تفسير سورة الدّخان

زاد المسير
تفسير سورة سورة الدخان من كتاب زاد المسير في علم التفسير المعروف بـزاد المسير .
لمؤلفه ابن الجوزي . المتوفي سنة 597 هـ
وهي مكية كلها بإجماعهم

سورة الدّخان
وهي مكّيّة كلّها بإجماعهم بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة الدخان (٤٤) : الآيات ١ الى ٩]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

حم (١) وَالْكِتابِ الْمُبِينِ (٢) إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ (٣) فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ (٤)
أَمْراً مِنْ عِنْدِنا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (٥) رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٦) رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (٧) لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (٨) بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ (٩)
قوله عزّ وجلّ: حم وَالْكِتابِ الْمُبِينِ قد تقدّم بيانه، وجواب القسم إِنَّا أَنْزَلْناهُ والهاء كناية عن الكتاب، وهو القرآن فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ وفيها قولان «١». أحدهما: أنها ليلة القدر، وهو قول الأكثرين. وروى عكرمة عن ابن عباس قال: أُنزلَ القرآنُ من عند الرحمن ليلة القدر جُملةً واحدةً، فوُضع في السماء الدنيا، ثم أُنزِلَ نجوماً. وقال مقاتل: نزل القرآن كلّه في ليلة القدر من اللوح المحفوظ إِلى السماء الدنيا. والثاني: أنها ليلة النصف من شعبان، قاله عكرمة. قوله تعالى: إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ أي: مخوِّفين عقابنا. فِيها أي: في تلك الليلة يُفْرَقُ كُلُّ أي: يُفْصَل. وقرأ أبو المتوكّل، وأبو نهيك، ومعاذ القارئ: «يْفِرقُ» بفتح الياء وكسر الراء «كُلَّ» بنصب اللام أَمْرٍ حَكِيمٍ أي: مُحْكَم. قال ابن عباس: يُكتَب من أُمِّ الكتاب في ليلة القدر ما هو كائن في السنة من الخير والشرِّ والأرزاق والآجال، حتى الحاج، وإِنك لترى الرجل يمشي في الأسواق وقد وقع اسمه في الموتى. وعلى ما روي عن عكرمة أن ذلك في ليلة النصف من شعبان، والرواية عنه بذلك مضطربة قد خولف الراوي لها، فروي عن عكرمة أنه قال: في ليلة القَدْر، وعلى هذا المفسرون.
قوله تعالى: أَمْراً مِنْ عِنْدِنا قال الأخفش: «أمراً» و «رحمةً» منصوبان على الحال المعنى: إِنّا أنزِلْناه آمرِين أمراً وراحمين رحمة. قال الزجاج: ويجوز أن يكون منصوباً ب «يُفْرَقُ» بمنزلة يُفْرَقُ فَرْقاً، لأن «أمراً» بمعنى «فَرْقاً». قال الفراء: ويجوز أن تُنصب الرحمة بوقوع «مرسلين» عليها، فتكون الرحمة هي النبيّ صلّى الله عليه وسلّم وقال مقاتل: «مرسِلِين» بمعنى منزِلِين هذا القرآن، أنزلناه رحمة لمن آمن به. وقال
(١) قال الطبري رحمه الله في «تفسيره» ١١/ ٢٢٣: وأولى القولين في ذلك بالصواب قول من قال: ذلك ليلة القدر. وهذا اختيار ابن كثير والقرطبي.
غيره: «أَمْراً مِنْ عِنْدِنا» أي: إِنا نأمر بنَسخ ما يُنسخ من اللوح إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ الأنبياء، رَحْمَةً منّا بخلقنا. رَبِّ السَّماواتِ قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر: «ربُّ» بالرفع. وقرأ حمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم: «ربِّ» بكسر الباء. وما بعد هذا ظاهر إلى قوله: بَلْ هُمْ يعني الكفار فِي شَكٍّ مما جئناهم به يَلْعَبُونَ يهزئون به.
[سورة الدخان (٤٤) : الآيات ١٠ الى ١٦]
فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ (١٠) يَغْشَى النَّاسَ هذا عَذابٌ أَلِيمٌ (١١) رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ (١٢) أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرى وَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ (١٣) ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ (١٤)
إِنَّا كاشِفُوا الْعَذابِ قَلِيلاً إِنَّكُمْ عائِدُونَ (١٥) يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ (١٦)
فَارْتَقِبْ أي: فانتطر يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ اختلفوا في هذا الدخان ووقته على ثلاثة أقوال «١» أحدها: أنه دخان يجيء قبل قيام الساعة.
(١٢٥٥) فروي عن ابن عباس عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «إن الدُّخان يجيء فيأخذ بأنفاس الكفار، ويأخذ المؤمنين منه كهيئة الزّكام. وروى عبد الله بن أبي مليكة قال: غدوتُ على ابن عباس ذاتَ يوم، فقال: ما نمتُ الليلة حتى أصبحتُ، قلت: لم؟ قال: طلع الكوكب ذو الذَّنَب، فخشيتُ أن يطرق الدخان، وهذا المعنى مروي عن علي، وابن عمر، وأبي هريرة، والحسن.
