تفسير سورة الممتحنة

مختصر تفسير ابن كثير
تفسير سورة سورة الممتحنة من كتاب تيسير العلي القدير لاختصار تفسير ابن كثير المعروف بـمختصر تفسير ابن كثير .
لمؤلفه محمد نسيب الرفاعي . المتوفي سنة 1412 هـ

كان سبب نزول صدر هذه السورة الكريمة قصة ( حاطب بن أبي بلتعة )، وذلك أن حاطباً هذا كان رجلاً من المهاجرين وكان من أهل بدر أيضاً، وكان له بمكة أولاد ومال، ولم يكن من قريش أنفسهم، فلما عزم رسول الله ﷺ على فتح مكّة لما نقض أهلها العهد، أمر النبي ﷺ المسلمين بالتجهيز لغزوهم. وقال :« اللهم عمِّ عليهم خبرنا »، فعمد حاطب هذا فكتب كتاباً، وبعثه مع امرأة من قريش إلى أهل مكة يعلمهم بما عزم رسول الله ﷺ من غزوهم ليتخذ بذلك عندهم يداً. روى الإمام أحمد، عن علي رضي الله عنه قال :« بعثني رسول الله ﷺ أنا والزبير والمقداد فقال :» انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ فإن بها ظعينة معها كتاب، فخذوه منها « فانطلقنا تعادى بناخيلنا حتى أتينا الروضة، فإذا نحن بالظعينة، قلنا : أخرجي الكتاب، قالت : ما معي كتاب، قلنا : لتخرجن الكتاب، أو لنلقينّ الثياب، قال : فأخرجت الكتاب من عقاصها، فأخذنا الكتاب، فأتينا به رسول الله ﷺ : فإذا فيه : من حاطب بن أبي بلتعة إلى أناس من المشركين بمكة يخبرهم ببعض أمر رسول الله ﷺ فقال رسول الله ﷺ :» يا حاطب ما هذا؟ « قال : لا تعجل عليّ، إني كنت امرأ ملصقاً في قرش، ولم أكن من أنفسهم، وكان من معك من المهاجرين لهم قرابات يحمون أهليهم بمكة، فأحببت إذ فاتني ذلك من النسب فيهم، أن أتخذ فيهم يداً يحمون بها قرابتي، وما فعلت ذلك كفراً ولا ارتداداً عن ديني، ولا رضاً بالكفر بعد الإسلام، فقال رسول الله ﷺ :» إنه صدقكم «، فقال : عمر : دعني اضرب عنق هذا المنافق، فقال رسول الله ﷺ :» إنه قد شهد بدراً وما يدريك لعل الله اطلع إلى أهل بدر فقال اعلما ما شئتم فقد غفرت لكم « ». ونزلت فيه :﴿ ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَآءَ ﴾. وهكذا قال ابن عباس ومجاهد وقتادة وغير واحد أن هذه الآيات نزل في حاطب بن أبي بلتعة، فقوله تعالى :﴿ ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَآءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بالمودة وَقَدْ كَفَرُواْ بِمَا جَآءَكُمْ مِّنَ الحق ﴾ يعني المشركين والكفّار الذي هم محاربون لله ولرسوله٨، نهى الله أن يتخذوهم أولياء وأصدقاء وأخلاء، كما قال تعالى :﴿ ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ اليهود والنصارى أَوْلِيَآءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ ﴾ [ المائدة : ٥١ ] وهذا تهديد شديد ووعيد أكيد، وقال تعالى :
2533
﴿ لاَ تَتَّخِذُواْ الذين اتخذوا دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً ﴾ [ المائدة : ٥٧ ] الآية. وقال تعالى :﴿ لاَّ يَتَّخِذِ المؤمنون الكافرين أَوْلِيَآءَ مِن دُونِ المؤمنين وَمَن يَفْعَلْ ذلك فَلَيْسَ مِنَ الله فِي شَيْءٍ إِلاَّ أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَاةً ﴾ [ آل عمران : ٢٨ ] ولهذا قبل رسول الله ﷺ عذر حاطب، لما ذكر أنه إنما فعل ذلك مصانعة لقريش، لأجل ما كان له عندهم من الأموال والأولاد.
