ﰡ
سورة يس
(بسم الله الرحمن الرحيم) مكية، [إلا آية ٤٥ فمدنية] وآياتها ٨٣ [نزلت بعد الجنّ]
[سورة يس (٣٦) : الآيات ١ الى ٧]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
يس (١) وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ (٢) إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (٣) عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٤)تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (٥) لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أُنْذِرَ آباؤُهُمْ فَهُمْ غافِلُونَ (٦) لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (٧)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قرئ: يس، بالفتح «١»، كأين وكيف. أو بالنصب على اتل يس، وبالكسر على الأصل كجير، وبالرفع على هذه يس. أو بالضم كحيث. وفخمت الألف وأميلت «٢». وعن ابن عباس رضى الله عنهما: معناه يا إنسان في لغة طيئ، والله أعلم بصحته، وإن صح فوجهه أن يكون أصله يا أنيسين، فكثر النداء به على ألسنتهم حتى اقتصروا على شطره، كما قالوا في القسم: م الله في أيمن الله الْحَكِيمِ ذى الحكمة. أو لأنه دليل ناطق بالحكمة كالحي. أو لأنه كلام حكيم فوصف بصفة المتكلم به عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ خبر بعد خبر، أو صلة للمرسلين. فإن قلت: أى حاجة إليه خبرا كان أو صلة، وقد علم أنّ المرسلين لا يكونون إلا على صراط مستقيم؟ قلت: ليس الغرض
(٢). قوله «وأخفت الألف وأميلت» يعنى: قرأ الجمهور بالتفخيم. وقرأ بعضهم بالامالة، كما في النسفي. (ع)
إنك لمن المرسلين الثابتين على طريق ثابت، وأيضا فإن التنكير فيه دل على أنه أرسل من بين الصراط المستقيمة على صراط مستقيم لا يكتنه وصفه «١»، وقرئ تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ بالرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف، وبالنصب على أعنى، وبالجرّ على البدل من القرآن قَوْماً ما أُنْذِرَ آباؤُهُمْ قوما غير منذر آباؤهم على الوصف «٢» ونحوه قوله تعالى لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ، وَما أَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ. وقد فسر ما أُنْذِرَ آباؤُهُمْ على إثبات الإنذار.
ووجه ذلك أن تجعل ما مصدرية، لتنذر قوما إنذار آبائهم أو موصولة ومنصوبة على المفعول الثاني لتنذر «٣» قوما ما أنذره آباؤهم من العذاب، كقوله تعالى نَّا أَنْذَرْناكُمْ عَذاباً قَرِيباً
فإن قلت: أى فرق بين تعلقي قوله فَهُمْ غافِلُونَ على التفسيرين؟ قلت: هو على الأوّل متعلق بالنفي، أى: لم ينذروا فهم غافلون، على أن عدم إنذارهم هو سبب غفلتهم، وعلى الثاني بقوله إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ لتنذر، كما تقول: أرسلتك إلى فلان لتنذره، فإنه غافل. أو فهو غافل. فإن قلت: كيف يكونون منذرين غير منذرين لمناقضة هذا ما في الآي الأخر؟ قلت: لا مناقضة:
لأنّ الآي في نفى إنذارهم لا في نفى إنذار آبائهم، وآباؤهم القدماء من ولد إسماعيل وكانت النذارة فيهم «٤» فإن قلت: ففي أحد التفسيرين أنّ آباءهم لم ينذروا وهو الظاهر، فما تصنع به؟ قلت:
قال: وأيضا ففي تنكير الصراط أنه مخصوص من بين الصراط المستقيمة بصراط لا يكتنه وصفه. انتهى كلامه» قال أحمد: قد تقدم في مواضع أن التنكير قد يفيد تفخيما وتعظيما وهذا منه.
(٢). قال محمود: إنه على الوصف كقوله لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ قال: وقد فسر ما أُنْذِرَ آباؤُهُمْ على إثبات الانذار على أن ما مصدرية أو موصولة. قال: والفرق بين موقع الفاء على التفسيرين أنها على الأول متعلقة بالنفي معنى جوابا له، والمعنى أن نفى إنذارهم هو السبب في غفلتهم، وعلى الثاني بقوله إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ لتنذر، كما تقول: أرسلناك إلى فلان لتذره، فانه غافل أو فهو غافل انتهى» قال أحمد: يعنى أنها على التفسير الثاني تفهم أن غفلتهم سبب في إنذارهم.
(٣). قوله «على المفعول الثاني لتنذر» لعل بعده سقطا تقديره: أى لتنذر. (ع)
(٤). قال محمود: فان قلت كيف يكونون منذرين على هذا التفسير غير منذرين في قوله ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ وأجاب بأن الآية لنفى إنذارهم لا لنفى إنذار آبائهم، وآباؤهم القدماء من ولد إسماعيل، وقد كانت النذارة فيهم.
قال: فما تصنع بأحد التفسيرين الذي مقتضاه أن آباءهم لم ينذروا وهو التفسير الأول في هذه الآية مع التفسير الثاني، ومقتضاء أنهم أنذروا، وأجاب بأن آباءهم الأباعد هم المنذرون لا آباؤهم الأدنون. قال: ثم مثل تصميمهم على للكفر وأنهم لا يرعوون ولا يرجعون بأن جعلهم كالمغلولين لمقمحين في أنهم لا يلتفتون إلى الحق ولا يطأطئون رؤسهم له، وكالحاصلين بين سدين لا يبصرون ما قدامهم ولا ما خلفهم قال والضمير للأغلال لأن طوق الغر يكون في ملتقى طرفيه تحت الذقن حلقة فيها رأس العمود نادرا من الحلقة إلى الذقن، فلا تخليه يطأطئ رأسه، فلا يزال مقمحا. انتهى كلامه» قال أحمد: إذا فرقت هذا التشبيه كان تصميمهم على الكفر مشبها بالأغلال، وكان استكبارهم عن قبول الحق وعن الخضوع والتواضع لاستماعه، مشبها بالاقماح، لأن المقمح لا يطأطئ رأسه.
وقوله: فَهِيَ إِلَى الْأَذْقانِ تتمة للزوم الاقماح لهم، وكان عدم الفكر في القرون الخالية مشبها بسد من خلفهم، وعدم النظر في العواقب المستقلة مشبها بسد من قدامهم.
[سورة يس (٣٦) : الآيات ٨ الى ٩]
إِنَّا جَعَلْنا فِي أَعْناقِهِمْ أَغْلالاً فَهِيَ إِلَى الْأَذْقانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ (٨) وَجَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْناهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ (٩)
ثم مثل تصميمهم على الكفر، وأنه لا سبيل إلى ارعوائهم بأن جعلهم كالمغلولين المقمخين:
في أنهم لا يلتفتون إلى الحق ولا يعطفون أعناقهم نحوه، ولا يطأطئون رءوسهم له، وكالحاصلين بين سدين لا يبصرون ما قدّامهم ولا ما خلفهم: في أن لا تأمل لهم ولا تبصر، وأنهم متعامون عن النظر في آيات الله. فإن قلت: ما معنى قوله فَهِيَ إِلَى الْأَذْقانِ؟ قلت: معناه: فالأغلال واصلة إلى الأذقان ملزوزة إليها، وذلك أن طوق الغل الذي في عنق المغلول، يكون ملتقى طرفيه تحت الذقن حلقة فيها رأس العمود، نادرا «١» من الحلقة إلى الذقن، فلا تخليه يطأطئ رأسه ويوطئ قذاله «٢»، فلا يزال مقمحا. والمقمح: الذي يرفع رأسه ويغض بصره. يقال:
قمح البعير فهو قامح: إذا روى فرفع رأسه. ومنه شهرا قماح «٣»، لأن الإبل ترفع رءوسها عن الماء لبرده فيهما، وهما الكانونان. ومنه: اقتحمت السويق. فإن قلت: فما قولك فيمن جعل الضمير للأيدى وزعم أن الغل لما كان جامعا لليد والعنق- وبذلك يسمى جامعة- كان ذكر الأعناق دالا على ذكر الأيدى «٤» ؟ قلت: الوجه ما ذكرت لك، والدليل عليه قوله
(٢). قوله «ويوطئ قذاله» في الصحاح «القذال» : جماع مؤخر الرأس، فتدبر. (ع)
(٣). قوله «ومنه شهرا قماح» بوزن كتاب وغراب، كما نقل عن القاموس. وفي الصحاح: سميا بذلك، لأن الإبل إذا وردت فيهما آذاها برد الماء فقامحت. (ع)
(٤). قال محمود: فان قلت: فما قولك فيمن جعل الضمير للأيدى وزعم أن الغل لما كان جامعا لليد والعنق وبذلك يسمى جامعة: كان ذكر الأعناق دالا على ذكر الأيدى. وأجاب بأن الوجه هو الأول، واستدل على هذا التفسير الثاني بقوله فَهُمْ مُقْمَحُونَ لأنه جعل الاقماح نتيجة قوله فَهِيَ إِلَى الْأَذْقانِ ولو كان الضمير للأيدى لم يكن معنى التسبب في الاقماح ظاهرا، وترك الحق الأبلج للباطل اللجلج. انتهى كلامه» قال أحمد: ويحتمل أن تكون الفاء للتعقيب كالفاء الأولى في قوله فَهِيَ إِلَى الْأَذْقانِ أو للتسبب، ولا شك أن ضغط اليد مع العنق في الغل يوجب الاقماح، فان اليد والعياذ بالله تعالى تبقى ممسكة بالغل تحت الذقن دافعة بها ومانعة من وطأتها، ويكون التشبيه أتم على هذا التفسير، فان اليد متى كانت مرسلة مخلاة كان للمغلول بعض الفرج بإطلاقها، ولعله يتحيل بها على فكاك الغل، ولا كذلك إذا كانت مغلولة، فيضاف إلى ما ذكرناه من التشبيهات المفرقة أن يكون انسداد باب الحيل عليهم في الهداية والاتخلاع من ربقة الكفر المقدر عليهم مشبها بغل الأيدى، فان اليد آلة الحيلة إلى الخلاص. [.....]