والثاني: أن قريشاً أصابهم جوع، فكانوا يرون بينهم وبين السماء دخانا من الجوع.
لم أره عن ابن عباس سواء مرفوعا أو موقوفا، ولعله سبق قلم. وورد من حديث جماعة من الصحابة فمن ذلك: حديث حذيفة بن اليمان: أخرجه الطبري ٣١٠٦١ وفيه رواد بن الجراح واه. وورد من حديث أبي مالك الأشعري، أخرجه الطبري ٣١٠٦٢ وإسناده حسن في الشواهد. وله شواهد متعددة تراجع في كتب أشراط الساعة.
__________
(١) قال الطبري رحمه الله في «تفسيره»
٤/ ٢٢٨: وأولى القولين بالصواب في ذلك ما روي عن ابن مسعود من أن الدخان الذي أمر الله نبيه صلّى الله عليه وسلّم أن يرتقبه، هو ما أصاب قومه من الجهد بدعائه عليهم، على ما وصفه ابن مسعود لأن الله جل ثناؤه توعّد بالدخان مشركي قريش وأن قوله لنبيه محمد صلّى الله عليه وسلّم في سياق خطاب الله كفار قريش وتقريعه إياهم بشركهم بقوله: لا إِلهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ ثم أتبع قوله لنبيه عليه الصلاة والسلام فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ أمرا منه بالصبر إلى أن يأتيهم بأسه وتهديدا للمشركين فهو بأن يكون إذ كان وعيدا لهم قد أحله بهم أشبه من أن يكون أخره عنهم لغيرهم.
قلت: وحديث ابن مسعود صحيح كالشمس كما سيأتي. لكنه رأي له. وقال ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» ٤/ ١٦٥ بعد أن ساق أحاديث مرفوعة في أن الدخان هو عند قيام الساعة وعقب ذلك بآثار موقوفة ومنها أثر عن ابن عباس- وهو الآتي برواية ابن أبي مليكة عن ابن عباس موقوفا. فقال: وهذا إسناد صحيح إلى ابن عباس حبر الأمة وترجمان القرآن، وهكذا قول من وافقه من الصحابة والتابعين مع الأحاديث المرفوعة من الصحاح والحسان التي أوردناها مما فيه دلالة ظاهرة على أن الدخان من الآيات المنتظرة، مع أنه ظاهر القرآن، قال تعالى: فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ أي بين واضح يراه كل أحد، وعلى ما فسره ابن مسعود إنما هو خيال رأوه في أعينهم من شدة الجوع، وهكذا قوله يَغْشَى النَّاسَ أي يتفشاهم ويعمهم، ولو كان أمرا خياليا يخص أهل مكة المشركين لما قيل: يَغْشَى النَّاسَ. اه.
88
(١٢٥٦) فروى البخاري ومسلم في «الصحيحين» من حديث مسروق، قال: كنا عند عبد الله، فدخل علينا رجل، فقال: جئتُكَ من المسجد وتركتُ رجلاً يقول في هذه الآية يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ: يغشاهم يومَ القيامة دخان يأخذ بأنفاسهم حتى يصيبَهم منه كهيئة الزكام فقال عبد الله: من عَلِم عِلْماً فلْيَقُل به، ومن لم يَعْلَم فلْيَقُل: الله أعلم، إنما كان هذا لأن قريشاً لمّا استعصت على النبيّ صلّى الله عليه وسلّم دعا عليهم بسنين كسنيِّ يوسف، فأصابهم قحط وجهد، حتى أكلوا العظام والميتة، وجعل الرجلُ ينظُر إلى السماء فيرى ما بينه وبينها كهيئة الدخان من الجهد، فقالوا: رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ، فقال الله تعالى: إِنَّا كاشِفُوا الْعَذابِ قَلِيلًا إِنَّكُمْ عائِدُونَ، فكشف عنهم، ثم عادوا إِلى الكفر، فأخذوا يومَ بدر، فذلك قوله: يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرى، وإِلى نحو هذا ذهب مجاهد وأبو العالية والضحاك وابن السائب ومقاتل.
والثالث: أنه يوم فتح مكة لمّا حُجبت السماءُ بالغبرة، حكاه الماوردي.
قوله تعالى: هذا عَذابٌ أي: يقولون: هذا عذابٌ. رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذابَ فيه قولان:
أحدهما: الجوع. والثاني: الدّخان إِنَّا مُؤْمِنُونَ بمحمّد صلّى الله عليه وسلّم والقرآن. أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرى أي: من أين لهم التذكُّر والاتِّعاظ بعد نزول هذا البلاء، وحالهم أنه قد جاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ أي: ظاهر الصِّدق؟! ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ أي: أعرضوا ولم يقبلوا قوله وَقالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ أي: هو معلَّم يعلِّمه بشر، مجنون بادعائه النُّبوَّة قال الله تعالى: إِنَّا كاشِفُوا الْعَذابِ قَلِيلًا أي: زماناً يسيراً «١». وفي العذاب قولان: أحدهما:
الضُّرُّ الذي نزل بهم كُشف بالخِصب، هذا على قول ابن مسعود. قال مقاتل: كشفه إِلى يوم بدر.