وقوله تعالى :﴿ يُخْرِجُونَ الرسول وَإِيَّاكُمْ ﴾ هذا مع ما قبله من التهييج على عداوتهم وعدم موالاتهم لأنهم أخرجوا الرسول وأصحابه من بين أظهرهم، كراهة لما هم عليه من التوحيد وإخلاص العبادة لله وحده، ولهذا قال تعالى :﴿ أَن تُؤْمِنُواْ بالله رَبِّكُمْ ﴾ أي لم يكن لكم عندهم ذنب إلاّ إيمانكم بالله رب العالمين، كقوله تعالى :﴿ وَمَا نَقَمُواْ مِنْهُمْ إِلاَّ أَن يُؤْمِنُواْ بالله العزيز الحميد ﴾ [ البروج : ٨ ]، وكقوله تعالى :﴿ الذين أُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِم بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاَّ أَن يَقُولُواْ رَبُّنَا الله ﴾ [ الحج : ٤٠ ]، وقوله تعالى :﴿ إِن كُنتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَاداً فِي سَبِيلِي وابتغآء مَرْضَاتِي ﴾ أي إن كنتم كذلك فلا تتخذوهم أولياء، إن كنتم خرجتم مجاهدين في سبيلي فلا توالوا أعدائي، وقد أخرجوكم من دياركم وأموالكم، حنقاً عليكم وسخطاً لدينكم، وقوله تعالى :﴿ تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بالمودة وَأَنَاْ أَعْلَمُ بِمَآ أَخْفَيْتُمْ وَمَآ أَعْلَنتُمْ ﴾ أي تفعلون ذلك وأنا العالم بالسرائر والضمائر والظواهر، ﴿ وَمَن يَفْعَلْهُ مِنكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَآءَ السبيل * إِن يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُواْ لَكُمْ أَعْدَآءً ويبسطوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بالسواء ﴾ أي لو قدروا عليكم لما اتقوا فيكم من أذى ينالونكم به بالمقال والفعال، ﴿ وَوَدُّواْ لَوْ تَكْفُرُونَ ﴾ أي ويحرصون على أن لا تنالوا خيراً، فعداوتهم لكم كامنة وظاهرة فكيف توالون مثل هؤلاء؟ وهذا تهييج على عداوتهم أيضاً، وقوله تعالى :﴿ لَن تَنفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ وَلاَ أَوْلاَدُكُمْ يَوْمَ القيامة يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ والله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ﴾ أي قراباتكم لا تنفعكم عند الله، إذ أراد الله بكم سوءاً ونفعهم لا يصل إليكم إذا أرضيتموهم بما يسخط الله، ومن وافق أهله على الكفر ليرضيهم، فقد خاب وخسر وضل عمله، ولا ينفعه عند الله قرابته من أحد.
2534
يقول تعالى لعباده المؤمنين الذين أمرهم بمصارمة الكافرين والتبري منهم :﴿ قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ في إِبْرَاهِيمَ والذين مَعَهُ ﴾ أي وأتباعه الذين آمنوا معه، ﴿ إِذْ قَالُواْ لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَءآؤُاْ مِّنْكُمْ ﴾ أي تبرأنا منكم ﴿ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله كَفَرْنَا بِكُمْ ﴾ أي بدينكم وطريقكم ﴿ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ العداوة والبغضآء أَبَداً ﴾ يعني وقد شرعت العداوة والبغضاء بيننا وبينكم، ما دمتم على كفركم فنحن أبداً نتبرأ منكم ونبغضكم ﴿ حتى تُؤْمِنُواْ بالله وَحْدَهُ ﴾ أي إلى أن توحدوا الله فتعبدوه وحده لا شريك له، وتخلعوا ما تعبدون معه من الأوثان والأنداد، وقوله تعالى :﴿ إِلاَّ قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ لأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ ﴾ أي لكم في إبراهيم وقومه أسوة حسنة، . تتأسون بها إلاّ في استغفار إبراهيم لأبيه، فإنه إنما كان عن موعدة وعدها إياه؛ فلما تبين له أنه عدو الله تبرأ منه، وذلك أن بعض المؤمنين كانوا يدعون لآبائهم الذين ماتوا على الشرك ويستغفرون لهم، ويقولون : إن