ﰡ
﴿ الر تلك آيات الكتاب المبين ( ١ ) ﴾
قد تعرضنا من قبل لفواتح السور١ ؛ من أول سورة البقرة، وسورة آل عمران، وقلنا : إن فواتح بعض من سور القرآن تبدأ بحروف مقطعة ؛ ننطقها ونحن نقرؤها بأسماء الحروف، لا بمسميات الحروف.
فإن لكل حرف اسما ومسمى، واسم الحرف يعرفه الخاصة الذين يعرفون القراءة والكتابة، أما العامة الذين لا يعرفون القراءة أو الكتابة ؛ فهم يتكلمون بمسميات الحروف، ولا يعرفون أسماءها.
فإن الأمي إذا سئل أن يتهجى أي كلمة ينطقها، وأن يفصل حروفها نطقا : لما عرف، وسبب ذلك أنه لم يتعلم القراءة والكتابة، أما المتعلم فهو يعرف أسماء الحروف ومسمياتها.
ونحن نعلم أن القرآن قد نزل مسموعا، ولذلك أقول : إياك أن تقرأ كتاب الله إلا أن تكون قد سمعته أولا ؛ فإنك إذا قرأته قبل أن تسمعه فسيستوي عندك حين تقرأ في أول سورة البقرة :﴿ الم ( ١ ) ﴾ [ البقرة ].
مثلما تقرأ في أول سورة الشرح :﴿ ألم.. ( ١٩ ﴾ [ الشرح ]
أما حين تسمع القرآن فأنت تقرأ أول سورة البقرة كما سمعها رسول الله صلى الله عليه وسلم من جبريل٢ –عليه السلام- " ألف لام ميم "، وتقرأ أول سورة الشرح، " ألم "
وأقول ذلك لأن القرآن –كما نعلم- ليس كأي كتاب تقبل عليه لتقرأه من غير سماع، لا. بل هو كتاب تقرؤه بعد أن تسمعه وتصحح قراءتك على قارئ ؛ لتعرف كيف تنطق كل قول كريم، ثم من بعد ذلك لك أن تقرأ بعد أن تعرفت على كيفية القراءة ؛ لأن كل حرف في الكتاب الكريم موضوع بميزان٣ وبقدر.
ونحن نعلم أيضا أن آيات القرآن منها آيات محكمات وأخر متشابهات٤. والآيات المحكمات تضم الأحكام التي عليك أن تفعلها لتثاب عليها، وإن لم تفعلها تعاقب، وكل ما في الآيات المحكمات واضح.
أما الآيات المتشابهات إنما جاءت متشابهة٥ لاختلاف الإدراك من إنسان لآخر، ومن مرحلة عمرية لأخرى، ومن مجتمع لآخر والإدراكات لها وسائل يتشابه فيها الناس، مثل : العين، والأذن، والأنف، واللسان، واليد.
ووسائل الإدراك هذه ؛ لها قوانين تحكمها :
فعينك يحكمها قانون إبصارك، الذي يمتد إلى أن تلتقي خطوط الأشعة عند بؤرة تمتنع رؤيتك عندها ؛ ولذلك تصغر الأشياء تدريجيا كلما ابتعدت عنها إلى أن تتلاشى من حدود رؤيتك.
وصوتك له قانون ؛ تحكمه ذبذبات الهواء التي تصل إلى أدوات السمع داخل أذنك.
وكذلك الشم له حدود ؛ لأنك لا تستطيع شم وردة موجودة في بلد بعيدة.
وكذلك العقل البشري له حدود يدرك بها، وقد علم الله كيف يدرك الإنسان الأمور، فلم يمنع تأمل وردة جميلة، لكنه أمر بغض البصر٦ عند رؤية أي امرأة.
وهكذا يحدد لك الحق الحلال الذي تراه، ويحدد لك الحرام الذي يجب أن تمتنع عن رؤيته، وكذلك في العقل ؛ قد يفهم أمرا وقد لا يفهم أمرا آخر، وعدم فهمك لذلك الأمر هو لون من الفهم أيضا، وإن تساءلت كيف ؟
أنظر إلى موقف تلميذ في الإعدادية ؛ وجاء له أستاذه بتمرين هندسي٧ مما يدرسه طلبة الجامعة ؛ هنا سيقول التلميذ الذكي لأستاذه : نحن لم نأخذ الأسس اللازمة لحل مثل هذا التمرين الهندسي، هذا القول يعني أن التلميذ قد فهم حدوده.
وهكذا يعلمنا الله الأدب في استخدام وسائل الإدراك ؛ فهناك أمر لك أن تفهمه ؛ وهناك أمر تسمعه من ربك وتطيعه، وليس لك أن تفهمه قبل تنفيذه ؛ لأنه فوق مستوى إدراكك.
ودائما أقول هذا المثل –ولله المثل الأعلى- إنك حين تنزل في فندق كبير، تجد أن لكل غرفة مفتاحا خاصا بها، لا يفتح أي غرفة أخرى، وفي كل دور من أدوار الفندق يوجد مفتاح يصلح لفتح كل الأدوار، ولا يفهم هذا الأمر إلا المتخصص في تصميم مثل تلك المفاتيح.
فما بالنا بكتاب الله تعالى، وهو الكتاب الجامع في تصميم مثل تلك المفاتيح.
فما بالنا بكتاب الله -تعالى- وهو الكتاب الجامع الذي يقول فيه الحق –تبارك وتعالى :﴿ منه آيات محكمات٨ هن أم الكتاب٩ وأخر متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغ١٠ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء١١ الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا وما يذكر إلا أولوا الألباب ( ٧ ) ﴾ [ آل عمران ]
إذن : فهذا المتشابه يعتبره أهل الزيغ فرصة لتحقيق مأربهم١٢، وهو إبطال الدين بأي وسيلة وبأي طريقة، ويحاولون ممارسة التكبر على كتاب الله.
ولهؤلاء نقول : لقد أراد الله أن يكون بعض من سور الكتاب الكريم متبدئة بحروف تنطق بأسمائها لا بمسمياتها.
وقد أراد الحق –سبحانه- كذلك ليختبر العقول ؛ فكما أطلق -سبحانه- للعقل البشري التفكير في أمور كثيرة ؛ فهناك بعض من الأمور يخيب فيها التفكير، فلا يستطيع العقل إدراك الأشياء التي تفوق حدود عقله.
والحق –سبحانه وتعالى- يصنع للإنسان ابتلاءات في وسائل إدراكه ؛ وجعل لكل وسيلة إدراك حدودا، وشاء أن يأتي بالمتشابه ليختبر الإنسان، ويرى : ماذا يفعل المؤمن ؟
وقول الحق –سبحانه :
﴿ وما يعلم تأويله١٣ إلا الراسخون١٤ في العلم.. ( ٧ ) ﴾ [ آل عمران ]
قد يفهم منه أنه عطف ؛ بمعنى أن الراسخين في العلم يعلمون تأويله ؛ وبالتالي سيعلمون الناس ما ينتهون إليه من علم بالتأويل، ولكن تأول الراسخين في العلم هو قولهم :
﴿ كل من عند ربنا.. ( ٧ ) ﴾ [ آل عمران ]
إذن : فنهاية تأويلهم : هو من عند ربنا، وقد آمنا به.
وجاء لنا قوله صلى الله عليه وسلم ليحل لنا إشكال المتشابه :
( ما تشابه منه فآمنوا به )١٥.
لأن المتشابه من امتلاءات الإيمان.
والمثل الذي أضربه هنا هو أمره صلى الله عليه وسلم لنا أن نستلم١٦ الحجر الأسود وأن نقبله١٧، وأن نرجم الحجر١٨ الذي يمثل إبليس، وكلاهما حجر، لكننا نمتثل بالإيمان لما أمرنا به صلى الله عليه وسلم١٩.
وأنت لو أقبلت على كل أمر بحكم عقلك، وأردت أن تعرف الحكمة وراء كل أمر، لعبدت عقلك، والحق -سبحانه- يريد أن تقبل على الأمور بحكمه هو –سبحانه.
وأنت إن قلت لواحد : إن الخمر تهري الكبد، ووضعت على كبده جهاز الموجات فوق الصوتية الذي يكشف صورة الكبد، ثم ناولت الرجل كأس خمر ؛ فرأى ما يفعله كأس الخمر في الكبد، وراعه٢٠ ذلك ؛ فقال : والله لن أشربها أبدا.
هل هو يفعل ذلك لأنه مؤمن ؟ أم أنه ربط سلوكه بالتجربة ؟
لقد ربط سلوكه بالتجربة، وهو يختلف عن المؤمن الذي نفّذ تعاليم السماء، فامتنع عن الخمر لأن الله أمر بذلك، فلا يمكن أن نؤجل تعاليم السماء إلى أن تظهر لنا الحكمة منها.
إذن : فعلة المتشابه ؛ الإيمان به، وقد يكون للمتشابه حكمة ؛ لكنا لن نؤجل الإيمان حتى نعرف الحكمة.
وأقول دائما : يجب أن يعامل الإنسان إيمانه بربه معاملته لطبيبه، فالمريض يذهب إلى طبيبه ليعرض عليه شكواه من مرض يؤلمه ؛ ليصف الطبيب له الدواء، كذلك عمل عقلك ؛ عليه أن ينتهي عند عتبة إيمانك بالله.
ونجد من أقوال أهل المعرفة بالله من يقول : إن العقل كالمطية٢١، يوصلك إلى باب السلطان، لكنه لا يدخل معك.
إذن : فالذين يناقش في علل الأشياء هو من يرغب في الحديث مع مساو له في الحكمة، وهل يوجد مساو لله ؟
طبعا لا، لذلك خذ افتتاحيات السور التي جاءت بالحروف المقطعة كما جاءت، واختلافنا على معانيها يؤكد على أنها كنز لا ينفد من العطاء إلى أن تحل إن –شاء الله- من الله٢٢.
ومن العجيب أن آيات القرآن كلها مبنية على الوصل، ففي آخر سورة هود نجد قول الحق –سبحانه :
﴿ وما ربك بغافل عما تعملون ( ١٢٣ ) ﴾ [ هود ]
وكان من المفترض أن نقف عليها فننطق كلمة " تعملون " ساكنة النون، لكنها موصولة ب " بسم الله الرحمان الرحيم " ؛ لذلك جاءت النون مفتوحة.
وأيضا ما دامت الآيات مبنية على الوصل، كان من المفروض أن ننطق بدء سورة يوسف " ألف لام راء " لكن الرسول صلى الله عليه وسلم علمنا أن نقرأها " ألف لام راء " وننطقها ساكنة.
وها دليل على أنها كلمة مبنية على الوقف، ودليل على أن لله -سبحانه- حكمة في هذا وفي ذاك.
ونحن نعلم أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يراجع القرآن مرة كل رمضان مع جبريل –عليه السلام- وراجعه مرتين في رمضان الذي سبق وفاته صلى الله عليه وسلم٢٣.
وهكذا وصلنا القرآن كما أنزله الحق -سبحانه- على رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم.
وهنا يقول الحق :﴿ الر تلك آيات الكتاب المبين ( ١ ) ﴾ [ يوسف ]
و " تلك " إشارة لما بعد [ الر ]، وهي آيات الكتاب.
أي : خذوا منها أن آيات القرآن مكونة من مثل هذه الحروف، وهذا فهم البعض لمعنى :﴿ الر.. ( ١ ) ﴾ [ يوسف ]
لكنه ليس كل الفهم.
مثل : صانع الثياب الذي يضع في واجهة المحل بعضا من الخيوط التي تم نسج القماش منها ؛ ليدلنا على دقة الصنعة.
فكأن الله -سبحانه- يبين لنا أن ﴿ الر.. ( ١ ) ﴾ [ يوسف ]
أسماء لحروف هي من أسماء الحروف التي نتكلم بها، والقرآن تكونت ألفاظه من مثل تلك الحروف، ولكن آيات القرآن معجزة، لا يستطيع البشر –ولو عاونهم الجن- أن يأتوا بمثله٢٤.
إذن : فالسمو ليس من ناحية الخامة التي تكون الكلام، ولكن المعجزة أن المتكلم هو الحق -سبحانه- فلا بد أن يكون كلامه معجزا ؛ وإن كان مكونا من نفس الحروف التي نستخدمها نحن البشر.
وهناك معنى آخر : فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم ينطق أسماء الحروف " ألف لام راء "، وهو صلى الله عليه وسلم الأمي٢٥ بشهادة المعاصرين له بما فيهم خصومه، رغم أن القادر على نطق أسماء الحروف لا بد أن يكون متعلما، ذلك أن الأمي ينطق مسميات الحروف ولا يعرف أسماءها٢٦، وفي هذا النطق شهادة بأن من علمه ذلك هو ربه الأعلى.
ويقول الحق –سبحانه :﴿ الر تلك آيات الكتاب المبين ( ١ ) ﴾ [ يوسف ]
كلمة " الكتاب " عندما تطلق فمعناها ينصرف إلى القرآن الكريم٢٧.
ونجد كلمة " المبين "، أي : الذي يبين كل شيء تحتاجه حركة الإنسان الخليفة في الأرض، فإن بان لك شيء وظننت أن القرآن لم يتعرض له، فلا بد أن تبحث عن مادة أو آية تلفتك إلى ما يبين لك ما غاب عنك.
ويروى عن الإمام محمد عبده٢٨ أنه قابل أحد المستشرقين٢٩ في باريس ؛ ووجه المستشرق سؤالا إلى الإمام فقال :
مادامت هناك آية في القرآن تقول :﴿ ما فرطنا في الكتاب٣٠ من شيء.. ( ٣٨ ) ﴾ [ الأنعام ]
فدعني أسألك : كم رغيفا ينتجه أردب القمح ؟
فقال الإمام للمستشرق : انتظر، واستدعى الإمام خبازا، وسأله : كم رغيفا يمكن أن نصنعه من أردب القمح ؟ فأجاب الخباز على السؤال.
هنا قال المستشرق : لقد طلبت منك إجابة من القرآن، لا من الخباز.
فرد الإمام : إذا كان القرآن قد قال :
﴿ ما فرطنا في الكتاب من شيء.. ( ٣٨ ) ﴾ [ الأنعام ]
فالقرآن قال أيضا :
﴿ فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون ( ٤٣ ) ﴾ [ النحل ]
لقد فطن الإمام٣١ محمد عبده إلى أن العقل البشري أضيق من أن يسع كل المعلومات التي تتطلبها الحياة ؛ لذلك شاء الحق -سبحانه- أن يوزع المواهب بين البشر ؛ ليصبح كل متفوق في مجال ما، هو من أهل الذكر في مجاله.
ونحن –على سبيل المثال- عندما نتعرض لمسألة ميراث ؛ فنحن نلجأ إلى من تخصص في المواريث، ليلدنا على دقة توزيع أنصبة هذا الميراث.
وحين يؤدي المسلم من العامة فريضة الحج، فيكفيه أن يعلم أن الحج فريضة ؛ ويبحث عند بدء الحج عمن يعل
- قال الإمام السيوطي: "اعلم أن الله افتتح سور القرآن بعشرة أنواع من الكلام:
الأول: الثناء عليه تعالى، والثناء قسمان: الأول: التحميد في خمس سور، وتبارك في سورتين، والثاني: التسبيح في سبع سور.
الثاني: حروف التهجي في تسع وعشرين سورة.
الثالث: النداء في عشر سور: خمس بنداء الرسول صلى الله عليه وسلم، وخمس بنداء الأمة.
الرابع: الجمل الخبرية، نحو" ﴿يسألونك عن الأنفال.. (١)﴾ [الأنفال]، وذلك في ثلاثة وعشرين سورة.
الخامس: القسم، في خمس عشرة سورة.
السادس: الشرط، في سبع سور مثل: ﴿إذا وقعت الواقعة (١)﴾ [الواقعة].
السابع: الأمر، في ست سور، نحو: ﴿قل هو الله أحد (١)﴾ [الإخلاص].
الثامن: الاستفهام، في ست سور، نحو: ﴿عم يتساءلون (١)﴾ [النبأ]
التاسع: الدعاء، في ثلاث سور: الهمزة، المطففين، المسد.
العاشر: التعليل، في سورة قريش، انتهى باختصار [الإتقان في علوم القرآن ٣/٣١٦]..
٢ - إن السماع قبل القراءة ضرورة من ضرورات سلامة النطق، وطهارة الكلمة؛ لذلك يقول الحق: ﴿كما أرسلنا فيكم رسولا منكم يتلو عليكم آياته ويزكيكم ويعلمكم الكتاب والحكمة ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون (١٥١)﴾ [البقرة] فالتلاوة ابتداء، والتزكية ارتقاء، والتعليم صفاء، ووضع الشيء في مكانه ووضع للمقال في مقامه، وفي الغيب علم يتوالى، وفي التوالي إعجاب، والإعجاب توحيد بنزاهة، وتفريد بطهارة، وتجريد بإخلاص..
٣ -قال ابن الجزري في كتابه: النشر في القراءات العشر" [١/٢١٠]: "لا شك أن هذه الأمة كما هم متعبدون بفهم معاني القرآن وإقامة حدوده متعبدون بتصحيح ألفاظه وإقامة حروفه على الصفة المتلقاة من أئمة القراءة المتصلة بالحضرة النبوية الأفصحية العربية التي لا تجوز مخالفتها ولا العدول عنها إلى غيرها..
٤ - يقول تعالى: ﴿هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا وما يذكر إلا أولوا الألباب (٧)﴾ [آل عمران]..
٥ - معنى المتشابه هنا أي: ما استأثر الله بعلمه، وخفي معناه على الناس، أو هو ما احتمل أوجها من حيث المعنى والتأويل، وهذا هو معنى الآية السابعة من سورة آل عمران، أما قوله تعالى: ﴿الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها.. (٢٣)﴾ [الزمر] فمعناه: أنه يشبه بعضه بعضا في الصحة، وعدم التناقض وتأييد بعضه لبعض، انظر "فتح الرحمن بكشف ما يلتبس في القرآن" لأبي يحيى الأنصاري (ص ٦٠)..
٦ - غض البصر وغض من بصره، يغض غضا: خفضه ولم يرفعه ولم يحدقه فيما أمامه، أو كف بصره ولم ينظره، وفي غض البصر قال: ﴿قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم..(٣٠)﴾ [النور]، وقال: ﴿قل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن..(٣١)﴾ [النور]، ومنه غض صوته خفضه، قال تعالى: ﴿واغضض من صوتك..(١٩)﴾ [لقمان] [القاموس القويم: ٢/ ٥٦]..
٧ - أصل هذه الكلمة الهنداز، وهي كلمة فارسية أصلها أنداز فصيرت الزاي سينا، لأنه ليس في شيء من كلام العرب زاي بعد الدال، والاسم الهندسة، والمهندز: هو الذي يقدر مجازي القني والأبنية. [انظر لسان العرب- مادتي: هندز، هندس]..
٨ - أحكم الأمر: أتقنه، قال تعالى: ﴿ثم يحكم الله آياته..[٥٢]﴾ [الحج] أي: يبينها ويجعلها متقنة مقنعة محكمة، وآيات محكمة: متقنة مقنعة واضحة، وقيل: محكمة غير منسوخة أو محكمة غير متشابهة فلا تحتاج إلى تأويل، وقال تعالى: ﴿فإذا أنزلت سورة محكمة..(٢٠)﴾ [محمد] أي: متقنة، [القاموس القويم: ١/ ١٦٦]..
٩ - أم الكتاب: أصله، يرد إليها كل ما عداها مما يحتمل أوجها كثيرة، قال في التهذيب: أم الكتاب كل آية محكمة من آيات الشرائع والأحكام والفرائض، [نقله ابن منظور في اللسان- مادة: أمم] وأم الكتاب: فاتحته: لأنه يبتدأ بها في كل صلاة [اللسان]..
١٠ - زاغ يزيغ زيغا وزيغانا: مال عن القصد وأزاغه: أماله وصرفه عن القصد: ﴿فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم..(٥)﴾ [الصف] أي: فلما انحرفوا عن الحق واختاروا طريق الباطل، صرف الله قلوبهم وتركهم وما اختاروه فلم يجبرهم على الإيمان. [القاموس القويم: ١/ ٢٩٣، ٢٩٤]..
١١ - بغى الشيء: طلبه، وابتغاه: طلبه، قال تعالى: ﴿يبغونكم الفتنة..(٤٧)﴾ [التوبة]، أي: يطلبونها لكم. وقال تعالى: ﴿يبتغون فضلا من الله ورضوانا..(٢٩)﴾ [الفتح] أي: يطلبون فضلا، وقوله: ﴿لقد ابتغوا الفتنة..(٤٨)﴾ [التوبة] أي: طلبوها وسعوا في بثها ونشرها [القاموس القويم: ١/ ٧٦]..
١٢ - المأرب والأرب والإرب: الحاجة والغرض، يقول تعالى عن عصا موسى عليه السلام قال عنه: ﴿ولي فيها مآرب أخرى (١٨)﴾ [طه] أي: حاجات وأغراض كثيرة أخرى كاتقاء ضرر أو غير ذلك [القاموس القويم: ١/ ١٧] بتصرف..
١٣ - تأويل الكلام: تفسيره وتبيين المراد منه. قال ابن منظور في [لسان العرب- مادة: أول]: " التأويل والمعنى والتفسير واحد، قال أبو عبيد في قوله تعالى: ﴿وما يعلم تأويله إلا الله..(٧)﴾ [آل عمران]: التأويل المرجع والمصير مأخوذ من آل يؤول إلى كذا، أي: صار إليه قال الجوهري: التأويل تفسير ما يؤول إليه الشيء..
١٤ - رسخ يرسخ رسوخا: ثبت فهو راسخ أي: ثابت. الراسخون في العلم: المتمكنون فيه، [القاموس القويم: ١/ ٢٦٤]..
١٥ - تمام هذا الحديث: (إن القرآن لم ينزل ليكذب بعضه بعضا، فما عرفتم منه فاعملوا به، وما تشابه منه فآمنوا به) عزاه ابن كثير في تفسيره [١/ ٢٤٦] لابن مردويه من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص..
١٦ - قال الليث: استلام الحجر تناوله باليد وبالقبلة ومسحه بالكف، وقال الجوهري: استلم الحجر لمسه إما بالقبلة أو باليد، [نقله ابن منظور في لسان العرب- مادة: سلم]..
١٧ - عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: استقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم الحجر فأستلمه، ثم وضع شفتيه عليه يبكي طويلا، فالتفت فإذا هو بعمر يبكي، فقال: (يا عمر، ههنا تسكب العبرات) أخرجه ابن ماجه في سننه [٢٩٤٥] والحاكم في مستدركه [١/٤٥٤] كلاهما من طريق محمد بن عون الخراساني قال البوصيري في الزوائد: ضعفه ابن معين وأبو حاتم وغيرهما، قلت: قد صححه الحاكم وأقره الذهبي على تصحيحه..
١٨ - وهو ما يعرف برمي الجمرات في منى في أيام الحج، وهي ثلاث جمرات: الصغرى وهي القريبة من مسجد الخيف، ثم الجمرة الوسطى وبينهما ١٥٥ مترا، ثم الجمرة الكبرى، كل جمرة ترمى بـ ٢١ حصاة على ثلاثة أيام: ١١، ١٢، ١٣ من ذي الحجة. انظر: كتابي "فتاوى وأحكام حول مناسك الحج والعمرة"..
١٩ - لذلك كان عمر رضي الله عنه يقول: (والله إني لأعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبلك ما قبلتك) أخرجه البخاري في صحيحه [١٦١٠] من حديث ابن عمر رضي الله عنهما..
٢٠ - راعه ذلك: أفزعه، وارتاع منه وله وروعه فتروع، أي: تفزع، والروع والرواع: الفزع [لسان العرب- مادة: روع]..
٢١ - المطية: الدابة تمتطى أي: يركب ظهرها، والجمع: مطايا والمطا: الظهر لامتداده، وأصل المطو المد، وتمطى الرجل: تمدد، وكل شيء مددته فقد مطوته، وتمطى النهار: امتد وطال [لسان العرب – مادة: مطا- بتصرف]..
٢٢ قال ابن كثير في تفسيره [١/ ٣٧]: "مجموع الحروف المذكورة في أوائل السور بحذف المكرر منها أربعة عشر حرفا، ، وهي – ا ل م ص ر ك هـ ي ع ط س ح ق ن – يجمعها قول: "نص حكيم قاطع له سر"..
٢٣ - عن فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت: "أسر إلى النبي صلى الله عليه وسلم أن جبريل كان يعارضني بالقرآن كل سنة مرة، وإنه عارضني العام مرتين، ولا أراه إلا حضر أجلي" أخرجه البخاري في صحيحه [٣٦٢٤] وأحمد في مسنده [٦/٢٨٢].
.
٢٤ - وفي هذا يقول الحق سبحانه: ﴿قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا (٨٨)﴾ [الإسراء]..
٢٥ - "قال أبو إسحاق: معنى الأمي: المنسوب إلى ما عليه جبلته أمه، مكتسبة، فكأنه نسب إلى ما يولد عليه، أي: على ما ولدته أمه عليه: نقله ابن منظور في[لسان العرب- مادة: أمم] وقال: "بعثه الله رسولا وهو لا يكتب ولا يقرأ من كتاب، وكانت هذه الخلة إحدى آياته المعجزة لأنه صلى الله عليه وسلم تلا عليهم كتاب الله منظوما، تارة بعد أخرى، بالنظم الذي أنزل عليه فلم يغيره ولم يبدل ألفاظه" إذن: الأمي هو ما كان على الفطرة الربانية، وتلقيه للإمدادات هو من العطاءات النورانية، أما الكتابة فهي اكتساب، وعلم الأمي من الخصوصيات الاصطفائية..
٢٦ - الفرق بين الاسم والمسمى بالنسبة للحروف أن حروفا مثل: [ك]، [ت]، [ب]، ينطقها الأمي في كلامه [كتب] كمسميات للحروف، ولكنه لا يستطيع أن يقول لك: إن هذا الحرف اسمه [ك] أو هذا اسمه [تاء] أو هذا اسمه [باء]، فهو لا يستطيع أن يتهجى الكلمة، ولكنه يستطيع أن ينطقها للدلالة على فعل الكتابة، وقد أخذها من أفواه الناس هكذا. [من مفهوم الخواطر]..
٢٧ - وردت لفظة "الكتاب" في القرآن [٢٣٠] مرة، ويقصد بها معاني كثيرة: القرآن، التوراة، الإنجيل، اللوح المحفوظ، ومن معاني الكتاب أيضا "الرسالة" مثل رسالة سليمان عليه السلام التي أرسلها مع الهدهد إلى ملكة اليمن فقال: ﴿اذهب بكتابي هذا فألقه إليهم ثم تول عنهم فانظر ماذا يرجعون (٢٨)﴾ [النمل] ومن المعاني أيضا صحيفة الإنسان التي تعرض عليه يوم القيامة: ﴿اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا (١٤)﴾ [الإسراء]..
٢٨ - هو: محمد عبده بن حسن خير الله، من آل التركماني، مفتي الديار المصرية، ولد في شنرا [من قرى الغربية بمصر] عام ١٨٤٩م ونشأ في محلة نصر [البحيرة]، تعلم بالجامع الأحمدي بطنطا، ثم بالأزهر، أجاد الفرنسية بعد الأربعين، أصدر في باريس جريدة "العروة الوثقى" مع جمال الدين الأفغاني، توفي عام ١٩٠٥م بالإسكندرية، ودفن في القاهرة. [الأعلام للزركلي ٦/ ٢٥٢]..
٢٩ - المستشرقون: جمع مستشرق، وهم علماء الغرب المهتمون بعلوم الشرق وآدابه ودياناته وفلسفاته، فهم يتخصصون في هذا دراسة وبحثا وتنقيبا، ومنهم المنصفون للإسلام ومنهم المعادون له الذين يسخرون دراساتهم للطعن في الإسلام..
٣٠ - قال القرطبي في تفسيره [٣/ ٢٥٠٥] " أي: في اللوح المحفوظ، فإنه أثبت فيه ما يقع من الحوادث، وقيل: أي: في القرآن أي: ما تركنا شيئا من أمر الدين إلا وقد دللت عليه في القرآن، إما دلالة مبينة مشروحة، وإما مجملة يتلقى بيانها من الرسول صلى الله عليه وسلم، أو من الإجماع، أو من القياس الذي ثبت بنص الكتاب..
٣١ - الإمام محمد عبده من الأئمة الأعلام، وهو مجدد لعصره، له آثاره الفكرية، وله مدرسته الإصلاحية، عاصر جمال الدين الأفغاني، وكان للإمام محمد عبده اتجاهاته في تربية الأفراد والشعوب، بحيث تبدأ التربية بالفرد أولا، ثم بالجماعة ثانيا، وهذا التدرج التربوي انفرد به الإمام عن جمال الدين الأفغاني، وإن كان بينهما عموم وخصوص..
وفي الآية السابقة قال :﴿ تلك آيات الكتاب.. ( ١ ) ﴾ [ يوسف ]
فمرة يصفه بأنه قرآن بمعنى المقروء، ومرة يصفه بأنه كتاب ؛ لأنه مسطور، وهذه من معجزات التسمية.
ونحن نعلم أن القرآن حين جمع١ ليكتب ؛ كان كاتب القرآن لا يكتب إلا ما يجده مكتوبا، ويشهد عليه اثنان من الحافظين.
ونحن نعلم أن الصدور قد تختلف بالأهواء، أما السطور فمثبتة لا لبس فيها.
وهو قرآن عربي ؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم سيجاهر بالدعوة في أمة عربية، وكان لا بد من وجود معجزة تدل على صدق بلاغة عن الله، وأن تكون مما نبغ٢ فيه العرب ؛ لأن المعجزة مشروطة بالتحدي، ولا يمكن أن يتحداهم في أمر لا ريادة لهم فيه ولا لهم به صلة ؛ حتى لا يقولن أحد : نحن لم نتعلم هذا ؛ ولو تعلمناه لجئنا بأفضل منه.
وكان العرب أهل بيان وأدب ونبوغ في الفصاحة والشعر، وكانوا يجتمعون في الأسواق٣، وتتفاخر كل قبيلة بشعرائها وخطبائها المفوهين٤، وكانت المباريات الآدائية تقام، وكانت التحديات تجرى في هذا المجال، وينصب لها الحكام.
أي : أن الدربة على اللغة كانت صناعة متواترة ومتواردة، محكوم عليها من الناس في الأسواق، فهم أمة بيان٥ وبلاغة وفصاحة.
لذلك شاء الحق -سبحانه- أن يكون القرآن معجزة من جنس ما نبغ فيه العرب، وهم أول قوم نزل فيهم القرآن، وحين يؤمن هؤلاء لن يكون التحدي بفصاحة الألفاظ ونسق الكلام، بل بالمبادئ التي تطغى على مبادئ الفرس والروم.
وهي مبادئ قد نزلت في أمة متبدية٦، ليس لها قانون يجمعها، ولا وطن يضمهم يكون الولاء له، بل كل قبيلة لها قانون، وكلهم بدو يرحلون من مكان إلى مكان.
وحين نزل فيهم القرآن علم أهل فارس والروم أن تلك الأمة المتبدية قد امتلكت ما يبني حضارة ليس لها مثيل من قبل، رغم أن النبي أمي وأن الأمة التي نزل فيها القرآن كانت أمية.
وفارس والروم يعلمون أن الرسول الذي نزل في تلك الأمة تحداهم بما نبغوا فيه، وما استطاع واحد منهم أن يقوم أمام التحدي، ومن هنا شعروا أنهم أمام تحد حضاري من نوع آخر لم يعرفوه.
ويشاء الحق –سبحانه- أن ينزل القرآن عربيا ؛ لأن الحق لم يكن ليرسل رسولا إلا بلسان قومه، فهو القائل :
﴿ وما أرسلنا من رسول إلا بلسان٧ قومه ليبين لهم.. ( ٤ ) ﴾ [ إبراهيم ]
وأرسل محمد صلى الله عليه وسلم بالقرآن، الذي تميز عن سائر كتب الرسل الذين سبقوه ؛ بأنه كتاب ومعجزة في آن واحد، بينما كانت معجزات الرسل السابقين عليه صلى الله عليه وسلم منفصلة عن كتب الأحكام التي أنزلت إليهم.
ويظل القرآن معجزة تحمل منهجا إلى أن تقوم الساعة، ومادام قد آمن به الأوائل وانساحوا٨ في العالم، فتحقق بذلك ما وعد به الله أن يكون هذا الكتاب شاملا، يجذب كل من لم يؤمن به إلى الانبهار بما فيه من أحكام.
ولذلك حين يبحثون عن أسباب انتشار الإسلام في تلك المدة الوجيزة، يجدون أن الإسلام قد انتشر لا بقوة من آمنوا به ؛ بل بقوة من انجذبوا إليه مشدوهين٩ بما فيه من نظم تخلصهم من متاعبهم.
ففي القرآن قوانين تسعد الإنسان حقا، وفيه من الاستنباءات بما سوف يحدث في الكون ؛ ما يجعل المؤمنين به يذكرون بالخشوع أن الكتاب الذي أنزل الله على رسولهم لم يفرط في شيء.
وإذا قال قائل من المستشرقين : كيف تقولون : إن القرآن قد نزل بلسان عربي مبين ؛ رغم وجود ألفاظ أجنبية مثل كلمة " آمين " التي تؤمنون١٠ بها على دعاء الإمام ؛ كما توجد ألفاظ رومية١١، وأخرى فارسية١٢ ؟
وهؤلاء المستشرقون لم يلتفتوا إلى أن العربي استقبل ألفاظا مختلفة من أمم متعددة نتيجة اختلاطه بتلك الأمم، ثم دارت هذه الألفاظ على لسانه، وصارت تلك الألفاظ عربية، ونحن في عصورنا الحديثة نقوم بتعريب الألفاظ، وندخل في لغتنا أي لفظ نستعمله ويدور على ألسنتنا، مادمنا نفهم المقصود به١٣.
ويذيل الحق -سبحانه- الآية الكريمة بقوله :
﴿ لعلكم تعقلون ( ٢ ) ﴾ [ يوسف ]
ليستنهض همة العقل، ليفكر في الأمر، والمنصف بالحق يهمه أن يستقبل الناس ما يعرضه عليهم بالعقل، عكس المدلس١٤ الذي يهمه أن يستر العقل جانبا ؛ لينفذ من وراء العقل.
وفي حياتنا اليومية حين ينبهك التاجر لسلعة ما، ويستعرض معك متانتها ومحاسنها ؛ فهوي فعل ذلك كدليل على أنه واثق من جودة بضاعته.
أما لو كانت الصنعة غير جيدة، فهو لن يدعوك للتفكير بعقلك، لأنك حين تتدبر بعقلك الأمر تكتشف المدلس وغير المدلس ؛ لذلك فهو يدلس عليك، ويعمي عليك، ولا يدع لك فرصة للتفكير.
ويقول الحق -سبحانه- من بعد ذلك :
﴿ نحن نقص عليك أحسن القصص١٥ بما أوحينا إليك هذا القرآن وإن كنت من قبله لمن الغافلين ( ٣ ) ﴾
إحداهما: بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم.
الثانية: بحضرة أبي بكر رضي الله عنه.
الثالثة: في زمن عثمان رضي الله عنه.
والمقصود هنا هو الجمع الثاني للقرآن والذي قام به زيد بن ثابت بأمر من أبي بكر رضي الله عنه، إنك شاب عاقل، لا نتهمك، وقد كنت تكتب الوحي لرسول الله صلى الله عليه وسلم فتتبع القرآن فأجمعه، قال زيد: فتتبعت القرآن أجمعه من العسب واللخاف وصدور الرجال، وكان زيد لا يقبل من أحد شيئا حتى يشهد شهيدان، قال السيوطي: "وهذا يدل على أن زيدا كان لا يكتفي بمجرد وجدانه مكتوبا حتى يشهد به من تلقاه سماعا، مع كون زيد كان يحفظ، فكان يفعل ذلك مبالغة في الاحتياط [انظر: الإتقان في علوم القرآن ١/ ١٦٤ – ١٦٧] باختصار..
٢ - نبغ الشيء: ظهر. نبغ منهم شاعر: خرج، والنابغة: الشاعر المعروف، سمى بذلك لظهوره [لسان العرب- مادة: نبغ].
٣ - كانت للعرب أسواق يجتمعون فيها، مثل: عكاظ وذي المجاز، فكانت قبائل العرب تجتمع بها كل سنة ويتفاخرون بها، يحضرها الشعراء فيتناشدون ما أحدثوا من الشعر..
٤ - المفوه: حسن الكلام بليغ المنطق، فهو قادر على الكلام الجيد في بساطة وسلاسة، راجع بعض هذا في [لسان العرب- مادة: فوه]..
٥ - البيان: إظهار المقصود بأبلغ لفظ، وهو من الفهم وذكاء القلب مع اللسن، وأصله الكشف والظهور. [اللسان – مادة: بين]. والبيان: الكشف والإيضاح والكلام البليغ، قال تعالى: ﴿هذا بيان للناس..(١٣٨)﴾ [آل عمران] أي: كشف وإيضاح أو هذا كلام بليغ، وقوله: ﴿علمه البيان (٤)﴾ [الرحمان] أي: النطق المعبر عما في النفس من معان وأفكار. [القاموس القويم-مادة: بين].
٦ - متبدية: نسبة إلى البادية يقال: تبدى الرجل: أقام بالبادية، والبادية: خلاف الحضر، وسميت بادية لبروزها وظهورها عن أماكن تجمع الناس في الحضر حول الماء وغيره، بتصرف من [لسان العرب- مادة: بدو]..
٧ - اللسان: إحدى حواس الذوق والنطق، قال تعالى: ﴿ألم تجعل له عينين (٨) ولسانا وشفتين (٩)﴾ [البلد] فالله يمتن على الإنسان بنعمة البصر والنطق، واللسان: اللغة والكلام، قال تعالى: ﴿وأخي هارون هو أفصح مني لسانا..(٣٤)﴾ [القصص] أي: أقدر مني على الكلام الفصيح وقال تعالى: ﴿ومن آياته خلق السماوات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم..(٢٢)﴾ [الروم] ألسنتكم، أي: لغاتكم ولهجاتكم [القاموس القويم- مادة لسن]..
٨ - السياحة: الذهاب في الأرض لأغراض مختلفة منها العبادة والدعوة والتجارة، وأصله من سيح الماء الجاري على وجه الأرض. [لسان العرب-مادة: سيح] بتصرف..
٩ - شده الرجل شدها: تحير، والدهش أيضا: التحير، دهش: تحير، أو ذهب عقله من ذهل أو وله فهو مدهوش، وأدهشه غيره. [اللسان –مادتا؛ شده، دهش]..
١٠ - التأمين: قول آمين. وآمين: كلمة تقال في إثر الدعاء، قال الفارسي: هي جملة مركبة من فعل واسم، معناه: اللهم استجب لي. [لسان العرب-مادة: أمن]. وعن أبي هريرة- رضي الله عنه- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إذا أمن الإمام فأمنوا، فإنه من وافق تأمينه تأمين الملائكة غفر له ما تقدم من ذنبه) أخرجه الإمام مالك في موطئه [١/ ٨٧] وأحمد في مسنده [٢/ ٢٣٨، ٣٢١] والبخاري في صحيحه [٧٨٠] وكذا مسلم [٤١٠]..
١١ من أمثلة الألفاظ الرومية الموجودة في القرآن الكريم:
-[الرقيم] في قوله تعالى: ﴿أم حسبت أن أصحاب الكهف والرقيم كانوا من آياتنا عجبا (٩)﴾ [الكهف]، قال السيوطي في الإتقان [٢/ ١١٢] أنه قد قيل فيها ثلاثة أقوال: اللوح، الكتاب، الدواة.
-[الصراط]: حكى النقاش وابن الجوزي أنه الطريق بلغة الروم.
[طفقا] في قوله تعالى: ﴿وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة..(٢٢)﴾ [الأعراف] معناه: قصدا بالرومية..
١٢ - من أمثلة الألفاظ الفارسية في القرآن الكريم.
-[أباريق]: حكى الثعالبي في فقه اللغة أنها فارسية، وقال الجوالقي: الإبريق فارسي معرب، ومعناه: طريق الماء، أو صب الماء على هينة.
-[دينار]: في قوله تعالى: ﴿ومنهم من إن تأمنه بدينار لا يؤده إليك إلا ما دمت عليه قائما..(٧٥)﴾ [آل عمران]، ذكر الجواليقي وغيره أنه فارسي.
-[سجيل]: عن مجاهد قال: سجيل بالفارسية، أولها حجارة، وآخرها طين..
١٣ ذكر السيوطي في كتابه الإتقان [٢/١٠٥-١٠٨] اختلاف العلماء في عربية هذه الألفاظ وفي أعجميتها وذكر أدلة كل من الفريقين ثم قال، "وقال أبو عبيد القاسم بن سلام: "الصواب عندي مذهب فيه تصديق القولين جميعا، وذلك أن هذه الأحرف أصولها أعجمية كما قال الفقهاء، لكنها وقعت للعرب، فعربتها بألسنتها وحولتها عن ألفاظ العجم إلى ألفاظها، فصارت عربية، ثم نزل القرآن وقد اختلطت هذه الحروف بكلام العرب، فمن قال إنها عربية فهو صادق، ومن قال أعجمية فصادق" ومال إلى هذا القول الجواليقي وابن الجوزي وآخرون"..
١٤ - التدليس: إخفاء العيب، والمدالسة: المخادعة: والتدليس في البيع: كتمان عيب السلعة عن المشتري، واندلس الشيء: إذا خفى [لسان العرب-مادة: دلس].
١٥ - قص الكلام أو الأخبار: يقصها قصا وقصصا: تتبعها ورواها وحكاها، قال تعالى: ﴿فلما جاءه وقص عليه القصص قال لا تخف..(٢٥)﴾ [القصص] أي: قص عليه أخباره وحدثه بها. والقصص: مصدر يطلق على ما يروى من الأخبار، قال تعالى: ﴿لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب..(١١١)﴾ [يوسف]. [القاموس القويم [٢/ ١٢٠]]..
ومن غيره -سبحانه- له كل الصفات التي تفعل ما تشاء وقت أن تشاء ؟
لا أحد سواه قادر على ذلك ؛ لأنه -سبحانه- وحده صاحب الصفات التي تقوم بكل مطلوب في الحياة ومقدر.
لكن حين يتكلم -سبحانه- عن الذات ؛ فهو يؤكد التوحيد فلا تأتي بصيغة الجمع، يقول تعالى :﴿ إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني وأقم١ الصلاة لذكري٢( ١٤ ) ﴾ [ طه ]
وهنا يتكلم -سبحانه- بأسلوب يعبر عن أفعال لا يقدر عليها غيره ؛ بالدقة التي شاءها هو –سبحانه- فيقول :
﴿ نحن نقص عليك أحسن القصص.. ( ٣ ) ﴾ [ يوسف ]
وحدد -سبحانه- أنه هو الذي يقص، وإذا وجد فعل لله ؛ فنحن نأخذ الفعل بذاته وخصوصه ؛ ولا نحاول أن نشتق منه اسما نطلقه على الله ؛ إلا إذا كان الفعل له صفة من صفاته التي علمناها في أسمائه الحسنى ؛ لأنه الذات الأقدس.
وفي كل ما يتعلق به ذاتا وصفات وأفعالا إنما نلتزم الأدب ؛ لأننا لا نعرف شيئا عن ذات الله إلا ما أخبرنا الله عن نفسه، لذلك لا يصح أن نقول عن الله أنه قصاص، بل نأخذ الفعل كما أخبرنا به، ولا نشتق منه اسما لله ؛ لأنه لم يصف نفسه في أسماء الحسنة بذلك.
والواجب أن ما أطلقه -سبحانه- اسما نأخذه اسما، وما أطلقه فعلا نأخذه فعلا.
وهنا يقول –سبحانه :
﴿ نحن نقص عليك أحسن القصص.. ( ٣ ) ﴾ [ يوسف ]
ونعلم أن كلمة " قص " تعني الإتباع، وقال بعض العلماء : إن القصة تسمى كذلك لأن كل كلمة تتبع كلمة، ومأخوذة من قص الأثر، وهو تتبع أثر السائر على الأرض، حتى يعرف الإنسان مصير من يتتبعه ولا ينحرف بعيدا عن الاتجاه الذي سار فيه من يبحث عنه.
واقرأ قول الحق -سبحانه- ﴿ وقالت لأخته قصيه فبصرت٣ به عن جنب٤ وهم لا يشعرون ( ١١ ) ﴾ [ القصص ]
و﴿ قصيه.. ( ١١ ) ﴾ [ القصص ]
أي : تتبعي أثره.
إذن : فالقص ليس هو الكلمة التي تتبع كلمة، إنما القص هو تتبع ما حدث بالفعل.
ويعطينا الحق سبحانه مثلا من قصة موسى عليه السلام مع فتاة :
﴿ قال أرأيت إذ أوينا إلى الصخرة فإني نسيت الحوت٥ وما أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره واتخذ سبيله في البحر عجبا٦ ( ٦٣ ) قال ذلك ما كنا نبغ٧ فارتدا على آثارهما قصصا ( ٦٤ ) ﴾ [ الكهف ]
أي : تابعا الخطوات
وهكذا نعلم أن القص هو تتبع ما حدث بالفعل، فتكون كل كلمة مصورة لواقع، لا لبس٨ فيه أو خيال ؛ ولا تزيد، وليس كما يحدث في القصص الفني الحديث ؛ حيث يضيف القصاص لقطات خيالية من أجل الحبكة٩ الفنية والإثارة وجذب الانتباه.
أما قصص القرآن فوضعه مختلف تماما، فكل قصص القرآن إنما يتتبع ما حدث فعلا ؛ لنأخذ منها العبرة١٠ ؛ لأن القصة نوع من التاريخ.
والقصة في القرآن مرة تكون للحدث، ومرة تكون لتثبيت فؤاد الرسول صلى الله عليه وسلم، فلم تأت قصة رسول في القرآن كاملة، إلا قصة يوسف –عليه السلام.
أما بقية الرسل فقصصهم جاءت لقطات في مناسبات لتثبيت فؤاد١١ الرسول محمد صلى الله عليه وسلم، فتأتي لقطة من حياة رسول، ولقطة من حياة رسول آخر، وهكذا.
ولا يقولن أحد : إن القرآن لم يستطع أن يأتي بقصة كاملة مستوفية ؛ فقد شاء الحق-سبحانه- أن يأتي بقصة يوسف من أولها إلى آخرها، مستوفية، ففيها الحدث الذي دارت حوله أشخاص، وفيها شخص دارت حوله الأحداث.
فقصة يوسف –عليه السلام- في القرآن لا تتميز بالحبكة فقط ؛ بل جمعت نوعي القصة، بالحدث الذي تدور حوله الشخصيات، وبالشخص الذي تدور حوله الأحداث.
جاءت قصة يوسف بيوسف، وما مر عليه من أحداث ؛ بدء من الرؤيا، ومرورا بحقد الإخوة وكيدهم، ثم محاولة الغواية١٢ له من امرأة العزيز، ثم السجن، ثم القدرة على تأويل الأحلام، ثم تولى السلطة، ولقاء الإخوة والإحسان إليهم، وأخيرا لقاء الأب من جديد.
إذن : فقول الحق –سبحانه :
﴿ نحن نقص عليك أحسن القصص... ( ٣ ) ﴾ [ يوسف ]
يبين لنا أن الحسن أتى لها من أن الكتب السابقة تحدثت عن قصة يوسف، لكن أحبار١٣ اليهود حين قرأوا القصة كما جاءت بالقرآن ترك بعضهم كتابه، واعتمد على القرآن في روايتها، فالقصة أحداثها واحدة، إلا صياغة الأداء ؛ وتلمسات المواجيد النفسية، وإبراز المواقف المطوية في النفس البشرية ؛ وتحقيق الرؤى الغيبية كل ذلك جاء في حبكة ذات أداء بياني معجز جعلها أحسن القصص.
أو : هي أحسن القصص بما اشتملت عليه من عبر متعددة، عبر في الطفولة في مواجهة الشيخوخة، والحقد الحاسد بين الإخوة، والتمرد، وإلقائه في الجب والكيد له، ووضعه سجينا بظلم، وموقف يوسف عليه السلام من الافتراء الكاذب، والاعتزاز بالحق حتى تم له النصر والتمكين.
وكيف ألقى الله على يوسف –عليه السلام- محبة منه ؛ ليجعل كل من يلتقي به يحب خدمته.
وكيف صان يوسف إرث النبوة، بما فيها من سماحة وقدرة على العفو عند المقدرة ؛ فعفا عن إخوته بما روته السورة :﴿ قال لا تثريب١٤ عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين ( ٩٢ ) ﴾ [ يوسف ]
وقالها سيد البشر محمد صلى الله عليه وسلم لأهله يوم فتح مكة :( اذهبوا فأنتم الطلقاء )١٥.
هكذا تمتلئ سورة يوسف بعبر متناهية، يتجلى بعض منها في قضية دخوله السجن مظلوما، ثم يأتيه العفو والحكم ؛ لذلك فهي أحسن القصص ؛ إما لأنها جمعت حادثة ومن دار حولها من أشخاص، أو جاء بالشخص وما دار حوله من أحداث.
أو : أنها أحسن القصص في أنها أدت المتحد والمتفق عليه في كل الكتب السابقة، وجاء على لسان محمد الأمي، الذي لا خبرة له بتلك الكتب ؛ لكن جاء عرض الموضوع بأسلوب جذاب مستميل مقنع ممتع.
أو : أنها أحسن القصص ؛ لأن سورة يوسف هي السورة التي شملت لقطات متعددة تساير : العمر الزمني ؛ والعمر العقلي ؛ والعمر العاطفي للإنسان في كل أطواره ؛ ضعيفا ؛ مغلوبا على أمره ؛ وقويا مسيطرا، ممكنا من كل شيء.
بينما نجد أنباء الرسل السابقين جاءت كلقطات موزعة كآيات ضمن سورة أخرى ؛ وكل آية جاءت في موقعها المناسب لها.
إذن : فالحسن البالغ قد جاء من أسلوب القرآن المعجز الذي لا يستطيع واحد من البشر أن يأتي بمثله.
يقول الحق سبحانه :﴿ نحن نقص عليك أحسن القصص بما أوحينا إليك هذا القرآن وإن كنت من قبله لمن الغافلين ( ٣ ) ﴾ [ يوسف ]
والمقصود بالغفلة هنا أنه صلى الله عليه وسلم كان أميا، ولم يعرف عنه أحد قبل نزول القرآن أنه خطيب أو شاعر، وكل ما عرف عنه فقط هو الصفات الخلقية العالية من صدق وأمانة ؛ وهي صفات مطلوبة في المبلغ عن الله ؛ فما دام لم يكذب من قبل على بشر فكيف يكذب وهو يبلغ عن السماء رسالتها لأهل الأرض ؟
إن الكذب أمر مستبعد تماما في رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل البعثة وبعدها.
والمثال على تصديق الغير لرسول الله هو تصديق أبي بكر رضي الله عنه له حين أبلغه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الوحي قد نزل عليه، لم يقل له أكثر من أنه رسول من عند الله، فقال أبو بكر –رضي الله عنه- صدقت.
وحين حدثت رحلة الإسراء ؛ وكذبها البعض متسائلين : كيف نضرب إليها أكباد الإبل شهرا ويقول محمد إنه قطعها في ليلة ؟ فسألهم أبو بكر : أقال ذلك ؟ قالوا : نعم. فقال أبو بكر : مادام قد قال فقد صدق١٦.
وهكذا نجد أن حيثية الصدق قبل الرسالة هي التي دلت على صدقه حين أبلغ بما نزل عليه من وحي.
مثال ذلك : تصديق خديجة رضي الله عنها وأرضاها له ؛ " حين أبلغها بنزول الوحي، فقالت له :( والله لا يخزيك الله أبدا، إنك لتصل الرحم، وتحمل الكل١٧، وتكسب المعدوم١٨، وتقرى١٩ الضيف، وتعين على نوائب٢٠ الحق٢١ ).
وكان في صدق بصيرتها، وعميق حساسية فطرتها أسباب تؤيد تصديقها له صلى الله عليه وسلم في نبوته٢٢.
وحين وقعت بعض الأمور التي لا تتفق مع منطق المقدمات والنتائج، والأسباب والمسببات ؛ كانت بعض العقول المعاصرة لرسول الله تقف متسائلة : كيف ؟ فيوضح لهم أبو بكر :( انتبهوا إنه رسول الله ).
مثال هذا : ما حدث في صلح الحديبية، حين يقول عمر بن الخطاب –رضي الله عنه-متسائلا ويكاد أن يكون رافضا لشروط هذا الصلح- : ألسنا على الحق ؟ علام نعطي الدنية٢٣ في ديننا ؟
ويرد عليه أبو بكر –رضي الله عنه- : استمسك بغرزه٢٤ يا عمر، إنه رسول الله٢٥.
أي : انتبه واعلم أنك تتكلم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وليس في ذلك انصياع أعمى ؛ بل هي طاعة عن بصيرة مؤمنة.
والحق سبحانه يقول هنا :
﴿ وإن كنت من قبله لمن الغافلين ( ٣ ) ﴾ [ يوسف ]
والغافل : هو الذي لا يعلم –لا عن جهل-، أو قصور عقل- ولكن لأن ما غفل عنه هو أمر لا يشغل باله.
أو : أن يكون المقصود بقوله :
﴿ لمن الغافلين ( ٣ ) ﴾ [ يوسف ]
أي : أنك يا محمد لن تكن ممن يعرفون قصة يوسف ؛ لأنك لم تتعلم القراءة فتقرأها من كتاب، ولم تجلس إلى معلم يروي لك تلك القصة، ولم تجمع بعضا من أطراف القصة من هنا أو هناك.
بل أنت لم تتلق الوحي بها إلا بعد أن قال بعض من أهل الكتاب لبعض من أهل مكة : اسألوه عن أبناء يعقوب وإخوة يوسف ؛ لماذا خرجوا من الشام وذهبوا إلى مصر٢٦ ؟
وكان ضربا٢٧ من الإعجاز أن ينزل إليك يا رسول الله هذا البيان العالي بكل تفاصيله القصة، كدليل عملي على أن معلم محمد صلى الله عليه وسلم هو الله، وأنه سبحانه هو من أوحى بها إليه.
والوحي – كما نعلم- هو الإعلام بخفاء، وسبحانه يوحي للملائكة فيقول :
﴿ إذ يوحي ربك إلى الملائكة أني معكم فثبتوا الذين آمنوا.. ( ١٢ ) ﴾ [ الأنفال ]
وسبحانه يوحي إلى من يصطفي من البشر إلى صفوتهم مصداقا لقوله سبحانه :
﴿ وإذ أوحيت إلى الحواريين٢٨ أن آمنوا بي وبرسولي قالوا آمنا واشهد بأننا مسلمون ( ١١١ ) ﴾ [ المائدة ]
ويقذف الحق سبحانه بالإلهام وحيا لا يستطيع الإنسان دفعا له، مثل الوحي لأم موسى بأن تلقي طفلها الرضيع موسى في اليم٢٩ :
﴿ وإذا أوحينا إلى أمك ما يوحى ( ٣٨ ) أن اقذفيه في التابوت٣٠ فاقذفيه في اليم فليلقه اليم بالساحل٣١ يأخذه عدو لي وعدو له وألقيت عليك محبة مني ولتصنع على عيني ( ٣٩ ) ﴾ [ طه ]
ويوحي سبحانه إلى الأرض وهي الجماد، مثل قوله الحق :
﴿ بأن ربك أوحى لها ( ٥ ) ﴾ [ الزلزلة ]
وأوحى سبحانه إلى النحل، فقال الحق :
﴿ وأوحى ربك إلى النحل أن اتخذي من الجبال بيوتا ومن الشجر ومما يعرشون٣٢ ( ٦٨ ) ثم كلي من كل الثمرات فاسلكي سبل ربك ذللا٣٣.. ( ٦٩ ) ﴾ [ النحل ]
والحق سبحانه يوحى لمن يشاء بما شاء، فالكل ؛ جماد ونبات وحيوان وإنسان ؛ من خلقه، وهو سبحانه يخاطبهم بسر خلقه لهم، واختلاف وسائل استيعابهم لذلك.
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك :
﴿ إذ قال يوسف٣٤ لأبيه يا أبت إني رأيت أحد عشر كوكبا٣٥ والشمس والقمر رأيتهم لي ساجدين ( ٤ ) ﴾
٢ - الذكر: الاستحضار بالقلب مع التأمل، والذكر الحديث والقصة، والذكر: القرآن والكتب المنزلة كلها. قال تعالى: ﴿إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون (٩)﴾ [الحجر] هو القرآن الكريم، وقوله تعالى: ﴿ورفعنا لك ذكرك (٤)﴾ [الشرح] أي: شرفك وحديث الناس عنك بالخير..
٣ - بصر به: رآه ببصره فهو بصير، وبصر بالأمر: علمه كأنه رآه ببصره. وقوله: ﴿فبصرت به عن جنب..(١١)﴾ [القصص] أي: رأته من أحد جوانب البيت وهي متخفية، وقوله تعالى عن السامري: ﴿قال بصرت بما لم يبصروا به..(٩٦)﴾ [طه] أي: علمت بما لم يعلموا، وهو رؤية أثر الرسول أو سره. [القاموس القويم ١ /٦٩]..
٤ - الجنب: قد يراد به البعد البعيد كما يراد به الجانب قال تعالى: ﴿فبصرت به عن جنب..(١١)﴾ [القصص] أي: عن بعد، أو رأته من جانب من جوانب القصر أو من بعيد [القاموس القويم ١/ ١٣٠]..
٥ - الحوت: السمكة، كبرت أو صغرت، والجمع حيتان، قال تعالى عن موسى قوله: ﴿فإني نسبت الحوت..(٦٤)﴾ [الكهف] أي: السمكة، وقال: [إذ تأتيهم حيتانهم يوم سبتهم شرعا..(١٦٣)} [الأعراف] كانت تظهر لهم الحيتان في الماء يوم السبت، فيصيدونها مخالفين أمر ربهم، [القاموس القويم ١/ ١٧٦] قال ابن منظور في [لسان العرب-مادة: حوت]: "المحاوتة: المراوغة، وهو يحاوتني أي يراوغني وحات الطائر على الشيء يحوت أي: حام حوله"..
٦ - العجب: روعة ودهشة تأخذ الإنسان عند استحسان شيء خفي سره أو استعظامه وأعجبه الأمر: سره أو حمله على العجب منه، وأمر عجيب وعجاب وعجاب بتشديد الجيم للمبالغة، قال تعالى: ﴿إن هذا لشيء عجاب..(٥)﴾ [ص] [القاموس القويم ٢/ ٧]..
٧ - بغى الشيء طلبه، وابتغاه: طلبه، قال تعالى: ﴿يبغونكم الفتنة..(٤٧)﴾[التوبة] أي: يطلبونها لكم، وقال تعالى: ﴿يبتغون فضلا من الله..(٢٩)﴾ [الفتح] وقوله: ﴿لقد ابتغوا الفتنة..(٤٨)﴾ [التوبة] أي: طلبوها وسعوا في بثها ونشرها، والابتغاء: الطلب، قال تعالى: ﴿ولا تهنوا في ابتغاء القوم..(١٠٤)﴾ [النساء] في طلبهم لقتالهم، وقال: ﴿والذين صبروا ابتغاء وجه ربهم..(٢٢)﴾ [الرعد] أي: طلبا لرضاه تعالى عنهم [القاموس القويم ١/ ٧٦-٧٧]..
٨ - اللبس واللبس: اختلاط الأمر، ليس عليه الأمر يلبسه لبسا فالتبس إذا خلطه عليه حتى لا يعرف جهته، والتبس عليه الأمر أي: اختلط واشتبه، وتلبس بي الأمر: اختلط وتعلق، [لسان العرب- مادة: لبس].
٩ - الحبك" الشد. والحبكة: الحبل يشد به على الوسط، والتحبيك التوثيق، وجاد ما حبكه إذا أجاد نسجه، وحبك الثوب يحبكه حبكا: أجدا نسجه وحسن أصر الصنعة فيه، [لسان العرب- مادة: حبك] ويستعار اللفظ ليستخدم في الحبكة القصصية كأنها ثوب يجاد نسجه وصنعه فلا يكون مهلهلا..
١٠ - وذلك في قوله تعالى: ﴿لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب..(١١١)﴾ [يوسف]. والعبرة اسم الشيء الذي يتعظ به الإنسان، والعبرة، العظة قال تعالى: ﴿إن في ذلك لعبرة..(٤٤)﴾[النور]، وقال: ﴿فاعتبروا يا أولي الأبصار (٢)﴾ [الحشر] أي: اتعضوا [القاموس القويم ٢/ ٤]..
١١ - يقول الحق سبحانه: ﴿وكلا نقص عليك من أنباء الرسل ما تثبت به فؤادك وجاءك في هذه الحق وموعظة وذكرى للمؤمنين [١٢٠]﴾ [هود] أي: نثبت به فؤادك على أداء الرسالة والصبر على ما ينالك فيها من الأذى [تفسير القرطبي ٤/ ٣٤٣٥]..
١٢ - الغواية: الضلال والانهماك في الغي والفساد، غوى يغوي: انهمك في الجهل وهو ضد الرشد قال تعالى: ﴿لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي..(٢٥٦)﴾ [البقرة] [القاموس القويم ٢ /٦٤]..
١٣ - الأحبار: جمع حبر، وهو العالم، قال تعالى: ﴿اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله.(٣١)﴾ [التوبة] وأصل الكلمة الحبر: الذي يكتب له، وهو المداد، وكل ما حسن من خط أو كلام أو شعر أو غير ذلك، فقد حبر حبرا وحبر، [لسان العرب – مادة: حبر]..
١٤ - ثربه: لامه وعتب عليه، وثربه بالتضعيف: أكثر لومه، وعيره بذنبه، وأنبه على سوء فعله، قال تعالى: ﴿لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم..(٩٢)﴾ [يوسف] أي: لا لوم ولا ثأنيب [القاموس القويم ١/ ١٠٦]..
١٥ - قال ابن إسحاق: حدثني بعض أهل العلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام في خطابه على باب الكعبة فقال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، صدق وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده، إلى أن قال: ما ترون أني فاعل فيكم؟ قالوا: خيرا، أخ كريم، وابن أخ كريم، قال اذهبوا فأنتم الطلقاء" [راجع: السيرة النبوية لابن هشام ٤/ ٤١٢]..
١٦ - ذكر ابن هشام في السيرة النبوية (١/٣٩٨) باختصار أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أصبح بعد عودته من بيت المقدس غدا على قريش فأخبرهم الخبر. فأنكروا عليه ذلك، وقصدوا أبا بكر وعرضوا عليه هذا الأمر في إنكار، وقال لهم أبو بكر: إنكم تكذبون عليه. فقالوا: بلى، ها هو ذاك في المسجد يحدث به الناس.
فقال أبو بكر": والله لئن كان قاله لقد صدق، فما يعجبكم من ذلك. فواله إنه ليخبرني أن الخبر ليأتيه من الله من السماء إلى الأرض في ساعة من ليل أو نهار فأصدقه، فهذا أبعد مما تعجبون منه"..
١٧ - الكل: هو من لا يستقل بأمره، قال تعالى: ﴿وهو كل على مولاه..(٧٦)﴾ [النحل]. الكل هو: العاجز الثقيل لا خير فيه [القاموس القويم ٢/ ١٦٩] باختصار..
١٨ - المعدوم: كالميت الذي لا تصرف له. والمعنى: أنك تعطي الناس ما لا يجدونه عند غيرك. [فتح الباري ١/٢٤]..
١٩ - قرى الضيف: أضافه، والقرى: طعام الأضياف، [لسان العرب- مادة: قرئ]..
٢٠ - النوائب: جمع نائبة، وهي ما ينوب الإنسان أي: ينزل به من الملمات والحوادث والنائبة: المصيبة من مصائب الدهر تنزل بالإنسان. [لسان العرب-مادة: نوب] بتصرف..
٢١ - حديث بدء الوحي أخرجه البخاري في صحيحه [٣]، وكذا مسلم في صحيحه [١٦٠] من حديث عائشة رضي الله عنها..
٢٢ - قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (آمنت بي إذ كفر الناس، وصدقتني إذ كذبني الناس، وواستنى بمالها إذ حرمني الناس، ورزقني منها الله الولد دون غيرها من النساء) أخرجه في أحمد مسنده [٦/ ١١٨] من حديث عائشة..
٢٣ - الدنية: الخصلة المذمومة، ورجل دني من قوم أدنياء وهو الضعيف الخسيس [لسان العرب – مادة: دنا] باختصار.
٢٤ - الغرز: ركاب الرحل، وكل ما كان مساكا للرجلين في المركب غرز، والغرز للناقة مثل الحزام للفرس، ومثل الركاب للبغل، ومنه حديث أبي بكر أنه قال لعمر: "استمسك بغرزه" أي: اعتلق به وأمسكه واتبع قوله وفعله ولا تخالفه، فاستعار له الغرز كالذي يمسك بركاب الراكب ويسير بسيره، [لسان العرب-مادة: غرز]..
٢٥ - أخرجه أحمد في مسنده [٤/ ٣٢٣-٣٢٥] من حديث المسور بن مخرمة الزهري ومروان ابن الحكم وتمامه، "أن عمر بن الخطاب أتى أبا بكر فقال يا أبا بكر أو ليس برسول الله" أو لسنا بالمسلمين؟ أو ليسوا بالمشركين؟ قال: بلى، قال: فعلام نعطي الذلة في ديننا؟ فقال أبو بكر: يا عمر الزم غرزه حيث كان" الحديث..
٢٦ - ذكره القرطبي في تفسيره من قول النحاس [٤/ ٣٤٤٠]: (يروي أن اليهود قالوا: سلوه لم انتقل آل يعقوب من الشام إلى مصر؟ وعن خبر يوسف، فأنزل الله عز وجل هذا بمكة موافقا لما في التوراة، وفيه، وفيه زيادة ليست عندهم)..
٢٧ - الضرب: الصنف من الأشياء ويقال: هذا من ضرب ذلك أي من نحوه وصنفه، والجمع: ضروب، وضرب الله مثلا أي وصف وبين وقولهم: ضرب له المثل بكذا، إنما معناه بين له ضربا من الأمثال أي صنفا منها. [لسان العرب-مادة: ضرب]..
٢٨ - الحواريون: جمع حواري: وهو: الخالص النقي من كل شيء، وشاع استعماله في الخلصاء والأصفياء للأنبياء، قال تعالى: ﴿قال الحواريون نحن أنصار الله..(٥٢)﴾ [آل عمران]. [القاموس القويم: ١/١٧٧]..
٢٩ - اليم: البحر أو النهر العذب، قال تعالى": ﴿فأغرقناهم في اليم..(١٣٦)﴾ [الأعراف]، وهو خليج السويس وماؤه ملح، وهو امتداد البحر الأحمر، وقوله تعالى: ﴿فاقذفيه في اليم فليقه اليم..(٣٩)﴾ [طه] هو نهر النيل العذب. [القاموس القويم: ٢/ ٣٧٢]..
٣٠ - التابوت: الصندوق، قال تعالى: ﴿إن آية ملكه أن يأتيكم التابوت فيه سكينة من ربكم وبقية مما ترك آل موسى وآل هارون تحمله الملائكة..(٢٤٨)﴾ [البقرة] والتابوت أيضا: الأضلاع وما تحويه كالقلب والكبد وغيرهما. تشبيها بالصندوق الذي يحرز فيه المتاع. [القاموس القويم: ١/ ٩٦]، [لسان العرب-مادة: ثبت]..
٣١ - سحله: قشره ونحته والرياح تسحل الأرض: تكشط ما عليها من تراب، والساحل شاطئ النهر؛ لأن الموج يأكل منها وينحته ويسحته، قال تعالى: ﴿فليقه اليم بالساحل يأخذه عدو لي وعدو له وألقيت عليك محبة مني ولتصنع على عيني (٣٩)﴾ [طه] أي: بشاطئ النهر. [القاموس القويم: ١/ ٣٠٦]..
٣٢ - عرش البيت: سقفه، قال تعالى: [فكأين من قرية أهلكناها وهي ظالمة فهي خاوية على عروشها..(٤٥)} [الحج] [لسان العرب-مادة عرش]..
٣٣ - ذل: لان وانقاد من غير قهر بعد تصعب، فهو ذلول وجمعه ذلل، وهذه مطايا ذلل أو طرق ذلل: سهلة ممهدة، قال تعالى: ﴿هو الذي جعل لكم الأرض ذلولا فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه وإليه النشور (١٥)﴾ [الملك]، وقوله: ﴿فاسلكي سبل ربك ذللا..(٦٩)﴾ [النحل] أي: ممهدة للنحل ليجمع العسل منها [القاموس القويم: ١/ ٢٤٥ باختصار]..
٣٤ - قل القرطبي في تفسيره [٤/ ٢٤٤١]: "سئل أبو الحسن الأقطع- وكان حكيما- عن "يوسف" فقال: الأسف في اللغة الحزن، والأسيف العبد، وقد اجتمعا في يوسف، فلذلك سمى يوسف"..
٣٥ - الكوكب: في تعبير القرآن يشمل الكوكب البارد التابع المستمد نوره من غيره ويشمل النجم الملتهب كأنه كرة كبيرة من النيران، قال تعالى: ﴿كأنها كوكب دري...(٣٥)﴾ [النور] أي: نجم ساطع الضياء، [القاموس القويم: ٢/ ١٧٧ باختصار]..