والثاني: أنه الدخان، قاله قتادة. قوله تعالى: إِنَّكُمْ عائِدُونَ فيه قولان: أحدهما: إلى الشّرك، قاله ابن
صحيح الإسناد. أخرجه البخاري ٤٧٧٤ عن محمد بن كثير عن سفيان ثنا منصور والأعمش عن أبي الضحى عن مسروق به. وأخرجه ابن حبان ٦٥٨٥ والطبراني ٩٠٤٨ وأبو نعيم في «الدلائل» ٣٦٩ من طريق محمد بن كثير به. وأخرجه البخاري ٤٦٩٣ والحميدي ١١٦ من طريق سفيان به. وأخرجه البخاري ٤٨٢٤ والترمذي ٣٢٥٤ وأحمد ١/ ٤٤١ من طريق شعبه عن الأعمش ومنصور به. وأخرجه البخاري ١٠٠٧ و ٤٨٢١ و ٤٨٢٢ و ٤٨٢٣ ومسلم ٢٧٩٨ ح ٤٠ والطبري ٣١٠٤٣ والطبراني ٩٠٤٦ و ٩٠٤٧ وأحمد ١/ ٣٨٠ و ٤٣١ والبيهقي في «الدلائل» ٢/ ٣٢٤ و ٣٢٥ و ٣٢٦ من طرق عن الأعمش به. وأخرجه مسلم ٢٧٩٨ والطبري ٣١٠٤٥ والبيهقي ٢/ ٣٢٦ من طرق عن جرير عن منصور به.
__________
(١) قال ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» ٤/ ١٦٦: وقوله إِنَّا كاشِفُوا الْعَذابِ قَلِيلًا إِنَّكُمْ عائِدُونَ يحتمل معنيين أحدهما: أنه يقول تعالى: ولو كشفنا عنكم العذاب ورجعناكم إلى الدار الدنيا لعدتم إلى ما كنتم فيه من الكفر والتكذيب، كقوله: وَلَوْ رَحِمْناهُمْ وَكَشَفْنا ما بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ وكقوله: وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ والثاني: أن يكون المراد: إنا مؤخرو العذاب عنكم قليلا بعد انعقاد سببه ووصوله كقوله تعالى: إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنا عَنْهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ. ولم يكن العذاب، باشرهم واتصل بهم، بل كان قد انعقد سببه عليهم، ولا يلزم أيضا أن يكونوا قد أقلعوا عن كفرهم ثم عادوا إليه، قال الله تعالى إخبارا عن شعيب أنه قال لقومه حين قالوا: لَنُخْرِجَنَّكَ يا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا قالَ: أَوَلَوْ كُنَّا كارِهِينَ. قَدِ افْتَرَيْنا عَلَى اللَّهِ كَذِباً إِنْ عُدْنا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْها وشعيب عليه السلام لم يكن قط على ملتهم وطريقهم. اه.
89
مسعود. والثاني: إلى عذاب الله، قاله قتادة. قوله تعالى: يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرى وقرأ الحسن، وابن يعمر، وأبو عمران: «يومَ تُبْطَشُ» بتاء مرفوعة وفتح الطاء «البَطْشَةُ» بالرفع. قال الزجاج: المعنى:
واذكر يومَ نَبْطِش، ولا يجوز أن يكون منصوباً بقوله: «مُنْتَقِمُونَ»، لأن ما بعد «إنّا» لا يجوز أن يعمل فيما قبلها. وفي هذا اليوم قولان: أحدهما: يوم بدر، قاله ابن مسعود وأُبيُّ بن كعب وأبو هريرة وأبو العالية ومجاهد والضحاك. والثاني: يوم القيامة، قاله ابن عباس والحسن. والبَطْش: الأخذ بقوّة.