إبراهيم كان يستغفر لأبيه، فأنزل الله عزَّ وجلَّ :﴿ وَمَا كَانَ استغفار إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ إِلاَّ عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَآ إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ للَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأَوَّاهٌ حَلِيمٌ ﴾ [ التوبة : ١١٤ ]، وقال تعالى في هذا الآية الكريمة :﴿ إِلاَّ قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ لأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَآ أَمْلِكُ لَكَ مِنَ الله مِن شَيْءٍ ﴾ أي ليس لكم في ذلك أسوة أي في الاستغفار للمشركين؟، هكذا قال ابن عباس ومجاهد وغير واحد، ثم قال تعالى مخبراً عن قول إبراهيم والذين معه، حين فارقوا قومهم وتبرأوا منهم، فقالوا :﴿ رَّبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ المصير ﴾ أي توكلنا عليك في جميع الأمور، وسلمنا أمورنا إليك وفوضناها إليك، وإليك المصير أي المعاد في الدار الآخرة ﴿ رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ ﴾ قال مجاهد : معناه لا تعذبنا بأيديهم ولا بعذاب من عندك، فيقولوا : لو كان هؤلاء على حق ما أصابهم هذا، وقال قتادة : لا تظهرهم علينا فيفتنوا بذلك، يرون أنهم إنما ظهروا علينا لحق هم عليه، واختاره ابن جرير وقال ابن عباس : لا تسلطهم علينا فيفتنونا، وقوله تعالى :﴿ واغفر لَنَا رَبَّنَآ إِنَّكَ أَنتَ العزيز الحكيم ﴾ أي واستر ذنوبنا عن غيرك، واعف عنها فيما بيننا وبينك ﴿ إِنَّكَ أَنتَ العزيز ﴾ أي الذي لا يضام من لاذ بجنابك، ﴿ الحكيم ﴾ في أقوالك وأفعالك وشرعك وقدرك، ثم قال تعالى :﴿ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو الله واليوم الآخر ﴾، وهذا تأكيد لما تقدم، وقوله تعالى :﴿ لِّمَن كَانَ يَرْجُو الله واليوم الآخر ﴾ تهييج إلى ذلك لكل مؤمن بالله والمعاد، وقوله تعالى :﴿ وَمَن يَتَوَلَّ ﴾ أي عما أمر الله به، ﴿ فَإِنَّ الله هُوَ الغني الحميد ﴾، كقوله تعالى :﴿ إِن تكفروا أَنتُمْ وَمَن فِي الأرض جَمِيعاً فَإِنَّ الله لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ ﴾ [ إبراهيم : ٨ ]، وقال ابن عباس :﴿ الغني ﴾ الذي قد كمل في غناه، وهو الله ليس كمثله شيء، و ﴿ الحميد ﴾ المستحمد إلى خلقه، أي هو المحمود في جميع أقواله وأفعاله، لا إله غيره ولا رب سواه.
يقول تعالى لعباده المؤمنين بعد أن أمرهم بعداوة الكافرين :﴿ عَسَى الله أَن يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الذين عَادَيْتُم مِّنْهُم مَّوَدَّةً ﴾ أي محبة بعد البغضة، ومودة بعد النفرة، وألفة بعد الفرقة، ﴿ والله قَدِيرٌ ﴾ أي على ما يشاء من الجمع بين الأشياء المتنافرة والمختلفة، فيؤلف بين القلوب بعد العداوة والقساوة، فتصبح مجتمعة متفقة، كما قال تعالى ممتناً على الأنصار ﴿ واذكروا نِعْمَتَ الله عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَآءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً ﴾ [ آل عمران : ١٠٣ ]، وكذا قال لهم النبي ﷺ :« ألم أجدكم ضلاّلاً فهداكم الله بي، وكنتم متفرقين فألفكم الله بي؟ »، وقال الله تعالى :﴿ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأرض جَمِيعاً مَّآ أَلَّفَتْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ ولكن الله أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴾ [ الأنفال : ٦٣ ]، وفي الحديث :« أحبب حبيبك هوناً ما، فعسى أن يكون بغيضك يوماً ما، وأبغض بغيضك هوناً ما فعسى أن يكون حبيبك يوماً ما ».