سدا بالفتح والضم. وقيل: ما كان من عمل الناس فبالفتح، وما كان من خلق الله فبالضم فَأَغْشَيْناهُمْ فأغشينا أبصارهم، أى: غطيناها وجعلنا عليها غشاوة عن أن تطمح إلى مرئى، وعن مجاهد: فأغشيناهم: فألبسنا أبصارهم غشاوة. وقرئ بالعين من العشا. وقيل: نزلت في بنى مخزوم، وذلك أن أبا جهل حلف لئن رأى محمدا يصلى ليرضخن رأسه، فأتاه وهو يصلى ومعه حجر ليدمغه به، فلما رفع يده أثبتت إلى عنقه ولزق الحجر بيده حتى فكوه عنها بجهد، فرجع إلى قومه فأخبرهم، فقال مخزومى آخر: أنا أقتله بهذا الحجر، فذهب، فأعمى الله عينيه «٢»
[سورة يس (٣٦) : الآيات ١٠ الى ١١]
وَسَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (١٠) إِنَّما تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ (١١)
فإن قلت: قد ذكر ما دلّ على انتفاء إيمانهم مع ثبوت الإنذار، ثم قفاه بقوله إِنَّما تُنْذِرُ «٣» وإنما كانت تصح هذه التقفية لو كان الإنذار منفيا. قلت: هو كما قلت، ولكن لما كان ذلك نفيا للايمان مع وجود الإنذار وكان معناه أن البغية المرومة بالإنذار غير حاصلة وهي الإيمان، قفى بقوله إِنَّما تُنْذِرُ على معنى: إنما تحصل البغية بإنذارك من غير هؤلاء المنذرين وهم المتبعون للذكر: وهو القرآن أو الوعظ، الخاشون ربهم.
(٢). أخرجه ابن إسحاق في السيرة في كلام طويل. ورواه أبو نعيم في الدلائل من طريق ابن إسحاق: حدثني محمد بن محمد بن سعيد، أو عكرمة، عن ابن عباس «أن أبا جهل قال: إنى أعاهد الله لأجلسن غدا لمحمد بحجر ما أطيق حمله فإذا سجد في صلاته فضخت به رأسه. فذكر نحوه إلى قوله قد يبست يداه على حجره، حتى قذف الحجر بين يديه: وأصله في البخاري من طريق عكرمة عن ابن عباس رضى الله عنهما.
(٣). قال محمود: «إن قلت: قد ذكر ما دل على انتفاء إيمانهم مع ثبوت الانذار، ثم قفاه بقوله إِنَّما تُنْذِرُ وإنما كانت التقفية تصح لو كان الانذار منفيا، وأجاب بأن الأمر كذلك، ولكن لما بين أن البغية المرومة بالإنذار وهي الايمان منفية عنهم: قفاه بقوله إِنَّما تُنْذِرُ أى إنما تحصل بغية الانذار ممن اتبع الذكر. انتهى كلامه» قلت: في السؤال سوء أدب، وينبغي أن يقال: وما وجه ذكر الانذار الثاني في معرض المخالفة للأول، مع أن الأول إثبات، والانذار الثاني كذلك.
[سورة يس (٣٦) : آية ١٢]
إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتى وَنَكْتُبُ ما قَدَّمُوا وَآثارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ فِي إِمامٍ مُبِينٍ (١٢)نُحْيِ الْمَوْتى نبعثهم بعد مماتهم. وعن الحسن: إحياؤهم: أن يخرجهم من الشرك إلى الإيمان وَنَكْتُبُ ما أسلفوا من الأعمال الصالحة وغيرها وما هلكوا عنه من أثر حسن، كعلم علموه، أو كتاب صنفوه، أو حبيس حبسوه، أو بناء بنوه: من مسجد أو رباط أو قنطرة أو نحو ذلك. أو سيئ، كوظيفة وظفها بعض الظلام على المسلمين، وسكة أحدث فيها تخسيرهم، وشيء أحدث فيه صدّ عن ذكر الله: من ألحان وملاه، وكذلك كل سنة حسنة أو سيئة يستن بها. ونحوه قوله تعالى يُنَبَّؤُا الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ بِما قَدَّمَ وَأَخَّرَ
أى: قدّم من أعماله، وأخر من آثاره. وقيل: هي آثار المشاءين إلى المساجد. وعن جابر: أردنا النقلة إلى المسجد والبقاع حوله «١» خالية، فبلغ ذلك رسول الله ﷺ فأتانا في ديارنا وقال: يا بنى سلمة، بلغني أنكم تريدون النقلة إلى المسجد، فقلنا نعم، بعد علينا المسجد والبقاع حوله خالية، فقال:
عليكم دياركم. فإنما تكتب آثاركم. قال: فما وددنا حضرة المسجد لما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم. وعن عمر بن عبد العزيز: لو كان الله مغفلا شيئا لأغفل هذه الآثار التي تعفيها الرياح.
والإمام: اللوح. وقرئ: ويكتب ما قدّموا وآثارهم على البناء للمفعول. وكل شيء: بالرقع
[سورة يس (٣٦) : الآيات ١٣ الى ١٥]
وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً أَصْحابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جاءَهَا الْمُرْسَلُونَ (١٣) إِذْ أَرْسَلْنا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُما فَعَزَّزْنا بِثالِثٍ فَقالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ (١٤) قالُوا ما أَنْتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنا وَما أَنْزَلَ الرَّحْمنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ تَكْذِبُونَ (١٥)
وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا ومثل لهم مثلا، من قولهم: عندي من هذا الضرب كذا، أى: من هذا المثال، وهذه الأشياء على ضرب واحد، أى على مثال واحد. والمعنى. واضرب لهم مثلا مثل أصحاب القرية، أى: اذكر لهم قصة عجيبة قصة أصحاب القرية. والمثل الثاني بيان للأوّل.
وانتصاب إذ بأنه بدل من أصحاب القرية. والقرية أنطاكية. والْمُرْسَلُونَ رسل عيسى عليه
أمعكما آية؟ فقالا: نشفى المريض ونبرئ الأكمه والأبرص، وكان له ولد مريض من سنتين فمسحاه، فقام، فآمن حبيب وفشا الخبر، فشفى على أيديهما خلق كثير، ورقى حديثهما إلى الملك وقال لهما: ألنا إله سوى آلهتنا؟ قالا: نعم من أوجدك وآلهتك، فقال: حتى أنظر في أمركما، فتبعهما الناس وضربوهما. وقيل: حبسا، ثم بعث عيسى عليه السلام شمعون، فدخل متنكرا وعاشر حاشية الملك حتى استأنسوا به، ورفعوا خبره إلى الملك فأنس به، فقال له ذات يوم:
بلغني أنك حبست رجلين فهل سمعت ما يقولانه؟ فقال: لا، حال الغضب بيني وبين ذلك، فدعاهما، فقال شمعون: من أرسلكما؟ قالا: الله الذي خلق كل شيء وليس له شريك، فقال:
صفاه وأوجزا. قالا: يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد. قال: وما آيتكما؟ قالا: ما يتمنى الملك، فدعا بغلام مطموس العينين، فدعوا الله حتى انشق له بصر، وأخذا بندقتين فوضعاهما في حدقتيه فكانتا مقلتين ينظر بهما، فقال له شمعون: أرأيت لو سألت إلهك حتى يصنع مثل هذا فيكون لك وله الشرف. قال: ليس لي عنك سر، إنّ إلهنا لا يبصر ولا يسمع ولا يضر ولا ينفع، وكان شمعون يدخل معهم على الصنم فيصلى ويتضرع ويحسبون أنه منهم، ثم قال:
إن قدر إلهكما على إحياء ميت آمنا به، فدعوا بغلام مات من سبعة أيام فقام وقال: إنى أدخلت في سبعة أودية من النار، وأنا أحذركم ما أنتم فيه فآمنوا، وقال: فتحت أبواب السماء فرأيت شابا حسن الوجه يشفع لهؤلاء الثلاثة، قال الملك: ومن هم؟ قال شمعون، وهذان، فتعجب الملك. فلما رأى شمعون أنّ قوله قد أثر فيه نصحه فآمن وآمن معه قوم، ومن لم يؤمن صاح عليهم جبريل عليه السلام صيحة فهلكوا فَعَزَّزْنا فقوّينا. يقال: المطر يعزز الأرض إذا لبدها وشدّها، وتعزز لحم الناقة. وقرئ بالتخفيف من عزه يعزه: إذا غلبه، أى: فغلبنا وقهرنا بِثالِثٍ وهو شمعون. فإن قلت: لم ترك ذكر المفعول به؟ قلت: لأنّ الغرض ذكر المعزز به وهو شمعون وما لطف فيه من التدبير حتى عزّ الحق وذلّ الباطل، وإذا كان الكلام منصبا إلى غرض من الأغراض جعل سياقه له وتوجهه إليه، كأن ما سواه مرفوض مطرح.