[سورة الدخان (٤٤) : الآيات ١٧ الى ٢٩]
وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَجاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ (١٧) أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبادَ اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (١٨) وَأَنْ لا تَعْلُوا عَلَى اللَّهِ إِنِّي آتِيكُمْ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (١٩) وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ (٢٠) وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ (٢١)
فَدَعا رَبَّهُ أَنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ (٢٢) فَأَسْرِ بِعِبادِي لَيْلاً إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (٢٣) وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْواً إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ (٢٤) كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (٢٥) وَزُرُوعٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ (٢٦)
وَنَعْمَةٍ كانُوا فِيها فاكِهِينَ (٢٧) كَذلِكَ وَأَوْرَثْناها قَوْماً آخَرِينَ (٢٨) فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّماءُ وَالْأَرْضُ وَما كانُوا مُنْظَرِينَ (٢٩)
قوله تعالى: وَلَقَدْ فَتَنَّا أي: ابتَلَينا قَبْلَهُمْ أي: قَبْلَ قومك قَوْمَ فِرْعَوْنَ بارسال موسى إِليهم وَجاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ وهو موسى بن عمران. وفي معنى «كريم» ثلاثة أقوال: أحدها: حسن الخُلُق، قاله مقاتل. والثاني: كريم على ربِّه، قاله الفراء. والثالث: شريفٌ وسيطُ النسب، قاله أبو سليمان. قوله تعالى: أَنْ أَدُّوا أي: بان أدُّوا إِلَيَّ عِبادَ اللَّهِ وفيه قولان: أحدهما: أدُّوا إلى ما أدعوكم إليه من الحق باتِّباعي، روى هذا المعنى العوفي عن ابن عباس. فعلى هذا ينتصب «عبادَ الله» بالنداء. قال الزجاج: ويكون المعنى: أن أدُّوا إِليَّ ما آمُركم به يا عباد الله. والثاني: أرسِلوا معي بني إِسرائيل، قاله مجاهد، وقتادة، والمعنى: أطلِقوهم من تسخيركم، وسلِّموهم إِليَّ. وَأَنْ لا تَعْلُوا عَلَى اللَّهِ فيه ثلاثة أقوال: أحدها: لا تفتروا عليه، قاله ابن عباس. والثاني: لا تعتوا عليه، قاله قتادة.
والثالث: لا تعظَّموا عليه، قاله ابن جريج إِنِّي آتِيكُمْ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ أي: بحجة تدل على صدقي. فلمّا قال هذا تواعدوه بالقتل فقال: وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ وفيه قولان: أحدهما: أنه رجم القول، قاله ابن عباس فيكون المعنى: أن يقولوا: شاعر أو مجنون. والثاني: القتل، قاله السدي. وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ أي: فاتركوني لا معي ولا علَيَّ، فكفروا ولم يؤمنوا، فَدَعا رَبَّهُ أَنَّ هؤُلاءِ قال الزجاج: من فتح «أنَّ»، فالمعنى: بأن هؤلاء ومن كسر، فالمعنى: قال: إنّ هؤلاء، و «إنّ» بعد القول مكسورة. وقال المفسرون: المجرمون هاهنا: المشركون. فأجاب اللهُ دعاءه، وقال: فَأَسْرِ بِعِبادِي لَيْلًا يعني بالمؤمنين «١» إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ يتبعكم فرعون وقومه فأعلمهم أنهم يتبعونهم، وأنه سيكون
(١) قال ابن العربي رحمه الله في «تفسيره» ٤/ ١١٨: السرى: سير الليل. والإدلاج: سير السحر والإسآد: سيره كله. والتأويب: سير النهار. وقوله تعالى: فَأَسْرِ بِعِبادِي لَيْلًا أمر بالخروج بالليل، وسير الليل يكون من الخوف، والخوف يكون من وجهين: إما من العدو فيتخذ الليل سترا مسدلا، فهو من أستار الله تعالى، وإما من خوف المشقة على الدواب والأبدان بحرّ أو جدب. فيتخذ السرى مصلحة من ذلك. وكان النبيّ صلّى الله عليه وسلّم يسري ويدلج ويترقق ويستعجل قدر الحاجة وحسب العجلة، وما تقتضيه المصلحة. وفي «جامع الموطأ» :« «إن الله رفيق يحب الرفق، ويرضى به، ويعين عليه ما لا يعين على العنف، فإذا ركبتم هذه الدّوابّ العجم فأنزلوها منازلها، فإن كانت الأرض جدبة فانجوا عليها بنقيها، وعليكم بسير الليل فإن الأرض تطوى بالليل ما لا تطوى بالنهار، وإياكم والتعريس على الطريق فإنه طرق الدّوابّ ومأوى الحيّات». قلت: حديث صحيح. أخرجه مالك ٢/ ٩٧٩ عن خالد بن معدان مرسلا. وورد من وجه آخر عن أبي هريرة مرفوعا، أخرجه مسلم ١٩٢٦.
90
سبباً لغرقهم. وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْواً أي: ساكناً على حاله بعد أن انفرق لك، ولا تأمره أن يرجع كما كان حتى يدخُلَه فرعون وجنوده. والرَّهْو: مشيٌ في سُكون. قال قتادة: لمّا قطع موسى عليه السلام البحر، عطف يضرب البحر بعصاه ليلتئم، وخاف أن يتبعه فرعون وجنوده، فقيل له: وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْواً أي كما هو طريقاً يابساً. قوله تعالى: إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ أخبره الله عزّ وجلّ بغرقهم لِيَطْمَئِنَّ قلبُه في ترك البحر على حاله. كَمْ تَرَكُوا أي: بعد غرقهم مِنْ جَنَّاتٍ وقد فسرنا الآية في الشعراء «١». فأما «النَّعمة» فهو العيش اللَّيِّن الرغد. وما بعد هذا قد سبق بيانه «٢» إِلى قوله: وَأَوْرَثْناها قَوْماً آخَرِينَ يعني بني إسرائيل. فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّماءُ أي على آل فرعون، وفي معناه ثلاثة أقوال «٣» : أحدها: أنه على الحقيقة.
