ﰡ
(١) - يُخْبِرُ اللهُ تَعَالَى أَنَّ جَمِيعَ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مِنْ مَخْلُوقَاتٍ تُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَتُمَجِّدُهُ، وَتُنَزِّهُهُ عَنِ العَجْزِ وَالنَّقْصِ. وَيَكُونُ تَسْبِيحُ المَخْلُوقَاتِ لِرَبِّهَا إِمَّا بِاللِّسَانِ أَوْ بِالقَلْبِ أَوْبِدَلاَلَةِ الحَالِ. وَاللهُ تَعَالَى هُوَ العَزِيزُ الذِي لاَ يُقْهَرُ، الحَكِيمُ فِي شَرْعِهِ وَقَضَائِهِ وَتَدْبِيرِهِ.
(٢) - كَانَ النَّبِيُّ ﷺ قَدْ صَالَحَ يَهُودَ بَنِي النَّضِيرِ فِي المَدْينَةِ عَلَى أَنْ لاَ يَكُونُوا عَلَيهِ وَلاَ لَهُ. فَلَمَّا أُصِيبَ المُسْلِمُونَ يَوْمَ أُحُدٍ، أَخَذَ اليَهُودُ فِي الدَّسِّ وَالوَقِيعَةِ، وَالتَّأَلِيب عَلَى المُسْلِمِينَ، وَذَهَبَ زَعِيمُهُمْ كَعْبُ بْنُ الأَشْرَفِ إِلَى مَكَّةَ فَحَالَفَ قُرَيْشاً واسْتَحَثّهَا عَلَى حَرْبِ الرَّسولِ ﷺ والمُسْلِمِينَ، واسْتِئْصَالِ شَأفَتِهِم، وَحَاوَلَ يَهُودُ بَنِي النَّضِيرِ قَتْلَ الرَّسُولِ بِطَرْحِ حَجَرٍ عَلَيْهِ مِنْ سَطْحِ أَحَدِ المَنَازِلِ، بَيْنَمَا كَانَ الرَّسُولُ يَجْلِسُ فِي ظِلّهِ. فَأَنْجَاهُ اللهُ مِنْ كَيْدِهِمْ، فَأَمَرَ الرَّسُولُ بِقَتْلِ كَعْبِ بْن الأَشْرَفِ فَقَتَلَهُ رَجُلٌ مِنَ المُسْلِمِينَ - هُوَ مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ - عِيْلَةً. وَتَأَهَّبَ المُسْلِمُونَ وَسَارُوا لِقِتَالِ بَنِي النَّضِير. فَتَحَصَّنَ بَنُو النَّضيرِ فِي مَوَاقِعِهِمْ، وَاسْتَعَدُّوا لِلْحَرْبِ. وَدَسَّ المُنَافِقُونَ - وَعَلَى رَأْسِهِمْ عَبْدُ اللهِ بْنُ أُبَيِّ بْنِ سَلُّولٍ - إِلَى بَنِي النَّضِيرِ - وَكَانَ حَلِيفاً لَهُمْ فِي الجَاهِلِيَّةِ - أَنْ لاَ يَخْرَجُوا مِنْ حُصُونِهِمْ، فَإِنْ قَاتَلَهُم المُسْلِمُونَ فَإِنَّ المُنَافِقِينَ سَيَنْضَمُّونَ إِلَيهِمْ فِي قِتالِ المُسْلِمِينَ، وَإِنْ أَخْرَجَهُم المُسْلِمُونَ مِنْ دِيَارِهِمْ فَإِنَّهُمْ سَيَخْرُجُونَ مَعَهُمْ. وَجَاءَ المُسْلِمُونَ فَحَاصَرُوا بَنِي النَّضِيرِ إِحْدَى وَعِشْرِينَ لَيْلَةً، وَقَذَفَ اللهُ الرُّعْبَ فِي قُلُوبِهِمْ، وَيَئِسُوا مِنْ نَصْرِ المُنَافِقِينَ، فَطَلُبُوا الصُّلْحَ، فَأَبَى الرَّسُولُ إِلاَّ جَلاَءَهُمْ عَنِ المَدِينَةِ، عَلَى أَنْ يَحْمِلَ كُلُّ ثَلاَثَةِ أَبْيَاتٍ عَلَى بَعِيرٍ وَاحِدٍ مَا شَاؤُوا مِنْ مَتَاعِهِمْ فَجَلا أَكْثَرُهُمْ إِلَى الشَّامِ وَالحِيرَةِ. وَعَمَدَ اليَهُودُ إِلَى بُيُوتِهِمْ فَخَرَّبُوهَا لِكَيْلا يَنْتَفِعَ المُسْلِمُونَ بِهَا، وَعَمَدُوا إِلَى مَا لاَ يَسْتَطِيعُونَ نَقْلَهُ مِنْ أَثَاثِهِمْ فَدَمَّرُوهُ. وَكَانَ نَخْلُ بَنِي النَّضِيرِ لِرَسُولِ اللهِ ﷺ خَاصَّةً أَعْطَاهُ اللهُ إِيَّاهُ وَخَصَّهُ بِهِ.
