمع الله لمن حمده " ويضمن مزيد العناية وإرادة الإغاثة وإزالة الشكوى في نحو ﴿ قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها وتشتكي إلا الله والله يسمع تحاوركما ﴾. ( المجادلة ١ ). إذ سمع الله لعباده يراد به مراقبته لهم في اقوالهم ويلزم من ذلك المعاني التي ذكرناها آنفا.
روى سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : أتت اليهود رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أنزل الله تعالى :﴿ من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا ﴾ ( البقرة ٦٤٥ ). فقالوا يا محمد أفقير ربك يسأل عباده القرض ونحن اغنياء ؟ فأنزل الله :﴿ لقد سمع الله.. الآية ﴾.
﴿ سنكتب ما قالوا ﴾. أي سنعاقبهم على ذلك عقابا لا شك فيه إذ يلزم من كتابة الذنب وحفظه العقوبة عليه وعلى استعمال شائع في اللغة.
﴿ وقتلهم الانبياء بغير حق ﴾. أي قتل سلفهم لهم وإنما نسبه إليهم للإشارة إلى أنهم راضون بما فعلوه.
وهذا يدل على أن الأمم متكافلة في الأمور العامة ويجب على أفرادها الإنكار على من يفعل المنكر أو تغييره أو النهي عنه لئلا يفشو فيها فيصير خلقا من أخلاقها وعادة مستحكمة فيها فيستحق العقوبة في الدنيا بالضيق والفقر والعقوبة في الآخرة بتدنيس نفوسها وإن المتأخر إذا لم ينظر إلى عمل المتقدم ويطبقه على أحكام الشريعة فيستحسن منها ما تستحسنه ويستهجن ما يستهجنه – عد شريكا له في إثمه ومستحقا لمثل عقوبته.
﴿ ونقول ذوقوا عذاب الحريق ﴾. أي سننتقم منهم ونقول لهم هذه المقالة.
ذلك لأنهم قالوا ما قالوا وقتلوا من الانبياء من قتلوا فأذاقوا المسلمين وأتباع الأنبياء ألوانا من العذاب وأحرقوا قلوبهم بلهب الإيذاء والكرب فجوزوا بهذا العذاب الشديد وقيل لهم : ذوقوا عذاب الحريق كما أذقتم أولياء الله في الدنيا ما يكرهون.
والخلاصة ذوقوا ما أنتم فيه فلستم بمتخلصين منه فلستم بمتخلصين منه، وهذا قول يلقى التشفي الدال على كمال الغيظ والغضب.
كان الكلام فيما مضى في التحريض على بذل النفس في الجهاد في سبيل الله بذكر ما يلاقيه المجاهدون من الكرامة عند ربهم في جنات النعيم.
وهنا شرع يحدث على بذل المال في الجهاد والمال شقيق الروح فذكر اشد أنواع الوعيد لمن يبخل بماله في هذه السبيل وأرشد إلى أن المال ظل زائل وان مدى الحياة قصير وإن الوارثين والموروثين سيموتون ويبقى الملك لله وحده.
ثم ذكر مقالة لليهود قد قالوها ثم كذبهم فيها ثم سلى رسوله وأبان ان تكذيبهم لك ليس ببدع منهم بل سبقوا من قبل بمثله من الانبياء السابقين.
١٨٢- ﴿ ذلك بما قدمت أيديكم ﴾. أي أن هذا العذاب المحرق الذي تذوقون حرارته بسبب أعمالكم في الدنيا كقتل الأنبياء ووصف الله بالفقر وجميع ما كان منكم من ضروب الكفر والفسوق والعصيان.
وأضاف العمل إلى الأيدي من قبل ان أكثر أعمال الإنسان تزاول باليد وليفيد أن ما عذبوا هو من عملهم إلى الحقيقة لا أنهم أمروا به ولم يباشروه.
﴿ وأن الله ليس بظلام للعبيد ﴾. أي أن ذلك العذاب أصابكم بعملكم وبكونه تعالى عادلا في حكمه وفعله لا يجور ولا يظلم فلا يعاقب غير المستحق للعقاب ولا يجعل المجرمين كالمتقين والكافرين كالمؤمنين كما قال :﴿ أم حسبتم الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات سواء محياهم ومماتهم ساء ما يحكمون ( الجاثية ٢١ ). وقال :{ أفنجعل المسلمين كالمجرمين ما لكم كيف تحكمون ﴾ ( القلم ٣٥-٣٦ ). وقال :﴿ أم نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض أم نجعل المتقين كالفجار ﴾ ( ص ٢٨ ).
والخلاصة ان ترك عقاب أمثالكم مساواة بين المحسن والمسيء وضع للشيء في غيره موضعه وهو ظلم كبير لا يصدر إلا ممن كان كثير الظلم مبالغا فيه.
كان الكلام فيما مضى في التحريض على بذل النفس في الجهاد في سبيل الله بذكر ما يلاقيه المجاهدون من الكرامة عند ربهم في جنات النعيم.
وهنا شرع يحدث على بذل المال في الجهاد والمال شقيق الروح فذكر اشد أنواع الوعيد لمن يبخل بماله في هذه السبيل وأرشد إلى أن المال ظل زائل وان مدى الحياة قصير وإن الوارثين والموروثين سيموتون ويبقى الملك لله وحده.
ثم ذكر مقالة لليهود قد قالوها ثم كذبهم فيها ثم سلى رسوله وأبان ان تكذيبهم لك ليس ببدع منهم بل سبقوا من قبل بمثله من الانبياء السابقين.
١٨٣- ﴿ الذين قالوا إن الله عهد إلينا ألا نؤمن لرسول حتى يأتينا بقربان تأكله النار ﴾.
المفردات :
عهد إلينا : أي أمرنا في التوراة وأوصانا.
القربان : ما يتقرب به إلى الله من حيوان ونقد وغيرهما والمراد من ( النار ) : التي تنزل من السماء.
التفسير :
قال ابن عباس : نزلت هذه الآية في كعب بن الأشرف ومالك بن الضيف وفنحاص بن عازوراء وفي جماعة آخرين أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا : يا محمد تزعم أنك رسول الله وأنه تعالى أوحى إلينا كتابا وقد عهد إلينا في التوراة ألا نؤمن لرسول حتى يأتينا بقربان تأكله النار ويكون للنار دوى خفيف حين تنزل من السماء فإن جئتنا بهذا صدقناك فنزلت الآية.
وروى ابن جرير أن الرجل منهم كان يتصدق بالصدقة فإذا تقبل منه نزلت من السماء فأكلت ما تصدق به.