ويستمر يوسف في قوله :
﴿ يا أبت إني رأيت أحد عشر كوكبا والشمس والقمر رأيتهم لي ساجدين ( ٤ ) ﴾ [ يوسف ]
وكلنا رأينا الشمس والقمر ؛ كل في وقت ظهوره ؛ لكن حلم يوسف يبين أنه رآهما معا، وكلنا رأينا الكواكب متناثرة في السماء آلافا لا حصر لها، فكيف يرى يوسف أحد عشر كوكبا فقط ؟
لا بد أنهم اتصفوا بصفات خاصة ميزتهم عن غيرهم من الكواكب الأخرى ؛ وأنه قام بعدهم.
ورؤيا يوسف عليه السلام تبين أنه رآهم شمسا وقمرا وأحد عشر كوكبا ؛ ثم رآهم بعد ذلك ساجدين.
وهذا يعني أنه رآهم أولا بصفاتهم التي نرى بها الشمس والقمر والنجوم بدون سجود ؛ ثم رآهم وهم ساجدون له ؛ بملامح الخضوع لأمر من الله، ولذلك تكررت كلمة " رأيت " وهو ليس تكرارا، بل لإيضاح الأمر.
ونجد أن كلمة ﴿ ساجدين ( ٤ ) ﴾ [ يوسف ]
وهي جمع مذكر سالم ؛ ولا يجمع جمع المذكر السالم إلا إذا كان المفرد عاقلا، والعقل يتميز بقدرة الاختيار بين البدائل ؛ والعاقل المؤمن هو من يجعل اختياراته في الدنيا في إطار منهج الدين، وأسمى ما في الخضوع للدين هو السجود لله.
ومن سجدوا ليوسف إنما سجدوا بأمر من الله، فهم إذن يعقلون أمر الحق سبحانه وتعالى١.
مثلهم في ذلك مثل ما جاء في قول الحق سبحانه :
﴿ إذا السماء انشقت ( ١ ) وأذنت٢ لربها وحقت ( ٢ ) ﴾ [ الانشقاق ]
هذه السماء تعقل أمر ربها الذي بناها.
وقال عنها أنها بلا فروج٣ :
﴿ أفلم ينظروا إلى السماء فوقهم كيف بنيناها وزيناها وما لها من فروج ( ٦ ) ﴾ [ ق ]
وهي أيضا تسمع أمر ربعا، مصداقا لقوله سبحانه :
﴿ وأذنت لربها وحقت ( ٢ ) ﴾ [ الانشقاق ]
أي : أنها امتلكت حاسة السمع ؛ لأن " أذنت " من الأذن ؛ وكأنها بمجرد سماعها لأمر الله ؛ تنفعل وتنشق٤.
وهكذا نجد أن كل عالم من عوالم الكون أمم مثل أمة البشر٥، ويتفاهم الإنسان مع غيره من البشر ممن يشتركون معه في اللغة، وقد يتفاهم مع البشر أمثاله ممن لا يعرف لغتهم بالإشارة، أو من خلال مترجم، أو من خلال تعلم اللغة نفسها.
ولكن الإنسان لا يفهم لغة الجماد، أو لغة النبات، أو لغة الحيوان ؛ إلا إذا أنعم الله على عبد بأن يفهم عن الجماد، أو أن يفهم الجماد عنه.
والمثل : هو تسبيح الجبال مع داود، ويشكل تسبيحه مع تسبيحهاا " جوقة " ٦ من الانسجام مكون من إنسان مسبح ؛ هو أعلى الكائنات ؛ والمردد للتسبيح هي الجبال، وهي من الجماد أدنى الكائنات.
ونحن نعلم أن كل الكائنات تسبح، لكننا لا نفقه تسبيحها٧، ولكن الحق سبحانه يختار من عباده من يعلمه منطق الكائنات الأخرى، مثلما قال سبحانه عن سليمان :
﴿ وورث سليمان داود وقال يا أيها الناس علمنا منطق الطير.. ( ١٦ ) ﴾ [ النمل ]
وهكذا علمنا أن للطير منطقا، وعلم الحق سبحانه سليمان لغة النمل ؛ لأننا نقرأ قول الحق :
﴿ حتى إذا أتوا على واد النمل قالت نملة يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم لا يحطمنكم٨ سليمان وجنوده وهم لا يشعرون ( ١٨ ) فتبسم ضاحكا من قولها وقال رب أوزعني٩ أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي وعلى والدي وأن أعمل صالحا ترضاه وأدخلني برحمتك في عبادك الصالحين ( ١٩ ) ﴾ [ النمل ]
إذن : فلكل أمة من الكائنات لغة، وهي تفهم عن خالقها، أو من أراد له الله سبحانه وتعالى أن يفهم عنها، وبهذا نعلم أن الشمس والقمر والنجوم حين سجدت بأمر ربها ليوسف في رؤياه ؛ إنما فهمت عن أمر ربها.
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك :
﴿ قال يا بني لا تقصص رؤياك على إخوتك فيكيدوا لك كيدا١٠ إن الشيطان للإنسان عدو مبين ( ٥ ) ﴾
ويؤخذ من مفهوم خواطر الإمام أن الآية بينت منزلة يوسف بين الأسرة. ومنزلته عند ربه وأنه في نهاية المطاف سيعترفون بفضله وعظمته، وهذا دليل الانتصار بعد الحصار. ولنعلم أن الرؤيا المنامية لها قوانين تختلف عن الرؤية البصرية، وأن رمزيات الرؤيا المنامية فيها من الأسرار ما يعطي المطلوب؛ لأنها تحمل إشارات توضيحية للمراد منها مثل رؤيا يوسف في حالة سجودهم له، وأنه رأى الجميع في وقت واحد مع حذف الزمن المنوط بهما..
٢ - أذن الكلام فلان، وأذن إلى صوته: استمع إليه بأذنه وأنصت معجبا به محبا له، وفسر بهذا المعنى قوله تعالى: ﴿وأذنت لربها وحقت (٢)﴾ [الانشقاق] أي: استمتعت لأمر ربها واستجابت وأطاعت وخضعت راضية. [القاموس القويم: ١/١٦ باختصار].
.
٣ - الفروج: جمع فرج، وهو الخلل بين الشيئين، والفرج: الشق، قال تعالى في وصف السماء: ﴿وما لها من فروج (٦)﴾ [ق] أي: شقوق فهي متماسكة لا خلل فيها ولكنها يوم القيامة تتشقق. قال تعالى: ﴿وإذا السماء فرجت (٩)﴾ [المرسلات] [القاموس القويم ٢/ ٧٤]..
٤ - ومثال هذا قوله تعالى: ﴿ثم استوى إلى السماء وهي دخان فقال لها وللأرض ائتيها طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين (١١)﴾ [فصلت]..
٥ - قال تعالى: ﴿وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير يجناحيه إلا أمم أمثالكم..(٣٨)﴾ [الأنعام].
٦ - الجوق في اللغة: كل خليط من الرعاء أمرهم واحد، وقال الليث: الجوق كل قطيع من الرعاة أمرهم واحد، والجوق أيضا: الجماعة من الناس. [لسان العرب-مادة: جوق].
٧ - قال تعالى: ﴿.. وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم إنه كان حليما غفورا (٤٤)﴾ [الإسراء]..
٨ - حطمه يحطمه، كسره بعنف، وأصل الحطم: كسر الشيء الجاف، ويطلق على أي كسر، قال تعالى: ﴿لا يحطمنكم سليمان وجنوده..(١٨)﴾ [النمل]، والحطام: ما تكسر من اليابس، قال تعالى: ﴿لو نشاء لجعلناه حطاما..(٦٥)﴾ [الواقعة]..
٩ -أوزعه أن يفعل كذا: دفعه وحثه وأغراه، أو ألهمه وأرشده، قال تعالى: ﴿رب أوزعني أن أشكر نعمتك..(١٩)﴾ [النمل] أي: ألهمني شكرك وادفعني إليه وحببه إلي [القاموس القويم ٢/ ٣٣٤]..
١٠ - كاد فلانا يكيده كيدا: خدعه ومكر به واحتال لإلحاق الضرر به، والكيد مصدر ويطلق على العمل أو الوسيلة التي يتذرع بها الكائد ليتغلب على خصمه. [القاموس القويم: ٢/ ١٨٠]..
أما حين يأتي القرآن بحديث أب عن ابنه فهو يقول " ابني " مثل قول الحق سبحانه عن نوح يتحدث عن ابنه الذي اختار الكفر على الإيمان :
﴿ إن ابني من أهلي.. ( ٤٥ ) ﴾ [ هود ]
وكلمة " يا بني " بما فيها من حنان وعطف ؛ ستفيدنا كثيرا فيما سوف يأتي من مواقف يوسف ؛ ومواقف أبيه منه..
وقول يعقوب ليوسف " يا بني " يفهم منه أن يوسف عليه السلام ما زال صغيرا، فيعقوب هو الأصل، ويوسف هو الفرع، والأصل دائم يمتلئ بالحنان على الفرع، وفي نفس الوقت نجد أي أب يقول : من يأكل لقمتي عليه أن يسمع كلمتي.
وقول الأب : يا بني، يفهم منه أن الابن ما زال صغيرا، ليست له ذاتية منفصلة عن الأب ليقرر بها ما هو المناسب، وما هو غير المناسب.
وحين يفزع يوسف مما يزعجه أو يسيء إليه ؛ أو أي أمر معضل٢ ؛ فهو يلجأ إلى من يحبه ؛ وهو الأب ؛ لأن الأب هو –الأقدر في نظر الابن- على مواجهة الأمور الصعبة.
وحين روى يوسف عليه السلام الرؤيا لأبيه ؛ قال الأب يعقوب عليه السلام :
﴿ قال يا بني لا تقصص رؤياك على إخوتك.. ( ٥ ) ﴾ [ يوسف ]
ونفهم من كلمة " رؤيا " أنها رؤيا منامية ؛ لأن الشمس والقمر والنجوم لا يسجدون لأحد، وهذا ما يوضح لنا دقة اللغة العربية، فكلمة واحدة هي " رأى " قد يختلف المعنى لها باختلاف ما رؤى ؛ فرؤيتك وأنت يقظان يقال عنها " رؤية " ورؤيتك نائم يقال عنها " رؤيا ".
والرؤية مصدر متفق عليه من الجميع ؛ فأنت ترى ما يراه غيرك ؛ وأما " الرؤيا " فهي تأتي للنائم.
وهكذا نجد الالتقاء في " رأى " والاختلاف في الحالة ؛ هل هي حالة النوم أو حالة اليقظة، وفي الإعراب كلاهما مؤنث ؛ لأن علامة التأنيث إما : " تاء " أو " ألف ممدودة "، أو " ألف مقصورة " ٣.
وأخذت الرؤية الحقيقية التي تحدث في اليقظة " التاء " وهي عمدة التأنيث ؛ أما الرؤيا المنامية فقد أخذت ألف التأنيث.
ولا يقدح٤ في كلمة " رؤيا " أنها منامية إلا آية واحدة في القرآن، حين تحدث الحق سبحانه عن لحظة أن عرج٥ به صلى الله عليه وسلم ؛ فقال :
﴿ وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة٦ للناس.. ( ٦٠ ) ﴾ [ الإسراء ]
ولكن من يقولون : " إنها رؤيا منامية " لم يفقهوا المعنى وراء هذا القول ؛ فالمعنى هو : إن ما حدث شيء عجيب لا يحدث إلا في الأحلام، ولكنه حدث في الواقع ؛ بدليل أنه قال عنها : إنها " فتنة للناس ".
فالرسول صلى الله عليه وسلم لو كان قد قال إنها رؤيا منامية لما كذبه أحد فيما قال ؛ لكنه أعلن أنها رؤيا حقيقية ؛ لذلك عبر عنها القرآن بأنها فتنة للناس.
وهنا يقول يعقوب عليه السلام :
﴿ قال يا بني لا تقصص رؤياك على إخوتك.. ( ٥ ) ﴾ [ يوسف ]
لأن يعقوب عليه السلام كأب مأمون على ابنه يوسف ؛ أما إخوة يوسف فهم غير مأمونين عليه، وحين يقص يوسف رؤياه على أبيه، فهو سينظر إلى الصالح ليوسف ويدله عليه٧.
أما إن قص الرؤيا على إخوته ؛ فقد تجعلهم الأغيار البشرية يحسدون أخاهم، وقد كان.
وإن تساءل أحد : ولماذا يحسدونه على رؤيا منامية، رأى فيها الشمس والقمر وأحد عشر كوكبا يسجدون له ؟
نقول : لا بد أن يعقوب عليه السلام قد علم تأويل الرؤيا ؛ وأنها نبوءة لأحداث سوف تقع ؛ ولا بد أن يعقوب عليه السلام قد علم أيضا قدرة إخوة يوسف على تأويل تلك الرؤيا، ولو قالها يوسف لهم لفهموا المقصود منها، ولا بد حينئذ أن يكيدوا له كيدا يصيبه بمكروه.
فهم قد أصابهم الضيق من يوسف وهو ما زال طفلا، فما باله بضيقهم إن علموا مثل هذه الرؤيا التي يسجد له فيها الأب والأم مع الإخوة.
ولا يعني ذلك أن نعتبر إخوة يوسف من الأشرار ؛ فهم الأسباط٨ ؛ وما يصيبهم من ضيق بسبب علو عاطفة الأب تجاه يوسف هو من الأغيار التي تصيب البشر، فهم ليسوا أشررا بالسليقة٩ ؛ لأن الشرير بالسليقة تتصاعد لديه حوادث السوء، أما الخير فتتنزل عنده حوادث السوء.
والمثل على ذلك : أنك قد تجد الشرير يرغب في أن يصفع إنسانا آخر صفعة على الخد ؛ لكنه بعد قليل يفكر في تصعيد العدوان على ذلك الإنسان، فيفكر أن يصفعه صفعتين بدلا من صفعة واحدة ؛ ثم يرى أن الصفعتين لا تكفيان ؛ فيرغب أن يزيد العدوان بأن يصوب عليه مسدسا ؛ وهكذا يصعد الشرير تفكيره الإجرامي.
أما الخير فهو قد يفكر في ضرب إنسان أساء إليه " علقة " ؛ لكنه يقلل من التفكير في رد الاعتداء بأن يكتفي بالتفكير في ضربه صفعتين بدلا من " العلقة "، ثم يهدأ قليلا ويعفو عمن أساء إليه.
وإخوة يوسف –وهم الأسباط-١٠ بدءوا في التفكير بانتقام كبير من يوسف، فقالوا لبعضهم :﴿ اقتلوا يوسف.. ( ٩ ) ﴾ [ يوسف ]
ثم هبطوا عن هذه الدرجة المؤلمة من تعبيرهم عن الغيرة من زيادة محبة أبيهم ليوسف، فقالوا :
﴿ أو اطرحوه١١ أرضا يخل١٢ لكم وجه أبيكم.. ( ٩ ) ﴾ [ يوسف ]
وحينما أرادوا أن يطرحوه أرضا ترددوا ؛ واستبدلوا ذلك بإلقائه في الجب١٣ لعل أن يلتقطه بعض السيارة١٤ فقالوا :
﴿ وألقوه في غيابة١٥ الجب يلتقطه بعض السيارة.. ( ١٠ ) ﴾ [ يوسف ]
وهذا يدل على أنهم تنزلوا عن الانتقام الشديد بسبب الغيرة ؛ بل إنهم فكروا في نجاته.
وفي الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها يقول الحق سبحانه :
﴿ لا تقصص رؤياك على إخوتك فيكيدوا لك كيدا.. ( ٥ ) ﴾ [ يوسف ]
والكيد : احتيال مستور لمن لا تقوى على مجابهته، ولا يكيد إلا الضعيف ؛ لأن القوي يقدر على المواجهة.
ولذلك يقال : إن كيد النساء عظيم ؛ لأن ضعفهن أعظم.
ويذيل الحق سبحانه الآية الكريمة بقوله :
﴿ إن الشيطان للإنسان عدو مبين ( ٥ ) ﴾ [ يوسف ]
وهذه العداوة معروفة لنا تماما ؛ لأنه خرج من الجنة ملعونا مطرودا ؛ عكس آدم الذي قبل الله توبته ؛ وقد أقسم الشيطان بعزة الله ليغوين الكل، واستثنى عباد الله المخلصين١٦.
ولذلك يقول صلى الله عليه وسلم :( لقد أعانني الله على شيطاني فأسلم )١٧.
ويصف الحق سبحانه عداوة الشيطان للإنسان أنها عداوة مبينة١٨
أي : محيطه، وحين نقرأ القرآن نجد إحاطة الشيطان للإنسان فيها يقظة :
﴿ لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم.. ( ١٧ ) ﴾[ الأعراف ]
ولم يأت ذكر للمجيء من الفوقية أو من التحتية ؛ لأن من يحيا في عبودية تحتية ؛ وعبادية فوقية ؛ لا يأتيه الشيطان أبدا.
ونلحظ أن الحق سبحانه جاء بقول يعقوب عليه السلام مخاطبا يوسف عليه السلام في هذه الآية :
﴿ فيكيدوا لك كيدا.. ( ٥ ) ﴾ [ يوسف ]
ولم يقل : فيكيدوك، وهذا من نضح١٩ نبوة يعقوب عليه السلام على لسانه ؛ لأن هناك فارقا بين العبارتين، فقول : " يكيدوك " يعني أن الشر المستور الذي يدبرونه ضدك سوف يصيبك بأذى.
أما ﴿ فيكيدوا٢٠ لك كيدا.. ( ٥ ) ﴾ [ يوسف ]
فتعني أن كيدهم الذي أرادوا به إلحاق الشر بك سيكون لحسابك، ويأتي بالخير لك.
ولذلك نجد قوله الحق في موقع آخر بنفس السورة :
﴿ كذلك كذنا ليوسف.. ( ٧٦ ) ﴾ [ يوسف ]
أي : كدنا لصالحه.
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك :
﴿ وكذلك يجتبيك٢١ ربك ويعلمك من تأويل الأحاديث٢٢ ويتم نعمته عليك وعلى آل يعقوب كما أتمها على أبويك من قبل إبراهيم وإسحاق إن ربك عليك حكيم ( ٦ ) ﴾
ولنعلم أن الكون وما فيه ومن فيه وظيفته أمام الله الطواعية والسجود استجابة لمراد الله فهو من الواردات..
٢ - الأمر المعضل: الصعب الشديد الضيق، عضل عليه في أمره تعضيلا: ضيق من ذلك وحال بينه وبين ما يريد ظلما، وعضل بهم المكان: ضاق، وعضلت الأرض بأهلها إذا ضاقت بهم لكثرتهم [لسان العرب- مادة: عضل].
٣ - علامات التأنيث اللفظية ثلاث هي:
-تاء التأنيث: تدخل على الفعل والاسم، مثل جالسة وفاطمة ولأنها تدخل للتفرقة بين المذكر والمؤنث فإنها لا تدخل على الأوصاف الخاصة بالمؤنث مثل: حائض، مرضع، ثيب.
-ألف التأنيث المقصورة: وهي ألف لازمة مفتوح ما قبلها تلحق آخر الكلمة المؤنثة.
-ألف التأنيث الممدودة: وهي مقطع مكون من همزة تسبقها ألف مد مفتوح ما قبلها، وهي تلحق الأسماء، دون الأفعال مثل: حسناء، صحراء، كبرياء، عاشوراء، راجع: القواعد الصرفية- الدكتور على أبو المكارم- طبعة ١٩٧٩ ص: ٦٢- ٦٥..
٤ - قدح: أثر، يقال: قدح الشيء في صدري: أثر، وفي حديث علي كرم الله وجهه: يقدح الشك في قلبه بأول عارضة من شبهة.[لسان العرب- مادة: قدح]..
٥ - عرج يعرج عروجا: صعد وعلا وارتفع، والمعراج: كل ما ساعدك على الصعود، والجمع معارج، قال تعالى: ﴿ومعارج عليها يظهرون [٣٣]﴾ [الزخرف] أي: يركبونها ويصعدون فيها إلى أعلى [القاموس القويم باختصار: ٢/ ١٣]..
٦ - قال الأزهري وغيره: جماع معنى الفتنة الابتلاء والامتحان والاختبار، [انظر: لسان العرب- مادة: فتن]..
٧ - قال القرطبي في تفسيره [٤/ ٣٤٤٧]: "هذه الآية أصل في ألا تقص الرؤيا على غير شقيق ولا ناصح، ولا على من لا يحسن التأويل فيها"..
٨ الأسباط: جمع سبط، والسبط: الشجرة ذات أصل واحد، ولها أغصان كثيرة، ونقل ذلك مجازا إلى شجرة النسب، فالسبط: القبيلة المتفرعة من أصل واحد، والأسباط: هم القبائل من أولاد يعقوب عليه السلام، وهما اثنتا عشرة قبيلة تنسب إلى أبناء يعقوب الاثنى عشر: ﴿وقطعناهم اثنتي عشرة أسباطا أمما..(١٦٠)﴾ [الأعراف] [القاموس القويم: ١/ ٣٠٠].
٩ - السليقة: الطبيعة والسجية، وفلان يقرأ بالسليقة أي بطبيعته لا بتعلم، وقيل: بالسليقية، أي: بطبعه الذي نشأ عليه، قال أبو زيد: إنه لكريم الطبيعة والسليقة [لسان العرب- مادة: سلق]..
١٠ - ذكرت كلمة الأسباط في القرآن ٥ مرات منها ٤ مرات يعنى بها أسباط كانوا أنبياء، والموضع الخامس الأسباط بمعنى أصول قبائل بني إسرائيل، وكان كل ابن من أبناء يعقوب هو أول السبط أو ذاك..
١١ - طرح الشيء يطرحه طرحا: نبذة وألقاه، قال تعالى: ﴿أو اطرحوه أرضا..(٩)﴾ [يوسف] أي: ألقوه في أرض بعيدة [القاموس القويم ١/ ٣٩٩].
١٢ - خلا فلان إلى فلان: فرغ له ولم يشتغل عنه بغيره. قال تعالى على لسان إخوة يوسف: ﴿يخل لكم وجه أبيكم..(٩)﴾ أي يفرغ لكم والدكم، ويتجه إليكم بكل عنايته، ولا يشتغل عنكم بأحد غيركم. [القاموس القويم: ١/٢٠٩].
١٣ - الجب: البئر التي لم تبن بالحجارة، قال الليث: الجب: البئر غير البعيدة، وقال الفراء: بئر مجببة الجوف إذا كان وسطها أوسع شيء منها مقببة، وهو أيضا: البئر الكثيرة الماء البعيدة القعر. [لسان العرب –مادة: جبب]..
١٤ - سيار: كثير السير، صيغة مبالغة، وسيارة: صيغة مبالغة للمؤنث، والسيارة: الجماعة السائرة المسافرة، قال تعالى: ﴿وجاءت سيارة..(١٩)﴾ [يوسف] أي: جماعة مسافر، وقوله: ﴿متاعا لكم وللسيارة.. ٦٩﴾ [المائدة] للمسافرين [القاموس القويم ١/ ٣٤٠]..
١٥ - غاب الشيء يغيب غيبا: استتر عن العين أو عن علم الإنسان في المعنوي، والغيب مصدر ويسمى به ما غاب واستتر، قال تعالى: ﴿الذين يؤمنون بالغيب (٣)﴾ [البقرة].
١٦ - حكى رب العزة هذا عن أبليس اللعين أنه قال: ﴿فبعزتك لأغوينهم أجمعين (٨٢) إلا عبادك منهم المخلصين (٨٣)﴾ [ص]..
١٧ - عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما منكم من أحد إلا وقد وكل به قرينه من الجن وقرينه من الملائكة، قالوا: وإياك يا رسول الله؟ قال: وإياي ولكن الله أعانني عليه فلا يأمرني إلا بحق) أخرجه أحمد في مسنده [١/ ٣٨٥]..
١٨ - بان الشيء يبين بيانا: ظهر واتضح فهو بين وهي بينة: أي: ظاهر وظاهرة، ويستعمل البين والبينة بمعنى المظهر والمظهرة والموضح والموضحة، وبالمعنيين يفسر، وبين الشيء وأبان وبين واستبان: لم يعد خافيان وقوله: ﴿إنه لكم عدو مبين (١٦٨)﴾ [البقرة] [القاموس القويم ١/ ٩١، ٩٢ بتصرف]..
١٩ - أصل النضح: الرشح. يقال: نضح الرجل بالعرق نضحا، فض به، ونضحت العين فارت بالدمع وعيناه تنضحان ونضحت الخابية والجرة تنضح: إذا كانت رقيقة فخرج الماء من الخزف ورشحت [لسان العرب- مادة: نضح بتصرف]..
٢٠ - كاد فلانا يكيده كيدا: خدعه ومكر به واحتال الإلحاق الضرر به، والكيد مصدر ويطلق على العمل أو الوسيلة التي يتذرع بها الكائد ليتغلب على خصمه [القاموس القويم ٢/ ١٨٠].
٢١ -اجتبى فلانا: اختاره واستخلصه واصطفاه، قال تعالى: ﴿يجتبي إليه من يشاء ويهدي إليه من ينيب (١٣)﴾ [الشورى] أي: يصطفي ويختار من يشاء من خلقه. [القاموس القويم ١/ ١١٧]..
٢٢ - الحديث: الكلام وجمعه أحاديث، والأحاديث جمع أحدوثة، وهي الحديث العجيب، والحديث قد يطلق على الرؤى والأحلام، قال تعالى: ﴿ويعلمك من تأويل الأحاديث..(٦)﴾ [يوسف] وأما قوله تعلى: ﴿وجعلناهم أحاديث..(٤٤)﴾ [المؤمنون] فهو كناية عن الموت والهلاك، أي: بعد أن كانوا أحياء صاروا أمواتا يتحدث الناس عنهم، [القاموس القويم ١/ ١٤٥]..
ومعنى تأويل الشيء أي معرفة ما يؤول إليه الشيء، ونعلم أن الرؤى تأتي كطلاسم، ولها شفرة رمزية لا يقوم بحلها إلا من وهبه الله قدرة على ذلك ؛ فهي ليست علما له قواعد وأصول ؛ لأنها إلهاما من الله سبحانه وتعالى.
وبعد ذلك تصير يا يوسف على خزائن الأرض ؛ حين يوجد الجدب١، ويعم المنطقة كلها، وتصبح عزيز مصر.
ويتابع الحق سبحانه :
﴿ ويتم نعمته عليك.. ( ٦ ) ﴾ [ يوسف ]
فكل ما تمتع به يوسف هو من نعم الدنيا، وتاج نعمة الدنيا أن الله اجتباه رسولا.
أو أن :﴿ ويتم نعمته عليك.. ( ٦ ) ﴾ [ يوسف ]
بمعنى ألا تسلب منك النعمة أبدا ؛ ففي حياة يوسف منصب مهم. هو منصب عزيز مصر، والمناصب من الأغيار التي يمكن أن تنزع.
أو أن :﴿ ويتم نعمته عليك.. ( ٦ ) ﴾ [ يوسف ]
بأن يصل نعيم دنياك بنعيم أخراك٢.
ويتابع الحق سبحانه :
﴿ وعلى آل يعقوب كما أتمها على أبويك من قبل إبراهيم وإسحاق إن ربك عليم حكيم ( ٦ ) ﴾ [ يوسف ]
يذكر الحق سبحانه يوسف عليه السلام بأن كيد إخوته له لا يجب أن يحوله إلى عداوة ؛ لأن النعم ستتم أيضا على هؤلاء الإخوة فهم آل يعقوب ؛ هم وأبناؤهم حفدة يعقوب، وسينالهم بعض من عز يوسف وجاهه وماله، كما أتمها من قبل على إبراهيم الجد الأول ليوسف باتخاذه خليلا٣ لله، وأتم سبحانه نعمته على إسحاق بالنبوة.
وهو سبحانه أعلم بمن يستحق حمل الرسالة، وهو الحكيم الذي لا يترك شيئا للعبث ؛ فهو المقدر لكل أمر بحيث يكون موافقا للصواب.
ويقول الحق سبحانه من بعد ذلك :
﴿ لقد كان في يوسف وإخوته آيات للسائلين ( ٧ ) ﴾
٢ - قال القرطبي في تفسيره [٤/ ٣٤٥]، ﴿ويتم نعمته عليك..(٦)﴾ [يوسف] أي: بالنبوة، وقيل: بإخراج إخوتك إليك. وقيل: بإنجائك من كل مكروه"..
٣ - قال تعالى: ﴿واتخذ الله إبراهيم خليلا (١٢٥)﴾ [النساء]، وسمي إبراهيم عليه السلام خليل الله لشدة محبته لربه عز وجل لما قام له به من الطاعة التي يحبها ويرضاها، [ابن كثير ١/ ٥٦٠]..
و " يوسف " اسم أعجمي ؛ لذلك فهو " ممنوع من الصرف " أي : ممنوع من التنوين فلا نقول : في يوسف.
و﴿ يوسف وإخوته آيات للسائلين ( ٧ ) ﴾ [ يوسف ]
وهذا يعني أن ما حدث إنما يلفت لقدرة الله سبحانه ؛ فقد ألقي في الجب وأنقذ ليتربى في أرقى بيوت مصر.
ونعلم أن كلمة آية تطلق على الأمر العجيب الملفت للنظر، وهي ترد بالقرآن بثلاثة معان :
آية كونية : مثل الشمس والقمر والليل والنهار، وتلك الآيات الكونية رصيد للنظر في الإيمان بواجب الوجود وهو الله سبحانه ؛ فساعة ترى الكون منتظما بتلك الدقة المتناهية ؛ لا بد أن تفكر في ضرورة وجود خالق لهذا الكون.
والآيات العجيبة الثانية هي المعجزات الخارقة للنواميس التي يأتي بها الرسل ؛ لتدل على صدق بلاغهم عن الله، مثل النار التي صارت بردا٢ وسلاما على إبراهيم، ومثل الماء الذي انفلق وصار كالطود٣ العظيم أمام عصا موسى.
وهناك المعنى الثالث لكلمة آية، والمقصود به آيات القرآن الكريم.
وفي قول الحق سبحانه :
﴿ لقد كان في يوسف وإخوته آياته للسائلين ( ٧ ) ﴾ [ يوسف ]
نستشف العبرة من كل ما حدث ليوسف الذي كاد له إخوته ليتخلصوا منه ؛ لكن كيدهم انقلب لصالح يوسف.
وفي كل ذلك سلوى٤ لرسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ لتثبيت فؤاده ؛ فلا يعبر بالا لاضطهاد قومه له، وتآمرهم عليه، ورغبتهم في نفيه إلى الشام، ومحاولتهم قتله، ومحاولتهم مقاطعته، وقد صاروا من بعد ذلك يعيشون في ظلال كنفه.
إذن : فلا تيأس يا محمد ؛ لأن الله ناصرك بإذنه وقدرته، ولا تستبطئ نصر الله، أنت ومن معك، كما جاء في القرآن.
﴿ أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء٥ والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله ألا إن نصر الله قريب ( ٢١٤ ) ﴾ [ البقرة ]
ويبين لنا الحق سبحانه ما حدث بيوسف بعد القهر الذي أصابه من إخوته، ويمر الوقت إلى أن تتحقق رؤيا الخير التي رآها يوسف عليه السلام.
ويقال : إن رؤيا يوسف تحققت في فترة زمنية تتراوح بين أربعين سنة وثمانين عاما٦.
ولذلك نجد رؤيا الخير يطول أمد تصديقها ؛ ورؤيا الشر تكون سريعة ؛ لأن من رحمة الله أن يجعل رؤيا الشر يقع واقعا وينتهي، لأنها لو ظلت دون وقوع لأمد طويل ؛ لوقع الإنسان فريسة تخيل الشر بكل صوره.
والشر لا يأتي إلا على صورة واحدة، ولكن الخير له صور متعددة ؛ فيجعلك الله متخيلا لما سوف يأتيك من الخير بألوان وتآويل شتى.
والمثل لدعوة الشر هو دعوة موسى على آل فرعون ؛ حين قال :
﴿ ربنا اطمس٧ على أموالهم واشدد٨ على قلوبهم فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم ( ٨٨ ) ﴾ [ يونس ]
ويقول الحق سبحانه :
﴿ لقد كان في يوسف وإخوته آيات للسائلين ( ٧ ) ﴾ [ يوسف ]
فكل يوم من أيام تلك القصة هناك آية وتجمع آيات.
وهناك قراءة أخرى : " لقد كان في يوسف وإخوته آية للسائلين " أي : أن كل القصة بكل تفاصيلها وأحداثها آية عجيبة.
والحق سبحانه أعطانا في القرآن مثلا على جمع الأكثر من آية في آية واحدة، مثلما قال :﴿ وجعلنا ابن مريم وأمه آية٩.. ( ٥٥ ) ﴾ [ المؤمنون ]
مع أن كلا منهما آية منفردة.
ولك أن تنظر إلى قصة يوسف كلها على أنها آية عجيبة تشمل كل اللقطات، أو تنظر إلى كل لقطة على أنها آية بمفردها.
ويقول الحق سبحانه في آخر هذه الآية أن القصة :﴿ آيات للسائلين ( ٧ ) ﴾ [ يوسف ]
والسائلون هنا إما من المشركين الذين حرضهم اليهود١٠ على أن يسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن مسألة يوسف، وإما من المسلمين الذين يطلبون العبر من الأمم السابقة، وجاء الوحي لينزل على الرسول الأمي بتلك السورة بالأداء الرفيع المعجز الذي لا يقوى عليه بشر.
وأنت حين تقرأ السورة ؛ قد تأخذ من الوقت عشرين دقيقة، هات أنت أيّ إنسان ليتكلم ثلث ساعة، ويظل حافظا لما قاله ؛ لن تجد أحدا يفعل ذلك ؛ لكن الحق سبحانه قال لرسوله صلى الله عليه وسلم :
﴿ سنقرئك فلا تنسى ( ٦ ) ﴾ [ الأعلى ]
ولذلك نجد الرسول صلى الله عليه وسلم يحفظ ما أنزل إليه من ربه، ويمليه على صحابته ويصلي بهم ؛ ويقرأ في الصلاة ما أنزل عليه، ورغم أن في القرآن آيات متشابهات ؛ إلا أنه صلى الله عليه وسلم لم يخطئ مرة أثناء قراءته للقرآن.
والأمثلة كثيرة منها قوله الحق :
﴿ واصبر على ما أصابك إن ذلك من عزم الأمور ( ١٧ ) ﴾ [ لقمان ]
ومرة أخرى يقول :
﴿ إن ذلك لمن عزم١١ الأمور ( ٤٣ ) ﴾ [ الشورى ]
وكذلك قول الحق سبحانه :
﴿ إن المتقين في جنات وعيون ( ٤٥ ) ﴾ [ الحجر ]
وفي موقع آخر يقول الحق :
﴿ إن المتقين في جنات ونعيم ( ١٧ ) ﴾ [ الطور ]
فكيف يتأتى لبشر أمي أن يتذكر كل ذلك، لولا أن الذي أنزل عليه الوحي قد شاء له ذلك.
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك :
﴿ إذ قالوا ليوسف وأخوه أحب إلى أبينا منا ونحن عصبة١٢ إن أبانا لفي ضلال١٣ ( ٨ ) ﴾
٢ - وذلك في قوله تعالى: ﴿قالوا حرقوه وانصروا آلهتكم إن كنتم فاعلين (٦٨) قلنا يا نار كوني بردا وسلاما على إبراهيم (٦٩)﴾ [الأنبياء] والبرد: ضد الحر، والبرودة: نقيض الحرارة، قال علي بن أبي طالبي: أي لا تضر به، قال ابن عباس وأبو العالية: لولا أن الله عز وجل قال: ﴿وسلاما (٦٩)﴾ [الأنبياء] لآذى إبراهيم بردها، وقال جويبر عن الضحاك: ﴿كوني بردا وسلاما على إبراهيم (٦٩)﴾ [الأنبياء قالوا: ضعوا له حظيرة من حطب جزل وأشعلوا فيه النار من كل جانب، فأصبح ولم يصبه منها شيء حتى أخمدها الله" [انظر تفسير ابن كثير ٣/ ١٨٤]..
٣ - الطود: الجبل الثابت العالي، قال تعالى: ﴿فانفلق فكان كل فرق كالطود العظيم (٦٣)﴾ [الشعراء]..
٤ - سلأنى من همي تسلية وأسلاني أي كشفه عني، وانسلي عني الهم وتسلي بمعنى أي: انكشف. [لسان العرب- مادة: سلا].
٥ - البأساء: الفقر والشدة، قال تعالى: ﴿والصابرين في البأساء والضراء.. (١٧٧)﴾ [البقرة] في وقت الفقر والحاجة، والضراء: طول المرض أو أي شدة أو نقص الأموال والأنفس، وذلك مؤلم محزن وهو ضد السراء. [القاموس القويم ١/ ٥٣، ٢٩٢]..
٦ - "قال أبو عثمان النهدي عن سليمان: كان بين رؤيا يوسف وتأويلها أربعون سنة، وقال الحسن: كان منذ فارق يوسف يعقوب إلى أن التقيا ثمانون سنة لم يفارق الحزن قلبه ودموعه تجري على خديه" وهذا يوافق ما قاله ابن كثير في تفسيره [٢/ ٤٩١]..
٧ - طمس الشيء: تغيرت صورته أو انمحى أثره. وطمسه غيره: شوهه أو محاه وأزاله، وطمس عينه: أعماها، وطمس على عينه: أعماها مضمنة معنى غطى وغشى عليها: قال تعالى: ﴿ولو نشاء لطمسنا على أعينهم..(٦٦)﴾ [يس][القاموس القويم ١/ ٤٠٦ باختصار]..
٨ - شده: قواه، وشد الحبل: ربطه ربطا محكما، وشد أسره: قوى قيده وأحكم وثاقه فلا يفلت منه أبدا، أي: أحكم السيطرة عليه. ﴿وشددنا أسرهم..(٢٨)﴾ [الإنسان] أي: أحكمنا وثاقهم وسيطرنا عليهم، وقوله: ﴿وشددنا ملكه..(٢٠)﴾ [ص] أي: قويناه. [القاموس القويم ١/ ٣٤٣، ٣٤٤ بتصرف]..
٩ -أي: أنه سبحانه جعلها آية للناس، أي حجة قاطعة على قدرته على ما يشاء، فإنه خلق آدم من غير أب ولا أم، وخلق حواء من ذكر بلا أنثى، وخلق عيسى من أنثى بلا ذكر، وخلق بقية الناس من ذكر وأنثى. قاله ابن كثير في تفسيره لهذه الآية [٣/٢٤٦]..
١٠ - قال القرطبي في تفسيره [٤/ ٣٤٥٠]: "أي: لقد كان للذين سألوا عن خبر يوسف آية فيما خبروا به، لأنهم سألوا النبي صلى الله عليه وسلم وهو بمكة فقالوا: أخبره عن رجل من الأنبياء كان بالشام أخرج ابنه إلى مصر، فبكى عليه حتى عمى؟- ولم يكن بمكة أحد من أهل الكتاب، ولا من يعرف خبر الأنبياء. وإنما وجه اليهود من المدينة يسألون عن هذا- فأنزل الله عز وجل سورة "يوسف" جملة واحدة، فيها كل ما في التوراة من خبر وزيادة، فكان ذلك آية للنبي صلى الله عليه وسلم بمنزلة إحياء عيسى بن مريم عليه السلام الميت"..
١١ - عزم الأمر: من المجاز أي نفذ بعزيمة قوية من صاحبه، قال تعالى: ﴿فإذا عز الأمر..(٢١)﴾ [محمد] فعل لازم أيك نفذ وتقرر وثبت بعزيمة قوية منكم، ـوقال تعالى: ﴿وإن عزموا الطلاق (٢٢٧)﴾ [البقرة] أي: عقدوا النية على إتمامه. وقال تعالى: ﴿فإن ذلك من عزم الأمور (١٨٦)﴾ [آل عمران] أي: من الأمور الجادة الرشيدة التي لا يجوز التردد فيها أو من الأمور العظيمة التي يفعله أصحاب العزم القوي [القاموس القويم ٢/ ٢٠]..
١٢ -العصبة: الجماعة المترابطة، قال تعالى عن إخوة يوسف قولهم: ﴿ونحن عصبة..(٨)﴾ [يوسف]، عصبه: ربطه ربطا شديدا، وقوله: ﴿هذا يوم عصيب(٧٧)﴾ [هود] أي شديد العصب يعصب الناس ويضيق عليهم أو شديد الحر، شديد الهول [القاموس القويم ٢/ ٢٢]..
١٣ - الضلال: النسيان والضياع، وقد يطلق الضلال على عمل خلاف الأولى كقوله في قصة يوسف: ﴿إنك لفي ضلالك القديم (٩٥)﴾ [يوسف] أي: شدة تعلقك بيوسف وحزنك عليه فهو في نظرهم ضلال. [القاموس القويم: ١/ ٣٩٥]..
وتبدأ الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها :
﴿ إذ قالوا ليوسف وأخوه أحب إلى أبينا منا.. ( ٨ ) ﴾ [ يوسف ]
وحرف اللام الذي سبق اسم يوسف جاء للتوكيد، وكأنهم قالوا : والله إن أبانا يحب يوسف وأخاه أكثر من حبه لنا، والتوكيد لا يأتي إلا بصدد إنكار.
وهذا يدل على أنهم مختلفون في أمر يوسف عليه السلام ؛ فأحدهم يريد ان ينتقم من يوسف، وآخر يقترح تخفيف المسألة بإلقائه في الجب٢ ؛ ثم انتهوا إلى أن يوسف أحب إلى أبيهم منهم.
وفي قوله لمحة من إنصاف ؛ فقد أثبتوا حب أبيهم لهم ؛ ولكن قولهم به بعض من غفلة البشر ؛ لأنهم كان يجب أن يلتمسوا سبب زيادة حب أبيهم ليوسف وأخيه.
فيوسف وأخوه كانوا صغارا وماتت أمهما٣ ؛ ولم يعد لهم إلا الأب الذي أحس بضرورة أن يجتمع فيه تجاههما حنان الأب وحنان الأم ؛ ولأنهما صغار نجد الأب يحنو عليهما بما أودعه الله في قلبه من قدرة على الرعاية.
وهذا أمر لا دخل ليعقوب فيه ؛ بل هي مسألة إلهية أودعها الله في القلوب بدون اختيار ؛ ويودعها سبحانه حتى في قلوب الحيوانات.
وقد شاء سبحانه أن يجعل الحنان على قدر الحاجة ؛ فالقطة- على سبيل المثال- إن اقترب أحد من صغارها المولودين حديثا ؛ تهجم على هذا الذي اقترب من صغارها.
ولذلك نجد العربي القديم قد أجاء على من سأله " أي أبنائك أحب إليك ؟ " فقال : " الصغير حتى يكبر ؛ والغائب حتى يعود، والمريض حتى يشفى ".
وهذه مسألة نراها في حياتنا اليومية، فنجد امرأة لها ولدان، واحد أكرمه الله بسعة الرزق ويقوم بكل أمورها واحتياجاتها ؛ والآخر يعيش على الكفاف٤ أو على مساعدة أخيه له ؛ ونجد قلبها دائما مع الضعيف.
ولذلك نقول : إن الحب مسألة عاطفية لا تخضع إلى التقنين ؛ ولا تكليف بها ؛ وحينما يتعرض القرآن لها فالحق سبحانه يوضح : أن الحب والبغض انفعالات طبيعية٥ ؛ فأحبب من شئت وأبغض من شئت ؛ ولكن إياك أن تظلم الناس لمن أحببت ؛ أو تظلم من أبغضت.
اقرأ قول الحق سبحانه :
﴿ ولا يجرمنكم٦ شنآن٧ قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى ( ٨ ) ﴾ [ المائدة ]
فأحبب من شئت، وأبغض من شئت، ولكن لا تظلم بسبب الحب أو البغض.
وقد يقول قائل : ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم قال :( لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من نفسه ).
نقول : اقرأ ما جاء في نفس رواية الحديث ؛ فقد قال عمر رضي الله عنه –بوضوحه وصراحته وجراءته ؛ دون نفاق- أحبك يا رسول الله من مالي وعن ولدي أما عن نفسي ؛ فلا، فكرر النبي صلى الله عليه وسلم قوله :
( لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من نفسه )٨.
ففطن عمر رضي الله عنه إلى أن الأمر هو التزام عقدي وتكليفي ؛ وفهم أن المطلوب هو حب العقل ؛ لا حب العاطفة.
وحب العقل –كما نعلم- هو أن تبصر الأمر النافع وتفعله ؛ مثلما تأخذ الداء المر ؛ وأنت تفعل ذلك بحب عقلي ؛ رغبة منك في أن يأذن الحق بالشفاء.
والمسلم يحب رسول الله صلى الله عليه وسلم بعقله ؛ لأنه يعلم أنه لولا مجيء رسول الله لما عرف حلاوة الإيمان، وقد يتسامى٩ المسلم في حب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أن يصير حب الرسول في قلبه حبا عاطفيا.
وهكذا نرى أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قد أوضح لنا الخطوط الفاصلة بين مبادئ الحب العقلي والحب العاطفي.
والمثال الآخر من سيرة عمر رضي الله عنه في نفس المسألة ؛ حب العقل وحب العاطفة ؛ حين مر عليه قاتل أخيه ؛ فقال واحد ممن يجلسون معه : هذا قاتل أخيك، فقال عمر : وماذا أفعل به وقد هداه الله للإسلام ؟
وصرف عمر وجهه بعيدا عن قاتل أخيه ؛ فجاء القاتل إليه قائلا : لماذا تزوي وجهك عني ؟ قال عمر : لأني لا أحبك، فأنت قاتل أخي، فقال الرجل : أو يمنعني عدم حبك لي من أي حق من حقوقي ؟ قال عمر : لا. فقال الرجل : " لك أن تحب من تريد، وتكره من تريد، ولا يبكي على الحب إلا النساء ".
وكان على إخوة يوسف أن ينتبهوا إلى أن حب والدهم ليوسف وأخيه هو انفعال طبيعي لا يؤاخذ به الأب ؛ لأن ظروف الولدين حتمت عليه أن يحبهم مثل هذا الحب.
وتستمر القصة بما فيها من تصعيد للخير وتصعيد للشر ؛ ولسائل أن يسأل : ولماذا انصب غضبهم على يوسف وحده ؟
ويقال : إنهم لم يرغبوا أن يفجعوا١٠ أباهم في الاثنين- يوسف وأخيه- أو أن شيئا من رؤيا يوسف تسرب إليهم.
ومن العجيب أن يقولوا بعد ذلك :﴿ ونحن عصبة.. ( ٨ ) ﴾ [ يوسف ]
والعصبة من عدد عشرة فما فوق ؛ والعصبة أيضا هم المتكاتفون المتعصبون لبعضهم البعض ؛ وهم الذين يقومون بالمصالح ويقضون الحاجات ؛ وقد تقاعد أبوهم ؛ وترك لهم إدارة أعمال العائلة.
وقالوا : " ما دمنا نقوم بمصالح العائلة، فكان من الواجب أن يخصنا أبونا بالحب " ولم يلتفتوا إلى أنهم عصبة، وهذا ما جعل الأب يحبهم، لكنه أعطى من ليسوا عصبة مزيدا من الرعاية، ولكنهم سدروا١١ في غيهم١٢، ووصلوا إلى نتيجة غير منطقية وهي قولهم :
﴿ إن أبانا لفي ضلال مبين ( ٨ ) ﴾ [ يوسف ]
وهذا القول هو نتيجة لا تنسجم مع المقدمات، فيوسف وأخوه طفلان ماتت أمهما، ولا بد أن يعطف عليهم الأب ؛ وحبه لهما لم يمنع حبه للأبناء الكبار القادرين على الاعتماد على أنفسهم.
وحين يقولون :
﴿ إن أبانا لفي ضلال مبين ( ٨ ) ﴾ [ يوسف ]
قد يفهم بعض الناس كلمة " ضلال " هنا بالمعنى الواسع لها.
نقول : لا ؛ هناك ضلالا مقصودا، وهو أن يعرف طريق الحق ويذهب إلى الباطل، وهذا ضلال مذموم.
وهناك ضلال غير مقصود، مثل : ضلال رجل يمشي فيسلك طرقا لا يعرفها فيضل عن مقصده ؛ ومثل من ينسى شيئا من الحق.
وسبحانه القائل :
﴿ أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى.. ( ٢٨٢ ) ﴾ [ البقرة ]
وسبحانه القائل أيضا :
﴿ ووجدك ضالا فهدى ( ٧ ) ﴾ [ الضحى ]
إذن : فالضلال المذموم هو أن تعرف طريق الحق، وتذهب إلى الضلال.
وهكذا أخطأ إخوة يوسف في تقدير أمر حب أبيهم ليوسف وأخيه ؛ ووصلوا إلى نتيجة ضارة ؛ لأن المقدمات التي أقاموا عليها تلك النتيجة كانت باطلة ؛ ولو أنهم محّصوا المقدمات تمحيصا دقيقا لما وصلوا إلى النتيجة الخاطئة التي قالوها :
﴿ إن أبانا لفي ضلال مبين ( ٨ ) ﴾ [ يوسف ]
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك ما جاء على ألسنة إخوة يوسف :
﴿ اقتلوا يوسف أو اطرحوه١٣ أرضا يخل١٤ لكم وجه أبيكم وتكونوا من بعده قوما صالحين ( ٩ ) ﴾
٢ - الجب: البئر التي لم تبن بالحجارة، قال الليث: هي البئر غير البعيدة، وقال الفراء: بئر مجببة الجوف إذا كان وسطها أوسع شيء منها مقببة. [لسان العرب- مادة: جبب]..
٣ - ماتت أمهما راحيل في نقاس بنيامين، ذكره القرطبي في تفسيره..
٤ - الكفاف: أي ليس في نفقته فضل إنما عنده ما يكفه عن الناس، قال الجوهري: كفاف الشيء بالفتح مثله وقيسه، والكفاف أيضا من الرزق: القوت وهو ما كف عن الناس أي أغنى فهو لا يفضل عن الشيء ويكون بقدر الحاجة إليه. [لسان العرب-مادة: كفف]..
٥ -الطبع والطبيعة: الخليقة والسجية التي جبل عليها الإنسان، الطباع: كالطبيعة، مؤنثة [لسان العرب- مادة: طبع]..
٦ - جرم الشيء، جرما: قطعه وغلب على فعل الشر. يقال: جرم: أذنب وجنى وجناية وجرم المال: كسبه من أي وجه، وجرمه: حمله على فعل شر أو ذنب وجرم. قال تعالى" ﴿ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا..(٨)﴾ [المائدة] أي: لا يحملنكم بغض قوم على عدم العدل، أي: التزموا العدل حتى مع من تكرهونهم، أي: اعدلوا دائما فالعدل أقرب للتقوى. [القاموس القويم ١/١٢١]..
٧ - شنآه وشنئه شنئا وشنأة وشنآنا: أبغضه وكرهه قال تعالى: ﴿ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى (٨)﴾ [المائدة] وشانيء: اسم فاعل، قال تعالى: ﴿إن شانئك هو الأبتر (٣)﴾ [الكوثر] أي: مبغضك وكارهك [القاموس القويم ١/ ٣٥٧]..
٨ - عن جد زهرة بن معبد قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم هو آخذ بيد عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه فقال: والله يا رسول الله، لأنت أحب إلي من كل شيء إلا نفسي فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (والذي نفسي بيده، لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من نفسه) قال: فأنت الآن والله أحب إلي من نفسي. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الآن يا عمر) أخرجه أحمد في مسنده [٤/ ٣٣٦].
٩ - السمو: الارتفاع والعلو، سما الشيء يسمو سموا" ارتفع، وتساموا: تباروا وتساميها: تباريها وتفاخرها، والتسامي: الرفعة والارتقاء [لسان العرب- مادة: سما} بتصرف..
١٠ - الفجيعة: الرزية الموجعة، فجعته المصيبة: أوجعته، والفواجع: المصائب المؤلمة التي تفجع الإنسان بما يعز عليه من مال أو حميم، الواحدة فاجعة [لسان العرب- مادة: فجع]..
١١ السادر: المتحير، وهو أيضا الذي لا يهتم لشيء ولا يبالي ما صنع [لسان العرب- مادة: سدر]..
١٢ -الغي: الضلال والخيبة: غوى: ضل، والغواية: الانهماك في الغي، والغوى: شديد الضلالة والغواية، وأغواه: أضله وأوقعه في الغي والضلال. [القاموس القويم ٢/ ٦٤]..
١٣ - طرح الشيء وطرح به: رماه، والطرح بالتحريك: البعد والمكان البعيد، قال تعالى: ﴿أو اطرحوه أرضا..(٩)﴾ [يوسف] أي: ألقوه في أرض البعيد [القاموس القويم ١/ ٣٩٩]..
١٤ - خلا فلان إلى فلان: فرغ له ولم يشتغل عنه بغيره، قال تعالى على لسان إخوة يوسف: ﴿يخل لكم وجه أبيكم..(٩)﴾ [يوسف] أي: يفرغ لكم والدكم ويتجه إليكم بكل عنايته ولا يشتغل عنكم بأحد غيركم. [القاموس القويم ١/ ٢٠٩].
فكأنهم خافوا من إثم القتل ؛ وظنوا بذلك أنهم سينفردون بحب أبيهم ؛ لأنهم قالوا :﴿ يخل لكم وجه أبيكم.. ( ٩ ) ﴾ [ يوسف ]
والوجه هو الذي تتم به المواجهة والابتسام والحنان، وهو ما تظهر عليه الانفعالات.
والمقصود ب :﴿ يخل لكم وجه أبيكم... ( ٩ ) ﴾ [ يوسف ]
هو ألا يوجد عائق بينكم وبين أبيهم.
وقولهم :﴿ وتكونوا من بعده قوما صالحين ( ٩ ) ﴾ [ يوسف ]
أي : أنهم يقدرون الصلاح ؛ ويعرفون أن الذي فكروا فيه غيره مقبول بموازين الصلاح ؛ لذلك قالوا : إنهم سيتوبون من بعد ذلك.
ولكن : ما الذي أدراهم أنهم سوف يعيشون إلى أن يتوبوا ؟ وهم بقولهم هذا نسوا أن أمر الموت قد أبهم حتى لا يرتكب أحد المعاصي والكبائر.
أو : أن يكون المقصود ب :﴿ قوما صالحين ( ٩ ) ﴾ [ يوسف ]
هو أن يكونوا صالحين لحركة الحياة، ولعدم تنغيص١ علاقتهم بأبيهم ؛ فحين يخلو لهم وجهه ؛ سيرتاحون إلى أن أباهم سيعدل بينهم، ويهبهم كل حبه فيرتاحون.
أو أن يكون المقصود ب ﴿ قوما صالحين ( ٩ ) ﴾ [ يوسف ]
أن تلك المسألة التي تشغل بالهم وتأخذ جزءا من تفكيرهم إذا ما وجدوا لها حلا ؛ فسيرتاح بالهم فينصلح حالهم لإدارة شؤون دنياهم.
وهكذا نفهم أن سعيهم إلى الصلاح : منوط بمراداتهم في الحياة، بحسب مفهومهم للصلاح والحياة.
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك :
﴿ قال قائل منهم لا تقتلوا يوسف وألقوه في غيابة٢ الجب يلتقطه بعض السيارة٣ إن كنتم فاعلين( ١٠ ) ﴾
٢ - غيابة الجب: ما غاب من جوانبه عن النظر ويستر ما اختبأ فيه، قال تعالى: ﴿وألقوه في غيابة الجب...(١٠)﴾ [يوسف] وقرئ غيابات بالجمع، [القاموس القويم ٢/ ٦٥] وغيابة كل شيء: قعره، ووقعوا في غيابة من الأرض، أي: في منهبط منها. [لسان العرب- مادة: غيب]..
٣ - السيار: الكثير السير، والسيارة الجماعة السائرة المسافر، قال تعالى: ﴿وجاءت سيارة..(١٩)﴾ [يوسف]، وقوله: ﴿متاعا لكم وللسيارة..(٩٦)﴾ [المائدة] أي: للمسافرين، [القاموس القويم ١/٣٤٠]..
ولم يحدد الحق سبحانه لنا اسم القائل حتى يعصمهم جميعا من سوء الظن بهم.
والجب هو البئر غير المطوي١ ؛ ونحن نعلم أن الناس حين تحفر بئرا، فمياه البئر تتدفق طوال الوقت ؛ وقد يأتي الردم فيسد البئر ؛ ولذلك يبنون حول فوهة البئر بعضا من الطوب لحمايته من الردم ؛ ويسمون مثل هذا البئر " بئر مطوي "، وهكذا تظل المياه في البئر في حالة استطراق.
وكلمة :﴿ غيابة الجب ( ١٠ ) ﴾ [ يوسف ]
أي : المنطقة المخفية في البئر ؛ وعادة ما تكون فوق الماء ؛ وما فيها يكون غائبا من العيون.
ولسائل أن يقول : وكيف يتأتى إلقاؤه في مكان مخفي مع قول أحد الإخوة :﴿ يلتقطه بعض السيارة ( ١٠ ) ﴾ [ يوسف ]
ونقول : إن في مثل هذا القول تنزيلا لدرجة الشر التي كانت متوقدة في اقتراح بعضهم بقتل يوسف ؛ وفي هذا الاقتراح تخفيض لمسألة القتل أو الطرح أرضا.
وبعد ذلك عاد القائل٢ لحالته العادية، وصحت فيه عاطفة الأخوة ؛ وقال :
﴿ إن كنتم فاعلين ( ١٠ ) ﴾ [ يوسف ]
أي : أنه توقع عدم رفضهم لاقتراحه.
وهكذا يشرح لنا الحق سبحانه كيف تمت تصفية هذه المسألة ؛ فلم يقف صاحب هذا الرأي بالعنف ضد اقتراح إخوته بقتل يوسف أو طرحه في الأرض ؛ بل أخذ يستدرجهم ليستلّ منهم ثورة الغضب ؛ فلم يقل لهم " لا تقتلوه "، ولكنه قال : " لا تقتلوا يوسف ".
وفي نطقه للاسم تحنين لهم.
ويضيف :
﴿ وألقوه في غيابة الجب يلتقطه٣ بعض السيارة إن كنتم فاعلين ( ١٠ ) ﴾ [ يوسف ]
وكأنه يأمل في أن يتراجعوا عن مخططهم.
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك :
﴿ قالوا يا أبانا ما لك لا تأمنا على يوسف وإنا له لناصحون ( ١١ ) ﴾
٢ - قال القرطبي في تفسيره [٤/ ٣٤٥٢]: "القائل هو يهوذا، وهو أكبر ولد يعقوب، قاله ابن عباس، وقيل: روبيل، وهو ابن خالته، وقيل: شمعون"..
٣ - التقط الشيء ولقطه: أخذه ليصونه أو لغرض آخر، ولا يلتقط الإنسان إلا ما يراه نافعا، قال تعالى: ﴿فالتقطه آل فرعون...(٨)﴾ [القصص] فأخذوه ظنا منهم أنه مفيد نافع لهم. وكذلك قوله ﴿يلتقطه بعض السيارة..(١٠)﴾ [يوسف] يأخذه بعض المسافرين لينتفعوا به وليصونوه، [القاموس القويم ٢/ ١٩٨]..
﴿ يا أبانا ما لك لا تأمنا على يوسف.. ( ١١ ) ﴾ [ يوسف ]
وساعة تسمع قول جماعة ؛ فاعلم أن واحدا منهم هو الذي قال، وأمن الباقون على كلامه ؛ إما سكوتا أو بالإشارة.
ولكي يتضح ذلك اقرأ قول الحق سبحانه عن دعاء موسى عليه السلام على فرعون وكان معه هارون.
قال موسى عليه السلام :
﴿ ربنا اطمس١ على أموالهم واشدد٢ على قلوبهم فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم ( ٨٨ ) ﴾ [ يونس ]
ورد الحق سبحانه على دعاء موسى :
﴿ قد أجيبت دعوتكما.. ( ٨٩ ) ﴾ [ يونس ]
والذي دعا هو موسى، والذي أمن على الدعوة هو هارون عليه السلام.
وهكذا نفهم أن الذي قال :
﴿ يا أبانا ما لك لا تأمنا على يوسف وإنا له لناصحون ( ١١ ) ﴾ [ يوسف ]
تلك الكلمات التي وردت في الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها، هو واحد من إخوة يوسف، وأمن بقية الإخوة على كلامه.
وقولهم :﴿ ما لك لا تأمنا على يوسف وإنا له لناصحون ( ١١ ) ﴾ [ يوسف ]
يدل أنه كانت هناك محاولات سابقة منهم في ذلك، ولم يوافقهم الأب.
وقولهم :﴿ وإنا له لناصحون ( ١١ ) ﴾ [ يوسف ]
يعني أنهم سوف ينتبهون له، ولن يحدث له ضرر أو شر ؛ وسيعطونه كل اهتمام فلا داعي أن يخاف عليه الأب.
ويستمر عرض ما جاء على لسان إخوة يوسف :
﴿ أرسله معنا غدا يرتع٣ ويلعب وإنا له لحافظون ( ١٢ ) ﴾
٢ - شد الحبل: ربطه ربطا محكما وشد أسره: قوى قيده وأحكم وثاقه فلا يفلت منه أبدا، أي أحكم السيطرة عليه، ﴿وشددنا أسرهم...(٢٨)﴾ [الإنسان] أي: أحكمنا وثاقهم وسيطرنا عليهم. وقوله: ﴿وشددنا ملكه..(٢٠)﴾ [ص] أي: قويناه، وقوله: ﴿واشدد على قلوبهم..(٨٨)﴾ [يونس] أي: أحكم الغطاء واربطه بقوة على قلوبهم وهو دعاء عليهم. [القاموس القويم] ١/ ٣٤٤..
٣ - رتع يرتع: أكل وشرب كما يشاء في خصب وسعة، وأصله: أكل البهائم ويستعار للإنسان إذا أطلق لشهوات بطنه العنان. [القاموس القويم ١/ ٢٥٤]..
ويفضل الشرع أن يكون اللعب في مجال قد يطلبه الجد مستقبلا ؛ كأن يتعلم الطفل السباحة، أو المصارعة، أو إصابة الهدف ؛ وهي الرماية١ وهكذا نفهم معنى اللعب : إنه شغل لا يلهي عن واجب، أما اللهو٢ فهو شغل يلهي عن واجب.
وهناك بعض من الألعاب يمارسها الناس ؛ ويجلسون معا ؛ ثم يؤذن المؤذن ؛ ويأخذهم الحديث ؛ ولا يلتفتون إلى إقامة الصلاة في ميعادها ؛ وهكذا يأخذهم اللهو عن الضرورة ؛ أما لو التفتوا إلى إقامة الصلاة ؛ لصار الأمر مجرد تسلية لا ضرر منها.
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك :
﴿ قال إني ليحزنني أن تذهبوا به وأخاف أن يأكله الذئب وأنتم عنه غافلون ( ١٣ ) ﴾
٢ - لها يلهو لهوا: تسلى وشغل نفسه بما فيه لذتها وسرورها، أو تسلى بما لا يفيده، قال تعالى: ﴿قل ما عند الله خير من اللهو ومن التجارة..(١١)﴾ [الجمعة] واللهو هنا: الغناء والطبل والزمر الذي كان يصاحب عودة التجار وقت الصلاة. [القاموس القويم ٢ /٢٠٥]..
﴿ وأخاف أن يأكله الذئب وأنتم عنه غافلون ( ١٣ ) ﴾ [ يوسف ]
وقال بعض الناس١ : لقد علمهم يعقوب الكذبة ؛ ولولا ذلك ما عرفوا أن يكذبوها.
ونلحظ أن يعقوب جعل للأخوة لحظا ؛ فلم يقل : " أخاف أن يأكله الذئب وأنتم قاعدون " بل قال :
﴿ وأخاف أن يأكله الذئب وأنتم عنه غافلون ( ١٣ ) ﴾ [ يوسف ]
وهذا ليربي فيهم مواجيد الأخوة التي تفترض ألا يتصرفوا مع أخيهم بشر ؛ ولا أن يتصرف غيرهم معه بشر إلا إذا غفلوا عن أخيهم.
ولنحظ في ردهم عجزهم عن ان يردوا على قوله :
﴿ إني ليحزنني أن تذهبوا به.. ( ١٣ ) ﴾ [ يوسف ]
فهذا الحب من يعقوب ليوسف هو الذي دفعهم إلى الحقد على يوسف، وردوا فقط على خوفه من أن يأكله الذئب، وجاء القرآن بما قالوه :
﴿ قالوا لئن أكله الذئب ونحن عصبة إنا إذا لخاسرون( ١٤ ) ﴾
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك :
﴿ فلما ذهبوا به وأجمعوا٢ أن يجعلوه في غيابة الجب وأوحينا إليه لتنبئهم بأمرهم هذا وهم لا يشعرون ( ١٥ ) ﴾
٢ - جمع أمره: عزم عليه أو أحكمه، قال تعالى: ﴿فتولى فرعون فجمع كيده ثم أتى (٦٠)﴾ [طه] أي: عزم عليه وأحكمه، وأجمع القوم على أمر: اتفقوا عليه، وأجمع الأمر: عزم عليه وأحكمه، قال تعالى: ﴿فأجمعوا كيدكم ثم ائتوا صفا..(٦٤)﴾ [طه] وقال تعالى: ﴿وأجمعوا أن يجعلوه في غيابة الجب..(١٥)﴾ [يوسف] أي: اتفقوا. [القاموس القويم ١/ ١٢٧]..
وقوله الحق :
﴿ وأجمعوا أن يجعلوه في غيابة الجب.. ( ١٥ ) ﴾ [ يوسف ]
يدلنا على أن تلك المسألة أخذت منهم مناقشة، فيها أخذ ورد، إلى أن استقروا عليها٢.
وألهم الحق سبحانه يوسف عليه السلام بما سوف يفعلونه، والوحي كما نعلم هو إعلام بخفاء.
وسوف يأتي في القصة أن يوسف عليه السلام بعد أن تولى الوزارة في مصر ودخلوا عليه أمسك بقدح ونقر عليه بأصابعه، وقال لهم : اسمعوا ما يقوله القدح ؛ إنه يقول : إن لكم أخا وقد فعلتم به كذا وكذا٣.
وبعض المفسرين قال : إن الحق سبحانه أوحى له، ولم يلحظ إخوته هذا الوحي.
ونقول : إن الوحي إعلام بخفاء، ولا يمكن أن يشعر به غير الموحى إليه، وعلى ذلك نرى أنهم لهم يعلموا هذا الأمر إلا بعد أن تولى يوسف مقاليد الوزارة في مصر ؛ بل إنهم لم يعرفوا أن يوسف أخوهم ؛ لأنهم قالوا له لحظتها :
﴿ إن يسرق فقد سرق٤ أخ له من قبل... ( ٧٧ ) ﴾ [ يوسف ]
والمقصود بالوحي في هذه الآية –التي نحن بصدد خواطرنا عنها- هو إيناس الوحش ؛ وهو وارد إلهي لا يرده وارد الشيطان ؛ والإلهام وارد بالنسبة لمن هم غير أنبياء ؛ مثلما أوضحنا الأمر الذي حدث مع أم موسى حين أوحى لها الله أن تلقيه في اليم٥.
والوارد الإلهي لا يجد له معارضة في النفس البشرية، وقد أوحى الله ليوسف ما يؤنس وحشته٦ حين ألقاه إخوته في الجب الذي ابتعد فيه عن حنان أبيه وأنسه بأخيه، ومفارقته لبلده التي درج٧ فيها وأنسه بالبيئة التي اعتاد عليها.
فكان لا بد أن تعطيه السماء دليلا على أن ما حدث له ليس جفوة لك يا يوسف ؛ لكنه إعداد لك لتقابل أمرا أهم من الذي كنت فيه ؛ وأن غرماءك- وهم إخوتك- سوف يضطرون لدق بابك ذات يوم يطلبون عونك، ويطلبون منك أقواتهم، وستعرفهم أنت دون أن يعرفوك.
هذا من جهة يوسف ؛ وجهة الجب الذي ألقوه فيه، وبقى أن تعالج القصة أمر الإخوة مع الأب، فيقول الحق سبحانه بعد ذلك :
﴿ وجاءوا أباهم عشاء يبكون ( ١٦ ) ﴾
٢ - ذكر القرطبي في هذا أن يعقوب عليه السلام لما أرسله معهم أخذ عليهم ميثاقا غليظا ليحفظنه، وسلمه إلى روبيل وقال: يا روبيل إنه صغير وتعلم يا بني شفقتي عليه، فإن جاع فأطعمه، وإن عطش فاسقه، وإن أعيا فاحمله، ثم عجل برده إلي. قال: فأخذوه يحملونه على أكتافهم، لا يضعه واحد إلا رفعه آخر [انظر: تفسير القرطبي ٤/ ٣٤٦٢]..
٣ - أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "لما دخل إخوة يوسف على يوسف فعرفهم وهم له منكرون، جيء بالصواع فوضعه على يده، ثم نقره فطن فقال: إني ليخبرني هذا الجام أنه كان لكم أخ من أبيكم يقال له يوسف، يدين دينكم وأنكم انطلقتم به فألقيتموه في غيابة الجب، فأتيتم أباكم فقلتم: إن الذئب أكله وجئتم على قميصه بدم كذب، فقال بعضهم لبعض: إن هذا الجام ليخبره خبركم" [أورده السيوطي في الدر المنثور ٤/ ٥١١]..