وَيَقُصُّ اللهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ السُّورَةِ قِصَّةَ بَنِي النَّضِيرِ، فَيَقُولُ تَعَالَى: إِنَّهُ هُوَ الذِي أَجْلَي بَنِي النَّضِيرِ عَنْ دِيَارِهِمْ، بِعِزَّتِهِ وَقُدْرَتِهِ، وَكَانَتْ هَذِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ حُشِرُوا فِيهَا وَأُخْرِجُوا مِنَ الجَزِيرَةِ العَرَبِيَّةِ، لَمْ يُصبْهُمُ الذُّلُّ قَبْلَهَا، وَكَانَ آخِرُ حَشْرٍ لَهُمْ زَمَنَ عُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ حِينَ أَجْلاَهُمْ مِنْ خَيْبَرَ إِلَى الشَّامِ. وَكَانَ المُسْلِمُونَ لاَ يَظُنُّونَ أَنَّ هَؤُلاَءِ اليَهُودَ يُمْكِنُ أَنْ يُجْلَوا عَنِ المَدِينَةِ لِقُوَّتِهِمْ، وَشِدَّةِ بَأْسِهِمْ وَمَنَعَةِ حُصُونِهِمْ، وَكَثْرَةِ عَدَدِهِمْ وَكَانُوا هُمْ يَظُنُّونَ أَنَّ حُصُونَهُمْ سَتَمْنَعُهُمْ وَسَتَحْمِيهِمْ مِنْ أَنْ يُصِيبَهُمْ سُوءٌ مِنْ أَعْدَائِهِمْ، فاطْمَأَنُّوا إِلَى تِلْكَ القُوَّةِ، وَشَرَعُوا فِي الدَّسِّ وَالكَيْدِ لِلرَّسُولِ ﷺ وَلِلمُسْلِمِينَ، فَجَاءَهُمْ بَأْسُ اللهِ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَتَوَقَّعُوا، وَلَمْ يَخْطُرْ لَهُمْ عَلَى بَالٍ. وَبَأسُ اللهِ لاَ يُدْفَعُ وَلاَ يُردُّ إِذَا جَاءَ. وَقَدْ قَذَفَ اللهُ الرُّعْبَ فِي قَلُوبِهِمْ فَاسْتَوْلَى عَلَيْهَا الخَوْفُ وَالهَلَعُ حِينَ جَاءَ الرَّسُولُ وَالمُؤْمِنُونَ، فَلَمْ يَسْتَطِيعُوا المُقَاوَمَةَ بَعْدَ قَتْلِ رَئيسِهِمْ كَعْبِ بْنِ الأَشْرَفِ، وَبَعْدَ أَنْ نَكَلَ عَبْدُ اللهِ بْنُ أُبَيِّ بْنِ سَلُولٍ وَمَنْ مَعَهُ مِنْ المُنَافِقينَ عَنْ إِنْجَادِهِمْ، وَمَدِّ يَدِ العَوْنِ إِلَيْهِمْ، كَمَا وَعَدَهُمْ، وَأَخَذُوا، مِنْ شِدَّةِ مَا أَصَابَهُمْ مِنْ هَلَعٍ وَرُعْبٍ، يُخَرِّبُونَ بُيُوتَهُمْ، وَيُدَمِّرُونَ أَثَاثَهُمْ، لِكَيْلاَ يَنْتَفِعَ بِهِ المُسْلِمُونَ، وَكَانَ المُسْلِمُونَ يُدَمِّرُونَ بُيُوتَهُمْ عَلَيْهِمْ مِنْ خَارِجِهَا لِيَدْخُلُوهَا عَلَيْهِمْ، فَيَصِلُوا إِلَيهِمْ، وَيَتَمَكَّنُوا مِنْ قِتَالِهِمْ، فَاتَّعِظُوا يَا أَوْلِي الأَلْبَابِ وَالبَصَائِرِ بِمَا جَرَى عَلَى هَؤُلاَءِِ، وَالعَاقِلُ مَنِ اتَّعَظَ بِغَيْرِهِ.