ودعواهم هذا العهد من مفترياتهم وأباطيلهم وأكل النار للقربان لم يوجب الإيمان إلا لكونه معجزة فهو وسائر المعجزات سواء وما مقصدهم من تلك المفتريات إلا عدم الإيمان برسول الله صلى الله عليه وسلم لأنه لم يأت بما قالوه ولو آتي به لآمنوا فرد عليهم بقوله :﴿ قل قد جاءكم رسل من قبلي بالبينات وبالذي قلتم فلم قتلتموهم إن كنتم صادقين ﴾. أي قل موبخا لهم ومكذبا : قد جاءكم كثيرون من قبلي كزكريا ويحيى وغيرهما من المعجزات الدالة على صدق نبوتهم وبما كنتم تقترحون وتطلبون وأتوا بالقربان الذي تأكله النار فما بالكم لم تؤمنوا بهم بل اجترأتم على قتلهم ؟ وهذا دليل على أنكم قوم غلاظ الأكباد ( وبذلك وصفوا في التوراة ) قساة القلوب لا تفقهون الحق ولا تذعنون له وأنكم لم تطلبون هذه المعجزة استرشادا بل تعنيتا وعنادا.
وقد نسب هذا الفعل إلى من كان في عصر التنزيل وقد وقع من أسلافهم لأنهم راضون عما فعلوه معتقدون انهم على حق في ذلك والأمة في أخلاقها العامة وعادتها كالشخص الواحد وقد كان هذا معروفا عند العرب وغيرهم فتراهم يلصقون جريمة الشخص بقبيلة ويؤاخذونها بها.
والخلاصة : ان أسلافكم متعنتين وما أنتم إلا كأسلافكم فلم يكن من سنة الله إجابتكم إلى ملتمسكم بالإتيان بالقربان إذ لا فائدة منه.
كان الكلام فيما مضى في التحريض على بذل النفس في الجهاد في سبيل الله بذكر ما يلاقيه المجاهدون من الكرامة عند ربهم في جنات النعيم.
وهنا شرع يحدث على بذل المال في الجهاد والمال شقيق الروح فذكر اشد أنواع الوعيد لمن يبخل بماله في هذه السبيل وأرشد إلى أن المال ظل زائل وان مدى الحياة قصير وإن الوارثين والموروثين سيموتون ويبقى الملك لله وحده.
ثم ذكر مقالة لليهود قد قالوها ثم كذبهم فيها ثم سلى رسوله وأبان ان تكذيبهم لك ليس ببدع منهم بل سبقوا من قبل بمثله من الانبياء السابقين.
١٨٤- ﴿ فإن كذبوك فقد كذب رسل من قبلك جاءوا بالبينات والزبر والكتاب المنير ﴾
المفردات :
البينات : هي المعجزات الواضحة.
الزبر : واحدها زبور وهو الكتاب.
المنير : الواضح.
التفسير :
أي كذبوك بعد ان جئتهم بالبينات الساطعة والمعجزات الواضحة والكتاب الهادي إلى السبيل مع استنارة الحجة والدليل فلا تأس عليهم ولا تحزن لعنادهم وكفرهم ولا تعجب من فساد طويتهم وعظيم تعنتهم فتلك سنة الله في خليقته فقد كذب رسل من قبلك بمثل ما جئت به من باهر المعجزات وهزوا القلوب بالزواجر والعظات وأناروا بالكتاب سبيل النجاة فلم يغن ذلك عنهم شيئا على ما نالهم من أذى وما نالهم من سخرية واستهزاء.
وفي هذا تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم وبيان لأن طبائع البشر في كل الأزمنة سواء منهم من يتقبل الحق ويقبل عليه بصدر رحب ونفس مطمئنة ومنهم من يقاوم الحق والداعي إليه ويسفه أحلام معتنقيه.
فليس بالعجيب منهم أن يقاوموا دعوتك ولا أن يفندوا حجتك فإن نفوسهم منصرفة عن طلب الحق وتحري سبل الخير.
المفردات :
توفون أجوركم : أي تعطونها وافية كاملة غير منقوصة.
زحزح عن النار : نحي عنها.
فاز : سعد ونجا.
متاع : المتع : ما يتمتع به مما يباع ويشتري.
الغرور : إصابة العزة والغفلة ممن تخدعه وتغشه.
التفسير :
١٨٥- ﴿ كال نفس ذائقة الموت وإنما توفون أجوركم يوم القيامة.. الآية ﴾.
كل نفس سيدركها الموت لا محالة قال تعالى : كل من عليها فان. ( الرحمن ٢٦ ). وإنما تعطون جزاء أعمالكم وافيا يوم القيامة فمن نحى عن النار وأبعد عنها وادخل الجنة فقد فاز بالسعادة السرمدية والنعيم المخلد وليست الدنيا إلا دار الفناء يستمتع بها الأحمق المغرور.
قال ابن كثير : وهذه الآية فيها تعزية لجميع الناس فإنه لا يبقى أحد على وجه الأرض حتى يموت فإذا انقضت المدة، وفرغت النطفة التي قدر الله وجودها من صلب آدم، وانتهت البرية، أقام الله القيامة وجازى الخلائق بأعمالها كثيرها وقليلها كبيرها وصغيرها، فلا يظلم أحد مثقال ذرة.
( وليس في هذه الآية ما يدعو إلى نفض اليد من الدنيا ومتعها وطيباتها والنشاط فيها في مختلف المجالات، وإنما هدفها هو التذكير بحتمية الموت، وحث الناس والمسلمين بخاصة على الاستمساك بحبل الله وتقواه، والقيام بواجبهم نحوه ونحو الناس، والاستكثار من العمل الصالح الذي هو وحده النافع المنجي لهم في الحياة الأخروية ) ١٤٦.
المفردات :
لتبلون في أموالكم وأنفسكم : لتختبرن فيها ببعض الإصابة ببعض البلايا.
من عزم الأمور : من الجد في الأمور، مأخوذ من عزم الأمر، أي جد فيه.
التفسير :
١٨٦- ﴿ لتبلون في أموالكم وأنفسكم ولتستمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيرا وإن تصبروا وتتقوا فإن ذلك من عزم الأمور ﴾.
أي والله لتختبرن وتمتحنن في أموالكم بالفقر والمصائب وفي أنفسكم بالشدائد والأمراض والجراح والآلام ولتسمعن من اليهود والنصارى وكفار العرب والمشركين أعدائكم الأذى الكثير كالطعن في دينكم والاستهزاء بعقيدتكم والتفنن فيما يضركم.
وإن تصبروا على تلك الشدائد، وتقابلها بضبط النفس وقوة الاحتمال : وتتقوا الله في الأقوال والأعمال، فإن الصبر والتقوى منكم من عزم الأمور والجد فيها، وهو فضيلة يتنافس فيها المتنافسون، وأنتم بها أحق وأولى.