ونظيره قولك: حكم السلطان اليوم بالحق، الغرض المسوق إليه: قولك بالحق فلذلك رفضت ذكر المحكوم له والمحكوم عليه. إنما رفع بشر ونصب «١» في قوله ما هذا بَشَراً لأنّ إلا تنقض النفي، فلا يبقى لما المشبهة بليس شبه، فلا يبقى له عمل. فإن قلت: لم قيل: إنا إليكم
[سورة يس (٣٦) : الآيات ١٦ الى ١٧]
قالُوا رَبُّنا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ (١٦) وَما عَلَيْنا إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (١٧)
وقوله رَبُّنا يَعْلَمُ جار مجرى القسم في التوكيد، وكذلك قولهم: شهد الله، وعلم الله. وإنما حسن منهم هذا الجواب الوارد على طريق التوكيد والتحقيق مع قولهم وَما عَلَيْنا إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ أى الظاهر المكشوف بالآيات الشاهدة لصحته، وإلا فلو قال المدعى: والله إنى لصادق فيما أدعى ولم يحضر البينة كان قبيحا.
[سورة يس (٣٦) : الآيات ١٨ الى ١٩]
قالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ (١٨) قالُوا طائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَإِنْ ذُكِّرْتُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ (١٩)
تَطَيَّرْنا بِكُمْ تشاء منابكم، وذلك أنهم كرهوا دينهم ونفرت منه نفوسهم، «٢» وعادة الجهال أن يتيمنوا بكل شيء مالوا إليه واشتهوه وآثروه وقبلته طباعهم، ويتشاءموا بما نفروا عنه وكرهوه، فإن أصابهم نعمة أو بلاء قالوا ببركة هذا وبشؤم هذا، كما حكى الله عن القبط:
وإن تصبهم سيئة يطيروا بموسى ومن معه. وعن مشركي مكة: وإن تصبهم سيئة يقولوا هذه من عندك. وقيل: حبس عنهم القطر فقالوا ذلك. وعن قتادة: إن أصابنا شيء كان من أجلكم طائِرُكُمْ مَعَكُمْ وقرئ: طيركم، أى سبب شؤمكم معكم وهو كفرهم. أو أسباب شؤمكم معكم، وهي كفرهم ومعاصيهم. وقرأ الحسن: أطيركم أى تطيركم. وقرئ: أئن ذكرتم؟ بهمزة الاستفهام وحرف الشرط. وآئن بألف بينهما، «٣» بمعنى: أتطيرون إن ذكرتم؟ وقرئ: أأن ذكرتم بهمزة الاستفهام وأن الناصبة، يعنى: أتطيرتم لأن ذكرتم؟ وقرئ: أن، وإن، بغير استفهام لمعنى الإخبار، أى تطيرتم لأن ذكرتم، أو إن ذكرتم تطيرتم. وقرئ: أين ذكرتم: على التخفيف، أى شؤمكم معكم حيث جرى ذكركم، وإذا شئم المكان بذكرهم كان بحلولهم فيه أشأم بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ في العصيان: ومن ثم أتاكم الشؤم، لا من قبل رسل الله وتذكيرهم، أو بل أنتم قوم مسرفون في ضلالكم متمادون في غيكم، حيث تتشاءمون بمن يجب التبرك به من رسل الله.
(٢). قوله «ونفرت منهم» لعله: منه كعبارة النسفي. (ع)
(٣). قوله «وآئن بألف بينهما» الذي في النسفي أن هذا وما قبله بياء مكسورة بدل الهمزة الثانية. (ع)
[سورة يس (٣٦) : الآيات ٢٠ الى ٢٥]
وَجاءَ مِنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعى قالَ يا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ (٢٠) اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْئَلُكُمْ أَجْراً وَهُمْ مُهْتَدُونَ (٢١) وَما لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٢٢) أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً وَلا يُنْقِذُونِ (٢٣) إِنِّي إِذاً لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٢٤)إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ (٢٥)
رَجُلٌ يَسْعى هو حبيب بن إسرائيل النجار، وكان ينحت الأصنام، وهو ممن آمن برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وبينهما ستمائة سنة كما آمن به تبع الأكبر وورقة بن نوفل وغيرهما، ولم يؤمن بنبي أحد إلا بعد ظهوره. وقيل: كان في غار يعبد الله، فلما بلغه خبر الرسل أتاهم وأظهر دينه وقاول الكفرة، فقالوا: أو أنت تخالف ديننا، فوثبوا عليه فقتلوه.
وقيل: توطئوه بأرجلهم حتى خرج قصبه «١» من دبره. وقيل: رجموه وهو يقول: اللهم اهد قومي، وقبره في سوق أنطاكية، فلما قتل غضب الله عليهم فأهلكوا بصيحة جبريل عليه السلام.
وعن رسول الله ﷺ «سباق الأمم ثلاثة: لم يكفروا بالله طرفة عين: على بن أبى طالب، وصاحب يس، ومؤمن آل فرعون» «٢» مَنْ لا يَسْئَلُكُمْ أَجْراً وَهُمْ مُهْتَدُونَ كلمة جامعة في الترغيب فيهم، أى: لا تخسرون معهم شيئا من دنياكم، وتربحون صحة دينكم فينتظم لكم خير الدنيا وخير الآخرة، ثم أبرز الكلام في معرض المناصحة لنفسه وهو يريد مناصحتهم ليتلطف بهم ويداريهم، ولأنه أدخل في إمحاض النصح حيث لا يريد لهم إلا ما يريد لروحه، ولقد وضع قوله وَما لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي مكان قوله: وما لكم لا تعبدون الذي فطركم. ألا ترى إلى قوله وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ولولا أنه قصد ذلك لقال: الذي فطرني وإليه أرجع، وقد ساقه ذلك المساق إلى أن قال آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ يريد فاسمعوا قولي وأطيعونى، فقد نبهتكم على الصحيح الذي لا معدل عنه: أنّ العبادة لا تصح إلا لمن منه مبتدؤكم وإليه مرجعكم، وما أدفع العقول وأنكرها لأن تستحبوا على عبادته عبادة أشياء إن أرادكم هو بضر وشفع لكم هؤلاء لم تنفع شفاعتهم ولم يمكنوا من أن يكونوا شفعاء عنده، ولم يقدروا على
(٢). أخرجه الثعلبي من طريق عبد الرحمن بن أبى ليلى عن أبيه بهذا، وفيه عمرو بن جمع وهو متروك. ورواه العقيلي والطبراني وابن مردويه، من طريق حسين بن حسن الأشقر عن ابن عيينة عن ابن أبى تجيح عن مجاهد عن ابن عباس، بلفظ «السباق ثلاثة. فالسابق الى عيسى صاحب يس، والى محمد ﷺ على بن أبى طالب
[سورة يس (٣٦) : الآيات ٢٦ الى ٢٧]
قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قالَ يا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ (٢٦) بِما غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ (٢٧)
أى لما قتل قِيلَ له ادْخُلِ الْجَنَّةَ وعن قتادة: أدخله الله الجنة وهو فيها حىّ يرزق أراد قوله تعالى بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ، فَرِحِينَ وقيل: معناه البشرى بدخول الجنة، وأنه من أهلها. فإن قلت: كيف مخرج هذا القول في علم البيان؟ قلت: مخرجه مخرج الاستئناف، لأنّ هذا من مظان المسألة عن حاله عند لقاء ربه، كأنّ قائلا قال: كيف كان لقاء ربه بعد ذلك التصلب في نصرة دينه والتسخى لوجهه بروحه؟ فقيل: قيل ادخل الجنة ولم يقل قيل له، لانصباب الغرض إلى المقول وعظمه، لا إلى المقول له مع كونه معلوما، وكذلك قالَ يا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ مرتب على تقدير سؤال سائل عما وجد من قوله عند ذلك الفوز العظيم، وإنما تمنى علم قومه بحاله، ليكون علمهم بها سببا لاكتساب مثلها لأنفسهم، بالتوبة عن الكفر والدخول في الإيمان والعمل الصالح المفضيين بأهلهما إلى الجنة. وفي حديث مرفوع: نصح قومه حيا وميتا «١». وفيه تنبيه عظيم على وجوب كظم الغيظ، والحلم عن أهل الجهل، والترؤف على من أدخل نفسه في عمار الأشرار وأهل البغي، والتشمر في تخليصه والتلطف في افتدائه، والاشتغال بذلك عن الشماتة به والدعاء عليه. ألا ترى كيف تمنى الخير لقتلته والباغين له الغوائل وهم كفرة عبدة أصنام. ويجوز أن يتمنى ذلك ليعلموا أنهم كانوا على خطأ عظيم في أمره، وأنه كان على صواب ونصيحة وشفقة، وأن عداوتهم لم تكسبه إلا فوزا ولم تعقبه إلا سعادة، لأنّ في ذلك زيادة غبطة له وتضاعف لذة وسرور. والأوّل أوجه. وقرئ: المكرّمين. فإن قلت:
ما في قوله تعالى بِما غَفَرَ لِي رَبِّي أى الماءات هي؟ قلت: المصدرية أو الموصولة، أى: بالذي غفره لي من الذنوب. ويحتمل أن تكون استفهامية، يعنى بأى شيء غفر لي ربى، يريد به
[سورة يس (٣٦) : الآيات ٢٨ الى ٢٩]
وَما أَنْزَلْنا عَلى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّماءِ وَما كُنَّا مُنْزِلِينَ (٢٨) إِنْ كانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً فَإِذا هُمْ خامِدُونَ (٢٩)
المعنى: أن الله كفى أمرهم بصيحة ملك، ولم ينزل لإهلاكهم جندا من جنود السماء، كما فعل يوم بدر والخندق، فإن قلت: وما معنى قوله وَما كُنَّا مُنْزِلِينَ؟ قلت: معناه:
وما كان يصح في حكمتنا أن ننزل في إهلاك قوم حبيب جندا من السماء، وذلك لأنّ الله تعالى أجرى هلاك كل قوم على بعض الوجوه دون البعض، وما ذلك إلا بناء على ما اقتضته الحكمة وأوجبته المصلحة. ألا ترى إلى قوله تعالى فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِ حاصِباً وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنا. فإن قلت: فلم أنزل الجنود من السماء يوم بدر والخندق؟ قال تعالى فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْها، بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ، بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ، بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ؟
قلت: إنما كان يكفى ملك واحد، فقد أهلكت مدائن قوم لوط بريشة من جناح جبريل، وبلاد ثمود وقوم صالح بصيحة منه، ولكنّ الله فضل محمدا ﷺ بكل شيء على كبار الأنبياء وأولى العزم من الرسل، فضلا عن حبيب النجار، وأولاده من أسباب الكرامة والإعذار ما لم يوله أحدا، فمن ذلك: أنه أنزل له جنودا من السماء، وكأنه أشار بقوله:
وَما أَنْزَلْنا، وَما كُنَّا مُنْزِلِينَ إلى أن إنزال الجنود من عظائم الأمور التي لا يؤهل لها إلا مثلك، وما كنا نفعله بغيرك إِنْ كانَتْ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً إن كانت الأخذة أو العقوبة إلا صيحة واحدة. وقرأ أبو جعفر المدني بالرفع على كان التامّة، أى: ما وقعت إلا صيحة، والقياس والاستعمال على تذكير الفعل، لأنّ المعنى: ما وقع شيء إلا صيحة، ولكنه نظر إلى ظاهر اللفظ وأن الصيحة في حكم فاعل الفعل، ومثلها قراءة الحسن: فأصبحوا لا ترى إلا مساكنهم، وبيت ذى الرمّة:
وما بقيت إلّا الضلوع الجراشع «١»
برى لحمها سير الفيافي وحرها | وما بقيت إلا الضلوع الجراشع |
وكان الأفصح حذف التاء، لأن المعنى: ما بقي فيها شيء إلا الضلوع، لكنه أنث نظرا للضلوع. والجراشع: جمع جرشع كقنفذ، وهو الغليظ المرتفع. ويروى: بدل الشطر الأول
طوى الحر والأجراز ما في عروضها
والأجراز: جمع جرز، وهي المفازة القفرة، والعروض: جمع عرض- بضم فسكون-: أى جنوبها. ويروى:
النحز، بدل الحر، وهو بنون فمهملة فزاى: النخس والدفع. ويروى «غروض» بغين معجمة: جمع غرض، كقفل: وهو حزام الرحل، أراد به الصدر لعلاقة المجاورة. أو هو على حذف مضاف، أى محل غروضها. ويجوز أنه أراد بما في غروضها الصدر ذاته لا الشحم واللحم. ومعنى الطي التضمير أو الاذهاب على طريق المجاز.