الحَشْرُ - إِخْرَاجُ جَمْعٍ مِنَ النَّاسِ مِنْ مَكَانٍ إِلَى مَكَانٍ آخَرَ.
قَذَفَ - أَلْقَى وَأَنْزَلَ إِنْزَالاً شَدِيداً.
الذِينَ كَفَرُوا - هُمْ يَهُودُ بَنِي النَّضِيرِِ.
لأَوَّلِ الحَشْرِ - فِي أَوَّلِ إِخْرَاجٍ مِنَ الأَرْضِ.
الجَلاَءُ - الخُرُوجُ مِنَ الدَِّيَارِ بِالأَهْلِ وَالوَلَدِ.
شَاقُّوا - عَادَوا وَعَصَوا وَخَالَفُوا.
(٥) - لَمَّا حَاصَرَ الرَّسُولُ ﷺ بَنِي النَّضِيرِ فِي حُصُونِهِمْ أَمَرَ بِقَطْعِ نَخْلِهِمْ إِرْعَاباً لَهُمْ، فَبَعَثُوا إِلَى رَسُولِ اللهِ يَقُولُونَ: إِنَّكَ تَنْهَى عَنِ الفَسَادِ، فَمَا بَالُكَ تَأْمُرُ بِقَطْعِ الأَشْجَارِ؟ فَأْنَزَلَ اللهُ تَعَالَى هَذِهِ الآيَةَ وَفِيهَا يَقُولُ تَعَالَى لِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنينَ: إِنَّ مَا قَطَعْتُمْ مِنْ أَشْجَارِ النَّخِيلِ، وَمَا تَرَكْتُمُوهُ دُونَ قَطْعٍ فَالجَمِيعُ بِإِذْنِ اللهِ وَقَدَرِهِ وَقَضَائِهِ، وَلاَ بَأْسَ عَلَيْكُمْ فِيهِ وَلاَ حَرَجَ، وَفِيهِ نِكَايَةٌ وَخِزْيٌ وَنكَالٌ لِلفَاسِقِينَ الخَارِجِينَ عَنْ طَاعَةِ اللهِ.
لِينَةٍ - نَخْلَةٍ.
عَلَى أُصُولِهَا - عَلَى سُوقِهَا بِدُونِ قَطْعٍ.
وَقَدْ جَعَلَ اللهُ تَعَالَى لِلمَالِ الذِي يَغْنَمُهُ المُسْلِمُونَ مِنْ غَيرِ قِتَالٍ، وَلاَ مُصَاوَلَةٍ، وَلاَ إِيجَافِ خَيْلٍ وَلاَ رِكَابٍ، نِظَاماً خَاصَّاً، وَلاَ يُقْسَمُ فِي الجَيْشِ كَمَا تُقْسَمُ الغَنَائِمُ، وَفْقاً لِمَا جَاءَ فِي سُورَةِ الأَنْفَالِ.
وَمَعْنَى الآيَةِ: إِنَّ اللهَ أَفَاءَ أَمْوَالَ بَنِي النَّضِيرِ عَلَى رَسُولِهِ دُونَ قِتَالٍ إِذْ قَذَفَ اللهُ الرُّعْبَ فِي قُلُوبِهِمْ فَنَزَلُوا عَلَى حُكْمِ النَّبِيِّ فَقَضَى بِجَلاَئِهِم عَنْ أَرْضِهِمْ.
وَاللهُ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ أَعْدَائِهِ، وَيَقْذِفُ الرُّعْبَ فِي قُلُوبِهِمْ فَيَسْتَسْلِمُونَ لَهُمْ بِدُونِ قِتَالٍ، وَاللهُ قَوِيٌّ عَزِيزٌ، قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَفْعَلَ مَا يَشَاءُ، لاَ يُعْجِزُهُ شَيءٌ.
الفَيءُ - مَا أُخِذَ مِنْ أَمْوَالِ الكُفَّارِ بِغَيْرِ قِتَالٍ.
أَوْجَفَ - حَمَلَ الفَارِسُ أَوْ رَاكِبُ البَعِيرِ رَاحِلَتَهُ عَلَى الإِسْرَاعِ.
الرِّكَابُ - مَا يُرْكَبُ مِنَ الإِبلِ - رَاحِلَةٌ.