وقد ورد في القرآن والسنة ما يوضح حقيقة الحياة ويبين أن الله يمتحن المؤمن بالبلاء والاختبار رفعا لدرجته وتكفيرا لسيئاته وتمييزا للمؤمن من المنافق قال تعالى :﴿ ولنبلونكم بشئ من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات وبشر الصابرين، الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون، أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون ﴾. ( البقرة ١٥٥-١٥٧ ).
وقال سبحانه :﴿ ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين ونبلو أخباركم ﴾ ( محمد ٦١ ).
وروى الترمذي عن مصعب بن سعد عن أبيه قال :( قلت : يا رسول الله، أي الناس أشد بلاء ؟ قال : الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل، فيبتلى الرجل على حسب دينه، فإن كان دينه صلبا اشتد بلاؤه، وإن كان في دينه رقة ابتلى على حسب دينه، فما يبرح البلاء حتى يتركه يمشي على الأرض ما عليه خطيئة ) ١٤٧.
ولقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه يعفون عن المشركين وأهل الكتاب، ويصبرون على الأذى، فهي سنة الدعوات تحتاج إلى بلاء وصبر ومقامة وصمود، قال تعالى :﴿ ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارا حسدا من عند أنفسهم من بعدما تبين لهم الحق فاعفوا واصفحوا حتى يأتي الله بأمره إن الله على كل شيء قدير ﴾ ( البقرة ١٠٩ ).
وفي تفسير ابن كثير حديث طويل رواه البخاري عن عروة بن الزبير، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذهب يعود سعد بن عبادة ببني الخزرج قبل وقعة بدر، فمر على مجلس فيه ( عبد الله بن أبي ابن سلول ) فدعاهم إلى الله عز وجل وقرأ عليهم القرآن. فقال عبد الله بن أبي : أيها المرء، إنه لا أحسن مما تقول، إن كان حقا فلا تؤذنا به في مجالسنا، ارجع إلى رحلك فمن جاءك فاقصص عليه.
فقال عبد الله بن رواحة : بل ى يا رسول الله فاغشنا به في مجالسنا، فإنا نحب ذلك، فاستب المسلمون والمشركون واليهود، فلم يزل النبي صلى الله عليه وسلم بخفضهم حتى سكتوا، ثم سار النبي صلى الله عليه وسلم حتى دخل سعد بن عبادة فأخبره بما فعل عبد الله بن أبي ابن سلول، فقال سعد : يا رسول الله اعف عنه واصفح، فوالذي انزل عليك الكتاب، لقد جاءك الله بالحق الذي نزل عليك، ولقد اصطلح أهل المدينة على أن يتوجوه ملكا، فلما ظهر الإسلام غض به، فذلك الذي فعل به ما رأيت، فعفا عنه النبي صلى الله عليه وسلم ١٤٨.
المفردات :
ميثاق، الميثاق : العهد.
فنبذوه وراء ظهورهم : أي طرحوه خلفها والمقصود أنهم أهملوه ولم يعملوا به
واشتروا به ثمنا قليلا : واستبدلوا بهذا الميثاق مقابلا قليلا من أعراض الدنيا.
التفسير :
بشرت التوراة برسول الله صلى الله عليه وسلم، وكذلك الإنجيل، وفي الآية تقرير بأن الله أخذ عهدا من اهل الكتاب بأن يبينوا للناس ما في كتبهم، ويظهروا ما فيها من أحكام، ولا يكتموا ما فيها من الحقائق.
ولكن اهل الكتاب لم يعملوا بذلك العهد بل نبذوه خلف ظهورهم واستبدلوا به شيئا حقيرا من حطام الدنيا، هو الرياسة الدينية والجاه والمال الحرام، فبئس هذا الشراء تلك الصفقة الخاسرة.
قال ابن كثير : هذا توبيخ من الله، وتهديد لأهل الكتاب، الذين أخذ الله عليهم العهد على ألسنة الأنبياء، أن يؤمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم، وان ينوهوا بذكره في الناس، فيكونوا على أهبة من أمره، فإذا أرسله الله تابعوه، فكتموا ذلك وتعوضوا عما وعدوا عليه من الخير في الدنيا والآخرة، بالدون الطفيف، والحظ الدنيوي السخيف، فبئست الصفقة صفقتهم، وبئست البيعة بيعتهم ١٤٩.
والآية، وإن نزلت توبيخا وتهديدا ووعيدا لأهل الكتاب على كتمانهم العلم، وعدم بيان الحق لأغراض دنيوية، ففيها تحذير ضمني للعلماء عن أن يسلكوا سبيلهم، فيحل بهم مثل عقابهم، وقد جاء ذلك صراحة في قوله صلى الله عليه وسلم :
" من سئل عن علم فكتمه، ألجم يوم القيامة بلجام من نار " ١٥٠ أخرجه أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه.
المفردات :
يفرحون : يفرحون بما جاءوا به نفاقا او رياء من الأقوال أو الأفعال.
بمفازة من العذاب : بمنجاة منه.
التفسير :
١٨٨- ﴿ لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا فلا تحسبنهم بمفازة من العذاب ولهم عذاب أليم ﴾.
لا يزال الكلام موصولا مع أهل الكتاب : فالآية نازلة فيهم :
أخرج الإمام أحمد، عن حميد بن عبد الرحمن بن عوف : أن مروان بن محمد، قال : اذهب يا رافع " بوابه " إلى ابن عباس رضي الله عنه، فقل له : لئن كان كل امرئ منا فرح بما أتى وأحب أن يحمد بما لم يفعل معذبا، لنعذبن أجمعون. فقال ابن عباس : وما لكم وهذه، إنما نزلت هذه في اهل الكتاب. ثم تلا ابن عباس :﴿ وإذا أخذ الله ميثاق الذين أ توا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه فنبذوه وراء ظهورهم واشتروا به ثمنا قليلا فبئس ما يشترون ﴾. وتلا ابن عباس :﴿ لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا فلا تحسبنهم بمفازة من العذاب ولهم عذاب أليم ﴾.
وقال ابن عباس : سألهم النبي صلى الله عليه وسلم عن شيء فكتموه، وأخبروه بغيره فخرجوا قد أروه أن قد اخبروه بما سألهم عنه، واستحمدوا بذلك إليه، وفرحوا بما أتوا كتمانهم ما سألهم عنه.
وروى نحوه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي وغيرهم.
وقيل نزلت في المنافقين : لما رواه البخاري ومسلم وغيرهما واللفظ للبخاري عن أبي سعيد الخذري : أن رجالا من المنافقين على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، كانوا إذا خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الغزو تخلفوا عنه، وفرحوا بمقعدهم. خلاف رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم، من الغزو، اعتذروا إليه، وحلفوا وأحبوا ان يحمدوا بما لم يفعلوا، فنزلت :﴿ ولا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا الآية ﴾.