وقوله تعالى :﴿ والله غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴾ أي يغفر للكافرين كفرهم، إذال تابوا منه وأنابوا إلى ربهم وأسلموا له، وهو الغفور الرحيم بكل من تاب إليه من أي ذنب كان، وعن ابن شهاب « أن رسول الله ﷺ استعمل أبا سفيان صخر بن حرب على بعض اليمن، فلما قبض رسول الله ﷺ أقبل، فلقي ذا الخمار مترداً، فقاتله فكان أو من قاتل في الردة وجاهد عن الدين »، قال ابن شهاب : وهو ممن أنزل الله فيه :﴿ عَسَى الله أَن يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الذين عَادَيْتُم مِّنْهُم مَّوَدَّةً ﴾ الآية، وقوله تعالى :﴿ لاَّ يَنْهَاكُمُ الله عَنِ الذين لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدين وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وتقسطوا إِلَيْهِمْ ﴾، أي لا ينهاكم عن الإحسان إلى الكفرة، الذي لا يقاتلونكم في الدين كالنساء والضعفة منهم ﴿ أَن تَبَرُّوهُمْ ﴾ أي تحسنوا إليهم، ﴿ وتقسطوا إِلَيْهِمْ ﴾ أي تعدلوا، ﴿ إِنَّ الله يُحِبُّ المقسطين ﴾. عن أسماء بن أبي بكر رضي الله عنهما قالت :« قدمت أمي وهي مشركة في عهد قريش إذ عاهدوا، فأتيت النبي ﷺ فقلت : يا رسول الله إن أمي قدمت وهي راغبة أفأصلها؟ قال :» نعم صلي أُمك « » وقال الإمام أحمد حدثنا عارم، حدثنا عبد الله بن المبارك، حدثنا مصعب بن ثابت، حدثنا عن عبد الله بن الزبير قال :« قدمت قتيلة على ابنتها أسماء بنت أبي بكر بهدايا ضباب وقرظ وسمن وهي مشركة، فأبت أسماء أن تقبل هديتها وتدخلها بيتها، فسألت عائشة النبي ﷺ، فأنزل الله تعال :﴿ لاَّ يَنْهَاكُمُ الله عَنِ الذين لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدين ﴾ إلى آخر الآية، فأمرها أن تقبل هديتها وأن تدخلها بيتها »، وقوله تعالى :﴿ إِنَّ الله يُحِبُّ المقسطين ﴾ في الحديث الصحيح :« المقسطون على منابر من نور عن يمين العرش الذي يعدلون في حكمهم وأهاليهم وما ولوا » وقوله تعالى :﴿ إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ الله عَنِ الذين قَاتَلُوكُمْ فِي الدين وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُواْ على إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ ﴾ أي إنما ينهاكم عن موالاة هؤلاء الذين ناصبوكم بالعداوة، فقاتلوكم وأخرجوكم وعاونوا على إخراجكم، ينهاكم الله عزَّ وجلَّ عن موالاتهم ويأمركم بمعاداتهم، ثم أكد الوعدي على موالاتهم، فقال :﴿ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فأولئك هُمُ الظالمون ﴾، كقوله تعالى :﴿ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ الله لاَ يَهْدِي القوم الظالمين ﴾ [ المائدة : ٥١ ].