(١٢٥٧) روى أنس بن مالك عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «ما مِنْ مُسْلِمٍ إٍلاّ وله في السماء بابان، باب يصعَدُ فيه عمله، وباب ينزل منه رزقه، فإذا مات بكيا عليه» وتلا صلّى الله عليه وسلّم هذه الآية. وقال عليّ رضي الله عنه: إِن المؤمن إذا مات بكى عليه مُصَلاّه من الأرض ومَصْعَد عمله من السماء، وإِن آل فرعون لم يكن لهم في الأرض مُصَلّى ولا في السماء مَصْعَد عمل، فقال الله تعالى: فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّماءُ وَالْأَرْضُ، وإِلى نحو هذا ذهب ابن عباس والضحاك ومقاتل. وقال ابن عباس: الحُمرة التي في السماء
ضعيف جدا. أخرجه الترمذي ٣٢٥٥ وأبو يعلى ٤١٣٣ وأبو نعيم ٣/ ٥٣ من طريق موسى بن عبيدة عن يزيد الرقاشي عن أنس به مرفوعا، وهذا إسناد ضعيف جدا، موسى بن عبيدة ضعيف ليس بشيء، وشيخه يزيد ضعيف روى مناكير كثيرة عن أنس، وهذا منها. وضعفه الترمذي بقوله: موسى ويزيد يضعفان، وكذا ضعفه الهيثمي في «المجمع» ٧/ ١٠٤ والحافظ في «المطالب العالية» ٣/ ٣٦٩. وأخرجه أبو نعيم في «الحلية» ٣/ ٥٣ من طريق صفوان بن سليم عن يزيد بن أبان به والراوي عن صفوان هو إبراهيم بن مهاجر بن مسمار، وهو ضعيف. ولعجزه شاهد مرسل، أخرجه الطبري ٣١١٢٩ ومع ذلك المتن منكر، وحسبه الوقف، وانظر «تفسير القرطبي» ٥٤٦٩ بتخريجنا.
__________
(١) الشعراء: ٥٧.
(٢) يس: ٥٥.
(٣) قال ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» ٤/ ١٦٨: وقوله: فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّماءُ وَالْأَرْضُ أي لم تكن لهم أعمال صالحة تصعد في أبواب السماء فتبكي على فقدهم، ولا لهم في الأرض بقاع عبدوا الله فيها فقدتهم، فلهذا استحقوا ألا ينظروا ولا يؤخروا لكفرهم وإجرامهم، وعتوهم وعنادهم. وقال القرطبي في «تفسيره» ١٦/ ١٢١: فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّماءُ وَالْأَرْضُ أي لكفرهم. وكانت العرب تقول عند موت السيد منهم: بكت له السماء والأرض، أي عمّت مصيبته الأشياء، وذلك على سبيل التمثيل والتخييل مبالغة في وجوب الجزع والبكاء عليه، والمعنى أنهم هلكوا فلم تعظم مصيبتهم ولم يوجد لهم فقد. وتقدير الآية: فما بكت عليهم مصاعد عملهم من السماء ولا موضع عبادتهم من الأرض وفي بكاء السماء والأرض أنه كالمعروف من بكاء الحيوان، ولا استحالة في ذلك. وإذا كانت السماوات والأرض تسبح وتسمع وتتكلم فكذلك تبكي مع ما جاء من الخبر في ذلك، والله أعلم بصواب هذه الأقوال.
91
بكاؤها. وقال مجاهد: ما مات مؤمن إِلا بكت عليه السماء والأرض أربعين صباحاً، فقيل له:
أو تَبكي؟ قال: وما للأرض لا تبكي على عبد كان يعمرها بالركوع والسجود؟! وما للسماء لا تبكي على عبد كان لتسبيحه وتكبيره فيها دَويّ كَدَويَّ النحل؟!.
والثاني: أن المراد: أهل السماء وأهل الأرض، قاله الحسن، ونظير هذا قوله تعالى: حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها «١»، أي: أهل الحرب. والثالث: أن العرب تقول إِذا أرادت تعظيمَ مَهِلكِ عظيمٍ: أظلمت الشمسُ له، وكَسَفَ القمرُ لفقده، وبكتْه الرّيحُ والبرقُ والسماءُ والأرضُ، يريدون المبالغة في وصف المصيبة، وليس ذلك بكذب منهم، لأنهم جميعاً متواطئون عليه، والسّامِعُ له يَعرف مذهبَ القائل فيه ونيَّتُهم في قولهم: أظلمت الشمسُ كادت تُظْلِم، وكَسَفَ القمرُ: كاد يَكْسِف، ومعنى «كاد» : هَمَّ أن يَفعَل ولم يفعل قال ابن مُفَرِّغ يرثي رجلاً:
الرِّيحُ تَبْكِي شَجْوَهُ والبَرْقُ يَلْمَعُ في غَمامَهْ «٢»
وقال الآخر:
الشَّمْسُ طالِعَةٌ لَيْسَتْ بكاسِفةٍ تَبْكِي عَلَيْكَ- نُجُومَ اللَّيْلِ والْقَمَرا «٣»
أراد: الشمسُ طالعةٌ تبكي عليه، وليست مع طلوعها كاسِفةً النجومَ والقمرََ، لأنها مُظْلِمةٌ، وإِنما تَكْسٍفُ بضوئها، فنجُومُ الليل باديةٌ بالنهار، فيكون معنى الكلام: إن الله لمّا أهلك قوم فرعون لم يبك عليهم باكٍ، ولم يَجْزَعْ جازعٌ، ولم يوجد لهم فَقْدٌ، هذا كلُّه كلامُ ابن قتيبة.