أثقل من الزواقى خامِدُونَ خمدوا كما تخمد النار، فتعود رمادا، كما قال لبيد:
وما المرء إلّا كالشهاب وضوئه | يحور رمادا بعد إذ هو مناطع «١» |
يا حَسْرَةً عَلَى الْعِبادِ ما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٣٠)
يا حَسْرَةً عَلَى الْعِبادِ نداء للحسرة عليهم، كأنما قيل لها: تعالى يا حسرة فهذه من أحوالك التي حقك أن تحضرى فيها، وهي حال استهزائهم بالرسل. والمعنى أنهم أحقاء بأن يتحسر عليهم المتحسرون، ويتلهف على حالهم المتلهفون. أوهم متحسر عليهم من جهة الملائكة والمؤمنين من الثقلين. ويجوز أن يكون من الله تعالى على سبيل الاستعارة في معنى تعظيم ما جنوه على أنفسهم ومحنوها به، وفرط إنكاره له وتعجيبه منه، وقراءة من قرأ: يا حسرتا، تعضد هذا الوجه لأن المعنى: يا حسرتى. وقرئ: يا حسرة العباد، على الإضافة إليهم لاختصاصها بهم، من حيث أنها موجهة إليهم. ويا حسرة على العباد: على إجراء الوصل مجرى الوقف.
[سورة يس (٣٦) : الآيات ٣١ الى ٣٢]
أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لا يَرْجِعُونَ (٣١) وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ (٣٢)
أَلَمْ يَرَوْا ألم يعلموا، وهو معلق عن العمل في كَمْ لأن كم لا يعمل فيها عامل قبلها، كانت للاستفهام أو للخبر، لأن أصلها الاستفهام، إلا أن معناه نافذ في الجملة، كما نفذ في قولك:
ألم يروا إن زيدا لمنطلق، وإن لم يعمل في لفظه. وأَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لا يَرْجِعُونَ بدل من كَمْ أَهْلَكْنا على المعنى، لا على اللفظ، تقديره: ألم يروا كثرة إهلاكنا القرون من قبلهم كونهم
وما المرء إلا كالشهاب وضوئه | يحور رمادا بعد إذ هو ساطع |
وما المال والأهلون إلا ودائع | ولا بد يوما أن ترد الودائع |
[سورة يس (٣٦) : الآيات ٣٣ الى ٣٦]
وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْناها وَأَخْرَجْنا مِنْها حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ (٣٣) وَجَعَلْنا فِيها جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ وَفَجَّرْنا فِيها مِنَ الْعُيُونِ (٣٤) لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَما عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلا يَشْكُرُونَ (٣٥) سُبْحانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ (٣٦)
القراءة بالميتة على الخفة أشيع، لسلسها على اللسان. وأَحْيَيْناها استئناف بيان لكون الأرض الميتة آية، وكذلك نسلخ: ويجوز أن توصف الأرض والليل بالفعل، لأنه أريد بهما الجنسان مطلقين لا أرض «٣» وليل بأعيانهما، فعوملا معاملة النكرات في وصفهما
وليس فيه: بئس القوم نحن إذن [.....]
(٢). قال محمود: «إن قلت لم أخبر عن كل بجميع ومعناهما واحد وأجاب بأن كلا تفيد الاحاطة لا ينلفت عنهم أحد وجميع تفيد الاجتماع وهو فعيل بمعنى مفعول وبينهما فرق انتهي كلامه، قال أحمد: ومن ثم وقع أجمع في التوكيد تابعا لكل، لأنه أخص منه وأزيد معنى
(٣). قال محمود: «يجوز أن يكون أحييناها صفة للأرض وصح ذلك لأن المراد بالأرض الجنس ولم يقصد بها أرض معينة وأن يكون بيانا لوجه الآية فيها» قال أحمد: وغيره من النحاة يمنع وقوع الجملة صفة للمعرف وإن كان جنسيا وليس الغرض منه معينا ويراعي هذا المانع المطابقة اللفظية في الوصفية ومنه
ولقد أمر على اللئيم يسبني.
ولقد امر على اللّئيم يسبني «١»
وقوله فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ بتقديم الظرف للدلالة على أن الحب هو الشيء الذي يتعلق به معظم العيش ويقوم بالارتزاق منه صلاح الإنس، وإذا قل جاء القحط ووقع الضرّ، وإذا فقد جاء الهلاك ونزل البلاء. قرئ وَفَجَّرْنا بالتخفيف والتثقيل، والفجر والتفجير، كالفتح والتفتيح لفظا ومعنى. وقرئ ثَمَرِهِ بفتحتين وضمتين وضمة وسكون، والضمير لله تعالى: والمعنى:
ليأكلوا مما خلقه الله من الثمر وَمن ما عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ من الغرس والسقي والآبار، وغير ذلك من الأعمال إلى أن بلغ الثمر منتهاه وإبان أكله، يعنى أنّ الثمر في نفسه فعل الله وخلقه، وفيه آثار من كد بنى آدم، وأصله من ثمرنا كما قال: وجعلنا، وفجرنا، فنقل الكلام من التكلم إلى الغيبة على طريقة الالتفات. ويجوز أن يرجع إلى النخيل، وتترك الأعناب غير مرجوع إليها، لأنه علم أنها في حكم النخيل فيما علق به من أكل ثمره. ويجوز أن يراد من ثمر المذكور وهو الجنات، كما قال رؤبة:
فيها خطوط من بياض وبلق | كأنّه في الجلد توليع البهق «٢» |
(٢). تقدم شرح هذا الشاهد بالجزء الأول صفحة ١٤٩ فراجعه إن شئت اه مصححه.
(٣). قوله «في الحديث ما لا عين رأت» أوله: «أعددت لعبادي الصالحين» كما مر في تفسير السجدة. (ع)
[سورة يس (٣٦) : آية ٣٧]
وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ فَإِذا هُمْ مُظْلِمُونَ (٣٧)سلخ جلد الشاة: إذا كشطه عنها وأزاله. ومنه: سلخ الحية لخرشائها «١»، فاستعير لازالة الضوء وكشفه عن مكان الليل وملقى ظله مُظْلِمُونَ داخلون في الظلام، يقال: أظلمنا، كما تقول: أعتمنا وأدجينا «٢» لِمُسْتَقَرٍّ لَها لحدّ لها مؤقت مقدّر تنتهي إليه من فلكها في آخر السنة، شبه بمستقر المسافر إذا قطع مسيره، أو لمنتهى لها من المشارق والمغارب، لأنها تتقصاها مشرقا مشرقا ومغربا مغربا حتى تبلغ أقصاها، ثم ترجع فذلك حدها ومستقرّها، لأنها لا تعدوه أو لحدّ لها من مسيرها كل يوم في مرأى عيوننا وهو المغرب. وقيل: مستقرّها: أجلها الذي أقر الله عليه أمرها في جريها، فاستقرت عليه وهو آخر السنة. وقيل: الوقت الذي تستقر فيه وينقطع جريها وهو يوم القيامة.