تقدم في سورة الفتح ذكر صلح الحُدَيبية، الذي وقع بين رسول الله ﷺ وبين كفار قريش، فكان فيه : على أن يأتيك منا أحد وإن كان على دينك إلاّ رددته إلينا، فعلى هذه الرواية تكون هذه الآية مخصّصة للسنة، وعلى طريقة بعض السلف ناسخة، فإن الله عزَّ وجلَّ أمر عباده المؤمنين إذا جاءهم النساء مهاجرات أن يمتحنوهن، فإن علموهن مؤمنات فلا يرجعوهن إلى الكفار ﴿ لاَ هُنَّ حِلٌّ لَّهُمْ وَلاَ هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ ﴾، وسبب النزول ما روي أنه لما هاجرت ( أُم كلثوم ) بنت عقبة بن أبي معيط، خرج أخواها ( عمارة ) و ( الوليد ) حتى قدما على رسول الله ﷺ فكلماه فيها أن يردها إليهما، فنقض الله العهد بينه وبين المشركين في النساء خاصة، فمنعهم أن يردوهن إلى المشركين وأنزل الله آية الامتحان، روى ابن جرير، عن أبي نصر الأسدي قال : سئل ابن عباس كيف كان امتحان رسول الله ﷺ النساء، قال : كان يمتحنهن بالله ما خرجت من بغض زوج، وبالله ما خرجت رغبة عن أرض إلى أرض، وبالله ما خرجت التماس دنيا، والله ما خرجت إلاّ حباً لله ولرسوله. وقال ابن عباس في قوله تعالى :﴿ ياأيها الذين آمَنُواْ إِذَا جَآءَكُمُ المؤمنات مُهَاجِرَاتٍ فامتحنوهن ﴾ كان امتحانهن أن يشهدن أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبد الله ورسوله، وقال مجاهد :﴿ فامتحنوهن ﴾ فاسألوهن عما جاء بهن، فإن كان جاء بهن غضب على أزواجهن أو سخطة أو غيره ولم يؤمنَّ فارجعوهن إلى أزواجهن، وقال عكرمة : يقال لها ما جاء بك إلاّ حب الله ورسوله، ما جاء بك عشق رجل منا، ولا فرار من زوجك، فلذلك قوله ﴿ فامتحنوهن ﴾، وقال قتادة : كانت محنتهن أن يستحلفن بالله ما أخرجكن النشوز، وما أخرجكن إلاّ حب الإسلام وأهله، وحرص عليه، فإذا قلن ذلك قبل ذلك منهن.
وقوله تعالى :﴿ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلاَ تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الكفار ﴾ فيه دلالة على أن الإيمان يمكن الاطلاع عليه يقيناً، وقوله تعالى :﴿ لاَ هُنَّ حِلٌّ لَّهُمْ وَلاَ هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ ﴾ هذه الآية هي التي حرمت المسلمات على المشركين، وقد كان جائزاً في ابتداء الإسلام أن يتزوج المشرك المؤمنة، ولهذا كان أمر ( أبي العاص بن الربيع ) زوج ابنة النبي ﷺ زينب رضي الله عنها، وقد كانت مسلمة وهو على دين قومه، فلما وقع في الأسارى يوم بدر بعثت امرأته زينب في فدائه بقلادة لها كانت لأمها خديجة، فلما رآها رسول الله ﷺ رقّ لها رقة شديدة وقال للمسلمين :« إن رأيتم أن تطلقوا لها أسيرها فافعلوا »
2537
ففعلوا فأطلقه رسول الله ﷺ على أن يبعث ابنته إليه، فوفى له بذلك، وصدقه فيما وعده، وبعثها إلى رسول الله ﷺ مع زيد بن حارثة رضي الله عنه، فأقامت بالمدينة من بعد وقعة بدر، وكانت سنة ( اثنتين ) إلى أن أسلم زوجها أبو العاص بن الربيع سنة ( ثمان ) فردها إليه بالنكاح الأول، ولم يحدث لها صداقاً؛ كما روى الإمام أحمد، عن ابن عباس أن رسول الله ﷺ رد ابنته زينب على أبي العاص، وكانت هجرتها قبل إسلامه بست سنين على النكاح، ولم يحدث شهادة ولا صداقاً. وروي أن رسول الله ﷺ رد ابنته على أبي العاص بن الربيع بمهر جديد ونكاح جديد. والذي عليه الأكثرون أنها متى انقضت العدة ولم يسلم انفسخ نكاحها منه، وقال آخرون : بل إذا انقضت الادة هي بالخيار إن شاءت أقامت على النكاح واستمرت، وإن شاءت فسخته وذهبت فتزوجت، وحملوا عليه حديث ابن عباس والله أعلم، وقوله تعالى :﴿ وَآتُوهُم مَّآ أَنفَقُواْ ﴾ يعني أزواج المهاجرات من المشركين ادفعوا إليهم الذي غرموه عليهن من الأصدقة، وقوله تعالى :﴿ وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَن تَنكِحُوهُنَّ إِذَآ آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ ﴾ يعني إذا أعطيتموهن أصدقتهن فأنكحوهن بشرطة، من انقضاء العدة والولي وغير ذلك.