٤ - يقصدون يوسف عليه السلام. قال سعيد بن جبير عن قتادة: كان يوسف عليه السلام قد سرق صنما لجده أبي أمه فكسره، وقال محمد بن إسحاق عن عبد الله بن أبي نجيح عن مجاهد قال: كان أول ما دخل على يوسف من البلاء –فيما بلغني- أن عمته ابنة إسحاق وكانت أكبر ولد إسحاق وكانت عندها منطقة إسحاق وكانوا يتوارثونها بالكبر وكان من اختبأها ممن وليها كان له سلما لا ينازع فيه يصنع فيه ما يشاء وكان يعقوب حين ولد له يوسف قد حضنته عمته وكان لها به وله فلم تحب أحدا حبها إياه حتى إذا ترعرع وبلغ سنوات تاقت إليه نفس يعقوب فأتاها فقال: يا أخية سلمى إلي يوسف فوالله ما أقدر على أن يغيب عني ساعة قالت: فوالله ما أنا بتاركته ثم قالت: فدعه عندي أياما أنظر إليه وأسكن عنه لعل ذلك يسليني عنه أو كما قالت فلما خرج من عندها يعقوب عمدت إلى منطقة إسحاق فحزمتها على يوسف من تحت ثيابه ثم قالت: فقدت منطقة إسحاق عليه السلام فانظروا من أخذها ومن أصابها؟ فالتمست ثم قالت: اكشفوا أهل البيت فكشفوهم فوجدوا مع يوسف فقالت: والله إنه لي لسلم انصع فيه ما شئت، فأتاها يعقوب فأخبرته الخبر فقال لها: أنت وذاك إن كان فعل ذلك فهو سلم لك، ما أستطيع غير ذلك، فأمسكته فما قدر عليه يعقوب حتى ماتت" راجع تفسير ابن كثير ٢/ ٤٨٦]..
٥ - يقول تعالى: ﴿إذ أوحينا إلى أمك ما يوحى (٣٨) أن اقذفيه في التابوت فاقذفيه في اليم فليقه اليم بالساحل..(٣٩)﴾ [طه]..
٦ - ومما ورد في هذا ما نقله القرطبي في تفسيره [٤/ ٣٤٦٥]: "قال الضحاك: نزل جبريل عليه السلام على يوسف وهو في الجب فقال له: ألا أعلمك كلمات إذا أنت قلتهن عجل الله خروجك من هذا الجب؟ فقال: نعم، فقل له: قل يا صانع كل مصنوع، ويا جابر كل كسير، ويا شاهد كل نجوى، ويا حاضر كل ملأ، ويا مفرج كل كربة، ويا صاحب كل غريب، ويا مؤنس كل وحيد، ايتني بالفرج والرجاء، واقذف رجاءك في قلبي حتى لا أرجو أحدا سواك.
فرددها يوسف في ليلته مرارا، فأخرجه الله في صبيحة يومه ذلك من الجب"..
٧ - يقال للصبي إذا دب وأخذ في الحركة: درج، ودرج الشيخ والصبي يدرج فهو دارج: مشيا مشيا ضعيفا ودبا. [لسان العرب- مادة: درج]..
هذا هو الانفعال النفسي الذي لا تستطيع فطرة أن تثبته ؛ فقالوا : نؤخر اللقاء لأبينا إلى العشاء : والعشاء محل الظلمة، وهو ستر للانفعالات التي توجد على الوجوه من الاضطراب ؛ ومن مناقضة كذب ألسنتهم ؛ لأنهم لن يخبروا الأب بالواقع الذي حدث ؛ بل بحديث مختلق٢.
وقد تخدعهم حركاتهم، ويفضحهم تلجلجهم، وتنكشف سيماهم الكاذبة أمام أبيهم ؛ فقالوا : الليل أخفى للوجه من النهار، وأستر للفضائح ؛ وحين ندخل على أبينا عشاء ؛ فلن تكشفنا انفعالاتنا.
وبذلك اختاروا الظرف الزمني الذي يتوارون فيه من أحداثهم :
﴿ وجاءوا أباهم عشاء يبكون ( ١٦ ) ﴾ [ يوسف ]
والبكاء انفعال طبيعي غريزي فطري ؛ ليس للإنسان فيه مجال اختيار ؛ ومن يريد أن يفتعله فهو يتباكى، بأن يفرك عينيه، أو يأتي ببعض ريقه ويقربه من عينيه، ولا يستر ذلك إلا أن يكون الضوء خافتا ؛ لذلك جاءوا أباهم عشاء يمثلون البكاء٣.
والحق سبحانه حينما تكلم عن الخصائص التي أعطاها لذاته، ولم يعطها لأحد من خلقه ؛ أعلمنا أنه سبحانه هو الذي يميت ويحي، وهو الذي يضحك ويبكي.
والحق سبحانه هو القائل :
﴿ وأنه هو أضحك وأبكى ( ٤٣ ) وأنه هو أمات وأحيا ( ٤٤ ) ﴾ [ النجم ]
ولا يوجد فرق بين ضحك أو بكاء إنسان إنجليزي وآخر عربي ؛ ولا يوجد فرق بين موت أو ميلاد إنسان صيني وآخر عربي أو فرنسي ؛ فهذه خصائص مشتركة بين كل البشر.
وإذا ما افتعل الإنسان الضحك ؛ فهو يتضاحك ؛ وإذا ما افتعل الإنسان البكاء فهو يتباكى ؛ أي : يفتعل الضحك أو البكاء، والذي يفضح كل ذلك هو النهار.
والتاريخ يحمل لنا الكثير من الحكايات عن اتخاذ الليل كستار للمواقف ؛ والمثل في سيدنا الحسين رضي الله عنه وأرضاه ؛ حين جاءت موقعة كربلاء، ورأى العدى وقد أحاطه به ؛ ورأى الناس وقد انفضوا عنه بعد أن دعوه ليبايعوه، ولم يبق معه إلا قلة ؛ وعزت عليه نفسه ؛ وعز عليه أن يقتل هؤلاء في معركة غير متكافئة صمم هو على دخولها.
فلما أقبل الليل دعا أصحابه وقال لهم :
" إن كنتم قد استحييتم أن تفروا عني نهارا، فالليل جاء وقد ستركم، فمن شاء فليذهب واتركوني " ٤.
٢ -خلق الكذب والإفك يخلقه وتخلقه واختلقه وافتراه: ابتدعه، الاختلاق: الكذب، وهو افتعال من الخلق والإبداع كأن الكاذب تخلق قوله. [لسان العرب- مادة: خلق]..
٣ - قال القرطبي في تفسيره [٤/ ٣٤٦٦]: "قال علماؤنا: هذه الآية دليل على أن بكاء المرء لا يدل على صدق مقاله، لاحتمال أن يكون تصنعا، فمن الخلق من يقدر على ذلك، ومنهم من لا يقدر، وقد قيل: إن الدمع المصنوع لا يخفي، كما قال حكيم:
إذا اشتبكت دموع في خدود تبين من بكى ممن تباكى"..
٤ - ذكر ابن كثير في كتاب [البداية والنهاية ٨/ ١٧٨] أن الحسين بن علي رضي الله عنه قال لأصحابه: "من أحب أن ينصرف إلى أهله في ليلته هذه فقد أذنت له فإن القوم إنما يريدونني، هذا الليل قد غشيكم فاتخذوه حجلا، ليأخذ كل منكم بيد رجل من أهل بيتي ثم اذهبوا في بسيط الأرض في سواد هذا الليل إلى بلادكم ومدائنكم فإن القوم إنما يريدونني، فلو قد أصابوني لهوا عن طلب غيري، فاذهبوا حتى يفرج الله عز وجل"..
﴿ قالوا يا أبانا إنا ذهبنا نستبق١ وتركنا يوسف عند متاعنا فأكله الذئب وما أنت بمؤمن لنا ولو كنا صادقين ( ١٧ ) ﴾
كلمة :﴿ نستبق.. ( ١٧ ) ﴾ [ يوسف ]
تعبر عن بيان تفوق ذات على ذات في حركة ما ؛ لنرى من سيسبق الآخر ؛ فحين يتسابق اثنان في الجري نرى من فيهما سبق الآخر ؛ وهذا هو الاستباق.
وقد يكون الاستباق في حركة بآلة ؛ كأن يمسك إنسان ببندقية ويصوبها إلى الهدف ؛ ويأتي آخر ويمسك ببندقية أخرى ويحاول ان يصيب الهدف ؛ ومن يسبق منهما في إصابة الهدف يكون هو المتفوق في هذا المجال.
وقد يكون الاستباق في الرمي بالسهام ؛ ونحن نعرف شكل السهم ؛ فهو عبارة عن غصن مرن، يلتوي دون أن ينكسر ؛ ومثبت عليه وتر، ويوضع السهم في منتصف الوتر، ليشده الرامي فينطلق السهم إلى الهدف.
وتقاس دقة إصابة الهدف حسب شدة السهم وقوة الرمي، ويسمى ذلك " تحديد الهدف ".
أما إذا كان التسابق من ناحية طول المسافة التي يقطعها السهم ؛ فهذا لقياس قوة الرامي.
وهكذا نجد الاستباق له مجالات متعددة ؛ وكل ذلك حلال ؛ فهم أسباط وأولاد يعقوب، ولا مانع أن يلعب الإنسان لعبة لا تلهيه عن واجبه ؛ وقد تنفعه فيما يجد من أمور ؛ فإذا التقى بعدو نفعه التدريب على استخدام السهم أو الرمح أو أداة قتال ؛ واللعب٢ الذي لا ينهى عن طاعة، وينفع وقت الجد هو لعب حلال.
وهناك ألعاب قد لا يدرك الناس لها غاية مثل كرة القدم.
وأقول : قد يوجد عدوان ؛ وبينهما قنبلة موقوتة ؛ ويحاول كل طرف أن يبعدها عن موقعه، والقوة والحكمة تظهر في محاولة كل فريق في إبعاد الكرة عن مرماه.
ولكن لا بد أن يلهي لعب الكرة عن واجب ؛ فمثلا حين يؤذن المؤذن للصلاة، الواجب علينا ألا نهمل الصلاة ونواصل اللعب، وعلى اللاعبين أن يراعوا عدم ارتداء ملابس تكشف عن عوراتهم.
وأبناء يعقوب قالوا :
﴿ وتركنا يوسف عند متاعنا٣.. ( ١٧ ) ﴾ [ يوسف ]
وفي هذا إخلال بشروط التعاقد مع الأب الذي أذن بخروج يوسف بعد أن قالوا :
﴿ أرسله معنا غدا يرتع ويلعب.. ( ١٢ ) ﴾ [ يوسف ]
وقالوا :
﴿ وإنا له لناصحون ( ١١ ) ﴾ [ يوسف ]
وقالوا :
﴿ وإنا له لحافظون ( ١٢ ) ﴾ [ يوسف ]
فهل أخذتموه معكم ليرتع ويلعب، ويأكل من ثمار الأشجار والفاكهة ؛ وتحفظونه، أم ليحفظ لكم متاعا وأنتم تستبقون.
وهكذا أول الكذب الذي كذبوه ؛ وهذه أول مخالفة لشرط إذن والده له بالخروج معكم ؛ ولأن " المريب يكاد يقول خذوني " نجدهم قد قالوا :
﴿ فأكله الذئب وما أنت بمؤمن لنا ولو كنا صادقين ( ١٧ ) ﴾ [ يوسف ]
أو : أنهم قالوا ذلك لأنهم يعلمون أن والدهم لن يصدقهم مهما قالوا، ونعلم أن " آمن " إما أن تتعدى إلى المفعول بنفسها مثل آمنه الله من الجوع "، أو قوله الحق :
﴿ وآمنهم من خوف ( ٤ ) ﴾ [ قريش ]
أو : تجيء بالباء، ويقال : " آمن به " أي : صدق واعتقد.
أو : يقال " آمن له " أي : صدقه فيما يقول.
وهم هنا يتهمون أباهم أنه متحد لهم، حتى ولو كانوا صادقين، وهم يعلمون أنهم غير صادقين ؛ ولكن جاءوا بكلمة الصدق ليداروا كذبهم.
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك :
﴿ وجاءوا على قميصه٤ بدم٥ كذب قال بل سولت٦ لكم أنفسكم أمرا فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون ( ١٨ ) ﴾
٢ - اللعب قد يكون محمودا إذا لم يتعارض مع القيم الفاضلة، أما إذا كان اللعب قد يلهي الإنسان عن الواجبات فهو مذموم، واللهو لا يكون إلا مذموما..
٣ - المتاع: يطلق على الكثير والقليل باعتباره مصدرا ويجمع على أمتعة باعتبار ما ينتفع به وما يتمتع به. قال تعالى: ﴿ابتغاء حلية أو متاع..(١٧)﴾ [الرعد] أي: وصنع أشياء ينتفع بها، وقال تعالى: ﴿ود الذين كفروا لو تغفلون عن أسلحتكم وأمتعتكم..(١٠٢)﴾ [النساء] جمع متاع بمعنى أشياء ينتفع بها من طعام وأدوات للحرب ومال ونحو ذلك. [القاموس القويم ٢/ ٢١٥]..
٤ - القميص: ما يحيط بالبدن وقد يسمى شعارا وما فوقه دثار، وقد يسمى كل ثوب قميصا، والجمع أقمصة وقمص وقمصان. [القاموس القويم ٢/ ١٣٣]..
٥ - " قال مجاهد: كان دم سخلة أو جدى ذبحوه، وقال قتادة: كان دم ظبية، أي: جاءوا على قميصه بدم مكذوب فيه، وقرأ الحسن وعائشة: "بدم كدب" بالدال غير المعجمة، أي: بدم طري، وحكى أنه المتغير، قاله الشعبي" [تفسير القرطبي ٤/ ٣٤٧١]..
٦ - سولت نفسه له أمرا: زينته له ليفعله، وسول له الشيطان: أغواه: والتسويل: تحسين الشيء وتزيينه وتحبيبه إلى الإنسان ليفعله أو يقوله: [لسان العرب- مادة: سول]..
ويصف بعض العلماء قصة يوسف بقصة القميص :
فهنا جاء إخوته بقميصه وعليه دم كذب.
وفي أواسط السورة٢ تأتي مسألة قميص يوسف إن كان قد شق من دبر لحظة أن جذبته امرأة العزيز لتراوده٣ عن نفسه.
وفي آخر السورة٤ يرسل إخوته بقميصه إلى والده فيرتد بصره.
ولهذا أخذ العلماء والأدباء كلمة القميص كرمز لبعض الأشياء ؛ والمثل هو قول الناس عن الحرب بين علي رضي الله عنه ومعاوية رضي الله عنه أن معاوية امسك بقميص عثمان بن عفان طلبت للثأر من علي، فقيل " قميص عثمان " رمزا لإخفاء الهدف عن العيون، وكان هدف معاوية أن يحكم بدلا من علي بن أبي طالب رضي الله عنهم أجمعين.
وهنا يقول الحق سبحانه :
﴿ وجاءوا على قميصه بدم كذب٥.. ( ١٨ ) ﴾ [ يوسف ]
وكأن القميص كان معهم، ووضعوا عليه دما مكذوبا، لأن الدم لا يكذب، إنما كذب من جاء بدم الشاة ووضعه على القميص.
وشاء الحق سبحانه هنا أن يعطي الوصف المصدري للمبالغة ؛ وكأن الدم نفسه هو الذي كذب ؛ مثلما تقول " فلان عادل " ويمكنك أن تصف إنسانا بقولك " فلان عدل " أي : كأن العدل تجسد فيه، أو قد تقول " فلان ذو شر "، فيرد عليك آخر " بل هو الشر بعينه "، وهذه مبالغة في الحدث.
وهل كان يمكن أن يوصف الدم بأنه دم صادق ؟
نقول : نعم، لو كان الذئب قد أكل يوسف بالفعل ؛ وتلوث قميص يوسف بدم يوسف وتمزق، ولكن ذلك لم يحدث، بل إن الكذب يكاد يصرخ في تلك الواقعة ويقول " أنا كذب ".
فلو كان قد أكله الذئب فعلا ؛ كان الدم قد نشع من داخل القميص لخارجه ؛ ولكنهم جاءوا بدم الشاة ولطخوا به القميص من الخارج.
وبالله، لو أن الذئب قد أكله فعلا، ألم تكن أنيابه قد مزقت القميص ؟
وحين انكشف أمرهم أمام أبيهم ؛ أشار أحدهم خفية للباقين وقال لهم همسا : قولوا لأبيكم : إن اللصوص قد خرجوا عليه وقتلوه ؛ فسمع يعقوب الهمس فقال : اللصوص أحوج لقميصه من دمه ؛ ٦. وهذا ما تقوله كتب السيرة.
وهذا ما يؤكد فراسة يعقوب، هذه الفراسة٧ التي يتحلى بها أي محقق في قضية قتل ؛ حين يقلب أسئلته للمتهم وللشهود ؛ لأن المحقق يعلم أن الكاذب لن يستوحي أقواله من واقع ؛ بل يستوحي أقواله من خيال مضطرب.
ولذلك يقال : " إن كنت كذوبا فكن ذكورا " ٨.
ويأتي هنا الحق سبحانه بما جاء على لسان يعقوب :
﴿ بل سولت لكم أنفسكم أمرا فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون ( ١٨ ) ﴾ [ يوسف ]
" والسول " : هو الاسترخاء ؛ لأن الإنسان حين تكون أعصابه مشدودة ؛ ثم يحب أن يسترخي، فيستريح قليلا، وبعد ذلك يجد في نفسه شيئا من اليسر في بدنه ونبضه.
ونأخذ ﴿ سولت.. ( ١٨ ) ﴾ [ يوسف ]
هذا بمعنى يسرت وسهلت، وما دامت قد سولت لكم أنفسكم هذا الأمر فسوف أستقبله بما يليق بهذا الوضع، وهو الصبر.
﴿ فصبر جميل.. ( ١٨ ) ﴾ [ يوسف ]
والذين يحاولون اصطياد خطأ في القرآن يقولون " وهل يمكن أن يكون الصبر جميلا ؟ ".
نقول : هم لا يعرفون أن الصبر يقال فيه " اصبر عن كذا " إذا كان الأمر عن شهوة قد تورث إيلاما ؛ كأن يقال " اصبر عن الخمر " أو " اصبر عن الميسر " أو " اصبر عن الربا ".
ويقال " " اصبر على كذا " إذا كان الصبر فيه إيلام لك، والصبر يكون جميلا حينما لا تكون فيه شكوى أو جزع.
والحق سبحانه يقول لرسوله صلى الله عليه وسلم :
﴿ واهجرهم٩ هجرا جميلا ( ١٠ ) ﴾ [ المزمل ]
وهؤلاء الذي يبحثون عن تناقض أو تضارب في القرآن إنما هم قوم لا يعرفون كيفية استقباله وفهمه ؛ وقد بين لنا يعقوب عليه السلام أن الصبر الجميل هو الصبر الذي لا شكوى فيه، وهو القائل :
﴿ إنما أشكو بثي وحزني إلى الله.. ( ٨٦ ) ﴾ [ يوسف ]
وهكذا نعلم أن هناك فارقا بين الشكوى للرب ؛ وشكوى من قدر الرب.
ولذلك يقول يعقوب عليه السلام هنا :
﴿ فصبر جميل١٠.. ( ١٨ ) ﴾ [ يوسف ]
ويتبعها :
﴿ والله المستعان على ما تصفون ( ١٨ ) ﴾ [ يوسف ]
كأن الصبر الجميل أمر شاق على النفس البشرية، ولم يكن يعقوب قادرا على أن يصدق ما قاله أبناؤه له ؛ فكيف يصدق الكذب ؟ وكيف يمكن أن يواجه أبناءه بما حدث منهم ؟ وهم أيضا أبناؤه ؛ لكنه كان غير قادر على أن يكشف لهم كذبهم.
والمثل لذلك ما جاء في التراث العربي حين قيل لرجل : إن ابنك قد قتل أخاك، فقال :
أقول لنفسي تأساء وتعزيه إحدى يدي أصابتني ولم ترد
كلاهما خلف عن فقد صاحبه هذا أخي حين أدعوه وذا ولدي
ومثل هذه المواقف تكون صعبة وتتطلب الشفقة ؛ لأن من يمر بها يحتار بين أمر يتطلب القسوة وموقف يتطلب الرحمة ؛ وكيف يجمع إنسان بين الأمرين ؟
إنها مسألة تعز على خلق الله ؛ ولا بد أن يفزع فيها الإنسان إلى الله ؛ ولذلك علمنا صلى الله عليه وسلم أنه إذا حزبه أمر قام إلى الصلاة١١ ؛ وحزبه أمر ما يعني : أن مواجهة هذا الأمر تفوق أسباب الإنسان ؛ فيلجأ إلى المسبب الأعلى ؛ ولذلك قال يعقوب عليه السلام :
﴿ والله المستعان على ما تصفون ( ١٨ ) ﴾ [ يوسف ]
وقوله : " تصفون " يعني : أنكم لا تقولون الحقيقة، بل تصفون شيئا لا يصادف الواقع، مثل قوله تعالى :
﴿ ولا تقولوا لما تصف١٢ ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام. ( ١١٦ ) ﴾ [ النحل ]
أي : أن ألسنتكم نفسها تصف الكلام أنه كذب.
والحق سبحانه يقول :
﴿ سبحان ربك رب العزة عما يصفون ( ١٨٠ ) ﴾ [ الصافات ]
وتعني أن هؤلاء الذين قالوا ما قيل عنه أنه وصف قد كذبوا فيما قالوا ؛ وكان مصير كذبهم مفضوحا.
﴿ فصبر جميل١٣ والله المستعان على ما تصفون ( ١٨ ) ﴾ [ يوسف ]
وهكذا عبر يعقوب عليه السلام عن نفسه ؛ فالجوارح قد تكون ساكنة ؛ لكن القلب قد يزدحم بالهموم ويفتقد السكون ؛ لذلك لا بد من الاستعانة بالله.
وقد علمنا الحق سبحانه أن نقول في فاتحة الكتاب :
﴿ إياك نعبد وإياك نستعين ( ٥ ) ﴾ [ الفاتحة ]
فأنت تقف لعبادة الله وبين يديه ؛ لكن الدنيا قد تشغلك عن العبادة أثناء أداء العبادة نفسها ؛ لذلك تستعين بخالقك لتخلص في عبادتك.
وبعد أن عرض الحق سبحانه لموقف الأب مع أولاده، نأتي لموقف يوسف عليه السلام في الجب.
يقول سبحانه :
﴿ وجاءت سيارة١٤ فأرسلوا واردهم١٥ فأدلى دلوه١٦ قال يا بشرى١٧ هذا غلام وأسروه١٨ بضاعة والله عليم بما يعملون ( ١٩ ) ﴾
٢ - وذلك في قوله تعالى: ﴿قال هي راودتني عن نفسي وشهد شاهد من أهلها إن كان قميصه قد من قبل فصدقت وهو من الكاذبين (٢٦) وإن كان قميصه قد من دبر فكذبت وهو من الصادقين (٢٧)﴾ [يوسف]..
٣ - راوده على الشيء: مراودة: طلبه منه بجهد وحيل ومساومة، وقوله تعالى: ﴿وراودته التي هو في بيتها عن نفسه...(٢٣)﴾ [يوسف] أي: طلبت منه نفسه في محاولة ومخادعة، [القاموس القويم ١/ ٢٨١ بتصرف]..
٤ - وذلك في قوله تعالى عن يوسف عليه السلام أنه قال إخوته: ﴿اذهبوا بقميصي هذا فألقوه على وجه أبي يأت بصيرا..(٩٣)﴾ [يوسف]..
٥ - هذا أسلوب الإعجاز البلاغي، وفيه إشارة إلى قضية ملفقة..
٦ - ذكر القرطبي في تفسيره [٤/ ٣٤٧٢] محاولات أبناء يعقوب تبرير ما حدث وانكشاف أمرهم أمام أبيهم لفراستهم فقال: "روى أنهم قالوا له: بل اللصوص قتلوه، فاختلف قولهم، فاتهمهم، فقال لهم يعقوب: تزعمون أن الذئب أكله، ولو أكله لشق قميصه قبل أن يفضي إلى جلده، وما أرى بالقميص من شق، وتزعمون أن اللصوص قتلوه، ولو قتلوه لأخذوا قميصه، هل يريدون إلا ثيابه؟".
٧ - الفراسة: في النظر والتثبت والتأمل للشيء والبصر به ولهما معنيان قالهما ابن الأثير:
أحدهما: ما يوقعه الله تعالى في قلوب أوليائه فيعلمون أحوال بعض الناس بنوع من الكرامات وإصابة الظن والحدس.
الثاني: نوع يتعلم بالدلائل والتجارب والخلق والأخلاق، فتعرف به أحوال الناس". نقله ابن منظور في [لسان العرب- مادة: فرس].
٨ - الذكر: الحفظ للشيء تذكره، ورجل ذكير: جيد الذكر والحفظ، والذكر والذكرى: نقيض النسيان. والتذكر: تذكر ما أنسيته. [لسان العرب- مادة: ذكر]..
٩ - هجره يهجره هجرا وهجرانا: تركه مع سخط ونفور، قال تعالى: ﴿والرجز فاهجر (٥)﴾ [المدثر] أي: اترك الرجز كله نافرا منه كارها له، وهذا الأمر بالنسبة للرسول صلى الله عليه وسلم معناه: أثبت على هجره لأنه لم يفعل رجزا، وقوله تعالى: ﴿واهجرهم هجرا جميلا (١٠)﴾ [المزمل] أي: اتركهم وابتعد عنهم في سماحة بغير إيذاء [القاموس القويم ٢/ ٢٩٨]..
١٠ - الصبر الجميل هو الصبر مع الرضى، والتفويض لمن بيده الأمر: من مفهوم خواطر الإمام..
١١ - عن حذيفة قال: "كان النبي صلى الله عليه وسلم: إذا حزبه أمر صلى" أخرجه الإمام أحمد في مسنده [٥/ ٣٨٨] وأبو داود في سننه [١٣١٩]..
١٢ - وصف الأمر: ذكره وعرفه وتحدث به. قال تعالى: ﴿تصف ألسنتكم الكذب..(١١٦)﴾ [النحل] أي: تذكره وتقوله، وقال تعالى: ﴿سبحانه وتعالى عما يصفون (١٠٠)﴾ [الأنعام] أي: من الوصف الذي يصفونه به مما لا يليق بكماله كوجود شريك له أو ابن أو غير ذلك، وقال تعالى: ﴿سيجزيهم وصفهم..(١٣٩)﴾ [الأنعام]. أي: جزاء وصفهم وعقابه [القاموس القويم ٢/ ٣٣٩]..
١٣ - الجمال: البهاء والحسن يوصف به الحسي والمعنوي، قال تعالى: ﴿فصبر جميل..(١٨)﴾ [يوسف] وهو جمال معنوي، وقوله: ﴿فاصفح الصفح الجميل (٨٥)﴾ [الحجر] الذي لا لوم معه ولا عتاب، والسراح الجميل: الطلاق المصحوب بالإحسان إلى المطلقة ومنحها حقوقها كاملة وبغير إيذاء، وقوله: ﴿واهجرهم هجرا جميلا (١٠)﴾ [المزمل] لا إيذاء فيه بقول أو عمل [القاموس القويم ١/ ١٢٨].
.
١٤ - السيارة: الجماعة السائرة المسافرة، قال تعالى: ﴿وجاءت سيارة (١٩)﴾ [يوسف] أي: جماعة مسافرة، وقوله تعالى: ﴿متاعا لكم وللسيارة (٩٦)﴾ [المائدة] للمسافرين. [القاموس القويم ١/ ٣٤٠]..
١٥ - وردت الماء إذا حضرته لتشرب، والورد: الماء الذي ترد عليه، والواردة: وراد الماء، والورد: الوارد، وهم الذي يردون الماء. [لسان العرب- مادة: ورد]. ورد الماء: قصده وبلغه ووصل إليه..
١٦ -الدلو: الوعاء الذي يخرج الماء من البئر ونحوه، قال تعالى: ﴿فأرسلوا واردهم فأدلى دلوه..(١٩)﴾ [يوسف] أي: أنزله في البئر ليخرج منه ماء. [القاموس القويم ١/ ٢٣١].
١٧ - قال القرطبي في تفسيره [٤/ ٣٤٧٥]: "في معناه قولان:
أحدهما: اسم الغلام.
الثاني: يا أيتها البشرى هذا حينك وأوانك، قال قتادة: بشر أصحابه بأنه وجد عبدا، قال السدي: نادى رجلا اسمه بشرى، قال النحاس: قول قتادة أولى، لأنه لم يأت في القرآن تسمية أحد إلا يسيرا، قال القرطبي: وهذا أصح لأنه لو كان اسما علما لم يكن مضافا إلى ضمير المتكلم"..
١٨ - أسررت الأمر والحديث: أخفيته، وأسر إليه الحديث: ألقاه إليه سرا ولم يطلع عليه أحدا معه. وقوله: ﴿وأسروا الندامة..(٥٤)﴾ [يونس] أخفوها في صدورهم وفي سرائرهم وقوله في قصة يوسف: ﴿وأسروا بضاعة..(١٩)﴾ [يوسف] أخفوه، وقوله: ﴿تسرون إليهم بالمودة..(١)﴾ [الممتحنة] أي: يسرون إليهم أنباء المسلمين وأحوالهم بسبب المودة بينكم، وهو تبكيت وتوبيخ لمن يفعل ذلك، أو تخفون المودة لهم، أي: تجعلون مودتكم لهم سرا، وتخفونها عن المسلمين نفاقا وخداعا، [القاموس القويم ١/ ٣١٠]..
والمقصود بالسيارة هم القوم المحترفون للسير، مثل من كانوا يرحلون في رحلة الشتاء والصيف ؛ بهدف التجارة وجلب البضائع.
وكانت السيارة لا تنتقل بكامل أفرادها إلى البئر، بل يذهب واحد منهم إلى البئر ؛ ليأتي لهم بالمياه ويسمى الوارد، وذهب هذا الوارد إلى البئر ليحضر لبقية السيارة الماء وألقى دلوه في البئر ؛ ويسمى حبل الدلو الرشاء.
وحين نزل الدلو إلى مستوى يوسف عليه السلام تعلق يوسف في الحبل ؛ فأحس الوارد بثقل ما حمله الرشاء ؛ ونظر إلى أسفل ؛ فوجد غلاما يتعلق بالدلو فنادى :
﴿ يا بشرى هذا غلام.. ( ١٩ ) ﴾ [ يوسف ]
أي : أنه يقول يا بشرى هذا أوانك ؛ وكأنه يبشر قومه بشيء طيب ؛ فلم يحمل الدلو ماء فقط، بل حمل غلاما أيضا.
ويقول الحق سبحانه :
﴿ وأسروه بضاعة.. ( ١٩ ) ﴾ [ يوسف ]
أي : أنهم أخفوه وعاملوه كأنه بضاعة، ولم يتركوه يمشي بجانبهم ؛ خشية أن يكون عبدا آبقا١ ويبحث عنه سيده ؛ وهم يريدون بيعه.
ويذيل الحق سبحانه الآية بقوله :
﴿ والله عليم بما يعملون.. ( ١٩ ) ﴾ [ يوسف ]
وهذا قول يعود على من أسروه بضاعة ؛ وهم الذين عرضوه للبيع ثم يقول الحق سبحانه :
﴿ وشروه بثمن بخس٢ دراهم معدودة وكانوا فيه من الزاهدين ( ٢٠ ) ﴾
٢ - بخسه حقه بخسا: نقصه حقه ولم يوفه، قال تعالى: ﴿ولا تبخسوا الناس أشياءهم (٨٥)﴾ [الأعراف]. والثمن البخس: القليل الناقص عن مثله: ﴿وشروه بثمن بخس..(٢٠)﴾ [يوسف] وقوله: ﴿فلا يخاف بخسا ولا رهقا (١٣)﴾ [الجن] أي: لا يخاف نقصا ولا ظلما. [القاموس القويم ١/ ٥٦]..
والبخس أي : النقص، وهو إما في الكم أو في الكيف ؛ فهو يساوي مثلا مائة درهم وهم باعوه بعشرين درهما فقط ؛ وكان العبد في عمر يوسف يقوم بالنقد ؛ وهم باعوه بالبخس، وبثمن أقل قيمة إما كما وإما كيفا.
ثم أراد الحق سبحانه أن يوضح الأمر أكثر فقال :
﴿ دراهم معدودة وكانوا فيه من الزاهدين ( ٢٠ ) ﴾ [ يوسف ]
والزهد هما هو حيثية الثمن البخس ؛ فهم قد خافوا أن يبحث عنه أبوه أو صاحبه ؛ وكأنهم قالوا لأنفسهم : أي شيء يأتي من ورائه فهو فائدة لنا١.
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك :
﴿ وقال الذي اشتراه من مصر لامرأته أكرمي مثواه٢ عسى أن ينفعنا أو نتخذ ولدا وكذلك مكنا ليوسف في الأرض ولنعلمه من تأويل الأحاديث والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون ( ٢١ ) ﴾
٢ - ثوى المكان، وثوى به يثوي: حله وأقام فيه واستقر به، فهو متعد ولازم واستعمل القرآن اللازم، فقال: ﴿ما كنت ثاويا في أهل مدين (٤٥)﴾ [القصص] أي: مقيما عندهم. والمثوى: اسم مكان أو مصدر ميمي، قال تعالى: ﴿أكرمي مثواه (٢١)﴾ [يوسف] أي: إقامته. أي: أكرمي يوسف وعبر باسم المكان عن الحال فيه مجازا مرسلا علاقته المحلية، [القاموس القويم ١/ ١١٣].
وهذه اللقطة تبين لنا الفساد الذي ينشأ في البيوت التي تتبنى طفلا، لكنهم لا يحسبون حساب المسألة حين يبلغ هذا الطفل مبلغ الرجال، وقد تعود أن تحمله ربة البيت وتقبله، وتغدق عليه من التدليل ما يصعب عليها أن تمتنع عنه ؛ ولأن الطفل يكبر انسيابيا ؛ فقد يقع المحظور وندخل في متاهة الخطيئة.
ويقول الحق سبحانه :
﴿ وقال الذي اشتراه من مصر لامرأته أكرمي مثواه عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولدا.. ( ٢١ ) ﴾ [ يوسف ]
وهذا يعني أن تعتني بالمكان الذي سيقيم فيه، وبطبيعة الحال فهذا القول يقتضي أن تعتني بالولد نفسه ؛ على رجاء أن ينتفع به الرجل وزوجته.
ولسائل أن يقول : كيف ينتفع به الرجل ؛ وهو عزيز مصر، والكل في خدمته ؟
ونقول : إن النفع المقصود هنا هو النفع الموصول بعاطفة من ينفع ؛ وهو غير نفع الموظفين العاملين تحت قيادة وإمرة عزيز مصر، فعندما ينشأ يوسف كابن للرجل وزوجه ؛ وكإنسان تربى في بيت الرجل ؛ هنا ستختلف المسألة، ويكون النفع محملا بالعاطفة التي قال عنها الرجل :
﴿ أو نتخذه ولدا.. ( ٢١ ) ﴾ [ يوسف ]
وقد علمنا من السير أنهما لم يرزقا بأولاد١.
ويقول الحق سبحانه في نفس الآية :
﴿ وكذلك مكنا ليوسف في الأرض ولنعلمه من تأويل الأحاديث والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون ( ٢١ ) ﴾ [ يوسف ]
وقد بدأ التمكين في الأرض من لحظة دخوله إلى بيت عزيز مصر ليحيا حياة طيبة ؛ وليعلمه الله تأويل الحديث ؛ بأن يهبه القدرة على تفسير الرؤى والأحلام ؛ وليغلب الله على أمره.
ولو نظر إخوته إلى ما آل إليه يوسف عليه السلام فسيعرفون أن مرادهم قد خاب ؛ وأن مراد الله قد غلب ؛ بإكرام يوسف ؛ وهم لو علموا ذلك لضنوا عليه بالإلقاء في الجب، وهذا شأن الظالمين جميعا.
ولذلك نقول : إن الظالم لو علم ما أعده الله للمظلوم لضن عليه بالظلم.
وساعة يقول الحق سبحانه :
﴿ والله غالب على أمره.. ( ٢١ ) ﴾ [ يوسف ]
فهذا قول نافذ ؛ لأنه وحده القادر على أن يقول للشيء كن فيكون ؛ ولا يوجد إله غيره ليرد على مراده.
ولذلك قلنا قديما : إن الله سبحانه وتعالى قد شهد لنفسه أنه لا إله إلا هو٢ ؛ وهو يملك الرصيد المطلق المؤكد بأنه لا إله غيره ؛ فهو وحده الذي له الملك، وهو وحده القادر على كل شيء.
ولكن خيبة بعض من الخلق الذين يتوهمون أنهم قادرون على أن يخططوا ويمكروا ؛ متناسين أو ناسين أن فوقهم قيوم٣ ؛ لا تأخذه سنة٤ ولا نوم، ولو انتبه هؤلاء لعلموا أن الله يملك بحق من يظلم فوق الذي ظلمه.
ورأينا في حياتنا وتاريخنا ظالمين اجتمعوا على ظلم الناس ؛ وكان مصيرهم أسوأ من الخيال ؛ وأشد هولا من مصيرهم لو تحكم فيهم من ظلموهم.
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك :
﴿ ولما بلغ أشده٥ آتيناه حكما وعلما وكذلك نجزي المحسنين ( ٢٢ ) ﴾
٢ - وذلك قوله تعالى: ﴿شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولوا العلم قائما بالقسط لا إله إلا هو العزيز الحكيم (١٨)﴾ [آل عمران]..
٣ - القيوم والقيام في صفة الله تعالى وأسمائه الحسنى القائم بتدبير أمر خلقه في إنشائهم ورزقهم وعلمه بأمكنتهم، وقال قتادة: القيوم القائم على خلقه بآجالهم وأعمالهم وأرزاقهم. [لسان العرب- مادة: قوم]..
٤ - وسن يوسن سنة: نام نومة خفيفة، السنة: الفعلة، قال تعالى: ﴿لا تأخذه سنة ولا نوم (٢٥٥)﴾ [البقرة] أي: لا تأخذه نومة خفيفة ولا أي نوم، أو لا تأخذه غفلة عن أي شيء. ولا نوم من أي نوع ثقل أو خف كثر أو قل. [القاموس القويم ٢/ ٣٣٨]..
٥ - قال القرطبي في تفسيره [٤/ ٣٤٨٤]: "معناه استكمال القوة ثم يكون النقصان بعد.
وقال مجاهد وقتادة: الأشد ثلاث وثلاثون سنة. قال ربيعة وزيد بن أسلم ومالك بن أنس: الأشد بلوغ الحلم"..
﴿ بلغ أشده.. ( ٢٢ ) ﴾ [ يوسف ]
أي : وصل إلى غايته في النضج والاستواء ؛ ومن كلمة " بلغ " أخذ مصطلح البلوغ ؛ فتكليف الإنسان يبدأ فور أن يبلغ أشده ؛ ويصير في قدرة أن ينجب إنسانا مثله.
وحين يبلغ إنسان مثل يوسف أشده، وهو قد عاش في بيت ممتلئ بالخيرات ؛ فهذا البلوغ إن لم يكن محروسا بالحكمة والعلم ؛ ستتولد فيه رعونة١ ؛ ولهذا فقد حرسه الحق بالحكمة والعلم.
والحكم هو الفيصل بين قضيتين متعاندتين متعارضتين ؛ حق وباطل ؛ وما دام قد أعطاه الله الحكم، فهو قادر على أن يفصل بين الصواب والخطأ.
وقد أعطاه الله العلم الذي يستطيع أن ينقله إلى الغير، والذي سيكون منه تأويل الرؤى٢، وغير ذلك من العلم الذي سوف يظهر حين يولي على خزانة مصر.
إذن فهنا بلغ يوسف أشده وحرسه الحق بالحكمة والعلم.
ويذيل الحق سبحانه هذه الآية بقولة :
﴿ وكذلك نجزي المحسنين ( ٢٢ ) ﴾ [ يوسف ]
وكل إنسان يحسن الإقامة لما هو فيه ؛ يعطيه الله ثمرة هذا الحسن، والمثل : حين لا يتأبى فقير على قدر الله أن جعله فقيرا، ويحاول أن يحسن ويتقن ما يعمل، فيوضح الله بحسن الجزاء : أنت قبلت قدري، وأحسنت عملك ؛ فخذ الجزاء الطيب. وهذا حال عظماء الدنيا كله.
وهكذا نجد قول الحق سبحانه :
﴿ وكذلك نجزي المحسنين ( ٢ ) ﴾ [ يوسف ]
لا ينطق على يوسف وحده ؛ بل على كل من يحسن استقبال قدر الله ؛ لأنه سبحانه ساعة يأتي بحكم من الأحكام ؛ وبعد ذلك يعمم الحكم ؛ فهذا يعني أن هذا الحكم ليس خاصا بل هو عام.
وإذا كان الحق سبحانه يورد هذا في مناسبة بعينها، فإنه يقرر بعدها أن كل محسن يعطيه الله الحكم والعلم.
وقول الحق سبحانه :
﴿ ولما بلغ أشده.. ( ٢٢ ) ﴾ [ يوسف ]
يوحي لنا أن يوسف عليه السلام كان قد بلغ مرحلة الفتوة٣، وهنا بدأت متاعبه في القصر، ففي طفولته نظرت إليه امرأة العزيز كطفل جميل ؛ فلم يكن يملك ملامح الرجولة التي تهيج أنوثتها.
أما بعد البلوغ فنجد حالها قد تغير، فقد بدأت تدرك مفاتنه، وأخذ خيالها يسرح فيما هو أكثر من الإدراك، وهو التهاب الوجدان بالعاطفة المشبوبة٤، وما بعد الإدراك والوجدان يأتي النزوع.
ولو كانت محجوبة عنه ؛ لما حدثت الغواية بالإدراك والوجدان.
وهذا يعطينا علة غض البصر عن المثيرات الجنسية ؛ لأنك إن لم تغض البصر أدركت، وإن أدركت وجدت، وإن وجدت نزعت إلى الزواج أو التعفف بالكبت في النفس، وتعيش اضطراب القلق والتوتر، وإن لم تتعفف عربدت٥ في أعراض الناس.
وكذلك أمرنا الحق سبحانه ألا تبدي النساء زينتهن إلا لأناس حددهم الحق سبحانه في قوله تعالى :
﴿ ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها وليضربن بخمرهن على جيوبهن ولا يبدين زينتهن إلا لبعولتهن٦ أو آبائهن أو آباء بعولتهن أو أبنائهن أو أبناء بعولتهن أو إخوانهن أو بني إخوانهن أو بني أخواتهن أو نسائهن أو ما ملكت أيمانهن أو التابعين غير أولي الإربة٧ من الرجال أو الطفل الذين لم يظهروا على عورات النساء.. ( ٣١ ) ﴾ [ النور ]
أي : الذي بلغ من العمر والشيخوخة حدا لا يجعله يفكر في الرغبة في النساء.
وكانت نظرة امرأة العزيز إلى يوسف عليه السلام وهو في فتوته، بعد أن بلغ أشده نظرة مختلفة، يوضحها الله تعالى في قوله :
﴿ وراودته التي هو في بيتها عن نفسه وغلقت٨ الأبواب وقالت هيت٩ لك قال معاذ الله إنه ربي أحسن مثواي إنه لا يفلح الظالمون ( ٢٣ ) ﴾
٢ - الرؤى: جمع رؤيا: وهي ما تراه في منامك، ورأى: بمعنى اعتقد وبمعنى عرف، ورأى في منامه رؤيا: حلم، والرؤيا: الحلم في المنام [القاموس القويم ١/ ٢٥٠]..
٣ - الفتاء: الشباب، والفتى والفتية: الشاب والشابة، قال القتيبي: ليس الفتى بمعنى الشاب والحدث إنما هو بمعنى الكامل الجزل من الرجال، قال الشاعر:
إن الفتى حمال كل ملمة ليس الفتى بمنعم الشبان
[لسان العرب- مادة: فتا]..
٤ - شب النار والحرب: أوقدها، وشبه النار: اشتعالها، قال أبو حنيفة: حكى عن أبي عمرو ابن العلاء، أنه قال: شبت النار وشبت هي نفسها، قال ولا يقال: شابة، ولكن مشبوبة [لسان العرب- مادة: شبب]..
٥ - رجل عربد وعربيد ومعربد: شرير مشار، ويقال للمعربد: عربيد كأنه شبه بالحية [لسان العرب- مادة: عربد]..
٦ - البعل: الزوج والزوجة فهو مصر سمي به بلفظه فلا يؤنث، وجمع البعل: بعول: قال تعالى في قرآنه: ﴿وهذا بعلي شيخا..(٧٢)﴾ [هود] وقال: ﴿وبعولتهن أحق بردهن..(٢٢٨)﴾ [البقرة] أي: وأزواجهن أحق بردهن بعد الطلاق الرجعي –وبعدى طلقة بائنة أو طلقتين بائنتين بعقد جديد.[القاموس القويم ١/٧٦]..
٧ - الأرب: الحاجة التي تقتضي الاحتيال لها، وكذلك الأربة والمأرب قال تعالى: ﴿أو التابعين غير أولي الإربة من الرجال أو الطفل..(٣١)﴾ [النور] أي: غير ذوي الحاجة إلى النساء، أي: الذين ليست لهم شهوة لكبرهم أو عجزهم أو صغرهم، [القاموس القويم ١ /١٧]..
٨ - غلق الباب يغلقه غلقا: أوصده مثل أغلقه، وغلقه بالتضعيف للمبالغة في إغلاق الأبواب وإحكامها، كقوله تعالى: ﴿وغلقت الأبواب..(٢٣)﴾ [يوسف] أي: أحكمت إغلاقها لتأمن على نفسها من الداخلين [القاموس القويم ٢/ ٥٩]..
٩ - هيأ الشيء: أعده وجهزه ويسره، قال تعالى: ﴿وهيء لنا من أمرنا رشدا (١٠)﴾ [الكهف] أي: يسر لنا من أمرنا طريق الرشاد والحق، وهئت للأمر: أعددت نفسي له، وقرئ في سورة يوسف عليه السلام [وهئت لك] أي: أعددت نفسي له، وقرئ في سورة يوسف عليه السلام [وهئت لك] أي: أعددت نفسي لك، و[هيت]: اسم فعل أمر بمعنى أقبل وتعال، قال تعالى: {وقالت هيت لك قال معاد الله...(٢٣)[يوسف] والمعنى: أقبل واللام للتعدية، أي: أدعوك لتقبل أو الدعاء لك. [القاموس القويم ٢/ ٣١١، ٣١٢]..
والمراودة مطالبة برفق ولين بستر ما تريده ممن تريده ؛ فإن كان الأمر مسهلا، فالمراودة تنتهي إلى شيء ما، وإن تأبى الطرف الثاني بعد أن عرف المراد ؛ فلن تنتهي المراودة إلى الشيء الذي كنت تصبو إليه١.
وهكذا راودت امرأة العزيز يوسف عليه السلام، أي : طالبته برفق ولين في أسلوب يخدعه ليخرجه عما هو فيه إلى ما تطلبه.
ومن قبل كان يوسف يخدمها، وكانت تنظر إليه كطفل، أما بعد أن بلغ أشده فقد اختلف الأمر، ولنفرض أنها طالبته أن يحضر لها شيئا ؛ وحين يقدمه لها تقول له " لماذا تقف بعيدا ؟ وتدعوه ليجلس إلى جوارها، وهو لن يستطع الفكاك ؛ لأنه في بيتها ؛ وهي متمكنة منه ؛ فهي سيدة القصر.
وهكذا نجد أن المسألة مجموعة عليه من عدة جهات ؛ فهو قد تربى في بيتها ؛ وهي التي تتلطف وترق معه، وفهم هو مرادها.
وهكذا شرح الحق سبحانه المسألة من أولها إلى آخرها بأدب راق غير مكشوف، فقال تعالى :
﴿ وراودته التي هو في بيتها عن نفسه وغلقت الأبواب.. ( ٢٣ ) ﴾ [ يوسف ]
توضح المبالغة في الحدث ؛ أو لتكرار الحدث، فهي قد أغلقت أكثر من باب، ونحن حين تحرك المزلاج٢ لنؤكد غلق باب، ونحرك المفتاح، ونديره لتأكيد غلق الباب.
فهذه عملية أكبر من غلق الباب ؛ وإذا أضفنا مزلاجا جديدة نكون قد أكثرنا الإغلاق لباب واحد ؛ وهكذا يمكن أن نصف ما فعلنا أننا غلقنا الباب.
وامرأة العزيز قامت بأكثر من إغلاق لأكثر من باب، فقصور العظماء بها أكثر من باب، وأنت لا تدخل على العظيم من هؤلاء في بيته لتجده في استقبالك بعد أول باب، بل يجتاز الإنسان أكثر من باب ليلقى العظيم الذي جاء ليقابله.
ويحمل لنا التاريخ قصة ذلك الرجل الذي رفض أن يبايع معاوية في المدينة، فأمر معاوية باستدعائه إلى قصر الحكم في دمشق.
هذا القصر الذي سبق أن زاره عمر بن الخطاب ؛ ووجد فيه أبهة زائدة بررها له معاوية بحيلة الأريب٣ أنها أبهة٤ ضرورية لإبراز مكانة العرب أمام الدولة الرومانية المجاورة، فسكت عنها عمر٥.
وحين استدعى معاوية الرجل، دخل بصحبة الحرس من باب، وظن أنه سوف يلقي معاوية فور الدخول ؛ لكن الحراسة اصطحبه عبر أكثر من باب ؛ فلم ينخلع قلب الرجل، بل دخل بثبات على معاوية وضن عليه بمناداته كأمير للمؤمنين، وقال بصوت عال :
" السلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم ".
ففطن معاوية إلى أن الرجل يرفض مبايعته.
ونعود إلى الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها ؛ فنجد أن امرأة العزيز قد غلقت الأبواب ؛ لأن من يفعل الأمر القبيح يعلم قبح ما يفعل، ويحاول أن يستر فعله، وهي قد حاولت ذلك بعيدا عن من يعملون أو يعيشون في القصر، وحدثت المراودة وأخذت وقتا، لكنه فيما يبدو لم يستجب لها.
﴿ وقالت هيت لك.. ( ٢٣ ) ﴾ [ يوسف ]
أي : أنها انتقلت من مرحلة المراودة إلى مرحلة الوضوح في طلب الفعل ؛ بأن قالت : تهيأت لك ؛ وكان رده :
﴿ قال معاذ الله.. ( ٢٣ ) ﴾ [ يوسف ]
والمعاذ هو من تستعيذ به، وأنت لا تستعيذ إلا إذا خارت أسبابك أمام الحدث الذي تمر به علك تجد من ينجدك ؛ فكأن المسألة قد عزت عليه ؛ فلم يجد معاذا إلا الله.
ولا أحد قادر على أن يتصرف هكذا إلا من حرسه الله بما أعطاه له من الحكمة والعلم ؛ وجعله قادرا على التمييز بين الحلال والحرام.
ولبيان خطورة وقوة الاستعاذة نذكر ما ترويه كتب السيرة من أن النبي صلى الله عليه وسلم عقد على ابنة مالك٦ ؛ كانت شديدة الجاذبية، وشعرت بعض من نساء النبي بالغيرة منها، وقالت واحدة منهن لعلها عائشة رضي الله عنها : إن تزوجها ودخل بها قد يفضلها عنا. وقالت للعروس : إن النبي يحب كلمة ما، ويحب من يقولها٧، فسألت الفتاة عن الكلمة، فقالت لها عائشة : إن اقترب منك قولي " أعوذ بالله منك ".
فغادرها رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال :( قد عذت بمعاذ )٨ وسرحها السراح٩ الجميل.
وهناك في قضية السيدة مريم عليها السلام، نجدها قد قالت لحظة أن تمثل لها الملاك بشرا سويا١٠ :
﴿ إني أعوذ بالرحمان منك إن كنت تقيا ( ١٨ ) ﴾ [ مريم ]
فهي استعاذت بمن يقدر على إنقاذها.
وهنا في الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها :
﴿ قال معاذ الله إنه ربي أحسن مثواي١١ إنه لا يفلح الظالمون ( ٢٣ ) ﴾ [ يوسف ]
وأعطانا هذا القول معنيين اثنين :
الأول : أنه لم يوافق على طلبها بعد أن أوضحت ما تريد.
والمعنى الثاني : أنه طلب المعونة من الله، وهو سبحانه من أنجاه من كيد إخوته ؛ ونجاه من الجب ؛ وهيأ له أفضل مكان في مصر، ليحيا فيه ومنحه العلم والحكمة مع بلوغه لأشده.
وبعد كل هذا أيستقبل كل هذا الكرم بالمعصية ؟ طبعا لا.
أو : أنه قال :﴿ أحسن مثوي.. ( ٢٣ ) ﴾ [ يوسف ]
ليذكر امرأة العزيز بأن لها زوجها، وأن هذا الزوج قد أحسن ليوسف حين قال لها :
﴿ أكرمي مثواي عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولدا.. ( ٢١ ) ﴾ [ يوسف ]
فالصعوبة لا تأتي فقط من أنها تدعوه لنفسها ؛ بل الصعوبة تزداد سوء لأن لها زوجا فليست خالية، وهذا الزوج قد طلب منها أن تكرم يوسف، وتختار له مكان إقامة يليق بابن، ولا يمكن أن يستقبل ذلك بالجحود والخيانة.
وهكذا يصبح قول يوسف :﴿ إنه ربي.. ( ٢٣ ) ﴾ [ يوسف ]
قد يعود على الله سبحانه ؛ وقد يعود على عزيز مصر. وتلك ميزة أسلوب القرآن ؛ فهو يأتي بعبارة تتسع لكل مناطات الفهم، فمادام الله هو الذي يجازي على الإحسان، وهو من قال في نفس الموقف :
﴿ وكذلك نجزي المحسنين ( ٢٢ ) ﴾ [ يوسف ]
فمعنى ذلك أن من يسيء يأتي الله بالضد ؛ فلا يفلح ؛ لأن القضيتين متقابلتان :
﴿ وكذلك نجزي المحسنين ( ٢٢ ) ﴾ [ يوسف ]
و﴿ لا يفلح الظالمون ( ٢٣ ) ﴾ [ يوسف ]
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك :
﴿ ولقد همت١٢ به وهم بها لولا أن رأى برهان١٣ ربه كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء إنه من عبادنا المخلصين١٤ ( ٢٤ ) ﴾
٢ - الزلاج والمزلاج: مغلاق الباب، سمى بذلك لسرعة انزلاجه، وقد أزلجت الباب أي أغلقته والمزلاج: المغلاق إلا أنه ينفتح باليد، والمغلاق لا يفتح إلا بالمفتاح [لسان العرب- مادة: زلج]..
٣ - الأريب: العاقل، والإرب والأرب: الدهاء والبصر بالأمور، وهو من العقل، وأصل الإرب: الدهاء والمكر [لسان العرب- مادة: أرب]..
٤ - الأبهة: العظمة والبهاء: والأبهة: العظمة والكبر، ورجل ذو أبهة أي ذو كبر وعظمة. [لسان العرب- مادة: أبه]..
٥ - ذكر أبو علي القلي في أماليه [٢/١٣٦]: "قال المغيرة بن شعبة: كان عمر إذا نظر إلى معاوية يقول: هذا كسرى العرب"..
٦ - جاء في الطبري أنها ملكة بنت داود الليثية [٣/١٢٣] أو فاطمة بنت الضحاك الكلابية [٣/١٣٩]..
٧ - قال ابن حجر في الفتح [٩/ ٣٥٩]: "وقع عند ابن سعد [في الطبقات] أن عائشة وحفصة دخلت عليها أول ما قدمت فمشطتاها وخضبتاها وقالت لها إحداهما: إن النبي صلى الله عليه وسلم يعجبه من المرأة إذا داخل عليها أن تقول أعوذ بالله منك"..
٨ - أخرجه البخاري في صحيحه [٥٢٥٥] كتاب الطلاق من حديث أبي أسيد رضي الله عنه..
٩ - السراح: مصدر أو اسم مصدر بمعنى الطلاق: ﴿فتعالين أمتعكن وأسرحكن سراحا جميلا (٢٨) [الأحزاب] أي: طلاقا حسنا ليس فيه كيد ولا إيذاء [القاموس القويم ١/ ٣٠٩]..
١٠ - السوي من الرجال: من ليس في خلقه عيب وليس في بدنه مرض ولا آفة، فقوله: {قال رب اجعل لي آية قال آيتك ألا تكلم الناس ثلاث ليال سويا (١٠)﴾ [مريم] أي: حالة كونك كامل الخلق لا خرس بك ولا بكم ولا أي عجز، وقوله: ﴿فتمثل لها بشرا سويا (١٧)﴾ [مريم] مستوى الخلق في صورة إنسان كامل جميل وضيء. [القاموس القويم ١/ ٣٣٩]..
١١ -ا لمثوى: اسم مكان أو مصدر ميمي، قال تعالى: ﴿وبئس مثوى الظالمين (١٥١)﴾ [آل عمران] اسم مكان قصد به النار، وقال تعالى: ﴿أكرمي مثواه..(٢١)﴾ [يوسف] أي: إقامته: أي: أكرمي يوسف وعبر باسم المكان عن الحال فيه مجازا مرسلا علاقته المجازية [القاموس القويم ١/ ١١٣]..
١٢ - هم بالفعل يهم به هما: قصده واتجه إليه بنيته ولم يفعله، قال تعالى: ﴿إذ هم قوم أن يبسطوا إليكم أيديهم فكيف أيديهم..(١١)﴾[المائدة] أي: عزموا واتجهت نيتهم إلى حربكم والتعدي عليكم وإيذائكم فكفهم الله، وقال تعالى في قصة يوسف عليه السلام: ﴿ولقد همت به وهم بها..(٢٤)﴾ [يوسف] همت به: هم عزم وتصميم، وهم بها هم ترك وإعراض ومقاومة، أي: هم بمقاومتها والله أعلم. [القاموس القويم: ٢/ ٣٠٧ بتصرف]..
١٣ - البرهان: الحجة البينة الفاصلة، قال تعالى: ﴿قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين (١١١)﴾ [البقرة] وقوله: ﴿لولا أن رأى برهان ربه..(٢٤)﴾ [يوسف] أي: لولا أن رأى حجة ربه التي ثبتته على الحق وصرفته عما هم به- أو لولا أن رأى برهان ربه، أي الدليل على قدوم سيده وحضوره، وقدر الله مجيء سيده إلى البيت في هذا الوقت ليصرف عنه السوء، [القاموس القويم ١/ ٦٥]..
١٤ - أخلصه الله: جعله صافيا نقيا طاهرا، واسم المفعول "مخلص" بفتح اللام، قال تعالى: ﴿إنه من عبادنا المخلصين (٢٤)﴾ [يوسف] أي: الأصفياء الأتقياء المطهرين. [القاموس القويم ١/ ٢٠٢].
وقد جاءت العبارة هنا في أمر المراودة التي كانت منها، والامتناع الذي كان منه، واقتضى ذلك الأمر مفاعلة بين اثنين يصطرعان في شيء.
فأحد الاثنين امرأة العزيز يقول الله في حقها :
﴿ ولقد همت به.. ( ٢٤ ) ﴾ [ يوسف ]
وسبق أن أعلن لنا الحق سبحانه في الآية السابقة موقفها حين قالت : " هيت لك " وكذلك بين موقف يوسف عليه السلام حين قال يوسف " معاذ الله ".
وهنا يبين لنا أن نفسه قد حدثته أيضا ؛ وتساوي في حديث النفس ؛ لكن يوسف حدث له أن رأى برهان ربه.
ويكون فهمنا للعبارة : ولولا أن برهان ربه لهم بها ؛ لأننا نعلم أن " لولا " حرف امتناع لوجود ؛ مثلما نقول : لولا زيد عندك لأتيتك.
ولقائل أن يقول : كيف غابت قضية الشرط في الإيجاد والامتناع عن الذين يقولون : إن الهم قد وجد منه ؟
ولماذا لم يقل الحق : لقد همت به ولم يهم بها ؛ حتى نخرج من تلك القضية الصعبة ؟
ونقول : لو قال الحق ذلك لما أعطانا هذا القول اللقطة المطلوبة ؛ لأن امرأة العزيز همت به لأن عندها نوازع العمل ؛ وإن لم يقل لنا أنه قد هم بها لظننا أنه عنين٢ أو خصاه موقف أنها سيدته فخارت قواه.
إذن : لو قال الحق سبحانه : إنه لم يهم بها ؛ لكان المانع من الهم إما أمر طبيعي فيه، أو أمر طارئ لأنها سيدته فقد يمنعه الحياء عن الهم بها.
ولكن الحق سبحانه يريد أن يوضح لنا أن يوسف كان طبيعيا، وهو قد بلغ أشده ونضجه ؛ ولولا أن رأى برهان ربه لهم بها.
وهكذا لم يقم يوسف عليه السلام بما يتطلبه ذلك لنقص فيه ؛ ولأن الموقف كان مفاجأة ضيعت رجولته بغتة٣ ؛ مثل ما يحدث لبعض الشباب في ليلة الزفاف، حين لا يستطيع أن يقرب عروسه ؛ وتمر أيام إلى أن يستعيد توازنه، ويقرب عروسه.
إذن : لو أن القرآن يريد عدم الهم على الإطلاق ؛ ومن غير شيء، لقال : ولقد همت به ولم يهم بها.
ولكن مثل هذا القول هو نفي للحدث بما لا يستلزم العفة والعصمة، لجواز أن يكون عدم الهم راجعا إلى نقص ما ؛ وحتى لا يتطرق إلينا تشبيهه ببعض الخدم ؛ حيث يستحي الخادم أن ينظر إلى البنات الجميلات للأسرة التي عمل عندها ؛ ويتجه نظره إلى الخادمة التي تعمل في المنزل المجاور، لأن للعواطف التقاءات.
ومن لطف الله بالخلق أنه يوجد الالتقاءات التفاعلية في المتساويات، فلا تأتي عاطفة الخادم في بعض الأحيان بنات البيت الذي يعمل عنده ؛ وقد يطلب من أهل البيت أن يخرج لشراء أي شيء من خارج المنزل، لعله يحظى بلقاء عابر من خادمة الجيران.
ويجوز أن الخادم قد فكر في أنه لو هم بواحدة من بنات الأسرة التي يعمل لديها ؛ فقد تطرده الأسرة من العمل ؛ بينما هو يحيا سعيدا مع تلك الأسرة.
وهكذا يشاء الحق سبحانه أن يوزع تلك المسائل بنظام وتكافؤات في كثير من الأحيان.
وهنا في الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها قال الحق سبحانه :﴿ ولقد همت به وهم بها لولا أن رأى برهان ربه.. ( ٢٤ ) ﴾ [ يوسف ]
إذن : فبرهان ربه سابق على الهم، فواحد همّ ولم يرتكب ما يتطلبه الهم ؛ لأن برهان ربه في قلبه، وقد عرف يوسف برهان ربه من البداية.
وبذلك تنتهي المسألة، ولذلك فلا داعي أن يدخل الناس في متاهات أنه هم وجلس بين شعبتيها٤، ولم يرتعد إلا عند تمثل له وجه والده يعقوب ونهاه عن هذا الفعل٥ ؛ فأفسق الفساق ولو تمثل له أبوه وهو في مثل هذا الموقف لأصيب بالإغماء.
وحين تناقش من رأى هذا الرأي ؛ يرد بأن هدفه أن يثبت فحولة٦ يوسف ؛ لأن الهم وجد وأنه قد نازع الهم.
ونقول لصاحب هذا الرأي : أتتكلم عن الله، أم عن الشيطان ؟
أنت لو نظرت إلى أبطال القصة تجدهم ؛ امرأة العزيز ؛ ويوسف والعزيز نفسه ؛ والشاهد على أن يوسف قد حاول الفكاك من ذلك الموقف، ثم النسوة اللاتي دعتهن امرأة العزيز ليشاهدوا جماله ؛ والله قد كتب له العصمة.
فكل هؤلاء تضافروا٧ على أن يوسف لم يحدث منه شيء.
وقال يوسف نفسه :
﴿ هي راودتني عن نفسي.. ( ٢٦ ) ﴾ [ يوسف ]
وامرأة العزيز نفسها قالت مصدقة لما قال :
﴿ ولقد راودته عن نفسه فاستعصم٨.. ( ٣٢ ) ﴾ [ يوسف ]
وقالت :﴿ الآن حصحص٩ الحق أنا راودته عن نفسه وإنه لمن الصادقين ( ٥١ ) ذلك ليعلم١٠ أني لم أخنه بالغيب.. ( ٥٢ ) ﴾ [ يوسف ]
وقال يوسف لحظتها :
﴿ وإلا تصرف عني كيدهن أصب إليهن وأكن من الجاهلين ( ٣٣ ) ﴾ [ يوسف ]
والصبوة هي حديث النفس بالشيء ؛ وهو ما يثبت قدرة يوسف عليه السلام على الفعل، وحماه الله من الصبوة ؛ لأن الحق سبحانه قد قال :
﴿ فصرف عنه كيدهم.. ( ٣٤ ) ﴾ [ يوسف ]
وانظر إلى لقطة النسوة اللاتي تهامسن بالنميمة عن امرأة العزيز وحكايتها مع يوسف، ألم يقلن :
﴿ ما هذا بشرا إن هذا إلا ملك كريم.. ( ٣١ ) ﴾ [ يوسف ]
فحين دخل عليهن اتجهت العيون له، وللعيون لغات ؛ وللانفعال لغات ؛ وإلا لماذا قال يوسف :
﴿ وإلا تصرف عني كيدهن.. ( ٣٣ ) ﴾ [ يوسف ]
وهكذا نعلم أنه قد حدثت مقدمات تدل على أن النسوة نوين له مثل ما نوته امرأة العزيز ؛ وظنن أن امرأة العزيز سوف تطرده ؛ فيتلقفنه هن ؛ وهذا دأب١١ البيوت الفاسدة.
وهل هناك أفسدت من بيت العزيز نفسه، بعد أن حكم الشاهد أنها هي التي راودت يوسف عن نفسه ؛ فيدمدم العزيز على الحكاية، ويقول :
﴿ يوسف أعرض عن هذا واستغفري لذنبك إنك كنت من الخاطئين ( ٢٩ ) ﴾ [ يوسف ]
وكان هدف العزيز أن يحفظ مكانته من القيل والقال.
وحين سأل الشاهد النسوة، بماذا أجبن ؟
يقول الحق سبحانه أن النسوة قلن :
﴿ ما علمنا عليه من سوء.. ( ٥١ ) ﴾ [ يوسف ]
وقد صرف الله عنه الشيطان الذي يتكفل دائما بالغواية، وهو لا يدخل أبدا في معركة مع الله ؛ ولكنه يدخل مع خلق الله ؛ لأن الحق سبحانه يورد على لسانه :
﴿ قال فبعزتك لأغوينهم١٢ أجمعين ( ٨٢ ) إلا عبادك منهم المخلصين ( ٨٣ ) ﴾ [ ص ]
فالشيطان نفسه يقر أن من يستخلصه الله لنفسه من العباد إنما يعجز- هو كشيطان- عن غوايته، ولا يجرؤ على الاقتراب منه.
والشاهد الذي من أهل امرأة العزيز، واستدعاه العزيز ليتعرف على الحقيقة قال :
( وإن كان قميصه قد١٣ من دبر١٤ فكذبت وهو من الصادقين ( ٢٧ ) } [ يوسف ]
وبعد كل هذه الأدلة فليس من حق أحد أن يتساءل : هل هم يوسف بامرأة العزيز، أم لم يهم ؟
وفي الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها، يقول الحق سبحانه :
﴿ لولا أن رأى برهان ربه.. ( ٢٤ ) ﴾ [ يوسف ]
والبرهان هو الحجة على الحكم. والحق سبحانه هو القائل :
﴿ وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا ( ١٥ ) ﴾ [ الإسراء ]
وفي آية أخرى يقول الحق سبحانه :
﴿ رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل.. ( ١٦٥ ) ﴾
[ النساء ]
أي : لا بد أن يبعث الحق رسولا للناس مؤيدا بمعجزة تجعلهم يصدقون المنهج الذي يسيرون عليه ؛ كي يعيشوا حياتهم بانسجام إيماني، ولا يعذبهم الله في الآخرة.
ويذيل الحق سبحانه الآية بقوله :
﴿ كذلك لنصرف١٥ عنه السوء والفحشاء إنه من عبادنا المخلصين ( ٢٤ ) ﴾ [ يوسف ]
والفحشاء هي الزنا والإتيان ؛ والسوء هي فكرة الهم ؛ وبعض المعتدلين قالوا : إنها بعد أن راودته عن نفسه ؛ وخرجت بالفعل إلى مرحلة السعار١٦ لحظة أن سبقها إلى الباب ؛ فكرت في أن تقتله ؛ وحاول هو أن يدافع عن نفسه وأن يقتلها، ولو قتلها فلسوف يجازى كقاتل١٧.
فصرف الحق عنه فكرة القتل ؛ وعني بها هنا قوله الحق " السوء " ؛ ولكن أطمئن إلى أن السوء هو فكرة الهم، وهي مقدمات الفعل.
ويقرر الحق سبحانه أن يوسف عليه السلام من عباده المخلصين، وفي هذا رد على الشيطان ؛ لأن الشيطان قال :
﴿ إلا عبادك منهم المخلصين ( ٨٣ ) ﴾ [ ص ]
وقوله الحق هنا :
﴿ إنه من عبادنا المخلصين ( ٢٤ ) ﴾ [ يوسف ]
يؤكد إقرار الشيطان أنه لن يقرب عباد الله المخلصين. وهناك " مخلصين "، و " مخلصين " والمخلص هو من جاهد فكسب طاعة الله، والمخلص هو من كسب فجاهد وأخلصه الله لنفسه١٨.