[سورة يس (٣٦) : الآيات ٣٨ الى ٤٠]
وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (٣٨) وَالْقَمَرَ قَدَّرْناهُ مَنازِلَ حَتَّى عادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ (٣٩) لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (٤٠)
وقرئ: تجرى إلى مستقر لها. وقرأ ابن مسعود: لا مستقرّ لها، أى: لا تزال تجرى لا تستقر. وقرئ: لا مستقر لها، على أنّ لا بمعنى ليس ذلِكَ الجري على ذلك التقدير والحساب الدقيق الذي تكل الفطن عن استخراجه وتتحير الأفهام في استنباطه. ما هو إلا تقدير الغالب بقدرته على كل مقدور، المحيط علما بكل معلوم. قرئ: والقمر رفعا على الابتداء، أو عطفا على الليل. يريد: من آياته القمر، ونصبا بفعل يفسره قدرناه، ولا بدّ في قَدَّرْناهُ مَنازِلَ من تقدير مضاف، لأنه لا معنى لتقدير نفس القمر منازل. والمعنى: قدرنا مسيره منازل وهي ثمانية وعشرون منزلا، ينزل القمر كل ليلة في واحد منها لا يتخطاه ولا يتقاصر عنه، على تقدير مستو لا يتفاوت، يسير فيها كل ليلة من المستهل إلى الثامنة والعشرين، ثم يستتر ليلتين أو ليلة إذا نقص الشهر، وهذه المنازل هي مواقع النجوم التي نسبت إليها العرب الأنواء المستمطرة، وهي: الشرطان، البطين، الثريا، الدبران، الهقعة، الهنعة، الذراع، النثرة، الطرف، الجبهة، الزبرة، الصرفة، العوّا، السماك، الغفر، الزباني، الإكليل، القلب، الشولة، النعائم، البلدة، سعد الذابح، سعد بلع، سعد السعود، سعد الأخبية، فرغ الدلو المقدم،
(٢). قوله «أعتمنا وأدجينا» الدجى: وجع في حافر الفرس أو خف البعير. أفاده الصحاح وغيره. (ع)
أنّ الله تعالى قسم لكل واحد من الليل والنهار وآيتيهما قسما من الزمان، وضرب له حدا معلوما، ودبر أمرهما على التعاقب، فلا ينبغي للشمس: أى لا يتسهل لها ولا يصح ولا يستقيم لوقوع التدبير على المعاقبة، وإن جعل لكل واحد من النيرين سلطان على حياله «٢»
السندس. (ع)
(٢). قال محمود: «معناه أن كل واحد منهما لا يدخل على الآخر في سلطانه فيطمس نوره بل هما متعاقبان بمقتضى تدبيره تعالى. قال: فان قلت: لم جعلت الشمس غير مدركة والقمر غير سابق؟ قلت: لأن الشمس بطيئة السير تقطع فلكها في سنة والقمر يقطع فلكه في شهر، فكانت الشمس لبطئها جديرة بأن توصف بالإدراك، والقمر لسرعته جديرا بأن يوصف بالسبق انتهى كلامه» قال أحمد: يؤخذ من هذه الآية أن النهار تابع لليل وهو المذهب المعروف للفقهاء، وبيانه من الآية أنه جعل الشمس التي هي آية النهار غير مدركة للقمر الذي هو آية الليل، وإنما نفى الإدراك لأنه هو الذي يمكن أن يقع، وذلك يستدعى تقدم القمر وتبعية الشمس، فانه لا يقال: أدرك السابق اللاحق، ولكن أدرك اللاحق السابق، وبحسب الإمكان توقيع النفي، فالليل إذا متبوع والنهار تابع.
فان قيل: هل يلزم على هذا أن يكون الليل سابق النهار؟ وقد صرحت الآية بأنه ليس سابقا، فالجواب: أن هذا مشترك الإلزام، وبيانه أن الأقسام المحتملة ثلاثة: إما تبعية النهار لليل وهو مذهب الفقهاء. أو عكسه وهو المنقول عن طائفة من النحاة. أو اجتماعهما، فهذا القسم الثالث منفي باتفاق «فلم يبق إلا تبعية النهار لليل وعكسه، وهذا السؤال وارد عليهما جميعا، لأن من قال: إن النهار سابق الليل، لزمه أن يكون مقتضى البلاغة أن يقال: ولا الليل يدرك النهار، فان المتأخر إذا نفى إدراكه كان أبلغ من نفى سابقه، مع أنه يتناءى عن مقتضى قوله لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ تنائيا لا يجمع شمل المعنى باللفظ، فان الله تعالى نفى أن تكون مدركة فضلا عن أن تكون سابقة، فإذا أثبت ذلك فالجواب المحقق عنه أن المنفي السبقية الموجبة لتراخى النهار عن الليل وتخلل زمن آخر بينهما، وحينئذ يثبت التعاقب وهو مراد الآية. وأما سبق أول المتعاقبين للآخر منهما فانه غير معتبر. ألا ترى إلى جواب موسى بقوله: هم أولاء على أثرى، فقد قريهم منه عذرا عن قوله تعالى وَما أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ فكأنه سهل أمر هذه العجلة بكونهم على أثره، فكيف لو كان متقدما وهم في عقبه لا يتخلل بينهم وبينه مسافة؟ فذاك لو اتفق لكان سياق الآية يوجب أنه لا يعد عجلة ولا سبقا، فحينئذ يكون القول بسبقية النهار لليل مخالفا صدر الآية على وجه لا يقبل التأويل، فان بين عدم الإدراك الدال على التأخير والتبعية وبين السبق بونا بعيدا ومخالفا أيضا لبقية الآية، فانه لو كان الليل تابعا ومتأخرا لكان أحرى أن يوصف بعدم الإدراك ولا يبلغ به عدم السبق، ويكون القول بتقدم الليل على النهار مطابقا لصدر الآية صريحا، ولعجزها بوجه من التأويل مناسب لنظم القرآن وثبوت ضده أقرب إلى الحق من حبل وريده، والله الموفق للصواب من القول وتسديده.
[سورة يس (٣٦) : الآيات ٤١ الى ٤٤]
وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (٤١) وَخَلَقْنا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ ما يَرْكَبُونَ (٤٢) وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلا صَرِيخَ لَهُمْ وَلا هُمْ يُنْقَذُونَ (٤٣) إِلاَّ رَحْمَةً مِنَّا وَمَتاعاً إِلى حِينٍ (٤٤)
ذُرِّيَّتَهُمْ أولادهم ومن يهمهم حمله. وقيل: اسم الذرية يقع على النساء، لأنهنّ مزارعها وفي الحديث أنه نهى عن قتل الذراري يعنى النساء مِنْ مِثْلِهِ من مثل الفلك ما يَرْكَبُونَ من الإبل، وهي سفائن البر. وقيل الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ سفينة نوح، ومعنى حمل الله ذرياتهم فيها: أنه حمل فيها آباءهم الأقدمين، وفي أصلابهم هم وذرياتهم، وإنما ذكر ذرياتهم دونهم لأنه أبلغ في الامتنان عليهم، وأدخل في التعجيب من قدرته، في حمل أعقابهم إلى يوم القيامة في سفينة نوح. ومِنْ مِثْلِهِ من مثل ذلك الفلك ما يركبون من السفن والزوارق فَلا صَرِيخَ لا مغيث. أولا إغاثة. يقال: أتاهم الصريخ وَلا هُمْ يُنْقَذُونَ لا ينجون من الموت بالغرق إِلَّا رَحْمَةً إلا لرحمة منا ولتمتيع بالحياة إِلى حِينٍ «١» إلى أجل يموتون فيه لا بد لهم منه بعد النجاة من موت الغرق. ولقد أحسن من قال:
ولم أسلم لكي أبقى ولكن | سلمت من الحمام إلى الحمام «٢» |
ولم أسلم لكي أبقى ولكن | سلمت من الحمام إلى الحمام |
(٢). للمتنبي يقول: ولم أسلم من حوادث الدهر ومكاره الحرب لأجل أن أخلد، وإنما سلمت من الحمام- ككتاب-: أى الموت ببعض الأسباب إلى أن أموت ببعضها الآخر. أو منقلب إلى الموت ببعضها الآخر، لأنه لا خلود في الدنيا.
[سورة يس (٣٦) : الآيات ٤٥ الى ٤٦]
وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا ما بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَما خَلْفَكُمْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (٤٥) وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ إِلاَّ كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ (٤٦)اتَّقُوا ما بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَما خَلْفَكُمْ كقوله تعالى أَفَلَمْ يَرَوْا إِلى ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ وعن مجاهد: ما تقدّم من ذنوبكم وما تأخر. وعن قتادة: ما بين أيديكم من الوقائع التي خلت، يعنى من مثل الوقائع التي ابتليت بها الأمم المكذبة بأنبيائها، وما خلفكم من أمر الساعة لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ لتكونوا على رجاء رحمة الله. وجواب إذا محذوف مدلول عليه بقوله إِلَّا كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ فكأنه قال: وإذا قيل لهم اتقوا أعرضوا. ثم قال:
ودأبهم الإعراض عند كل آية وموعظة.
[سورة يس (٣٦) : آية ٤٧]
وَإِذا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٤٧)
كانت الزنادقة منهم يسمعون المؤمنين يعلقون أفعال الله تعالى بمشيئته فيقولون: لو شاء الله لأغنى فلانا، ولو شاء لأعزه، ولو شاء لكان كذا، فأخرجوا هذا الجواب مخرج الاستهزاء بالمؤمنين وبما كانوا يقولونه من تعليق الأمور بمشيئة الله. ومعناه: أنطعم المقول فيه هذا القول بينكم، وذلك أنهم كانوا دافعين أن يكون الغنى والفقر من الله، لأنهم معطلة لا يؤمنون بالصانع: وعن ابن عباس رضى الله عنهما: كان بمكة زنادقة، فإذا أمروا بالصدقة على المساكين قالوا: لا والله، أيفقره الله ونطعمه نحن؟ وقيل: كانوا يوهمون أن الله تعالى لما كان قادرا على إطعامه ولا يشاء إطعامه فنحن أحق بذلك. نزلت في مشركي قريش حين قال فقراء أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: أعطونا مما زعمتم من أموالكم أنها لله، يعنون قوله وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعامِ نَصِيباً، فحرموهم وقالوا: لو شاء الله لأطعمكم.