وقوله تعالى :﴿ وَلاَ تُمْسِكُواْ بِعِصَمِ الكوافر ﴾ تحرم من الله عزَّ وجلَّ على عباده المؤمنين نكاح المشركات والاستمرار معهن، وفي الصحيح « أن رسول الله ﷺ لما عاهد كفار قريش يوم الحديبية جاءه نساء من المؤمنات فأنزل الله عزَّ وجلَّ :﴿ ياأيها الذين آمَنُواْ إِذَا جَآءَكُمُ المؤمنات مُهَاجِرَاتٍ ﴾ إلى قوله ﴿ وَلاَ تُمْسِكُواْ بِعِصَمِ الكوافر ﴾ فطلق عمر بن الخطاب يومئذٍ امرأتين تزوج أحداهما ( معاوية بن أبي سفيان ) والأُخْرَى ( صفوان بن أُمية ) »، وقال الزهري : أنزلت هذه الآية على رسول الله ﷺ وهو بأسفل الحديبية. حين صالحهم على أنه من أتاه منهم رده إليهم، فلما جاء النساء نزلت هذه الآية، وأمره أن يرد الصداق إلى أزواجهن، وحكم على المشركين مثل ذلك إذا جاءتهم امرأة من المسلمين، أن يردوا الصداق إلى أزواجهن وقال :﴿ وَلاَ تُمْسِكُواْ بِعِصَمِ الكوافر ﴾ وإنما حكم الله بينهم بذلك لأجل ما كان بينهم وبينهم من العهد، وقوله تعالى :﴿ وَاسْأَلُواْ مَآ أَنفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُواْ مَآ أَنفَقُواْ ﴾ أي وطالبوا بما أنفقتم على أزواجكم، اللاتي يذهبن إلى الكفار إن ذهبن، وليطالبوا بما أنفقوا على أزواجهم اللاتي هاجرن إلى المسلمين، وقوله تعالى :﴿ ذَلِكُمْ حُكْمُ الله يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ ﴾ أي في الصلح واستثناء النساء منه، والأمر بهذا كله هو حكم الله يحكم به بين خلقه، ﴿ والله عَلِيمٌ حَكِيمٌ ﴾ أي عليم بما يصلح عباده حكيم في ذلك، ثم قال تعالى :﴿ وَإِن فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِّنْ أَزْوَاجِكُمْ إِلَى الكفار فَعَاقَبْتُمْ فَآتُواْ الذين ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُمْ مِّثْلَ مَآ أَنفَقُواْ ﴾ قال مجاهد وقتادة : هذا في الكفار الذين ليس لهم عهد، إذا فرت إليهم امرأة، ولم يدفعوا إلى زوجها شيئاً، فإذا جاءت منهم امرأة لا يدفع إلى زوجها شيء، حتى يدفع إلى زوج الذاهبة إليهم مثل نفقته عليها، وقال ابن عباس في هذه الآية : يعني إن لحقت امرأة رجل من المهاجرين بالكفار، أمر له رسول الله ﷺ أنه يعطي مثل ما أنفق من الغنيمة، وهكذا قال مجاهد ﴿ فَعَاقَبْتُمْ ﴾ أصبتم غنيمة من قريش أو غيرهم ﴿ فَآتُواْ الذين ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُمْ مِّثْلَ مَآ أَنفَقُواْ ﴾ يعني مهر مثلها، وهذا لا ينافي الأول، لأنه إن أمكن الأول فهو الأولى، وإلاّ فمن الغنائم اللاتي تؤخذ من أيدي الكفار، وهذا أوسع، وهو اختيار ابن جرير.
2538
روى البخاري، عن عروة أن عائشة زوج النبي ﷺ أخبرته أن رسول الله صل الله عليه وسلم كان يمتحن من هاجر إليه من المؤمنات بهذه الآية :﴿ ياأيها النبي إِذَا جَآءَكَ المؤمنات يُبَايِعْنَكَ ﴾ إلى قوله ﴿ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴾، قال عروة، قالت عائشة :« فمن أقر بهذا الشرط من المؤمنات قال لها رسول الله ﷺ :» قد بايعتك « كلاماً، ولا الله ما مست يده يد امرأة في المبايعة قط، ما يبايعهن إلاّ بقوله :» قد بايعتك على ذلك « » هذا لفظ البخاري.