(٧) - مَا جَعَلَهُ اللهُ فَيئاً لِرَسُولِهِ مِنْ أَمْوَالِ الكُفَّارِ مِنْ أَهْلِ القُرَى - كَبَنِي النَّضِيرِ وَخَيْبَرَوَقُرَيْظَةَ - فَإِنَّهُ يُصْرَفُ فِي وُجُوهِ البِرِّ، وَلاَ يُقْسَمُ فِي الجَيْشِ كَالمَغْنَمِ، فَيُعْطَى لِلرَّسُولِ لِيُعْطَيِ مِنْهُ ذَوِي قُرْبَاهُ (وَكَانَ رَسُولُ اللهِ ﷺ يُعْطِي مِنْهُ بَنِي المُطَّلِبِ وَبَنِي هَاشِمِ). وَلِلْيَتَامَى وَالفُقَرَاءِ وَلِلْمَسَاكِينِ مِنْ ذَوِي الحَاجَاتِ، وَلابْنِ السَّبِيلِ (وَهُوَ المُسَافِرُ الذِي نَفَدَتْ نَفَقَتُهُ)، وَقَدْ قَضَى اللهُ تَعَالَى بِذَلِكَ لِكَيْلاَ يَأْخُذَهُ الأُغْنِيَاءُ، وَيَتَدَاوَلُوهُ فِيمَا بَيْنَهُمْ، وَيَتَكَاثَرُوا بِهِ، فَلاَ يَصْلُ شَيءٌ مِنْهُ إِلَى الفُقَرَاءِ.
وَمَا جَاءَكُم بِهِ الرَّسُولُ مِنْ أَحْكَامٍ فَتَمَسَّكُوا بِهِ، وَمَا أَعْطَاكُمُ الرَّسُولُ مِنَ الفَيءِ فَخُذُوهُ، فَهُوَ حَلاَلٌ لَكُمْ، وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَلاَ تَقْرَبُوهُ، واتَّقُوا اللهَ فامْتَثِلُوا لأَمْرِهِ، وَاتْرُكُوا مَا نَهَاكُمْ عِنْهُ، فَإِنَّ اللهَ تَعَالى شَدِيدُ العِقَابِ لِمَنْ عَصَاهُ وَخَالَفَ أَمْرَهُ.
(وَجَاءَ فِي الحَدِيثِ الشَّرِيفِ: " لا أَلْفَينَّ أَحَدَكُمْ مُتَّكِئاً عَلَى أَرِيكَتِهِ يأْتِيهِ أَمْرٌ مِمَا أَمْرَتُ بِهِ أَوْ نَهَيْتُ عَنْهُ فَيَقُولُ: لاَ أَدْرِي، مَا وَجَدْنَا فِي كِتَابِ اللهِ اتبَعْنَاهُ ").
دُوْلَةً بَيْنَ الأغْنِيَاءِ - مُلْكاً مُتَدَاوَلاً بَيْنَهُمْ خَاصَّةً.
(٨) - يُبَيِّنُ اللهُ تَعَالَى حَالَةَ الفُقَرَاءِ المُسْتَحِقِّينَ لِمَالِ الفَيْءِ فَيَذْكُرُ أَنَّهُم الذِينَ اضْطَرَّهُم كُفَّارُ مَكَّةَ إِلَى الخُرُوجِ مِنْ دِيَارِهِمْ، وَتَرْكِ أَمْوَالِهِمْ، وَقَدْ فَعَلُوا ذَلِكَ طَلَباً لِمَرْضَاةِ اللهِ تَعَالَى، وابْتِغَاءَ ثَوَابِهِ، وَنُصْرَةً للهِ وَرَسُولِهِ، وَهَؤُلاَءِ هُمُ الصَّادِقُونَ فِي إِيْمَانِهِمْ، الذِينَ وَفَّقُوا قَوْلَهُمْ مَعَ فِعْلِهِمْ، وَهَؤُلاَءِ هُمُ المُهَاجِرُونَ.