[سورة الدخان (٤٤) : الآيات ٣٠ الى ٤٢]
وَلَقَدْ نَجَّيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ مِنَ الْعَذابِ الْمُهِينِ (٣٠) مِنْ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كانَ عالِياً مِنَ الْمُسْرِفِينَ (٣١) وَلَقَدِ اخْتَرْناهُمْ عَلى عِلْمٍ عَلَى الْعالَمِينَ (٣٢) وَآتَيْناهُمْ مِنَ الْآياتِ ما فِيهِ بَلؤُا مُبِينٌ (٣٣) إِنَّ هؤُلاءِ لَيَقُولُونَ (٣٤)
إِنْ هِيَ إِلاَّ مَوْتَتُنَا الْأُولى وَما نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ (٣٥) فَأْتُوا بِآبائِنا إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٣٦) أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أَهْلَكْناهُمْ إِنَّهُمْ كانُوا مُجْرِمِينَ (٣٧) وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ (٣٨) ما خَلَقْناهُما إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٣٩)
إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقاتُهُمْ أَجْمَعِينَ (٤٠) يَوْمَ لا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئاً وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (٤١) إِلاَّ مَنْ رَحِمَ اللَّهُ إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (٤٢)
قوله تعالى: مِنَ الْعَذابِ الْمُهِينِ يعني قتل الأبناء واستخدام النساء والتعب في أعمال فرعون، إِنَّهُ كانَ عالِياً أي: جبَّاراً. وَلَقَدِ اخْتَرْناهُمْ يعني بني إِسرائيل عَلى عِلْمٍ عَلِمه اللهُ فيهم على عالَمي زمانهم، وَآتَيْناهُمْ مِنَ الْآياتِ كانفراق البحر، وتظليل الغمام، وإِنزال المَنِّ والسَّلْوى، إلى غير ذلك ما فِيهِ بَلؤُا مُبِينٌ أي: نِعمة ظاهرة.
ثم رجع إلى ذِكْر كفار مكة، فقال إِنَّ هؤُلاءِ لَيَقُولُونَ إِنْ هِيَ إِلَّا مَوْتَتُنَا الْأُولى يعنون التي تكون في الدنيا وَما نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ أي: بمبعوثين، فَأْتُوا بِآبائِنا أي: ابعثوهم لنا
(١) محمد: ٤.
(٢) البيت ليزيد بن مفرّغ الحميري، وهو في «الأغاني» ١٨/ ١٨٧ و «الأضداد» ٤٢٤ للأنباري.
(٣) البيت لجرير يرثي عمر بن عبد العزيز، ديوانه: ٣٠٤ و «اللسان» - بكى-
إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ في البعث. وهذا جهل منهم من وجهين: أحدهما: أنهم قد رأوا من الآيات ما يكفي في الدلالة فليس لهم أن يتنطّعوا «١». والثاني: أن الإِعادة للجزاء وذلك في الآخرة، لا في الدنيا. ثم خوَّفهم عذابَ الأُمَم قَبْلَهم، فقال: أَهُمْ خَيْرٌ أي: أشَدُّ وأقوى أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ؟! أي: ليسوا خيراً منهم.
(١٢٥٨) روى أبو هريرة عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «ما أدري تُبَّعاً، نبيّ، أو غير نبيّ».
وقالت عائشة: لا تسُبُّوا تُبَّعاً فإنه كان رجلاً صالحاً، ألا ترى أن الله تعالى ذَمَّ قومَه ولم يذُمَّه.
وقال وهب: أسلَم تُبَّع ولم يُسْلِم قومُه، فلذلك ذُكر قومه ولم يُذكر. وذكر بعض المفسرين أنه كان يعبدُ النار، فأسلم ودعا قومَه- وهم حِمْيَر- إِلى الإِسلام، فكذَّبوه. فأمّا تسميته ب «تُبَّع» فقال أبو عبيدة: كل ملِك من ملوك اليمن كان يسمّى: تُبَّعاً، لأنه يَتْبَع صاحبَه، فموضعُ «تُبَّع» في الجاهلية موضعُ الخليفة في الإِسلام، وقال مقاتل: إنما سمِّي تُبَّعاً لكثرة أتباعه، واسمه: مَلْكَيْكَرِب. وإِنما ذكر قوم تُبَّع، لأنهم كانوا أقربَ في الهلاك إِلى كفار مكة من غيرهم.