وهناك أناس يصلون بطاعة الله إلى كرامة الله، وهناك أناس يكرمهم الله فيطيعون الله –ولله المثل الأعلى- منزه عن كل تشبيه، أنت قد يطرق بابك واحد يسألك من فضل الله عليك ؛ فتستضعفه وتكرمه، ومرة أخرى قد تمشي في الشارع وتدعو واحدا لتعطيه من فضل الله عليك، أي : أن هناك من يطلب فتأذن له، وهناك من تطلبه أنت لتعطيه.
وبعد الحديث عن المراودة بما فيها من لين وأخذ ورد ؛ ينتقل بنا الحق سبحانه إلى ما حدث من حركة، فيقول تعالى :
﴿ واستبقا الباب وقدت قميصه من دبر وألفيا١٩ سيدها٢٠ لدا الباب قالت ما جزاء من أراد بأهلك سوءا إلا أن يسجن أو عذاب أليم ( ٢٥ ) ﴾
٢ - العنين: الذي لا يأتي النساء ولا يريدهن بين العنانة، وعنن عن امرأته إذا حكم القاضي عليه بذلك أو منع عنها بالسحر، وامرأة عنينة كذلك: لا تريد الرجال ولا تشتهيهم. وسمى عنينا لأنه يعن ذكره لقبل المرأة من عن يمينه وشماله فلا يقصد، [لسان العرب – مادة: عنن]..
٣ - بغته بغتا وبغتة: فاجأه على غرة وغفلة، قال تعالى: ﴿فأخذناهم بغتة وهم لا يشعرون (٩٥)﴾ [الأعراف] والمباغتة: المفاجأة والبغت والبغتة: الفجأة وهو أن يفجأك الشيء [لسان العرب- مادة: بغث]..
٤ - في الحديث: "إذا قعد الرجل من المرأة ما بين شعبها الأربع وجب عليه الغسل" شعبها الأربع: يداها ورجلاها، وقيل: رجلاها وشفرا فرجها، كنى بذلك عن تغيبه الحشفة في فرجها. [لسان العرب- مادة: شعب]..
٥ - قال قتادة ومجاهد والحسن والضحاك وسعيد بن جبير: رأى صورة يعقوب على الجدران عاضا على أنملته يتوعده فسكن، وخرجت شهوته من أنامله. [ذكره القرطبي في تفسيره ٤/ ٣٤٩٢]..
٦ - رجل فحيل: فحل، وإنه لبين الفحولة. غير خصي بل هو منجب، [لسان العرب- مادة: فحل]..
٧ - تضافر القوم على فلان وتظافروا عليه وتظاهروا بمعنى واحد كله إذا تعاونوا وتجمعوا عليه، وتألبوا وتصابروا مثله. قال ابن سيده: تضافر القوم على الأمر تظاهروا وتعاونوا عليه. [لسان العرب-مادة: ضفر]..
٨ - استعصم: طلب لنفسه العصمة وتمسك بها، قال تعالى: ﴿ولقد راودته عن نفسه فاستعصم (٣٢) [يوسف] أي: فامتنع متمسكا بعصمته وعفة نفسه وبحفظها من السوء [القاموس القويم ٢/ ٢٤]..
٩ - حصحص الحق: وضح وتبين بعد خفائه، قال تعالى: {قالت امرأة العزيز الآن حصحص الحق..(٥١)﴾ [يوسف] قال ابن منظور في لسان العرب: "الحصحصة: بيان الحق بعد كتمانه" [مادة حصص]..
١٠ - في قائل هذه العبارة أقوال كثيرة ذكرها المفسرون منها: انه يوسف، ومنها أنها: امرأة العزيز، قال ابن كثير في تفسيره [٢/٤٨١]: "هذا القول هو الأشهر والأليق والأنسب بسياق القصة ومعاني الكلام، وقد حكاه الماوردي في تفسيره وانتدب لنصره الإمام أبو العباس ابن تيمية رحمه الله فأفرده بتصنيف على حدة"..
١١ - دأب على الأمر: اعتاده، والداب والداب: العادة والشأن قال تعالى: ﴿مثل دأب قوم نوح..(٣١)﴾ [غافر] أي: عادتهم وشأنهم، وقال تعالى: ﴿قال تزرعون سبع سنين دأبا..(٤٧) [يوسف] أي: مداومين مجتهدين ذوي دأب، وقال تعالى: {وسخر لكم الشمس والقمر دائبين..(٣٣)﴾ [إبراهيم] أي: مستمرين في الحركة دائبين فيها بلا انقطاع تشبيها لهما بالإنسان المجد [القاموس القويم ١/ ٢١٩]..
١٢ - أغواه: أضله وأوقعه في الغي والضلال. قال تعالى: ﴿أغويناهم كما غوينا..(٦٣)﴾ [القصص] أي: أضللناهم كما ضللنا، وغوى يغوي غيا غواية: انهمك في الجهل وهو ضد الرشد، قال تعالى: ﴿لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي..(٢٥٦)﴾ [البقرة] وغوي: بمعنى خاب وضل لأنه انهمك في الجهل، والغاوي: اسم فاعل، قال تعالى: ﴿وبرزت الجحيم للغاوين (٩١)﴾ [الشعراء] أي: الضالين المنهمكين في أعمال الجهل. [القاموس القويم ٢/ ٦٤]..
١٣ - قد الثوب: شقه، قال تعالى: ﴿وقدت قميصه من دبر..(٢٥)﴾ [يوسف]، والقدة: القطعة المقدود في الثوب، والجماعة المختلفة في الرأي مع مجموع الأمة كأنها قدت وقطعت منها قال تعالى: ﴿كنا طرائق قددا (١١)﴾ [الجن] أي: جماعات مختلفة الرأي جمع قدة [القاموس القويم ٢/ ١٠٢]..
١٤ - الدبر: مؤخر كل شيء وعقبه وظهره ضد القبل، قال تعالى: ﴿وقدت قميصه من دبر..(٢٥)﴾ [يوسف] أي: من خلف، وولى المحارب دبره، كناية عن فراره، قال تعالى: ﴿سيهزم الجمع ويولون الدبر (٤٥)﴾ [القمر] أي: ويفرون، وجمع الدبر أدبار، قال تعالى: ﴿وإن يقاتلوكم يولوكم الأدبار ثم لا ينصرون (١١١)﴾ [آل عمران] أي: يفرون منكم منهزمين، وقوله تعالى: ﴿ومن الليل فسبحه وأدبار السجود (٤٠)﴾ [ق]: عقب كل سجود أو عقب كل صلاة. [القاموس القويم ١/ ٢٢٠]..
١٥ - الصرف: رد الشيء من حال إلى حال، وصرف النقود: تغييرها أو إنفاقها، وصرف السجين: أخلى سبيله، وصرف القلوب يصرفها: حولها من الهدى إلى الضلال، قال تعالى: ﴿صرف الله قلوبهم (١٢٧)﴾ [التوبة] [القاموس القويم ١/ ٣٧٤]..
١٦ - السعار: شدة الجوع، يقال: سعر الرجل، فهو مسعور، إذا اشتد جوعه وعطشه والسعر: شهوة مع جوع، والسعر: الجنون، وسعار العطش: التهابه، والسعير والساعورة: النار، وقيل: لهبها، والسعار والسعر: حرها [لسان العرب-مادة سعر]..
١٧ - ذكر القرطبي في تفسيره أن من بين تأويلات هم يوسف عليه السلام بامرأة العزيز أنه هم بضربها ودفعها عن نفسه، والبرهان كفه عن الضرب، إذا لو ضربها لأوهم أنه قصدها بالحرام فامتنعت فضربها، [راجع تفسير القرطبي ٤/ ٣٤٨٨]..
١٨ - أخلصه الله: جعله صافيا نقيا مطهرا، واسم المفعول "مخلص" بفتح اللام، قال تعالى: ﴿إنه من عبادنا المخلصين (٢٤)﴾ [يوسف] أي: الأصفياء الأتقياء المطهرين، وأخلص دينه لله: طهره وصفاه من شوائب الشرك والرياء، قال تعالى: ﴿فاعبد الله مخلصا له الدين (٢)﴾ [الزمر] [القاموس القويم ١/ ٢٠٢]..
١٩ - ألفى الشيء: وجده، قال تعالى: ﴿إنهم ألفوا آباءهم ضالين (٦٩)﴾ [الصافات]، وقال: ﴿وألفيا سيدها لذا الباب..(٢٥)﴾ [يوسف] أي: وجداه: [القاموس القويم ٢/ ١٩٧]..
٢٠ - ساد قومه يسودهم سيادة: شرف عليهم ورأسهم، فهو سائد وسيد وجمعه سادة: ﴿وألفيا سيدها لدا الباب..(٢٥)﴾ [يوسف] سيدها: زوجها، وقال تعالى: ﴿وسيدا وحصورا..(٣٩)﴾ [آل عمران] سيدا أي: شريفا ورئيسا في الدين والعلم. وقال: ﴿إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا..(٦٧)﴾ [الأحزاب] أي: رؤساءنا من الملوك والأمراء، [القاموس القويم ١/ ٣٣٤]..
لكن قول الحق سبحانه :
﴿ وألفيا سيدها لدا الباب.. ( ٢٥ ) ﴾ [ يوسف ]
يدلنا على أنها لحقت بيوسف عند الباب الأخير ؛ وهي قد استبقت مع يوسف إلى الأبواب كلها حتى الباب الأخير ؛ لأنها تريد أن تغلق الباب لتسد أمامه المنفذ الأخير، وهذا الاستباق يختلف باختلاف الفاعل فهي تريده عن نفسه، وهو يريد الفرار من الموقف، ثم قدت قميصه من دبر.
هذا دليل على أنه قد سبقها إلى الباب ؛ فشدته من قميصه من الخلف، وتمزق القميص في يدها، وقد محص الشاهد- الذي هو من أهلها١- تلك المسألة ليستنبط من الأحداث حقيقة ما حدث.
وقوله تعالى :
﴿ وألفيا سيدها لدا الباب.. ( ٢٥ ) ﴾ [ يوسف ]
أي : حدثت لهما المفاجأة، وهي ظهور عزيز مصر أمامهما ؛ وصار المشهد ثلاثيا : امرأة العزيز ؛ ويوسف ؛ وزوجها.
وهنا ألقت المرأة الاتهام على يوسف عليه السلام في شكل سؤال تبريري للهروب من تبعية الطلب، إلقاء التهم على يوسف.
﴿ قالت ما جزاء من أراد بأهلك سوءا.. ( ٢٥ ) ﴾ [ يوسف ]
ثم حددت العقاب :
﴿ إلا أن يسجن أو عذاب أليم ( ٢٥ ) ﴾ [ يوسف ]
ويأتي الحق سبحانه بقول يوسف عليه السلام :
﴿ قال هي راودتني عن نفسي وشهد٢ شاهد من أهلها٣ إن كان قميصه قد٤ من قبل فصدقت وهو من الكاذبين ( ٢٦ ) ﴾ [ يوسف ]
٢ - شهد: دل بقول أو فعل، وقال تعالى: ﴿وشهد شاهدا من أهلها..(٢٦)﴾ [يوسف] [القاموس القويم ١/ ٣٥٨] وقال القرطبي في تفسيره [٤/ ٣٤٩٤]:"شهد شاهد من أهلها، أي: حكم حاكم من أهلها، لأنه حكم منه وليس بشهادة"..
٣ - قال القرطبي في تفسيره [٤/ ٣٤٩٤، ٣٤٩٥]
"اختلف في هذا الشاهد على أقوال:
منها: أنه طفل في المهد تكلم، قال السهيلي: وهو الصحيح للحديث الوارد فيه عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهو قوله: لم يتكلم في المهد إلا ثلاثة، وذكر فيهم شاهد يوسف، ومنها: أنه رجل حكيم ذو عقل كان الوزير يستشيره في أموره، وكان من جملة أهل المرأة" بتصرف..
٤ - قد الثوب: شقه، قال تعالى: ﴿وقدت قميصه من دبر..(٢٥)﴾ [يوسف] والقدة: القطعة المقدودة من الثوب، والجماعة المختلفة في الرأي مع مجموع الأمة كأنها قدت وقطعت منها، قال تعالى: ﴿كنا طرائق قددا (١١)﴾ [الجن] أي: جماعات مختلفة الآراء جمع قدة. [القاموس القويم ٢/ ١٠٢]..
ويتابع الحق سبحانه :﴿ قال هي راودتني عن نفسي وشهد شاهد من أهلها إن كان قميصه قد من قبل فصدقت وهو من الكاذبين ( ٢٦ ) ﴾
وتأتي كلمة " شاهد " في القرآن بمعان متعددة.
فهي مرة تكون بمعنى " حضر " مثل قول الحق سبحانه :﴿ وليشهد عذابهما١ طائفة من المؤمنين ( ٢ ) ﴾[ النور ]
وتأتي مرة بمعنى " علم "، مثل قوله سبحانه :﴿ وما شهدنا إلا بما علمنا.. ( ٨١ ) ﴾ [ يوسف ]
وتأتي " شهد " بمعنى " حكم وقضى " أي : رجح كلاما على كلام لاستنباط حق في أحد الاتجاهين، والشاهد في هذه الحالة وثق القرآن أن قرابته من ناحية المحكوم عليه، وهو امرأة العزيز، فلو كان من طرف المحكوم له لردت شهادته.
وهكذا صار الموقف رباعيا : امرأة العزيز، ويوسف، وعزيز مصر، والشاهد، وحملت الآية نصف قول الشاهد :﴿ إن كان قميصه قد من قبل فصدقت وهو من الكاذبين ( ٢٦ ) ﴾ [ يوسف ]
لأن معنى –والواقع لم يكن كذلك- أن يوسف عليه السلام وهو من أقبل عليها ؛ تدلى منه ثوبه على الأرض، فتعثر فيه، فتمزق القميص.
ويتابع الله قول الشاهد :﴿ وإن كان قميصه٢ قد من دبر فكذبت وهو من الصادقين ( ٢٧ ) ﴾
٢ - القميص: ما يحيط بالبدن، وقد يسمى شعارا وما فوقه دثار، وقد يسمى كل ثوب قميصا، قال تعالى: ﴿وجاءوا على قميصه بدم كذب..(١٨)﴾ [يوسف]، [القاموس القويم ٢/١٣٣]..
ونلحظ أن الشاهد هنا قال هذا الرأي قبل أن يشاهد القميص ؛ بل وضع في كلماته الأساس الذي سينظر به إلى الأمر، وهو إطار دليل الإثبات.
وهذا ما تشرحه الآية التالية : فيقول سبحانه :
﴿ فلما رأى قميصه قد من دبر قال إنه من كيدكن إن كيدكن١ عظيم ( ٢٨ ) ﴾
وقول الحق سبحانه عن الشاهد القاضي :
﴿ فلما رأى قميصه.. ( ٢٨ ) ﴾ [ يوسف ]
يدل على أنه رتب الحكم قبل أن يرى القميص، وقرر المبدأ أولا في غيبة رؤية القميص، ثم رآه بعدها، وهكذا جعل الحيثية الغائبة هي الحكم في القضية الشاغلة.
لذلك تابع قوله بما يدين امرأة العزيز :
﴿ قال إنه من كيدكن إن كيدكن عظيم ( ٢٨ ) ﴾ [ يوسف ]
والكيد كما نعلم هو الاحتيال على إيقاع السوء بخفاء، ويقوم به من لا يملك القدرة على المواجهة، وكيد المرأة عظيم ؛ لأن ضعفها أعظم.
وتعود آيات السورة بعد ذلك إلى موقف عزيز مصر، فيقول الحق سبحانه ما جاء على لسان الزوج :
﴿ يوسف أعرض٢ عن هذا واستغفري لذنبك إنك كنت من الخاطئين٣ ( ٢٩ ) ﴾
٢ - أعرض عن الشيء: ولى منصرفا عنه غير راغب فيه، قال تعالى: ﴿أعرض ونأى بجانبه..(٨٣)﴾ [الإسراء] [القاموس القويم ٢/١٦]. قال القرطبي: "أي: لا تذكرة لأحد واكتمه" [تفسير القرطبي ٤/ ٣٤٩٧]..
٣ - الخطأ والخطاء: ضد الصواب، وقد خطيء يخطأ خطأ: أذنب مطلقا أو تعمد الذنب، قال تعالى: ﴿قالوا يا أبانا استغفر لنا ذنوبنا إنا كنا خاطئين (٩٧)﴾ [يوسف] أي: مذنبين..
وهذا يبين لنا سياسة بعض من أهل الجاه مع بيوتهم، وهو أمر نشاهده في عصرنا أيضا ؛ فنجد الرجل ذا الجاه وهو يتأبى أن يرى أهله في خطيئة، ويتأبى أكثر من ذلك فيرفض أن يرى الغير أهله في مثل هذه القضية، ويحاول كتمان الأمر في نفسه ؛ فيكفيه ما حدث له من مهانة الموقف، ولا يريد أن يشمت به خصومه أو أعداؤه.
وهنا ملحظ يجب أن نتوقف عنده، وهو قضية الإيمان، وهي لا تزال متغلغلة حتى في المنحرفين والمتسترين على المنحرفين، فعزيز مصر يقول ليوسف.
﴿ أعرض عن هذا.. ( ٢٩ ) ﴾ [ يوسف ]
ويقول لزوجته :
﴿ واستغفري لذنبك إنك من الخاطئين ( ٢٩ ) ﴾ [ يوسف ]
وهو في قوله هذا يقر بأن ذنبا قد وقع ؛ وهو لن يقر بذلك إلا إذا كان قد عرف عن الله منهجا سماويا، وهو في موقف لا يسعه فيه إلا أن يطلب منها أن تستغفر الله.
وبعد أن كان المشهد رباعيا ؛ فيه يوسف، وامرأة العزيز، والعزيز نفسه، ثم الشاهد الذي فحص القضية وحكم فيها، ينتقل بنا الحق سبحانه إلى موقف أوسع ؛ وهو دائرة المجتمع الذي وقعت فيه القضية.
وهذا يدل على أن القصور لا أسرار لها ؛ لأن لأسرار القصور عيونا تتعسس١ عليها، وألسنة تتكلم بها ؛ حتى لا يظن ظان أنه يستطيع أن يحمي نفسه من الجريمة ؛ لأن هناك من سوف يكشفها مهما بلغت قدرة صاحبها على التستر والكتمان.
وقد تلصص البعض من خدم القصر ؛ إلى أن صارت الحكاية على ألسنة النسوة.
ويحكي القرآن الموقف قائلا :
﴿ وقال نسوة٢ في المدينة امرأة العزيز وتراود فتاها عن نفسه قد شغفها٣ حبا إنا لنراها في ضلال مبين ( ٣٠ ) ﴾
٢ - قال القرطبي في تفسيره ﴿٤/ ٣٤٩٨]: "قيل امرأة ساقي العزيز، وامرأة خبازه، وامرأة صاحب دوابه، وامرأة صاحب سجنه. وقيل: امرأة الحاجب، عن ابن عباس وغيره"..
٣ - شغفه: أصاب شغاف قلبه أي غلافه، أو أصاب باطنه وصميم قلبه. قال تعالى: {وقد شغفها حبا..(٣٠)﴾ [يوسف]: أي: أصاب شغاف قلبها بحب قوي نافذ كالسهم" [القاموس القويم ١/ ٣٥٠]..
ومن العجيب أن المفرد، وهو كلمة " امرأة " له مثنى هو امرأتان "، لكن في صيغة الجمع لا توجد امرءات "، وتوجد كلمة نسوة اسم لجماعات الإناث، واحدها امرأة، وجمعها نساء.
وقد قال النسوة :
﴿ امرأة العزيز تراود فتاها عن نفسه.. ( ٣٠ ) ﴾ [ يوسف ]
وما قلنه هو الحق ؛ لكنهن لم يقلن ذلك تعصبا للحق، أو تعصبا للفضيلة.
وشاء سبحانه أن يدفع هذه المقالة عنهن ؛ ففضح الهدف المختفي وراء هذا القول في الآية التالية حين قال :
﴿ فلما سمعت بمكرهن أرسلت إليهن وأعتدت لهن متكأ وآتت كل واحدة منهن سكينا وقالت اخرج عليهن فلما رأينه أكبرنه وقطعن أيديهن وقلن حاش لله ما هذا بشر إن هذا إلا ملك كريم ( ٣١ ) قالت فذلكن الذي لمتنني فيه.. ( ٣٢ ) ﴾ [ يوسف ]
وأردن –أيضا- شيئا آخر ؛ أن ينزلن امرأة العزيز عن كبريائها، وينشرن فضيحتها، فأتين بنقيضين ؛ لا يمكن أن يتعدى الموقف فيهما إلا خسيس المنهج.
فهي امرأة العزيز٢، أي : أرفع شخصية نسائية في المجتمع، قد نزلت عن كبريائها كزوجة لرجل يوصف بأنه الغالب الذي لا يُغلب ؛ لأن كلمة " العزيز " مأخوذة من المعاني الحسية.
فيقال : " الأرض العزاز " ٣ أي : الأرض الصخرية التي يصعب المشي عليها، ولا يقدر أحد أن يطأها ؛ ومن هذا المعنى جاءت كلمة " العزيز ".
فكيف بامرأة العزيز حين تصير مضغة٤ في الأفواه ؛ لأنها راودت فتاها وخادمها عن نفسه ؛ وهو بالنسبة لها في أدنى منزلة، وتلك فضيحة مزرية٥ مشينة٦.
وقالت النسوة أيضا :
﴿ قد شغفها حبا.. ( ٣٠ ) ﴾ [ يوسف ]
والحب منازل ؛ وأول هذه المنازل " الهوى " مثل " شقشقة٧ النبات، ويقال : رأى شيئا فهواه ".
وقد ينتهي هذا الهوى بلحظة الرؤية، فإذا تعلق الإنسان بما رأى ؛ انتقل من الهوى إلى العلاقة٨.
وبعد ذلك يأتي الكلف٩ ؛ أي : تكلف أن يصل إلى ما يطلبه من هذه العلاقة، ثم ينتقل بعد ذلك إلى مرتبة فيها التقاء وهي العشق، ١٠ ويحدث فيها تبادل للمشاعر، ويعلن كل طرف كلفه ؛ ولذلك يسمونه " عاشق ومعشوق ".
ثم ينتقل إلى مرحلة اسمها " التدليه " ١١ ؛ أي : يكاد أن يفقد عقله. ثم يصير الجسم إلى هزال ويقال " تبلت١٢ الفؤاد " أي : تاه الإنسان في الأمر.
ثم تأتي بعد ذلك مرحلة الهيام١٣، أي : يهيم الإنسان على وجهه ؛ فلا يعرف له هدفا، فإن تبع ذلك جرم صار اسمه " جوى " ١٤.
تلك هي مراحل الحب التي تمر بالقلب١٥، والقلب –كما نعلم- هو الجهاز الصنوبري، ويسمونه مقر العقائد المنتهية، والتي بحثها الإنسان واعتقدها بالفعل.
فالإنسان منا يدرك الأشياء بحواسه الظاهرة، يرى ويشم ويسمع ويذوق ويلمس، فإذا أدرك بعضا من الأمور ؛ فهو يعرضها على العقل ليوازن بينها ؛ ويختار الأكثر قبولا منه، وبعد ذلك تذهب تلك الأمور المقبولة إلى القلب ؛ لتستقر عقيدة فيه لا يحيد عنها.
أما المسائل العقلية ؛ فقد تأتي مسائل أخرى نزحزحها ؛ ولذلك يقال للأمور التي استقرت في القلب " عقائد "، أي : شيء معقود لا ينحل أبدا.
وما يصل إلى هذه المرتبة يظهر أثره في إخضاع سلوك حركة الحياة عليه، وإذا ما استقر المبدأ في نفس الإنسان ؛ فهو يجعل كل حركته في ظل هذا المبدأ الذي اعتقده.
وهكذا نعرف : كيف تمر العقيدة بعدة مراحل قبل أن تستقر في النفس، فالإدراك١٦ يحدث أولا ؛ ثم التعقل ثانيا ؛ وبعد ذلك يعتقد الإنسان الأمر، ويصبح كل سلوك من بعد ذلك وفقا لما اعتقده الإنسان.
وكلمة :﴿ شغفها حبا.. ( ٣٠ ) ﴾ [ يوسف ]
تعني أن المشاعر انتقلت من إدراكها إلى عقلها إلى قلبها، والشغاف هو الغشاء الرقيق الذي يستر القلب ؛ أي : أن الحب تمكن تماما من قلبها.
﴿ إنا لنراها في ضلال مبين ( ٣٠ ) ﴾ [ يوسف ]
هو قول حق أريد به باطل.
ولذلك يقول الحق سبحانه بعد ذلك ما يفضح مقصدهن :
﴿ فلما سمعت بمكرهن أرسلت إليهن وأعتدت لهم متكئا١٧ وآتت كل واحدة منهن سكينا وقالت اخرج عليهن فلما رأينه أكبرنه١٨ وقطعن أيديهن وقلن حاش١٩ لله ما هذا بشرا إن هذا إلا ملك كريم ( ٣١ ) ﴾
ولسائل أن يقول ؛ وكيف انتقل لهن الكلام عن الذي حدث بينها وبين يوسف ؟
لا بد أن هناك مرحلة بين ما حدث في القصر ؛ وكان أبطاله أربعة هم : العزيز، وامرأته، ويوسف، والشاهد، ولا بد أن يكون من نقل الكلام إلى خارج القصر ؛ إنسان له علاقتان ؛ علاقة بالقصر فسمع ورأى وأدرك ؛ ونقل ما علم إلى من له به علاقة خارج القصر.
وبحث العلماء عن علاقة النسوة اللاتي ثرثرن بالأمر، وقال العلماء٢٠ : هن خمسة نساء : امرأة الساقي، وامرأة الخباز، وامرأة الحاجب، وامرأة صاحب الدواب [ أي : سائس الخيل ]، وامرأة السجان.
وهؤلاء النسوة يعشن داخل بيوتهن ؛ فمن الذي نقل لهن أسرار القصر ؟
لا بد أن أحدا من أزواجهن قد أراد أن يسلي أهله، فنقل خبر امرأة العزيز مع يوسف عليه السلام ؛ ثم نقلت زوجته الخبر إلى غيرها من النسوة.
وحين وصل إلى امرأة العزيز الخبر ؛ وكيف يمكرون بها ؛ أرسلت إليهن :
﴿ واعتدت لهن متكئا وآتت كل واحدة منهن سكينا.. ( ٣١ ) ﴾ [ يوسف ]
والمتكأ هو الشيء الذي يستند إليه الإنسان حتى لا يطول به ملل من كيفية جلسته، والمقصود بالقول هو أن الجلسة سيطول وقتها، وقد خططت لتكشف وقع رؤية يوسف عليهن، فقدمت لكل منهن سكينا ؛ وهو ما يوحى بأن هناك طعاما سوف يؤكل.
ويتابع الحق سبحانه :
﴿ وقالت اخرج عليهن فلما رأينه أكبرنه.. ( ٣١ ) ﴾ [ يوسف ]
ويقال : أكبرت الشيء، كأنك قد تخيلته قبل أن تراه على حقيقته ؛ وقد يكون خيالك قد رسم له صورة جميلة ؛ إلا أنك حين ترى الشيء واقعا ؛ تكبر المرائي عن التخيل.
والمثل أن إنسانا قد يحدثك بخير عن آخر ؛ ولكنك حين ترى هذا الآخر تفاجأ بأنه أفضل مما سمعت عنه.
والشاعر يقول :
كادت مساءلة الركبان تخبرني عن جعفر بن حبيب أصدق القيم
حتى التقينا فلا والله ما سمعت أذنى بأطيب مما قد رأى بصري.
ويقولون في المقابل : سماعك بالمعيدي خير من أن تراه٢١، أي : يا ليتك قد ظللت تسمع عنه دون أن تراه ؛ لأن رؤيتك له ستنقص من قدر ما سمعت.
وهن حين آذين امرأة العزيز بتداول خبر مراودتها له عن نفسه، تخيلن له صورة ما من الحسن، لكنهن حين رأينه فاقت حقيقته المرئية كل صورة تخيلنها عنه ؛ فحدث لهن انبهار.
وأول مراحل الانبهار هي الذهول الذي يجعل الشيء الذي طرأ عليك يذهلك عما تكون بصدد ؛ فإن كان في يدك شيء قد يقع منك.
وقد قطعت كل منهن يدها بالسكين التي أعطتها لها امرأة العزيز لتقطيع الفاكهة، أو الطعام المقدم لهن.
وقال الحق سبحانه في ذلك :
﴿ فلما رأينه أكبرنه وقطعن٢٢ أيديهن.. ( ٣١ ) ﴾ [ يوسف ]
وهل هناك تصوير يوضح ما حدث لهن من ذهول أدق من هذا القول٢٣ ؟
ويتابع سبحانه :
﴿ وقلن حاش لله ما هذا بشر إن هذا إلا ملك كريم ( ٣١ ) ﴾ [ يوسف ]
وكلمة :﴿ حاش.. ( ٣١ ) ﴾ [ يوسف ]
هي تنزيه لله سبحانه عن العجز عن خلق هذا الجمال المثالي، أو : أنهن قد نزهن صاحب تلك الصورة عن حدوث منكر أو فاحشة بينه وبين امرأة العزيز، أو : أن يوسف عليه السلام لابد أن يكون قد خرج عن صورة أرقى من صورة الإنس التي يعرفنها٢٤ ؛ فقلن : لابد أنه ملك كريم.
وصورة الملك كما نعلم هي صورة متخيلة، والإنسان يحكم على الأشياء المتخيلة بما يناسب صورتها في خياله، مثلما نتخيل الشيطان كأبشع ما تكون الصورة.
والبشاعة نفسها تختلف من واحد إلى آخر ؛ فما تراه بشعا قد لا يراه غيرك كذلك ؛ لأن مقاييس القبح أو الجمال تختلف من آمة إلى أخرى.
فالمرأة الجميلة في أواسط إفريقيا في نظر الرجل هي ذات الشفاه الغليظة جدا ؛ أو صاحبة الشعر المجعد والمتموج.
وأكدت الحضارة الحديثة أن هذا لون من الجمال ينجذب إليه الرجل في بعض الحالات ؛ بدليل أن بعضا من السيدات ذوات الشعر الناعم للغاية يذهبن إلى مصففة الشعر، ويطلبن منها تجعيد شعورهن.
إذن فالجمال يقاس بالأذواق ؛ هذا يرى جمالا قد يراه غيره غير هذا ؛ وذاك يرى جمالا لا يراه غيره كذلك.
والحق سبحانه يقذف معايير الجمال في النفس الإنسانية على قدر مقومات الالتقاء في الانسجام.
ولذلك يقال في الريف المصري هذا المثل " كل فولة ولها كيال ".
ونجد شابا يتقدم لفتاة يرغب في الزواج منها ؛ وما أن يراها حتى ينفر منها، ويتقدم لها شاب آخر فيقع في هواها، ويتعجل الزواج منها، وهذا يعني أن مقاييس الأول تختلف عن مقاييس الثاني.
وحين يشاء الحق سبحانه أن يجمع بين اثنين فلا أحد بقادر على أن يمنع القبول من كل طرف للطرف الآخر ؛ وهذه مسألة لها من الأسرار ما لا نعرفه نحن ؛ لأنه سبحانه الذي يكتب القبول ؛ ويظهر في المرأة جمالا قد يجذب رجلا ولا يجذب رجلا آخر، ونفس المسألة تحدث في نفسية المرأة.
إذن : فحين رأت النسوة يوسف عليه السلام ؛ قلن :﴿ ما هذا بشر إن هذا إلا ملك كريم ( ٣١ ) ﴾ [ يوسف ]
وهذا يعني أن يوسف هو الصورة العليا في الجمال التي لا يوجد لها مثيل في البشر٢٥.
وبعد ذلك يقول الحق سبحانه ما جاء على لسان امرأة العزيز ردا عليهن :
﴿ قالت فذلكن الذي لمتنني٢٦ فيه ولقد راودته عن نفسه فاستعصم٢٧ ولئن لم يفعل ما آمره ليسجنن وليكونا من الصاغرين٢٨ ( ٣٢ ) ﴾
٢ - تدور معاني العزيز حول من بيده السلطان والقوة وبيده مقاليد الحكم لا يراجعه أحد شيئا، بل هو يملك سلطة الأمر والنهي. [راجع: لسان العرب- مادة: عزز]..
٣ قال ابن منظور في [لسان العرب – مادة: عزز]: "العزز والعزاز: المكان الصلب السريع السيل، وقال ابن شميل: العزاز ما غلظ من الأرض، وإنما يكون في أطرافها، وفي الحديث أنه صلى الله عليه وسلم نهى عن البول في العزاز لئلا يترشش عليه"..
٤ - مضغ يمضغ: لاك، ومضغ الطعام يمضغه مضغا، والمضغة: القطعة من اللحم. وأمضغ التمر: حان أن يمضغ، وتمر ذو مضغة: صلب متين يمضغ كثيرا، ومضغ الأمور: صغارها [لسان العرب: مادة –مضغ] والمقصود تشبيهها بقطعة اللحم التي يلوكها الناس في أفواههم..
٥ - الإزراء: التهاون بالشيء، وازدريته أي حقرته، والازدراء: الاحتقار والانتقاص والعيب، وهو افتعال من زريت عليه زراية إذا عبته. [لسان العرب- مادة: زرى]..
٦ - الشين: العيب، وهو خلاف الزين، قال الفراء: العين والشين والشنار أي: العيب، والمشاين: المعايب والمقابح.[لسان العرب- مادة: شين]..
٧ - شق النبات يشق شقوقا، وذلك في أول ما تنفطر عنه الأرض، وشق ناب الصبي يشق شقوقا: في أول ما يظهر [لسان العرب- مادة: شقق]..
٨ - علق الشيء علقا وعلق به علاقة وعلوقا: لزمه، والعلاقة: الهوى والحب اللازم للقلب، وقد علقها علقا وعلاقة وعلق بها علوقا وتعلق بها: أحبها، وقال اللحياني: العلق الهوى يكون للرجل في المرأة: [لسان العرب- مادة: علق]..
٩ - الكلف: الولوع بالشيء مع شغل قلب ومشقة، وكلف بالشيء كلفا وكلفة: لهج به، وكلف بها أشد الكلف: أحبها، ورجل مكلاف: محب للنساء. [لسان العرب-مادة: كلف]..
١٠ - العشق: شدة الحب. وسمى العاشق عاشقا لأنه يذبل من شدة الهوى كما تذبل العشقة إذا قطعت، والعشقة: شجرة تخضر ثم تدق وتصفر، عن الزجاج، [لسان العرب –مادة عشق]..
١١ - قال ابن القيم في روضة المحبين [ص ٥٩]: "وأما التدليه ففي الصحاح: الندليه ذهاب العقل من الهوى، يقال: دلهه الحب، أي: حيره وأدهشه"..
١٢ - قال في روضة المحبين [ص ٤٩]: "وأما التبالة فهي فعالة من تبله إذا أفناه، قال الجوهري: تبلهم الدهر وأتبلهم إذا أفناهم، وتبله الحب وأتبله، أي أسقمه وأفسده"..
١٣ - الهيام: كالجنون، وقد هيمه الحب. والاسم الهيام، ورجل هيمان: محب شديد الوجد، قال ابن السكيت: الهيم: مصدر هام يهيم هيما وهيمانا إذا أحب المرأة، والهيام العشاق، والهيوم: أن يذهب على وجهه. [لسان العرب- مادة: هيم]..
١٤ - الجوى: الحرقة وشدة الوجد من عشق أو حزن [لسان العرب-مادة: جوى]..
١٥ -- ذكر ابن القيم في روضة المحبين [ص ٢٥] نحوا من ستين اسما للمحبة، لكل اسم مقام أو درجة في الحب..
١٦ - ويتفق مراد الإمام مع ما ذهب إليه علماء النفس عند اختيار الأشياء، فلا بد من الإدراك، ثم الانفعال، ثم النزوع، أي: الاختيار..
١٧ - تكىء يتكئ: جلس متمكنا، أصله أو اتكأ، قال تعالى: ﴿وسرورا عليها يتكئون (٣٤)﴾ [الزخرف] وقال أيضا: ﴿متكئين فيها على الأرائك..(٣١)﴾ [الكهف]، والمتكأ: اسم مكان قال تعالى: ﴿واعتدت لهن متكأ..(٣١)﴾ [يوسف] أي: مكانا مريحا يجلسن فيه متمكنات متكئات، والمتكأ: ما يتكئ عليه الإنسان من مخدة أو أريكة. [القاموس القويم ٢/ ٣٥٣].
١٨ - أكبر الشيء: عده كبيرا، أو عظم تأثره به فرآه كبيرا، قال تعالى: ﴿فلما رأيناه أكبرنه (٣١)﴾ [يوسف] [القاموس القويم ٢/١٥٠]..
١٩ -حاش لله، أي: براءة لله ومعاذا لله، قال ابن الأنباري: معنى حاشى في كلام العرب أعزل فلانا من وصف القوم بالحشى وأعزله بناحية، ولا أدخله في جملتهم. [لسان: العرب- مادة: حشا]..
٢٠ - انظر: تفسير القرطبي [٤/ ٣٤٩٨]، ذكره عن ابن عباس وغيره..
٢١ - هذا مثل يضرب لمن خبره خير من مرأته، يضرب للرجل الذي له صيت وذكر، فإذا رأيته ازدريت مرآته، ومعد: حي أو اسم للقبيلة، فأما قولهم في المثل: تسمع بالمعيدي لا أن تراه، فمخفف عن القياس اللازم في هذ الضرب [لسان العرب- مادة: معد]..
٢٢ - ذكر القرطبي في تفسيره [٤/ ٣٥٠٣]: "قال مجاهد: قطعنا حتى ألقينها، وقيل: خدشنها، وروى ابن أبي نجيح قال: حزا بالسكين، قال النحاس: يريد مجاهد أنه ليس قطعا تبين منه اليد، إنما هو خدش وحز، وذلك معروف في اللغة أن يقال إذا خدش الإنسان يد صاحبه قطع يده"..
٢٣ - قال ابن كثير في تفسيره [٢/ ٤٧٦]: "ذكر غير واحد أنها قالت لهن- بعد أن آتت كل واحدة منهن سكينا-: هل لكن في النظر إلى يوسف؟ قلن: نعم، فبعثت إليه تأمره أن أخرج إليهن، فلما رأينه جعلن يقطعن أيديهن، ثم أمرته أن يرجع، فرجع وهن يحززن في أيديهن، فلما أحسسن بالألم جعلن يولولن. فقالت: أنتن من نظرة واحدة فعلتن هذا فكيف آلام أنا؟"..
٢٤ - قال القشيري أبو نصر: وذكرت النسوة أن صورة يوسف أحسن من صورة البشر، بل هو في صورة ملك، وقال الله تعالى: ﴿لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم (٤)﴾ [التين] والجمع بين الآيتين أن قولهن [حاش لله] تبرئة ليوسف عما رمته به امرأة العزيز من المراودة، ذكره القرطبي في تفسيره [٤/ ٣٥٠٥]..
٢٥ - عن أنس رضي الله عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أعطى يوسف وأمه شطر الحسن)، أخرجه أحمد في مسنده [٣/ ٢٨٦] والحاكم في مستدركه [٢/ ٥٧٠]..
٢٦ - لامه يلومه لوما: عذله على عمل لا ينبغي ولا يليق فهو لائم. وتلاوم الرجلان: لام كل منهما الآخر:﴿فأقبل بعضهم على بعض يتلاومون (٣٠)﴾ [القلم]، وألام: جر على نفسه اللوم بفعل ما لا ينبغي فهو مليم: مستحق للوم. قال تعالى: ﴿فالتقمه الحوت وهو مليم (١٤٢)﴾ [الصافات] أي: مذنب مستحق للوم. [القاموس القويم ٢/ ٢٠٨] بتصرف..
٢٧ -عصمه يعصمه: منعه ووقاه، قال تعالى: ﴿والله يعصمك من الناس (٦٧)﴾ [المائدة] يحفظك ويقيك، وقوله: ﴿سآوي إلى جبل يعصمني من الماء (٤٣)﴾ [هود] يحفظني، واعتصم: تمسك بقوة، قال تعالى: ﴿واعتصموا بحبل الله جميعا..(١٠٣)﴾ [آل عمران] أي: تمسكوا بدينه. واستعصم: طلب لنفسه العصمة وتمسك بها، قال تعالى: ﴿ولقد راودته عن نفسه فاستعصم (٣٢)﴾ [يوسف] أي: فامتنع متمسكا بعصمته وعفة نفسه وبحفظها من السوء، [القاموس القويم ٢/ ٢٣، ٢٤].
٢٨ - الصغر يكون ماديا في الحجم، ويكون معنويا في القدر والمنزلة وهو ضد الكبر، وصغير: في حجمه أو في قدره ومنزلته، فمن المادي قوله: ﴿ولا تسأموا أن تكتبوه صغيرا أو كبيرا (٢٨٢)﴾ [البقرة]، ومن المعنوي قوله: ﴿إنك من الصاغرين (١٣)﴾ [الأعراف] [القاموس القويم ١/ ٢٧٧]..
وقولها :﴿ فذلكن.. ( ٣٢ ) ﴾ [ يوسف ]
مكون من " ذا " إشارة ليوسف، و " ذلكن " خطاب للنسوة، والإشارة تختلف عن الخطاب.
وهنا موقف أسلوبي ؛ لأن الكلام حين ينطق به، أو حين يكتب ليقرأ ؛ له ألوان متعددة، فمرة يكون نثرا لا يجمعه وزن أو قافية١ ؛ وقد يكون نثرا مسجوعا٢ أو مرسلا، ومرة يكون الكلام شعرا محكوما بوزن وقافية.
والمثل على النثر المسجوع هو قول الحق سبحانه.
﴿ والطور٣ ( ١ ) وكتاب مسطور ( ٢ ) في رق٤ منشور ( ٣ ) والبيت المعمور ( ٤ ) ﴾ [ الطور ]
وهذا نثر مسجوع بلا تكلف، وأنت إذا سمعت أو قرأت كلاما ؛ فأذنك تأخذ منه على قدر سمو أسلوبه، لكنك إن انتقلت من أسلوب إلى أسلوب، فأذنك تلتقط الفارق بين الأسلوبين.
والمثل نجده في الرسالة التي كتبها ابن زيدون٥ مستعطفا ابن جهور :
" هذا العتب محمود عواقبه، وهذه الغمرة نبوة ثم نجلي، ولن يريبني من سيدي إن أبطأ سببه أو تأخر، غير ضنين ضناه، فأبطأ الدلاء قبضا أملؤها، وأثقل السحاب مشيا أعقلها، ومع اليوم غد، ولكل أجل كتاب، له الحمد على اهتباله، ولا عتب عليه في اغتفاله.
فإن يكن الفعل الذي ساء واحدا فأفعاله اللاتي سررن ألوف
وهكذا تشعر انتقال ابن زيدون من النثر إلى الشعر، ولكنك وأنت تقرأ القرآن، تنتقل من النثر المرسل إلى النثر المسجوع إلى النظم الشعري على وزن بحور الشعر، فلا تكاد تفرق في الأسلوب بين شعر أو نثر.
والمثل نجده في الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها :
﴿ فذلكن الذي لمتني فيه.. ( ٣٢ ) ﴾ [ يوسف ]
فهي موزونة من بحر البسيط، ولكنك لا تشعر أنك انتقلت من نثر إلى شعر.
وكذلك قوله الحق :
﴿ والله يهدي من يشاء إلى صراط٦ مستقيم ( ٤٦ ) ﴾ [ النور ]
وأيضا قوله الحق :
﴿ نبئ عبادي أني أنا الغفور الرحيم ( ٤٩ ) ﴾ [ الحجر ]
وتأتي تلك الآيات في مواقع قد يكون ما قبلها نثرا، مما يدل على أن النغم الذي قاله الله نظما أو شعرا أو نثرا لا نشاز٧ فيه، ويكاد أن يكون سيلا واحدا.
وهذا لا يتأتى إلا من كلام الحق تبارك وتعالى، وأنت لن تشعر بهذا الأمر لو لم ينبهك أحد لما في بعض الآيات من وزن شعري.
أما كلام البشر ؛ فأنت إن قرأت الموزون، ثم انتقلت إلى المنثور ؛ أحست أذنك بهذا الانتقال ؛ ونفس المسألة تشعر بها حين تقرأ المنثور، ثم تنتقل إلى الموزون ؛ وستشعر أذنك بهذا الانتقال.
﴿ قالت فذلكن الذي لمتنني فيه ولقد راودته عن نفسه فاستعصم.. ( ٣٢ ) ﴾ [ يوسف ]
قالت ذلك بجراءة من رأت تأثير رؤيتهن ليوسف، وأعلنت أنه " استعصم "، وهذا يعني أنه قد تكلف المشقة في حجز نفسه عن الفعل، وهو قول يثبت أن رجولة يوسف غير ناقصة، فقد جاهد نفسه ليكبتها عن الفعل.
ويتابع الحق سبحانه ما جاء على لسان امرأة العزيز :
﴿ ولئن لم يفعل ما آمره ليسجنن وليكونا من الصاغرين ( ٣٢ ) ﴾ [ يوسف ]
قالت ذلك وكأنها هي التي تصدر الأحكام، والسامعات لها هن من أكبرن يوسف لحظة رؤيته ؛ تعلن لهن أنه إن لم يطعها فيما تريد ؛ فلسوف تسجنه وتصغر من شأنه لإذلاله وإهانته.
أما النسوة اللاتي سمعنها ؛ فقد طمعت كل منهن أن تطرد امرأة العزيز يوسف من القصر ؛ حتى تنفرد أي منهن به.
ولذلك يورد لنا الحق سبحانه قول يوسف عليه السلام :
﴿ قال رب السجن أحب إلي مما يدعونني إليه وإلا تصرف٨ عني كيدهن أصب٩ إليهم وأكن من الجاهلين١٠( ٣٣ ) ﴾
٢ - السجع: الكلام المقفى، وسجع يسجع سجعا تسجيعا: تكلم بكلام له فواصل كفواصل الشعر من غير وزن، وصاحبه سجاعة وهو من الاستواء والاستقامة والاشتباه كأن كل كلمة تشبه صاحبتها، قال ابن جني: سمى سجعا لاشتباه أواخره وتناسب فواصله.[لسان العرب-مادة: سجع]..
٣ - الطور: الجبل بسيناء نزل عنده موسى عليه السلام بعد خروجه مع قومه من مصر، قال تعالى: ﴿ورفعنا فوقهم الطور (١٥٤)[النساء]، ويسمى أيضا: {طور سيناء..(٢٠)﴾ [المؤمنون] و ﴿طور سنين (٢)﴾ [التين] [القاموس القويم ١/ ٤٠٨]..
٤ الرق: الجلد الرقيق يكتب عليه، وأطلق على الصحيفة البيضاء يكتب عليها. [القاموس القويم ١/ ٢٧٢]..
٥ -هو: أحمد بن عبد الله بن زيدون المخزومي الأندلسي، أبو الوليد، وزير كاتب شاعر، من أهل قرطبة، ولد ٣٩٤هـ، انقطع إلى ابن جهور [من ملوك الطوائف بالأندلس] فكان السفير بينه وبين الأندلس، توفي بإشبيلية عام [٤٦٣هـ] في أيام المعتمد على الله ابن المعتضد. [الأعلام للزركلي ١/ ١٥٨] بتصرف..
٦ - قال الأزهري: قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر وعاصم والكسائي: اهدنا الصراط المستقيم، بالصاد، وقرأ يعقوب بالسين، قال: وأصل صاده سين قبلت مع الطاء صادا لقرب مخارجها، قال الجوهري: الصراط والسراط: الطريق [لسان العرب-مادة: صرط]..
٧ -نشز الشيء ينشز نشوزا: ارتفع، وتل ناشز: مرتفع، ونشز في مجلسه ينشز: ارتفع قليلا، وأنشز الشيء: رفعه عن مكانه [لسان العرب-مادة: نشز].
٨ - الصرف: رد الشيء من حال إلى حال، وصرف السجين: أخلى سبيله، وصرف القلوب يصرفها: حولها من الهدى إلى الضلال: ﴿صرف الله قلوبهم.. (١٢٧)﴾ [التوبة] أي حولها [القاموس القويم: ١/ ٣٧٤]..
٩ - صبا: يصبو: مال وأحب، قال تعالى: ﴿وإلا تصرف عني كيدهن أصب إليهن وأكن من الجاهلين (٣٣)﴾ [يوسف] أي: أمل إليهن وأفعل ما يغرينني به، وصبا إلى اللهو: حن واشتاق إليه [القاموس القويم ١/ ٣٦٨]..
١٠ - الجهل: الطيش والسفه والتعدي بغير حق، والجهل: ضد العلم وهو الخلو من المعرفة، واسم الفاعل "جاهل"، وصيغة المبالغة "جهول"، ويتحدد معنى الجهل بما يناسب المقام، قال تعالى: ﴿ولكن أكثرهم يجهلون (١١١)﴾ [الأنعام]: [القاموس القويم: ١/ ١٣٥] بتصرف..
على الرغم من أن امرأة العزيز هي التي قالت :﴿ ولئن لم يفعل ما آمره ليسجنن.. ( ٣٢ ) ﴾[ يوسف ]
ونقول : لا بد أن يوسف عليه السلام قد رأى منهن إشارات أو غمزات توحي له بألا يعرض نفسه لتلك الورطة التي ستؤدي به إلى السجن ؛ لذلك أدخل يوسف عليه السلام في قوله المفرد –امرأة العزيز- في جمع النسوة اللاتي جمعتهن امرأة العزيز، وهن اللاتي طلبن منه غمزا أو إشارة أن يخرج نفسه من هذا الموقف.
ولعل أكثر من واحدة منهن قد نظرت إليه في محاولة لاستمالته١، وللعيون والانفعالات وقسمات الوجه تعبير أبلغ من تعبير العبارات، وقد تكون إشارات عيونهن قد دلت يوسف على المراد الذي تطلبه كل واحدة منهن، وفي مثل هذه الاجتماعات تلعب لغة العيون دورا هاما.
وها هو ذا أبو دلامة الشاعر وقد جلس في مجلس الخليفة، وكان أبو دلامة مشهورا بقدرة كبيرة على الهجاء٢. وأراد الخليفة أن يداعبه فقال له : عزمت عليك إلا هجوت واحدا منا.
ودارت عيون في المجلس، وأشار له كل من حضر المجلس خفية بأنه سيجزل٣ له العطاء إن ابتعد أبو دلامة عن هجائه ؛ ولأن أبا دلامة معروف بالطمع، وخشي أن يضيع منه أي شيء من العطايا ؛ لذلك قام بهجاء نفسه ؛ وقال :
ألا أبلغ لديك أبا دلامة فليس من الكرام ولا كرامه
إذا لبس العمامة كان قردا وخنزيرا إذا خلع العمامه
وهكذا خرج من قسم الأمير ؛ وكسب العطايا التي وعده بها من حضروا المجلس.
وهنا في الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها نجد يوسف عليه السلام قد جمع امرأة العزيز مع النسوة ؛ فقال :
﴿ رب السجن أحب إلي مما يدعونني إليه.. ( ٣٣ ) ﴾ [ يوسف ]
أي : أن السجن أفضل لديه من أن يوافق امرأة العزيز على فعل الفحشاء، أو يوافق النسوة على دعوتهن له أن يحرر نفسه من السجن بأن يستجيب لها، ثم يخرج إليهن من القصر من بعد ذلك.
ولكن يوسف عليه السلام دعا ربه، فقال :
﴿ وإلا تصرف عني كيدهن أصب إليهن وأكن من الجاهلين ( ٣٣ ) ﴾ [ يوسف ]
ولسائل أن يقول : ولماذا لم يقل يوسف " يا إلهي " وهو يعلم أن مناط التكليف في الألوهية ب " افعل " و " لا تفعل " ؟
نقول : أراد يوسف أن يدعو ربه باسم الربوبية اعترافا بفضله سبحانه ؛ لأنه هو جل وعلا من رباه وتعهده ؛ وهو هنا يدعوه باسم الربوبية ألا يتخلى عنه في هذا الموقف.
فيوسف عليه السلام يعرف أنه من البشر ؛ وإن لم يصرف الله عنه كيدهن ؛ لاستجاب لغوايتهن، ولأصبح من الجاهلين الذين لا يلتفتون إلى عواقب الأمور.
وعلى الرغم من أن السجن أمر كريه ؛ إلا أنه قد فضله على معصية خالقه ؛ ولأنه لجأ إلى المربي الأول. لتأتي الاستجابة منه سبحانه.
يقول الحق :﴿ فاستجاب له ربه فصرف عنه كيدهن إنه هو السميع العليم ( ٣٤ ) ﴾
٢ -هجاه يهجوه هجاء: شتمه بالشعر، وهو خلاف المدح، قال الليث: هو الوقيعة في الأشعار [لسان العرب- مادة: هجو]..
٣ - الجزيل: العظيم، وأجزلت له من العطاء أي أكثرت، وعطاء جزل وجزيل إذا كان كثيرا وقد أجزل له العطاء إذا عظم [لسان العرب- مادة: جزل]..
تلك الغواية التي تمثلت في قول الملك من بعد ذلك :
﴿ قال ما خطبكن١ إذ راودتن يوسف عن نفسه قلن حاش لله ما علمنا عليه من سوء.. ( ٥١ ) ﴾ [ يوسف ]
وهكذا أنجاه الله من مكر النسوة ؛ وهو جل وعلا له مطلق السمع ومطلق العلم، ولا يخفى عليه شيء، ويستجيب لأهل الصدق في الدعاء.
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك :
﴿ ثم بدا لهم من بعد ما رأوا الآيات٢ ليسجنه حتى حين ( ٣٥ ) ﴾
٢ - قال ابن عباس: "القميص من الآيات، وشهادة الشاهد من الآيات، وقطع الأيدي من الآيات، وإعظام النساء إياه من الآيات" ذكره القرطبي في تفسيره [٤/ ٣٥٠٨]..
لذلك رأى العزيز وأهل مشورته أن يوضع يوسف عليه السلام في السجن ؛ ليكون في ذلك فصل بينه وبينها ؛ حتى تهدأ ضجة الفضيحة ؛ وليظهر للناس أنه مسؤول عن كل هذا السوء الذي ظهر في بيت العزيز.
كما أن كلمة :﴿ ليسجننه.. ( ٣٥ ) ﴾ [ يوسف ]
فيها نوع من استبقاء الحب الذي يكنه العزيز ليوسف، فهو لم يأمر بقتله أو نفيه بعيدا ؛ بل احتفظ به بعيدا عن الزوجة المصرة على الخيانة، وعن المجتمع الذي يلوك تلك الوقائع.
والسجن –كما نعلم- هو حبس المسجون لتقييد حركته في الوجود ؛ وهو إجراء يتخذه القاضي أو الحاكم كعقوبة يراد بها إذلال المسجون، أو وقاية المجتمع من شره.
ونعلم أن الإنسان لا يجترئ على الأحكام إلا حين يظن أو يعلم أن له قدرة ؛ وله غلبة ؛ فيعلن له القاضي أو الحاكم نهاية تلك الغلبة والقدرة، ويأمر بدخوله إلى السجن ويحرس تقييد حريته سجّان ؛ وقد يتعرض للضرب أو الإهانة.
هذا هو السجن المتعارف عليه في العصور القديمة والحديثة ؛ حين تعزل المسجون عن المجتمع، وقد يعطف عليه بعض من أبناء المجتمع، ويزوره بعض من أقاربه ؛ ومعهم المأكولات ؛ والمطلوبات.
ولكن هناك سجن ديني أسسه رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ حين عزل المجتمع الإيمان عن السجين ؛ وقد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا يكلم أحد الثلاثة١ الذين تخلفوا عن الخروج معه للقتال بحجج واهية ؛ بل وتسامى هذا العزل إلى أن صار عزلا عن الأهل، إلى أن أمر صلى الله عليه وسلم بإنهاء هذا العزل بعد أن تحقق الغرض منه.
وماذا عن حال يوسف في السجن ؟
يقول الحق سبحانه :
﴿ ودخل معه السجن فتيان٢ قال أحدهما إني أراني أعصر خمرا٣ وقال الآخر إني أراني أحمل فوق رأسي خبزا تأكل الطير منه نبئنا بتأويله إنا نراك من المحسنين٤ ( ٣٦ ) ﴾
٢ - قال القرطبي في تفسيره [٤/ ٣٥١١]: "قال "فتيان" لأنهما كانا عبدين، والعبد يسمى فتى، صغيرا كان أو كبيرا، ذكره الماوردي، وقال القشيري: ولعل الفتى كان اسما للعبد في عرفهم، ولهذا قال: ﴿تراود فتاها عن نفسه (٣٠)﴾ [يوسف]"..
٣ - الخمر: الشراب المسكر الذي يغطي العقل ويذهب به، وهي إما مأخوذة من خمرت الشيء، سترته لأنها تستر العقل، أو من خمرت العجين: وضعت فيه الخمير فتفاعل معه فاختمر، والخمر في صنعها يوضع الخمير على العصير ويترك حتى يخمر فتؤخذ منه الخمر، قال تعالى: ﴿يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير..(٢١٩)﴾ [البقرة] وقوله تعالى: ﴿إني أراني أعصر خمرا..(٣٦)﴾ [يوسف] أي: أعصر عنبا ليصير خمرا فهو مجاز مرسل علاقته ما سيؤول إليه. [القاموس القويم: ١/ ٢٠٩] بتصرف..
٤ - قال القرطبي في تفسيره [٤/٣٥١٢]: "إحسانه ما كان يعود المرضى ويداويهم، ويعزى الحزاني، قال الضحاك: كان إذا مرض الرجل من أهل السجن قام به، وإذا ضاق وسع عليه، وإذا احتاج جمع له، وسأل له"..
وكان التشويش هو إذاعة خبر مؤامرة على العزيز ؛ وأن الساقي والخباز قد تم ضبطها بمحاولة وضع السم للعزيز١.
وبعد فترة من حياة الاثنين مع يوسف داخل السجن، وبعد معايشة يومية له تكشف لهما سلوك يوسف كواحد من المحسنين.
وحدث أن رأى كل منهما حلما، فقررا أن يطلبا منه تأويل هذين الحلمين، والسجين غالبا ما يكون كثير الوساوس، غير آمن على غده ؛ ولذلك اتجها إليه في الأمر الذي يهمهم :
﴿ قال أحدهما إني أراني أعصر خمرا وقال الآخر إني أراني أحمل فوق رأسي خبزا تأكل الطير منه نبئنا بتأويله إنا نراك من المحسنين ( ٣٦ ) ﴾ [ يوسف ]
ومن سياق الكلام نعرف أننا أما حلمين ؛ فواحد منهما رأى في منامه أنه يعصر خمرا، ورأى الثاني أنه يحمل خبزا فوق رأسه تأكل منه الطير، واتجه كلاهما- أو كل منهما على حدة- يطلبان- تأويل الرؤييين المناميتين، أو أنهما قد طلبا نبأ تأويل هذا الأمر الذي رأياه.
وحيثية لجوئهما إليه هو قولهما :
﴿ إنا نراك من المحسنين ( ٣٦ ) ﴾ [ يوسف ]
وهذا يدل على أن الإحسان أمر معلوم لكل البشر، حتى أصحاب النفوس المنحرفة، فلا أحد يمكن أن يحكم على آخر أنه محسن إلا إذا وافق عمله مقاييس الإحسان في ذهن من يصدر هذا الحكم.
فكل نفس تعرف السوء، وكل نفس تعرف الإحسان، ولكن الناس ينظرون إلى الإحسان وإلى السوء بذاتية أنفسهم، ولكنهم لو نظروا إلى مجموع حركة المتحركين في الكون، ونظروا إلى أي أمر يتعلق بالغير كما يتعلق بهم ؛ لعرفوا أن الإحسان قدر مشترك بين الجميع.
ونجد –اللص -على سبيل المثال- لا يسيئه أن يسرق أحد، لكن يسيئه لو أن أحدا قام بسرقته، وهكذا نرى الإحسان وقد انتفض في أعماقه حين يتوجه السوء إليه ؛ ويعرف حينئذ مقام الإحسان، ولكنه حين يمارس السرقة ؛ ويكون السوء متوجها منه إلى الغير ؛ فهو يغفل عن مقام الإحسان.
إذن : إن أردت أن تعرف مقام الإحسان في مقاييس الفضائل والأخلاق ؛ فافهم الأمر بالنسبة لك إيجابا وسلبا.
والمثال الذي أضربه دائما هو : قبل أن تمد عينيك إلى محارم غيرك، وتعتبر أن هذا ليس سوء، هنا عليك أن تعرف مقياسه من الحسن إن نقلت الأمر إلى الصورة العكسية ؛ حين تتجه عيون الغير إلى محارمك.
هنا ستجد الميزان –ميزانك للأمور- وقد اعتدل، وإذا أردت اعتدال الميزان في كل فعل ؛ فانظر إلى الفعل يقع منك على غيرك ؛ وانظر إلى الفعل يقع من الغير عليك ؛ وانظر إلى الراجح في نفسك من الأمرين ستجد قب الميزان منضبطا.
وأقول دائما : إن الحق سبحانه حين حرم عليك أن تسرق غيرك، لم يضيق حريتك ؛ بل ضيق حرية الملايين كي لا يسرقوك، وهذا مكسب لك.
إذن : فالذي يعرف مقام الإحسان ؛ لا ينسب الفعل الصادر منه على الغير ؛ والفعل الصادر من الغير عليه ؛ بل ينظر إليهما معا ؛ فما استقبحه من الغير عليه ؛ فليستقبحه منه على الغير.
وقد حكم السجينان على يوسف أنه من المحسنين، وعلم يوسف عليه السلام من حكمهما عليه أن مقاييس الإحسان موجودة عندهما ؛ ولذلك نظر إلى الأمر الذي جاءاه من أجله، واستغل هذه المسألة ؛ لا لقضاء حاجتهما منه ؛ ولكن لقضاء حاجته منهما.
فقد رأى فيهما شبهة الإيمان بالإحسان ؛ والإيمان بالمحسنين، فلماذا لا ينتهز الفرصة فيأخذ حاجته منهما ؛ قبل أن يعطيهما حاجتهما منه ؟
وكأنه قال لهما : ماذا رأيتما من إحساني ؟ هل رأيتم حسن معاملتي لكم ؟ أم أن كلا منكما قد رأى دقة اختياري للحسن من القول ؟ وأنتما قد لا تعرفان أن عندي –بفضل الله- ما هو أكثر، وهو ما يقوله الحق سبحانه بعد ذلك في الآية التالية :
﴿ قال لا يأتيكما طعما ترزقانه إلا نبأتكما بتأويله قبل أن يأتيكما ذلكما مما علمني ربي إني تركت ملة٢ قوم لا يؤمنون بالله وهم بالآخرة هم كافرون( ٣٧ ) ﴾
٢ - الملة: الدين، حقا كان أو باطلا، فمن الحق قوله تعالى: ﴿ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه..(١٣٠)﴾ [البقرة]، وهي الدين الحق، ومن الباطل قوله: ﴿إنهم إن يظهروا عليكم يرجموكم أو يعيدوكم في ملتهم..(٢٠)﴾ [الكهف]، وهي ملة باطلة [القاموس القويم ٢/ ٢٣٦]..
وهذه ليست خصوصية في يوسف أو من عندياته، ولكنها من علم تلقاه عن الله، وهو أمر يعلمه الله لعباده المحسنين ؛ فيكشف الله لهما بعضا من الأسرار.
وهما -السجينان- يستطيعان أن يكونا مثله إن أحسنا الإيمان بالله. ولذلك يتابع الحق سبحانه.
﴿ ذلكما مما علمني ربي إني تركت ملة قوم لا يؤمنون بالله وهم بالآخرة هم كافرون ( ٣٧ ) ﴾ [ يوسف ]
وكأنه بذلك يهديهما إلى الطريق الذي يجعلهما من المحسنين الذين يعطيهم الله بعضا من هبات الخير، فيعلمون أشياء تخفي على غيرهم.
وهذا يدلنا على أن المؤمن إذا رأى في إنسان ما مخيلة٢ خير فلينمي هذه المخيلة فيه ليصل إلى خير أكبر ؛ وبذلك لا يحتجز الخصوصية لنفسه حتى لا يقطع الأسوة الحسنة ؛ ولكي يطمع العباد في تجليات الله عليهم وإشراقاته.
ولذلك أوضح يوسف عليه السلام للسجينين أنه ترك ملة قوم لا يؤمنون بالله بما يليق الإيمان به سبحانه، ولا يؤمنون بالبعث والحساب ثوابا بالجنة، أو عقابا في النار.
ويتابع الحق سبحانه ما جاء على لسان يوسف عليه السلام :
﴿ واتبعت ملة آبائي٣ إبراهيم وإسحاق ويعقوب ما كان لنا أن نشرك بالله من شيء ذلك من فضل الله علينا وعلى الناس ولكن أكثر الناس لا يشكرون ( ٣٨ ) ﴾
٢ - إنه لمخيل للخير أي: خليق له، وأخال فيه خالا من الخير وتخيل عليه تخيلا، كلاهما: اختاره وتفرس فيه الخير. وتخولت فيه خالا من الخير وأخلت فيه خالا من الخير أي: رأيت مخيلته، وتخيل الشيء له، تشبه، وتخيل له أنه كذا أي تشبه وتخيال، يقال: تخيلته فتخيل لي، كما تقول تصورته فتصور، وتبينته فتبين، وتحققته فتحقق. [لسان العرب-مادة: خيل]..
٣ - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم، يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم السلام، أخرجه الترمذي في سننه [٣١١٦]، وأحمد في مسنده [٢/٣٣٢، ٤١٦]، والحاكم في مستدركه [٢/٣٤٦]..
وذلك من فضل الله بإنزاله المنهج الهادي، وفضله سبحانه قد شمل آباء يوسف بشرف التبليغ عنه سبحانه ؛ ولذلك ما كان لمن يعرف ذلك أن يشرك بالله، فالشرك بالله يعني اللجوء إلى آلهة متعددة.
يقول الحق سبحانه :
﴿ وما كان معه من إله إذا لذهب كل إله بما خلق ولعلا بعضهم على بعض سبحانه الله عما يصفون ( ٩١ ) ﴾ [ المؤمنون ]
فلو أن هنالك آلهة غير الله سبحانه لصنع كل إله شيئا لا يقدر على صنعه الإله الآخر ؛ ولأصبح الأمر صراعا بين آلهة متنافرة.
ومن فضل الله –هكذا أوضح يوسف عليه السلام- أن أنزل منهجه على الأنبياء ؛ ومنهم آباؤه إبراهيم وإسحاق ويعقوب ؛ ليبلغوا منهجه إلى خلقه، وهم لم يحبسوا هذا الفضل القادم من الله، بل أبلغوه للناس.
﴿ ولكن أكثر الناس لا يشكرون ( ٣٨ ) ﴾ [ يوسف ]
وساعة تقرأ أو تسمع كلمة :﴿ لا يشكرون ( ٣٨ ) ﴾ [ يوسف ]
اعلم أن الأمر الذي أنت بصدده هو في مقاييس العقل والفطرة السليمة يستحق الشكر، ولا شكر إلا على النعمة.
ولو فطن الناس لشكروا الأنبياء والرسل على المنهج الذي بلغوه عن الله ؛ لأنه يهديهم إلى حسن إدارة الدنيا، وفوق ذلك يهديهم إلى الجنة.
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك ما واصله يوسف من حديثه للسجينين :
﴿ يا صاحبي السجن أأرباب١ متفرقون خير أم الله الواحد القهار٢ ( ٣٩ ) ﴾
٢ -قهر يقهره قهرا: غلبه وأذلة، قال تعالى: ﴿فأما اليتيم فلا تقهر (٩)﴾ [الضحى]، والقاهر: اسم فاعل، قال تعالى: ﴿وهو القاهر فوق عباده (١٨)﴾ [الأنعام] أي: المسيطر عليهم. [القاموس القويم ٢/ ١٣٦] بتصرف..
وطرح يوسف السؤال :
﴿ أأرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار ( ٣٩ ) ﴾ [ يوسف ]
وحين تطرح سؤالا عبر مقابل لك، فأنت تعلم مقدما أنه يفهم أن أربابا متفرقون ليسوا خيرا من إله واحد، وكأن يوسف قد وثق من أن إجابتهما لن تكون إلا بقولهم " بل عبادة إله واحد خير ".
وهو لم يكن ليسأل إلا إذا عرف أنهما سيديران كل الأجوبة ؛ فلا يجدان جوابا إلا الجواب الذي أراده.
فهما قد عبدا آلهة متعددة ؛ وكان المفروض في مقاييس الأشياء أن تغنيكم تلك الآلهة عن اللجوء لمن يعبد الإله الواحد.
إذن : في قوى البشر نجد التعدد يثرى ويضخم العمل، لكن في الألوهية نجد الشرك يضعف العمل.
ولذلك نجد الصوفي يقول : اعمل لوجه واحد يكفيك كل الأوجه.
ولذلك قال يوسف عليه السلام لصاحبي السجن :
﴿ أأرباب متفرقون خير.. ( ٣٩ ) ﴾ [ يوسف ]
ولو كان تفرقهم تفرق ذوات لكانوا بلا كمال يستحقون من أجله العبادة، ولو كان تفرقهم تفرق تكرار لما كان لهذا التكرار لزوم، ولو كان تفرقهم تفرق اختصاصات، فهذا يعني أن لكل منهم نقطة قوة ونقاط ضعف ؛ وتفرقهم هذا دليل نقص.