(٩) - ثُمَّ أَثْنَى اللهُ تَعَالَى عَلَى الأَنْصَارِ مُبِيِّناً فَضْلَهُمْ وَشَرَفَهُمْ وَكَرَمَهُمْ، حِينَ جَعَلَ اللهُ الفَيءَ لإِخْوَانِهِم المُهَاجِرِينَ دُونَهُمْ، فَقَالَ تَعَالَى: والذِينَ سَكَنُوا دَارَ الهِجْرَةِ قَبْلَ المُهَاجِرِينَ، وَآمَنُوا قَبْلَ كَثِيرٍ مِنَ المُهَاجِرِينَ، يُحِبُّونَ المُهَاجِرِينَ، وَيَتَمَنَّوْنَ لَهُمْ الخَيْرَ، كَمَا يَتَمَنَّوْنَهُ لأَنْفُسِهِمْ، وَقَدْ أَسْكَنُوا المُهَاجِرِينَ فِي دُورِهِمْ، وَأَشْرَكُوهُمْ فِي أَمْوَالِهِمْ حَتَّى نَزَلَ بَعْضُهُمْ عَنْ بَعْضِ نِسَائِهِ لِلْمُهَاجِرِينَ. وَقَدْ فَعَلُوا ذَلِكَ وَنُفُوسُهُمْ طَيِّيَةٌ، وَأَعْيُنُهُمْ قَرِيرَةٌ بِمَا يَفْعَلُونَ، لاَ يَجِدُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ حَسَداً لِلْمُهَاجِرِينَ. وَلاَ ضِيقاً بِهِمْ لِمَا فَضَّلَهُمُ اللهُ بِهِ مِنَ المَنْزِلَةِ والشَّرَفِ وَالتَّقْدِيمِ فِي الذِّكْرِ والرُّتْبَةِ، وَلِمَا خَصَّهُمْ بِهِ مِنْ مَغْنَمِ بَنِي النَّضِيرِ دُونَهُمْ.
(رُوِيَ أَنَّ المُهَاجِرِينَ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ مَا رَأَيْنَا مِثْلَ قَوْمٍ قَدِمْنَا عَلَيْهِمْ حُسْنَ مُوَاسَاةٍ فِي قَليلٍ، وَلاَ حُسْنَ بَذْلٍ فِي كَثِيرٍ، لَقَدْ كَفَوْنَا المَؤُونَةَ، وَأَشْرَكُونَا فِي المَهْنَأ، حَتَّى لَقَدْ خَشِينَا أَنْ يَذْهَبُوا بِالأَجْرِ كُلِّهِ. قَالَ: لاَ. مَا أَثْنَيْتُمْ عَلَيْهِمْ، وَدَعَوْتُمْ لَهُمُ اللهَ).
وَهُمْ يُقَدِّمُونَ أَهْلَ الحَاجَةِ مِنَ المُهَاجِرِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ، وَيَبْدَؤُونَ بِالنَّاسِ قَبْلَ أَنْفُسِهِمْ فِي حَالِ احْتِيَاجِهِمْ إِلَى ذَلِكَ.
(وَقَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: " أَفْضَلُ الصَّدَقَةِ جُهْدُ المُقِلِّ "). (البُخَارِيُّ).
وَمَنْ سَلِمَ مِنْ آفَةِ الحِرْصِ عَلَى المَالِ وَالبُخْلِ، فَقَدْ فَازَ وَأَفْلَحَ.
(وَقَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: " إِيَّاكُمْ وَالظُّلْمَ فَإِنَّ الظُلْمَ ظُلُمَاتٌ يَوْمَ القِيَامَةِ، واتَّقُوا الشُّحَّ فَإِنَّ الشُحَّ قَدْ أَهْلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، حَمَلَهُمْ عَلَى أَنْ سَفَطُوا دِمَاءَهُمْ، وَاسْتَحَلُّوا مَحَارِمَهُمْ ").
التَّبَوُّؤُ - النُّزُولُ فِي المَكَانِ - أَيْ الذِينَ نَزَلُوا المَدِينَةَ.
يُؤَثِرُونَ - يُقَدِّمُونَ وَيُفَضِّلُونَ.
حَاجَةً - حَسَداً أَوْ شُعُوراً بِالضِّيقِ.
خَصَاصَةٌ - فَقْرٌ أَوْ حَاجَةٌ.
الشُّحُّ - حِرْصُ النَّفْس عَلَى المَنْعِ.
أُوتُوا - أَيْ مَا أُعْطِيَ المُهَاجِرُونَ مِنْ دُونِهِمْ.
(١٠) - وَهَؤُلاَءِ القِسْمُ الثَّالِثُ الذِينَ يَسْتَحِقُّ فُقَرَاءُهُمْ مِنْ مَالِ الفَيءِ، بَعْدَ المُهَاجِرِينَ والأَنْصَارِ، وُهُمُ المُتَّبِعُونَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ، وَيَقُولُونَ: رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا، وَاغْفِرْ لإِخْوَانِنَا فِي الدِّينِ الذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ، وَلاَ تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا حَسَداً لِلمُؤْمِنينَ جَمِيعاً، وَلاَ حِقْداً عَلَيْهِمْ، وَأًَنْتَ يَا رَبِّ الغَفُورُ الرَّحِيمُ.