وما بعد هذا قد تقدّم «٢» إِلى قوله تعالى: إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ وهو يوم يفصل الله عزّ وجلّ بين العباد مِيقاتُهُمْ أي: ميعادهم أَجْمَعِينَ يأتيه الأوّلون والآخرون. يَوْمَ لا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئاً فيه قولان: أحدهما: لا يَنْفَع قريبٌ قريباً، قاله مقاتل. وقال ابن قتيبة: لا يُغْنِي وليٌّ عن وليِّه بالقرابة أو غيرها. والثاني: لا يَنْفَع ابنُ عمٍّ ابنَ عمِّه، قاله أبو عبيدة. وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ أي، لا يُمْنَعون من عذاب الله، إِلَّا مَنْ رَحِمَ اللَّهُ وهم المؤمنون، فإنه يشفع بعضهم في بعض.
[سورة الدخان (٤٤) : الآيات ٤٣ الى ٥٩]
إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ (٤٣) طَعامُ الْأَثِيمِ (٤٤) كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ (٤٥) كَغَلْيِ الْحَمِيمِ (٤٦) خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلى سَواءِ الْجَحِيمِ (٤٧)
ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذابِ الْحَمِيمِ (٤٨) ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ (٤٩) إِنَّ هذا ما كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ (٥٠) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقامٍ أَمِينٍ (٥١) فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (٥٢)
يَلْبَسُونَ مِنْ سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَقابِلِينَ (٥٣) كَذلِكَ وَزَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ (٥٤) يَدْعُونَ فِيها بِكُلِّ فاكِهَةٍ آمِنِينَ (٥٥) لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلاَّ الْمَوْتَةَ الْأُولى وَوَقاهُمْ عَذابَ الْجَحِيمِ (٥٦) فَضْلاً مِنْ رَبِّكَ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (٥٧)
فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (٥٨) فَارْتَقِبْ إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ (٥٩)
صحيح. أخرجه أبو داود ٤٦٧٤ والبيهقي ٨/ ٣٢٩ من طريق عبد الرزاق ثنا معمر عن ابن أبي ذئب المقبري عن أبي هريرة. لكن بلفظ. «ما أدري أتبع لعين هو أم لا، وما أدري أعزير نبيّ هو أم لا؟». وأخرجه الحاكم ٢/ ٤٥٠ من طريق آخر عن ابن أبي ذئب به، بلفظ أبي داود لكن عنده «ذو القرنين» بدل «عزير». وصححه الحاكم على شرطهما، ووافقه الذهبي، وكذا الألباني في «الصحيحة» ٢٢١٧ على شرط البخاري فقط، فإن في إسناده آدم بن أبي إياس لم يرو له مسلم.
__________
(١) في «اللسان» : التّنطّع في الكلام: التعمق فيه مأخوذ منه، وفي الحديث «هلك المتنطعون» المتعمقون المغالون في الكلام، الذين يتكلمون بأقصى حلوقهم تكبرا. [.....]
(٢) الأنبياء: ١٦- الحجر: ٨٥.
93
إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ قد ذكرناها في الصافات «١». و «الْأَثِيمِ» : الفاجر وقال مقاتل: هو أبو جهل. وقد ذكرنا معنى «المُهْل» في الكهف «٢».
قوله تعالى: يَغْلِي فِي الْبُطُونِ قرأ ابن كثير، وابن عامر، وحفص عن عاصم: «يغلي» بالياء والباقون: بالتاء. فمن قرأ «تغلي» بالتاء، فلتأنيث الشجرة ومن قرأ بالياء، حمله على الطعام، قال أبو علي الفارسي: ولا يجوز أن يُحْمَل الغَلْيُ على المُهْل، لأن المهْل ذُكِر للتشبيه في الذَّوْب، وإٍنما يغلي ما شُبِّه به كَغَلْيِ الْحَمِيمِ وهو الماء الحارُّ إِذا اشْتَدَّ غَلَيانُه.
قوله تعالى: خُذُوهُ أي: يقال للزبانية: خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ وقرأ ابن كثير، ونافع، وابن عامر، ويعقوب: بضم التاء وكسرها الباقون قال ابن قتيبة: ومعناه: قُودوه بالعُنف، يقال: جيء بفلان يُعْتَلُ إِلى السلطان، و «سواء الجحيم» : وسط النار. قال مقاتل: الآيات في أبي جهل يضربه الملَك من خُزّان جهنم على رأسه بمقمعة من حديد فتنقُب عن دماغه، فيجري دماغُه على جسده، ثم يصُبُّ الملَك في النَّقْب ماءً حميماً قد انتهى حَرُّه، فيقع في بطنه، ثم يقول له الملَك: ذُقْ العذاب إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ هذا توبيخ له بذلك وكان أبو جهل يقول: أنا أعَزًّ قريش وأكرمُها. وقرأ الكسائي: «ذُقْ أنَّكَ» بفتح الهمزة والباقون: بكسرها. قال أبو علي: من كسرها، فالمعنى: أنت العزيز في زعمك، ومن فتح، فالمعنى: بأنَّكَ.