[سورة يس (٣٦) : الآيات ٤٨ الى ٥٠]
وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٤٨) ما يَنْظُرُونَ إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ (٤٩) فَلا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلا إِلى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ (٥٠)
إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ مُبِينٍ قول الله لهم. أو حكاية قول المؤمنين لهم. أو هو من جملة جوابهم للمؤمنين. قرئ: وهم يخصمون بإدغام التاء في الصاد مع فتح الخاء وكسرها، وإتباع الياء الخاء في الكسر. ويختصمون على الأصل. ويخصمون، من خصمه. والمعنى: أنها تبغتهم
[سورة يس (٣٦) : الآيات ٥١ الى ٥٢]
وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذا هُمْ مِنَ الْأَجْداثِ إِلى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ (٥١) قالُوا يا وَيْلَنا مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا هذا ما وَعَدَ الرَّحْمنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ (٥٢)
قرئ الصور، بسكون الواو وهو القرن، أو جمع صورة، وحرّكها بعضهم. والْأَجْداثِ القبور. وقرئ بالفاء «١» يَنْسِلُونَ يعدون بكسر السين وضمها، وهي النفخة الثانية. قرئ:
يا ويلتنا. وعن ابن مسعود رضى الله عنه: من أهبنا، من هب من نومه إذا انتبه، وأهبه غيره وقرئ: من هبنا بمعنى أهبنا: وعن بعضهم: أراد هب بنا، فحذف الجار وأوصل الفعل:
وقرئ: من بعثنا، ومن هبنا، على من الجارة والمصدر، وهذا مبتدأ، وما وَعَدَ خبره، وما مصدرية أو موصولة. ويجوز أن يكون هذا صفة للمرقد، وما وعد: خبر مبتدإ محذوف، أى: هذا وعد الرحمن، أى: مبتدأ محذوف الخبر، أى ما وعد الرَّحْمنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ حق. وعن مجاهد: للكفار هجعة يجدون فيها طعم النوم، فإذا صيح بأهل القبور قالوا: من بعثنا، وأما هذا ما وَعَدَ الرَّحْمنُ فكلام الملائكة. عن ابن عباس. وعن الحسن:
كلام المتقين. وقيل: كلام الكافرين يتذكرون ما سمعوه من الرسل فيجيبون به أنفسهم أو بعضهم بعضا. فإن قلت: إذا جعلت ما مصدرية: كان المعنى: هذا وعد الرحمن وصدق المرسلين، على تسمية الموعود والمصدوق فيه بالوعد والصدق، فما وجه قوله وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ إذا جعلتها موصولة؟ قلت: تقديره: هذا الذي وعده الرحمن والذي صدّقه المرسلون، بمعنى:
والذي صدق فيه المرسلون، من قولهم: صدقوهم الحديث والقتال. ومنه صدقنى سن بكره.
فإن قلت: مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا؟ سؤال عن الباعث، فكيف طابقه ذلك جوابا؟ قلت: معناه بعثكم الرحمن الذي وعدكم البعث وأنبأكم به الرسل، إلا أنه جيء به على طريقة: سيئت بها قلوبهم، ونعيت إليهم أحوالهم، وذكروا كفرهم وتكذيبهم، وأخبروا بوقوع ما أنذروا به وكأنه قيل لهم: ليس بالبعث الذي عرفتموه وهو بعث النائم من مرقده، حتى يهمكم السؤال عن
[سورة يس (٣٦) : الآيات ٥٣ الى ٥٨]
إِنْ كانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً فَإِذا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ (٥٣) فَالْيَوْمَ لا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَلا تُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٥٤) إِنَّ أَصْحابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فاكِهُونَ (٥٥) هُمْ وَأَزْواجُهُمْ فِي ظِلالٍ عَلَى الْأَرائِكِ مُتَّكِؤُنَ (٥٦) لَهُمْ فِيها فاكِهَةٌ وَلَهُمْ ما يَدَّعُونَ (٥٧)
سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ (٥٨)
إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً قرئت منصوبة ومرفوعة فَالْيَوْمَ لا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً... إِنَّ أَصْحابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ «١» حكاية ما يقال لهم في ذلك اليوم. وفي مثل هذه الحكاية زيادة تصوير للموعود، وتمكين له في النفوس، وترغيب في الحرص عليه وعلى ما يثمره فِي شُغُلٍ في أى شغل وفي شغل لا يوصف، وما ظنك بشغل من سعد بدخول الجنة التي هي دار المتقين، ووصل إلى نيل تلك الغبطة وذلك الملك الكبير والنعيم المقيم، ووقع في تلك الملاذ التي أعدّها الله للمرتضين من عباده، ثوابا لهم على أعمالهم مع كرامة وتعظيم، وذلك بعد الوله والصبابة، والتفصي من مشاق التكليف ومضايق التقوى والخشية، وتخطى الأهوال، وتجاوز الأخطار وجواز الصراط. ومعاينة ما لقى العصاة من العذاب، وعن ابن عباس: في افتضاض الأبكار.
وعنه: في ضرب الأوتار. وعن ابن كيسان: في التزاور. وقيل: في ضيافة الله. وعن الحسن:
شغلهم عما فيه أهل النار التنعم بما هم فيه. وعن الكلبي: هم في شغل عن أهاليهم من أهل النار، لا يهمهم أمرهم ولا يذكرونهم: لئلا يدخل عليهم تنغيص في نعيمهم. قرئ: في شغل، بضمتين وضمة وسكون، وفتحتين، وفتحة وسكون. والفاكه والفكه: المتنعم والمتلذذ: ومنه الفاكهة، لأنها مما يتلذذ به. وكذلك الفكاهة، وهي المزاحة. وقرئ فاكهون، وفكهون، بكسر الكاف وضمها، كقولهم: رجل حدث وحدث «٢»، ونطس ونطس. وقرئ: فاكهين وفكهين،
(٢). قوله «كقولهم رجل حدث وحدث» أى حسن الحديث، والنطس البالغ في التطهر والمدقق في العلم.
أفاده الصحاح. (ع) [.....]
فاشتوى ليلة ريح واجتمل «٣»
ويجوز أن يكون بمعنى يتداعونه، كقولك: ارتموه، وتراموه. وقيل: يتمنون، من قولهم: ادّع علىّ ما شئت، بمعنى تمنه علىّ، وفلان في خير ما ادّعى، أى في خير ما تمنى. قال الزجاج: وهو من الدعاء، أى: ما يدعو به أهل الجنة يأتيهم. وسَلامٌ بدل مما يدعون، كأنه قال لهم: سلام يقال لهم قَوْلًا مِنْ جهة رَبٍّ رَحِيمٍ والمعنى: أنّ الله يسلم عليهم بواسطة الملائكة، أو بغير واسطة، مبالغة في تعظيمهم وذلك متمناهم، ولهم ذلك لا يمنعونه.
قال ابن عباس: فالملائكة يدخلون عليهم بالتحية من رب العالمين. وقيل: ما يَدَّعُونَ، مبتدأ وخبره سلام، بمعنى: ولهم ما يدعون سالم خالص لا شوب فيه. وقَوْلًا مصدر مؤكد لقوله تعالى وَلَهُمْ ما يَدَّعُونَ سَلامٌ أى: عدة من رب رحيم. والأوجه: أن ينتصب على الاختصاص، وهو من مجازه. وقرئ: سلم، وهو بمعنى السلام في المعنيين. وعن ابن مسعود: سلاما نصب على الحال، أى لهم مرادهم خالصا.
[سورة يس (٣٦) : آية ٥٩]
وَامْتازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ (٥٩)
وَامْتازُوا وانفردوا عن المؤمنين، وكونوا على حدة، وذلك حين يحشر المؤمنون ويسار بهم إلى الجنة. ونحوه قوله تعالى
(٢). قوله و «اجتمل إذا شوى» في الصحاح: جملت الشحم أجمله جملا، واجتملته: إذا أذبته. (ع)
(٣).
وغلام أرسلته أمه... بألوك فبذلنا ما سأل
أرسلته فأتاه رزقه... فاشتوى ليلة ريح واحتمل
للبيد بن ربيعة. والألوك: الرسالة، أى: ورب غلام أرسلته أمه إلينا برسالة وهي هنا السؤال، فبذلنا ما سأله من الطعام عقب سؤاله، وبين ذلك بقوله: أرسلته فأتاه رزقه، وفيه دلالة على أنه لم يكن عندهم طعام حين أتاهم العلام، أى: فأتاه رزقه من الصيد، فاشتوى لنفسه من اللحم في ليلة ريح مظلمة يقل فيها الجود، واحتمل: أى حمل كثيرا منه بنفسه لنفسه، ولأمه التي أرسلته. ويروى: اجتمل، بالجيم: وفي الصحاح: جملت الشحم واجتملته إذا أذبته، وهذه الروآية أنسب وأفيد.
وعن قتادة: اعتزلوا عن كل خير. وعن الضحاك: لكل كافر بيت من النار يكون فيه، لا يرى ولا يرى. ومعناه: أنّ بعضهم يمتاز من بعض.