ولذلك رحمنا الحق نحن المؤمنين به لنعبد إلها واحدا، فقال :
﴿ ضرب الله مثلا رجلا فيه شركاء متشاكسون٢ ورجلا سلما٣ لرجل هل يستويان مثلا الحمد لله بل أكثرهم لا يعلمون ( ٢٩ ) ﴾ [ الزمر ]
وقد حاول يوسف عليه السلام أن يهديهم إلى عبادة الإله الواحد، وقال لهم من بعد ذلك ما جاء به الحق سبحانه :
﴿ ما تعبدون من دونه إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان إن الحكم إلا لله أمر ألا تعبدوا إلا إياه ذلك الدين القيم٤ ولكن أكثر الناس لا يعلمون ( ٤٠ ) ﴾
٢ - شكس: ساء خلقه وغلب عليه حب النزاع، وتشاكس القوم: تنازعوا واشتد اختلافهم، قال تعالى: ﴿ضرب الله مثلا رجلا فيه شركاء متشاكسون..(٢٩)﴾ [الزمر] ذلك مثل العبد المشرك له آلهة متعددة يتنازعون فيه. [القاموس القويم ١/ ٣٥٤].
٣ - السلم والسلم: الأمان وعدم الحرب: ﴿ادخلوا في السلم كافة (٢٠٨)[البقرة] في الصلح والمهادنة والاستسلام: {وألقوا إليكم السلم..(٩٠)﴾ [النساء] سالموكم وخضعوا لكم واستسلموا لكم، وقوله تعالى: ﴿ورجلا سلما لرجل..(٢٩)﴾[الزمر] أي: ملكا خاصا له لا ينازعه فيه أحد [القاموس القويم ١/ ٣٢٤]..
٤ - القيم: الثابت المستقيم الذي لا عوج فيه، أو المقوم المعدل للأمور أو المهيمن المشرف عليها، ومن ذلك قوله: ﴿دينا قيما..(١٦١)﴾ [الأنعام] أي: مستقيما أو مقوما لغيره من الأديان السابقة. [القاموس القويم ٢/ ١٤٣]..
وبذلك كان يوسف عليه السلام يؤثر السجينين ؛ فقد أراد أن يلفتهما إلى الأمر الجوهري قبل أن يتحدث عن الجزئية الصغيرة التي يسألان فيها ؛ وأراد أن يصحح نظرة الاثنين إلى المنهج العام الذي يدير به الإنسان كل تفاصيل الحياة وجزئياتها ؛ وفي هذا إيثار لا أثره١.
وهنا قال الحق سبحانه على لسان يوسف عليه السلام :
﴿ ما تعبدون من دونه إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم.. ( ٤٠ ) ﴾ [ يوسف ]
أي : أن ما تعبدونه من آلهة متعددة هو مجرد عبادة لأسماء بلا معنى ولا وجود ؛ أسماء ورثتموها عن آبائكم أو أنشأتموها أنتم، فكفرتم بإنشاء أسماء لآلهة غير موجودة، كما كفر آباؤكم كفر نسيان التكليف أو إنكار التكليف.
وتوضع الأسماء عادة للدلالة على المسمى ؛ فإذا نطقنا الاسم تجيء صورة المسمى إلى الذهن ؛ ولذلك نسمي المولود بعد ولادته باسم يميزه عن بقية إخوته ؛ بحيث إذا أطلق الاسم انصرف إلى الذات المشخصة.
وإذا أطلق اسم واحد على متعددين ؛ فلا بد أن يوضح واضع الاسم ما يميز كل ذات عن الأخرى.
والمثل من الريف المصري ؛ حين يتفاءل أب باسم " محمد " ؛ فيسمي كل أولاده بهذا الاسم، ولكنه يميز بينهم بأن يقول : " محمد الكبير " و " محمد الأوسط " و " محمد الصغير ".
أما إذا وضع اسم لمسمى غير موجود ؛ فهذا أمر غير مقبول أو معقول، وهم قد وضعوا أسماء لآلهة غير موجودة ؛ فصارت هناك أسماء على غير مسمى.
ويأتي هؤلاء يوم القيامة ؛ ليسألوا لحظة الحساب :
﴿ ثم قيل لهم أين ما كنتم تشركون ( ٧٣ ) من دون الله قالوا ضلوا عنا بل لم نكن ندعو من قبل شيئا كذلك يضل الله الكافرين ( ٧٤ ) ﴾ [ غافر ]
وهكذا يعترف هؤلاء بأنه لم تكن هناك آلهة ؛ بل كان هناك أسماء بلا مسميات.
ولذلك يقول الحق سبحانه هنا :
﴿ ما تعبدون من دونه إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم.. ( ٤٠ ) ﴾ [ يوسف ]
وكأن يوسف يتساءل : أئذا كانت لكم حاجة تطلبونها من السماء، هل ستسألون الاسم الذي لا مسمى له ؟
وهل يسعفكم الاسم بدون مسمى ؟
ويوسف عليه السلام يعلم أن المعبود لا يمكن أن يكون اسما بلا مسمى، وهو يعلم أن المعبود الحق له اسم يبلغه لرسله، وينزل معهم المنهج الذي يوجز في " افعل " و " لا تفعل ".
وهم قد سموا أسماء لا مسمى لها، ولا يستطيع غير الموجود أن ينزل منهجا، أو يجيب مضطرا.
ولذلك يتابع القرآن ما جاء على لسان يوسف عليه السلام في وصف تلك الأسماء التي بلا مسميات، فيقول :
﴿ ما تعبدون من دونه إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان.. ( ٤٠ ) ﴾ [ يوسف ]
أي : ما أنزل الله بها من حجة.
وتتابع الآية الكريمة ما جاء على لسان يوسف :
﴿ إن الحكم إلا لله أمر ألا تعبدوا إلا إياه.. ( ٤٠ ) ﴾ [ يوسف ]
أي : إنني-والكلام ليوسف- إن قلت شيئا فلأني ناقل للحكم عن الله، لا عن ذاتي ؛ ولا من عندي ؛ ولا عن هواي ؛ لأنه هو سبحانه الذي أمر ألا تعبدوا إلا إياه، أي : لا تطيعوا أمرا ونهيا إلا ما أنزله الله في منهجه الهادي للحق والخير.
ويذيل الحق سبحانه الآية الكريمة :
﴿ ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون ( ٤٠ ) ﴾ [ يوسف ]
أي : إن هذا هو الدين المستقيم دون سواه، ولكن أكثر الناس لا يعلمون، بمعنى : أن الرسل قد بلغتهم بالمنهج، ولكنهم لم يوظفوا هذا العلم في أعمالهم.
ثم بدأ يوسف عليه السلام في تأويل المطلوب لهما.
يقول الحق سبحانه :
﴿ يا صاحبي السجن أما أحدكما فيسقي ربه خمرا وأما الآخر فيصلب فتأكل الطير من رأسه قضي الأمر الذي فيه تستفتيان٢ ( ٤١ ) ﴾
٢ -استفتاه: طلب منه الفتوى وسأله رأيه في مسألة فأفتاه، فأجابه، قال تعالى: ﴿فاستفهم ألربك البنات ولهم البنون (١٤٩)﴾ [الصافات]، وقال ﴿ويستفتونك في النساء قل الله يفتيكم فيهن (١٢٧)﴾ [النساء]..
وتأويل الرؤيا علم يقذفه الله في قلوب من علمهم تأويل الأحاديث، وهي قدرة على فك شفرة الحلم، ويعطيها الله لمن يشاء من عباده.
وقد قال يوسف لمن قال :﴿ إني أراني أعصر خمرا.. ( ٣٦ ) ﴾ [ يوسف ]
أنه سوف ينال العفو حسب ما أظهرته الرؤيا التي قالها، وأما الآخر فسيأكل من رأسه الطير. أي : سيصلب كما أوحت بذلك رموز الرؤيا.
ونلحظ أن يوسف عليه السلام قد انشغل بالحكم الذي أوضحته الرؤييان عن الاثنين صاحبي الرؤييين.
وهذا دليل على أن القاضي يجب أن يكون ذهنه منصبا على الحكم ؛ لا على المحكوم عليه، فقد سمع يوسف منهما ؛ وهو لا يعرف من سينال البراءة، ومن الذي سوف يعاقب.
فنزع يوسف ذاته من الأمر، ولم يسمح لنفسه بدخول الهوى إلى قلبه ؛ لأن الهوى يلون الحكم، ولا أحد بقادر على أن يسيطر على عاطفته، ولا بد للقاضي لحظة أن يصدر حكما أن يتجرد تماما من الهوى والذاتيات.
ويعلمنا الحق سبحانه ذلك حين أنزل لنا في قرآنه قصة سيدنا داود عليه السلام :
﴿ وهل أتاك نبأ الخصم إذ تسوروا١ المحراب ( ٢١ ) إذ دخلوا على داوود ففزع منهم قالوا لا تخف خصمان بغى بعضنا على بعض فاحكم بيننا بالحق ولا تشطط٢ واهدنا إلى سواء الصراط ( ٢٢ ) إن هذا أخي له تسع وتسعون نعجة ولي نعجة واحدة فقال أكفلنيها٣ وعزني في الخطاب ( ٢٣ ) قال لقد ظلمك بسؤال نعجتك إلى نعاجه وإن كثيرا من الخلطاء ليبغي بعضهم على بعض إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وقليل ما هم وظن داوود أنما فتناه فاستغفر ربه وخر٤ راكعا وأناب ( ٢٤ ) ﴾ [ ص ]
وكان من ذكر عدد نعاج أخيه أنه إنما أراد أن يستميل داود عليه السلام لصفه ؛ وكان يريد أن يصور الظلم الذي وقع عليه، وحكم داود بأن من أخذ النعجة ليضمها لنعاجه هو الذي ظلم ؛ وشعر داود أنه لم يوفق في الحكم ؛ لأنه ذكر في حيثية الحكم نعاج الذي أراد أن يأخذ نعجة أخيه.
فالأخذ وحده كان هو المبرر عند داود لإدانة الذي أراد الاستيلاء على ما ليس من حقه ؛ ولذلك اعتبر أنه هذا الأمر كله فتنة لم يوفق فيها، واستغفر الله بالركوع والتوبة.
وقد كان يوسف عليه السلام حكيما حين قال تأويل الرؤيا متجردا من الذاتية، وأنهى التأويل بالقول.
﴿ قضي الأمر الذي فيه تستقيان ( ٤١ ) ﴾ [ يوسف ]
أي : أنه لا مجال للرجوع أو العدول عن حدوث ذلك الذي وصل إليه من تأويل ؛ فقد جاء التأويل وفقا لما علمه الله له.
وهناك الكثير من الروايات عما تحمله يوسف من صعاب قبل الجب وقبل السجن، وقيل : إن عمته ابنة إسحاق، وهي أكبر أولاده ؛ قد استقبلته بعد أن ماتت أمه لترعاه فتعلقت به ؛ ولم تحب أحدا قدر محبتها له.
وتاقت نفس يعقوب إلى ولده ؛ فذهب إليها وقال لها : سلمي إلى يوسف، لكنها قالت : والله ما أقدر أن يغيب عني ساعة، ولن أتركه.
فلما خرج يعقوب عليه السلام من عندها، عمدت إلى شيء٥ من ميراث إبراهيم عليه السلام يتوارثه أكبر الأبناء، ووضعته تحت ملابس يوسف.
وكان العرف الجاري أنه إذا سرق أحد شيئا وتم ضبطه ؛ تحول من حر إلى عبد، وحين كاد يعقوب أن يخرج مع ابنه يوسف عائدا إلى بيته ؛ أعلنت العمة فقدان الشيء الذي أعطاه لها والدها إسحاق ؛ وفتشوا يوسف فوجدوا الشيء المفقود.
فقالت عمته : والله إنه لسلم –أي عبد- وكان العرف أن من يسرق شيئا يتحول إلى عبد عند صاحب الشيء.
وهكذا بقي يوسف مع عمته محروما من أبيه لفترة، ولم يستطع الأب استرداده إلا بعد أن ماتت العمة.
ثم جاءت حادثة الجب، ومن بعدها محاولة امرأة العزيز لغوايته، ورغم تيقن العزيز من براءته إلا أنه أودع السجن ؛ ويقول الرواة :
" إن يوسف عليه السلام قد عرف في السجن بالجود، والأمانة، وصدق الحديث، وحسن السمت٦، وكثرة العبادة، ومعرفة التعبير –أي تأويل الرؤيا- والإحسان إلى أهل السجن.
ولما دخل هذان الفتيان معه السجن ؛ تآلفا به وأحباه حبا شديدا وقالا له : والله لقد أحببناك حبا زائدا، قال : بارك الله فيكما ؛ إنه ما من أحد أحبني إلا دخل علي من محبته ضرر، أحبتني عمتي فدخل الضرر بسببها، وأحبني أبي فأوذيت بسببه، وأحبتني امرأة العزيز فكذلك.
أي : أنه دخل السجن وصار معهما دون ذنب جناه.
قال السجينان : إنا لا نستطيع غير ذلك " ٧.
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك ما قاله يوسف لمن ظن أنه سينجو من السجن :
﴿ وقال للذي ظن أنه ناج منهما اذكرني عند ربك٨ فأنساه الشيطان ذكر ربه فلبث في السجن بضع سنين ( ٤٢ ) ﴾
٢ - الشطط: الجور وتجاوز الحد في كل شيء، قال تعالى: ﴿لقد قلنا إذ شططا (١٤)﴾ [الكهف] أي: قولا جائرا مجاوزا للحد [القاموس القويم ١/ ٣٤٩].
٣ - أكفلنيها: أي اجعلني كافلا لها راعيا شئونها مالكا لها، عزني في الخطاب: غلبني وقهرني [القاموس القويم ٢/ ١٨، ١٦٧]..
٤ - خر راكعا: أسرع إلى الركوع والخضوع لله كأنه سقط من علو. [القاموس القويم١/ ١٩٠]..
٥ - هذا الشيء هو منطقة إسحاق فيما ذكره ابن كثير في تفسيره [٢/ ٤٨٦] والمنطقة: هي كل ما شد به الإنسان على وسطه، وقد انتطق: أي شد النطاق على وسطه، [لسان العرب-مادة: نطق]..
٦ - السمت: حسن القصد والمذهب في أمور الدين والدنيا، قال خالد بن جنبة: السمت اتباع الحق والهدى وحسن الجوار وقلة الأذية [لسان العرب- مادة: سمت]..
٧ - قال القرطبي في تفسيره [٤/ ٣٥١١ٍ] أن صاحب السجن أحب يوسف، فوسع عليه فيه، ثم قال: يا يوسف لقد أحببتك حبا لم أحب شيئا حبك، فقال: أعوذ بالله من حبك، قال: ولم ذلك؟ فقال: أحبني أبي ففعل بي إخوتي ما فعلوه، وأحبتني سيدتي فنزل بي ما ترى"..
٨ - الرب": يطلق على المالك وعلى السيد وعلى الصاحب وعلى راعي الأسرة ورئيسهما [القاموس القويم ١/ ٢٥١] بتصرف..
وقوله سبحانه :
﴿ وقال للذي ظن.. ( ٤٢ ) ﴾ [ يوسف ]
يعني أن الأمر بالنجاة لم يتيقن بعد، ولم يصبح علما.
وقد أوصاه يوسف عليه السلام :
﴿ اذكرني عند ربك.. ( ٤٢ ) ﴾ [ يوسف ]
والذكر هو حضور شيء بالبال ؛ وكان له بالبال صلة استقبال، مثل أي قضية عرفتها من قبل ثم تركتها، ونسيتها لفترة، ثم تذكرتها من جديد.
وهكذا نعلم أن للإنسان استقبالات للإدراكات، وهي لا تظل في بؤرة الشعور كل الوقت ؛ لأن الذهن لا يستطيع أن يكون مشغولا إلا بشيء واحد، فإن جاء شيء آخر فهو يزحزح الأمر الأول إلى حافة الشعور، ليستقر الأمر الجديد في بؤرة الشعور.
والمثل الذي أضربه دائنا هو إلقاء حجر في الماء، فيصنع الحجر دوائر تكبر ويتتابع اتساع أقطارها، وهكذا بؤرة الشعور، حين تستقبل أمرا أو خاطرا جديدا.
فالخاطر الجديد يبعد كل الخواطر الأخرى من المركز إلى الحاشية، ثم يأتي ما يذكرك بما في حاشية الشعور ؛ ليعود لك الخاطر أو الأمر الذي كنت قد نسيته وتتذكره بكل تفاصيله ؛ لأن ذاكرة الإنسان تعمل على مستويين ؛ فهي تحفظ المعلومات ؛ وتسترجع المعلومات أيضا.
وقد قال يوسف لمن ظن أنه ناج :
﴿ اذكرني عند ربك.. ( ٤٢ ) ﴾ [ يوسف ]
أي : اذكر ما وجدته عندي من خير أمام سيدك.
وقال بعض المفسرين : إن يوسف عليه السلام حين نطق هذا القول ؛ شاء له الله أن يمكث في السجن بضع سنين ؛ فما كان ينبغي له كرسول أن يوسط الغير في مسألة ذكره بالخير عند سيد ذلك السجين.
فيوسف كرسول إنما يتلقى عن الله بواسطة الوحي ؛ وهو قد قال لذلك السجين وزميله.
﴿ لا يأتيكما طعما ترزقانه إلا نبأتكما بتأويله قبل أن يأتيكما ذالكما مما علمني ربي.. ( ٣٧ ) ﴾ [ يوسف ]
وهذا يعني أنه يستقبل عن الله مباشرة، وكان عليه أن يظل موصولا بالمصدر الذي يفيض عليه.
ويتابع الحق سبحانه :
﴿ فأنساه الشيطان ذكر ربه فلبث في السجن بضع سنين ( ٤٢ ) ﴾ [ يوسف ]
ونسيان ذكر الله فيه نوع من العقوبة، أو يحمل شيئا من التأديب ليوسف، وهكذا نرى أن الشيطان نفسه إنما يعين الحق على مراداته من خلقه.
وهذا ما يشرح لنا بقاء يوسف في السجن بضع سنين ؛ ونعرف أن البضع من السنين يعني من ثلاث سنوات إلى عشر سنوات، وبعض العلماء حدده بسبع سنين.
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك :
﴿ وقال الملك إني أرى سبع بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف١ وسبع سنبلات خضر وآخر يابسات يا أيها الملأ٢ أفتوني في رؤياي إن كنتم للرؤيا تعبرون ( ٤٣ ) ﴾
٢ - المقصود بالملأ هنا هم أهل العلم والبصر بالكهانة والنجامة والعرافة والسحر وأشراف قومه. [راجع: تفسير القرطبي ٤/ ٣٥٢٠].
﴿ وقال الذي اشتراه من مصر.. ( ٢١ ) ﴾ [ يوسف ]
وهكذا نعرف أن هناك " ملك "، وهناك " عزيز ".
ونحن نعلم أن حكام مصر القديمة كانوا يسمون الفراعنة، وبعد أن اكتشف " حجر رشيد "، وتم فك ألغاز اللغة الهيروغليفية ؛ عرفنا أن حكم الفراعنة قد اختفى لفترة ؛ حين استعمر مصر ملوك الرعاة، وهم الذين يسمون الهكسوس.
وكانت هذه هي الفترة التي ظهر فيها يوسف، وعمل يوسف وأخوه معهم، فلما استرجع الفراعنة حكم مصر طردوا الهكسوس، وقتلوا من كانوا يوالونهم.
وحديث القرآن عن وجود ملك في مصر أثناء قصة يوسف عليه السلام هو من أعجاز التنبؤ في القرآن.
وساعة تقرأ :
﴿ وقال الملك إني أرى سبع بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف.. ( ٤٣ ) ﴾ [ يوسف ]
ثم يطلب تأويل رؤياه ؛ فهذا يعني أنها رؤيا منامية.
وكلمة :﴿ سمان ( ٤٣ ) ﴾ [ يوسف ]
أي : ممتلئة اللحم والعافية، وكلمة [ عجاف ] أي : الهزيلة ؛ كما يقال عند العامة " جلدها على عضمها " ؛ فكيف تأكل العجاف السمان ؛ مع أن العكس قد يكون مقبولا ؟
وأضاف الملك :
﴿ وسبع سنبلات خضر وأخر يابسات.. ( ٤٣ ) ﴾ [ يوسف ]
ولم يصف الملك أي فعل يصدر عن السنابل، ثم سأل من حوله من أعيان القوم الذين يتصدرون صدور المجالس، ويملأون العيون :﴿ أفتوني في رؤياي إن كنتم للرؤيا تعبرون ( ٤٣ ) ﴾ [ يوسف ]
وكلمة [ تعبرون ] مأخوذة من " عبر النهر " أي : انتقل من شاطئ إلى شاطئ، وكأنه يطلب منهم المراد المطوي في الرؤيا.
ومن هذا المعنى أخذنا كلمة " العبرة "، وهي التجربة التي نستفيد منها، ومنه أيضا " العبارة " وهو أن يكون هناك شيء مكتوم في النفس، ونؤديه، ونظهره بالعبارة.
ومنه " العبرة " : وهي الدمعة التي تسقط من العين تعبيرا عن مشاعر ما ؛ سواء كانت مشاعر حزن أو فرح، والمادة كلها تدور حول تعريف مجهول بمعلوم.
وهكذا يفعل مفسر الرؤيا حين يعبر –من خلال رموزها- من الخيال إلى الحقيقة.
ولم يعرف الملأ الذين حول الملك تفسيرا للرؤيا التي رآها في منامه.
ويقول الحق سبحانه ما جاء على ألسنتهم :
﴿ قالوا أضغاث١ أحلام وما نحن بتأويل الأحلام بعالمين ( ٤٤ ) ﴾
و " الضغث " هو حزمة من الحشائش مختلفة الأجناس ؛ فكأن رؤيا الملك لا تأويل لها عندهم ؛ لأنهم ليسوا من أهل التمييز في التأويل.
وهذا صدق من البطانة في ألا يخبر أحدهم بشيء، إلا إذا كان على علم به ؛ ولا يضير أحدهم أن يعلن جهله بأمر ما لا يعلمه.
والذي يعلن جهله بأمر لسائله –ويكون قد علمه- يجعله يسأل غيره، أما إن أجاب بجواب ؛ فربما جعله يثبت على هذا الجواب.
ولذلك قال العلماء ليفسحوا مجال الصدق في الفتيا : " من قال لا أدري فقد أفتى " ؛ لأنه حين يقول " لا أدري " ؛ سيضطرك إلى أن تسأل غيره.
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك :
﴿ وقال الذي نجا منهما واذكر١ بعد أمة٢ أنا أنبئكم بتأويله فأرسلون ( ٤٥ ) ﴾
٢ - الأمة: المدة والحين والوقت: وفسر به قوله تعالى: ﴿واذكر بعد أمة..(٤٥)﴾ [يوسف] وقرأ ابن عباس "وادكر بعد أمه" بالهاء، والأمة: النسيان والغفلة أي تذكر بعد نسيان. [القاموس القويم ١/ ٣٤]..
وقوله :﴿ وادكر بعد أمة.. ( ٤٥ ) ﴾ [ يوسف ]
يعني : أنه أجهد عقله وذهنه ؛ وافتعل التذكر لأن فترة لا بأس بها من الزمن قد مرت، وكلمة " أمة " تعني فترة من الزمن ؛ كما في قول الحق تبارك وتعالى :
﴿ ولئن أخرنا عنهم العذاب إلى أمة معدودة ليقولن ما يحبسه ألا يوم يأتيهم ليس مصروفا عنهم وحاق بهم ما كانوا بهم يستهزءون ( ٨ ) ﴾ [ هود ]
و " الأمة " قد يراد بها الجماعة من الناس، ويراد بها أيضا الرجل الجامع لكل صفات الخير، كما قال الحق سبحانه في وصف إبراهيم عليه السلام :
﴿ إن إبراهيم كان أمة قانتا١ لله حنيفا ولم يكن من المشركين ( ١٢٠ ) ﴾ [ النحل ]
أي : أن كل خصال الخير مجموعة في إبراهيم عليه وعلى نبينا السلام، وبعد أن افتعل ساقي الملك واجتهد ليتذكر ما حدث له منذ فترة هي بضع سنين ؛ أيام أن كان سجينا ورأى رؤيا منامية أولها له يوسف، قال الساقي للملأ وللملك عن تلك الرؤيا :
﴿ أنا أنبئكم بتأويله فأرسلون ( ٤٥ ) ﴾ [ يوسف ]
وبذلك استأذن ليذهب إلى من يؤول له رؤيا الملك.
وقوله :﴿ فأرسلون ( ٤٥ ) ﴾ [ يوسف ]
يعني أن التأويل ليس من عنده ؛ بل هو يعرف من يستطيع تأويل الرؤى.
ونلحظ أن القرآن لم يحمل على لسان هذا الرجل : إلى من سوف يذهب ؛ لأن ذلك معلوم بالنسبة له ولنا، نحن الذين نقرأ السورة.
وانتقل القرآن من طلب الإرسال إلى لقاء يوسف عليه السلام ؛ فيقول الحق سبحانه ما جاء على لسان ساقي الملك :
﴿ يوسف أيها الصديق٢ أفتنا في سبع بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف وسبع سنبلات خضر وأخر يابسات لعلي أرجع إلى الناس لعلهم يعلمون ( ٤٦ ) ﴾
٢ - الصديق: بكسر الصاد وتشديد الدال: صيغة مبالغة من الصدق ﴿أولئك هم الصديقون..(١٩)﴾ [الحديد]، وهي صديقة: ﴿وأمه صديقة..(٧٥)﴾ [المائدة] هي مريم عليها السلام. [القاموس القويم ١/ ٢٧٢].
وقوله :﴿ أيها الصديق.. ( ٤٦ ) ﴾[ يوسف ]
يدل على أنه قد جربه في مسائل متعددة، وثبت صدقه.
و " صديق " لا يقتصر معناها على أنه صادق في كل أقواله ؛ وصادق في كل أفعاله، وصادق في كل أحواله، ولكن معناها يتسع ليدلنا على أن الصدق ملازم له دائما في القول وفي الفعل.
أما في الأقوال فصدقه واضح ؛ لأنه يقول القضية الكلامية ولها واقع من الخارج يدل عليها.
وأما صدق الأفعال فهو ألا تجرب عليه كلاما، ثم يأتي فعله مخالفا لهذا الكلام ؛ وهذا هو من نطلق عليه " صديق ".
ونحن نعلم أن حركات الإنسان في الحياة تنقسم قسمين ؛ إما قول وإما فعل ؛ والقول أداته اللسان، والفعل أداته كل الجوارح.
إذن : فهناك قول، وهناك فعل، وكلاهما عمل ؛ فالقول عمل ؛ والرؤية بالعين عمل ؛ والسمع بالأذن عمل، والمس باليد عمل.
لكن القول اختص باللسان، وأخذت بقية الجوارح الفعل ؛ لأن الفعل هو الوسيلة الإعلامية بين متكلم وبين مخاطب، وأخذ شق الفعل.
وهكذا نعلم أن الفعل قسمان : إما قول ؛ وإما فعل.
والصديق هو الذي يصدق في قوله، بأن تطابق النسبة الكلامية الواقع، وصادق في فعله بألا يقول ما لا يفعل.
ولذلك قال الحق سبحانه :
﴿ كبر مقتا٢عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون ( ٣ ) ﴾ [ الصف ]
ونعلم أن ساقي الملك كانت له مع يوسف تجربتان :
التجربة الأولى : تجربة معايشته في السجن هو وزميله الخباز، وقولهما له :
﴿ إنا نراك من المحسنين ( ٣٦ ) ﴾[ يوسف ]
وكان قولهما هذا هو حيثية سؤالهم له أن يؤول لهما الرؤييين :
﴿ قال أحدهما إني أراني أعصر خمرا وقال الآخر إني أراني أحمل فوق رأسي خبزا تأكل الطير منه نبئنا بتأويله إنا نراك من المحسنين ( ٣٦ ) ﴾ [ يوسف ]
والتجربة الثانية : هي نجيء واقع حركة الحياة بعد ذلك مطابقا لتأويله لرؤييين. ولذلك يقول له هنا :
﴿ يوسف أيها الصديق أفتنا في سبع بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف وسبع سنبلات خضر وأخر يابسات لعلي أرجع إلى الناس لعلهم يعلمون ( ٤٦ ) ﴾[ يوسف ]
أي : أفتنا في رؤيا سبع بقرات سمان ؛ يأكلهن سبع بقرات شديدة الهزال، وسبع سنبلات خضر، وسبع أخر يابسات، لعلي أرجع إلى الناس لعلهم يعلمون.
وقوله :﴿ أفتنا.. ( ٤٦ ) ﴾ [ يوسف ]
يوضح أنه لا يسأل عن رؤيا تخصه ؛ بل هي تخص رائيا لم يحدده، وإن كنا قد عرفنا أنها رؤيا الملك.
وقوله :﴿ لعلي أرجع إلى الناس.. ( ٤٦ ) ﴾ [ يوسف ]
هو تحرز واحتياط في قضية لا يجزم بها ؛ وهو احتياط في واقع قدر الله مع الإنسان، والسائل قد أخذ أسلوب الاحتياط ؛ ليخرجه من أن يكون كاذبا، فهو يعلم أن أمر عودته ليس في يده ؛ ولذلك يعلمنا الله :
﴿ ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا ( ٢٣ ) إلا أن يشاء الله واذكر ربك إذا نسيت وقل عسى أن يهدين ربي لأقرب من هذا رشدا ( ٢٤ ) ﴾ [ الكهف ]
وساعة تقول : " إن شاء الله " تكون قد أخرجت نفسك من دائرة الكذب ؛ وما دمت قد ذكرت الله فهو سبحانه قادر على أن يهديك إلى الاختيار المناسب في كل أمر تواجه فيه الاختيار.
فكأن الله يعلم عباده أن يحافظوا على أنفسهم، بأن يكونوا صادقين في أقوالهم وأفعالهم ؛ لأنك مهما خطت فأنت تخطط بعقل موهوب لك من الله ؛ وحين تقدم على أي فعل ؛ فأي فعل مهما صغر يحتاج إلى عوامل متعددة وكثيرة، لا تملك منها شيئا ؛ لذلك فعليك أن ترد كل شيء إلى من يملكه.
وهنا قال الساقي :
﴿ لعلي أرجع إلى الناس.. ( ٤٦ ) ﴾ [ يوسف ]
وبذلك يعلمنا الحق سبحانه الاحتياط.
وأضاف الحق سبحانه على لسان الرجل :
﴿ لعلهم يعلمون ( ٤٦ ) ﴾ [ يوسف ]
وكأن الرجل قد عرف أنه حين يأخذ التأويل من يوسف عليه السلام ؛ ويعود به إلى الناس ؛ فهو لا يعلم كيف يستقبلون هذا التأويل ؟.
أيستقبلونه بالقبول، أم بالمحاجة٣ فيه ؟ أو يستقبلون التأويل بتصديق، ويعلمون قدرك ومنزلتك يا يوسف ؛ فيخلصوك مما أنت فيه من بلاء السجن.
وقوله تعالى :﴿ لعلي أرجع إلى الناس.. ( ٤٦ ) ﴾ [ يوسف ]
قد يدفع سائلا إلى أن يقول : من الذي كلف الساقي بالذهاب إلى يوسف ؛ أهو الملك أم الحاشية ؟
ونقول : لقد نسبها الساقي إلى الكل ؛ للاحتياط الأدائي.
ويقول الحق سبحانه من بعد ذلك :
﴿ قال تزرعون سبع سنين دأبا٤ فما حصدتم فذروه في سنبله إلا قليلا مما تأكلون ( ٤٧ ) ﴾
٢ - المقت: أشد الإبغاض، مقته يمقته: أبغضه، ويقول تعالى: ﴿لمقت الله أكبر من مقتكم أنفسكم..(١٠)﴾ [غافر] قال: يقول: لمقت الله إياكم حين دعيتم إلى الإيمان فلم تؤمنوا أكبر من قمتكم أنفسكم حين رأيتم العذاب، [لسان العرب –مادة: مقت]..
٣ - تحاجا: تخاصما وتنازعا الحجة، كل منهما يحاول أن يثبت أنه المحق، قال تعالى: ﴿وإذ يتحاجون في النار..(٤٧)﴾ [غافر] أي: يتخاصمون [القاموس القويم ١/ ١٤٣]..
٤ - دأب على الأمر: اعتاده. والدأب والدأب: العادة والشأن، قال تعالى: ﴿مثل دأب قوم نوح..(٣١)﴾ [غافر] أي: عادتهم وشأنهم. وقال تعالى: ﴿قال تزرعون سبع سنين دأبا..(٤٧)﴾[يوسف] [القاموس القويم ١/ ٢١٩]..
والدأب معناه : المواظبة ؛ فكأن يوسف عليه السلام قد طلب أن يزرع أهل مصر بدأب وبدون كسل.
ويتابع :﴿ فما حصدتم فذروه في سنبله إلا قليلا مما تأكلون ( ٤٧ ) ﴾[ يوسف ]
أي : ما تحصدونه نتيجة الزرع بجد واجتهاد ؛ فلكم أن تأكلوا القليل منه، وتتركوا بقيته محفوظا في سنابله.
والحفظ في السنابل يعلمنا قدر القرآن، وقدرة من أنزل القرآن سبحانه، وما آتاه الله جل علاه ليوسف عليه السلام من علم في كل نواحي الحياة، من اقتصاد ومقومات التخزين، وغير ذلك من عطاءات الله، فقد أثبت العلم الحديث أن القمح إذا خزن في سنابله ؛ فتلك حماية ووقاية له من السوس.
وبعض العلماء قال في تفسيره هذه الآية : إن المقصود هو تخزين القمح في سنابله وعيدانه.
وأقول : إن المقصود هو ترك القمح في سنابله فقط ؛ لأن العيدان هي طعام الحيوانات.
ونحن نعلم أن حبة القمح لها وعاءان : وعاء يحميها ؛ وهو ينفصل عن القمحة أثناء عملية " الدرس " ؛ ثم يطير أثناء عملية " التذرية " منفصلا عن حبوب القمح.
ولحبة القمح وعاء ملازم لها، وهو القشرة التي تنفصل عن الحبة حين نطحن القمح، ونسميها " الردة " وهي نوعان : " ردة خشنة " و " ردة ناعمة ".
ومن عادة البعض أن يفصلوا الدقيق النقي عن " الردة "، وهؤلاء يتجاهلون- أو لا يعرفون –الحقيقة العلمية التي أكدت أن تناول الخبز المصنوع من الدقيق الأبيض الخالي من " الردة " يصيب المعدة بالتلبك.
فهذه القشرة الملازمة لحبة القمح ليست لحماية الحبة فقط ؛ بل تحتوي على قيمة غذائية كبيرة.
وكان أغنياء الريف في مصر يقومون بتنقية الدقيق المطحون من " الردة " ويسمونه " الدقيق العلامة " ؛ الذي إن وضعت ملعقة منه في فمك ؛ تشعر بالتلبك ؛ إما إذا وضعت ملعقة من الدقيق الطبيعي الممتزج بما تحتويه الحبة من " ردة " ؛ فلن تشعر بهذا التلبك.
ويمتن الله على عباده بذلك في قوله الحق :
﴿ والحب ذو العصف١ والريحان ( ١٢ ) ﴾[ الرحمان ]
وقد اهتدى علماء هذا العصر إلى القيمة الفاعلة في طحن القمح، مع الحفاظ على ما فيه من قشر القمح، وثبت لهم أن من يتناول الخبز المصنوع من الدقيق النقي للغاية ؛ يعاني من ارتباك غذائي يلجئه إلى تناول خبز مصنوع من قشر القمح فقط، وهو ما يسمى " الخبز السن " ؛ ليعوض في غذائه ما فقده من قيمة غذائية.
وهنا يقول الحق سبحانه :﴿ فما حصدتم فذروه في سنبله إلا قليلا مما تأكلون ( ٤٧ ) ﴾[ يوسف ]
وهكذا أخبر يوسف الساقي الذي جاء يطلب منه تأويل رؤيا الملك ؛ بما يجب أن يفعلوه تحسبا للسنوات السبع العجاف التي تلي السبع سنوات المزدهرة بالخضرة والعطاء، فلا يأكلوا ملء البطون ؛ بل يتناولوا من القمح على قدر الكفاف :﴿ إلا قليلا مما تأكلون ( ٤٧ ) ﴾[ يوسف ]
ويتابع الحق سبحانه ما جاء على لسان يوسف عليه السلام من بقية التأويل لحلم الملك :﴿ ثم يأتي من بعد ذلك سبع شداد يأكلن ما قدمتم لهن إلا قليلا مما تحصنون٢( ٤٨ ) ﴾
٢ - قال القرطبي في تفسيره [٤/ ٣٥٢٦]: "أي: مما تحبسون لتزرعوا، لأن في استبقاء البذر تحصين الأقوات: قال أبو عبيدة: تحزرون، وقال قتادة: تحصنون: تدخرون والمعنى واحد"..
وقوله سبحانه في وصف السبع " سنوات " بأنها :﴿ شداد ( ٤٨ ) ﴾ [ يوسف ]
يعني : أن الجدب فيها سوف يجهد الناس ؛ فإن لم تكن هناك حصيلة تم تخزينها من محصول السبع السنوات السابقة، فقد تحدث المجاعة، وليعصهم الناس بطونهم في السنوات السبع الأولى، وليأكلوا على قدر الضرورة ؛ ليضمنوا مواجهة سنوات الجدب.
ونحن نعلم أن الإنسان يستبقي حياته بالتنفس والطعام والشراب ؛ والطعام إنما يمرى على الإنسان ؛ ويعطيه قوة يواجه بها الحياة.
ولكن أغلب طعامنا لا نهدف منه القوة فقط ؛ بل نبغي منه المتعة أيضا، ولو كان الإنسان يبغي سد غائلة١ الجوع فقط، لاكتفى بالطعام المسلوق، أو بالخبز والإدام فقط، لكننا نأكل للاستمتاع.
ويتكلم الحق سبحانه عن ذلك فيقول :﴿ فكلوه هنيئا٢ مريئا٣( ٤ ) ﴾ [ النساء ]
أي بدون أن يضرك، ودون أن يلجئك هذا الطعام إلى المهضمات من العقاقير.
وهذا هو المقصود من قول الحق سبحانه :﴿ هنيئا.. ( ٤ ) ﴾ [ النساء ]
أما المقصود بقوله :﴿ مريئا.. ( ٤ ) ﴾[ النساء ].
فهو الطعام الذي يفيد ويمد الجسم بالطاقة فقط ؛ وقد لا يستساغ طعمه.
وهنا قال الحق سبحانه :﴿ ثم يأتي من بعد ذلك سبع شداد يأكلن ما قدمتم لهن إلا قليلا مما تحصنون ( ٤٨ ) ﴾[ يوسف ]
وبطبيعة الحال نفهم أن السنوات ليست هي التي تأكل ؛ بل البشر الذي يعيشون في تلك السنوات هم الذين يأكلون.
ونحن نفهم ذلك ؛ لأننا نعلم أن أي حدث يحتاج لزمان ولمكان ؛ ومرة ينسب الحدث للزمان ؛ ومرة ينسب الحدث للمكان.
والمثل على نسبة الحدث للمكان هو قول الحق سبحانه :﴿ واسأل٤ القرية التي كنا فيها والعير٥.. ( ٨٢ ) ﴾[ يوسف ]
وطبعا نفهم أن المقصود هو سؤال أهل القرية التي كانوا فيها، وأصحاب القوافل التي كانت معهم.
وهنا في الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها ؛ نجد الحدث منسوبا للزمان ؛ وهم سيأكلون مما أحصنوا إلا قليلا ؛ لأنهم بعد أن يأكلوا لا بد لهم من الاحتفاظ بكمية من الحبوب والبذور لاستخدامها كتقاوى في العام التالي لسبع سنوات موصوفة بالجدب.
وقوله تعالى :﴿ مما تحصنون ( ٤٨ ) ﴾[ يوسف ]
نجده من مادة " حصن " وتفيد الامتناع ؛ ويقال : " أقاموا في داخل الحصن " أي : أنهم إن هاجمهم الأعداء ؛ يمتنعون عليهم ؛ ولا يستطيعون الوصول إليهم.
ويقول الحق سبحانه :﴿ والمحصنات من النساء.. ( ٢٤ ) ﴾[ النساء ]
أي : الممتنعات عن عملية الفجور ؛ وهن الحرائر.
وأيضا يقول الحق سبحانه :﴿ والتي أحصنت فرجها.. ( ٩١ ) ﴾[ الأنبياء ]
أي : التي أحكمت صيانة عفتها، وهي السيدة مريم البتول٦ عليها السلام، وهكذا نجد مادة " حصن " تفيد الامتناع.
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك :﴿ ثم يأتي من بعد ذلك عام فيه يغاث الناس وفيه يعصرون٧ ( ٤٩ ) ﴾
٢ -هنؤ يهنؤ هناءة: تيسر بلا مشقة، وسهل أمره، وسعد به صاحبه وهو طعام هنيء: أي سائغ نافع يسعد به آكله، قال تعالى: ﴿فكلوه هنيئا مريئا (٤)﴾ [النساء] أي: حلالا طيبا لا حرمة فيه ولا حرج عليكم في أكله. [القاموس القويم ٢/ ٣٠٩]..
٣ - مرء الطعام: سهل في الحلق وحملت عاقبته وخلا من التنغيص. [القاموس القويم: ٢/٢٠]..
٤ - وهذا الأسلوب يسمى في البلاغة المجاز بالحذف- دلائل الإعجاز للجرجاني..
٥ - العير: القافلة، والعير: القوم معهم دوابهم وأحمالهم من الطعام، قال تعالى: ﴿أيتها العير إنكم لسارقون (٧٠)﴾ [يوسف] أي: أيها القوم الراحلون [القاموس القويم ٢/ ٤٤]..
٦ - البتول من النساء: العذراء المنقطعة عن الأزواج، ويقال: هي المنقطعة إلى الله عز وجل عن الدنيا [لسان العرب- مادة: بتل]..
٧ - قال ابن عباس: يعصرون الأعناب والدهن. وقال ابن جريج: يعصرون العنب خمرا، والسمسم دهنا، والزيتون زيتا، وقيل: أراد حلب الألبان لكثرتها، ويدل ذلك على كثرة النبات [تفسير القرطبي ٤/ ٣٥٢٧]..
وأنهى يوسف عليه السلام تأويل الرؤيا، وبعد ذلك جاء بحكم العقل على الأمور ؛ حيث يعود الخصب العادي ليعطيهم مثلما كان يعطيهم من قبل ذلك.
وهذا يمكن أن يطلق عليه " غوث " ؛ لأننا نقول " أغث فلانا " أي : أعث فلانا ؛ لأنه في حاجة للعون، والغيث٢ ينزل من السماء لينهي الجدب.
وقوله :﴿ يغاث الناس.. ( ٤٩ ) ﴾[ يوسف ]
أي : يعانون بما يأتيهم من فضل الله بالضروري من قوت يمسك عليهم الحياة.
ويذيل الحق سبحانه الآية بقوله :﴿ وفيه يعصرون ( ٤٩ ) ﴾[ يوسف ]
أي : ما يمكن عصره من حبوب أو ثمار ؛ مثل : السمسم، والزيتون، والعنب، والقصب، أو البلح، وأنت لن تعصر تلك الحبوب أو الثمار إلا إذا كان عندك ما يفيض عن قوت ذاتك وقوت من تعول.
وهكذا أوضح لنا الحق سبحانه أنهم سوف يرزقون بخير يفيض عن الإغاثة ؛ ولهم أن يدخروه، وما سبق في آيات الرؤيا وتأويلها هو حوار بين يوسف الصديق –عليه السلام- وبين ساقي الملك.
ولاحظنا كيف انتقل القرآن من لقطة عجز الحاشية عن الإفتاء في أمر الرؤيا، وتقديم الساقي طلبا لأن يرسلوه كي يحضر لهم تأويل الرؤيا، ثم جاء مباشرة بالحوار بين يوسف والساقي.
هنا ينتقل القرآن إلى ما حدث، بعد أن علم الملك بتأويل الرؤيا، فيقول سبحانه :
﴿ وقال الملك ائتوني به فلما جاءه الرسول قال ارجع إلى ربك فاسأله ما بال النسوة التي قطعن أيديهن إن ربي بكيدهن عليم ( ٥٠ ) ﴾
٢ - غيث: المطر. والغيث: الكلأ ينبت من ماء السماء، والأصل المطر، ثم سمى ما ينبت به غيثا. [لسان العرب- مادة: غيث]..
لكنه فوجئ برفض يوسف للخروج من السجن، وقوله لمن جاء يصحبه إلى مجلس الملك :
﴿ ارجع إلى ربك فاسأله ما بال النسوة اللاتي قطعن أيديهن إن ربي بكيدهن عليم ( ٥٠ ) ﴾ [ يوسف ]
وهكذا حرص يوسف على ألا يستجيب لمن جاء يخلصه من عذاب السجن الذي هو فيه ؛ إلا إذا برئت ساحته براءة يعرفها الملك ؛ فقد يكون من المحتمل أنهم ستروها عن أذن الملك.
وأراد يوسف عليه السلام بذلك أن يحقق الملك في ذلك الأمر مع هؤلاء النسوة اللاتي قطعن أيديهن ؛ ودعونه إلى الفحشاء.
واكتفى يوسف بالإشارة إلى ذلك بقوله :
﴿ إن ربي بكيدهن عليم ( ٥٠ ) ﴾ [ يوسف ]
ويخفي هذا القول في طياته ما قالته النسوة من قبل ليوسف بضرورة طاعة امرأة العزيز في طلبها للفحشاء.
وهكذا نجد القصص القرآني وهو يعطينا العبرة التي تخدمنا في واقع الحياة ؛ فليست تلك القصص للتسلية، بل هي للعبرة التي تخدمنا في قضايا الحياة.
وبراءة ساحة أي إنسان هو أمر مهم ؛ كي تزول أي ريبة من الإنسان قبل أن يسند إليه أي عمل.
وهكذا طلب يوسف عليه السلام إبراء ساحته، حتى لا يقولن قائل في وشاية أو إشاعة " همزا أو لمزا " :١ أليس هذا يوسف صاحب الحكاية مع امرأة العزيز، وهو من راودته عن نفسه.
وها هو رسولنا صلى الله عليه وسلم يقول :
" عجبت لصبر أخي يوسف وكرمه –والله يغفر له- حيث أرسل إليه ليستفتي في الرؤيا، وإن كنت أنا لم أفعل حتى أخرج ؛ وعجبت من صبره وكرمه –والله يغفر له- أتي ليخرج فلم يخرج حتى أخبرهم بعذره، ولو كنت أنا لبادرت الباب، ولكنه أحب أن يكون له العذر " ٢.
وشاء نبينا صلى الله عليه وسلم أن يوضح لنا مكانة يوسف من الصبر وعزة النفس والنزاهة والكرامة فقال صلى الله عليه وسلم :
" إن الكريم، ابن الكريم، ابن الكريم، ابن الكريم يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم. قال –لو لبثت في السجن ما لبث، ثم جاءني الرسول أجبت ثم قرأ صلى الله عليه وسلم -.
﴿ فلما جاءه الرسول قال ارجع إلى ربك فاسأله ما بال النسوة اللاتي قطعن أيديهن.. ( ٥٠ ) ﴾ " ٣ [ يوسف ]
وهكذا بين لنا الرسول صلى الله عليه وسلم مكانة يوسف من الصبر والنزاهة، وخشيته أن يخرج من السجن فيشار إليه : هذا من راود امرأة سيده.
وفي قول الرسول صلى الله عليه وسلم إشارة إلى مبالغة يوسف في ذلك الأمر، وكان من الأحوط أن يخرج من السجن، ثم يعمل على كشف براءته.
ومعنى ذلك أن الكريم لا يستغل المواقف استغلالا أحمق، بل يأخذ كل موقف بقدره ويرتب له ؛ وكان يوسف واثقا من براءته، ولكنه أراد ألا يكون الملك آخر من يعلم.
وصدق رسولنا صلى الله عليه وسلم حين قال :( دع ما يريبك إلى ما لا يريبك، فإن الصدق طمأنينة، وإن الكذب ريبة )٤.
وكان صلى الله عليه وسلم يرى أن الإيمان بالله يقتضي ألا يقف المؤمن موقف الريبة ؛ لأن بعض الناس حين يرون نابها، قد تثير الغيرة من نباهته البعض ؛ فيتقولون عليه.
لذلك فعليك أن تحتاط لنفسك ؛ بألا تقف موقف الريبة، والأمر الذي تأتيك منه الريبة ؛ عليك أن تبتعد عنه.
ولنا في رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة، فقد جاءته زوجه صفية بن حيي تزوره وهو معتكف في العشر الأواخر من رمضان، فتحدثت عنده ساعة من العشاء، ثم قامت تنقلب –أي : تعود إلى حجرتها- فقام معها رسول الله، صلى الله عليه وسلم حتى إذا بلغت باب المسجد الذي عند مسكن أم سلمة زوج رسول صلى الله عليه وسلم، مر بهما رجلان من الأنصار فسلما على رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم نفذا٥، فقال لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم :( على رسلكما، إنما هي صفية بنت حيي، قالا : سبحان الله يا رسول الله، وكبر عليهما ما قال. قال : إن الشيطان يجري من ابن آدم مبلغ الدم، وإني خشيت أن يقذف في قلوبكما " ٦.
وهنا في الموقف الذي نتناوله بالخواطر، نجد الملك وهو يستدعي النسوة اللاتي قطعن أيديهن، وراودن يوسف عن نفسه، وهو ما يذكره الحق سبحانه :
﴿ قال ما خطبكن إن راودت يوسف عن نفسه قلن حاش لله ما علمنا عليه من سوء قالت امرأة العزيز الآن حصحص٧ الحق أنا راودته عن نفسه وإنه لمن الصادقين ( ٥١ ) ﴾
٢ - أخرجه الطبراني في المعجم الكبير [١١٦٤٠]، قال الهيثمي في مجمع الزوائد [٧/٤٠]: "فيه إبراهيم بن يزيد القرشي المكي وهو متروك" وقد أورده السيوطي في الدر المنثور [٤/٥٤٨] وعزاه لابن جرير وابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه من طرق عن ابن عباس..
٣ - أخرجه أحمد في مسنده [٢/ ٣٣٢] والترمذي في سننه [٣١١٦] وقال: "حديث حسن" وكذا أخرجه الحاكم في مستدركه [٢/٣٤٦] كلهم من حديث أبي هريرة، قال الحاكم: "هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه بهذه السياقة" وسكت عنه الذهبي..
٤ - أخرجه أبو داود الطيالسي في مسنده [١١٧٨]، وكذا الإمام أحمد في مسنده [١/٢٠٠]، والترمذي في سننه [٢٥١٨] وقال: (حديث حسن صحيح) من حديث الحسن بن علي..
٥ - النفاذ: الجواز وفي المحكم: جواز الشيء والخلوص منه، تقول: نفذت أي جزت. [لسان العرب- مادة: نفذ] أي: مرا وجاوزاهما..
٦ - متفق عليه. أخرجه البخاري في صحيحه [٦٢١٩]، ومسلم في صحيحه [٢١٧٥] من حديث صفية بنت حيي..
٧ - حصحص الحق: وضح وتبين بعد خفائه، والحصحصة: بيان الحق بعد كتمانه أي: ظهر وبرز [لسان العرب-مادة: حصحص]..
قال عنها يوسف ما أورده الحق سبحانه :
﴿ وإلا تصرف عني كيدهن أصب١ إليهن وأكن من الجاهلين ( ٣٣ ) ﴾ [ يوسف ]
واستدعاهن الملك، وسألهن :﴿ ما خطبكن.. ( ٥١ ) ﴾ [ يوسف ]
والخطب : هو الحدث الجلل، فهو حدث غير عادي يتكلم به الناس ؛ فهو ليس حديثا بينهم وبين أنفسهم ؛ بل يتكلمون عنه بحديث يصل إلى درجة تهتز لها المدينة ؛ لأن مثل هذا الحادث قد وقع.
ولذلك نجد إبراهيم عليه السلام، وقد قال لجماعة من الملائكة :﴿ قال فما خطبكم أيها المرسلون ( ٣١ ) قالوا إنا أرسلنا إلى قوم مجرمين ( ٣٢ ) ﴾ [ الذاريات ]
أي : أن الملائكة طمأنت إبراهيم عليه السلام ؛ فهي في مهمة لعقاب قوم مجرمين.
وموسى عليه السلام حين عاد إلى قومه ؛ ووجد السامري قد صنع لهم عجلا من الذهب الذي أخذوه من قوم فرعون نجد يقول للسامري :
﴿ قال فما خطبك يا سامري ( ٩٥ ) ﴾ [ طه ]
وقول الملك هنا في الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها :
﴿ ما خطبكن إذ راودتن يوسف عن نفسه.. ( ٥١ ) ﴾ [ يوسف ]
يدل على أنه قد سمع الحكاية بتفاصيلها فاهتز لها ؛ واعتبرها خطبا ؛ مما يوضح لنا أن القيم هي القيم في كل زمان أو مكان.
وبدأ النسوة الكلام، فقلن :
﴿ حاش لله ما علمنا عليه من سوء.. ( ٥١ ) ﴾ [ يوسف ]
ولم يذكرن مسألة مراودتهن له، وكان الأمر المهم هو إبراء ساحة يوسف عند الملك.
وقولهن :﴿ حاش لله.. ( ٥١ ) ﴾ [ يوسف ]
أي : ننزه يوسف عن هذا، وتنزيهنا ليوسف أمر من الله.
وهنا تدخلت امرأة العزيز :
﴿ قالت امرأة العزيز الآن حصحص الحق.. ( ٥١ ) ﴾ [ يوسف ]
أي : أنها أقرت بأنه لم يعد هناك مجال للستر، ووضح الحق بعد خفاء، وظهرت حصة الحق من حصة الباطل، ولا بد من الاعتراف بما حدث :
﴿ أنا راودته عن نفسه وإنه لمن الصادقين ( ٥١ ) ﴾ [ يوسف ]
وواصلت امرأة العزيز الاعتراف في الآية التالية :
﴿ ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب وأن الله لا يهدي كيد الخائنين ( ٥٢ ) ﴾
قالت ذلك حتى تعلن براءة يوسف عليه السلام، وأنها لم تنتهز فرصة غيابه في السجن وتنتقم منه ؛ لأنه لم يستجب لمراودتها له، ولم تنسج له أثناء غيابه المؤامرات، والدسائس، والمكائد.
وهذا يدلنا على أن شرّة الإنسان قد تتوهج لغرض خاص، وحين يهدأ الغرض ويذهب، يعود الإنسان إلى توازنه الكمالي في نفسه، وقد يجعل من الزلة الأولى في خاطره وسيلة إلى الإحسان فيما ليس له فيه ضعف، كي تستر الحسنة السيئة، مصداقا لقول الحق سبحانه :
﴿ إن الحسنات يذهبن السيئات ذلك ذكرى للذاكرين ( ١١٤ ) ﴾ [ هود ]
ولو أن إنسانا عمل سيئة وفضحه آخر عليها ؛ فالفاضح لتلك السيئة إنما يحرم المجتمع من حسنات صاحب السيئة.
ولذلك أقول : استروا سيئات المسيء ؛ لأنها قد تلهمه أن يقدم من الخير ما يمحو به سيئاته.
ولذلك قالوا : إذا استقرأت تاريخ الناس، أصحاب الأنفس القوية في الأخلاق والقيم ؛ قد تجد لهم من الضعف هنات وسقطات ؛ ويحاولون أن يعملوا الحسنات كي تذهب عنهم السيئات ؛ لأن بال الواحد منهم مشغول بضعفه الذي يلهبه ؛ فيندفع لفعل الخيرات.
وبعد أن اعترفت امرأة العزيز بما فعلت ؛ قالت :
﴿ وأن الله لا يهدي كيد الخائنين ( ٥٢ ) ﴾ [ يوسف ]
أي : أنها أقرت بأنه سبحانه وتعالى لا ينفذ كيد الخائنين، ولا يوصله إلى غايته.
وتواصل امرأة العزيز فتقول :
﴿ وما أبرئ نفسي إن النفس لأمارة بالسوء إلا ما رحم ربي إن ربي غفور رحيم ( ٥٣ ) ﴾
﴿ إن النفس لأمارة بالسوء.. ( ٥٣ ) ﴾ [ يوسف ]
ومجيء قول الحق سبحانه المؤكد أن النفس على إطلاقها أمارة بالسوء ؛ يجعلنا نقول : إن يوسف أيضا نفس بشرية.
وقد قال بعض العلماء١ : إن هذا القول من كلام يوسف، كرد عليها حين قالت :
﴿ أنا راودته عن نفسه وإنه لمن الصادقين ( ٥١ ) ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب وأن الله لا يهد كيد الخائنين ( ٥٢ ) ﴾[ يوسف ]
وكان من المناسب أن يرد يوسف عليه السلام بالقول :﴿ وما أبرئ نفسي إن النفس لأمارة بالسوء إلا ما رحم ربي.. ( ٥٣ ) ﴾ [ يوسف ]
ويمكن أن ينسب هذا القول إلى يوسف كلون من الحرص على ألا يلمسه غرور الإيمان، فهو كرسول من الله يعلم أن الله سبحانه هو الذي صرف كيدهن عنه.
وهذا لون من رحمة الله به ؛ فهو كبشر مجرد عن العصمة والمنهج من الممكن أن تحدث له الغواية ؛ لكن الحق سبحانه عصمه من الزلل.
ومن لطف الله أن قال عن النفس : إنها أمارة بالسوء ؛ وفي هذا توضيح كاف لطبيعة عمل النفس ؛ فهي ليست آمرة بالسوء، بمعنى أنها تأمر الإنسان لتقع منه المعصية مرة واحدة وينتهي الأمر.
لا، بل انتبه أيها الإنسان إلى حقيقة عمل النفس، فهي دائما أمارة بالسوء، وأنت تعلم أن التكليفات الإلهية كلها إما أوامر أو نواه، وقد تستقبل الأوامر كتكليف يشق على نفسك، وأنت تعلم أن النواهي تمنعك من أفعال قد تكون مرغوبة لك، لأنها في ظاهرها ممتعة، وتلبي نداء غرائز الإنسان. ولذلك يقول المصطفى صلى الله عليه وسلم :( حفت الجنة بالمكاره وحفت النار بالشهوات )٢.
أي : أن المعاصي قد تغريك، ولكن العاقل هو من يملك زمام نفسه، ويقدر العواقب البعيدة، ولا ينظر إلى اللذة العارضة الوقتية ؛ إلا إذا نظر معها إلى الغاية التي توصله إليها تلك اللذة ؛ لأن شيئا قد تستلذ به لحظة قد تشقى به زمنا طويلا.
ولذلك قلنا : إن الذي يسرف على نفسه غافل عن ثواب الطاعة وعن عذاب العقوبة، ولو استحضر الثواب على الطاعة، والعذاب على المعصية ؛ لامتنع عن الإسراف على نفسه.
ولذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم :( لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن )٣.
إذن : فلحظة ارتكاب المعصية نجد الإنسان وهو يستر إيمانه ؛ ولا يضع في باله أنه قد يموت قبل أن يتوب عن معصيته، أو قبل أن يكفر عنها.
ويخطئ الإنسان في حساب عمره ؛ لأن أحدا لا يعلم ميعاد أجله ؛ أو الوقت الذي يفصل بينه وبين حساب المولى –عز وجل- له على المعاصي. وكل منا مطالب بأن يضع في حسبانه حديث الرسول صلى الله عليه وسلم :( الموت القيامة، فمن مات فقد قامت قيامته )٤.
ولنا أسوة طيبة في عثمان بن عفان –رضي الله عنه- وهو الخليفة الثالث لرسول الله صلى الله عليه وسلم، الذي كان إذا وقف على قبر بكى حتى تبتل لحيته، فسئل عن ذلك ؛ وقيل له : تذكر الجنة والنار فلا تبكي، وتبكي إذا وقفت على قبر ؟ فقال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :( إن القبر أول منازل الآخرة، فإن نجا منه صاحبه فما بعده أيسر منه، وإن لم ينج منه، فما بعده أشد " ٥.
لذلك فلا يستبعد أحد ميعاد لقائه بالموت.
وتستمر الآية :﴿ إلا ما رحم ربي إن ربي غفور رحيم ( ٥٣ ) ﴾[ يوسف ]
ونعلم أن هناك ما يشفي من الداء، وهناك ما يحصن الإنسان، ويعطيه مناعة أن يصيبه الداء، والحق سبحانه غفور، بمعنى أنه يغفر الذنوب، ويمحوها، والحق سبحانه رحيم، بمعنى أنه يمنح الإنسان مناعة، فلا يصيبه الداء، فلا يقع في زلة أخرى.
والحق سبحانه هو القائل :﴿ وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين.. ( ٨٢ ) ﴾ [ الإسراء ]
فساعة تسمع القرآن فهو يشفيك من الداء الذي تعاني منه نفسيا ويقوي قدرتك على مقاومة الداء ؛ ويفجر طاقات الشفاء الكامنة في أعماقك.
وهو رحمة لك حين تتخذه منهجا، وتطبقه في حياتك ؛ فيمنحك مناعة تحميك من المرض، فهو طب علاجي وطب وقائي في آن واحد.
٢ - أخرجه الإمام أحمد في مسنده [٣/ ١٥٣، ٢٥٤] ومسلم في صحيحه [٢٨٢٢] والترمذي في سننه [٢٥٥٩] من حديث أنس رضي الله عنه..
٣ - متفق عليه. أخرجه البخاري في صحيحه [٢٤٧٥]، ومسلم في صحيحة [٥٧] كتاب الإيمان من حديث أبي هريرة رضي الله عنه..
٤ - ذكره العجلوني في كشف الخفاء [حديث رقم ٢٦١٨] عن أنس بن مالك رضي الله عنه، وتمامه: "أكثروا ذكر الموت، فإنكم إن ذكرتموه في غنى كدره عليكم، وإن ذكرتموه في ضيق وسعه عليكم" الحديث..
٥ - أخرجه أحمد في مسنده [١/ ٦٣]، وابن ماجه في سننه [٤٢٦٧]، والترمذي في سننه [٢٣٠٨] وقال: "حديث حسن غريب" من حديث عثمان بن عفان رضي الله عنه..
ونلحظ أن الملك قد قال :﴿ ائتوني به ( ٥٤ ) ﴾[ يوسف ] مرتين١، مرة : بعد أن سمع تأويل الرؤيا ؛ لكن يوسف رفض الخروج من السجن إلا بعد أن تثبت براءته ؛ أو : أنه خرج وحضر المواجهة مع النسوة بما فيهن امرأة العزيز.
ورأى الملك في يوسف أخلاقا رفيعة ؛ وسعة علم.
وانتهى اللقاء الأول ليتدبر الملك، ويفكر في صفات هذا الرجل ؛ والراحة النفسية التي ملأت نفس الملك ؛ وكيف دخل هذا الرجل قلبه.
والمرة الثانية عندما أراد الملك أن يستخلصه لنفسه ويجعله مستشارا له.
ويورد الحق سبحانه هذا المعنى في قوله :﴿ ائتوني به أستخلصه لنفسي فلما كلمه قال إنك اليوم لدينا مكين أمين ( ٥٤ ) ﴾[ يوسف ]
وهذا الاستخلاص قد جاء بعد أن تكلم الملك مع يوسف، وبعد أن استشف خفة يوسف على نفسه ؛ وتيقن الملك من بعد الحوار مع يوسف أنه رجل قد حفظ نفسه من أعنف الغرائز ؛ غريزة الجنس. وتيقن من أن يوسف تقبل السجن، وعاش فيه لفترة طالت ؛ وهو صاحب علم، وقد ثبت ذلك بتأويل الرؤيا ؛ وقد فعل ذلك وهو سجين ؛ ولم يقبل الخروج من السجن إلا لإثبات براءته، أو بعد إثبات البراءة.
ولكل ذلك صار من أهل الثقة عند الملك، الذي أعلن الأمر بقوله :﴿ إنك اليوم ليدنا مكين أمين ( ٥٤ ) ﴾ [ يوسف ] وذلك ليسد باب الوشاية به، أو التآمر عليه، ومكانة " المكين " هي المكانة التي لا ينال منها أي أحد. ولذلك نجد الحق –سبحانه وتعالى- حينما تكلم عن الوحي من جبريل عليه السلام قال :﴿ إنه لقول رسول كريم ( ١٩ ) ذي قوة عند ذي العرش مكين ( ٢٠ ) ﴾ [ التكوير ]
فالمعنى : أن يوسف عليه السلام أهل للثقة عند الحاكم ؛ وهو الذي سينفذ الأمور، وله صلة بالمحكومين، وإذا كان هو الممكن من عند الحاكم ؛ فهو أيضا أمين مع المحكومين.
والمشكلة في مجتمعاتنا المعاصرة إنما تحدث عندما يرجح الحاكم من يراهم أهل الثقة على أهل الخبرة والأمانة، فتختل موازين العدل. وعلى الحاكم الذكي أن يختار الذين يتمتعون بالأمرين معا ؛ أمانة على المحكوم ؛ وثقة عند الحاكم، وبهذا تعتدل الحياة على منهج الله.
وحين سمع يوسف عليه السلام هذا الكلام من الحاكم :﴿ إنك اليوم ليدنا مكين أمين ( ٥٤ ) ﴾ [ يوسف ] قرر أن يطلب منه شيئا يتعلق بتعبيره لرؤياه، التي سبق أن أولها يوسف :﴿ قال تزرعون سبع سنين دأبا٢ فما حصدتم فذروه في سنبله إلا قليلا مما تأكلون ( ٤٧ ) ثم يأتي من بعد ذلك سبع شداد يأكلن ما قدمتم لهن إلا قليلا مما تحصنون ( ٤٨ ) ثم يأتي من بعد ذلك عام فيه يغاث الناس وفيه يعصرون ( ٤٩ ) ﴾ [ يوسف ] وهذه عملية اقتصادية تحتاج إلى تخطيط وتطبيق ومتابعة وحسن تدبير وحزم وعلم. لذلك كان مطلب يوسف عليه السلام فيه تأكيد على أن الواقع القادم سيأتي وفقا لتأويله للرؤيا، فتقول الآيات :﴿ قال اجعلني على خزائن٣ الأرض إني حفيظ عليم ( ٥٥ ) ﴾
٢ - دأب في عمله دأبا ودأبا: جد فيه ولازمه من غير فتور، أي: مداومين مجتهدين ذوي دأب. [القاموس القويم ١/ ٢١٩] بتصرف..
٣ - الخزائن: جمع خزانة، وهي المكان الذي تحفظ فيه الأشياء النافعة، قال ابن كثير في تفسيره [٢/٤٨٢]: "هي الأهرام التي يجمع فيها الغلات لما يستقبلونه من السنين التي أخبرهم بشأنها فيتصرف لهم على الوجه الأحوط والأصلح والأرشد..
وقد تقدم ما يثبت أن هاتين الصفتين يتحلى بهما يوسف عليه السلام.
وقد يقول قائل : أليس في قول يوسف شبهة طلب الولاية ؟ والقاعدة١ تقول : إن طالب الولاية لا يولى.
فيوسف عليه السلام لم يطلب ولاية، وإنما طلب الإصلاح ليتخذ من إصلاحه سبيلا لدعوته وتحقيقا لرسالته، حيث إنه كان آمرا فيستجاب، ولم يكن مأمورا للإيجاب، حيث إنه كان واثقا بالإيمان ومؤمنا بوثوق.
وقد تأتي ظروف لا تحتمل التجربة مع الناس، فمن يثق بنفسه أنه قادر على القيام بالمهمة فله أن يعرض نفسه.
ومثال ذلك : لنفترض أن قوما قد ركبوا سفينة ؛ ثم هاجت الرياح وهبت العاصفة ؛ وتعقدت الأمور ؛ وارتبك القبطان، وجاءه من يخبره أنه قادر على أن يحل له هذا الأمر، ويحسن إدارة قيادة المركب، وسبق للقبطان أن علم عنه ذلك.
هنا يجب على القبطان أن يسمح لهذا الخبير بقيادة السفينة ؛ وبعد أن ينتهي الموقف الصعب ؛ على القبطان أن يوجه الشكر لهذا الخبير ؛ ويعود لقيادة سفينته.
إذن : فمن حق الإنسان أن يطلب الولاية إذا تعين عليه ذلك ؛ بأن يرى أمرا يتعرض له غير ذي خبرة يفسد هذا الأمر، وهو يعلم وجه الصلاح فيه، وهنا يكون التدخل فرض عين من أجل إنقاذ المجتمع.
وفي مثل هذه الحالة نجد من طلب الولاية فهو يملك شجاعتين :
الشجاعة الأولى : أنه طلب الولاية لنفسه ؛ لثقته في إنجاح المهمة.
الشجاعة الثانية : أنه حجب من ليس له خبرة أن يتولى منصبا لا يعلم إدارته ؛ وبهذا يصير الباطل متصرفا.
وبذلك يظهر وجه الحق ؛ ويزيل سيطرة الباطل.
ولذلك نجد يوسف عليه السلام يقول للملك :﴿ اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم ( ٥٥ ) ﴾ [ يوسف ]
والخزائن يوجد فيها ما يمكن المسيطر عليها من قيادة الاقتصاد.
وقالوا : إن يوسف طلب من الملك أن يجعله على خزائن الأرض، لوضع سياسة اقتصادية يواجهون بها سبع سنين من الجدب، وتلك مسألة تتطلب حكمة وحفظا وعلما.