فإن قيل: كيف سُمِّي بالعزيز وليس به؟! فالجواب من ثلاثة أوجه: أحدها: أنه قيل ذلك استهزاءً به، قاله سعيد بن جبير، ومقاتل. والثاني: أنت العزيز الكريم عند نَفْسك، قاله قتادة. والثالث: أنت العزيز في قومك، الكريم على أهلك، حكاه الماوردي.
ويقول الخزّان لأهل النار: إِنَّ هذا ما كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ أي: تَشُكُّون في كونه. ثم ذكر مستقَرَّ المُتَّقِين فقال: إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقامٍ أَمِينٍ قرأ نافع وابن عامر: «في مُقام» بضم الميم والباقون:
بفتحها. قال الفراء: المَقام، بفتح الميم: المكان، وبضمها: الإِقامة. قوله تعالى: أَمِينٍ أي: أمِنوا فيه الغِيَر والحوادث. وقد ذكرنا «الجنّات» في البقرة «٣»، وذكرنا معنى «العُيون» ومعنى «متقابِلين» في الحجر «٤»، وذكرنا «السُّندُس والإِستبرق» في الكهف «٥».
قوله تعالى: كَذلِكَ أي: الأمر كما وَصَفْنا وَزَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ قال المفسرون: المعنى:
قَرَنّاهم بِهِنّ، وليس من عقد التزويج. قال أبو عبيدة: المعنى: جَعَلْنا ذكور أهل الجنة أزواجاً بِحُورٍ عِينٍ من النساء، تقول للرجل: زوِّج هذه النَّعل الفرد بالنَّعل الفرد، أي: اجعلهما زَوْجاً، والمعنى:
جَعَلْناهم اثنين اثنين. وقال يونس: العرب لا تقول: تزوَّج بها، إِنما يقولون: تزوجَّها. ومعنى وَزَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ: قَرَنّاهم. وقال ابن قتيبة: يقال: زوّجته امرأة، وزوّجته بامرأة. وقال أبو عليّ الفارسي: والتنزيل على ما قال يونس، وهو قوله تعالى: زَوَّجْناكَها «٦»، وما قال: زَوَّجْناك بها. فأمّا الحُور، فقال مجاهد: الحُور: النساء النقيّات البياض. وقال الفراء: الحَوْراء: البيضاء من الإِبل قال:
وفي «الحُور العِين» لغتان: حُور عِين، وحِير عين، وأنشد:
(١) الصافات: ٦٢.
(٢) الكهف: ٢٩.
(٣) البقرة: ٢٥.
(٤) الحجر: ٤٥- ٤٧.
(٥) الكهف: ٣١.
(٦) الأحزاب: ٣٧.
94
أزمانَ عيناء سرور المسير وحَوْراء عيناء مِنَ العِين الحِير
وقال أبو عبيدة: الحوراء: الشديدة بياض بياض العَيْن، الشديدة سواد سوادها. وقد بيَّنّا معنى «العِين» في الصافات «١».
قوله تعالى: يَدْعُونَ فِيها بِكُلِّ فاكِهَةٍ آمِنِينَ فيه قولان: أحدهما: آمنين من انقطاعها في بعض الأزمنة. والثاني: آمنين من التُّخَم والأسقام والآفات. قوله تعالى: إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولى فيه ثلاثة أقوال: أحدها: أنها بمعنى «سوى»، فتقدير الكلام: لا يذوقون في الجنة الموت سوى الموتة التي ذاقوها في الدنيا ومثله: وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ «٢»، وقوله:
خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ «٣» أي: سوى ما شاء لهم ربُّك من الزيادة على مقدار الدنيا، هذا قول الفراء، والزجاج. والثاني: أن السُّعداء حين يموتون يصيرون إِلى الرَّوح والرَّيحان وأسباب من الجنة يَرَوْنَ منازلهم منها، وإِذا ماتوا في الدنيا، فكأنهم ماتوا في الجنّة، لاتّصالهم بأسبابها، ومشاهدتهم إيّاها، قاله ابن قتيبة. والثالث: أن «إلاّ» بمعنى «بَعْد»، كما ذكرنا في أحد الوجوه في قوله: إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ «٤»، وهذا قول ابن جرير. قوله تعالى: فَضْلًا مِنْ رَبِّكَ أي: فعل اللهُ ذلك بهم فَضْلاً منه. فَإِنَّما يَسَّرْناهُ أي: سهَّلْناه، والكناية عن القرآن بِلِسانِكَ أي: بِلُغة العرب لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ أي: لكي يتَّعِظوا فيُؤْمِنوا، فَارْتَقِبْ أي: انْتَظِرْ بهم العذاب إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ هلاكك وهذه عند أكثر المفسرين منسوخة بآية السيف، وليس بصحيح.
(١) الصافات: ٤٨.
(٢) النساء: ٢٢.
(٣) هود: ١٠٧.
(٤) النساء: ٢٢.
95
Icon