الغِلُّ - الحِقْدُ والحَسَدُ.
(١١) - أَرْسَلَ رَئِيسُ المُنَافِقِينَ عَبدُ اللهِ بْنُ أُبَيِّ بْنِ سَلُولٍ وَعَدَدٌ مِنَ المُنَافِقِينَ مَعَهُ إِلَى يَهُودِ بَنِي النَّضِيرِ يَعِدُونَهُمُ النُّصْرَةَ إِنْ قَاتَلهُم المُسْلِمُونَ، والخُرُوجَ مَعَهُمْ مِنْ أَرْضِهِمْ إِنْ أُخْرِجُوا، وَعَدَّ اللهُ المُنَافِقِينَ كَفَرَةً، وَإِخْوَاناً لِلكَافِرِينَ مِنَ اليَهُودِ.. ثُمَّ يُؤْكِّدُ تَعَالَى أَنَّ هَؤُلاَءِ المُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ فِيمَا يَعِدُونَ بِهِ اليَهُودَ.
المُنَافِقُ - هُوَ الذِي يُظْهِرُ غَيْرَ مَا يُبْطِنُ، وَالذِي يُبَالِغُ فِي إِخْفَاءِ مُعْتَقَدِةِ.
(١٢) - وَهُمْ كَاذِبُونَ فِيمَا يَقُولُونَ، وَفِيمَا يَعِدُونَ بِهِ اليَهُودَ مِنَ النُّصْرَةِ، وَالخُرُوجِ مَعَهُمْ، لأَنَّهُمْ لاَ يَخْرُجُونَ مَعَ اليَهُودِ إِذَا أَرَادَ المُسْلِمُونَ إِخْرَاجَهُمْ مِنْ أَرْضِهِمْ، وَلاَ يَقَاتِلُونَ مَعَهُمْ، إِنْ قَاتَلَهُمُ المُسْلِمُونَ، ثُمَّ إِنَّهُمْ إِذَا قَاتَلُوا مَعَ اليَهُودِ سَيَنْهَزِمُونَ مُتَخَلِّينَ عَنْ بَنِي النَّضيرِ، ثُمَّ لاَ يَنْصُرُ اللهُ بَنِي النَّضِيرِ.
(١٤) - وَيُؤَكِّدُ اللهُ تَعَالَى جُبْنَ اليَهُودِ وَالمُنَافِقِينَ فَيَقُولُ: إِنَّ اللهَ أَلْقَى فِي قُلُوبِهِمْ الرُّعْبَ فَلاَ يُوَاجِهُونَ المُسْلِمِينَ بِقِتَالٍ مُجْتَمِعِينَ، بَلْ يُقَاتِلونَهُمْ فِي قُرًى حَصِينةٍ، أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدْرَانٍ وَهُمْ مُحَاصَرُونَ، وَعَدَاوَتُهُمْ فِيمَا بَيْنَهُمْ شَدِيدَةٌ. وَإِذَا رَآهُمُ الرَّائِي حَسِبَهُمْ مُتَّفِقِينَ، وَهُمْ فِي الحَقِيقَةِ مُخْتَلِفُونَ إِلَى أَبْعَدِ حُدُودِ الاخْتِلاَفِ لِمَا بَيْنَهُم مِنْ أَحْقَادٍ وَعَدَاوَاتٍ، فَهُمْ لاَ يَتَعَاضَدُونَ، وَلاَ يَتَسَانَدُونَ، وَلاَ يُخْلِصُونَ فِي القِتَالِ، وَقَدْ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا لأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَ يَعْلَمُونَ أَنَّ الوَحْدَةَ وَالتَّسَانُدَ المُخْلِصَ هُمَا سِرُّ النَّصْرِ وَالنَّجَاحِ.
بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ - قِتَالُهُمْ بَيْنَهُمْ.
قُلُوبَهُمْ شَتَّى - مُتَفَرِّقَةٌ لِتَعَادِيهِمْ.
(وَكَانَ ذَلِكَ قَبْلَ وَقْعَةِ بَنِي النَّضِيرِ التِي كَانَتْ فِي العَامِ الرَّابعِ لِلْهِجْرَةِ، بَيْنَمَا كَانَتْ وَقْعَةُ بَنِي قَيْنُقَاعَ فِي الشَّهْرِ العِشْرِينَ مِنَ الهِجْرَةِ).