وعلى هذا، فالمراد من حب المنافقين أن يحمدوا بما لم يفعلوا : أنهم أرادوا أن يحمدهم المؤمنون بسرورهم الذي أظهروه نفاقا بنصر المؤمنين، ولم يكن سرورا نابعا من قلوبهم. فاعتبره الله تعالى في حكم المنفى.
وقد جاء التصريح بسرورهم الظاهر بالنصر، في رواية طويلة، لابن مردوية في تفسيره، جاء فيها : وإن كان لهم نصر وفتح، حلفوا لهم ليرضوهم ويحمدوهم على سرورهم بالنصر والفتح.
ولا منافاة بين ما قاله ابن عباس وما قاله أبو سعيد الخدري في سبب النزول فالآية عامة في جميع ما ذكر. وهي- وإن نزلت لهذا السبب الخاص، أو لهما معا- فهي بعموم لفظها، عامة لكل من يأتي بشيء من الحسنات : بظاهره أو بحقيقته، فيفرح به فرح إعجاب، ويود أن يمدحه الناس بما هو عار عنه من الفضائل. كأين يقولون فيه : هو صادق فيما قال. أو مخلص فيما فعل. او عظيم الإحسان والمبرات، او نحو ذلك مما ليس فيه.
ويدخل في هذا العموم : من نزلت فيهم الآية، دخولا أوليا.
والخطاب في قوله تعالى : لا تحسبن للنبي صلى الله عليه وسلم، او لكل من يصلح للخطاب.
والمعنى : لا تظنن الذين يفرحون فرح إعجاب بما جاءوا به مما ظاهره الخير، وباطنه النفاق او العجب، او التجرد عن النية الصالحة، ويحبون ان يحمدوا بما لم يفعلوا، بأن يقال : إنهم صادقون، أو مخلصون محسنون، او غير ذلك من الصفات الجميلة : التي أرادوا ان تقال في شأنهم على وجه الحمد والثناء وهو منها براء.
﴿ فلا تحسبنهم بمفازة من العذاب ﴾. فلا تظننهم بمنجاة من العذاب الأخروي، وإن أفلتوا من المؤاخذة الدنيوية.
والمقصود من نهيه صلى الله عليه وسلم : أن يظنهم ناجين من العذاب، هو التنبيه على أنهم معذبون حتما على نياتهم الخبيثة، ونفاقهم الممقوت، وليس المقصود نهيه حقيقة عن ظنه نجاتهم. فهو " عليه السلام " عليم باستحقاقهم العذاب، ما داموا مصرين على ما هم عليه من الطوية الخبيثة، طبقا لما نزل عليه من شرع الله تعالى.
وذكر قوله : فلا تحسبنهم. بعد قوله : لا تحسبن الذين يفرحون لتأكيد الوعيد، لطول الكلام.
أما قوله : بمفازة فهو المفعول الثاني لتحسبن الأول.
ولهم عذاب أليم هذه الجملة قصد بها : ان العذاب الذي لا ينجو منه هؤلاء، وليسوا منه بمفازة، هم عذاب بليغ الإيلام في شدته ومدته ونوعه، وليس عذابا هينا يمكن احتماله.
المفردات :
ملك السموات والأرض : سلطانه عليهما خلقا وملكا وتدبيرا وتصرفا.
التفسير :
أي : له تعالى " وحده " السلطان فيهما خلقا وتدبيرا وإحياء لمن فيهما إماتة، وتعذيبا وإثابة.
ومن كان كذلك، لا يقال : إنه فقير، وبعض عبادة أغنياء، كما زعم اليهود، إذ قالوا : إن الله فقير ونحن أغنياء. ( آل عمران ١٨١ ).
ولا يفلت من عقابه من أحب أن يحمد بما لم يفعل، كما فعلوا هم وغيرهم.
والله على كل شيء قدير : فكما قدر على خلق السموات والأرض، يقدر على بعث الخلائق وجزائهم على أقوالهم وأفعالهم ونياتهم :{ كما بدأنا أول خلق نعيده وعدا علينا إنا كنا فاعلين ( الأنبياء : ١٠٤ ).
التفسير :
١٩٠- ﴿ إن في خلق السموات والأرض ﴾.
ذكر الله سبحانه هنا آيتين فقط هما خلق السموات والأرض، واختلاف الليل والنهار، لان المقصود بإثارة الانتباه ولفت القلوب والأفئدة إلى بديع صنع الله.
( والقرآن يوجه القلوب والأنظار مكررا إلى هذا الكتاب المفتوح، الذي لا تفتأ صفحاته تقلب فتتبدى في كل صفحة منه آية موحية تستجيش في الفطرة السليمة إحساسا بالحق المستقر في صفحات هذا الكتاب وفي ( تصميم ) هذا البناء، ورغبة في الاستجابة لخالق هذا الخلق، ومودعه هذا الحق، مع الحب له والخشية منه في ذات الأوان ( وألوا الألباب ) : أولوا الإدراك الصحيح يفتحون بصائرهم لاستقبال آيات الله الكونية، لا يقيمون الحواجز ولا يغلقون المنافذ بينهم وبين الآيات ويتوجهون إلى الله بقلوبهم قياما وقعودا وعلى جنوبهم، فتتفتح بصائرهم، وتشف مداركهم، تتصل بحقيقة الكون التي أودعها الله إياه وتدرك غاية وجوده وعلة نشأته، وقوام فطرته، وبالإلهام الذي يصل بين القلب البشرى نواميس هذا الوجود.. ( ومشهد السموات والأرض، ومشهد اختلاف الليل والنهار، لو فتحنا له بصائرنا وقلوبنا وإدراكنا لو تلقيناه كمشهد جديد تنفتح عليه العيون أول مرة، لو استنقذنا أنفسنا من همود الإلف وخمود التكرار، لاهتزت له مشاعرنا ولأحسسنا أن وراء ما فيه من تنافس لابد من يد تنسق وراء ما فيه من نظام لابد من عقل يدبر، ووراء ما فيه من إحكام لابد من ناموس لا يتخلف.. وأن هذا كله لا يمكن ان يكون خداعا، ولا يمكن أن يكون جزافا، ولا يمكن أن يكون باطلا١٥١. ( ولا ينقص من اهتزازنا للمشهد الكوني الرائع ان نعرف ان الليل والنهار، ظاهرتان ناشئتان من دورة الأرض حول نفسها أمام الشمس، ولا ان تناسق السموات والأرض مرتكز إلى ( الجاذبية ) أو غير الجاذبية، هذه فروض تصح أو لا تصح، وهي في كلتا الحالتين لا تقدم ولا تؤخر في استقبال هذه العجينة الكونية، واستقبال النواميس الهائلة الدقيقة التي تحكمها وتحفظها... وهذه أيا كان اسمها عند الباحثين من بني الإنسان هي آية القدرة وآية الحق، في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار ). ( والسياق القرآني هنا يصور خطوات الحركة النفسية التي ينشأها استقبال مشهد السموات والأرض واختلاف الليل والنهار في مشاعر أولي الألباب تصوير إيماني، يلفت القلوب إلى المنهج الصحيح في التعامل مع الكون، وفي التجاوب مع فطرته وحقيقته، والانطباع بإشاراته وإيحاءاته، ويجعل من كتاب الكون المفتوح كتاب ( معرفة ) للإنسان المؤمن الموصول بالله وبما تبدعه يد الله )١٥٢.