وكان يوسف عليه السلام يأخذ من كل راغب في الميْرة الأثمان من ذهب وفضة، ومن لا يملك ذهبا وفضة كان يحضر الجواهر من الأحجار الكريمة ؛ أو يأتي بالدواب ليأخذ مقابلها طعاما. ومن لا يملك كان يحضر بعضا من أبنائه للاسترقاق، أي : يقول رب الأسرة الفقير : خذ هذا الولد ليكون عبدا لقاء أن آخذ طعاما لبقية أفراد الأسرة.
وكان يوسف عليه السلام يحسن إدارة الأمر في سنوات الجدب ليشد كل إنسان الحزام على البطن، فلا يأكل الواحد في سبعة أمعاء بل يأكل في معىً واحد، كما يقول رسولنا صلى الله عليه وسلم في الحديث الشريف :( المؤمن يأكل في معى واحد، والكافر يأكل في سبعة أمعاء ). ٢
وكان التموين في سنوات الجدب يقتضي دقة التخطيط، ولا يحتمل أي إسراف. وما دام لكل شيء ثمن يجب أن يدفع، فكل إنسان سيأخذ على قدر ما معه، وبعد أن انتهت سنوات الجدب، وجاءت سنوات الرخاء ؛ أعاد يوسف لكل إنسان ما أخذه منه.
وحين سئل : ولماذا أخذت منهم ما دمت قد قررت أن ترد لهم ما أخذته ؟
أجاب : كي يأخذ كل إنسان في أقل الحدود التي تكفيه في سنوات الجدب.
ومثل هذا يحدث عندنا حين نجد البعض، وهو يشتري الخبز المدعم ليطعم به الماشية، وحين يرتفع ثمن الخبز نجد كل إنسان يشتري في حدود ما معه من نقود، ويحرض على ألا يلقي مما اشترى شيئا. وكانت قدرة الدولة أيام الجفاف محدودة ؛ لذلك وجب على كل فرد أن يعمل لنفسه.
ونحن نرى ذلك الأمر، وهو يتكرر في حياتنا ؛ فحين لا يجد أحد ثمن اللحم فقد لا تهفو نفسه إلى اللحم، وقد يعلن في كبرياء : " إن معدتي لم تعد تتحمل اللحم ". وقد يعلن الفقير حبه للسمك الصغير ؛ لأنه لحمه طيب، عكس السمك الكبير الذي يكون لحمه " متفّلا "، أو يعلن إعجابه بالفجل الطازج، لأنه لذيذ الطعام. وقديما في بدايات العمر كنا حين ندخل إلى المنزل، ونحن نعيش بعيدا عن بيوت الأهل في سنوات الدراسة، ولا نجد إلا قرصا واحدا من " الطعمية "، كنا نقسم هذا القرص ليكفي آخر لقمة في الرغيف. أما إذا دخلنا ووجدنا خمسة أقراص من الطعمية، فكان الواحد منا يأكل نصف قرص من الطعمية مع لقمة واحدة. وهكذا يتحمل كل واحد على قدر حركته وقدرته.
والشاعر يقول :
والنفس راغبة إذا رغبتها | وإذا ترد إلى قليل تقنع |
٢ - أخرجه مسلم في صحيحه [٢٠٦٠] [١٨٤] كتاب الأشربة، من حديث جابر وابن عمر رضي الله عنهما..
﴿ وكذلك مكنا ليوسف في الأرض يتبوأ٣ منها حيث يشاء نصيب برحمتنا من نشاء ولا نضيع أجر المحسنين ( ٥٦ ) ﴾
وهكذا كان تمكين الله ليوسف عليه السلام في الأرض، بحيث أدار شؤون مصر بصورة حازمة ؛ عادلة ؛ فلما جاء الجدب ؛ لم يأتها وحدها ؛ بل عم البلاد التي حولها. بدليل أن هناك أناسا من بلاد أخرى لجأوا يطلبون رزقهم منها ؛ والمثل : إخوة يوسف الذين جاءوا من الشام يطلبون طعاما لهم ولمن ينتظرهم في بلادهم، فهذا دليل على أن رقعة الشدة كانت شاسعة.
وقول الحق سبحانه :﴿ وكذلك مكنا ليوسف في الأرض يتبوأ منها حيث يشاء.. ( ٥٦ ) ﴾ [ يوسف ] نفهم منه أنه جعل لنفسه بيتا في أكثر من مكان ؛ ولا يظنن ظان أن هذا لون من اتساع أماكن الترف. لكن : لماذا لا ننظر إليها بعيون تكشف حقيقة رجال الإدارة في بعض البلاد ؛ فما أن يعلموا بوجود بيت للحكام في منطقة ما ؛ وقد يزوره ؛ فهم يعتنون بكل المنطقة التي يقع فيها هذا البيت : وهذا ما نراه في حياتنا المعاصرة، فحين يزور الحاكم منطقة ما فهم يعيدون رصف الشوارع ؛ ويصلحون المرافق ؛ وقد يحضرون أصص الزرع ليجملوا المكان. فما بالك إن علموا بوجود بيت للحاكم في مكان ما ؟ لا بد أنهم سيوالون العناية بكل التفاصيل المتعلقة بالمرافق في هذا الموقع.
إذن : فقول الحق سبحانه هنا عن يوسف عليه السلام :﴿ يتبوأ منها حيث يشاء.. ( ٥٦ ) ﴾ [ يوسف ] يعني : شيوع العناية بالخدمات لكل الذين يسكنون في هذا البلد ؛ فلا تأخذ الأمر على أنه ترف وشرف، بل خذ هذا القول على أنه تكليف سينتفع به المحيطون، سواء كانوا مقصودين به أو غير مقصودين.
وتلك لقطة توضح أن التبوؤ حيث يشاء ليس رحمة به فقط ؛ ولكنه رحمة بالناس أيضا. ولذلك يقول الحق سبحانه في نفس الآية :﴿ نصيب برحمتنا من نشاء.. ( ٥٦ ) ﴾ [ يوسف ]. فمن كان يحيا بلا مياه صالحة للشرب ستصله المياه النقية ؛ ومن كان يشقى من أجل أن يعيش في مكان مريح ستتحول المنطقة التي يسكن فيها إلى مكان مريح به كل مستلزمات العصر الذي يحيا فيه. فيوسف الممكن في الأرض له مسكن مجاور له ؛ وسيجد العناية من قبل الجهاز الإداري حيثما ذهب، وتغمر العناية الجميع، رحمة من الله له، وللناس من حوله.
وينهي الحق سبحانه الآية الكريمة بقوله :﴿ ولا نضيع أجر المحسنين ( ٥٦ ) ﴾ [ يوسف ].
والمحسن هو الذي يصنع شيئا فوق ما طلب منه.
وهنا سنجد الإحسان ينسب ليوسف ؛ لأنه حين أقام لنفسه بيتا في أكثر من مكان ؛ فقد أحسن إلى أهل الأمكنة التي له فيها بيوت ؛ بارتفاع مستوى الخدمة في المرافق وغيرها.
وسبحانه يجازي المحسنين بكمال وتمام الأجر، وقد كافأ يوسف عليه السلام بالتمكين مع محبة من تولى أمرهم.
ويوضح -هنا- سبحانه أنه لا يجزي المحسنين في الدنيا فقط ؛ ولكن يجازيهم بخير أبقى في الآخرة، وكلمة " خير " تستعمل استعمالين :
الأول : هو أن شيئا خير من شيء آخر ؛ أي : أنهما شركاء في الخير، وهو المعنى المقصود هنا، والمثال : هو قول الرسول صلى الله عليه وسلم :
( المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير، احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجز، وإن أصابك شيء فلا تقل : لو أني فعلت كذا وكذا، ولكن قل : قدر الله وما شاء فعل ؛ فإن لو تفتح عمل الشيطان )١.
والاستعمال الثاني لكلمة " خير " : هو خير مقابله شر، والمثال : هو قول الحق تبارك وتعالى :
﴿ فمن يعمل مثقال٢ ذرة خيرا يره ( ٧ ) ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره ( ٨ ) ﴾ [ الزلزلة ]
والحق سبحانه يريد أن يعتدل ميزان حركة الحياة، لن يعتدل ميزان حركة الحياة بأن نقول للإنسان على إطلاقه : سوف تأخذ أجر عملك الطيب في الآخرة ؛ لأن المؤمن وحده هو الذي سيصدق ذلك.
أما الكافر فقد يظلم ويسفك الدماء، ويسرق ويستشري الفساد في الأرض.
ولذلك شاء الحق سبحانه أن يجعل الجزاء نوعين : جزاء في الدنيا لمن يحسن، سواء أكان مؤمنا أو كافرا، وجزاء في الآخرة يختص به الحق سبحانه المؤمنين به.
والحق سبحانه يقول هنا :
﴿ ولأجر الآخرة خير للذين آمنوا وكانوا يتقون ( ٥٧ ) ﴾ [ يوسف ]
أي : أنه أكثر خيرا من جزاء الدنيا ؛ لأن جزاء الآخرة يدوم أبدا، على عكس خير الدنيا الذي قد تفوته أو يفوتك، بحكم أن الدنيا موقوتة بالنسبة لك بعمرك فيها ؛ ولكن الآخرة لها الديمومة التي شاءها الله سبحانه.
٢ - المثقال: وزن معلوم قدره، ويقول تعالى: ﴿إن الله لا يظلم مثقال ذرة..(٤٠)﴾ [النساء] أي: مقدار وزن ذرة لا يظلم شيئا صغر أو كبر، [القاموس القويم ١/ ١٠٩]..
وقد عرفهم يوسف ؛ لكنهم لم يعرفوه، فقد ألقوه في الجب صغيرا ؛ ومرت رحلته في الحياة بعد أن عثر عليه بعض السيارة ؛ وباعوه لعزيز مصر، لتمر به الأحداث المتتابعة بما فيها من نضج جسدي وحسن فائق، ومراودة من امرأة العزيز، ثم سنوات السجن السبع.
ولكل حدث من تلك الأحداث أثر على ملامح الإنسان ؛ فضلا أنهم جاءوه وهو في منصبه العالي، بما يفرضه عليه من وجاهة في الهيئة والملبس.
أما هو فقد عرفهم ؛ لأنه قد تركهم وهم كبار، قد تحددت ملامحهم، ونعلم أن الإنسان حين يمر عليه عقد من الزمان ؛ فهذا الزمن قد يزيد من تحديد ملامحه، إذا ما كان كبيرا ناضجا، لكنه لا يغيرها مثلما يغير الزمن ملامح الطفل حين يكبر ويصل إلى النضج.
والذي دفعهم إلى المجيء هو القحط الذي لم يؤثر على مصر وحدها ؛ بل أثر أيضا على المناطق المجاورة لها.
وذاع أمر يوسف عليه السلام الذي اختزن الأقوات تحسبا لذلك القحط ؛ وقد أرسلهم أبوهم ليطلبوا منه الميرة١ والطعام، ولم يتخيلوا بأي حال أن يكون من أمامهم هو أخوهم الذي ألقوه في الجب.
ولابد أنه قد تكلم معهم عن أحوالهم، وتركهم يحكون له عن أبيهم وأخيهم، وأنهم قد طلبوا الميرة ؛ وأمر بتجهيزها لهم٢.
وكلمة " الجهاز " تطلق هنا على ما تسبب في انتقالهم من موطنهم إلى لقاء يوسف طلبا للميرة.
وطلب منهم –من بعد ذلك- أن يأتوا بأخيهم " بنيامين " معهم، وقال لهم :﴿ ألا ترون أني أوفي الكيل وأنا خير المنزلين٣ ( ٥٩ ) ﴾ [ يوسف ] وفي هذا تذكير لهم بأنه يوفي الكيل تماما، وفيما يبدو أنهم طلبوا منه زيادة في الميرة ؛ بدعوى أن لهم أخا تركوه مع أبيهم الشيخ العجوز، فطلب منهم يوسف أن يحضروا أخاهم كي يزيد لهم كيلا إضافيا ؛ لأنه لا يحب أن يعطي أحدا دون دليل واضح ؛ التزاما منه بالعدل.
وكان كل منهم قد أتى على بعير، عليه بضائع يدفعونها كأثمان لما يأخذونه، وحين يحضرون ومعهم أخوهم سيأخذون كيل بعير فوق ما أخذوه هذه المرة. وهم قد قالوا لأبيهم هذا القول، حينما سألوه عن إرسال أخيهم معهم لمصاحبتهم في الرحلة حسب طلب يوسف عليه السلام ؛ لذلك تقول الآية :﴿ ونزداد كيل بعير.. ( ٦٥ ) ﴾ [ يوسف ]
وقوله :﴿ وأنا خير المنزلين ( ٥٩ ) ﴾ [ يوسف ] يعني : أنه يرحب بالضيوف ؛ وقد لمسوا ذلك بحسن المكان الذي نزلوا فيه، بما فيه من راحة وطيب الاستقبال، ووجود كل ما يحتاجه الضيف في إقامته.
وكلمة " منزل " في ظاهر الأمر أنها ضد معلي، وحقيقة المعنى هو : منزل من الذي ينزل بالمكان الموجود به كل مطلوبات حياته. والحق سبحانه يقول عن الجنة :﴿ نزلا٤ من غفور رحيم ( ٣٢ ) ﴾ [ فصلت ] أي : أنه سبحانه قد أعد الجنة بما يفوق خيال البشر ؛ وبمطلق صفات المغفرة والرحمة، وإذا كان المولى عز وجل هو الذي يعد ؛ فلا بد أن يكون ما أعده فوق خيال البشر.
وقلت لإخواني الذين بهروا بفندق راق في سان فرانسيسكو : إن الإنسان حين يرى أمرا طيبا، أو شيئا راقيا، أو جميلا عند إنسان آخر سيستقبلها بواحد من استقبالين ؛ تظهر نفسه فيه ؛ فإن كان حقودا فسينظر للأِشياء بكراهية وبحقد، وإن كان مؤمنا يفرح ويقول : هذه النعمة التي أراها تزيد من عشقي في الجنة ؛ لأن تلك النعمة التي أراها قد صنعها بشر لبشر ؛ فماذا عن صنع الله للجنة ؟ وهو من خلق الكون كله بما فيه من بشر ؟
ودائما أقول : ما رأيت نعيما عند أحد إلا ازداد إيماني، بأن الذي أراه من نعمة قد أعده البشر للبشر ؛ فما بالنا بما أعده خالق البشر للمؤمنين من البشر ؟
أما من ينظر نظرة حقد إلى النعمة عند الغير ؛ فهو يحرم نفسه من صبابة٥ النعمة عند الغير ؛ لأن النعمة لها صبابة عند صاحبها، وتتعلق به، وإن فرحت بالنعمة عند إنسان ؛ فثق أن النعمة ستطرق بابك، وإن كرهتها عند غيرك ؛ كرهت النعمة أن تأتي إليك.
فإن أردت الخير الذي عند غيرك ؛ عليك أن تحب النعمة التي عند هذا الغير ؛ لتسعى النعمة إليه ؛ دون أن تتكلف عبء إدارة هذه النعمة أو صيانتها ؛ لأنها ستأتي إليك بقدرة الحق سبحانه.
وقول يوسف عليه السلام في هذه الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها :﴿ وأنا خير المنزلين ( ٥٩ ) ﴾ [ يوسف ] هو إخبار منه يؤكد ما استقبلهم به من عدل، وتوفية للكيل، وحسن الضيافة، ولا شك أنهم حين يحضرون أخاهم سيجدون نفس الاستقبال.
٢ - "ذكر السدي وغيره أن يوسف عليه السلام شرح يخاطبهم فقال لهم كالمنكر عليهم: ما أقدمكم بلادي؟ فقالوا: أيها العزيز إنا قدمنا للميرة، قال: فلعلكم عيون؟ قالوا: معاذ الله. قال: فمن أين أنتم؟ قالوا: من بلاد كنعان وأبونا يعقوب نبي الله، قال: وله أولاد غيركم؟ قالوا: نعم كنا اثنى عشر فذهب أصغرنا هلك في البرية، وكان أحبنا إلى أبينا، وبقي شقيقه، فاحتبسه أبوه ليتسلى به عنه، فأمر بإنزالهم وإكرامهم" [تفسير ابن كثير ٢/ ٤٨٣]..
٣ - النزول: الحلول بالمكان، والنزل والنزل: ما هيئ للضيف إذا نزل عليه. [لسان العرب- مادة نزل]..
٤ - النزل: المنزل، وما يعد لينزل فيه الضيف، قال تعالى: ﴿تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها نزلا من عند الله..(١٩٨)﴾ [آل عمران] [القاموس القويم ٢/ ٢٦٠]..
٥ - الصبابة: الشوق: صببت إلى الشيء صبابة، فأنا صب، أسي: عاشق مشتاق. [لسان العرب-مادة: صبب].
قال لهم ذلك، وهو يعلم أن المعاد معاد١ قحط وجدب ومجاعة.
وأضاف يوسف :﴿ ولا تقربون ( ٦٠ ) ﴾ [ يوسف ] أي : لا تأتوا ناحية هذا البلد الذي أحكمه ؛ ولذلك سنجدهم يقولون لأبيهم من بعد ذلك :
﴿ يا أبنا منع منا الكيل فأرسل معنا أخانا نكتل وإنا له لحافظون ( ٦٣ ) ﴾ [ يوسف ]
﴿ قالوا سنراود عنه أباه وإنا لفاعلون ( ٦١ ) ﴾
وقولهم :﴿ سنراود١ عنه أباه.. ( ٦١ ) ﴾ [ يوسف ] يعني : أن الأمر ليس سهلا ؛ وهم يعرفون ماذا فعلوا من قبل مع يوسف، والمراودة تعني أخد ورد، وتحتاج إلى احتيال ؛ وسبق المعنى في قول الحق سبحانه :
﴿ وراودته التي هو في بيتها عن نفسه ( ٢٣ ) ﴾ [ يوسف ] وأكدوا قولهم :﴿ وإنا لفاعلون ( ٦١ ) ﴾ [ يوسف ]، أي : أنهم سيبذلون كل جهودهم ؛ كي يقبل والدهم إرسال أخيهم معهم، وهم يعلمون أن هذا مطلب صعب المنال، عسير التحقيق.
٢ - ذكر ابن كثير في هذا أقوالا منها: أن يوسف خشي أن لا يكون عندهم بضاعة أخرى يرجعون للميرة بها، وقيل: تذمم أن يأخذ من أبيه وإخوته عوضا عن الطعام. {راجع تفسير ابن كثير ٢/ ٤٨٣].
﴿ فلما رجعوا إلى أبيهم قالوا يا أبانا منع منا الكيل فأرسل معنا أخانا نكتل وإنا له لحافظون ( ٦٣ ) ﴾
وكان قولهم هذا هو أول خبر قالوه لأبيهم، فور عودتهم ومعهم الميرة، وكأنهم أرادوا أن يوضحوا للأب أنهم منعوا مستقبلا من أن يذهبوا إلى مصر، ما لم يكن معهم أخوهم.
وحكوا لأبيهم قصتهم مع عزيز مصر، وإن وافق الأب على إرسال أخيهم " بنيامين " معهم ؛ فلسوف يكتالون، ولسوف يحفظون أخاهم الصغير.
وهم في قولهم هذا يحاولون أن يبعدوا ريبة الأب عما حدث ليوسف من قبل.
﴿ قال هل آمنكم عليه إلا كما أمنتكم على أخيه من قبل فالله خير حافظا وهو أرحم الراحمين ( ٦٤ ) ﴾
وهنا يذكرهم أبوهم بأنهم لم يقدموا من قبل ما يطمئنه على ذلك ؛ فقد أضاعوا أخاهم يوسف وقالوا : إن الذئب قد أكله.
وأضاف :﴿ فالله خير حافظا وهو أرحم الرحمين ( ٦٤ ) ﴾ [ يوسف ] وهو قول نتنسم فيه أنه قد وافق على ذهاب بنيامين معهم، وأنه يدعو الحق ليحفظ ابنه.
وبدأ أبناء يعقوب في فتح متاعهم بعد الرحلة، وبعد الحوار مع أبيهم.
﴿ ولما فتحوا متاعهم وجدوا بضاعتهم ردت إليهم قالوا يا أبانا ما نبغي١ هذه بضاعتنا ردت إلينا ونمير أهلنا ونحفظ أخانا ونزداد كيل بعير ذلك كيل يسير ( ٦٥ ) ﴾ وهكذا اكتشفوا أن بضائعهم التي حملوها معهم في رحلتهم إلى مصر ليقايضوا بها ويدفعوها ثمنا لما أرادوا الحصول عليه من طعام وميرة قد ردت إليهم ؛ وأعلنوا لأبيهم أنهم لا يرغبون أكثر من ذلك ؛ فهم قد حصلوا على الميرة التي يتغذون بها هم وأهاليهم.
ولا بد أن يصحبوا أخاهم في المرة القادمة، ولسوف يحفظونه، ولسوف يعودون ومعهم كيل زائد فوق بعير، وهذا أمر هين على عزيز مصر.
ولكن والدهم يعقوب عليه السلام قال ما أورده الحق سبحانه هنا :
﴿ قال لن أرسله معكم حتى تؤتون موثقا١ من الله لتأتنني به إلا أن يحاط٢ بكم فلما آتوه موثقهم قال الله على ما نقول وكيل ( ٦٦ ) ﴾
٢ - الإحاطة بالشيء: الإحداق به من جميع جوانبه، وقوله: ﴿إلا أن يحاط بكم..(٦٦)﴾ [يوسف] أي: إلا أن تحصروا أو تمنعوا سبيل النجاة. [القاموس القويم ١/ ١٧٨]..
﴿ وقال يا بني لا تدخلوا من باب واحد وادخلوا من أبواب متفرقة وما أغني عنكم من الله من شيء إن الحكم إلا لله عليه توكلت وعليه فليتوكل المتوكلون ( ٦٧ ) ﴾ وقد قال يعقوب عليه السلام ذلك الكلام في المرة الثانية لذهابهم إلى مصر، بعد أن علم بحسن استقبال يوسف لهم، وأن بضاعتهم ردت إليهم، وعلم بذلك أنهم صاروا أصحاب حظوة عند عزيز مصر.
وساعة ترى إنسانا له شأن ؛ فترقب أن يعادي، لذلك توجس يعقوب خيفة أن يدبر لهم أحد مكيدة ؛ لأنهم أغراب.
ومن هنا أمرهم أن يدخلوا مصر من أبواب متفرقة، وكانت المدن قديما لها أبواب ؛ تفتح وتقفل في مواعيد محددة، وحين يدخلون فرادى فلن ينتبه أحد أنهم جماعة. وقد خاف يعقوب على أبنائه من الحسد، ونعلم أن الحسد موجود.
وقد علمنا سبحانه أن نستعيذ به سبحانه من الحسد ؛ لأنه سبحانه قد علم أزلا أن الحسد أمر فوق طاقة دفع البشر له، وهو القائل :
﴿ قل أعوذ برب الفلق ( ١ ) من شر ما خلق ( ٢ ) ومن شر غاسق إذا وقب ( ٣ ) ومن شر النفاثات في العقد ( ٤ ) ومن شر حاسد إذا حسد ( ٥ ) ﴾ [ الفلق ]
وفي أمر الحسد أنت لا تستطيع أن تستعيذ بواحد مساو لك ؛ لأن الحسد يأتي من مجهول غير مدرك، فالشعاع الخارج من العين قد يتأجج بالحقد على كل ذي نعمة، وإذا كان عصرنا، وهو عصر الارتقاءات المادية قد توصل إلى استخدام الإشعاع في تفتيت الأشياء.
إذن : فمن الممكن أن يكون الحسد مثل تلك الإشعاعات ؛ والتي قد يجعلها الله في عيون بعض خلقه، وتكون النظرة مثل السهم النافذ، أو الرصاصة الفتاكة.
والحق سبحانه هو القائل :﴿ وما يعلم جنود ربك إلا هو.. ( ٣١ ) ﴾ [ المدثر ]
وإن قال قائل : ولماذا يعطي الحق سبحانه بعضا من خلقه تلك الخواص ؟
أقول : إنه سبحانه يعطي من الإمكانات لبعض من خلقه، فيستخدمونها في غير موضعها، وكل إنسان بشكل ما عنده إمكانية النظرة، ولكن الحقد هو الذي يولد الشرارة المؤذية، ويمكنك أن تنظر دون حسد إن قلت : ما شاء الله لا حول ولا قوة إلا بالله، اللهم بارك١.
بذلك لا تتحقق الإثارة اللازمة لتأجج الشرارة المؤذية، ويمكنك أن تستعيذ بالله خلق البشر وخالق الأسرار، وتقرأ قول الحق سبحانه :﴿ قل أعوذ برب الفلق ( ١ ) من شر ما خلق ( ٢ ) ومن شر غاسق إذا وقب ( ٣ ) ومن شر النفاثات في العقد ( ٤ ) ومن شر حاسد إذا حسد ( ٥ ) ﴾ [ الفلق ]
وأن تقول كلمات رسول الله صلى الله عليه وسلم حين كان يعوذ الحسن والحسين رضي الله عنهما، ويقول :( أعيذكما بكلمات الله التامة من كل شيطان وهامة٢، ومن كل عين لامة٣ )٤. وقال صلى الله عليه وسلم :( كان أبوكما -إبراهيم- يعوذ بها إسماعيل وإسحاق عليهم السلام ).
كما أنه صلى الله عليه وسلم :( كان إذا حزبه أمر قام وصلى )٥. لأن معنى حزب أمر للرسول صلى الله عليه وسلم، أو لواحد من أتباع الرسول صلى الله عليه وسلم أن هذا الأمر يخرج عن قدرة البشر.
وهنا على الإنسان أن يأوي إلى المسبب، فهو الركن الشديد، بعد أن أخذت أنت بالأسباب الممدودة لك من يد الله، وبذلك يكون ذهابك إلى الحق هو ذهاب المضطر ؛ لا ذهاب الكسول عن الأخذ بالأسباب.
والحق سبحانه يقول :﴿ أمن يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء.. ( ٦٢ ) ﴾ [ النمل ]
والمضطر هو من استنفد كل أسبابه، ولم يدع ربه إلا بعد أن أخذ بكل الأسباب الممدودة، فلا تطلب من ذات الله قبل أن تأخذ ما قدمه لك بيده سبحانه من أسباب.
وهنا قي الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها ؛ نجد يعقوب عليه السلام وقد وأصى أبناءه ألا يدخلوا مصر من باب واحد ؛ بل من أبواب متفرقة خشية الحسد، وتنبهت قضية الإيمان بما يقتضيه من تسليم لمشيئة الله، فقال :﴿ وما أغني عنكم من الله من شيء.. ( ٦٧ ) ﴾ [ يوسف ] أي : ليست أغنى عنكم بحذري هذا من قدر الله، فهو مجرد حرص، أما النفع من ذلك الحرص والتدبير فهو من أمر الله، ولذلك قال :﴿ إن الحكم إلا لله عليه توكلت وعليه فليتوكل المتوكلون ( ٦٧ ) ﴾ [ يوسف ] فكل الخلق أمرهم راجع إلى الله، وعليه يعتمد يعقوب، وعليه يعتمد كل مؤمن.
٢ - الهامة: مفرد هوام. وهي الحيات والعقارب، وكل ذي سم يقتل سمه، وأما ما لا يقتل ويسم فهو السوام، [لسان العرب-مادة: هوم].
٣ - اللامة: ما تخافه من مس أو فزع، واللامة: العين التي تصيب الإنسان. [لسان العرب-مادة لمم]..
٤ - أخرجه أحمد في مسنده [١/ ٢٧٠] والترمذي في سننه [٢٠٦٠] وأبو داود في سننه [٤٧٣٧] عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال الترمذي: حديث حسن صحيح"..
٥ - أحرجه أحمد في مسنده [٥/ ٣٨٨]، وأبو داود في سننه [١٣١٩] من حديث حذيفة ابن اليمان..
﴿ ولما دخلوا من حيث أمرهم أبوهم ما كان يغني عنهم من الله من شيء إلا حاجة في نفس يعقوب قضاها وإنه لذو علم لما علمناه ولكن أكثر الناس لا يعلمون ( ٦٨ ) ﴾
أي : ما كان دخولهم من حيث أمرهم أبوهم يرد عنهم أمرا أراده سبحانه ؛ فلا شيء يرد قضاء الله، ولعل أباهم قد أراد أن يرد عنهم حسد الحاسدين، أو : أن يدس لهم أو يتشككوا فيهم، ولكن أي شيء لن يمنع قضاء الله.
ولذلك قال سبحانه :﴿ إلا حاجة في نفس يعقوب قضاها١.. ( ٦٨ ) ﴾ [ يوسف ] ويعقوب يعلم أن أي شيء لن يرد قدر الله، وسبحانه لم يعط الاحتياطات الولائية ليمنع الناس بها قدر الله.
ويقول سبحانه هنا عن يعقوب :﴿ وإنه لذو علم لما علمناه.. ( ٦٨ ) ﴾ [ يوسف ] أي : أنه يعرف موقع المسبب وموقع الأسباب، ويعلم أن الأخذ بالأسباب لا ينافي التوكل على الله ؛ لأنه سبحانه قد خلق الأسباب رحمة بعباده.
﴿ ولكن أكثر الناس لا يعلمون ( ٦٨ ) ﴾ [ يوسف ] أي : يعزلون الأسباب عن المسبب، وهذا ما يتعب الدنيا.
وقد عرفنا من قبل أنه الشقيق الوحيد ليوسف ؛ فهما من أم واحدة ؛ أما بقية الإخوة فهم من أمهات أخريات.
وقول الحق سبحانه عن يوسف :﴿ آوى إليه أخاه.. ( ٦٩ ) ﴾ [ يوسف ] يدل على أن يوسف كان متشوقا لرؤية شقيقه.
وقوله :﴿ قال إني أنا أخوك فلا تبتئس بما كانوا يعملون ( ٦٩ ) ﴾ [ يوسف ] يوضح لنا أن إخوة يوسف قد استفردوا٢ لفترة بنيامين، ولم يحسنوا معاملته، وحاول يوسف أن يسري عن أخيه، وأن يزيل عنه الكدر بسبب ما كان إخوته يفعلونه.
٢ - استفرد فلانا: انفرد به. واستفرد الشيء: أخرجه من بين أصحابه، وأفرده: جعله فردا. [لسان العرب- مادة: فرد].
أي : أن يوسف عليه السلام قد قام بصرف الميرة لهم، كما سبق أن وعدهم، وكما سبق أن جهزهم في المرة السابقة ؛ وأراد أن يبقي أخاه معه في مصر ؛ ولكن كيف يأخذه من إخوته ليبقيه معه ؛ وقد أخذ أبوهم ميثاقا عليهم ألا يضيعوه، وألا يفرطوا فيه، كما فعلوا مع أخيه من قبل ؟
إذن : لا بد من حيلة يستطيع بها أن يستبقي بها أخاه معه، وقد جند الله له فيها إخوته الذين كانوا يعادونه، وكانوا يحقدون عليه وعلى أخيه.
وجاءت هنا حكاية صواع الملك، التي يشرب فيها الملك، وتستخدم كمكيال، وجعلها في رحل أخيه.
وكلمة " السقاية " تطلق إطلاقات متعددة من مادة " سقى " أي : " السين " و " القاف " و " الياء "، فتطلق على إسقاء الناس والحجيج الماء.
والقرآن الكريم يقول :﴿ أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كم آمن بالله واليوم الآخر.. ( ١٩ ) ﴾ [ التوبة ] فكأن معنى السقاية أيضا هو المكان الذي يوضع فيه الماء ليشرب منه الناس. أو : تطلق " السقاية " على الآلة التي يخرج بها الماء للشاربين.
وهنا تطلق كلمة " السقاية " على الإناء الذي كان يشرب به الملك، ويستخدم كمكيال، وهذا دليل على نفاسة المكيل.
وتطلق أيضا كلمة " صواع " على مثل هذه الأداة التي يشرب منها، أو يرفع بها الماء من المكان إلى فم الشارب ؛ وأيضا يكال بها ؛ ومفردها " صاع ".
ويقول الحق سبحانه هنا عن حيلة يوسف لاستبقاء أخيه معه :﴿ جعل السقاية في رحل أخيه.. ( ٧٠ ) ﴾ [ يوسف ] أي : أمر بعضا من أعوانه أن يضعوا " السقاية " في رحل أخيه، و " الرحل " : هو ما يوضع على البعير، وفيه متاع المسافر كله.
وبعد ان ركب إخوة يوسف جمالهم استعدادا للعودة إلى الشام ؛ وقعت المفاجأة لهم ؛ والتي يقول عنها الحق سبحانه :﴿ ثم أذن مؤذن٢ أيتها العير إنكم لسارقون ( ٧٠ ) ﴾ [ يوسف ] أي : يا أصحاب تلك العير أنتم سارقون، والسرقة فعل قبيح حينما يترتب عليها جزاء يوقع على السارق، والمسروق هو شيء ثمين.
وفيما يبدو أن هذه الحيلة تمت بموافقة من " بنيامين " ليمكث مع أخيه يوسف حتى يحضر أبواه٣ إلى مصر.
ولسائل أن يقول : وكيف رضي بنيامين بذلك، وهو أمر يزيد من حزن يعقوب ؟ وكيف يتهم يوسف إخوته بسرقة لم يرتكبوها ؟
أقول : انظروا إلى دقة القرآن، ولنحسن الفهم عنه ؛ لنرى أن حزن يعقوب على فقد يوسف قد غلبه ؛ فلن يؤثر فيه كثيرا فقد بنيامين.
ودليل ذلك أن يعقوب عليه السلام حين عاد أبناؤه وأخبروه بحكاية السرقة ؛ واستبقاء بنيامين في مصر قال :﴿ يا أسفى على يوسف.. ( ٨٤ ) ﴾[ يوسف ]
ولم يذكر يعقوب بنيامين.
وأما عن اتهامهم بالسرقة ؛ فالآية هنا لا تحدد ماذا سرقوا بالضبط، وهم في نظر يوسف قد سرقوه من أبيه، وألقوه في الجب.
وهنا يأتي الحق سبحانه بموقف إخوة يوسف عليه السلام :﴿ قالوا وأقبلوا عليهم ماذا تفقدون ( ٧١ ) ﴾
٢ - أذن تأذينا وأذانا: أعلم بالشيء، والتضعيف يدل على الكثرة والتكرار، قال تعالى: ﴿ثم اذن مؤذن أيتها العير إنكم لسارقون (٧٠)﴾ [يوسف] أي: نادى وأعلم وأكثر النداء والإعلام [القاموس القويم ١/ ١٦]..
٣ - المقصود بأبويه: أبوه يعقوب، وخالته زوجة أبيه، لأن "راحيل" أم يوسف وبنيامين ماتت في نفاس بنيامين [انظر تفسير القرطبي ٥/ ٣٥٩٨]..
وهنا يقول الحق سبحانه ما قاله من اتهموهم :
﴿ قالوا نفقد صواع الملك ولمن جاء به حمل بعير وأنا به زعيم١ ( ٧٢ ) ﴾
وأكد رئيس المنادين أنه الضامن لمن يخرج صواع الملك ؛ ويحضرها دون تفتيش أن ينال جائزته، وهي حمل بعير من الميرة الغذاء.
وهنا قال إخوة يوسف عليه السلام :
﴿ قالوا تالله لقد علمتم ما جئنا لنفسد في الأرض وما كنا سارقين ( ٧٣ ) ﴾
وهنا يأتي الحق سبحانه بما جاء على ألسنة من أعلنوا عن وجود سرقة، وان المسروق هو صواع الملك.
﴿ قالوا فما جزاؤه إن كنتم كاذبين ( ٧٤ ) ﴾
وهذا سؤال من مساعدي يوسف لإخوة يوسف عن العقوبة المقررة في شريعتهم لمن يسرق ؟ وماذا نفعل بمن نجد في رحله صواع الملك، وثبت كذبكم بأنكم لم تسرقوه ؟
وكان هدف يوسف عليه السلام إذن أن يستبقي أخاه معه ؛ وهو قد علم من قبل هذا الحكم، وهكذا تركهم يوسف عليه السلام يحكمون بأنفسهم الحكم الذي يصبو إليه، وهو بقاء أخيه معه.
ويورد الحق سبحانه قولهم :
﴿ قالوا جزاؤه من وجد في رحله فهو جزاؤه كذلك نجزي الظالمين ( ٧٥ ) ﴾
وهكذا نطقوا بالحكم هم أنفسهم، وأكدوه بقولهم :﴿ كذلك نجزي الظالمين ( ٧٥ ) ﴾ [ يوسف ]
وهكذا أعانوا هم يوسف لتحقيق مأربه ببقاء شقيقه معه، وأمر يوسف بتفتيش العير.
﴿ فبدأ بأوعيتهم قبل وعاء أخيه ثم استخرجها من وعاء أخيه كذلك كدنا ليوسف ما كان ليأخذ أخاه في دين الملك إلا أن يشاء الله نرفع درجات من نشاء وفوق كل ذي علم عليم ( ٧٦ ) ﴾
وكان الهدف من البدء بتفتيش أوعيتهم ؛ وهم عشرة ؛ قبل وعاء شقيقه، كي ينفي احتمال ظنهم بأنه طلب منهم أن يأتوا بأخيهم معهم ليدبر هو هذا الأمر، وفتش وعاء شقيقه من بعد ذلك ؛ ليستخرج منه صواع الملك ؛ وليطبق عليه قانون شريعة آل يعقوب ؛ فيستبقي شقيقه معه. وهذا دليل على الذكاء الحكيم.
وهكذا جعل الحق سبحانه الكيد محكما لصالح يوسف، وهو الحق القائل :﴿ كذلك كدنا ليوسف.. ( ٧٦ ) ﴾ [ يوسف ] أي : كان الكيد لصالحه.
ويتابع سبحانه :﴿ ما كان ليأخذ أخاه في دين الملك إلا أن يشاء الله.. ( ٧٦ ) ﴾ [ يوسف ] أي : ما كان يوسف ليأخذ أخاه في دين الملك الذي يحكم مصر ؛ لولا فتوى الإخوة بأن شريعتهم تحكم بذلك.
ويتابع سبحانه :﴿ نرفع درجات من نشاء وفوق كل ذي علم عليم ( ٧٦ ) ﴾
وهكذا رفع الله من شأن يوسف، وكاد له، وحقق له أمله، وهو يستحق كل ذلك ؛ ورفعه سبحانه درجات عالية من العلم والحكمة.
ولم يكن الكيد بسبب أن ينزل بشقيقه عذابا أو ضياعا، بل نريد ليوسف ولأخيه الرفعة، فكأن كثيرا من المصائب تحدث للناس، وهم لا يدرون ما في المحنة من المنح.
وعلى المؤمن أن يعلم أن أي أمر صعب يقع عليه من غير رأى منه ؛ لا بد وأن يشعر أن فيه من الله نفعا للإنسان.
وإخوة يوسف سبق أن كادوا له، فماذا كانت نتيجة كيدهم ؟ لقد شاء الحق سبحانه أن يجعل الكيد كله لصالح يوسف، وجعله سبحانه ذا علم، فقال :﴿ وفوق كل ذي علم عليم ( ٧٦ ) ﴾ [ يوسف ]
و ﴿ ذي علم ﴾ أي : صاحب علم، وكلاهما منفصل، أي : هناك " صاحب "، وهناك " علم "، والصاحب يوجد أولا ؛ وبعد ذلك يطرأ عليه العلم ؛ فيصير صاحب علم، ولكن فوقه :﴿ عليم ( ٧٦ ) ﴾ أي : أن العلم ذاتي فيه، وهو الحق سبحانه وتعالى.
فماذا كان موقف إخوة يوسف ؟ بطبيعة الحال لا بد أنهم قد بهتوا، أول تصرف منهم كان لا بد أن يتصرف إلى الأخ الذي وجدت السقاية في رحله ؛ وأخذوا يوبخونه ؛ لأنه أحرجهم وفضحهم، وبحثوا عن أسباب عندهم للحفيظة عليه ؛ لا للرفق به.
وموقفهم المسبق منه معروف في قولهم :{ ليوسف وأخوه أحب إلى أبينا منا ونحن عصبة١.. ( ٨ ) [ يوسف ]
وهم يعلمون أن يوسف وأخاه من امرأة أخرى هي " راحيل "، ولو كان شقيقا لهم لتلطفوا به٢. وأوضح لهم : إن من جعل البضاعة في رحالي هو من جعل البضاعة في رحالكم.
وهنا قال أحد الإخوة : تالله، يا أبناء راحيل، ما أكثر ما نزل علينا من البلاء منكم، فرد بنيامين : بنو راحيل نزل عليهم من البلاء منكم فوق ما نزل عليكم من البلاء منهم.
٢ - ذكر القرطبي في تفسيره [٥/٣٥٦٩] أن إخوته "لما رأوا ذلك نكسوا رءوسهم، وأقبلوا عليه قائلين: ويلك يا بنيامين، ما رأيناك اليوم قط، ولدت أمك "راحيل" أخوين لصين، قال لهم أخوهم: والله ما سرقته، ولا علم لي بمن وضعه في متاعي"..
وهكذا ادعوا أن داء السرقة في بنيامين قد سبقه إليه شقيق له من قبل، وقالوا ذلك في مجال تبرئة أنفسهم، وهكذا وضحت ملامح العداوة منهم تجاه يوسف وأخيه.
وقولهم :﴿ إن يسرق فقد سرق أخ له من قبل.. ( ٧٧ ) ﴾ يسمى في اللغة قضية شرطية، ومعنى القضية الشرطية ؛ أن حدثا يقع بسبب حدث وقع قبله، فهناك حدث يحدث وحده، وهناك حدث يحدث بشرط أن يحدث قبله حدث آخر.
مثال هذا هو قولك لتلميذ : إن تذاكر دروسك تنجح، وهنا حدثان، المذاكرة والنجاح، فكأن حدوث النجاح الشرط فيه حدوث المذاكرة، ولا بد أن يحدث الشرط أولا ؛ ثم يحدث الحدث الثاني، وهو هنا قولهم :﴿ فقد سرق أخ له من قبل.. ( ٧٧ ) ﴾ كتعليل لسرقة بنيامين.
والمثل من القرآن أيضا :﴿ فإن كذبوك فقد كذب رسل من قبلك.. ( ١٨٤ ) ﴾ [ آل عمران ] فكأن الله يوضح للرسول صلى الله عليه وسلم : إن كذبوك الآن فيما تنقل لهم من أخبار السماء ؛ فلا تحزن ولا تبتئس ؛ فهذا التكذيب ظاهرة عانى منها كل الرسل السابقين لك ؛ لأنهم يجيئون بما ينكر المرسل إليهم أولا، فلا بد أن يكذبوا، وهكذا يستقيم الشرط، لأن الحق سبحانه هنا قد عدل بالشيء عن سببه، فكان جواب الشرط بعد الزمان الذي حدث فيه الشرط.
وهنا قال الحق سبحانه :﴿ إن يسرق فقد سرق أخ له من قبل.. ( ٧٧ ) ﴾ أي : لا تعجب يا عزيز مصر ؛ لأن هذه خصلة في أولاد راحيل، قالوا ذلك وهم يجهلون أنهم يتحدثون إلى يوسف ابن راحيل ! !
وكل حدث يحدث للملكات المستقيمة ؛ لا بد أن يخرج تلك الملكات عن وضعها، ونرى ذلك لحظة أن يتفوه واحد بكلمة تخرج إنسانا مستقيما عن حاله وتنغصه، ويدرك بها الإنسان المستقيم ما يؤلمه ؛ وينفعل انفعالا يجعله ينزع للرد. ولذلك يوصينا صلى الله عليه وسلم :( إذا غضب أحدكم وهو قائم فليجلس ؛ فإن ذهب عنه الغضب ؛ وإلا فليضطجع )١. كي يساعد نفسه على كظم ضيقه وغضبه، وليسرب جزء من الطاقة التي تشحنه بالانفعال.
ولكن يوسف عليه السلام لم ينزع إلى الرد، لذلك قال الحق سبحانه :﴿ فأسرها يوسف في نفسه.. ( ٧٧ ) ﴾ وكان يستطيع أن يقول لهم ما حدث له من عمته التي اتهمته بالباطل أنه سرق ؛ لتحتفظ به في حضانتها من فرط حبها له، لكن يوسف عليه السلام أراد أن يظل مجهولا بالنسبة لهم، لتأخذ الأمور مجراها :﴿ فأسرها يوسف في نفسه ولم يبدها لهم.. ( ٧٧ ) ﴾
حدث ذلك رغم أن قولهم قد أثر فيه، ولكنه قال رأيه فيهم لنفسه :﴿ أنتم شر مكانا والله أعلم بما تصفون ( ٧٧ ) ﴾ لأنكم أنتم من أخذتموني طفلا لألعب ؛ ثم ألقيتموني في الجب ؛ وتركتم أبي بلا موانسة.. وأنا لم أسرق بل سرقت ؛ وهكذا سرقتم ابنا من أبيه.
وهو إن قال هذا في نفسه فلا بد أن انفعاله بهذا القول قد ظهر على ملامحه، وقد يظهر المعنى على الملامح ؛ ليصل إليهم المعنى، والقول ليس إلا ألفاظا يصل به مدلول الكلام إلى مستمع. وقد وصل المعنى من خلال انفعال يوسف.
وقوله :﴿ والله أعلم بما تصفون ( ٧٧ ) ﴾ أي : أنه سبحانه أعلم بما تنعتون، وتظهرون العلامات والسمات، وغلبت كلمة " تصفون " على الكلام.
ومثال هذا هو قول الحق سبحانه :﴿ ولا تقربوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام.. ( ١١٦ ) ﴾[ النحل ] أي : أن ما تقولونه يوحي من تلقاء نفسه أنه كذب، وهكذا نعرف أن كلمة " تصف " وكلمة " تصفون " غلب في استعمالهما للكلام الذي يحمل معه دليل كذبه.
ونلحظ أن كلمة " كبير " تطلق إطلاقات متعددة، إن أردت الكبر في السن تكون من " كبر يكبر "، وإن أردت الكبر في المقام تقولك " كبُر يكبر ".
والحق سبحانه يقول :﴿ كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذبا ( ٥ ) ﴾ [ الكهف ]
والكبر واحد من معاني العظمة، أما الكبر في السن فهو مختلف ؛ وهنا قالوا :﴿ إنه له أبا شيخا كبيرا.. ( ٧٨ ) ﴾ قد تكون ترقيقا بالعزة، أو ترقيقا بالضعف. أي : إن له أبا شيخا كبيرا عظيما في قومه ؛ وحين يبلغه أن ابنه قد احتجز من أجل سرقة ؛ فهذا أمر مؤلم ؛ ولذلك أن تقدر ذلك وأنت عزيز مصر، ونرجو أن تحفظ للأب شرفه ومجده وعظمته، واستر ذلك الأمر من أجل خاطر ومكانة والده.
أو : أن يكون قولهم مقصودا به، أن الأب شيخ مهدم، لا يحتمل الصدمة، وخصوصا أن له ابنا قد فقد.
ثم يعرضون عرضا آخر، فيقولون :﴿ فخذ أحدنا مكانه إنا نراك من المحسنين ( ٧٨ ) ﴾ أي : أنهم سألوه أن يتمم إحسانه عليهم، فقد أحسن استقبالهم ؛ وسبق أن أنزلهم منزلا كريما، وأعطاهم الميرة، ولم يأخذ بضائعهم ثمنا لها. ومن يفعل ذلك ؛ لا يضن عليهم بأن يستجيب لرجائهم، بأن يأخذ واحدا منهم بدلا من أخيهم الصغير.
كل هذه ترقيقات منهم لقلبه، ولكن القاعدة هي ألا يؤاخذ بالذنب إلا صاحبه ؛ ولذلك لم يفت هذا الأمر على يوسف، فجاء الحق سبحانه بما يوضح ذلك :﴿ قال معاذ الله أن نأخذ إلا من وجدنا متاعنا عنده إنا إذا لظالمون ( ٧٩ ) ﴾
وساعة تقرآ " إذا " منونة ؛ فاعرف أن هناك جملة محذوفة، أي : أن يوسف قال : إن أخذنا غير من وجدنا متاعنا عنده نكون من الظالمين.
وجاء " التنوين " بدلا من الجملة المحذوفة التي ذكرناها.
ومثال آخر من القرآن هو قول الحق سبحانه :﴿ وأنتم حينئذ تنظرون ( ٨٤ ) ﴾[ الواقعة ]
ويحدث ذلك حين تبلغ الروح الحلقوم، وجاء " التنوين " عوضا عن الجملة كلها.
وهكذا أراد يوسف أن يذكرهم أنه لا يحق له أن يأخذ أخا منهم بدلا من بنيامين ؛ لأنه هو من وجد في متاعه صواع الملك ؛ ولا يصح له أن يظلم أحدا، أو يأخذ أحدا بجريرة١ أحد آخر.
وهنا علم أبناء يعقوب أن المسألة لا يبت فيها بسهولة ؛ لأنها تتعلق بأمر خطير.
﴿ فلما استيئسوا١ منه خلصوا نجيا قال كبيرهم ألم تعلموا أن أباكم قد أخذ عليكم موثقا٢ من الله ومن قبل ما فرطتم في يوسف فلن أبرح٣ الأرض حتى يأذن لي أبي أو يحكم الله لي وهو خير الحاكمين ( ٨٠ ) ﴾
ويقال : " يئس " أي : قطع الأمل من الشيء، وهم لم يقطعوا الأمل فقط، بل استيأسوا، وهو أمر فوق اليأس.
فهم قد أخذوا يرققون كل ألوان المرققات ؛ ولا فائدة ؛ وكلما أوردوا مرققا ؛ يجدون الباب أمامهم موصدا.
وكأنهم بذلك يلحون على اليأس أن يأتيهم، لأن الظروف المحيطة والجو المحيط لا يحمل أي بارقة أمل، وكلما تبدو بارقة أمل ويطلبونها يجدون الطريق موصدا ؛ فكأنهم يطلبون اليأس من أن يأذن يوسف بسفر أخيهم بنيامين معهم في رحلة العودة إلى أبيهم. وهنا :﴿ خلصوا نجيا٤.. ( ٨٠ ) ﴾ أي : أنهم انفردوا عنه، وعن أعين الحاضرين ؛ العزيز يوسف، ومن حوله من المعاونين له، وأخيهم موضع الخلاف، وانفردوا بأنفسهم. والانفراد هو المناجاة، والمناجاة مسرة ؛ والمسرة لا تكون إلا في أمر لا تحب لغيرك أن يطلع عليه.
ونلحظ أن ﴿ خلصوا.. ( ٨٠ ) ﴾ هي جمع، و ﴿ نجيا.. ( ٨٠ ) ﴾ مفرد، وهذا من ضمن المواقع التي يتساءل فيها من لا يملكون ملكة عربية : كيف يأتي القرآن بمفرد بعد الجمع ؟
ونقول دائما : لو أنهم امتلكوا اللغة كملكة لعرفوا أن ذلك جائز جدا. ومثال هذا هو قول الحق سبحانه :﴿ والملائكة بعد ذلك ظهير٥ ( ٤ ) ﴾[ التحريم ]
وهم لا يفهمون أن اللغة فيها ألفاظ يستوي فيها المفرد والجمع، كأن الملائكة يجمعون قوة كل واحد منهم لتكون قوة واحدة.
ومثال آخر : هو قول إبراهيم خليل الرحمن :﴿ قال أفرأيتم ما كنتم تعبدون ( ٧٥ ) أنتم وآباؤكم الأقدمون ( ٧٦ ) فإنهم عدو إلا رب العالمين ( ٧٧ ) ﴾[ الشعراء ] أي : أن إبراهيم عليه السلام جمع الآلهة المتعددة التي يعبدونها وجعلها عدوا واحدا له.
وكذلك يمكن أن نفعل مع كلمة " صديق "، وكذلك كلمة " عدل " فحين ينظر القضاء في أمر قضية ما ؛ فالقاضي لا يصدر الحكم وحده ؛ بل يصدره بعد التشاور مع المستشارين ؛ ويصدر الحكم من الثلاثة : رئيس المحكمة، وعضو اليمين، وعضو اليسار وكلاهما بدرجة مستشار.
ويقال : " حكم القضاة عدلا "، ولا يقال : إن كل مستشار أو قاض له عدل.
وكذلك :﴿ نجيا.. ( ٨٠ ) ﴾ في الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها، فهم حين استيأسوا من يوسف انفردوا بأنفسهم ليتناجوا. وعادة يكون الرأي الأول للأخ الأكبر، الذي عادة ما يكون له من الخبرة والحكمة ما يتيح له أن يبدي الرأي الصواب.
وهنا يقول الحق سبحانه :﴿ قال كبيرهم ألم تعلموا أن أباكم قد أخذ عليكم موثقا من الله ومن قبل ما فرطتم في يوسف فلن أبرح الأرض حتى يأذن لي أبي أو يحكم الله لي وهو خير الحاكمين ( ٨٠ ) ﴾
وقد يكون كبيرهم هو أكبرهم عمرا ؛ أو هو رئيس الرحلة، وحين رآهم قد قبلوا فكرة العودة دون أخيهم الذي احتجزه عزيز مصر ؛ قال لهم رأيه الذي حذرهم فيه ان يغفلوا عن أن أباهم قد أخذ منهم موثقا من الله إلا أن يحاط بهم ؛ كما يجب ألا ينسوا أن لهم سابقة حين أخذوا يوسف وضيعوه. وبناء على ذلك استقر قراره ألا يبرح المكان، ولن يعود إلى أبيه إلا إن أذن له بذلك ؛ أو أن يحكم الله له بأن يسلمه عزيز مصر أخاه، أو أن يموت هنا في نفس البلد.
وهذا القول في ظاهره دفاع عن النفس ؛ وخجل من ان يعود إلى أبيه بدون بنيامين ؛ ولذلك ترك إخوته يتحملون تلك المواجهة مع الأب.
وتبدو هذه المسألة أكثر قسوة على الأب ؛ لأنه فقد في الرحلة الأولى يوسف، وفي الرحلة الثانية يفقد ابنه بنيامين، وكذلك الابن الكبير الذي يرأس الرحلة. وفي هذا تصعيد للقسوة على الأب، وكان المفروض أن تدور مداولة بين الإخوة في تلك المناجاة، ولكن الأخ الكبير أو رئيس الرحلة حسم الأمر.
٢ - الميثاق والموثق: العهد المؤكد. قال تعالى: ﴿وميثاقه الذي واثقكم به..(٧)﴾ [المائدة]. أي: عهده الذي عاهدكم عليه، والزمكم الوفاء به. [القاموس القويم ٢/ ٣١٩].
٣ - برح الأرض: زال عنها وفارقها، وقول كبير إخوة يوسف هنا، أي: لن أفارق أرض مصر. [القاموس القويم ١/ ٦١] بتصرف..
٤ -نجاه ينجوه نجوا: كلمه سرا وخصه بالحديث. فخلصوا نجيا أي: متناجين: تناجي الرجلان: أفضى كل منهما إلى الآخر بحديثه سرا. [القاموس القويم ٢/ ٢٥٥] بتصرف..
٥ - الظهير: المعين المساعد كأنه يسند ظهر من يعاونه. [القاموس القويم ١/ ٤١٨] بتصرف..
﴿ ارجعوا إلى أبيكم فقولوا يا أبانا إن ابنك سرق وما شهدنا إلا بما علمنا وما كنا للغيب حافظين ( ٨١ ) ﴾
وهكذا أمر الأخ الأكبر أو رئيس الرحلة إخوته أن يرجعوا إلى أبيهم، ويقولوا له ما حدث بالضبط، فقد اتهم ابنه بالسرقة، ونحن لا نقول هذا الكلام إلا بعد أن وجد فتيان العزيز صواع الملك في رحله، ولا نعلم هل دسها أحد له ؟ وهل هي حيلة٦ ومكيدة ؟
ونحن لا نقول لك يا أبانا إلا ما وصل إلينا من معلومات، وقد أخذه العزيز طبقا لشريعتنا، ونحن بخبرتنا بأخينا لا نشهد عليه بالسرقة، إلا أن ثبوت وجود صواع الملك في رحله هو السبب في كل ذلك.
أي : أنك يا أبانا إن كنت تشك في أقوالنا ؛ يمكنك أن تطلب أدلة أخرى من المكان الذي كنا فيه ؛ لأن هذا الموضوع قد أحدث ضجة، وحدث أمام جمع كبير من الناس، والقوافل التي كانت معنا شهدت الواقعة ؛ فقد أذن مؤذن بالحادث، وتم تفتيش العير علنا.
فإذا أردت أن تتأكد من صدق أقوالنا، فاسأل العير التي كانت تسير معنا في الطريق، وهم يعرفون هذه القضية كما نعرفها، أو اسأل أهل القرية التي جئنا منها
ونلحظ هنا أن الحق سبحانه أورد كلام إخوة يوسف لأبيهم يعقوب :﴿ واسأل القرية التي كنا فيها والعير التي أقبلنا فيها ( ٨٢ ) ﴾
ونحن نعلم أن كل حدث من الأحداث لا بد له من فاعل، ومن مفعول يقع عليه، ومن مكان يقع فيه، ومن زمان يقع فيه ؛ ومن سبب يوجبه، ومن قوة تنهض به. وفي بعض الحالات نجد أن المكان هو الأمر الظاهر والقوي في الحدث، فننسبه إليه، فيقال :﴿ واسأل القرية.. ( ٨٢ ) ﴾
والمراد بطبيعة الحال أن يسأل أهل القرية، أو : أن المسألة كانت واضحة تماما لدرجة أن الجماد يعرف تفاصيلها، أو : أنك نبي ويوحي لك الله فسله أن يجعل الأرض تخبرك بما وقع عليها.
وكذلك قولهم :﴿ واسأل القرية التي كنا فيها والعير.. ( ٨٢ ) ﴾ ونعلم أن العير هي المطايا ؛ سواء أكانت نياقا أو كانت من الجمال أو الحمير أو البغال التي تحمل البضائع. وحين يقال :﴿ واسأل القرية التي كنا فيها والعير.. ( ٨٢ ) ﴾ أي : أن العير كان لها في الأمر شيء فوق الملابسات كلها.
ومثال هذا ما كان في موقعة بدر ؛ فقد خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلقى العير القادمة من الشام وهي محملة بالبضائع ؛ ليصادرها إيفاء ما استولى عليه الكافرون من أموال المهاجرين التي كانت بمكة، ولم يكن مع هذه العير إلا قليل من الحرس والرعاة.
ولكن حين تكلم عن المقاتلين الذي قدموا من مكة ؛ وصفهم بالنفير، أي : الجماعة الذين نفروا لمواجهة معسكر الإيمان.
إذن : فكل حدث يأخذ الأمر البارز فيه.
وهنا يورد الحق سبحانه ما جاء على ألسنة إخوة يوسف حينما عادوا ليلقوا أباهم، وليس معهم أخوهم بنيامين ؛ وكذلك تخلف أخيهم الكبير أو رئيس الرحلة. يقول الحق سبحانه :﴿ واسأل القرية التي كنا فيها.. ( ٨٢ ) ﴾
ويجوز ان تفتيشهم قد تم في مكان بعيد قليلا عن العمران ؛ وفحص جنوده أو مساعدو يوسف أمتعتهم التي عثروا فيها على صواع الملك.
وسمى المكان " قرية "، مثلما نفعل نحن حاليا حين نخصص مكانا للجمارك، نفحص فيه البضائع الخارجة أو الداخلة إلى البلد، فقولهم :﴿ واسأل القرية التي كنا فيها.. ( ٨٢ ) ﴾ أي : اسأل أهل الموقع الذي حدث فيه التفتيش، وكذلك قولهم :﴿ والعير التي أقبلنا فيها وإنا لصادقون ( ٨٢ ) ﴾
أي : اسأل من كانوا معنا، وجئنا بصحبتهم من أصحاب القوافل الأخرى.
وكرروا قولهم :﴿ وإنا لصادقون ( ٨٢ ) ﴾ لأنهم علموا سابق كذبهم من قبل ذلك ؛ لذلك أرادوا هنا أن يثبتوا صدقهم ؛ وحين يسأل أبوهم يعقوب ؛ سيجد أنهم صادقون فعلا، وهم لم يطلبوا شهادة الغير إلا أنهم واثقون من صدقهم هذه المرة.
وجاء الحق سبحانه بهذه الجملة الإسمية :﴿ وإنا لصادقون ( ٨٢ ) ﴾ لأنهم قد فهموا أن والدهم قد شك فيهم من قبل، حين جاءوا بدم كذب، وادعوا أنه قميص يوسف، وأن الذئب قد أكله ويأتي الحق سبحانه بما جاء على لسان يعقوب :﴿ قال بل سولت لكم أنفسكم أمرا فصبر جميل٨ عسى الله أن يأتيني بهم جميعا إنه هو العليم الحكيم ( ٨٣ ) ﴾
الأمور التي تخالف الضمير ؛ ويستحي منها ؛ ويخشى مغبتها٩ هي أمور تستعصي على النفس ؛ وتحتاج النفس إلى علاج حتى تبرزها، وتحتاج إلى من ييسر لها، ما أن تقدم على فعل الأمر المستهجن، وهذا ما يقال له : " سول ". وقول الحق سبحانه على لسان يعقوب :﴿ بل سولت لكن أنفسكم أمرا.. ( ٨٣ ) ﴾ أي : يسرت لكم أنفسكم أمرا يصعب أن تقبله النفوس المستقيمة، وسبق أن قال يعقوب لحظة أن جاءوا له بقميص يوسف وعليه الدم الكاذب :﴿ بل سولت لكم أنفسكم أمرا فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون ( ١٨ ) ﴾
وهنا طلب يعقوب عليه السلام العون مما يدل على أن ما قالوه، وكذلك أحداث القصة لن تقف عند هذا الحد، بل ستأتي من بعد ما قالوه أحداث تتطلب تجنيد قوى الصبر في النفس، وتتطلب معونة الله.
ويختلف الأمر هنا في الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها ما جاء بعد الحديث عن تسويل النفس، واستلهام الصبر من الله، فهبات الفرج قد اقتربت، فقال :﴿ عسى الله أن يأتيني بهم جميعا إنه هو العليم الحكيم ( ٨٣ ) ﴾ في هذه الآية طلب الأمل الذي يوحى بالفرج ؛ وقد كان.
وبعض من الذين تأخذهم الغفلة يتساءلون : لماذا قال يعقوب :﴿ عسى الله أن يأتيني بهم جميعا.. ( ٨٣ ) ﴾
والغائب عنه هما يوسف وأخوه ؟
ونقول : ولماذا تنسون كبير الإخوة الذي رفض أن يبرح مصر، إلا بعد أن يأذن له يعقوب، أو يفرج عنه الله ؟
لقد غاب عن يعقوب ثلاث من أولاده : يوسف وبنيامين وشمعون ؛ لذلك قال :﴿ عسى الله أن يأتيني بهم جميعا.. ( ٨٣ ) ﴾ ولم يقل : يأتيني بهما.
ويذيل الحق سبحانه الآية الكريمة بقوله :﴿ إنه هو العليم الحكيم ( ٨٣ ) ﴾
فالله سبحانه يعلم أين هم ؛ لأنه العليم بكل شيء، وهو سبحانه حكيم فيما يجريه علينا من تصرفات.
أي : أنك يا أبانا إن كنت تشك في أقوالنا ؛ يمكنك أن تطلب أدلة أخرى من المكان الذي كنا فيه ؛ لأن هذا الموضوع قد أحدث ضجة، وحدث أمام جمع كبير من الناس، والقوافل التي كانت معنا شهدت الواقعة ؛ فقد أذن مؤذن بالحادث، وتم تفتيش العير علنا.
فإذا أردت أن تتأكد من صدق أقوالنا، فاسأل العير التي كانت تسير معنا في الطريق، وهم يعرفون هذه القضية كما نعرفها، أو اسأل أهل القرية التي جئنا منها
ونلحظ هنا أن الحق سبحانه أورد كلام إخوة يوسف لأبيهم يعقوب :﴿ واسأل القرية التي كنا فيها والعير التي أقبلنا فيها ( ٨٢ ) ﴾
ونحن نعلم أن كل حدث من الأحداث لا بد له من فاعل، ومن مفعول يقع عليه، ومن مكان يقع فيه، ومن زمان يقع فيه ؛ ومن سبب يوجبه، ومن قوة تنهض به. وفي بعض الحالات نجد أن المكان هو الأمر الظاهر والقوي في الحدث، فننسبه إليه، فيقال :﴿ واسأل القرية.. ( ٨٢ ) ﴾
والمراد بطبيعة الحال أن يسأل أهل القرية، أو : أن المسألة كانت واضحة تماما لدرجة أن الجماد يعرف تفاصيلها، أو : أنك نبي ويوحي لك الله فسله أن يجعل الأرض تخبرك بما وقع عليها.
وكذلك قولهم :﴿ واسأل القرية التي كنا فيها والعير.. ( ٨٢ ) ﴾ ونعلم أن العير هي المطايا ؛ سواء أكانت نياقا أو كانت من الجمال أو الحمير أو البغال التي تحمل البضائع. وحين يقال :﴿ واسأل القرية التي كنا فيها والعير.. ( ٨٢ ) ﴾ أي : أن العير كان لها في الأمر شيء فوق الملابسات كلها.
ومثال هذا ما كان في موقعة بدر ؛ فقد خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلقى العير القادمة من الشام وهي محملة بالبضائع ؛ ليصادرها إيفاء ما استولى عليه الكافرون من أموال المهاجرين التي كانت بمكة، ولم يكن مع هذه العير إلا قليل من الحرس والرعاة.
ولكن حين تكلم عن المقاتلين الذي قدموا من مكة ؛ وصفهم بالنفير، أي : الجماعة الذين نفروا لمواجهة معسكر الإيمان.
إذن : فكل حدث يأخذ الأمر البارز فيه.
وهنا يورد الحق سبحانه ما جاء على ألسنة إخوة يوسف حينما عادوا ليلقوا أباهم، وليس معهم أخوهم بنيامين ؛ وكذلك تخلف أخيهم الكبير أو رئيس الرحلة. يقول الحق سبحانه :﴿ واسأل القرية التي كنا فيها.. ( ٨٢ ) ﴾
ويجوز ان تفتيشهم قد تم في مكان بعيد قليلا عن العمران ؛ وفحص جنوده أو مساعدو يوسف أمتعتهم التي عثروا فيها على صواع الملك.
وسمى المكان " قرية "، مثلما نفعل نحن حاليا حين نخصص مكانا للجمارك، نفحص فيه البضائع الخارجة أو الداخلة إلى البلد، فقولهم :﴿ واسأل القرية التي كنا فيها.. ( ٨٢ ) ﴾ أي : اسأل أهل الموقع الذي حدث فيه التفتيش، وكذلك قولهم :﴿ والعير التي أقبلنا فيها وإنا لصادقون ( ٨٢ ) ﴾
أي : اسأل من كانوا معنا، وجئنا بصحبتهم من أصحاب القوافل الأخرى.
وكرروا قولهم :﴿ وإنا لصادقون ( ٨٢ ) ﴾ لأنهم علموا سابق كذبهم من قبل ذلك ؛ لذلك أرادوا هنا أن يثبتوا صدقهم ؛ وحين يسأل أبوهم يعقوب ؛ سيجد أنهم صادقون فعلا، وهم لم يطلبوا شهادة الغير إلا أنهم واثقون من صدقهم هذه المرة.
وجاء الحق سبحانه بهذه الجملة الإسمية :﴿ وإنا لصادقون ( ٨٢ ) ﴾ لأنهم قد فهموا أن والدهم قد شك فيهم من قبل، حين جاءوا بدم كذب، وادعوا أنه قميص يوسف، وأن الذئب قد أكله ويأتي الحق سبحانه بما جاء على لسان يعقوب :﴿ قال بل سولت لكم أنفسكم أمرا فصبر جميل٨ عسى الله أن يأتيني بهم جميعا إنه هو العليم الحكيم ( ٨٣ ) ﴾
الأمور التي تخالف الضمير ؛ ويستحي منها ؛ ويخشى مغبتها٩ هي أمور تستعصي على النفس ؛ وتحتاج النفس إلى علاج حتى تبرزها، وتحتاج إلى من ييسر لها، ما أن تقدم على فعل الأمر المستهجن، وهذا ما يقال له :" سول ". وقول الحق سبحانه على لسان يعقوب :﴿ بل سولت لكن أنفسكم أمرا.. ( ٨٣ ) ﴾ أي : يسرت لكم أنفسكم أمرا يصعب أن تقبله النفوس المستقيمة، وسبق أن قال يعقوب لحظة أن جاءوا له بقميص يوسف وعليه الدم الكاذب :﴿ بل سولت لكم أنفسكم أمرا فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون ( ١٨ ) ﴾
وهنا طلب يعقوب عليه السلام العون مما يدل على أن ما قالوه، وكذلك أحداث القصة لن تقف عند هذا الحد، بل ستأتي من بعد ما قالوه أحداث تتطلب تجنيد قوى الصبر في النفس، وتتطلب معونة الله.
ويختلف الأمر هنا في الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها ما جاء بعد الحديث عن تسويل النفس، واستلهام الصبر من الله، فهبات الفرج قد اقتربت، فقال :﴿ عسى الله أن يأتيني بهم جميعا إنه هو العليم الحكيم ( ٨٣ ) ﴾ في هذه الآية طلب الأمل الذي يوحى بالفرج ؛ وقد كان.
وبعض من الذين تأخذهم الغفلة يتساءلون : لماذا قال يعقوب :﴿ عسى الله أن يأتيني بهم جميعا.. ( ٨٣ ) ﴾
والغائب عنه هما يوسف وأخوه ؟
ونقول : ولماذا تنسون كبير الإخوة الذي رفض أن يبرح مصر، إلا بعد أن يأذن له يعقوب، أو يفرج عنه الله ؟
لقد غاب عن يعقوب ثلاث من أولاده : يوسف وبنيامين وشمعون ؛ لذلك قال :﴿ عسى الله أن يأتيني بهم جميعا.. ( ٨٣ ) ﴾ ولم يقل : يأتيني بهما.