[سورة يس (٣٦) : الآيات ٦٠ الى ٦١]
أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (٦٠) وَأَنِ اعْبُدُونِي هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (٦١)
العهد: الوصية، وعهد إليه: إذا وصاه. وعهد الله إليهم: ما ركزه فيهم من أدلة العقل وأنزل عليهم من دلائل السمع. وعبادة الشيطان: طاعته فيما يوسوس به إليهم ويزينه لهم. وقرئ:
اعهد، بكسر الهمزة. وباب «فعل» كله يجوز في حروف مضارعته الكسر «١»، إلا في الياء.
وأعهد، بكسر الهاء. وقد جوز الزجاج أن يكون من باب نعم ينعم وضرب يضرب. وأحهد:
بالحاء. وأحد: وهي لغة تميم. ومنه قولهم: دحا محا «٢» هذا إشارة إلى ما عهد إليهم من معصية الشيطان وطاعة الرحمن، إذا لا صراط أقوم منه، ونحو التنكير فيه ما في قول كثير:
لئن كان يهدى برد أنيابها العلا | لأفقر منى إنّنى لفقير «٣» |
(٢). قوله «ومنه قولهم دحا محا» أى: دعها معها. (ع)
(٣).
دعوت إلهى دعوة ما جهلتها | وربى بما تخفى الصدور بصير |
لئن كان يهدى برد أنيابها العلا | لأفقر منى إننى لفقير |
فما أكثر الأخبار أن قد تزوجت | فهل يأتينى بالطلاق بشير |
[سورة يس (٣٦) : الآيات ٦٢ الى ٦٤]
وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلاًّ كَثِيراً أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ (٦٢) هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (٦٣) اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (٦٤)
قرئ: جبلا، بضمتين، وضمة وسكون، وضمتين وتشديدة، وكسرتين، وكسرة وسكون، وكسرتين وتشديدة. وهذه اللغات في معنى الخلق. وقرئ: جبلا، جمع جبلة، كفطر وخلق.
وفي قراءة على رضى الله عنه: جيلا واحدا، لا أجيال.
[سورة يس (٣٦) : الآيات ٦٥ الى ٦٦]
الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلى أَفْواهِهِمْ وَتُكَلِّمُنا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (٦٥) وَلَوْ نَشاءُ لَطَمَسْنا عَلى أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُوا الصِّراطَ فَأَنَّى يُبْصِرُونَ (٦٦)
يروى أنهم يجحدون ويخاصمون، فتشهد عليهم جيرانهم وأهاليهم وعشائرهم، فيحلفون ما كانوا مشركين، فحينئذ يختم على أفواههم وتكلم أيديهم وأرجلهم. وفي الحديث: «١» «يقول العبد يوم القيامة: إنى لا أجيز علىّ شاهدا إلا من نفسي، فيختم على فيه، ويقال لأركانه: انطقى فتنطق بأعماله، ثم يخلى بينه وبين الكلام فيقول: بعدا لكنّ وسحقا. فعنكن كنت أناضل» «٢» وقرئ: يختم على أفواههم، وتتكلم أيديهم. وقرئ: ولتكلمنا أيديهم وتشهد، بلام كى والنصب على معنى: ولذلك تختم على أفواههم: وقرئ: ولتكلمنا أيديهم ولتشهد، بلام الأمر والجزم على أنّ الله يأمر الأعضاء بالكلام والشهادة.
[سورة يس (٣٦) : آية ٦٧]
وَلَوْ نَشاءُ لَمَسَخْناهُمْ عَلى مَكانَتِهِمْ فَمَا اسْتَطاعُوا مُضِيًّا وَلا يَرْجِعُونَ (٦٧)
الطمس: تعفية شق العين حتى تعود ممسوحة فَاسْتَبَقُوا الصِّراطَ لا يخلو من أن يكون على حذف الجار وإيصال الفعل. والأصل: فاستبقوا إلى الصراط. أو يضمن معنى ابتدروا.
(٢). قوله «كنت أناضل» أى أجادل. (ع)
أو لو شاء لأعماهم، فلو أرادوا أن يمشوا مستبقين في الطريق المألوف- كما كان ذلك هجيراهم- لم يستطيعوا. أو لو شاء لأعماهم، فلو طلبوا أن يخلفوا الصراط الذي اعتادوا المشي فيه لعجزوا ولم يعرفوا طريقا، يعنى أنهم لا يقدرون إلا على سلوك الطريق المعتاد دون ما وراءه من سائر الطرق والمسالك، كما ترى العميان يهتدون فيما ألفوا وضروا «٣» به من المقاصد دون غيرها عَلى مَكانَتِهِمْ وقرئ، على مكاناتهم. والمكانة والمكان واحد، كالمقامة والمقام. أى:
لمسخناهم مسخا يجمدهم مكانهم لا يقدرون أن يبرحوه بإقبال ولا إدبار ولا مضىّ ولا رجوع واختلف في المسخ، فعن ابن عباس: لمسخناهم قردة وخنازير. وقيل: حجارة. وعن قتادة:
لأقعدناهم على أرجلهم وأزمناهم. وقرئ: مضيا بالحركات الثلاث، فالمضىّ والمضي كالعتىّ والعتي. والمضىّ كالصبىّ.
[سورة يس (٣٦) : آية ٦٨]
وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَفَلا يَعْقِلُونَ (٦٨)
نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ نقلبه فيه فنخلقه على عكس ما خلقناه من قبل، وذلك أنا خلقناه على ضعف في جسده، وخلو من عقل وعلم، ثم جعلناه يتزايد وينتقل من حال إلى حال ويرتقى من درجة إلى درجة، إلى أن يبلغ أشده ويستكمل قوته، ويعقل ويعلم ما له وما عليه، فإذا انتهى نكسناه في الخلق فجعلناه يتناقص، حتى يرجع في حال شبيهة بحال الصبىّ في ضعف جسده وقلة عقله وخلوّه من العلم، كما ينكس السهم فيجعل أعلاه أسفله. قال عزّ وجلّ وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً، ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ وهذه دلالة على أنّ من ينقلهم من الشباب إلى الهرم ومن القوّة إلى الضعف ومن رجاحة العقل إلى الخرف وقلة التمييز ومن العلم إلى الجهل بعد ما نقلهم خلاف هذا النقل وعكسه- قادر على أن يطمس على
(٢). قوله «موضعين» في الصحاح: وضع البعير وغيره: أسرع من سيره وأوضعه راكبه. (ع)
(٣). قوله «وضروا به» أى: مرنوا. (ع)
[سورة يس (٣٦) : الآيات ٦٩ الى ٧٠]
وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ وَما يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ (٦٩) لِيُنْذِرَ مَنْ كانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكافِرِينَ (٧٠)
كانوا يقولون لرسول الله صلى الله عليه وسلم: شاعر، وروى أنّ القائل: عقبة بن أبى معيط، فقيل وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ أى: وما علمناه بتعليم القرآن الشعر، على معنى: أن القرآن ليس بشعر وما هو من الشعر في شيء. وأين هو عن الشعر، والشعر إنما هو كلام موزون مقفى، يدل على معنى، فأين الوزن؟ وأين التقفية؟ وأين المعاني التي ينتحيها الشعراء عن معانيه؟ وأين نظم كلامهم من نظمه وأساليبه؟ فإذا لا مناسبة بينه وبين الشعر إذا حققت، اللهمّ إلا أنّ هذا لفظه عربى، كما أنّ ذاك كذلك وَما يَنْبَغِي لَهُ وما يصح له ولا يتطلب لو طلبه، أى: جعلناه بحيث لو أراد قرض الشعر لم يتأت له ولم يتسهل، كما جعلناه أمّيا لا يتهدّى للخط ولا يحسنه، لتكون الحجة أثبت والشبهة أدحض. وعن الخليل: كان الشعر أحب إلى رسول الله ﷺ من كثير من الكلام، ولكن كان لا يتأتى له. فإن قلت: فقوله:
أنا النّبي لا كذب... أنا ابن عبد المطّلب «٢»
وقوله: «٣»
هل أنت إلّا أصبع دميت... وفي سبيل الله ما لقيت «٤»
(٢). متفق عليه من حديث البراء بن عازب في حديث.
(٣). متفق عليه من حديث جندب بن سفيان في حديث. [.....]
(٤).
هل أنت إلا أصبع دميت... وفي سبيل الله ما لقيت
يا نفس لا تقنطى بموتى... هذى حياض الموت قد صليت
وما تمنيت فقد لقيت... إن تفعلي فعلهما هديت
لعبد الله بن رواحة حين حمل اللواء بعد قتل زيد بن حارثة وجعفر بن أبى طالب فأصيبت أصبعه في الحرب فدميت وروى البخاري عن جندب أنه قال: بينما النبي ﷺ يمشى إذ أصابه حجر، فعثر، فدميت أصبعه فقال «هل أنت إلا أصبع دميت وفي سبيل الله ما لقيت» فأفاد أنه ﷺ يتمثل بشعر غيره، وهو بكسر التاء على وفق القافية، وقال الكرماني: التاء في الرجز مكسورة، وفي الحديث ساكنة. وقال عياض غفل بعض الناس فروى: دميت: ولقيت، بغير مد وخالف الرواية. وروى أحمد والطيالسي أنه ﷺ قاله حين كان خارجا إلى الصلاة، ودميت: صفة أصبع، والمعنى: لم يحصل لك شيء من الأذى إلا أنك دميت ولم يكن ذلك هدرا بل كان في سبيل الله ومرضاته لا غير، أى: الذي لقيته من الأذى في سبيل الله، فلا تحزني، ونزلها منزلة العاقل فخاطبها بذلك تسلية وتثبيتا لها، وهو في الحقيقة لنفسه «ثم صرح بخطاب النفس مثبتا لها. بقوله إن لم تقتلي في الحرب فلا بد لك من الموت وهذه حياضه فلا تفرى منها لأن الوقوع في البلاء أهون من انتظاره وشبه الموت بسيل على سبيل المكنية، فأثبت له الحياض تخييلا، وشبهه بالنار كذلك، فأثبت له الصلى وهو اقتحام النار، ولا مانع من تشبيه الشيء بأمرين مختفين مع الرمز لكل منهما بما يلائمه، ويجوز استعارة الحياض للمعرفة تصريحا، والذي تمنيته من الحرب المؤدى إلى الشهادة فقد لقيته، إن تفعلي كفعل زيد وجعفر، هديت إلى طريق الخير.