عبادة النبي صلى الله عليه وسلم :
ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقرأ الآيات العشر من آخر سورة آل عمران إذا قام من الليل لتجهده. قال البخاري رحمه الله عن ابن عباس رضي الله عنه قال : بت عند خالتي ميمونة فتحدث رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أهله ساعة، ثم رقد، فلما كان ثلث الليل الآخر قعد فنظر إلى السماء فقال : إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب. الآيات، ثم قام فتوضأ واستن ثم صلى إحدى عشر ركعة ثم أذن بلال فصلى ركعتين ثم خرج فصلى بالناس الصبح١٥٣.
والآيات واردة في الأذكار والدعاء، فمن شأن المؤمنين أن يتأملوا في خلق السموات وارتفاعها واتساعها وجلالها وجمالها، وفي خلق الأرض وانخفاضها وكثافتها واتضاعها وما فيها من بحار وجبال وقفار وأشجار ونبات وزرع وثمار وحيوان ومعادن ومنافع. واختلاف الليل والنهار. أي تعاقبهما وكون كل منهما خلفة للآخر أو في تفاوتهما بازدياد كل منهما بانتقاص الآخر، وانتقاصه بازدياده.
لآيات لأولي الألباب. لأدلة واضحة على الصانع وعظيم قدرته وباهر حكمته.
لأولي الألباب أي لأصحاب العقول التامة، والأفئدة المتفتحة.
المفردات :
الذين يذكرون الله قياما : في صلاتهم.
وقعودا : في تشهدهم وفي غير صلاتهم.
وعلى جنوبهم : نياما وفي حالات ابن آدم كلها.
ما خلقت هذا باطلا : عبثا ولا لعبا : إلا لأمر عظيم.
التفسير :
الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم. فهم يستغرقون في تذكر خالقهم، ويذكرونه في جميع أحوالهم، وإنما خص الأحوال المذكورة لأنها الأحوال المعهودة التي لا يخلو عنها الإنسان غالبا وليس ذلك لتخصيص الذكر بها١٥٤.
وقيل المراد بالذكر هنا الصلاة، كما ثبت في الصحيحين عن عمران بن حصين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " صل قائما فإن لم تستطع فقاعدا فإن لم تستطع فعلى جنبك " ١٥٥.
ويتفكرون في خلق السموات والأرض. يتأملون في كتاب الكون وفي يد الله المبدعة وهي تحركه وتقلب صفحاته وتبدع نظامه وهو أمر لا يتيسر إلا لأصحاب الفطرة السليمة، وفي لحظة تمثل صفاء القلب وشفافية الروح وتفتح الإدراك واستعداده للتلقي، كما تمثل الاستجابة والتأثير والانطباع... إنها لحظة العبادة وهي بهذا الوصف لحظة اتصال ولحظة استقبال.
فلا عجب ان يكون الاستعداد فيها لإدراك الآيات الكونية أكبر، وان يكون مجرد التفكير في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار، ملهما للحقيقة الكامنة فيها ؟، ولإدراك انها لم تخلق عبثا ولا باطلا.
وقد ذم الله الغافلين ومدح أهل الفكر والعبادة بالقلب والتأمل القائلين : ربنا ما خلقت هذا باطلا. أي ما خلقت هذا الخلق عبثا بل بالحق لتجزي الذين أساءوا بما عملوا وتجزي الذين أحسنوا بالحسنى قال تعالى :{ أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا وأنكم إلينا لا ترجعون، فتعالى الله والملك الحق لا إله إلا هو رب العرش الكريم ( المؤمنون ١١٥-١١٦ ).
سبحانك. تنزهت عن ان تخلق هذا الكون باطلا.
سبحانك. تنزهت عن العبث وان تخلق شيئا بغير حكمة.
فقنا عذاب النار. إن قلوبهم المتدبرة المستبصرة انطلقت مع ألسنتهم بذلك الدعاء الطويل، الخاشع الواجف الراجف المنيب، ذي النغم العذب والإيقاع المنساب، والحرارة البادية في المقاطع والأنغام.
وقد رأيت أدبهم في الدعاء فقد بدأوا بتسبيح الله وتنزيهه ثم عقبوا بالدعاء وفي الحديث الصحيح : إذا صلى أحدكم فليبدأ بتحميد ربه سبحانه، والثناء عليه ثم يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم، ثم يدعو بعد بما شاء رواه أبو داود١٥٦.
واعلم انه لما حكى تعالى عن هؤلاء العباد المخلصين أن ألسنتهم مستغرقة بذكر الله تعالى، وأبدانهم في طاعة الله وقلوبهم في التفكر في دلائل عظمة الله ذكر انهم مع هذه الطاعات يطلبون من الله الوقاية من عذاب النار، ويسألونه المغفرة لذنوبهم، والنجاة يوم القيامة.
المفردات :
أخزيته : أهلكته أو فضحته أو أهنته.
التفسير :
١٩٢- ﴿ ربنا إنك من تدخل النار فقد أخزيته... الآية ﴾.
أي أبعدنا يا ربنا عن عذاب النار فإنك من تدخله النار تكون قد أخزيته أي أهنته وفضحته على رءوس الأشهاد :
وما للظالمين من أنصار. أي ما لظالم من الظالمين نصير من الأنصار.
المفردات :
الأبرار : جمع بر والبر والبار هو كثير البر والإحسان.
التفسير :
١٩٣- ﴿ ربنا إننا سمعنا مناديا ينادي للإيمان أن آمنوا بربكم فآمنا ربنا فاغفر لنا ذنوبنا وكفر عنا سيئاتنا وتوفنا مع الأبرار ﴾.
المنادي : هو الرسول صلى الله عليه وسلم، وقال محمد بن كعب المنادي : هو القرآن.
والمعنى ربنا إننا سمعنا داعيا : يدعو الناس إلى الإيمان بربكم فاستجبنا لدعائه وبادرنا إلى الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر.