ويذيل الحق سبحانه الآية الكريمة بقوله :﴿ إنه هو العليم الحكيم ( ٨٣ ) ﴾
فالله سبحانه يعلم أين هم ؛ لأنه العليم بكل شيء، وهو سبحانه حكيم فيما يجريه علينا من تصرفات.
وأعرض يعقوب عليه السلام عنهم ؛ فما جاءوا به هو خبر أحزنه، وخلا بنفسه ؛ لأنه ببشريته تحسر على يوسف، فقد كانت قاعدة المصائب هي افتقاده يوسف.
وساعة تسمع نداء لشيء محزن، مثل : " واحزناه " أو " واأسفاه " أو " وامصيبتاه " ؛ فهذه يعني أن النفس تضيق بالأحداث وتقول " يا هم، هذا أوانك، فاحضر " أو أنه قال :﴿ يا أسفي على يوسف.. ( ٨٤ ) ﴾ لأن أخاه بنيامين كان أشبه الناس به ؛ فكان حزنه على يوسف طاقة من الهم نزلت به، وتبعتها طاقة هم أخرى. هي افتقاد بنيامين.
وقول الحق سبحانه :﴿ وابيضت عيناه.. ( ٨٤ ) ﴾ أي : أن دموع يعقوب كثرت حتى بدا الجزء الأسود في العين وكأنه أبيض، أو : ابيضت عيناه من فرط حزنه، الذي لا يبثه لأحد ويكظمه.
وهو قد يكظم غيظه من كل ما حدث، أما الانفعالات فلا أحد بقادر على أن يتحكم فيها.
ونجد رسولنا صلى الله عليه وسلم يبكي ؛ وتذرف١١ عيناه حزنا على موت ابنه إبراهيم، فقال له عبد الرحمان بن عوف –رضي الله عنه- : أتبكي ؟ أو لم تكن نهيت عن البكاء ؟ قال :( لا، ولكن نهيت عن صوتين أحمقين فاجرين : صوت عند مصيبة، خمش١٢ وجوه، وشق جيوب١٣، ورنة١٤ شيطان١٥ ).
وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( إن العين تدمع، والقلب يحزن، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا، وإنا بفراقك يا إبراهيم لمحزونون )١٦.
وهكذا نعلم أن الحق سبحانه لا يريد من الإنسان أن يكون جلمودا١٧ أو يكون صخرا لا ينفعل للأحداث، بل يريده منفعلا للأحداث ؛ لأن هذا لون يجب أن يكون في إنسانيته، وهذه عاطفة يريد الله أن يبقيها، وعلى المؤمن أن يعليها.
فسبحانه هو الذي خلق العاطفة، والغريزة في الإنسان، ولو أراد الله الإنسان بلا عاطفة أو غريزة لفعل ما شاء، لكنه أراد العاطفة والغريزة في الإنسان لمهمة.
ولحظة أن تخرج العاطفة أو الغريزة عن مهمتها، يقول لك المنهج : لا. لأن مهمة المنهج أن يهذب لك الانفعال.
والمثل الذي أضربه هنا هو حب الإنسان للاستمتاع بالطعام ؛ يقول له المنهج : كل ما يفيدك ولا تكن شرها. ١٨
والمثل الآخر : غريزة حب الاستطلاع، يقول لك المنهج : اعرف ما يفيدك ؛ ولا تستخدم هذه الغريزة في التجسس على الناس.
وغريزة الجنس أرادها الله لإبقاء النوع، ولتأتي بالأولاد والذرية، لكن لا تستعملها كانطلاقات وحشية، وهكذا يحرس المنهج الغرائز والعواطف لتبقى في إطار مهمتها.
والعاطفة –على سبيل المثال- هي التي تجعل الأب يحنو على ابنه الصغير ويرعاه، وعلى ذلك فالمؤمن عليه أن يعلي غرائزه وعواطفه.
وقول الحق سبحانه عن يعقوب :﴿ فهو كظيم.. ( ٨٤ ) ﴾ أي : أنه أخذ النزوع على قدره. وكلمة " كظيم " مأخوذة من " كظمت القربة " أي : أحكمنا غلق فوهة القربة، بما يمنع تسرب الماء منها.
ولقائل أن يسأل : ومن الذي قالوا ليعقوب ذلك، وقد ذكرت الآية السابقة أنه تولى عنهم ؟
نقول : لقد عاش يعقوب مع أبنائه وأحفاده، ويقال في الأثر : إن يعقوب دخل عليه بعض الناس، فقالوا له " تالله انهشمت يا يعقوب، ولم تبلغ سن أبيك إسحاق ". والمعنى : أنك صرت عجوزا عاجزا، مهشما، قال : إنما هشمني يوسف. فعتب عليه الله في هذه القولة، وأوضح له : أتشكو ربك لخلقه ؟ فرفع يده وقال : خطيئة أخطأتها يا رب فاغفرها لي، قال : غفرتها لك٢١.
وقد نبه بعض أبنائه أو أحفاده فقالوا :﴿ تالله تفتأ تذكر يوسف حتى تكون حرضا أو تكون من الهالكين ( ٨٥ ) ﴾ أي : لا تزال تذكر يوسف وما حدث له، حتى تشرف على الهلاك، و " الحرض " كما نعلم هو المشرف على الهلاك، أو يهلك بالفعل.
وشكاية الأمر إلى الله لون من العبادة لله، والبث : هي المصيبة التي لا قدرة لأحد على كتمانها ؛ فينشرها، وإذا أصاب الأعلى الأدنى بما يراه الأدنى سوء، يتفرع الأدنى إلى نوعين : نوع يتودد إلى الأقوى، ويتعطفه ويلين له، ويستغفره ويستميحه، ونوع آخر يتأبى على المبتلى، ويتمرد، ولسان حاله يقول : " فليفعل ما يريد ".
والحق تبارك وتعالى يقول في كتابه :﴿ فلولا إذ جاءهم بأسنا تضرعوا ( ٤٣ ) ﴾ [ الأنعام ]
فساعة يأتي البأس ونتضرع إلى الله ؛ يكون البأس قد غسلنا من الذنوب ونسيان الذكر ؛ وأعادنا إلى الله الذي لن يزيل البأس إلا هو.
أما الذي يتمرد ويستعلي على الأحداث، فويل له من ذلك التمرد، والحق سبحانه حين يصيب إنسانا بمصيبة، فهو يلطف بمن يدعوه.
وتساءل بعضهم : ولماذا لم يقل يعقوب ما علمنا إياه رسولنا صلى الله عليه وسلم :﴿ الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون ( ١٥٦ ) ﴾ [ البقرة ]
ونقول : إن هذا من النعم التي اختص بها الحق سبحانه أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وحين دخل بعضهم على علي بن أبي طالب –كرم الله وجهه وأرضاه- وكان يعاني من وعكة، وكان يتأوه، فقالوا له : يا أبا الحسن أتتوجع ؟ قال : أنا لا أشجع على الله.
وهنا في الآية –التي نحن بصدد خواطرنا عنها- يعلن يعقوب عليه السلام أنه لا يشكو حزنه وهمه إلا إلى الله، فهو القادر على كشف الضر، لأن يعقوب عليه السلام يعلم من الله ما لا يعلم أبناؤه أو أحفاده.
فقد كان يشعر بوجدانه، وبما كان لديه من شكوك لحظة إبلاغهم له بحكاية الذئب المكذوبة أن يوسف ما زال حيا، وأن الرؤيا التي حكى يوسف عنها لأبيه، سوف يأذن الحق بتحقيقها.
﴿ يا بني اذهبوا فتحسسوا٢٣ من يوسف وأخيه ولا تيأسوا من روح الله إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون ( ٨٧ ) ﴾
ونلحظ أن الذين غابوا هم ثلاثة : يوسف، وبنيامين، والأخ الأكبر الذي أصر على ألا يبرح مصر إلا بعد أن يأذن أبوه، أو يأتي فرج من الله.
وهنا في هذه الآية جاء ذكر يوسف وأخيه، ولم يأت ذكر الأخ الكبير أو رئيس الرحلة، ونقول : إن يوسف وأخاه هما المعسكر الضعيف الذي عانى من مناهضة بقية الإخوة، وهما قد فارقا الأب صغارا، أما الأخ الأكبر فيستطيع أن يحتال، وأن يعود في الوقت الذي يريد.
وقول يعقوب :﴿ اذهبوا فتحسسوا من يوسف وأخيه.. ( ٨٧ ) ﴾
نجد فيه كلمة [ تحسسوا ]، وهي من الحس، والحس يجمع على " حواس "، والحواس هي منافذ إدراك المعلومات للنفس البشرية، فالمعلومات تنشأ عندنا من الأمور المحسة، وتدركها حواسنا لتصير قضايا عقلية.
وهكذا نعلم أن الحواس هي قنوات المعرفة، وهي غير مقصورة على الحواس الخمس الظاهرة ؛ بل اكتشف العلماء أن هناك حواس أخرى غير ظاهرة، وسبق ان تعرضنا لهذا الأمر في مرات كثيرة سابقة.
﴿ فتحسسوا من يوسف وأخيه.. ( ٨٧ ) ﴾ يعني اعملوا حواسكم، بكل ما فيها من طاقة، كي تصلوا إلى الحقيقة.
ونعلم أن كلمة " الجاسوس " قد أطلقت على من يتنصت ويرى ويشم رائحة الأخبار والتحركات عند معسكر الأعداء ؛ ويقال له " عين " أيضا.
وفي عرفنا العام نقول لمن يحترف التقاط الأخبار " شم شم لنا على حكاية الأمر الفلاني "
وتابع يعقوب القول :﴿ لا تيأسوا من روح٢٤ الله إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون ( ٨٧ ) ﴾ أي : إياكم أن تقولوا أننا ذهبنا وتعبنا وتحايلنا ؛ ولم نجد حلا لأن الله موجود، ولا يزال لله رحمة.
والأثر يقول : " لا كرب وأنت رب " وما يعز عليك بقانونك الجأ فيه إلى الله.
وقد علمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ( أنه كلما حزبه أمر قام وصلى )٢٥.
وبهذا لجأ إلى رب الأسباب، وسبحانه فوق كل الأسباب، وجربوا ذلك في أي أمر يعضلكم، ولن ينتهي الواحد منكم إلى نهاية الصلاة إلا ويجد حلا لما أعضله.
وكلمة " روح " نجدها تنطق على طريقتين " روْح " ورُوح " و " الرَّوح " هي الرائحة التي تهب على الإنسان فيستروح بها، مثلما يجلس إنسان في يوم قيظ٢٦ ؛ ثم تهب نسمة رقيقة ينتعش بها. والحق سبحانه يقول :﴿ فروح وريحان وجنة نعيم ( ٢٩ ) ﴾ [ الواقعة ]
ونأخذ لهذه الروح مثلا من المحسات حين يشتد القيظ، ونجلس في بستان، وتهب نسمة هواء ؛ فيتعطر الجو بما في البستان من زهور.
والروح٢٧ هي التي ينفخها الحق سبحانه في الجماد فيتحرك.
ويأتي هنا يعقوب عليه السلام بالقضية والمبدأ الذي يسير عليه كل مؤمن، فيقول :﴿ إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون ( ٨٧ ) ﴾
لأن الذي ليس له رب هو من ييأس، ولذلك نجد نسبة المنتحرين بين الملاحدة كبيرة، لكن المؤمن لا يفعل ذلك ؛ لأنه يعلم أن له ربا يساعد عباده. ومادام المؤمن قد أخذ بالأسباب ؛ فسبحانه يهبه مما فوق الأسباب.
وسبحانه يقول :﴿ ومن يتق الله يجعل له مخرجا ( ٢ ) ويرزقه من حيث لا يحتسب ومن يتوكل على الله فهو حسبه إن الله بالغ أمره قد جعل الله لكل شيء قدرا ( ٣ ) ﴾ [ الطلاق ]
وهذه مسألة تحدث لمن يتقي الله. أتحدى أن يوجد مؤمن ليس في حياته مثل هذه الأمور مادام يأخذ بالأسباب ويتقي الله، وسوف يجد في لحظة من لحظات الكرب أن الفرج قد جاء من حيث لا يحتسب ؛ لأن الله هو الرصيد النهائي للمؤمن.
وهب أنك سائر في الطريق، وفي جيبك جنيه واحد، وليس عندك غيره وضاع منك، هل تحزن ؟ نعم سوف تحزن، ولكن إن كان في بيتك عشرة جنيهات فحزنك يكون خفيفا لضيع الجنيه، ولو كان رصيدك في البنك ألف من الجنيهات، فلن تحزن على الجنيه الذي ضاع.
ومن له رب، يبذل الجهد في الأخذ بالأسباب ؛ سيجد الحل والفرج من أي كرب مما هو فوق الأسباب.
ولماذا ييأس الإنسان ؟
إن الملحد هو الذي ييأس ؛ لأنه لا يؤمن بإله، ولو كان يؤمن بإله، وهذا الإله لا يعلم بما فيه هذا الكافر من كرب، أو هو إله يعلم ولا يساعد من يعبده ؛ إما عجزا أو بخلا، فهو في كل هذه الحالات ليس إلها، ولا يستحق أن يؤمن به.
أما المؤمن الحق فهو يعلم أنه يعبد إلها قادرا، يعطي بالأسباب وبما فوق الأسباب ؛ وهو حين يمنع ؛ فهذا المنع هو عين العطاء ؛ لأنه قد يأخذ ما يضره ولا ينفعه.
﴿ فلما دخلوا عليه قالوا يا أيها العزيز مسنا وأهلنا الضر وجئنا ببضاعة مزجاة ٢٨ فأوف لنا الكيل وتصدق علينا إن الله يجزي المتصدقين ( ٨٨ ) ﴾
ولم يذكر الحق سبحانه اسم من دخلوا عليه، لأنه بطل القصة، والضمير في " عليه " لا بد أن يعود إلى معلوم، ونادوه بالتفخيم قائلين :
﴿ يا أيها العزيز مسنا وأهلنا الضر.. ( ٨٨ ) ﴾ أي : أن الجوع صيرنا إلى هزال، وبدأوا بترقيق قلب من يسمعهم ؛ بعد تفخيمهم له ؛ فهو الأعلى وهم الأدنى.
ويستمر قولهم :﴿ وجئنا ببضاعة مزجاة فأوف لنا الكيل وتصدق علينا إن الله يجزي المتصدقين ( ٨٨ ) ﴾
ونعلم أنهم قد جاءوا ليتحسسوا أمر يوسف وأخيه، وقد اختاروا مدخل الترقيق والتفخيم كلون من المكر، فالتفخيم بندائه بقلب العزيز ؛ أي : المالك المتمكن ؛ ويعني هذا النداء أن ما سوف يطلبونه منه هو أمر في متناول سلطته. والترقيق بشكوى الحال من جوع صار بهم إلى هزال، وأعلنوا قدومهم ومعهم بضائع مزجاة، أي : بضاعة تستخدم كأثمان لما سوف يأخذونه من سلع.
وكلمة :﴿ مزجاة.. ( ٨٨ ) ﴾ أي : مدفوعة من الذي يشتري أو يبيع والحق سبحانه يقول :﴿ ألم تر أن الله يزجي سحابا ثم يؤلف بينه ثم يجعله ركاما.. ٢٩( ٤٣ ) ﴾ [ النور ]
وكلمة " يزجى " بمعنى : يدفع. إذن : فما معنى قول الحق سبحانه :﴿ ببضاعة مزجاة.. ( ٨٨ ) ﴾
ولكي تعرف المعنى بإحساسك ؛ جرب هذا الأمر في نفسك، وراقب كيف تدفع ثمن أي شيء تشتريه ؛ فإن كان معك نقود قديمة ونقود جديدة ؛ ستجد أنك تدفع قيمة ما تشتريه من النقود القديمة ؛ وسوف تجد نفسك مرتاحا لاحتفاظك بالنقود الجديدة لنفسك.
وقد يقول لك من تشتري منه : " خذ هذه الورقة النقدية القديمة التي تدفعها لي، واستبدلها لي بورقة جديدة ".
فما دامت النقود سوف تدفع ؛ فأنت تريد أن تتخلص من النقود القديمة ؛ وتفعل ذلك وأنت مرتاح، وبذلك يمكننا أن نفهم معنى :﴿ ببضاعة مزجاة.. ( ٨٨ ) ﴾ أي ببضاعة رديئة. فكأن الضر الذي أصابهم جعلهم عاجزين عن دفع الأثمان للميرة التي سوف يأخذونها، مثل الأثمان السابقة التي تميزت بالجودة.
ويتابع الحق سبحانه ما جاء على ألسنتهم :
﴿ فأوف لنا الكيل وتصدق علينا إن الله يجزي المتصدقين ( ٨٨ ) ﴾ [ يوسف ] أي : أنهم يرجون أن يوفى لهم الكيل ولا ينقصه ؛ إن كان ما جاءوا به من أثمان لا يوفي ما تساويه الميرة، وطالبوه أن يعتبر تلك التوفية في الكيل صدقة.
وبذلك ردوه إلى ثمن أعلى مما حملوه من أثمان، وفوق قدرة البشر على الدفع ؛ لأن الصدقة إنما يثيب عليها الحق سبحانه وتعالى.
ولقائل أن يسأل : أليسوا أبناء نبوة، ولا تجوز عليهم الصدقة ؟
نقول : إن عدم جواز الصدقة هو أمر اختص به الحق سبحانه آل محمد صلى الله عليه وسلم، وهو أمر خاص بأمة محمد صلى الله عليه وسلم، فقد قال صلى الله عليه وسلم :( إن الصدقة لا تنبغي لآل محمد، إنما هي أوساخ الناس )٣٠.
وانظر إلى ما فعلته الترقيقات التي قالوها ؛ نظر إليهم يوسف عليه السلام وتبسم، ولما تبسم ظهرت ثناياه٣١، وهي ثنايا مميزة عن ثنايا جميع من رأوه.
ومجيء هذا القول في صيغة السؤال ؛ يدفعهم إلى التأمل والتدقيق ؛ لمعرفة شخصية المتحدث.
ثم يأتي التلطف الجميل منه حين يضيف :﴿ ما فعلتم بيوسف وأخيه إذ أنتم جاهلون ( ٨٩ ) ﴾
وفي هذا القول ما يلتمس لهم به العذر بالجهل، ولم يتحدث إليهم بعزة الكبرياء، وغرور المكانة التي وصل إليها، وهدفه أن يخفف عنهم صدمة المفاجأة، فذكر لهم أنهم فعلوا ذلك أيام جهلهم.
وهذا مثلما يكون أحدهم قد أخطأ في حقك قديما بسلوك غير مقبول، ولكن الأيام أزالت مرارتك من سلوكه، فتذكره بما فعله قديما وأنت تقول له : إن فعلك هذا قد صدر منك أيام طيشك، لكنك الآن قد وصلت إلى درجة التعقل وفهم الأمور.
وقول يوسف عليه السلام لهم هذا الأمر بهذه الصيغة من التلطف، إنما يعبر أيضا عن تأثره بشكواهم، ثم تبسمه لهم، وظهور ثناياه دفعهم إلى تذكره٣٢، ودار بينهم وبينه الحوار الذي جاء في الآية التالية.
وجاء قولهم بأسلوب الاستفهام التقرير الذي أكدوه ب " إن " و " اللام، وقد قالوا ذلك بلهجة ممتلئة بالفرح والتعجب بنجاحهم في التحسس الذي أوصاهم به أبوهم.
فرد عليهم :﴿ أنا يوسف وهذا أخي.. ( ٩٠ ) ﴾ وبطبيعة الحال هم يعرفون أخ يوسف " بنيامين "، وجاء ذكر يوسف له هنا دليلا على أن بنيامين قد دخل معه في النعمة، وأن الحق سبحانه قد أعز الاثنين.
ويجيء شكر يوسف لله على نعمته في قوله :﴿ قد منّ الله علينا إنه من يتق ويصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين ( ٩٠ ) ﴾
وجاء يوسف بهذا القول الذي يعرض القضية العامة التي تنفعهم كإخوة له، وتنفع أي سامع لها وكل من يتلوها، وقد قالها يوسف عليه السلام بعد بينة من واقع أحداث مرت به بدء من الرؤيا إلى هذا الموقف.
فهو كلام عليه دليل من واقع معاش، فقد منّ الله على يوسف وأخيه مما ابتليا به واجتمعا من بعد الفرقة، وعلل يوسف ذلك بالقول :
﴿ إنه من يتق.. ( ٩٠ ) ﴾أي : من يجعل بينه وبين معصية الله وقاية، ويخشى صفات الجلال، ويتبع منهجه سبحانه، ويصبر على ما أصابه، ولا تفتر همته عن عباده الله طاعة، ويتجنب كل المعاصي مهما زينت له.
فسبحانه وتعالى لا يضيع أجر المحسنين الذين يتقونه، وصاروا بتقواهم مستحقين لرحمته، وإحسانه في الدنيا والآخرة.
و " تالله " قسم بالله. و ﴿ آثرك الله علينا.. ( ٩١ ) ﴾ أي : خصك بشيء فوق ما خص به الآخرين، وهم لم يؤثرك بظلم لغيرك، ولكنك كنت تستحق ما آثرك به من الملك وعلو الشأن والمكانة.
وهكذا صدق إخوة يوسف على ما قاله يوسف، واعترفوا بخطيئتهم، حين حاولوا أن يكونوا مقربين مثله عند أبيهم، ولكنك يا يوسف وصلت إلى أن تصير مقربا مقدما عند رب أبينا ورب العالمين.
والشأن والحال التي كنا فيها تؤكد أننا خاطئين، ولا بد أن ننتبه إلى الفرق بين " خاطئين " و " مخطئين ".
والعزيز قد قال لزوجته :﴿ واستغفري لذنبك إنك كنت من الخاطئين ( ٢٩ ) ﴾ ولم يقل لها " كنت من المخطئين " فالمادة واحدة هي : " الخاء " و " الطاء " و " الهمزة "، ولكن المعنى يختلف، فالخاطئ هو من يعلم منطقة الصواب ويتعداها، أما المخطئ فهو من لم يذهب إلى الصواب ؛ لأنه لا يعرف مكانه أو طريقه إليه.
﴿ قال لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين ( ٩٢ ) ﴾ والتثريب هو اللوم العنيف، وهو مأخوذ من الثرب ؛ فحين يذبحون ذبيحة، ويخرجون أمعاءها يجدون حول الأمعاء دهنا كثيفا ؛ هذا الدهن يسمى ثرب.
أما إن كانت هزيلة، ولم تتغذ جيدا، فأمعاءها تخرج وقد ذاب من عليه هذا الثّرْب.
والتثريب يعني : أن اللوم العنيف قد أذاب الشحم من لحمه، وجعل دمه ينز، ويكاد أن يصل بالإنسان إلى أن ينزل به ويسله.
وفي الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " إذا زنت أمة أحدكم فتبين١ زناها فليجلدها الحد، ولا يثرب عليها، ثم إن زنت فليجلدها الحد، ولا يثرب عليها، ثم إن زنت الثالثة فتبين زناها فليبعها، ولو بحبل من شعر " ٢.
أي : لا يقولن لها : يا من فعلى كذا وكذا، بل فليعاقبها بالعقاب الذي أنزله الله لمثل هذه الجريمة ؛ فإن لم ترتدع عن الفعل فليبعها، وهكذا نفهم أن التثريب أو اللوم العنيف قد يولد العناد.
وقال يوسف عليه السلام :﴿ اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين ( ٩٢ ) ﴾
ولقائل أن يتساءل : ولماذا قال يوسف ذلك ؛ وقد يكونون قد استغفروا الله من قبل ؟
ونقول : إن دعوة يوسف بالمغفرة لهم جاءت في حدود معرفته، ولتصفية النفوس مما شابها بهذا اللقاء.
وقوله :﴿ وهو أرحم الراحمين ( ٩٢ ) ﴾ هو فهم لحقيقة أن أي رحمة في العالم، أو من أي أحد إنما هي مستمدة من رحمته سبحانه.
وقد قال يوسف ذلك وهو واثق من إجابة دعوته، لأنه قد غفر لهم خطأهم القديم وعفا عنهم ؛ والله أولى منه بالعفو عنهم.
٢ - أخرجه مسلم في صحيحه [١٧٠٣] من حديث أبي هريرة رضي الله عنه..
﴿ اذهبوا بقميصي هذا فألقوه على وجه أبي يأت بصيرا وأتوني بأهلكم أجمعين ( ٩٣ ) ﴾
وكان يوسف عليه السلام، قد علم أن أباه يربط عينيه من الحزن، وكاد أن يفقد بصره، فأمر إخوته أن يذهبوا بقميصه الذي كان يلبسه إلى أبيه.
وتقول كتب السير أن أخاه الأكبر الذي رفض أن يبرح مصر، وقال :﴿ فلن أبرح الأرض حتى يأذن لي أبي أو يحكم الله لي وهو خير الحاكمين ( ٨٠ ) ﴾
قد قال ليوسف : " يا أيها العزيز إنني أنا الذي حملت القميص بدم كذب إلى أبي، فدعني أحمل هذا القميص لأبي، كي تمحو هذه تلك " ١. وقال يوسف عن فعل القميص مع الأب :﴿ فألقوه على وجه أبي يأت بصيرا.. ( ٩٣ ) ﴾ ونلحظ أنه لم يقل : " وجه أبيكم ".
وفي قوله :﴿ وجه أبي.. ( ٩٣ ) ﴾ إشارة إلى الحنان الأبوي الذي فقدوه منذ أن غاب يوسف، فغرق والده في الحزن. و﴿ يأت بصيرا.. ( ٩٣ ) ﴾
أي : يرتد إليه بصره، أو يراه أمامه سليما.
ويضيف يوسف :﴿ وأتوني بأهلكم أجمعين ( ٩٣ ) ﴾ هذا تعبير قرآني دقيق، أن يحضروا معهم كل من يمت بصلة قرابة لهم أو يعمل معهم، ٢ ولم يقل يوسف " بآلكم " حتى لا يأتوا بالأعيان فقط.
ونلحظ أنه لم يذكر والده في أمر يوسف لإخوته أن يأتوه بكل من يمت لهم بصلة قربى ؛ لأن في مثل هذا الأمر-من موقع عزيز مصر- إجبارا للأب على المجيء، وهو يجل أباه عن ذلك.
٢ - قال مسروق: كانوا ثلاثة وتسعين، ما بين رجل وامرأة القرطبي في تفسيره [٥/٣٥٩٣].
﴿ ولما فصلت العير قال أبوهم إني لأجد ريح٣ يوسف لولا أن تفندون٤ ( ٩٤ ) ﴾
و " فصلت " تدل على شيء كان ملتصقا بشيء آخر وانفصل عنه، وفصلت العير، أي : خرجت من المدينة وتجاوزتها ؛ لتسير في رحلتها، والمقصود خروج القافلة من حدود مصر قاصدة مكان يعقوب عليه السلام.
وهنا قال يعقوب لمن كانوا حاضرين معه من الأحفاد وأبناء الأبناء :﴿ إني لأجد ريح يوسف.. ( ٩٤ ) ﴾
والمعروف أن القميص الذي أرسله مع أخيه الأكبر يحمل رائحة يوسف، لكن الذين حول يعقوب من أقربائه لم يصدقوا قوله، فأضاف :
﴿ لولا أن تفندون ( ٩٤ ) ﴾ أي : لولا اتهامكم لي بالخرف، لأن التفنيد هو الخرف١.
ومن العجيب أننا في أيامنا هذه نجد العلم وقد أثبت أن صور المرائي والأصوات، توجد لها آثار في الجو، رغم ما يخيل للإنسان أنها تلاشت.
ويحاول العلم بوسائل من الأشعة أن يكشف صورة أي جماعة كانت تجلس في مكان ما، ثم رحلت عنه منذ ساعة أو ساعتين، مما يدل على أن الصور لها نضج من شعاع وظلال يظل بالمكان لفترة قبل أن يضيع.
وكذلك الأصوات ؛ فالعلماء يحاولون استرداد أصوات من رحلوا ؛ ويقولون : لا شيء يضيع في الكون، بل كل ما وجد فيه محفوظ بشكل آو بآخر.
والرائحة أيضا لا تضيع، بدليل أن الكلب يشم الريح من على مسافات بعيدة، ويميز الآن المخدرات من رائحتها ؛ ولذلك تنتشر الكلاب المدربة في المطارات وعلى الحدود ؛ لتكشف أي محاولة لتهريب المخدرات.
وإذا كان الحيوان المخلوق بقدرة الله قادرا على التقاط الرائحة من بين آلاف الروائح، وإذا كان العلم الموهوب من الله للبشر ؛ يبحث الآن في كيفية استحضار الصورة واسترداد الصوت من الفضاء المحيط بالإنسان ؛ فعلينا أن ندرك أن العير عندما خرجت من أسوار المدينة ؛ وأخذت طريقها إلى الموقع الذي يعيش فيه يعقوب عليه السلام ؛ استطاع يعقوب بقدرة الله أن يشم رائحة يوسف ؛ تلك التي يحملها قميصه القادم مع القافلة.
ولسائل أن يقول : ولماذا ارتبط تنسم يعقوب لرائحة يوسف بخروج العير من مصر، وتواجدها على الطريق إلى موطن يعقوب ؟
نقول : لأن العير لحظة تواجدها في المدينة تكون رائحة قميص يوسف مختلطة بغيرها من الروائح ؛ فهناك الكثير من الروائح الأخرى داخل أي مدينة، ويصعب نفاذ رائحة بعينها لتغلب على كل الروائح ؛ ويختلف الأمر في الخلاء ؛ حيث يمكن أن تمشي هبة الرائحة دون أن يعترضها شيء.
وبذلك نؤمن أن كل شيء في الكون محفوظ ولا يضيع ؛ مصداقا لقوله تعالى :﴿ وإن عليكم لحافظين ( ١٠ ) كراما كاتبين ( ١١ ) ﴾ [ الانفطار ]
وكل ما يصدر منك مسجل عليك ؛ ولذلك يأتيك كتابك يوم القيامة لتقرأه ؛ وتكون على نفسك حسيبا.
﴿ قالوا تالله إنك لفي ضلالك القديم ( ٩٥ ) ﴾ وكأنهم قد ملوا حديثه عن يوسف ؛ وأعرضوا عن كلامه قائلين له : إلى متى ستظل على ضلالك، وهم لا يعنون الضلال١ بمعنى الخروج عن المنهج، ولكنهم يعنون الضلال بمعنى الجزئيات التي لا علاقة لها بالتدين من محبة شديدة ليوسف، وتعلق به، والتمني لعودته، وكثرة الحديث عنه، وتوقع لقائه، وهم الذين ظنوا أن يوسف قد مات.
﴿ فلما أن جاء البشير ألقاه على وجهه فارتد بصيرا قال ألم أقل لكم إني أعلم من الله ما لا تعلمون ( ٩٦ ) ﴾
وحين حضر البشير١، وهو كما تقول الروايات كبير الإخوة ؛ ويقال أيضا : إنه يهوذا ؛ وهو من رفض أن يغادر مصر إلا بعد أن يأذن له والده، أو يأتي حل من السماء لمشكلة بقاء بنيامين في مصر، بعد اتهام أعوان العزيز له بالسرقة، طبقا لما أرده يوسف ليستبقي شقيقه معه.
ولما جاء هذا البشير ومعه قميص يوسف ؛ فألقاه على وجه الأب تنفيذا لأمر يوسف عليه السلام.
وبذلك زال سبب بكاء يعقوب، وفرح يعقوب فرحا شديدا ؛ لأنه في أيام حزنه على يوسف، وابيضاض عينيه من كثرة البكاء حدثه قلبه بالإلهام من الله أن يوسف ما زال حيا ؛ وكان البكاء عليه من بعد ذلك هو بكاء من فرط الشوق لرؤية ابنه.
وكذلك قد يكون يوسف قد علم بالوحي من الله أن إلقاء القميص على وجه أبيه يرد إليه بصره، بإذن من الحق سبحانه وتعالى، فضلا عن أن الفرح له آثار نفسية تنعكس على الحالة الصحية، وهكذا تجلت انتصارات الحق والنبوة.
وقال يعقوب عليه السلام :﴿ ألم أقل لكم إني أعلم من الله ما لا تعلمون ( ٩٦ ) ﴾
ولم يقل ذلك إذلالا لهم، بل ليعطي الثقة والتوثيق لأخبار كل نبي، وأن الواقع قد أيد الكلام الذي قال لهم :
﴿ يا بني اذهبوا فتحسسوا٢ من يوسف وأخيه ولا تيأسوا من روح الله إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون ( ٨٧ ) ﴾
فإذا جاءكم خبر من معصوم ؛ إياكم أن تقفوا بعقولكم فيه ؛ لأن العقول تأخذ مدركات الأشياء على قدرها، وهناك أشياء فوق مدركات العقول.
وحين يحدثكم معصوم عن ما فوق مدركات عقولهم إياكم أن تكذبوه ؛ سواء فهمتم ما حدثتكم عنه، أو لم تستوعبوا حديثه عما فوق مدركات العقول.
٢ - تحسس الشيء وتحسس منه: طلب معرفته بالبحث الدقيق عنه، قال تعالى: ﴿يا بني اذهبوا فتحسسوا من يوسف وأخيه (٨٧)﴾ [يوسف]. أي: تتبعوا أخبارهما وابحثوا عنهما بعناية شديدة. [القاموس القويم ١/ ١٥٤].
راجعه على الأصل وخرج أحاديثه فضيلة الشيخ محمد السنراوي المستشار بالأزهر والأستاذ عادل أبو المعاطي..
وهم هنا يُقِرُّون بالذنب، ويُحدِّثون والدهم بنداء الأبوة كي يستغفر لهم ما ارتكبوه من ذنوب كثيرة، فقد آذَوْا أباهم وجعلوه حزيناً، ولا يسقط مثل هذا الذنب إلا بأن يُقِرَّ به مَنْ فعله، ونلحظ أنهم قالوا :﴿ إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ ﴾ [ يوسف : ٩٧ ] أي : أنهم كانوا يعلمون الصواب، ولم يفعلوه.
ونلحظ أن يوسف قد قال لهم من قبل :﴿ لاَ تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ﴾ [ يوسف : ٩٢ ] لكن والدهم هنا في الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها يقول :﴿ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي... ﴾ [ يوسف : ٩٨ ] ولم يقل : " سأستغفر لكم ربي "، وهذا يدل على أن الكبار يحتاجون لوقت أكبر من وقت الشباب ؛ لذلك أجَّل يعقوب الاستغفار لما بعد. والشيخ الألوسي في تفسيره يقول : " إنما كان ذلك لأن مطلوبات البر من الأخ لأخوته غير مطلوبات البر من ابن لأبيه ؛ لأن الأخ ليس له نفس حق الأب ؛ لذلك يكون غضب الأب أشدَّ من غضب الأخ ". ثم إن ذنوبهم هنا هي من الذنوب الكبيرة التي مرّ عليها وعلى تأثيرها على الأب زمن طويل. ويقال : إن يعقوب عليه السلام قد أخَّر الاستغفار لهم إلى السَّحَر، لأن الدعاء فيه مُستجَاب.
ونعلم أن الجَدَّ إسحق لم يكُنْ موجوداً، وكانوا يُغلِّبون جهة الأبوة على جهة الأمومة، ودخلت معهم الخالة ؛ لأن الأم كانت غير موجودة.
ويبدو أن يوسف قد استقبلهم عند دخولهم إلى مصر استقبال العظماء، فاستقبلهم خارج البلد مرة ليريحهم من عناء السفر ويستقبلهم وجهاء البلد وأعيانهم ؛ وهذا هو الدخول الأول الذي آوى فيه أبويْه.
ثم دخل بهم الدخول الثاني إلى البلد بدليل أنه قال :﴿ ... ادْخُلُواْ مِصْرَ إِن شَآءَ اللَّهُ آمِنِينَ ﴾ [ يوسف : ٩٩ ] ففي الآية دخولان.
وقول الحق سبحانه :﴿ آوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ... ﴾ [ يوسف : ٩٩ ] يدل على حرارة اللقاء لمغتربين يجمعهم حنان، فالأب كان يشتاق لرؤية ابنه، ولابُدَّ أنه قد سمع من أخوته عن مكانته ومنزلته، والابن كان مُتشوِّقاً للقاء أبيه.
وانفعالات اللقاء عادة تُترك لعواطف البشر، ولا تقنينَ لها، فهي انفعالات خاصة تكون مزيجاً من الود، ومن المحبة، ومن الاحترام، ومن غير ذلك. فهناك مَنْ تلقاه وتكتفي بأن تسلم عليه مُصَافحة، وآخر تلتقي به ويغلبُك شوقك فتحتضنه، وتقول ما شِئتَ من ألفاظ الترحيب. كل تلك الانفعالات بلا تقنين عباديّ، بدليل أن يوسف عليه السلام آوى إليه أبويه، وأخذهما في حضنه.
" والمثل من حياة رسولنا صلى الله عليه وسلم في سياق غزوة بدر حيث كان يستعرض المقاتلين، وكان في يده صلى الله عليه وسلم قدح يعدل به الصفوف، فمَرَّ بسواد بن غزية من بني عدي بن النجار، وهو مستنصل عن الصف أي خارج عنه، مما جعل الصف على غير استواء فطعن رسول الله صلى الله عليه وسلم في بطنه بالقدح وقال له : " اسْتَوِ يا سواد ". فقال سواد : أوجعتني، وقد بعثك الله بالحق والعدل فأقدني. فكشف رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بطنه وقال صلى الله عليه وسلم : " استقد ". فاعتنقه سَواد وقَبَّل بطنه. فقال صلى الله عليه وسلم : " ما حملك على هذا يا سواد ؟ ". قال : يا رسولَ الله، قد حضر ما ترى يقصد الحرب فأردت أن يكون آخر العهد بك أن يمسَّ جِلْدي جلدك. فدعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم بالخير ".
وقد رفع يوسف أبويه على العرش لأنه لم يحب التميُّز عنهم ؛ وهذا سلوك يدل على المحبة والتقدير والإكرام. والعرش هو سرير الملك الذي يدير منه الحاكم أمور الحكم. وهم قد خَرُّوا سُجَّداً لله من أجل جمع شمل العائلة، ولم يخروا سُجَّداً ليوسف، بل خَرُّوا سُجَّداً لمن يُخَرّ سجوداً إليه، وهو الله.
وللذين حاولوا نقاش أمر سجود آل يعقوب ليوسف أقول : هل أنتم أكثر غَيْرةً على الله منه سبحانه ؟ إنه هو سبحانه الذي قال ذلك، وهو سبحانه الذي أمر الملائكة من قَبْل بالسجود لآدم فلماذا تأخذوا هذا القول على أنه سجود لآدم ؟
والمؤمن الحق يأخذ مسألة سجود الملائكة لآدم ؛ على أنه تنفيذ لأمر الحق سبحانه لهم بالسجود لآدم، فآدم خلقه الله من طين، ونفخ فيه من روحه ؛ وأمر الملائكة أن تسجد لآدم شكراً لله الذي خلق هذا الخَلْق. وكذلك سجود آل يعقوب ليوسف هو شكر لله الذي جمع شملهم، وهو سبحانه الذي قال هذا القول، ولم يُجرِّم سبحانه هذا الفعل منهم، بدليل أنهم قَدَّموا تحية ليوسف هو قادر أن يردَّها بمثلها. ولم يكن سجودهم له بغرض العبادة ؛ لأن العبادة هي الأمور التي تُفعل من الأدنى تقرباً للأعلى، ولا يقابلها المعبود بمثلها ؛ فإنْ كانت عبادة لغير الله فالله سبحانه يُعاقب عليها ؛ وتلك هي الأمور المُحرَّمة.
أما العبادة لله فهي اتباع أوامره وتجنب نواهيه ؛ إذن : فالسجود هنا استجابة لنداء الشكر من الكل أمام الإفراج عن الهم والحزن وسبحانه يُثيب عليها. أما التحية يقدمها العبد، ويستطيع العبد الآخر أن يردَّ بمثلها أو خَيْرٍ منها، فهذا أمر لا يحرمه الله، ولا دَخْل للعبادة به.
لذلك يجب أن نفطن إلى أن هذه المسألة يجب أن تُحرَّر تحريراً منطقيّاً يتفق مع معطيات اللغة ومقتضى الحال، ولو نظرنا إلى وضع يعقوب عليه السلام، وما كان فيه من أحزان وموقف إخوته بين عذاب الضمير على ما فعلوا وما لاقوه من متاعب لأيقنا أن السجود المراد به شكر من بيده مقاليد الأمور بدلاً من خلق فجوات بلا مبرر وَهُمْ حين سجدوا ليوسف ؛ هل فعلوا ذلك بدون علم الله ؟ طبعاً لا.
ومن بعد ذلك نجد قول يوسف لأبيه :﴿ وَقَالَ يأَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِن قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقّاً... ﴾ [ يوسف : ١٠٠ ]
وقد كانت الرُّؤيا هي أول لَقْطة في قصة يوسف عليه السلام حيث قال الحق ما جاء على لسان يوسف لأبيه :﴿ ... إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ ﴾ [ يوسف : ٤ ] وقوله في الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها :﴿ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقّاً... ﴾ [ يوسف : ١٠٠ ] أي : أمراً واقعاً، وقد رآه والد يوسف وأخوته لحظة أنْ سجدوا ليوسف سجودَ الشكر والتحية لا سجود عبادة، وقد سجد الأخوة الأحد عشر والأب والخالة التي تقوم مقام الأم، ورؤيا الأنبياء كما نعلم لابُدَّ أن تصير واقعاً.
ولقائل أن يقول : وماذا عن رُؤْيا إبراهيم عليه السلام التي أمره فيها الحق سبحانه أن يذبح ابنه ؛ فقام إلى تنفيذها ؛ واستسلم إسماعيل لأمر الرُّؤْيا.
نقول : إن الأنبياء وحدهم هم الملتزمون شرعاً بتنفيذ رؤاهم ؛ لأن الشيطان لا يُخايلهم ؛ فهم معصومون من مخايلة الشيطان.
أما إنْ جاء إنسان وقال : لقد جاءتني رؤيا تقول لي نَفِّذ كذا. نقول له : أنت غير مُلْزم بتنفيذ ما تراه في منامك من رُؤَى ؛ فليس عليك حكم شرعي يلزمك بذلك ؛ فضلاً عن أن الشيطان يستطيع أن يُخايلك.
أما تنفيذ إبراهيم عليه السلام لما رآه في المنام بأن عليه أن يذبح ابنه، وقيام إبراهيم بمحاولة تنفيذ ذلك ؛ فسببه أنه يعلم بالتزامه الشرعي بتنفيذ الرُّؤيا.
وقد جاء لنا الحق سبحانه بهذا الذي حدث ليبين لنا عِظَم الابتلاءات التي مرَّتْ على إبراهيم، وكيف حاول أن يتم كل ما توجهه له السماء من أوامر، وأن ينفذ ذلك بدقّة.
وقال الحق سبحانه مُصوِّراً ذلك :﴿ وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً... ﴾ [ البقرة : ١٢٤ ]
وكانت قمة الابتلاءات هي أن يُنفِّذ بيديه عملية ذبح الابن ؛ ولذلك أؤكد دائماً على أن الأنبياء وحدهم هم المُلْزمون بتنفيذ رُؤاهم، أما أي إنسان آخر إنْ جاءته رُؤْيا تخالف المنهج ؛ فعليه أن يعتبرها من نزغ الشيطان. ويتابع الحق سبحانه ما جاء على لسان يوسف :﴿ وَقَدْ أَحْسَنَ بَي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ... ﴾ [ يوسف : ١٠٠ ]
ولقائل أن يسأل : ولماذا لم يذكر يوسف الأحداثَ الجِسَام التي مرَّتْ به في تَسَلسُلها ؛ مثل إلقاء أخوته له في الجُبِّ ؟
نقول : لم يُرِدْ يوسف أن يذكر ما يُكدِّر صَفْو اللقاء بين العائلة من بعد طول فراق. ولكنه جاء بما مرّ به من بعد ذلك، من أنه صار عبداً، وكيف دخل السجن ؛ لأنه لم يستسلم لِغُواية امرأة العزيز، وكيف مَنَّ الله عليه بإخراجه من السجن، وما أن خرج من السجن حتى ظهرت النعمة، ويكفي أنه صار حاكماً.
وقد يقول قائل : إن القصة هنا غير مُنْسجمة مع بعضها، لأن بعضاً من المواقف تُذكر ؛ وبعضها لا يُذْكر.
نقول : إن القصة مُنْسجمة تماماً، وهناك فارق بين قصص التاريخ كتاريخ ؛ وبين قَصص يوضح المواقف الهامة في التاريخ.
والمناسبة في هذه الآية هي اجتماع الإخوة والأب والخالة، ولا داعي لذكر ما يُنغِّص هذا اللقاء ؛ خصوصاً ؛ وأن يوسف قد قال من قبل :﴿ قَالَ لاَ تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ﴾ [ يوسف : ٩٢ ] وسبق أن قال لهم بلطف من يلتمس لهم العذر بالجهل :﴿ ... هَلْ عَلِمْتُمْ مَّا فَعَلْتُم بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنتُمْ جَاهِلُونَ ﴾ [ يوسف : ٨٩ ] وهو هنا في الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها يذكر إحسان الحق سبحانه له فيقول :﴿ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِن قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقّاً... ﴾ [ يوسف : ١٠٠ ]
ويُثني على الله شاكراً إحسانه فيقول :﴿ وَقَدْ أَحْسَنَ بَي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ... ﴾ [ يوسف : ١٠٠ ] وهو إحسان له في ذاته، ثم يذكر إحسان الله إلى بقية أهله :﴿ وَجَآءَ بِكُمْ مِّنَ الْبَدْوِ... ﴾ [ يوسف : ١٠٠ ]
وكلمة " أحسن " كما نعلم مرة تتعدى ب إلى، فتقول : " أحسن إليه "، ومرة تتعدى بالباء، فنقول : " أحسن به "، وهو هنا في مجال " أحسن بي ". أي : أن الإحسان بسببه قد تعلَّق بكل ما اتصل به ؛ فجعله حاكماً، وجاء بأهله من البدو ؛ أما الإحسان إليه فيكون محصوراً في ذاته لا يتعداه.
وجعل الحق سبحانه الإحسان هنا قسمين : قسم لذاته ؛ وقسم للغير، واعتبر مجيء الأهل من البدو إحساناً إليه، لأن البَدْو قوم يعيشون على الفطرة والانعزالات الأسرية، ولا تَوطُّن لهم في مكان، ولا يضمُّهم مجتمع، وليس لهم بيوتٌ مبنية يستقِرُّون فيها، ولكنهم يتبعون أرزاقهم من منابت الكلأ ومساقط المياه، ويحملون رِحَالهم إلى ظهر الجمال متنقلين من مكان لآخر. وتخلو حياتهم من نِعَم الحضارة. ففي الحضارة يحضر إليك كل ما تطلب، ولكن الحياة في البدو تُحتِّم أن يذهب الإنسان إلى حيث يجد الخير ؛ ولذلك تستقر الحياة في الحضر عنها في البادية.
ويعطينا الشاعر أحمد شوقي رحمة الله عليه صورة تبين الفارق بين البدو والحضر، حين صنع مناظرة بين واحدة تتعصب للبدو، وأخرى تتعصب للحضر. فقال :
فأنا مِنَ البِيدِ يا ابن جُرَيج *** ومن هذه العِيشَة الجَافِيه
ومن حَالبِ الشاة في موضعٍ *** ومن مُوقِد النارِ في نَاحِيه
مُغَنِّيكُمو معبدٌ والغَريق *** وقَيْنتنا الضبع العَاوِيه
هُمْ يأكلونَ فُنونَ الطهاةِ *** ونحن نأكل ما طَهَتِ المَاشِيه
فابن جريج يشكو السَّأَم من حياة البادية، حيث لا يرى إلا المناظر المُعَادة من حَلْبٍ لشاة، أو إشعال نار، ولا يسمع كأهل الحضر صوت المُغنِّين المشهورين في ذلك الزمن ؛ بل يسمع صوت الضِّبَاع العاوية، ولا يأكل مثل أهل الحضر ما قام بِطَهْيهِ الطُّهاة ؛ بل يأكل اللبن وهو ما تقدمه لهم الماشية. وتردُّ ليلى المتعصِّبة للبادية :
قد اعتسفتْ هِنْدُ يا ابنَ جرَيج *** وكانت على مَهْدِها قَاسيه
فَمَا البِيِد إلاّ دِيَارُ الكِرَام *** ومنزِلةُ الذِّمَمِ الوَاقِيه
لها قِبْلةُ الشمسِ عند البُزُوغِ *** وللحضر القبلة الثانيه
ونحنُ الرَّياحِين مِلْء الفضاءِ *** وهُنَّ الرَّياحِينُ في آنِيه
ويَقْتُلنا العِشْقُ والحَاضِراتُ *** يَقُمْنَ من العِشق في غَامِيه
وقولها " اعتسفت " يعني " ظلمت "، أي : أن هنداً ظلمت البيد يا ابن جريج، ثم جاءت بميزات البدو ؛ فأوضحت أن بنات البادية كالرياحين المزروعة في الفضاء الواسع، عكس بنات الحَضَر التي تشبه الواحدة منهن الريحانة المزروعة في أُصص الزرع، أو أي آنية أخرى.
ثم تأتي إلى القيم ؛ فتفخر أن بنت البادية يقتلها العِشْق، ولا تنال ممَّنْ تعشق شيئاً ؛ فتنسلّ وتموت، أما بنت الحضر ؛ فصحتها تأتي على الحب.
وهنا في الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها يشكر يوسف ما مَنَّ به الله عليه، وعلى أهله الذين جاء بهم سبحانه من البادية، ليعيشوا في مصر ذات الحضارة الواسعة ؛ وبذلك يكون قد ضخَّم الفرق بين ما كانوا يعيشون فيه من شَظَف العيش إلى حياة اللين والدَّعة.
ثم يلمس ما كان من إخوته تجاهه فيقول :﴿ مِن بَعْدِ أَن نَّزغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي... ﴾ [ يوسف : ١٠٠ ] وهذا مَسٌّ لطيف لما حدث، وقد نسبه يوسف للشيطان ؛ وصَوَّره على أنه " نَزْغ ". أي : أنه لم يكن أمراً مستقراً على درجة واحدة من السوء. أي : أن ما فعله الشيطان هو مجرد وَخْزة تُنبِّه إلى الشيء الضار فيندفع له الإنسان، وهي مأخوذة من المِهْماز الذي يُروِّض به مدرب الخيل أيَّ حصان، فهو ينغزه بالمِهْماز نزغة خفيفة، فيستمع وينفذ ما أمره به، فالنَّغْز تنبيه لمهمة، ويختلف عن الطَّعْن.
والحق سبحانه ينبهنا إلى ما يفعله الشيطان ؛ فيقول لنا :﴿ وَإِماَّ يَنَزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ... ﴾ [ الأعراف : ٢٠٠ ]
وكُلٌّ منا يعلم أن الشيطان عدوٌّ له عداوة مُسبقة، وحين تستعيذ بالله من الشيطان، فأنت تكتسب حَصَانه من الشيطان. وسبحانه القائل :﴿ ... إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ ﴾ [ الأعراف : ٢٠١ ] أي : أن الإنسان حين يتذكر العداوة بينه وبين الشيطان ؛ فعليه أن يشحن نفسه بالمناعة الإيمانية ضد هذا النَّزْغ.
ويُذيِّل الحق سبحانه الآية الكريمة بقول يوسف :﴿ ... إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِّمَا يَشَآءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ ﴾ [ يوسف : ١٠٠ ]
فسبحانه هو المدير الذي لا تَخْفى عليه خافية أبداً، وكلمة " لُطْف " ضد كلمة " كثافة " فاللطيف هو الذي له جِرْم دقيق، والشيء كلما لَطُف عَنُفَ ؛ لأنه لا توجد عوائق تمنعه.
ولا شيء يعوق الله أبداً، وهو العليم بموقع وموضع كل شيء، فهو يجمع بين اللطف والخبرة، فلُطْفه لا يقف أ
ونعلم أن الربوبية تعني الخَلْق من عدم، والإمداد من عدم ؛ والإقاتة لاستبقاء الحياة، والتزاوج لاستباق النسل، وتسير كل هذه العمليات في تناسق كبير.
فالحق سبحانه أوجد من عدم، واستبقى الحياة الذاتية بالقوت، واستبقى الحياة النوعية بما أباح من تزاوج وتكاثر.
وكل مخلوق له حَظٌّ في عطاء الربوبية، مؤمناً كان أم كافراً، وكل مخلوقات الكون مُسخَّرة لكل الخلق، فسبحانه هو الذي استدعى الخَلْق إلى الوجود ؛ ولذلك تكفل بما يحقق لهم الحياة.
ويختص الحق سبحانه عباده المؤمنين بعطاء آخر بالإضافة لعطاء الربوبية ؛ وهو عطاء الألوهية المتمثل في المنهج.
يقول يوسف عليه السلام مناجياً ربه :﴿ رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ... ﴾ [ يوسف : ١٠١ ] أي : أنه سبحانه هو الذي أعطاه تلك السيادة، وهذا النفوذ والسلطان ؛ فلا أحد يملك قَهْراً عن الله، وحتى الظالم لا يملك قهراً عن الله ؛ ولذلك يقول الحق سبحانه في آية أخرى من القرآن :﴿ قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَآءُ وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَآءُ وَتُعِزُّ مَن تَشَآءُ وَتُذِلُّ مَن تَشَآءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ [ آل عمران : ٢٦ ]
وإتيان المُلْك لا توجد فيه مقاومة ممَّنْ يملك ؛ ولكن نَزْع المُلْك هو الذي يقاومه المنزوع منه.
والحق سبحانه هو أيضاً الذي يُعِز مَنْ يشاء، وهو الذي يُذل مَنْ يشاء.
وحين تتغلغل هذه الآية في نفس المؤمن ؛ فهو يُوقِن أنه لا مفرَّ من القدر، وأن إيتاء المُلْك خير، وأن نزع الملك خير، وأن الإعزاز خير والإذلال خير ؛ كي لا يطغى الإنسان، ولا يتكبر، ولا يُعدِّل في إيمان غيره.
وكان بعض الناس يقولون : لابد أن تُقدر محذوفاً في الآية. وهم قد قالوا ذلك بدعوى الظن أن هناك خيرين في الآية وشَرَّيْن محذوفين.
وأقول : لا، إن ما تظنه أيها الإنسان أنه شر إنما هو خير يريده الله ؛ فكل ما يُجريه الله خير. وقول يوسف عليه السلام :﴿ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ... ﴾ [ يوسف : ١٠١ ] يقتضي أن نفهم معنى " المُلْك " ؛ ومعنى " المِلْك "، ولنا أن نعرف أن كل إنسان له شيء يملكه ؛ مثل ملابسه أو قلمه أو أثاث بيته، ومثل ذلك من أشياء، وهذا ما يُسمَّى : " المِلْك ". أما " المُلْك " فهو أن تملك مَنْ يملك.
وقد ملَّك الله بعضاً من خَلْقه لخلقه، ملَّكهم أولاً ما في حوزتهم، وملَّكهم غيرهم، وسبحانه ينزع المُلْك من واحد ويهبه لآخر، كي لا تصبح المسألة رَتَابة ذات.
ومثال هذا : هو ما حدث لشاه إيران، وكان له المُلْك، وعنده كل أسباب الحضارة، وفي طَوْعه جيش قوي، ثم شاء الحق سبحانه أن ينزع منه المُلْك، فقام غيره بتفكيك المسامير غير المرئية التي كان الشاه يُثبِّت بها عرشه ؛ فزال عنه المُلْك.
وأنت في هذه الدنيا تملك السيطرة على جوارحك ؛ تقول لليد " إضربي فلان " فتضرب يدُك فلاناً، إلى أن يأتي اليوم الآخر فلا يملك الإنسان السيطرة على جوارحه ؛ لأن المُلْك يومها يكون لله وحده، فسبحانه القائل :﴿ ... لِّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ ﴾ [ غافر : ١٦ ] ففي اليوم الآخر تنتفي كل الولايات، وتكون الولاية لله وحده. وبجانب " المُلْك " و " المِلْك " ؛ هناك الملكوت، وهو ما لا تراه بأجهزة الحواس. وسبحانه يقول :﴿ وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ... ﴾ [ الأنعام : ٧٥ ]
أي : أن الحق سبحانه قد كشف لإبراهيم أسرار العالم الخفية من المخلوقات، وأنت ترى العلماء وهم يتتبعون أسرار ممالك النباتات والحيوانات ؛ فتتعجب من دِقَّة خَلْق الله.
ومَنْ وهبه الله دِقَّة العلم وبصيرة العلماء، يرى بإشعاعات البصر والعلم عالم الملكوت، ويستخرج الأسرار، ويستنبط الحقائق.
ويضيف يوسف عليه السلام في مناجاته لربه :﴿ وَعَلَّمْتَنِي مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ... ﴾ [ يوسف : ١٠١ ]
وهو يعترف بفضل الله عليه حين اختصّه بالقدرة على تأويل الأحاديث ؛ تلك التي أوَّل بها رُؤْيا الفتييْنِ اللذين كانا معه في السجن ؛ وأوَّل رؤيا المِلَك ؛ هذا التأويل الذي قاده إلى الحكم، وليس هذا غريباً أو عجيباً بالنسبة لقدرة الله سبحانه.
ويقول يوسف شاكراً لله :﴿ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ... ﴾ [ يوسف : ١٠١ ]
ومادام سبحانه هو خالق كل شيء ؛ فليس غريباً أن يُعلِّمه سبحانه ما شاء، وكأن إيمان يوسف قد وصل به إلى أن يعلم ما قاله الحق سبحانه :﴿ أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ ﴾ [ الملك : ١٤ ]
ونحن في حياتنا نجد الذي صنع جهازاً يستفيد منه غيره ؛ يوضح مواصفات استعمال الجهاز أو الأداة، حتى ولو كانت نورجاً أو مِحْراثاً ؛ وذلك ليضمن للجهاز الحركة السَّوِيَّة التي يؤدي بها الجهاز عمله.
والواحد منا إن تعطلت منه السيارة يستدعي الميكانيكي الذي ينظر ما فيها ؛ فإن كان أميناً، فهو يُشخِّص بدِقَّة ما تحتاجه السيارة، ويُصلِحها، وإن كان غير أمين ستجده يُفسد الصالح، ويزيد من الأعمال التي لا تحتاجها السيارة. وهكذا نرى أن كل صانع في مجاله يعلم أسرار صنعته، فما بالنا بالخالق الأعظم سبحانه وتعالى ؟ إنه خبير عليم بكل شيء.
ولماذا قال يوسف عن الحق سبحانه :﴿ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ... ﴾ [ يوسف : ١٠١ ] لأنه يعلم أن الحق سبحانه قد خلق الإنسان ؛ والإنسان له بداية ونهاية، لا يعلمها أحد غير الله سبحانه، فقد يموت الإنسان وعمره يوم، أو يموت في بطن أمه، أو بعد مائة سنة، وتمر على الإنسان الأغيار.
أما السماوات والأرض فهي مخلوقات ثابتة، فالشمس لا تحتاج إلى قطعة غيار، ولم تقع، وتعطي الدفء للأرض، وهي مرفوعة عن الأرض ؛ لا تقع عليها بمشيئة الله.
والحق سبحانه هو القائل :﴿ ... وَيُمْسِكُ السَّمَآءَ أَن تَقَعَ عَلَى الأَرْضِ إِلاَّ بِإِذْنِهِ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ ﴾
[ الحج : ٦٥ ] واسمع قوله الحق :﴿ لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ ﴾ [ غافر : ٥٧ ]
فالإنسان يتغير ويموت ؛ أما السماوات والأرض فثابتة إلى ما شاء الله.
ويقول يوسف عليه السلام مواصلاً المناجاة لله :﴿ أَنتَ وَلِيِّي فِي الدُّنُيَا وَالآخِرَةِ... ﴾ [ يوسف : ١٠١ ]
وصحيح أن الحق سبحانه وليّ ليوسف في الدنيا، وقد نصره وقرَّبه وأعانه ؛ بدليل كل ما مَرَّ به من عقبات، ويرجو يوسف ويدعو ألاّ يقتصر عطاء الله له في الدنيا الفانية، وأن يثيبه أيضاً في الباقية، والآخرة.
ومادام سبحانه وليَّه في الدنيا والآخرة ؛ فيوسف يدعوه :﴿ ... تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ ﴾ [ يوسف : ١٠١ ] وقوله :﴿ تَوَفَّنِي مُسْلِماً... ﴾ [ يوسف : ١٠١ ] إنما بسبب أن يكون أهلاً لعطاء الله له في الآخرة ؛ فقد أخذ يوسف عطاء الدنيا واستمتع به، ومَتّع به، ومشى فيه بما يُرضِى الله.
وعند تمنِّي يوسف للوفاة وقف العلماء، وقالوا : ما تمناها أحد إلا يوسف. فالإنسان إن كان مُوفّقاً في الدنيا، تجده دائم الطموح، وتوَّاقاً إلى المزيد من الخير.
وتحمل لنا ذاكرة التاريخ عن أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز أنه قَبِل الإمارة، حينما كانوا يجيئون له بثوب ناعم ؛ كان يطلب الأكثر منه نعومة، وإذا جِيءَ له بطعام ليِّن ؛ كان يطلب الأكثر لُيونة.
وحين صار خليفة ؛ كانوا يأتونه بالثوب ؛ فيطلب الأكثر خشونة وظن مَنْ حوله أنه لم يَعُدْ منطقياً مع نفسه، ولم يفهموا أن له نفساً توَّاقة إلى الأفضل ؛ تستشرف الأعلى دائماً، فحينما تَاقَ إلى الإمارة جاءتْه ؛ وحين تاق إلى الخلافة جاءتْه، ولم يَبْقَ بعدها إلا الجنة.
ونجد ميمون بن مهران وكان ملازماً له ؛ رضي الله عنهما ؛ دخل عليه مرة فوجده يسأل ربَّه الموت. فقال : يا أمير المؤمنين، أتسأل ربك الموت وقد صنع الله على يديك خيراً كثيراً ؛ فأحيَيْتَ سُنناً وأَمَتَّ بِدعاً ؛ وبقاؤك خير للمسلمين ؟ فقال عمر بن عبد العزيز : ألا أكون كالعبد الصالح حينما أتمَّ الله عليه نعمته قال :﴿ ... تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ ﴾ [ يوسف : ١٠١ ]
وقوله :﴿ تَوَفَّنِي مُسْلِماً... ﴾ [ يوسف : ١٠١ ] مكونة من شِقَّين : الشق الأول : طلب الموت. والشق الثاني : أن يموت مسلماً. وكُلُّنا يُتوفَّى دون أن يطلب، وعلى ذلك يكون الشق الأول غير مطلوب في ذاته ؛ لأنه واقع لا محالة، ويصبح المطلوب إذن هو الشق الثاني، وهو أن يتوفاه الله مسلماً ؛ ولذلك حين نأتي إلى القبور نقول : السلام عليكم ديار قوم مؤمنين، أنتم السابقون، وإنَّا إنْ شاء الله بكم لاحقون.
وإنْ قال سائل : ولماذا نقول إن شاء الله بكم لاحقون، رغم أننا سنموت حَتْماً ؟ نقول : إن قولنا " إن شاء الله " سببه هو رغبتنا أن نلحق بهم كمؤمنين.
وأيضاً قد يسأل سائل : لماذا يقول نبي لربه :﴿ ... وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ ﴾ [ يوسف : ١٠١ ] وهل هناك صالح يأتي إلى هذا العالم دون أن يهتدي بمنهج نبي مرسل ؟
نقول : إن كلمة " الصالحين " تضم الأنبياء وغيرهم من الذين آمنوا برسالة السماء.
وهكذا انتهت قصة يوسف عليه السلام ؛ ولذلك يتجه الحق سبحانه من بعد تلك النهاية إلى المُرَاد من القصة التي جاءتْ مكتملة في سورة كاملة، غير بقية قَصَص القرآن التي تتناثر أيٌّ منها في لقطات متفرقة بمواقع مختلفة من القرآن الكريم. وذلك باستثناء قصة نوح التي جاءت مكتملة أيضاً، لدرجة أن بعض السطحيين قالوا " إن هذا تكرار للقصة في لقطات مختلفة " ودائماً أقول رداً على ذلك : إنه تأسيس للقطات ؛ إن اجتمعت جاءت القصة كاملة.
وشاء الحق سبحانه أن تأتي اللقطات متفرقة ؛ لأن كل لَقْطة إنما جاءت لمناسبة ما، وكل القَصَص القرآني قد جاء لتثبيت فؤاد رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ لأنه خلال عمره الرِّسالي الذي استمر ثلاثة وعشرين عاماً تعرَّض لأحداث جِسَام. وكل لحظة كانت تحتاج لتثبيت، فيُنزِل الحق سبحانه ما يُثبِّت به فؤاد رسوله صلى الله عليه وسلم فيوضح له في موقع ما : لا تحزن ؛ لأن مَنْ سبقك من الرسل حدث معهم كذا. بل قد تجد في الواقعة الواحدة لقطتيْن، مثلما جاء في العداوة بين موسى وفرعون. قال الحق سبحانه :﴿ فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً... ﴾ [ القصص : ٨ ] وهنا تكون العداوة من طرف موسى. ويقول في نفس المسألة أيضاً :﴿ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِّي وَعَدُوٌّ لَّهُ... ﴾ [ طه : ٣٩ ] وهنا تكون العداوة من جهتين ؛ لأن العداوة تتفاعل حين تكون من جهتين، فلا يمكن أن يستمر عداءٌ من طرف واحد، وتقوم من أجل هذا العداء معركة، لكن حين تكون العداوة من جهتين فهذا يُطيل أَمَد المعركة.
والمثل الثاني هو قول الحق سبحانه في نفس قصة موسى ؛ وهي لقطة متقدمة حدثتْ في الأيام الأولى من حياة موسى، وقبل أن تُلق
و " ذلك " إشارة إلى هذه القصة، والخطاب مُوجَّه إلى محمد صلى الله عليه وسلم أي : أنك يا محمد لم تَكُنْ معهم حين قالوا :﴿ لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا... ﴾ [ يوسف : ٨ ] فالحق سبحانه أخبرك بأنباء لم تكن حاضراً لأحداثها، والغيب كما عَلِمنا من قبل هو ما غاب عنك، ولم يَغِبْ عن غيرك، وهو غيب نسبيّ ؛ وهناك الغيب المُطْلق، وهو الذي يغيب عنك وعن أمثالك من البشر. والغيب كما نعلم له ثلاثة حواجز : الأول : هو حاجز الزمن الماضي الذي لم تشهده ؛ أو حاجز الزمن المستقبل الذي لم يَأْتِ بَعْد. والثاني : هو حاجز المكان. والثالث : هو حاجز الحاضر، بمعنى أن هناك أشياء تحدثُ في مكان أنت لا توجد فيه، فلا تعرف من أحداثه شيئاً. و ﴿ نُوحِيهِ إِلَيْكَ... ﴾ [ يوسف : ١٠٢ ] أي نُعلِمك به بطَرْفٍ خَفيّ، حين اجتمعوا ليتفقوا، إما أن يقتلوا يوسف، أو يُلْقوه في غيابة الجب. وكشف لك الحق سبحانه حجاب الماضي في أمر لم يُعلمه لرسول الله ؛ ولم يشهد صلى الله عليه وسلم ما دار بين الإخوة مباشرة، أو سماعاً من مُعلِّم، ولم يقرأ عنه ؛ لأنه صلى الله عليه وسلم أُمِيّ لم يتعلم القراءة أو الكتابة. وسبحانه يقول عن رسوله صلى الله عليه وسلم :﴿ وَمَا كُنتَ تَتْلُواْ مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلاَ تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لاَّرْتَابَ الْمُبْطِلُونَ ﴾ [ العنكبوت : ٤٨ ] وهم بشهادتهم يعلمون كل حركة لرسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يُبعث ؛ إقامة وتِرْحالاً والتقاءً بأيِّ أحد. فلو عَلموا أنه قرأ كتاباً لكانت لهم حُجَّة، وحتى الأمر الذي غابتْ عنهم فِطْنتهم فيه ؛ وقالوا :﴿ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ... ﴾ [ النحل : ١٠٣ ] فرد عليهم الحق سبحانه :﴿ ... لِّسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ ﴾ [ النحل : ١٠٣ ] وأبطل الحق سبحانه هذه الحجة، وقد قَصَّ الحق سبحانه على رسوله الكثير من أنباء الغيب، وسبق أن قلنا الكثير عن : " ما كُنَّات القرآن "، مثل قوله تعالى :﴿ ... وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُون أَقْلاَمَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ ﴾ [ آل عمران : ٤٤ ] وقوله الحق :﴿ وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَآ إِلَى مُوسَى الأَمْرَ وَمَا كنتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ ﴾ [ القصص : ٤٤ ] فكأن مصدر علم الرسول بكل ذلك هو من إخبار الله له. وقد استقبل أهل الكهف ما طلبوا أن يعرفوه من قصة يوسف باللدد والجحود وهم قد طلبوا مطلبهم هذا بتأسيس من اليهود وهو صلى الله عليه وسلم جاء لهم بقصة يوسف في مكان واحد، ودفعة واحدة، وفي سورة واحدة، لا في لقطات متعددة منثورة كأغلب قصص القرآن. وقد جاء لهم بها كاملة ؛ لأنهم لم يطلبوا جزئية منها ؛ وإنما سألوه عن القصة بتمامها، وتوقعوا أن يعزف عن ذلك، لكنه لم يعزف، بل جاء لهم بما طلبوه.