[سورة يس (٣٦) : الآيات ٧١ الى ٧٣]
أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا أَنْعاماً فَهُمْ لَها مالِكُونَ (٧١) وَذَلَّلْناها لَهُمْ فَمِنْها رَكُوبُهُمْ وَمِنْها يَأْكُلُونَ (٧٢) وَلَهُمْ فِيها مَنافِعُ وَمَشارِبُ أَفَلا يَشْكُرُونَ (٧٣)
مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا مما تولينا نحن إحداثه ولم يقدر على توليه غيرنا، وإنما قال ذلك لبائع الفطرة والحكمة فيها، التي لا يصح أن يقدر عليها إلا هو. وعمل الأيدى: استعارة من عمل من يعملون بالأيدى فَهُمْ لَها مالِكُونَ أى خلقناها لأجلهم فملكناها إياهم، فهم متصرفون فيها تصرف الملاك، مختصون بالانتفاع فيها لا يزاحمون. أو فهم لها ضابطون قاهرون، من قوله:
أصبحت لا أحمل السلاح ولا | أملك رأس البعير إن نفرا «١» |
يصرفه الصّبى بكل وجه | ويحبسه على الخسف الجرير |
وتضربه الوليدة بالهراوى | فلا غير لديه ولا نكير «٢» |
الركوبة جمع. وقرئ: ركوبهم، أى ذو ركوبهم. أو فمن منافعها ركوبهم مَنافِعُ من الجلود والأوبار والأصواف وغير ذلك وَمَشارِبُ من اللبن، ذكرها مجملة، وقد فصلها في قوله تعالى وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعامِ بُيُوتاً... الآية والمشارب: جمع مشرب وهو موضع الشرب، أو الشرب
[سورة يس (٣٦) : الآيات ٧٤ الى ٧٦]
وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ (٧٤) لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ (٧٥) فَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّا نَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ (٧٦)
أصبح متى الشباب مبتكرا | إن ينأ عنى فقد ثوى عصرا |
فارقنا قبل أن نفارقه | لما قضى من جماعنا وطرا |
أصبحت لا أملك السلاح ولا | أملك رأس البعير إن نفرا |
والذئب أخشاه إن مررت به | وحدي وأخشى الرياح والمطرا |
(٢).
لقد عظم البعير بغير لب | فلم يستغن بالعظم البعير |
يصرفه الصبى بكل وجه | ويحبسه على الخسف الجرير |
وتضربه الوليدة بالهراوى | فلا غير لديه ولا نكير |
والنكير: الإنكار، يعنى أن العبرة بالألباب والعقول، لا بالغلظ والطول.
أن يكون على حذف لام التعليل، وهو كثير في القرآن وفي الشعر، وفي كل كلام وقياس مطرد، وهذا معناه ومعنى الكسر سواء، وعليه تلبية رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنّ الحمد والنعمة «١» لك، كسر أبو حنيفة وفتح الشافعي، وكلاهما تعليل. والثاني: أن يكون بدلا من قَوْلُهُمْ كأنه قيل: فلا يحزنك، إنا نعلم ما يسرون وما يعلنون. وهذا المعنى قائم مع المكسورة إذا جعلتها مفعولة للقول، فقد تبين أن تعلق الحزن بكون الله عالما وعدم تعلقه لا يدوران على كسر إن وفتحها، وإنما يدوران على تقديرك، فتفصل إن فتحت بأن تقدّر معنى التعليل ولا تقدّر البدل، كما أنك تفصل بتقدير معنى التعليل إذا كسرت ولا تقدّر معنى المفعولية، ثم إن قدّرته كاسرا أو فاتحا على ما عظم فيه الخطب ذلك القائل، فما فيه إلا نهى رسول الله ﷺ عن الحزن على كون الله عالما بسرهم وعلانيتهم، وليس النهى عن ذلك مما يوجب شيئا. ألا ترى إلى قوله تعالى فَلا تَكُونَنَّ ظَهِيراً لِلْكافِرِينَ، وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، وَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ
[سورة يس (٣٦) : الآيات ٧٧ الى ٨٣]
أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (٧٧) وَضَرَبَ لَنا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (٧٨) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ (٧٩) الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ ناراً فَإِذا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ (٨٠) أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلى وَهُوَ الْخَلاَّقُ الْعَلِيمُ (٨١)
إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (٨٢) فَسُبْحانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٨٣)
يا محمد، أترى الله يحيى هذا بعد ما قد رمّ، قال صلى الله عليه وسلم: نعم ويبعثك ويدخلك جهنم «٣» وقيل: معنى قوله فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ فإذا هو بعد ما كان ماء مهينا رجل مميز منطبق قادر على الخصام، مبين: معرب عما في نفسه فصيح، كما قال تعالى أَوَمَنْ يُنَشَّؤُا فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصامِ غَيْرُ مُبِينٍ. فإن قلت: لم سمى قوله مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ مثلا؟ قلت: لما دل عليه من قصة عجيبة شبيهة بالمثل، وهي إنكار قدرة الله تعالى على إحياء الموتى. أو لما فيه من التشبيه، لأن ما أنكر من قبيل ما يوصف الله بالقدرة عليه، بدليل النشأة الأولى، فإذا قيل:
(٢). قوله «وشرز صفحته... الخ» في الصحاح «الشرز» الشرس، وهو الغلظ. والمحك: اللجاج. (ع)
(٣). هكذا ذكره الحلبي عن قتادة بغير سند، وأخرجه الحاكم من رواية أبى بشر عن سعيد بن جبير عن ابن عباس «أن العاص بن وائل أخذ عظما من البطحاء، ففتته بيده، ثم قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أيحيي الله هذا بعد ما رم؟ فقال: نعم، يميتك الله- الحديث» وروى البيهقي في الشعب من طريق حصين عن أبى مالك.
قال: جاء أبى بن خلف بعظم نخر- الحديث» وروى ابن مردويه من طريق الضحاك عن ابن عباس قال: «جاء أبو جهل بعظم حائل».
ولذلك تتخذ منه كذينقات القصارين. قرئ: الأخضر، على اللفظ. وقرئ: الخضراء، على المعنى. ونحوه قوله تعالى مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ فَشارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ من قدر على خلق السماوات والأرض مع عظم شأنهما فهو على خلق الأناسى أقدر، وفي معناه قوله تعالى لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وقرئ: يقدر، وقوله أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ يحتمل معنيين: أن يخلق مثلهم في الصغر والقماءة «٢» بالإضافة إلى السماوات والأرض أو أن يعيدهم، لأن المعاد مثل للمبتدإ وليس به وَهُوَ الْخَلَّاقُ الكثير المخلوقات الْعَلِيمُ الكثير المعلومات. وقرئ: الخالق إِنَّما أَمْرُهُ إنما شأنه إِذا أَرادَ شَيْئاً إذا دعاه داعى حكمة إلى تكوينه ولا صارف أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ أن يكونه من غير توقف فَيَكُونُ فيحدث، أى: فهو كائن موجود لا محالة. فإن قلت: ما حقيقة قوله أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ؟ قلت:
هو مجاز من الكلام وتمثيل، لأنه لا يمتنع عليه شيء من المكونات، وأنه بمنزلة المأمور المطيع إذا ورد عليه أمر الآمر المطاع. فإن قلت: فما وجه القراءتين في فيكون؟ قلت: أما الرفع فلأنها جملة من مبتدإ وخبر، لأن تقديرها: فهو يكون، معطوفة على مثلها، وهي أمره أن يقول له كن. وأما النصب فللعطف على يقول، والمعنى: أنه لا يجوز عليه شيء مما يجوز على الأجسام
(٢). قوله «والقماءة» الصغر والذلة. أفاده الصحاح. (ع)
والمعنى واحد تُرْجَعُونَ بضم التاء وفتحها. وعن ابن عباس رضى الله عنهما: كنت لا أعلم ما روى في فضائل يس وقراءتها كيف خصت، بذلك، فإذا أنه لهذه الآية.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن لكل شيء قلبا، وإن قلب القرآن يس، من قرأ يس يريد بها وجه الله، غفر الله تعالى له، وأعطى من الأجر كأنما قرأ القرآن اثنتين وعشرين مرة، وأيما مسلم قرئ عنده إذا نزل به ملك الموت سورة يس نزل بكل حرف منها عشرة أملاك يقومون بين يديه صفوفا يصلون عليه ويستغفرون له ويشهدون غسله ويتبعون جنازته ويصلون عليه ويشهدون دفنه، وأيما مسلم قرأ يس وهو في سكرات الموت لم يقبض ملك الموت روحه حتى يحييه رضوان خازن الجنة بشربة من شراب الجنة يشربها وهو على فراشه، فيقبض ملك الموت روحه وهو ريان، ويمكث في قبره وهو ريان، ولا يحتاج إلى حوض من حياض الأنبياء حتى يدخل الجنة وهو ريان «١». وقال عليه الصلاة والسلام «إن في القرآن سورة يشفع قارئها ويغفر لمستمعها. ألا وهي سورة يس» «٢».
(٢). أخرجه الثعلبي من طريق محمد بن عمير عن هشام عن أبيه عن عائشة رضى الله عنها.