ربنا فاغفر لنا ذنوبنا وكفرها وتوفنا مع الأبرار، طلبوا من الله ثلاثة أشياء : غفران الذنوب المتقدمة وتكفير السيئات المستقبلة، وان تكون وفاتهم مع الأبرار بأن يموتوا على مثل أعمالهم حتى يكونوا في درجاتهم يوم القيامة، قال تعالى :{ ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا. ( النساء ٦٩ ).
تفيد الآيات السابقة إخلاص الدعاء من المؤمنين، واشتراك الرجال مع النساء في الهجرة والإخراج والأذى والقتل والقتال وان الجنسين متضامنان تضامنا وثيقا، ولعل قرن المرأة بالرجل في هذا المقام وبهذا الأسلوب من أقوى مؤيدات مساواتها في الشريعة الإسلامية في الحقوق والواجبات العامة، ومن أقوى مؤيدات أهلية المرأة في نظر الشريعة لكل واجب عام، ولقد قرنت الأنثى بالذكر في مواضع عديدة من القرآن المكي والمدني.
ففي سورة البروج المكية يقول سبحانه :﴿ إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات ثم لم يتوبوا فلهم عذاب جهنم ولهم عذاب الحريق ﴾ ( البروج ١٠ ).
وفي سورة الأحزاب المدنية يقول سبحانه :﴿ إن المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات والقانتين والقانتات والصادقين والصادقات والصابرين والصابرات والخاشعين والخاشعات والمتصدقين والمتصدقات والصائمين والصائمات والحافظين فروجهم والحافظات والذاكرين الله كثيرا والذاكرات أعذ الله لهم مغفرة وأجرا عظيما ﴾ ( الأحزاب ٣٥ ).
وقد روى الترمذي عن ام سلمة قالت : قلت : يا رسول الله لا اسمع الله تعالى ذكر النساء في الهجرة١٥٩ فأنزل الله تعالى :{ فاستجاب لهم ربهم أني لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر او أنثى بعضكم من بعض١٦٠.
المفردات :
لا تخزنا : لا تهنا، ولا تفضحنا. أو لا تهلكنا.
التفسير :
أي ربنا أعطنا ما وعدتنا من حسن الجزاء كالنصر في الدنيا والنعيم في الآخرة، جزاء على تصديق رسلك واتباعهم.
أو ربنا أعطنا الثواب ما وعدتنا على السنة رسلك.
ولا تخزنا يوم القيامة. لا تفضحنا ولا تهتك سترنا يوم القيامة، بإدخالنا النار التي يخزى من دخلها.
إنك لا تخلف الميعاد. أي لا تخلف ما وعدت به على الإيمان وصالح العمل، فقد وعدت بسيادة الدنيا وسعادة الآخرة.
قال تعالى :{ وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفهم في الأرض. ( النور ٥٥ ).
وقال عز شأنه ﴿ وعد الله المؤمنون والمؤمنات جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ومساكن طيبة في جنات عدن ورضوان من الله اكبر ذلك الفوز العظيم ﴾ ( التوبة ٧٢ ).
تفيد الآيات السابقة إخلاص الدعاء من المؤمنين، واشتراك الرجال مع النساء في الهجرة والإخراج والأذى والقتل والقتال وان الجنسين متضامنان تضامنا وثيقا، ولعل قرن المرأة بالرجل في هذا المقام وبهذا الأسلوب من أقوى مؤيدات مساواتها في الشريعة الإسلامية في الحقوق والواجبات العامة، ومن أقوى مؤيدات أهلية المرأة في نظر الشريعة لكل واجب عام، ولقد قرنت الأنثى بالذكر في مواضع عديدة من القرآن المكي والمدني.
ففي سورة البروج المكية يقول سبحانه :﴿ إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات ثم لم يتوبوا فلهم عذاب جهنم ولهم عذاب الحريق ﴾ ( البروج ١٠ ).
وفي سورة الأحزاب المدنية يقول سبحانه :﴿ إن المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات والقانتين والقانتات والصادقين والصادقات والصابرين والصابرات والخاشعين والخاشعات والمتصدقين والمتصدقات والصائمين والصائمات والحافظين فروجهم والحافظات والذاكرين الله كثيرا والذاكرات أعذ الله لهم مغفرة وأجرا عظيما ﴾ ( الأحزاب ٣٥ ).
وقد روى الترمذي عن ام سلمة قالت : قلت : يا رسول الله لا اسمع الله تعالى ذكر النساء في الهجرة١٥٩ فأنزل الله تعالى :{ فاستجاب لهم ربهم أني لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر او أنثى بعضكم من بعض١٦٠.
المفردات :
فاستجاب : بمعنى أجاب.
هاجروا : تركوا الشرك أو تركوا الأوطان والعشائر.
التفسير :
أي فاستجاب لهم ربهم دعاءهم لصدقه في إيمانهم فأجابهم إلى ما طلبوا ووعدهم بتحقيق ما سألوا.
أني لا أضيع عمل عامل منكم. أي لا أزيل ثواب عمل أي عامل منكم بل أكافئه عليه بما يستحقه وأعطيه من ثوابي ورحمتي ما يشرح صدره.
من ذكر أو أنثى. بيان لعامل أو تأكيد لعمومه، أي لا أضيع عمل أي شخص سواء أكان هذا العامل ذكر أم أنثى.
بعضكم من بعض. جملة معترضة لبيان سبب اشتراك النساء مع الرجال، في الثواب وجزاء الأعمال الصالحة فالذكر مفتقر في وجوده إلى الأنثى، والأنثى مفتقرة في وجودها إلى الرجل، ويجوز أن يكون المعنى : بعضكم من بعض في الطاعة والعمل الصالح، أي أنتما متماثلان فلا وجه للتفرقة بينكما في الثواب، فإن المماثلة في العمل، تستدعي المماثلة في الأجر.
قال ابن كثير : أي جميعكم في ثوابي سواء.
فالذين هاجروا. بان تركوا أوطانهم إلى أماكن أخرى من أجل إعلاء كلمة الله.
واخرجوا من ديارهم. أي ضايقهم المشركون بالأذى حتى خرجوا فرارا من ظلم الظالمين أو اعتداء المعتدين.
وأوذوا في سبيلي. من أجل ديني قال تعالى :﴿ وما نقموا إلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد ﴾ ( البروج ٨ ).
وقاتلوا وقتلوا. وجاهدوا المشركين واستشهدوا وقد ثبت في الصحيحين أن القتل في سبيل الله يكفر كل شيء إلا الدين١٥٧.
لأكفرن عنهم سيئاتهم. لأغفرنها لهم ولأسترنها عليهم.
ولأدخلنهم جنات تجري من تحتها الأنهار. أي تجري في خلالها الأنهار، من أنواع المشارب من لبن وعسل وخمر وماء غير آسن، وغير ذلك مما لا عين رأت، ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر.