وَبَالَ أَمْرِهِمْ - سُوءَ عَاقِبَةِ كُفْرِهِمْ.
(١٦) - وَمَثَلُ هَؤُلاَءِ المُنَافِقِينَ الذِينَ وَعَدُوا اليَهُودَ بِالنُّصْرَةِ إِنْ قُوتِلُوا وَبِالخُرُوجِ مَعَهُمْ إِنْ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ، كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ الذِي غَرَّ الإِنْسَانَ، وَوَعَدَهُ بِالنَّصْرِ عِنْدَ الحَاجَةِ إِلَيهِ، إِذَا أَطَاعَهُ وَكَفَرَ بِاللهِ، فَلَمَّا احْتَاجَ الإِنْسَانُ إِليهِ، وَطَلَبَ مِنْهُ النُّصْرَةَ، تَبَرَّأَ الشَّيْطَانُ مِنْهُ، وَخَذَلَهُ وَتَرَكَهُ لِمَصْيرِهِ، وَقَالَ لَهُ: إِنِّي أَخَافُ اللهَ إِنْ نَصْرْتُكَ أَنْ يُشْرِكَنِي رَبُّ العَالَمِينَ مَعَكَ فِي العَذَابِ.
(١٧) - فَكَانَ عَاقِبَةَ الأَمْرِ بِالكُفْرِ أَنْ صَارَ الشَّيْطَانُ وَمَنْ أَغْرَاهُ بِالكُفْرِ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ، جَزَاءُ كُلِّ مَنْ ظَلَمَ نَفْسَهُ بِالكُفْرِ وَالفُسُوقِ وَالعِصْيَانِ.
(١٨) - يَأْمُرُ اللهُ تَعَالَى المُؤْمِنِينَ بِتَقْوَاهُ، وَذَلِكَ بِأَنْ يَفْعَلُوا مَا أَمَرَهُمْ بِهِ، وَأَنْ يَتْرُكُوا مَا نَهَاهُم عَنْهُ، وَلْيَنْظُرْ كُلُّ وَاحدٍ مِنْهُمْ مَا قَدَّمَ مِنْ عَمَل صَالِحٍ يَنْفَعُهُ فِي آخِرَتِهِ يَوْمَ الحِسَابِ، ثُمَّ يُؤْكِّدُ تَعَالى الأَمْرَ بِتَقْوَاهُ، مُبَيِّناً أَنَّهُ عَلِيمٌ بِأْحْوالِ العِبَادِ، جَمِيعِهَا، وَسَيُحَاسِبُهُمْ عَلَيْهَا.
(١٩) - وَلاَ يَكُنْ حَالُكُمْ كَحَالِ قَوْمٍ نَسُوا ذِكْرَ اللهِ فَأَنْسَاهُمُ اللهُ العَمَلَ الصَّالِحَ الذِي يَنْفَعُهُمْ فِي آخِرَتِهِمْ، وَيُنْقِذُ أَنْفُسَهُمْ يَوْمَ الحِسَابِ مِنَ العَذَابِ. وَهَؤُلاَءِ الذِينَ نَسُوا اللهَ ذَكْرَهُ، وَفِعْلَ الخَيْرِ، هُمُ الفَاسِقُونَ الخَارِجُونَ عَنْ طَاعَةِ اللهِ تَعَالَى.
نَسُوا اللهَ - لَمْ يُرَاعُوا أَوَامِرَ اللهِ وَنَوَاهِيَه.
فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ - فَلَمْ يُقَدِّمُوا لَهَا مَا يَنْفَعُهَا.
(٢٠) - وَلاَ يَسْتوِي فِي حُكْمِ اللهِ يَوْمَ القِيَامَةِ، أَهْلُ النَّارِ وَأَهْلُ الجَنَّةِ، وَأَصْحَابُ الجَنَّةِ هُمُ الفَائِزُونَ بِرِضْوَانِ اللهِ وَجَنَّتِهِ.
(٢١) - إِنَّ الجَبَلَ لَوْ فَهِمَ هَذَا القُرْآنَ، وَتَدَبَّرَهُ، لَخَشَعَ وَتَصَدَّعَ مِنْ خَوْفِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، فَكَيْفَ يَلِيقُ بِالبَشَرِ أَنْ لاَ تَلِينَ قُلُوبُهُمْ، وَلاَ تَخْشَعَ وَتَتَصَدَّعَ مِنْ خَشيَةِ اللهِ وَقَدْ فَهِمُوا مَعَانِيَهُ وَتَدَبَّرُوا مَا فِيهِ؟
وَيَضْرِبُ اللهُ تَعَالَى الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لِيُقَرِّبَ مَعَانِيَ القُرْآنِ إِلَى أَفْهَامِهِمْ، لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ فِيهَا وَيَعْتَبِرُونَ.
