تفسير سورة النجم

التفسير القيم
تفسير سورة سورة النجم من كتاب التفسير القيم .
لمؤلفه ابن القيم . المتوفي سنة 751 هـ

كأن الشيخ فهم من الآية : أن الذي دنى فتدلى، فكان من محمد صلى الله عليه وسلم قاب قوسين أو أدنى، هو الله عز وجل. وهذا - وإن قد قاله جماعة من المفسرين – فالصحيح : أن ذلك هو جبريل عليه الصلاة والسلام. فهو الموصوف بما ذكر من أول السورة إلى قوله :﴿ ولقد رآه نزلة أخرى * عند سدرة المنتهى ﴾ [ النجم : ١٣. ١٤ ] هكذا فسره النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح.
قالت عائشة رضي الله عنها :«سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذه الآية ؟ فقال :«ذاك جبريل، لم أره في صورته التي خلق عليها إلا مرتين ».
ولفظ القرآن لا يدل على ذاك غير ذلك من وجوه :
أحدها : أنه قال ﴿ علمه شديد القوى ﴾ وهذا جبريل الذي وصفه الله بالقوة في سورة التكوير فقال :﴿ إنه لقول رسول كريم * ذي قوة عند ذي العرش مكين ﴾ [ التكوير : ١٩. ٢٠ ].
الثاني : أنه قال ﴿ ذو مرة ﴾ أي حسن الخلق، وهو الكريم المذكور في التكوير.
الثالث : أنه قال ﴿ فاستوى * وهو بالأفق الأعلى ﴾ وهو ناحية السماء العليا. وهذا استواء جبريل بالأفق. وأما استواء الرب جل جلاله فعلى عرشه.
الرابع : أنه قال :﴿ ثم دنى فتدلى * فكان قاب قوسين أو أدنى ﴾ فهذا دنو جبريل وتدليه إلى الأرض، حيث كان رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأما الدنو والتدلي في حديث المعراج فرسول الله صلى الله عليه وسلم كان فوق السموات. فهناك دنى الجبار جل جلاله منه وتدلى. فالدنو والتدلي في الحديث غير الدنو والتدلي في الآية. وإن اتفقا في اللفظ.
الخامس : أنه قال :﴿ ولقد رآه نزلة أخرى * عند سدرة المنتهى ﴾ والمرئي عند السدرة هو جبريل قطعا. وبهذا فسره النبي صلى الله عليه وسلم فقال لعائشة رضي الله عنها :«ذاك جبريل ».
السادس : أن مفسر الضمير في قوله :﴿ ولقد رآه ﴾ وقوله :﴿ ثم دنى فتدلى ﴾ وقوله :﴿ فاستوى ﴾ وقوله :﴿ وهو بالأفق الأعلى ﴾ واحدة. فلا يجوز أن يخالف بين المفسر والمفَسَّر من غير دليل.
السابع : أنه سبحانه ذكر في هذه السورة الرسولين الكريمين : الملكي، والبشري. ونزه البشرى عن الضلال والغواية، ونزه الملكي عن أن يكون شيطانا قبيحا ضعيفا، بل هو قوي كريم حسن الخَلْق. وهذا نظير المذكور في سورة التكوير سواء.
الثامن : أنه أخبر هناك أنه رآه بالأفق المبين، وهاهنا : أنه رآه بالأفق الأعلى. وهو واحد وصف بصفتين، فهو مبين وأعلى. فإن الشيء كلما علا بان وظهر.
التاسع : أنه قال ﴿ ذو مرة ﴾ والمرة : الخلق الحسن المحكم. فأخبر عن حسن خلق الذي علم النبي صلى الله عليه وسلم، ثم ساق الخبر كله عنه نسقا واحدا.
العاشر : أنه لو كان خبرا عن الرب تعالى لكان القرآن قد دل على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى ربه سبحانه مرتين : مرة بالأفق، ومرة عند السدرة. ومعلوم أن الأمر لو كان كذلك لم يقل النبي صلى الله عليه وسلم لأبي ذر رضي الله عنه وقد سأله : هل رأيت ربك - قال صلى الله عليه وسلم :«نور، أنى أراه ؟ » فكيف يخبر القرآن أنه رآه مرتين، ثم يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم :«أنى أراه » وهذا أبلغ من قوله :( لم أره ) لأنه مع النفي يقتضي الإخبار عن عدم الرؤية فقط. وهذا يتضمن النفي وطرفا من الإنكار على السائل، كما إذا قال لرجل : هل كان كيت وكيت ؟ فيقول : كيف يكون ذلك ؟
الحادي عشر : أنه لم يتقدم للرب جل جلاله ذكر يعود الضمير عليه في قوله :﴿ ثم دنى فتدلى ﴾ والذي يعود الضمير عليه لا يصلح له وإنما هو لعبده.