ثوابا من عد الله والله عنده حسن الثواب. أي لأثيبهم ثوابا عظيما من عندي، لا يقدر عليه غيري، والله تعالى عنده خير الجزاء، وهذه الجملة تأكيد لشرف ذلك الثواب. لبيان اختصاصه بالثواب الحسن، كأن كل جزاء للأعمال في الدنيا لا يعد حسنا، بجوار ما أعده سبحانه في الآخرة لعباده المتقين.
والآية كما ترى تعرض نماذج بشرية مخلصة في الدعاء والعمل، ولقد هاجروا من وطنهم وتحملوا الأذى في سبيل عقيدتهم، واقبلوا على الجهاد والشهادة، فاستحقوا مغفرة لذنوبهم، وثوابا عظيما من خالقهم ورازقهم.
وقد ذكر المؤخرون أن الرسول صلى الله عليه وسلم عندما خرج من مكة مهاجرا، التفت إليها وقال : " يا مكة لانت أحب بلاد الله إلي ولولا أن قومك أخرجوني ما خرجت " ١٥٨.
تفيد الآيات السابقة إخلاص الدعاء من المؤمنين، واشتراك الرجال مع النساء في الهجرة والإخراج والأذى والقتل والقتال وان الجنسين متضامنان تضامنا وثيقا، ولعل قرن المرأة بالرجل في هذا المقام وبهذا الأسلوب من أقوى مؤيدات مساواتها في الشريعة الإسلامية في الحقوق والواجبات العامة، ومن أقوى مؤيدات أهلية المرأة في نظر الشريعة لكل واجب عام، ولقد قرنت الأنثى بالذكر في مواضع عديدة من القرآن المكي والمدني.
ففي سورة البروج المكية يقول سبحانه :﴿ إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات ثم لم يتوبوا فلهم عذاب جهنم ولهم عذاب الحريق ﴾ ( البروج ١٠ ).
وفي سورة الأحزاب المدنية يقول سبحانه :﴿ إن المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات والقانتين والقانتات والصادقين والصادقات والصابرين والصابرات والخاشعين والخاشعات والمتصدقين والمتصدقات والصائمين والصائمات والحافظين فروجهم والحافظات والذاكرين الله كثيرا والذاكرات أعذ الله لهم مغفرة وأجرا عظيما ﴾ ( الأحزاب ٣٥ ).
وقد روى الترمذي عن ام سلمة قالت : قلت : يا رسول الله لا اسمع الله تعالى ذكر النساء في الهجرة١٥٩ فأنزل الله تعالى :{ فاستجاب لهم ربهم أني لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر او أنثى بعضكم من بعض١٦٠.
المفردات :
تقلب الذين كفروا في البلاد : التقلب : التنقل. والمراد هنا : تنقلهم للتكسب بالاتجار والزراعة وغيرها وتقلبهم في النعمة.
التفسير :
١٩٦- ﴿ لا يغرنك تقلب الذين كفروا في البلاد ﴾.
الخطاب في لا يغرنك. إما للنبي صلى الله عليه وسلم، لتثبيته على ما هو عليه من عدم اغتراره بنعمته. فكأنه قال له : دم على ما أنت عليه من عدم الاغترار بتقلبهم في النعمة وتبسطهم في المكاسب والمتاجر والمزارع. وهذا كقوله تعالى للرسول :﴿ فلا تطع المكذبين ﴾ ( القلم ٨ ). أي استمر على ما أنت عليه من عدم طاعتهم.
وقيل الخطاب " وإن كان له صلي الله عليه وسلم " فالمراد به : نهي المؤمنين عن الاغترار بما فيه الكفار من النعيم كما يوجه الخطاب إلى رئيس القوم، والمراد به أتباعه.
وقيل : هو خطاب لكل من يصلح له من المؤمنين.
ذكر المفسرون بأسانيدهم : ان بعض المؤمنين كانوا يرون المشركين في رخاء ولين عيش، فيقولون : إن أعداء الله تعالى فيما نرى من الخير وقد أهلكنا من الجوع والجهد.. فنزلت الآية.
والمعنى : لا يخدعك ما هم عليه من سعة الرزق، وإصابة الربح ورخاء العيش، فتظنه خيرا متصلا ومتاعا دائما.
المفردات :
متاع قليل : تمتع يسير.
ثم مأواهم : المأوى محل الإقامة.
المهاد : المكان الممهد.
التفسير :
أي هو متاع قليل. مهما عظم في جانب ما ذكر من ثواب الله للمؤمنين فعما قريب يؤتون فينقضي نعيمهم الذي استدرجهم الله به ويمسون مرتهنين بأعمالهم السيئة.
ثم مأواهم جهنم وبئس المهاد. ثم إنهم بعد ذلك التمتع اليسير والتنعم القليل صائرون إلى عذاب جهنم التي مهدوها وهيئوها لأنفسهم بكفرهم، وساء ما يمهدون لأنفسهم : جهنم.
والتعبير بالمهاد عن النار، للتهكم بسوء اختيارهم. فإن العاقل لا يهيئ لنفسه مكان عذاب وهوان يقيم فيه.
المفردات :
نزلا : النزل : ما يقدم للضيف عند نزوله او المنزل ومنه قوله الله تعالى :... كانت لهم جنات الفردوس نزلا.. ( الكهف ١٠٧ ).
التفسير :
لما حذر الله المؤمنين من الاغترار بما فيه الكافرون من نعيم فان، أتبعه بيان حسن عاقبة المؤمنين، ليزدادوا صبرا على ما هم فيه من شظف العيش انتظارا لهذا النعيم المقيم.
والمعنى : هذا حال الذين كفروا ومآلهم الفظيع لكن الذين اتقوا ربهم. بالإيمان والعمل الصالح لهم جنات تجري من تحتها الأنهار، خالدين فيها لا يبرحونها أبدا.
نزلا من عند الله. رزقا كريما من عند الله، او منزلا عظيما من عنده.
وما عند الله خيرا للأبرار. أي ما أعده الله لمن أطاع الله لمن أطاعه من النعيم الكثير الدائم، خير للأبرار وأبقى مما يتقلب فيه الكفار، من قليل زائل ونعيم حائل وحطام فان.
وصدق رسول الله عليه وسلم إذ يقول : " ما الدنيا في الآخرة إلا مثل ما يجعل أحدكم أصبعه في اليم بم يرجع ؟ " ١٦١.
المفردات :
خاشعين لله : خاضعين له.
لا يشترون : لا يستبدلون.