خَاشِعاً - ذَلِيلاً مُسْتَكِيناً خَاضِعاً.
مُتَصِّدعاً - مُتَشَقِّقاً.
(٢٢) - يُخْبِرُ اللهُ تَعَالَى عَنْ نَفْسِهِ الكَرِيمَةِ أَنَّهُ هُوَ اللهُ الذِي لاَ إِلهَ إِلاَّ هُوَ، فَلاَ رَبَّ غيرُهُ في الوُجُودِ، وَلاَ مَعْبُودَ سِوَاهُ، وَأَنَّهُ عَالِمٌ بِجَمِيعِ الكَائِنَاتِ المُشَاهِدَاتِ لَنَا، وَالغَائِبَاتِ عَنَّا، فَلاَ يَخْفَى عَلَيْهِ شَيءٌ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاءِ، وَأَنَّهُ ذُو الرَّحْمَةِ الوَاسِعَةِ الشَّامِلَةِ لِجَمِيعِ خَلْقِهِ فَهُوَ رَحْمنُ الدُّنْيَا والآخِرَةِ وَرَحِيمُهُمَا.
الغَيْبُ - مَا غَابَ عَنِ الحِسِّ.
الشَّهَادَة - مَا حَضَرَ مِنَ الأَشْيَاءِ المُشَاهَدَةِ.
(٢٣) - هُوَ اللهُ المَالِكُ لِجَمِيعِ مَا فِي الوُجُودِ، المُتَصَرِّفُ فِيهِ تَصَرُّفاً مُطْلَقاً، وَالمُنَزَّهُ عَنْ كُلِّ عَيْبٍ وَنَقْصٍ، الذِي أَمَّنَ خَلْقَهُ مِنْ أَنْ يَظْلِمَهُمْ، وَهُوَ الرَّقِيبُ عَلَيْهِم الذِي قَهَرَ كُلَّ شَيءٍ، وَغََلَبَهُ لِعَظَمَتِهِ وَجَبَرُوتِهِ، فَلاَ تَلِيقُ الكِبْرِيَاءُ إِلاَّ لَهُ، تَنَزَّهَ اسْمُهُ عَمَّا يَقُولُهُ المُشْرِكُونَ مِنَ الصَّاحِبَةِ وَالوَلَدِ وَالشَّرِيكِ فَهُوَ الوَاحِدُ الأَحَدُ الفَرْدُ الصَّمَدُ.
المَلِكُ - المَالِكُ لِكُلِّ شَيءٍ.
القُدُّوسُ - المُنَزَّهُ عَنٍ النُّقْصَانِ.
المُؤْمِنُ - الوَاهِبُ الأَمْنَ - أَوِ المُصَدِّقُ لِرُسُلِهِ بِالمُعْجِزَاتِ.
المُتَكَبِّرُ - البَلِيغُ الكِبْرَيَاءِ وَالعَظَمَةِ.
المُهَيْمِنُ - الرَّقِيبُ عَلَى كُلِّ شَيءٍ.
العَزٍيزُ - القَوِيُّ الغَالِبُ.
الجَبَّارُ - القَهَّارُ أَوِ العَظِيمُ.
(٢٤) - وَهُوَ تَعَالَى خَالِقُ جَمِيعِ مَا فِي الوُجُودِ، وَمُصَوِّرُهَا، وَمُبرْزُهَا فِي الصُّورَةِ التِي هِيَ عَلَيْهَا، وَيُنَزِّهُ اسْمَ اللهِ جَمِيعُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ والأَرْضِ مِنْ مَخْلُوقَاتٍ، وَهُوَ العَزِيزُ الذِي لاَ يُقْهَرُ وَقَدْ قَهَرَ كُلَّ شَيءٍ وَغَلَبَهُ، وَهُوَ الحَكِيمُ فِي شَرْعِهِ وَقَضَائِهِ وَتَدْبِيرِهِ.
الأَسْمَاءُ الحُسْنَى - الدَّالَّةُ عَلَى مَحَاسِنِ المَعَانِي.
المُصَوّْرُ - خَالِقُ الصُّوَرِ.