الثاني عشر : أنه كيف يعود الضمير إلى ما لم يذكر، ويترك عوده إلى المذكور، مع كونه أولى به ؟
الثالث عشر : أنه قد تقدم ذكر «صاحبكم » وأعاد عليه الضمائر التي تليق به، ثم ذكر بعده شديد القوى. ذا المرة. وأعاد عليه الضمائر التي تليق به. والخبر كله عن هذين المفسرين، وهما الرسول الملكي، والرسول البشري.
الرابع عشر : أنه سبحانه أخبر أن هذا الذي دنى فتدلى : كان بالأفق الأعلى وهو أفق السماء، بل هو تحتها، قد دنى من الأرض، فتدلى من رسول رب العالمين صلى الله عليه وسلم، ودنو الرب تعالى وتدليه على ما في حديث شريك : كان من فوق العرش، لا إلى الأرض.
الخامس عشر : أنهم لم يماروه صلوات الله وسلامه عليه على رؤية ربه، ولا أخبرهم بها لتقع مماراتهم له عليها. وإنما ماروه على رؤية ما أخبرهم من الآيات التي أراه الله إياها. ولو أخبرهم برؤية الرب تعالى لكانت مماراتهم له عليها أعظم من مماراتهم على رؤية المخلوقات.
السادس عشر : أنه سبحانه قرر صحة ما رآه. وأن مماراتهم له على ذلك باطلة بقوله :﴿ لقد رأى من آيات ربه الكبرى ﴾ ولو كان المرئي هو الرب سبحانه وتعالى والمماراة على ذلك منهم : لكان تقرير تلك الرؤية أولى، والمقام إليها أحوج. والله أعلم.
و«المأوى » مَفْعَل من :«أوى »، «يأوي »، إذا انضم إلى المكان وصار إليه، واستقر به.
وقال عطاء عن ابن عباس رضي الله عنه : هي الجنة التي يأوي إليها جبريل والملائكة ؟
وقال مقاتل والكلبي : هي جنة تأوي إليها أرواح الشهداء.
وقال كعب : جنة المأوى جنة فيها طير، خضر ترتع فيها أرواح الشهداء.
وقالت عائشة رضي الله عنها وزِرُّ بن حُبيش رضي الله عنه : هي جنة من الجنان.
والصحيح : أنه اسم من أسماء الجنة، كما قال تعالى :﴿ وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى * فإن الجنة هي المأوى ﴾ [ النازعات : ٤٠. ٤١ ] وقال في النار :﴿ فإن الجحيم هي المأوى ﴾ [ النازعات : ٣٩ ] وقال :﴿ ومأواكم النار ﴾.
( اللمم ) : طرف من الجنون. و«رجل ملموم » : أي به لمم. ويقال أيضا :«وأصابت فلانا من الجن لَمَّة ». وهو المس، والشيء القليل. قاله الجوهري.
قلت : وأصل اللفظة من المقاربة. ومنه قوله تعالى :﴿ والذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا اللمم ﴾.
وهي الصغائر. قال ابن عباس رضي الله عنهما : ما رأيت أشبه باللمم مما قال أبو هريرة رضي الله عنه ( إن العين تزني، وزناها النظر، واليد تزني، وزناها البطش، والرجل تزني، وزناها المشي، والفم يزني وزناه القبل ).
ومنه. ألم بكذا. أي قاربه ودنا منه. وغلام مُلمٌّ، أي قارب البلوغ.
وفي الحديث :«إن مما ينبت الربيع ما يقتل حبطا أو يلم »، أي : يقرب من ذلك.
قال عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنه : السمود : الغناء في لغة حمير، يقال :«اسمُدى لنا »، أي : غَنِّي لنا.
وقال أبو زبيد :
وكأن العزيف فيها غناء للنَّدامى من شارب مَسْمُودِ
قال أبو عبيدة : المسمود : الذي غُنِّي له.
وقال عكرمة : كانوا إذا سمعوا القرآن تغنَّوا. فنزلت هذه الآية.
وهذا لا يناقض ما قيل في هذه الآية من أن السمود : هو الغفلة والسهو عن الشيء.
قال المبرد : هو الاشتغال عن الشيء بهم أو فرح يتشاغل به. وأنشد :
رمى الحدَئانُ نسوة آل حرب بمقدار سمدن له سمودا
وقال ابن الأنباري : السامد : اللاهي، والسامد : الساهي. والسامد : المتكبر. والسامد : القائم.
وقال ابن عباس رضي الله عنه في الآية : وأنتم مستكبرون.
وقال الضحاك : أشِرُون بَطِرون.
وقال مجاهد : غضاب مبرطمون. وقال غيره : لا هون غافلون معرضون.
فالغناء يجمع هذا كله ويوجبه.
Icon