وكان يجب أن يلتفتوا إلى أن الله هو الذي أرسله، وهو الذي علَّمه ؛ وهو الذي أنبأه، لكنهم لم يؤمنوا، وعَزَّ ذلك على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأوضح له سبحانه : لا تبتئس ولا تيأس :﴿ لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ ﴾ [ الشعراء : ٣ ] ويقول له سبحانه :﴿ فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُواْ بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً ﴾ [ الكهف : ٦ ] فأنت يا رسول الله عليك البلاغ فقط، ويذكر الحق ذلك لِيُسلِّي رسوله صلى الله عليه وسلم حين رأى لدد الكافرين ؛ بعد أن جاء لهم بما طلبوه، ثم جحدوه :﴿ وَجَحَدُواْ بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَآ أَنفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً... ﴾ [ النمل : ١٤ ] وهم قد جحدوا ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ لأنهم حرصوا على السلطة الزمنية فقط، وكان من الواجب أن يؤمنوا بما جاءهم به، لكن العناد هو الذي وقف بينهم وبين حقيقة اليقين وحقيقة الإيمان. وأنت لا تستطيع أن تواجه المُعَاند بحجة أو بمنطق، فهم يريدون أن يظل الضعفاء عبيداً، وأن يكونوا مسيطرين على الخَلْق بجبروتهم، والدين سيُسوِّي بين الناس جميعاً، وهم يكرهون تلك المسألة.
فأنت يا محمد لن تجعل كل الناس مؤمنين ؛ ولو حرصت على ذلك، وكان صلى الله عليه وسلم شديد الحرص على أن يؤمن قومه، فهو منهم. ويقول فيه الحق سبحانه :﴿ لَقَدْ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ ﴾ [ التوبة : ١٢٨ ] لكنهم جحدوا ما جاءهم به ؛ وقد أحزنه ذلك الأمر. وفي الحرص نجد آية خاصة باليهود ؛ هؤلاء الذين دفعوا أهل مكة أن يسألوا الرسول صلى الله عليه وسلم عن قصة يوسف ؛ يقول الحق سبحانه :﴿ وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ... ﴾ [ البقرة : ٩٦ ] وكان على أهل مكة أن يؤمنوا مادام قد ثبت لهم بالبينات أنه رسول من الله. وجاء قول الحق :﴿ وَمَآ أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ ﴾ [ يوسف : ١٠٣ ] جاء ذلك القولُ تسليةً من الحق سبحانه لرسوله، وليؤكد له أن ذلك ليس حال أهل مكة فقط، ولكن هذه هي طبيعة معظم الناس. لماذا ؟ لأن أغلبهم لا يُحسن قياس ما يعطيه له منهج الله في الدنيا والآخرة، والإنسان حين يُقبل على منهج الله، يقيس الإقبال على هذا المنهج بما يُعطِيه له في الآخرة ؛ فلسوف يعلم أنه مهما أعطى لنفسه من مُتَع الدنيا فعُمْره فيها مَوْقُوت بالقَدْر الذي قدَّره له الله، والحياة يمكن أن تنتهي عند أية لحظة. والحق سبحانه حين خبأ عن الناس أعمارهم في الدنيا، لم يَكُنْ هذا الإخفاء إبهاماً كما يظن البعض، وهذا الإبهام هو في حقيقته عَيْن البيان، فإشاعة حدوث الموت في أي زمن يجعل الإنسان في حالة ترقُّب. ولذلك فميتات الفُجَاءة لها حكمة أن يعرف كل إنسان أن الموت لا سببِ له، بل هو سبب في حَدِّ ذاته ؛ سواء كان الموت في حادثة أو بسبب مرض أو فجأة، فالإنسان يتمتع في الدنيا على حسب عمره المحدد الموقوت عند الله، أما في الآخرة فإنه يتمتع على قدر إمدادات الخالق سبحانه. والإنسان المؤمن يقيس استمتاعه في الآخرة بقدرة الله على العطاء، وبإمكانات الحق لا إمكانات الخَلْق. وهَبْ أن إنساناً معزولاً عن أمر الآخرة، أي : أنه كافر بالآخرة وأخذها على أساس الدنيا فقط، نقول له : انظر إلى ما يُطلب منك نهياً ؛ وما يُطلب منك أمراً، ولا تجعله لذاتك فقط، بل اجعله للمقابل لك من الملايين غيرك. سوف تجد أن نواهي المنهج إن منعتْك عن شر تفعله بغيرك ؛ فقد منعتْ الغير أن يفعل بك الشر، في هذا مصلحة لك بالمقاييس المادية التي لا دَخْل للدين بها. ويجب أن نأخذ هذه المسألة في إطار قضية هي " دَرْء المفسدة مُقدّم على جَلْب المصلحة ". وهَبْ أن إنساناً مُحباً لك أمسك بتفاحة وأراد أن يقذفها لك، بينما يوجد آخر كاره لك، ويحاول أن يقذفك في نفس اللحظة بحجر، وأطلق الاثنان ما في أيديهما تجاهك، هنا يجب أن تردَّ الحجر قبل أن تلتقط التفاحة، وهكذا يكون دَرْء المفسدة مُقدّماً على جَلْب المصلحة.
وعلى الإنسان أن يقيس ذلك في كل أمر من الأمور ؛ لأن كثيراً من أدوات الحضارات أو ابتكارات المدنية أو المخترعات العلمية قد تعطينا بعضاً من النفع، ولكن يثبت أن لها من بعد ذلك الكثير من الضرر. مثال هذا : هو اختراع مادة " د. د. ت " التي قتلت بعض الحشرات، وقتلت معها الكثير من الطيور المفيدة. ولذلك يقول الحق سبحانه :﴿ وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ... ﴾ [ الإسراء : ٣٦ ] وعليك أن تدرس أيَّ مُخْتَرع قبل استعماله ؛ لترى نفعه وضرره قبل أن تستعمله. وقد رأينا مَنْ يُدخِلون الكهرباء إلى بيوتهم، يحاولون أن يرفعوا موقع " فِيَش " الكهرباء عن مستوى تناول الأطفال ؛ كي لا يضيع طفل أصابعه في تلك الفتحات فتصعقهم الكهرباء، ووجدنا بعضاً من المهندسين قد صَمَّموا أجهزة تفصل الكهرباء آلياً إنْ لمستْها يَدُ بشر. وهذا هو دَرْء المفسدة المُقدَّم على جَلْب المنفعة، وعلينا أن نحتاط لمثل هذه الأمور. وفي الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها نجد الحق سبحانه يقول :﴿ وَمَآ أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ ﴾ [ يوسف : ١٠٣ ] وهل قوله :﴿ أَكْثَرُ النَّاسِ... ﴾ [ يوسف : ١٠٣ ] نسبة للذين لا يؤمنون، يعني أن المؤمنين قلة ؟ نقول : لا ؛ لأن " أكثر " قد يقابله " أقل "، وقد يقابله " الكثير ". ويقول الحق سبحانه :﴿ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَآبُّ وَكَثِيرٌ مِّنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ... ﴾ [ الحج : ١٨ ] وهكذا نجد أن كلمة " كثير " قد يقابلها أيضاً كلمة " كثير ". وقد أوضح الحق سبحانه لرسوله صلى الله عليه وسلم أنه لو حرص ما استطاع أن يجعل أكثر الناس مؤمنين، والحِرْص هو تعلُّق النفس وتعبئة مجهود للاحتفاظ بشيء نرى أنه يجلب لنا نفعاً أو يذهب بضُرٍّ، وهو استمساك يتطلب جهداً. ولذلك يوضح له الحق سبحانه : أنت لن تهدي مَنْ تحرص على هدايته. ويقول سبحانه :﴿ إِن تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي مَن يُضِلُّ... ﴾ [ النحل : ٣٧ ] ومن هذه الآية نستفيد أن كل رسول عليه أن يوطن نفسه على أن الناس سيعقدون مقارناتٍ بين البدائل النفعية ؛ وسيقعون في أخطاء اختيار غير الملائم لفائدتهم على المدى الطويل ؛ فوطِّنْ نفسك يا محمد على ذلك. وإذا كنتَ يا رسول الله قد حملتَ الرسالة وتسألهم الإيمان لفائدتهم، فأنت تفعل ذلك دون أجر ؛ رغم أنهم لو فَطِنوا إلى الأمر لكان يجب أن يقدروا أجراً لمن يهديهم سواء السبيل، لأن الأجر يُعْطَى لمن يقدم لك منفعة.
والإنسان حريص على أن يدفع الأجر لمن يُعينه على منفعة ؛ والمنفعة إما أن تكون موقوتة بزمن دنيوي ينتهي، وإما أن تكون منفعة ممتدة إلى ما لا نهاية ؛ راحة في الدنيا وسعادة في الآخرة. ويأتي القرآن بقول الرسل :﴿ لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً... ﴾ [ الأنعام : ٩٠ ] ولم يَقُلْ ذلك اثنان هما : إبراهيم عليه السلام، وموسى عليه السلام. وكان العقل يقول : كان يجب على الناس لو أنها تُقدِّر التقدير السليم ؛ أن تدفع أجراً للرسول الذي يُفسِّر لهم أحوال الكون، ويُطمئنهم على مصيرهم بعد الموت، ويشرح لهم منهج الحق، ويكون لهم أُسْوة حسنة. ونحن نجد في عالمنا المعاصر أن الأسرة تدفع الكثير للمدرس الخصوصي الذي يُلقِّن الابن مبادئ القراءة والكتابة، فما بالنا بمَنْ يضيء البصر والبصيرة بالهداية ؟ ومقتضى الأمر أن الرسول صلى الله عليه وسلم يقدم نفعاً أبدياً لمن يتبعه، لكنه لم يطلب أجراً.
وفي هذا القول الكريم ما يوضح أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يسأل قومه أجراً على هدايته لهم ؛ لأن أجره على الله وحده. والحق سبحانه هو القائل :﴿ أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْراً فَهُم مِّن مَّغْرَمٍ مُّثْقَلُونَ ﴾ [ الطور : ٤٠ ] والحق سبحانه يقول على لسان رسوله في موقع آخر :﴿ قُلْ مَا سَأَلْتُكُم مِّن أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ... ﴾ [ سبأ : ٤٧ ] وهو هنا يُعلِي الأجر، فبدلاً من أن يأخذ الأجر من محدود القدرة على الدَّفْع، فهو يطلبها من الذي لا تُحَدّ قدرته في إعطاء الأجر ؛ فكأن العمل الذي يقوم به لا يمكن أن يُجَازى عليه إلا من الله ؛ لأن العمل الذي يؤديه بمنهج الله ومن الله، فلا يمكن إلا أن يكون الأجر عليه من أحد غير الله. ولذلك يقول سبحانه :﴿ ... إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ ﴾ [ يوسف : ١٠٤ ] والذكر يُطْلَق إطلاقات متعددة، ومادة " ذال " و " كاف " و " راء " مأخوذة من الذاكرة. وعرفنا من قبل أن الإنسان له آلات استقبال هي الحواس الإنسانية، وتنتقل المعلومات أو الخبرات منها إلى العمليات العقلية، وتمرُّ تلك المعلومات ببؤرة الشعور، لِتُحفظ لفترة في هذه البؤرة، ثم تنتقل إلى حاشية الشعور، إلى أن تستدعيها الأحداث، فتعود مرة أخرى إلى بُؤْرة الشعور. ولذلك أنت تقول حين تتذكر معلومة قديمة " لقد تذكرتها " ؛ كأن المعلومة كانت موجودة في مكان ما في نفسك ؛ لكنها لم تَكُنْ في بؤرة الشعور. وحين جاءت عملية الاستدعاء، فهي تنتقل من حاشية الشعور إلى بُؤْرة الشعور. والتذكُّر هو : استدعاء المعلومة من حاشية الشعور إلى بؤرة الشعور. والحق سبحانه يقول :﴿ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ... ﴾ [ إبراهيم : ٥ ] أي : ذكِّرهم بما مَرَّ عليهم من أحداث أجراها الله ؛ وهي غير موجودة الآن في بُؤْرة شعورهم. وسُمِّي القرآن ذكراً ؛ لأنه يُذكِّر كل مؤمن به بالله الذي تفضَّل علينا بالمنهج الذي تسير به حياتنا إلى خير الدنيا والآخرة. فالذكر إذن يكون للعاقل معونة له، وهو من ضمن رحمة الله بالخَلْق، فلم يترك الخلقَ منشغلين بالنعمة عن مَنْ أنعمها عليهم، فهذا الكون منظم بِدقَّة بديعة، وفي كل مُقوِّمات حياة البشر. ومن فضل الله عليهم أنه أرسل الرسل مُذكِّرين لهم بهذا العطاء الرباني. وكلمة " ذكر " تدل على أن الفطرة في الإنسان كان يجب أن تظل واعية ذاكرة لله، وقد قَدَّر الله غفلة الأحداث، فجعل لهم الذكر كله في القرآن الكريم.
وإذا سمعتَ " كأين " افهم أن معناها كثير كثير كثير ؛ بما يفوق الحَصْر، ومثل " كأين " كلمة " كم "، والعَدُّ هو مظنة الحصر، والشيء الذي فوق الحصر ؛ تنصرف عن عَدِّه، ولا أحد يحصر رمال الصحراء مثلاً، لكن كلاً منا يعُدُّ النقود التي يردُّها لنا البائع، بعد أن يأخذ ثمن ما اشتريناه. إذن : فالانصراف عن العَدِّ معناه أن الأمر الذي نريد أن نتوجه لِعَّده فوق الحصر، ولا أحد يعُدُّ النجوم أو يحصيها. ولذلك نجد الحق سبحانه يُنبِّهنا إلى هذه القضية، لإسباغ نعمه على خلقه، ويقول :﴿ وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا... ﴾ [ إبراهيم : ٣٤ ] و " إنْ " هي للأمر المشوك فيه، وأنتم لن تعدُّوا نعمة الله ؛ لأنها فوق الحصر، والمعدود دائماً يكون مُكَرراً، وذَكَر الحق هنا نعمة واحدة، ولم يحددها ؛ لأن أيَّ نعمة تستقبلها من الله لو استقصيتها لوجدتَ فيها نِعَماً لا تُحصَر ولا تُعَدُّ. إذن : فكلمة " كأين " تعني " كم "، وأنت تقول للولد الذي لم يستذكر دروسه : كم نصحتك ؟ وأنت لا تقولها إلا بعد أن يفيض بك الكيل. وتأتي " كم " ويُراد بها تضخيم العدد، لا منك أنت المتكلم، ولكن ممَّنْ تُوجِّه إليه الكلام، وكأنك تستأمنه على أنه لن ينطق إلا صِدْقاً، أو كأنك استحضرتَ النصائح، فوجدتها كثيرة جداً. والسؤال عن الكمية إما أنْ يُلْقَى من المتكلم، وإما أن يُطلب من المخاطب ؛ وطلبُه من المخاطب دليل على أنه سَيِقُرّ على نفسه، والإقرار سيد الأدلة. وحين يقول سبحانه :﴿ وَكَأَيِّن... ﴾ [ يوسف : ١٠٥ ] فمعناها أن ما يأتي بعدها كثير. وسبحان القائل :﴿ وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُواْ لِمَآ أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُواْ وَمَا اسْتَكَانُواْ وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ ﴾ [ آل عمران : ١٤٦ ] وهكذا نفهم أن ( كأين ) تعني الكثير جداً ؛ الذي بلغ من الكثرة مبلغاً يُبرر لنا العذر أمام الغير إنْ لم نُحْصِه. والآيات هي جمع " آية " ؛ وهي الشيء العجيب، المُلْفِت للنظر ويُقال : فلان آية في الذكاء. أي : أن ذكاءه مضرب المثل، كأمر عجيب يفوق ذكاء الآخرين. ويُقال : فلان آية في الشجاعة ؛ وهكذا. ومعنى الشيء العجيب أنه هو الخارج عن المألوف، ولا يُنسَى. وقد نثر الحق سبحانه في الكون آياتٍ عجيبة، ولكل منثور في الكون حكمة. وتنقسم معنى الآيات إلى ثلاث : الأول : هو الآيات الكونية التي تحدثنا عنها، وهي عجائب ؛ وهي حُجَّة للمتأمل أن يؤمن بالله الذي أوجدها ؛ وهي تلفِتُك إلى أن مَنْ خلقها لابُدَّ أن تكون له منتهى الحكمة ومنتهى الدِّقة، وهذه الآيات تلفتنا إلى صدق توحيد الله والعقيدة فيه. وقد نثر الحق سبحانه هذه الآيات في الكون.
وحينما أعلن الله بواسطة رسله أنه سبحانه الذي خلقها، ولم يَقُلْ أحد غيره : " أنا الذي خلقت " فهذه المسألة مسألة الخلق تثبُت له سبحانه، فهو الخالق وما سواه مخلوق، وهذه الآيات قد خُلِقت من أجل هدف وغاية. وفي سورة الروم نجد آيات تجمع أغلب آيات الكون ؛ فيقول الحق سبحانه :﴿ فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ * وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَعَشِيّاً وَحِينَ تُظْهِرُونَ * يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْي الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ * وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِّن تُرَابٍ ثُمَّ إِذَآ أَنتُمْ بَشَرٌ تَنتَشِرُونَ * وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِّتَسْكُنُواْ إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ * وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لآيَاتٍ لِّلْعَالَمِينَ * وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُم بِالَّيلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَآؤُكُمْ مِّن فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَسْمَعُونَ * وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَآءِ مَآءً فَيُحْيِي بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ * وَمِنْ آيَاتِهِ أَن تَقُومَ السَّمَآءُ وَالأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِّنَ الأَرْضِ إِذَآ أَنتُمْ تَخْرُجُونَ ﴾ [ الروم : ١٧-٢٥ ] كل هذه آيات تنبه الإنسان الموجود في الكون أنه يتمتع فيه طبقاً لنواميس عليا ؛ فيها سِرُّ بقاء حياته ؛ فيجب أن ينتبه إلى مَنْ أوجدها. وبعد أن ينتبه إلى وجود واحد أعلى ؛ كان عليه أن يسأل : ماذا يريد منه هذا الخالق الأعلى ؟ هذه الآيات تفرض علينا عقلياً أن يوجد مَنْ يبلغنا مطلوبَ الواجد الأعلى، وحينما يأتي رسول يقول لنا : إن مَنْ تبحثون عنه اسمه الله ؛ وهو قد بعثني لأبلغكم بمطلوبه منكم أن تعبدوه ؛ فتتبعوا أوامره وتتجنبوا نواهيه. والنوع الثاني من الآيات هي آيات إعجازية، والمراد منها تثبيت دعوة الرسل، فكان ولابُدَّ أن يأتي كل رسول ومعه آية ؛ لتثبت صِدْق بلاغه عن الله ؛ لأن كل رسول هو من البشر، ولابد له من آية تخرق النواميس، وهي المعجزات التي جاءت مع الرسل. وهناك آيات حُكْمية، وهي النوع الثالث، وهي الفواصل التي تحمل جُملاً، فيها أحكام القرآن الكريم ؛ وهو المنهج الخاتم. وهي آياتٌ عجيبة أيضاً ؛ لأنك لا تجد حُكْماً من أحكام الدين إلا ويمسُّ منطقياً حاجة من حاجات النفس الإنسانية، والبشر وإنْ كفروا سيُضطرون إلى كثير من القضايا التي كانوا ينكرونها، ولكن لا حَلَّ للمشكلات التي يواجهونها، ولا تُحَلّ إلا بها. والمثل الواضح هو الطلاق، وهم قد عَابُوا مجيء الإسلام به ؛ وقالوا : إن مثل هذا الحل للعلاقة بين الرجل والمرأة قد يحمل الكثير من القسوة على الأسرة، لكنهم لجأوا إليه بعد أن عضَّتهم أحداث الحياة، وهكذا اهتدى العقل البشري إلى حكم كان يناقضه.
وكذلك أمر الربا الذي يحاولون الآن وَضْع نظام ليتحللوا من الربا كله، ويقولون : لا شيء يمنع العقل البشري من التوصُّل إلى ما يفيد. وهكذا نجد الآيات الكونية هي عجائب بكل المقاييس، والآيات المصاحبة للرسل هي معجزات خَرَقتْ النواميس، وآياتُ القرآن بما فيها من أحكام تَقِي الإنسان من الداء قبل أن يقع، وتُجبرهم معضلات الحياة أن يعودوا إلى أحكام القرآن ليأخذوا بها. وهم يُعرضون عن كل الآيات، يُعرضون عن آيات الكون التي إنْ دَقَّقوا فيها لَثبتَ لهم وجود إله خالق ؛ ولأخذوا عطاءً من عطاءات الله ليسري تربية وتنمية، وكل الاكتشافات الحديثة إنما جاءت نتيجةً لملاحظاتِ ظاهرةٍ ما في الكون. وسبق أن ضربتُ المثل بالرجل الذي جلس ليطهو في قِدرْ ؛ ثم رأى غطاء القِدْر يعلو ؛ ففكَّر وتساءل : لماذا يعلو غطاء القدر ؟ ولم يُعرِض الرجل عن تأمُّل ذلك، واستنباط حقيقة تحوُّل الماء إلى بخار ؛ واستطاع عن طريق ذلك أن يكتشف أن الماء حين يتبخر يتمدد ؛ ويحتاج إلى حَيِّزٍ اكبر من الحَيِّز الذي كان فيه قبل التمدد. وكان هذا التأمُّل وراء اكتشاف طاقة البخار التي عملتْ بها البواخر والقطارات، وبدأ عصر سُمِّى " عصر البخار ". وهذا الذي رأى طَفْوَ طبقٍ على سطح الماء وتأمّل تلك الظاهرة، ووضع قاعدة باسمه، وهي " قاعدة أرشميدس ". وهكذا نجد أن أي إنسان يتأمل الكون بِدِقَّة سيجد في ظواهره ما يفيد في الدنيا ؛ كما استفاد العالم من تأملات أرشميدس وغيره ؛ ممَّنْ قدَّموا تأملاتهم كملاحظات، تتبعها العلماء ليصلوا إلى اختراعات تفيد البشرية. وهكذا نرى أن الحق سبحانه لا يضِنُّ على الكافر بما يفيد العالم مادام يتأمل ظواهر الكون، ويستنبط منها ما يفيد البشرية. إذن فقوله تعالى :﴿ وَكَأَيِّن مِّن آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا... ﴾ [ يوسف : ١٠٥ ] إنْ أردتها وسيلة للإيمان بإله ؛ فهي تقودك إلى الإيمان ؛ وإنْ أردتها لفائدة الدنيا فالحقُّ لم يبخل على كافر بأن يُعطَيه نتيجة ما يبذل من جهد. فكل المطلوب ألاّ تمُرَّ على آيات الله وأنت مُعرِض عنها ؛ بل على الإنسان أن يُقبِل إقبال الدارس، إما لتنتهي إلى قضية إيمانية تُثرِي حياتك ؛ وتعطيك حياة لا نهايةَ لها، وهي حياة الآخرة، أو تُسعِد حياتك وحياة غيرك، بأن تبتكر أشياء تفيدك، وتفيد البشرية.
وهكذا نرى المصافي التي يمر بها البشر ليصلوا إلى الإيمان. المصفى الأول : قوله تعالى :﴿ وَمَآ أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ ﴾ [ يوسف : ١٠٣ ] أي : أن الكثير من الناس لن يَصِلوا إلى الإيمان، حتى ولو حرص الرسول صلى الله عليه وسلم أن يكونوا مؤمنين. وقلنا : إن مقابل " كثير " قد يكون " قليل "، وقد يكون " كثير "، وبعض المؤمنين قد يشوب إيمانهم شبهةٌ من الشرك، صحيح أنهم مؤمنون بالإله الواحد، ولكن إيمانهم ليس يقينياً، بل إيمان متذبذب، ويُشرِكون به غيره. والمصفى الثاني : قوله تعالى :﴿ وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلاَّ وَهُمْ مُّشْرِكُونَ ﴾ [ يوسف : ١٠٦ ] ومثال هذا : كفار قريش الذين قال فيهم الحق سبحانه :﴿ وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ... ﴾ [ الزخرف : ٨٧ ] ويقول فيهم أيضاً :﴿ وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ... ﴾ [ لقمان : ٢٥ ] ورغم قولهم هذا إلا أنهم جعلوا شفعاء لهم عند الله، وقالوا : إن الملائكة بنات الله، وهكذا جعلوا لله شركاء. ومعهم كل مَنْ ادعى أن لله ابناً من أهل الكتاب. وأيضاً مع هؤلاء يوجد بعض من المسلمين الذي يخصُّون قوماً أقوياء بالخضوع لهم خضوعاً لا يمكن أن يُسمَّى في العرف مودة ؛ لأنه تَقرُّب ممتلئ بالذلة ؛ لأنهم يعتقدون أن لهم تأثيراً في النفع والضر ؛ وفي هذا لون من الشرك. ويأتي الواحد من هؤلاء ليقول لِمَنْ يتقرب منه : أرجو أن تقضي لي الأمر الفلاني. ويرد صاحب النفوذ : اعتمد على الله، وإن شاء الله سيقضي الله لك حاجتك. لكن صاحب الطلب يتمادى في الذِّلة، ليقول : وأنا اعتمد عليك أيضاً، لتقضي لي هذه الحاجة. أو يرد صاحب النفوذ ويقول : أنا سوف افعل لك الشيء الفلاني ؛ والباقي على الله. وحين أسمع ذلك فأنا أتساءل : وماذا عن الذي ليس باقياً، أليس على الله أيضاً ؟ وينثر الله حِكَماً في أشياء تمنَّاها أصحابها ؛ فَقُضِيتْ ؛ ثم تبين أن فيها شراً، وهناك أشياء تمناها أصحابها ؛ فلم تُقْضَ ؛ ثم تبين أن عدم قضائها كان فيه الخير كل الخير. نجد الأثر يقول :
وَاطلبُوا الأشياءَ بِعزَّةِ الأنفُسِ *** فَإِنَّ الأُمورَ تَجْرِي بِمقَادِير
وربما منعك هذا فكرهته، وكان المنع لك خيراً من قضائه لك، فإن المنع عَيْن العطاء، ولذلك فعلى الإنسان أن يعرف دائماً أن الله هو الفاعل، وهو المسبب، وأن السبب شيء آخر. ودائماً أذكِّر بأننا حين نحجُّ أو نعتمر نسعى بين الصفا والمروة لنتذكر ما فعلتْه سيدتنا هاجر التي سَعَتْ بين الصفا والمروة ؛ لتطلب الماء لوليدها بعد استنفدت أسبابها ؛ ثم وجدت الماء تحت رِجْل وليدها إسماعيل. فقد أخذتْ هي بالأسباب، فجاء لها رب الأسباب بما سألت عنه. ولم يأت لها الحق سبحانه بالماء في جهة الصفا أو المروة ؛ ليثبت لها القضية الأولى التي سألت عنها إبراهيم عليه السلام حين أنزلها في هذا المكان.
فقد قالت له : ءأنزلتنا هنا برأيك ؟ أم أن الله أمرك بهذا ؟ قال : نعم أمرني رَبِّي. قالت : إذن لا يضيعنا. وقد سَعَتْ هي بحثاً عن الماء أخذاً بالأسباب، وعثرتْ على الماء بقدرة المسبِّب الأعلى. وقول الحق سبحانه :﴿ وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلاَّ وَهُمْ مُّشْرِكُونَ ﴾ [ يوسف : ١٠٦ ] يتطلب منا أن نعرف كيف يتسرَّب الشرك إلى الإيمان، ولنا أن نتساءل : مادام يوجد الإيمان ؛ فمن أين تأتي لحظة الشرك ؟ ويشرح الحق سبحانه لنا ذلك حين يقول :﴿ فَإِذَا رَكِبُواْ فِي الْفُلْكِ دَعَوُاْ اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ * لِيَكْفُرُواْ بِمَآ آتَيْنَاهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُواْ فَسَوْفَ يَعلَمُونَ ﴾ [ العنكبوت : ٦٥-٦٦ ] هم إذن قد آمنوا وهم في الفُلْك، وأخذوا يدعُون الله حين واجهتهم أزمة في البحر ؛ لكنهم ما أن وصلوا إلى الشاطئ حتى ظهر بينهم الشرك. حين يسألهم السائل : ماذا حدث ؟ فيجيبون : أنهم كانوا قد أخذوا حذرهم، واستعدوا بقوارب النجاة. ونَسَوْا أن الله هو الذي أنقذهم فانطبق عليهم قول الحق سبحانه :﴿ وَجَعَلُواْ للَّهِ أَندَاداً لِّيُضِلُّواْ عَن سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعُواْ فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ ﴾ [ إبراهيم : ٣٠ ] وفي حياتنا اليومية قد تذهب لتقضي حاجة لإنسان ؛ وبعد أن يُسَهِّل لك الله قضاء تلك الحاجة ؛ تلتفت فلا تجده، ولا يفكر في أن يُوجِّه لك كلمة الشكر. وحين تلقاه يقول لك : كل ما طلبته منك وجدته مقضياً، لقد كلَّمْتُ فلاناً فقضاها. وهو يقول لك ذلك ليُبعد عنك ما أسبغه الله عليك من فضل قضائك لحاجته ؛ وذلك لأنه لحظة أن طلب منك مساعدته في قضاء تلك الحاجة تذلَّل وخضع، وبعد أن تنقضي يتصرف كفرعون ويتناسى. ولا ينزعه من فرعنته إلا رؤياك ؛ لأنه يعلم أنك صاحب جميل عليه، بل قد يريد بك الشر ؛ رغم أنك أنت مَنْ أحسنتَ إليه، لماذا ؟ لأن هذه هي طبيعة الإنسان. يقول تعالى :﴿ كَلاَّ إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى * أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى ﴾ [ العلق : ٦-٧ ] ولذلك يقول في المثل : " اتَّقِ شَرَّ من أحسنت إليه ". وأنت تتقي شره، بأن تحذر أن تمُنَّ عليه بالإحسان ؛ كي لا تنمي فيه غريزة الكره لك. والناصح يحتسب أيَّ مساعدة منه لغيره عند الله ؛ فيأخذ جزاءه من خالقه لحظة أداء فعل الخير، ولا ينتظر شيئاً ممَّنْ فعل الخير له ؛ لأنك لا تعلم ماذا فكَّر لحظة أن أدَّيْتَ له الخدمة، فحين يجد ترحيبَ الناس بك في الجهة التي تُؤدِّي له الخدمة فيها ؛ قد يتساءل : لماذا يحترمونك أكثر منه ؟ وهو يسأل هذا السؤال لنفسه على الرغم من أنك مُتواجِد معه في هذا المكان لتخدمه. ولذلك يقول العامة هذا المثل : " اعمل الخير وارْمه في البحر " ؛ لأن الله هو الذي يجازيك وليس البشر ؛ فاجعل كل عملك مُوجَّهاً لله، وانْسَ أنك فعلْتَ معروفاً لأحد.
والمعروف المنكُور هو أجْدى أنواع المعروف عليك ؛ لأن الذي يُجازِي عليه هو الله ؛ وهو سبحانه مَنْ سيناولك أجره وثوابه بيده ؛ ولذلك عليك أن تنسى مَنْ أحسنتَ إليه ؛ كي يُعوِّضك الله بالخير على ما فعلت. ويُقال في الأثر : إن موسى عليه السلام قال : يا ربِّ، إني أسألك ألاّ يُقال فيّ ما ليس فيّ. فأوضح له الله : يا موسى لم أصنعها لنفسي ؛ فكيف أصنعها لك. ويعرض الحق سبحانه هذه المسألة في القرآن بشكل آخر فيقول سبحانه :﴿ وَإِذَا مَسَّ الإِنسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِّنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِن قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَندَاداً لِّيُضِلَّ عَن سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ ﴾ [ الزمر : ٨ ] والإنسان لحظةَ أن يمسَّه الضُّر ؛ فهو يدعو الربوبية المتكفِّلة بمصالحه : يا ربّ أنت الذي خلقتني، وأنت المتكفِّل بتربيتي ؛ وأنا أتوكل عليك في مصالحي، فأنقذني ممَّا أنا فيه. ومثل هذا الإنسان كمثل الرُّبان الذي ينقذه الله بأعجوبة من العاصفة ؛ لكنه بعد النجاة يحاول أن ينسب نجاة السفينة من الغرق لنفسه. ولذلك أقول دائماً : احذروا أيها المؤمنون أن تنسَوْا المُنعِم المُسبِّب في كل شيء، وإياكم أن تُفْتنوا بالأسباب ؛ فتغفلوا عن المُسبِّب ؛ وهو سبحانه مُعْطي الأسباب. وأقول ذلك حتى لا تقعوا في ظلم أنفسكم بالشرك بالله ؛ فسبحانه القائل :﴿ الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُّهْتَدُونَ ﴾ [ الأنعام : ٨٢ ] والظلم كما نعلم هو أن تُعطِي الحق لغيره صاحبه ؛ فكيف يَجْرؤ أحد على أن يتجاهل فَضْل الله عليه ؟ فيقع في الشرك الخفي، والظلم الأكبر هو الشرك. وسبحانه القائل :﴿ ... إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ ﴾ [ لقمان : ١٣ ]
ألم يحسب هؤلاء حساب انتقام الله منهم بعذاب الدنيا الذي يَعُمُّ ؛ لأن الغاشية هي العقاب الذي يَعُمُّ ويُغطِّي الجميع ؛ أم أنهم استبطئوا الموت، واستبطئوا القيامة وعذابها ؛ رغم أن الموت مُعلَّق على رقاب الجميع، ولا أحد يعلم ميعاد موته. فالرسول صلى الله عليه وسلم يقول : " من مات قامت قيامته ". فما الذي يُبطئهم عن الإيمان بالله والإخلاص التوحيدي لله، بدون أنْ يمسَّهم شرك ؛ قبل أن تقوم قيامتهم بغتةً ؛ أي : بدون جرس تمهيدي. ونعلم أن مَنْ سبقونا إلى الموت لا يطول عليهم الإحساس بالزمن إلى أن تقومَ قيامة كُلِّ الخَلْق ؛ لأن الزمن لا يطول إلا على مُتتبع أحداثه. والنائم مثلاً لا يعرف كَمْ ساعةً قد نام ؛ لأن وَعْيَه مفقود فلا يعرف الزمن، والذي يوضح لنا أن الذين سبقونا لا يشعرون بمرور الزمن هو قوله الحق :﴿ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُواْ إِلاَّ عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا ﴾ [ النازعات : ٤٦ ]
أي : قل يا محمد هذا هو منهجي. والسبيل كما نعلم هو الطريق، وقوله الحق :﴿ هَذِهِ سَبِيلِي... ﴾ [ يوسف : ١٠٨ ] يدل على أن كلمة السبيل تأتي مرة مُؤنَّثة، كما في هذه الآية، وتأتي مرة مُذكَّرة ؛ كما في قوله الحق :﴿ وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ الرُّشْدِ لاَ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً... ﴾ [ الأعراف : ١٤٦ ] وأعْلِنْ يا محمد أن هذه الدعوة التي جِئْتَ بها هي للإيمان بالله الواحد ؛ وسبحانه لا ينتفع بالمنهج الذي نزل عليك لِيُطبِّقه العباد، بل فيه صلاح حياتهم، وسبحانه هو الله ؛ فهو الأول قبل كل شيء بلا بداية، والباقي بعد كل موجود بلا نهاية ؛ ومع خَلْق الخَلْق الذين آمنوا هو الله ؛ وإن كفروا جميعاً هو الله، والمسألة التكليفية بالمنهج عائدة إليكم أنتم، فمَنْ شاء فَلْيؤمن، ومَنْ شاء فَلْيكفر. ولنقرأ قول الحق :﴿ إِذَا السَّمَآءُ انشَقَّتْ * وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ ﴾ [ الانشقاق : ١-٢ ] فهي تنشقُّ فَوْرَ سماعها لأمر الله، وتأتي لحظة الحساب. وقوله الحق :﴿ قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ... ﴾ [ يوسف : ١٠٨ ] أي : أدعو بالطريق المُوصِّل إلى الله إيماناً به وتَقبُّلاً لمنهجه، وطلباً لما عنده من جزاء الآخرة ؛ وأنا على بصيرة مما أدعو إليه. والبصر كما نعلم للمُحسَّات، والبصيرة للمعنويات. والبصر الحسيُّ لا يُؤدِّي نفس عمل البصيرة ؛ لأن البصيرة هي يقينٌ مصحوب بنور يُقنِع النفس البشرية، وإنْ لم تَكُنْ الأمور الظاهرة مُلجئة إلى الإقناع. ومثال هذا : أم موسى حين أوحى الله لها أن تقذف ابنها في اليَمِّ، ولو قاسَتْ هي هذا الأمر بعقلها لما قَبِلَتْه، لكنها بالبصيرة قَبِلَتْه ؛ لأنه وارد من الله لا مُعانِدَ له من النفس البشرية. فالبصيرة إذن : هي يقين ونور مبني على برهان من القلب ؛ فيطيعه العبد طاعة بتفويض، ويُقال : إن الإيمان طاعة بصيرة. ويمكن أن نقرأ قوله الحق :﴿ قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ... ﴾ [ يوسف : ١٠٨ ] وهنا جملة كاملة ؛ ونقرأ بعدها :﴿ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي... ﴾ [ يوسف : ١٠٨ ] أو نقرأها كاملة :﴿ قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَآ أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ﴾ [ يوسف : ١٠٨ ] وقول الحق :﴿ وَسُبْحَانَ اللَّهِ... ﴾ [ يوسف : ١٠٨ ] أي : أنه سبحانه مُنزَّه تنزيهاً مطلقاً في الذات، فلا ذاتَ تُشبِهه ؛ فذاته ليست محصورة في القالب المادي مثلك، والمنفوخة فيه الروح، وسبحانه مُنزَّه تنزيهاً مُطْلقاً في الأفعال، فلا فعلَ يشبه فِعله ؛ وكذلك صفاته ليست كصفات البشر، فحين تعلم أن الله يسمع ويرى، فخُذْ ذلك في نطاق :﴿ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ... ﴾ [ الشورى : ١١ ] وكذلك وجوده سبحانه ليس كوجودك ؛ لأن وجوده وجود واجد أزليّ، وأنت حَدَثٌ طارئ على الكون الذي خلقه سبحانه. ولذلك قاس بعض الناس رحلة الإسراء والمعراج على قدرة رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ ولم ينتبهوا إلى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " لقد أُسري بي ". ونزل قول الحق سبحانه :﴿ سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَآ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ ﴾ [ الإسراء : ١ ] وهكذا تعلم أن الفعل لم يكن بقوة محمد صلى الله عليه وسلم ؛ ولكن بقوة من خلق الكون كله، القادر على كل شيء، والذي لا يمكن لمؤمن حق أن يشرك به، أمام هذا البرهان.
وينتقل الحق سبحانه هنا إلى الرسل الذين سبقوا محمداً صلى الله عليه وسلم ؛ فالحق سبحانه يقول :﴿ وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَن يُؤْمِنُواْ إِذْ جَآءَهُمُ الْهُدَى إِلاَّ أَن قَالُواْ أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَراً رَّسُولاً ﴾ [ الإسراء : ٩٤ ] أي : أنهم كانوا يطلبون رسولاً من غير البشر، وتلك مسألة لم تحدث من قبل، ولو كانت قد حدثتْ من قَبْل ؛ لقالوا : " ولماذا فعلها الله مع غيرنا ؟ ". ولذلك أراد سبحانه أن يَرُدُّ لهم عقولهم ؛ فقال تعالى :﴿ قُل لَوْ كَانَ فِي الأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِم مِّنَ السَّمَآءِ مَلَكاً رَّسُولاً ﴾ [ الإسراء : ٩٥ ] والملائكة بطبيعتها لا تستطيع أن تحيا على الأرض، كما أنها لا تصلح لأنْ تكون قُدْوة أو أُسْوة سلوكية للبشر. فالحق سبحانه يقول عن الملائكة :﴿ ... لاَّ يَعْصُونَ اللَّهَ مَآ أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ ﴾ [ التحريم : ٦ ] والملاك لا يصلح أن يكون أُسْوة للإنسان ؛ لأن المَلَك مخلوق غيبيّ غير مُحَسٍّ من البشر ؛ ولو أراده الله رسولاً لَجسَّده بشراً ؛ ولو جعله بشراً لبقيتْ الشبهةُ قائمةً كما هي. أو : أن الآية جاءت لِتسُدَّ على الناس ذرائع انفتحت بعد ذلك على الناس في حروب الرِّدة حين ادَّعَتْ سجاح أنها نبية مُرْسَلة. لذلك جاء الحق سبحانه من البداية بالقول :﴿ وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِي إِلَيْهِمْ مِّنْ أَهْلِ الْقُرَى... ﴾ [ يوسف : ١٠٩ ] ليوضح لنا أن المرأة لا تكون رسولاً منه سبحانه ؛ لأن مهمة الرسول أن يلتحم بالعالم التحامَ بلاغٍ، والمرأة مطلوب منها أن تكون سكناً. كما أن الرسول يُفترض فيه ألاّّ يسقط عنه تكليف تعبديّ في أي وقت من الأوقات ؛ والمرأة يسقط عنها التكليف التعبدي أثناء الطمث، ومهمة الرسول تقتضي أن يكون مُسْتوفي الأداء التكليفي في أيِّ وقتٍ. ثم كيف يطلبون ذلك ولَمْ تَأْتِ في مهام الرسل من قبل ذلك إلا رجالاً، ولم يسأل الحق أيّاً منهم، ولم يستأذن من أيِّ واحد من الرسل السابقين ليتولى مهمته ؛ بل تلقَّى التكليف من الله دون اختيار منه، ويتلقى ما يؤمر أن يبلغه للناس، ويكون الأمر بواسطة الوحي. والوحي كما نعلم إعلام بخفاء، ولا ينصرف على إطلاقه إلا للبلاغ عن الله. ولم يوجد رسول مُفوَّض ليبلغ ما يحب أو يُشرِّع ؛ لكن كل رسول مُكلَّف بأن ينقل ما يُبَلغ به، إلا محمد صلى الله عليه وسلم، فقد فوَّضه الحق سبحانه في أن يُشرِّع، ونزل في القرآن :﴿ مَآ آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُواْ... ﴾ [ الحشر : ٧ ] ويقول الحق سبحانه عن هؤلاء الرسل السابقين أنهم :﴿ مِّنْ أَهْلِ الْقُرَى... ﴾ [ يوسف : ١٠٩ ] والقرية كانت تأخذ نفس مكانة المدينة في عالمنا المعاصر. وأنت حين تزور أهل المدينة تجد عندهم الخير عكس أهل البادية، فالبدويّ من هؤلاء قد لا يجد ما يُقدِّمه لك، فقد يكون ضرع الماشية قد جَفَّ ؛ أو لا يجد ما يذبحه لك من الأغنام.
﴿ وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِي إِلَيْهِمْ مِّنْ أَهْلِ الْقُرَى أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَدَارُ الآخِرَةِ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ اتَّقَواْ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ ﴾
والفارق بين أهل القرية وأهل البادية أن أهل القرية لهم توطُّن ؛ ويملكون قدرة التعايش مع الغير، وترتبط مصالحهم ببعضهم البعض، وترِقُّ حاشية كل منهم للآخر، وتتسع مداركهم بمعارف متعددة، وليس فيهم غِلْظة أهل البادية. فالبدويُّ من هؤلاء لا يملك إلا الرَّحْل على ظهر جَمله ؛ ويطلب مساقط المياه، وأماكن الكلأ لما يرعاه من أغنام. وهكذا تكون في أهل القرى رِقَّة وعِلْم وأدبُ تناولٍ وتعاملٍ ؛ ولذلك لم يَأْتِ رسول من البدو كي لا تكون معلوماته قاصرة، ويكون جافاً، به غِلْظة قوْلٍ وسلوك. والرسول يُفترض فيه أن يستقبل كل مَنْ يلتقي به بالرِّفق واللِّين وحُسْن المعاشرة ؛ لذلك يكون من أهل القرى غالباً ؛ لأنهم ليسوا قُسَاة ؛ وليسوا على جهل بأمور التعايش الاجتماعي. ويتابع الحق سبحانه :﴿ أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ... ﴾ [ يوسف : ١٠٩ ] أي : أنهم إنْ كانوا غير مؤمنين بآخرة يعودون إليها ؛ ولا يعلمون متى يعودون ؛ فليأخذوا الدنيا مِقْياساً ؛ وَلْينظروا في رُقْعة الأرض ؛ وينظروا ماذا حدث للمُكذِّبين بالرسل، إنهم سيجدون أن الهلاك والعذاب قد حاقا بكل مُكذِّب. ولو أنهم ساروا في الأرض ونظروا نظرة اعتبار، لرأوا قُرَى مَنْ نحتوا بيوتهم في الجبال وقد عصف بها الحق سبحانه، ولَرأوْا أن الحق قد صَبَّ سَوْط العذاب على قوم عاد وآل فرعون، فإن لم تَخَفْ من الآخرة ؛ فعليك بالخوف من عذاب الدنيا. وقول الحق سبحانه :﴿ أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ... ﴾ [ يوسف : ١٠٩ ] وهذا القول هو من لَفتاتِ الكونيات في القرآن، فقديماً كنا لا نعرف أن هناك غلافاً جوياً يحيط بالأرض، ولم نَكُنْ نعرف أن هذا الغلاف الجوي به الأكسوجين الذي نحتاجه للتنفس. ولم نَكُنْ نعرف أن هذا الغلاف الجوي من ضمن تمام الأرض، وأنك حين تسير على اليابسة، فالغلاف الجوي يكون فوقك ؛ وبذلك فأنت تسير في الأرض ؛ لأن ما فوقك من غلاف جوي هو من مُلْحقات الأرض. والسَيْر في الأرض هو للسياحة فيها، والسياحة في الأرض نوعان : سياحة اعتبار، وسياحة استثمار. ويُعبِّر الحق سبحانه عن سياحة الاعتبار بقوله :﴿ أَوَلَمْ يَسيرُواْ فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ... ﴾ [ الروم : ٩ ] ويعبر سبحانه عن سياحة الاستثمار بقوله :﴿ قُلْ سِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَانظُرُواْ كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنشِىءُ النَّشْأَةَ الآخِرَةَ... ﴾ [ العنكبوت : ٢٠ ] إذن : فالسياحة الاعتبار هي التي تَلْفتك لقدرة الله سبحانه، وسياحة الاستثمار هي من عمارة الأرض، يقول الحق سبحانه :﴿ وَمَن يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَماً كَثِيراً وَسَعَةً... ﴾ [ النساء : ١٠٠ ] وأنت مُكَّلف بهذه المهمة، بل إن ضاق عليك مكان في الأرض فابحث عن مكان آخر، بحسب قول الحق سبحانه :﴿ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا... ﴾
[ النساء : ٩٧ ] ولك أن تستثمر كما تريد، شرطَ ألاَّ يُلهِيك الاستثمار عن الاعتبار. ويتابع الحق سبحانه :﴿ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ... ﴾ [ يوسف : ١٠٩ ] ويا لَيْتَ الأمر قد اقتصر على النكال الذي حدث لهم في الدنيا ؛ بل هناك نَكَالٌ أشدُّ وَطْأة في انتظارهم في الآخرة. يقول الحق سبحانه :﴿ ... وَلَدَارُ الآخِرَةِ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ اتَّقَواْ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ ﴾ [ يوسف : ١٠٩ ] وحديث الحق سبحانه عن مصير الذين كَذَّبوا ؛ يَظهر لنا كمقابل لما ينتظر المؤمنين، ولم تذكر الآية مصير هؤلاء المُكذِّبين بالتعبير المباشر، ويُسمُّون ذلك في اللغة بالاحتباك. مثل ذلك قوله الحق :﴿ أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا نَأْتِي الأَرْضَ نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا... ﴾ [ الرعد : ٤١ ] وكل يوم تنقص أرض الكفر، وتزيد رقعة الإيمان. وهكذا يأتي العقاب من جانب الله، ونأخذ المقابل له في الدنيا ؛ ومرة يأتي بالثواب المقيم للمؤمنين، ونأخذ المقابل في الآخرة. ولقائل أن يقول : ولماذا لم يَقُلِ الحق سبحانه أنه سوف يأتي لهم بما هو أشد شراً من عذاب الدنيا في اليوم الآخر ؟ وأقول : إن السياق العقلي السطحي الذي ليس من الله ؛ هو الذي يمكن أن يُذكِّرهم بأن عذاب الآخرة هو أشدُّ شراً من عذاب الدنيا. ولكن الحق سبحانه لا يقول ذلك ؛ بل عَدل عن هذا إلى المقابل في المؤمنين ؛ فقال :﴿ ... وَلَدَارُ الآخِرَةِ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ اتَّقَواْ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ ﴾ [ يوسف : ١٠٩ ] فإذا جاء في الدنيا بالعذاب للكافرين ؛ ثم جاء في الآخرة بالثواب لِلمُتقين ؛ أخذ من هذا المقابل أن غير المؤمنين سيكون لهم حسابٌ عسير، وقد حذف من هنا ما يدل عليه هناك ؛ كي نعرف كيف يُحْبَك النظم القرآني.
وكلمة :﴿ حَتَّى ﴾ [ يوسف : ١١٠ ] تدل على أن هناك غاية، ومادامتْ هناك غاية فلابُدَّ أن بداية ما قد سبقتْها، ونقول : " أكلتُ السمكة حتى رأسها ". أي : أن البداية كانت أَكْل السمكة، والنهاية هي رأسها. والبداية التي تسبق :﴿ اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ... ﴾ [ يوسف : ١١٠ ] هي قوله الحق :﴿ وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِي إِلَيْهِمْ... ﴾ [ يوسف : ١٠٩ ] ومادام الحقُّ سبحانه قد أرسلهم ؛ فهم قد ضَمِنوا النصر، ولكن النصر أبطأ ؛ فاستيأس الرسل، وكان هذا الإبطاء مقصوداً من الحق سبحانه ؛ لأنه يريد أن يُحمِّل المؤمنين مهمة هداية حركة الحياة في الأرض إلى أن تقوم الساعة، فيجب ألا يضطلع بها إلا المُخْتَبر اختباراً دقيقاً. ولابُدَّ أن يمر الرسول الأُسْوة لمَنْ معه ومن يتبعه من بعد بمحن كثيرة، ومَنْ صبر على المِحَن وخرج منها ناجحاً ؛ فهو أَهْلٌ لأن يحمل المهمة. وهو الحق سبحانه القائل :﴿ أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَآءُ وَالضَّرَّآءُ وَزُلْزِلُواْ حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ... ﴾ [ البقرة : ٢١٤ ] إذن : لابُدَّ من اختبار يُمحِّص. ونحن في حركة حياتنا نُؤهِّل التلميذ دراسياً ؛ ليتقدم إلى شهادة إتمام الدراسة الابتدائية، ثم نُؤهِّله لِنَيْل شهادة إتمام الدراسة الإعدادية ؛ ثم نؤهله لنيل شهادة إتمام الدراسة الثانوية، ثم يلتحق بالجامعة، ويتم اختباره سنوياً إلى أن يتخرج من الجامعة. وإنْ أراد استكمال دراسته لنيل الماجستير والدكتوراه، فهو يبذل المزيد من الجَهْد. وكل تلك الرحلة من أجل أن يذهب لتوليّ مسئولية العمل الذي يُسند إليه وهو جدير بها، فما بَالُنا بعملية بَعْث رسول إلى قوم ما ؟ لابُدَّ إذن من تمحيصه هو ومَنْ يتبعونه، وكي لا يبقى على العهد إلا المُوقِن تمام اليقين بأن ما يفوته من خير الدنيا ؛ سيجد خيراً افضل منه عند الله في الآخرة. ولقائل أن يقول : وهل من المعقول أن يستيئس الرسل ؟ نقول : فَلنفهم أولاً معنى " استيأس " ؛ وهناك فرق بين " يأس " و " استيأس "، ف " يأس " تعني قطع الأمل من شيء. و " استيأس " تعني : أنه يُلِحّ على قَطع الأمل. أي : أن الأمل لم ينقطع بعد. ومَنْ قطع الأمل هو مَنْ ليس له منفذ إلى الرجاء، ولا ينقطع أمل إنسان إلا إنْ كان مؤمناً بأسبابه المعزولة عن مُسبِّبه الأعلى. لكن إذا كان الله قد أعطى له الأسباب، ثم انتهت الأسباب، ولم تَصِلْ به إلى نتيجة، فالمؤمن بالله هو مَنْ يقول : أنا لا تُهمّني الأسباب ؛ لأن معي المُسبِّب. ولذلك يقول الحق سبحانه :﴿ ... وَلاَ تَيْأَسُواْ مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ ﴾
[ يوسف : ٨٧ ] ولذلك نجد أن أعلى نسبة انتحار إنما تُوجَد بين الملاحدة الكافرين ؛ لأنهم لا يملكون رصيداً إيمانياً، يجعلهم يؤمنون أن لهم رباً فوق كل الأسباب ؛ وقادر على أن يَخْرِق النواميس. أما المؤمن فهو يأوي إلى رُكْن شديد، هو قدرة الحق سبحانه مُسبِّب كل الأسباب، والقادر على أن يَخْرِق الأسباب. ولماذا يستيئس الرسل ؟ لأن حرصهم على تعجُّل النصر دفع البعض منهم أن يسأل مثلما سأل المؤمنون :﴿ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ... ﴾ [ البقرة : ٢١٤ ] فضلاً عن ظَنِّهم أنهم كُذّبوا، والحق سبحانه يقول هنا :﴿ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ... ﴾ [ يوسف : ١١٠ ] ومادة " الكاف "، و " الذال " و " الباء " منها " كَذَبَ "، و " كُذِبَ عليه " و " كُذِّب ". والكذب هو القول المخالف للواقع، والعاقل هو من يُورِد كلامه على ذِهْنه قبل أن ينطق به. أما فاقد الرشد الذي لا يمتلك القدرة على التدبُّر ؛ فينطق الكلام على عَواهِنه ؛ ولا يمرر الكلام على ذهنه ؛ ولذلك يقال عنه " مخرف ". وقد سبق لنا أن شرحنا الصدق، وقلنا : إنه تطابق النسبة الكلامية مع الواقع، والكذب هو ألاَّ تتطابق النسبة الكلامية مع الواقع. ومَنْ يقول كلاماً يعلم أنه لا يطابق الواقع ؛ يقال عنه : إنه مُتعمِّد الكذب، ومَنْ يقول كلاماً بغالبية الظن أنه لا يطابق الواقع، ونقله عن غيره ؛ فهو يكذب دون أن يُحسب كَذبه افتراءً، والإنسان الذي يتوخَّى الدِّقة ينقل الكلام منسوباً إلى مَنْ قاله له ؛ فيقول " أخبرني فلان " فلا يُعَدُّ كاذباً. ولذلك أقول دائماً : يجب أن يُفرِّق العلماء بين كذب المُفْتين، وكذب الخبر ؛ وكذب المُخْبر. فالخبر الكاذب مسئول عنه مَنْ تعمَّد الكذب، أما الناقل للخبر مادام قد نسبه إلى مَنْ قاله، فموقفه مختلف. وفي الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها نجد لها قراءتين ؛ قراءة هي : " وظنوا أنهم قد كُذبوا " أي : حدَّثهم غيرهم كَذِباً ؛ وقراءة ثانية هي : " وظنوا أنهم قد كُذِّبوا " وهي تعني : أنهم قد ظنُّوا أن ما قيل لهم من كلام عن النصر هو كذب. ولقائل أن يسأل : كيف يظن الرسل ذلك ؟ وأقول : إن الرسول حين يطلب من قومه الإيمان ؛ يعلم أن ما يُؤكِّد صدق رسالته هو مجيء النصر ؛ وتمرُّ عليه بعض من الخواطر خوفاً أن يقول المقاتلون الذين معه : " لقد كذب علينا " ؛ لأن الظن إخبار بالراجح. ولا يخطر على بال الرسل أن الله سبحانه وتعالى معاذ الله قد كَذَبهم وعده، ولكنهم ظَنُّوا أن النصر سيأتيهم بسرعة ؛ وأخذوا بطء مجيء النصر دليلاً على أن النصر لن يأتي. أو : أنهم خافوا أن يُكذِّبهم الغير. ولذلك نجد الحق سبحانه يُعْلِم رسله أن النصر سيأتي في الموعد الذي يحدده سبحانه، ولا يعرفه أحد، فسبحانه لا يَعْجَلُ بعجلة العبادة حتى تبلغ الأمور ما أراد. ويقول سبحانه :﴿ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ جَآءَهُمْ نَصْرُنَا... ﴾ [ يوسف : ١١٠ ] وهكذا يأتي النصر بعد الزلزلة الشديدة ؛ فيكون وَقْعه كوقع الماء على ذي الغُلَّة الصَّادي، ولنا أن نتخيل شَوْق العطشان لكوب الماء. وأيضاً فإن إبطاء النصر يعطي غروراً للكافرين يجعلهم يتمادون في الغرور، وحين يأتي النصر تتضاعف فرحة المؤمنين بالرسول، وأيضاً يتضاعف غَمُّ الكافرين به. ومجيء النصر للمؤمنين يقتضي وقوع هزيمة للكافرين ؛ لأن تلك هي مشيئة الله الذي يقع بَأْسه وعذابه على الكافرين به.
ونلحظ أن هذه الآية جاءت في سورة يوسف ؛ أي : إنْ أردتَ قصة يوسف وإخوته ؛ ففي السورة كل القصة بمَراميها وأهدافها وعِظَتها، أو المهم في كل قصص الأنبياء. يقول الحق سبحانه :﴿ وَكُلاًّ نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ... ﴾ [ هود : ١٢٠ ] ونعلم أن معنى القَصَص مأخوذ من قَصِّ الأثر ؛ وتتبُّعه بلا زيادة أو نقصان. ويقول الحق سبحانه هنا :﴿ لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُوْلِي الأَلْبَابِ... ﴾ [ يوسف : ١١١ ] وفي أول السورة قال الحق :﴿ ... إِن كُنتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ ﴾ [ يوسف : ٤٣ ] ونعرف أن مادة " العين " و " الباء " و " الراء " تفيد التعدية من جَليّ إلى خَفيّ. والعِبْرة في هذه القصة قصة يوسف وكذلك قصص القرآن كلها ؛ نأخذ منها عِبْرة من الجَليِّ فيها إلى الخَفيِّ الذي نواجهه ؛ فلا نفعل الأمور السيئة ؛ ونُقدِم على الأمور الطيبة. وحين نقبل على العمل الطيّب الذي جاء في أيّ قصة قرآنية ؛ وحين نبتعد عن العمل السيئ الذي جاء خَبرُه في القصة القرآنية ؛ بذلك نكون قد أحسنَّا الفهم عن تلك القصص. وعلى سبيل المثال : نحن نجد الظالم في القصَص القرآني ؛ وفي قصة يوسف تحديداً ؛ وهو ينتكس، فيأخذ الواحد مِنَّا العبرة، ويبني حياته على ألاّ يظلم أحداً. وحين يرى الإنسان منا المظلومَ وهو ينتصر ؛ فهو لا يحزن إنْ تعرَّض لظلم ؛ لأنه أخذ العبرة لما ينتصر ؛ فهو لا يحزن إن تعرض لظلم ؛ لأنه أخذ العبرة لما ينتظره من نصر بإذن الله. ونحن نقول : " عبر النهر " أي : انتقل من شاطئ إلى شاطئ. وكذلك قولنا " تعبر الرُّؤْيا " أي : تؤوّلها ؛ لأن الرُّؤْيا تأتي رمزية ؛ وتعبرها أي : تشرحها وتنقلها من خفيّ إلى جليّ ؛ وإيضاح المطلوب منها. ونَصِفُ الدَّمْعة بأنها " عَبْرة " ؛ والحزن المدفون في النفس البشرية تدل عليه الدَّمْعة. وهنا قال الحق سبحانه :﴿ لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُوْلِي الأَلْبَابِ... ﴾ [ يوسف : ١١١ ] والعِبْرة قد تمرُّ، ولكن لا يلتفت إليها إلا العاقل الذي يُمحِّص الأشياء، أما الذي يمرُّ عليها مُرور الكرام ؛ فهو لا يستفيد منها. و " أولو الألباب " هم أصحاب العقول الراجحة، و " الألباب " جمع " لُبّ ". واللب : هو جوهر الشيء المطلوب ؛ والقَِشْر موجود لصيانة اللُّبِّ، وسُمِّي العقل " لُبّاً " لأنه ينثرُ القشور بعيداً، ويعطينا جوهر الأشياء وخيرها. ويتابع الحق سبحانه :﴿ مَا كَانَ حَدِيثاً يُفْتَرَى وَلَكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ... ﴾ [ يوسف : ١١١ ] أي : أن ما جاء على لسانك يا محمد وأنزله الحق وَحْياً عليك ليس حديث كَذبٍ مُتعمَّد ؛ بل هو الحق الذي يطابق الكتب التي سبقتْه. ويُقال : " بين يديك " أي : سبقك ؛ فإذا كنت تسير في طابور ؛ فَمَنْ أمامك يُقال له " بين يديك "، ومَنْ وراءك يُقال له " مَنْ خلفك ".
والقرآن قد جاء ليصدق الكتب التي سبقتْه ؛ وليست هي التي تُصدِّق عليه ؛ لأنه الكتاب المهيمن، والحق سبحانه هو القائل :﴿ وَأَنزَلْنَآ إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ... ﴾ [ المائدة : ٤٨ ] ويضيف الحق سبحانه في نفس الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها :﴿ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ... ﴾ [ يوسف : ١١١ ] فالقرآن يُصدِّق الكتب السابقة، ويُفصِّل كل شيء ؛ أي : يعطي كل جزئية من الأمر حُكْمها في جزئية مناسبة لها. فهو ليس كلاماً مُجْملاً، بل يجري تفصيل كل حُكْم بما يناسب أيَّ أمر من أمور البشر. وفي أعرافنا اليومية نقول : " فلان قام بشراء بذلة تفصيل ". أي : أن مقاساتها مناسبة له تماماً ؛ ومُحْكمة عليه حين يرتديها. وفي الأمور العقدية نجد والعياذ بالله مَنْ يقول : إنه لا يوجد إله على الإطلاق، ويقابله مَنْ يقول : إن الآلهة مُتعددة ؛ لأن كل الكائنات الموجودة في الكون من الصعب أن يخلقها إله واحد ؛ فهناك إله للسماء، وإله للأرض ؛ وإله للنبات ؛ وإله للحيوان. ونقول لهم : كيف يوجد إله يقدر على شيء، ويعجز عن شيء آخر ؟ وإنْ قال هؤلاء : " إن تلك الآلهة تتكاتف مع بعضها ". نرد عليهم : ليست تلك هي الألوهية أبداً، ولذلك نجد الحق سبحانه وتعالى يقول :﴿ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَّجُلاً فِيهِ شُرَكَآءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَماً لِّرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً الْحَمْدُ للَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ ﴾ [ الزمر : ٢٩ ] وحين يكون الشركاء مختلفين ؛ فحال هذا العبد المملوك لهم يعيش في ضَنْك وعذاب ؛ أما الرجل المملوك لرجل واحد فحاله يختلف ؛ لأنه يأتمر بأمر واحد ؛ لذلك يحيا مرتاحاً. ونجد الحق سبحانه يقول عن الآلهة المتعددة :﴿ مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِن وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذاً لَّذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلاَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ ﴾ [ المؤمنون : ٩١ ] أما مَنْ يقول بأنه لا يوجد إله في الكون، فنقول له : وهل يُعقل أن كل هذا الكون الدقيق المُحْكم بلا صانع. ولذلك شاء الحق سبحانه أن يُفَصّلَ هذا الأمر ليؤكد أنه لا يوجد سوى إله واحد في الكون، ونجد القرآن يُفصِّل لنا الأحكام ؛ ويُنزِل لكل مسألة حُكْماً مناسباً لها ؛ فلا ينتقل حُكْم من مجال إلى آخر. وكذلك تفصيل الآيات، فهناك المُحْكم والمُتَشابه ؛ والمَثَل هو قول الحق سبحانه. ﴿ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ... ﴾ [ آل عمران : ١١٤ ] ويقول في موقع آخر :﴿ وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ... ﴾ [ آل عمران : ١٣٣ ] جاء مرة بقول " إلى "، ومرة بقول " في " ؛ لأن كلاً منها مناسبة ومُفصَّلة حَسْب موقعها. فالمُسَارعة إلى المغفرة تعني أن مَنْ يسارع إليها موجود خارجها، وهي الغاية التي سيصل إليها، أما مَنْ يسارع في الخيرات ؛ فهو يحيا في الخير الآن، ونطلب منه أن يزيد في الخير.
وأيضاً نجد قوله الحق :﴿ ... وَاصْبِرْ عَلَى مَآ أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ ﴾ [ لقمان : ١٧ ] ونجد قوله الحق :﴿ وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأُمُورِ ﴾ [ الشورى : ٤٣ ] وواحدة منهما وردتْ في المصائب التي لها غَرِيم، والأخرى قد وردتْ في المصائب التي لا غريم فيها ؛ مثل المرض حيث لا غَرِيم ولا خُصومة. أما إذا ضربني أحد ؛ أو اعتدى على أحد أبنائي ؛ فهو غريمي وتوجد خصومة ؛ فوجوده أمامي يَهِيج الشر في نفسي ؛ وأحتاج لضبط النفس بعزيمة قوية، وهذا هو تفصيل الكتاب. والحق سبحانه يقول :﴿ كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ... ﴾ [ فصلت : ٣ ] أي : أن كل جزئية فيه مناسبة للأمر الذي نزلتْ في مناسبته. ومثال هذا هو قوله سبحانه :﴿ وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُم... ﴾ [ الإسراء : ٣١ ] وقوله الحق :﴿ وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلاَدَكُمْ مِّنْ إمْلاَقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ... ﴾ [ الأنعام : ١٥١ ] وكل آية تناسب موقعها، ومعناها مُتَّسق في داخلها، وتَمَّ تفصيلها بما يناسب ما جاءت له، فقوله :﴿ وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلاَدَكُمْ مِّنْ إمْلاَقٍ... ﴾ [ الأنعام : ١٥١ ] يعني أن الفقر موجود، والإنسان مُنْشغل برزقه عن رزق ابنه. أما قوله :﴿ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ... ﴾ [ الإسراء : ٣١ ] أي : أن الفقر غير موجود، وهناك خَوْف أن يأتي إلى الإنسان ؛ وهو خوف من أمر لم يَطْرأ بعد. وهكذا نجد في القرآن تفصيلاً لكل شيء تحتاجونه في أمر دنياكم وآخرتكم، وهو تفصيل لكل شيء ليس عندك ؛ وقد قال الهدهد عن ملكة سبأ بلقيس :﴿ وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْءٍ... ﴾ [ النمل : ٢٣ ] وليس معنى هذا أنها أوتيت من كل شيء في هذه الدنيا، بل هي قد أُوتيَت من كل شيء تملكه، أو يُمكِن أن تملكه في الدنيا. وقول الحق سبحانه :﴿ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ... ﴾ [ يوسف : ١١١ ] لا يعني أن نسأل مثلاً : " كم رغيفاً في كيلة القمح ؟ ". وقد حدث أن سأل واحد الإمام محمد عبده هذا السؤال ؛ فجاء بخباز، وسأله هذا السؤال ؛ فأجاب الخباز ؛ فقال السائل : ولكنك لم تَأْتِ بالإجابة من القرآن ؟ فقال الإمام محمد عبده : لماذا لا تذكر قوله الحق :﴿ ... فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنْتُم لاَ تَعْلَمُونَ ﴾ [ النحل : ٤٣ ] وهكذا نعلم أنه سبحانه لم يُفرِّط في الكتاب من شيء. ويُذيِّل الحق سبحانه الآية الكريمة بقوله :﴿ ... وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ﴾ [ يوسف : ١١١ ] ونعلم أن الهُدى هو الطريق المُؤدي إلى الخير، وهذا الطريق المؤدي إلى الخير ينقسم إلى قسمين : القسم الأول : الوقاية من الشر لمن لم يقع فيه. والقسم الثاني : علاج لمَنْ وقع في المعصية. وإليك المثال : هَبْ أن أُناساً يعلمون الشر ؛ فنردهم عنه ونشفيهم منه ؛ لأنه مرض، وهو رحمة بمعنى ألاَّ يقعوا في المرض بداية. إذن : فهناك ملاحظتان يشيران إلى القسمين : الملاحظة الأولى : أن المنهج القرآني قد نزل وقايةً لمن لم يقع في المعصية. والملاحظة الثانية : أن المنهج يتضمن العلاج لِمَنْ وقع في المعصية. ويُحدِّد الحق سبحانه مَنْ يستفيدون من المنهج القرآني وقاية وعلاجاً، فيقول :﴿ ... وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ﴾ [ يوسف : ١١١ ] أي : هؤلاء الذين يؤمنون بإله واحد خلقهم وخلق الكون، ووضع للبشر قوانين صيانة حياتهم، ومن المنطقيِّ أن يسمع المؤمن كلامه ويُنفذه ؛ لأنه وضع المنهج الذي يمكنك أن تعود إليه في كل ما يصون حياتك، فإنْ كنت مؤمناً بالله ؛ فُخُذ الهدى، وخُذ الرحمة. ونسأل الله أن نُعطَي هذا كله.