التفسير :
١٩٩- ﴿ وإن من اهل الكتاب لمن يؤمن بالله وما انزل إليكم وما أنزل إليهم خاشعين لله لا يشترون بآيات الله ثمنا قيلا لهم أجرهم عند ربهم إن الله سريع الحساب ﴾.
أي وإن من اليهود والنصارى لفريقا يؤمن بالله إيمانا حقا، منزها عن الإشراك بكل مظاهره وما انزل إليكم من القرآن، وما أنزل إليهم من التوراة والإنجيل، ولا يزالون مع هذا الإيمان خاضعين لله، خائفين من عقابه طالبين رضاه، لا يستبدلون بآيات الله، التي أنزلها في التوراة والإنجيل عوضا قليلا، هو عرض من أعراض الدنيا الفانية لأن الثمن هذا المأخوذ قليل حتى ولو بلغ القناطير المقنطرة من الذهب والفضة.
فالآية وصفتهم بخمس صفات هي :
١- الإيمان بالله.
٢- الإيمان بالقرآن.
٣- الإيمان بالتوراة والإنجيل.
٤- الخشوع والخضوع لأمر الله.
٥- عدم التفريط في أحكام الله، وعدم بيعها بأي عرض من أعراض الدنيا.
وقد ذكر القرآن ما يشبه هذه الآيات في كثير من سوره وذلك من إنصاف القرآن، فهو كتاب حق أنزله الله الحق، وقد نزل بالحق، ليحق الحق ويبطل الباطل.
ويتبادر للذهن أن هذه الآية استهدفت الاستدراك على ما جاء في الآيتين ١٨٦-١٨٧ من التنديد بأهل الكتاب، الذين يناوئون الدعوة النبوية، ويؤذون المسلمين ويكتمون ما عندهم من البينات.
وقريب من هذه الآية قوله تعالى :{ ليسوا سواء من اهل الكتاب امة قائمة يتلون آيات الله آناء الليل وهو يسجدون، يؤمنون بالليل واليوم الآخر ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويسارعون في الخيرات وأولئك من الصالحين. ( آل عمران ١١٣-١١٤ ).
وفي تفسير الطبري والطبرسي والخازن وابن كثير وغيرهم من المفسرين، روايات عديدة في مناسبة نزول هذه الآية وفيمن عنته، منها انها نزلت في النجاشي ملك الحبشة، ومن آمن من قومه بالرسالة النبوية فإن النبي لما بلغه موت النجاشي دعا إلى الصلاة عليه. فقال المنافقون : إنه يصلي على رجل من غير دينه، فنزلت هذه الآية، ومنها انها نزلت في عبد الله بن سلام، أحد أحبار اليهود وغيره من أفراد اليهود، الذين آمنوا بالرسالة المحمدية، ومنها أنها نزلت فيمن آمن بهذه الرسالة من أهل الكتاب عامة.
وذكر المفسرون ان من اسلم من أحبار اليهود لم يبلغ عددهم عشرة وفيهم عبد الله بن سلام وزيد بن سعنة.
وأما النصارى فكانوا كثيرين، فقد اسلم أربعون من أهل نجران واثنان وثلاثون من الحبشة وثمانية من الروم.
اصبروا : الصبر حبس النفس على المكاره.
ورابطوا : المرابطة، الملازمة في سبيل الله.
يا أيها الذين آمنوا اصبروا. أي على المشقات والطاعات، وما ينالكم من المكاره والشدائد.
وصابروا. أي غالبوا أعداء الله في الصبر على شدائد الجهاد، ولا تكونوا أقل منهم صبرا وثباتا، والمصابرة باب من الصبر.
ورابطوا. أي أقيموا على مرابطة الغزو في نحر العدو بالترصد ولاستعداد لحربهم قال تعالى : وأعيدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل. ( الأنفال ٦٠ ).
والرباط مأخوذ من ربط الخيل وشدها.
وليس بلازم أن يكون الرباط بالخيل في كل حال او زمان أو مكان، إذ المقصود رصد حركات العدو والتأهب لصده عن البلاد الإسلامية وليس بلازم أن يكون في أطراف الإقليم فحسب، بل في أي مكان منه، يمكن أن يصل العدو بطائرته إلى أماكن متعددة في وطن عدوه، فالرباط في هذه الحالة، يكون بالإقامة في كل مكان يظن ان يقصده العدو مع التأهب بكافة أنواع الأسلحة المضادة لهجومه أو استطلاعه، واستعمال أحدث أنواع الأجهزة لرصده : أرضا أو بحرا أو جوا.
وجمهور المفسرين١٦٢ على أن المراد بالرباط في الآية هو الجهاد في سبيل الله، وبعض المفسرين ذهب إلى أن المراد بالرباط والمرابطة هو المكث في المساجد وانتظار الصلاة بعد الصلاة.
روى مسلم١٦٣ والنسائي عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " ألا أخبركم بما يمحو الله به الخطايا، ويرفع به الدرجات ؟ إسباغ الوضوء على المكاره، وكثرة الخطا إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة فذلكم الرباط، فذلكم الرباط " ١٦٤.
وعند التأمل نجد ان الرباط يشمل الجهاد في سبيل الله وعلى وجه الخصوص حراسة الثغور وحماية الأماكن التي نتوقع فيها هجوم العدو عليها كما يشمل عمارة المسجد وانتظار الصلاة بعد الصلاة.
على إطلاق الرباط على الجهاد أمر معروف مألوف كثير الورد وخاصة أن سياق السورة يرشح هذا المعنى لكن من إعجاز القرآن ان الكلمة تشير إلى معنى وتستتبع معنى.
***
وقد اورد المفسرون طائفة من الأحاديث النبوية الشريفة من فضل الجهاد والرباط، منهم ابن كثير فقد ساق ثمانية أحاديث نبوية شريفة عن فضل الجهاد وثواب المجاهدين عند تفسير الآية، وقريب من ذلك ورد في تفسير القاسمي، والتفسير الحديث.
فضل الجهاد
روى البخاري في صحيحه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :
" تعس عبد الدينار تعس عبد الدرهم تعس عبد الخميصة١٦٥ إن أعطى رضي وإن لم يعط سخط تعس وانتكس، وإذا شيك فلا انتقش١٦٦ طوبي لعبد آخذ بعنان فرسه في سبيل الله أشعث رأسه مغبرة قدماه، إذا كان في الحراسة كان في الحراسة١٦٧ وإن كان في الساقة كان في الساقة وإن استأذن لم يؤذن له " ١٦٨.
***
وروى مسلم عن سلمان الفارسي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " رباط يوم وليلة خير من صيام شهر وقيامه، وإن مات جرى عليه عمله الذي كان يعلمه، وأجري عليه رزقه وأمن الفتان " ١٦٩.
***
وقال صلى الله عليه وسلم : " حرمت النار على عين سهرت في سبيل الله " ١٧٠