وروى الإمام أحمد، عن أُميمة بنت رقيقة قالت :« أتيت رسول الله ﷺ في نساء لنبايعه، فأخذ علينا ما في القرآن ﴿ أَن لاَّ يُشْرِكْنَ بالله شَيْئاً ﴾ الآية، وقال :» فما استطعتن وأطقتن «، قلنا الله ورسوله أرحم بنا من أنفسنا، قلنا : يا رسول الله ألا تصافحنا؟ قال :» إني لا أصافح النساء إنما قولي لا مرأة واحدة قولي لمائة امرأة « » وعن ( سلمى بنت قيس ) وكانت إحدى خالات رسول الله ﷺ وقد صلت معه القبلتين، قالت :« جئت رسول الله ﷺ. نبايعه في نسوة من الأنصار، فلما شرط علينا ألا نشرك بالله شيئاً ولا نسرق ولا نزني، ولا نقتل أولادنا، ولا نأتي ببهتان نفتريه بين أيدينا وأرجلنا، ولا نعصيه، في معروف، قال :» ولا تغششن أزواجكن « قالت : فبايعناه، ثم انصرفنا، فقلت لامرأة منهن : ارجعي فسلي رسول الله ﷺ : ما غش أزواجنا؟ قال، فسألته فقال :» تأخذ ماله فتاحبي به غيره « وقال الإمام أحمد، عن عائشة بنت قدامة يعني ابن مظعون قالت :» أنا مع أمي رائطة ابنة سفيان الخزاعية والنبي ﷺ يبايع النسوة ويقول :« أبايعكن على أن لا تشركن بالله شيئاً، ولا تسرقن ولا تزنين ولا تقتلن أولادكن، ولا تأتين ببهتان تفترينه بين أيديكن وأرجلكن، ولا تعصينيي في معروف قلن نعم فيما استطعتن » فكن يقلن وأقول معهن وأمي تقول لي : أي بنية نعم، فكنت أقول كما يقلن « وقال البخاري، عن أُم عطية قالت :» بايعنا رسول الله ﷺ فقرأ علينا ﴿ أَن لاَّ يُشْرِكْنَ بالله شَيْئاً ﴾، ونهانا عن النياحة فقبضت امرأة يدها، قالت : أسعدتني فلانة، فأريد أن أجزيها، فما قال لها رسول الله ﷺ شيئاً، فانطلقت ورجعت فبايعها «، وفي رواية :» فما وفى منهم امرأة غيرها وغير أم سليم ابنة ملحان «.
2539
وقد كان رسول الله صلى الله عليه سلم يتعاهد النساء بهذه البيعة يوم العيد، كما روى البخاري، عن ابن عباس، قال :« شهدت الصلاة يوم الفطر مع رسول الله ﷺ وأبي بكر وعمر وعثمان، فكلهم يصليها قبل الخطبة ثم يخطب بعد، فنزل نبي الله ﷺ، فكأني أنظر إليه حين يجلس الرجل بيده، ثم أقبل يشقهم حتى أتى النساء مع بلال فقال :﴿ ياأيها النبي إِذَا جَآءَكَ المؤمنات يُبَايِعْنَكَ على أَن لاَّ يُشْرِكْنَ بالله شَيْئاً وَلاَ يَسْرِقْنَ وَلاَ يَزْنِينَ وَلاَ يَقْتُلْنَ أَوْلاَدَهُنَّ وَلاَ يَأْتِينَ ببهتان يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلاَ يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ ﴾ حتى فرغ من الآية كلها، ثم قال حين فرغ :» أنتن على ذلك؟ «، فقالت امرأة واحدة ولم يجبه غيرها : نعم يا رسول الله، لا يدري حسن من هي، قال : فتصدقن، قال : وبسط رسول الله ﷺ في مجلس فقال :» تبايعوني على أن لا تشركوا بالله شيئاً ولا تسرقوا ولا تزوا ولا تقتلوا أولادكم؟ قرأ الآية التي أخذت على النساء إذا جاءك المؤمنات فمن وفى منكم فأجره على الله، ومن أصاب من ذلك شيئاً فعوقب به فهو كفارة له، ومن أصاب من ذلك شيئاً فستره الله عليه فهو إلى الله إن شاء غفره له وإن شاء عذبه « وقد روى ابن جرير، عن ابن عباس » أن رسول الله ﷺ أمر عمر بن الخطاب فقال :« قل لهن إن رسول الله ﷺ يبايعكن على أن لا تشركن بالله شيئاً » وكانت ( هند بنت عتبة بن ربيعة ) التي شقت بطن حمزة متنكرة في النساء، فقالت هند وهي متنكرة، كيف تقبل من النساء شيئاً لم تقبله من الرجال؟ فنظر إليها رسول الله ﷺ وقال لعمر :« قل لهن :» ولا يسرقن «، قالت هند : والله إني لأصيب من أبي سفيان الهنات ما أدري أيحلهن لي أم لا، قال أبو سفيان : ما أصبت من شيء مضى أو قد بقي فهو لك حلال، فضحك رسول الله ﷺ، وعرفها، فقال :» ولا يزنين «، فقالت : يا رسول الله وهل تزني امرأة حرة، قال :» لا والله ما تزني الحرة « قال :» ولا يقتلن أولادهن «، قالت هند : أنت قتلتهم يوم بدر فأنت وهم أبصر، قال :﴿ وَلاَ يَأْتِينَ ببهتان يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ ﴾ قال :﴿ وَلاَ يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ ﴾ قال : منعهن أن ينحن، وكان أهل الجاهلية يمزقن الثياب، ويخدشن الوجوه، ويقطعن الشعور، ويدعون بالويل والثبور »، وقال مقاتل بن حيان :« أنزلت هذه الآية يوم الفتح، بايع رسول الله ﷺ الرجال على الصفا، وعمر بايع النساء يحلفهن عن رسول الله ﷺ، فذكر بقيته كما تقدم، وزاد : فلما قال :» ولا تقتلن أولادكن « قالت هند : ربيناهم صغاراً فقتلتوهم كباراً، فضحك عمر بن الخطاب حتى استلقى ».
2540
فقوله تعالى :﴿ ياأيها النبي إِذَا جَآءَكَ المؤمنات يُبَايِعْنَكَ ﴾ أي من جاءك منهن يبايع على هذه الشروط فبايعها، على أن لا يشركن بالله شيئاً، ولا يسرقن أموال الناس الأجانب، وقوله تعالى :﴿ وَلاَ يَزْنِينَ ﴾ كقوله تعالى :﴿ وَلاَ تَقْرَبُواْ الزنى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَآءَ سَبِيلاً ﴾ [ الإسراء : ٣٢ ]. وقال الإمام أحمد، عن عروة عن عائشة قالت :« جاءت ( فاطمة بن عتبة ) تبايع رسول الله ﷺ فأخذ عليها ﴿ أَن لاَّ يُشْرِكْنَ بالله شَيْئاً وَلاَ يَسْرِقْنَ وَلاَ يَزْنِينَ ﴾ الآية قال : فوضعت يدها على رأسها حياءً، فأعجبه ما رأى منها، فقالت عائشة : أقرّي أيتها المرأة، فوالله ما بايعنا إلاّ على هذا، قالت : فنعم إذاً، فبايعها بالآية » وقوله تعالى :﴿ وَلاَ يَقْتُلْنَ أَوْلاَدَهُنَّ ﴾ وهذا يشمل قتله بعد وجوده، كما كان أهل الجاهلية يقتلون أولادهم خشية الإملاق، ويعم قتله وهو جنين، كما قد يفعله بعض الجهلة من النساء، تطرح نفسها لئلا تحيل إما لغرض فاسد أو ما أشبهه، وقوله تعالى :﴿ وَلاَ يَأْتِينَ ببهتان يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ ﴾، قال ابن عباس : يعني لا يلحقن بأزواجهن غير أولادهم ويؤيد هذا الحديث الذي رواه أبو داود، عن أبي هريرة « أنه سمع رسول الله ﷺ يقول حين نزلت آية الملاعنة :» أيما امرأة أدخلت على قوم من ليس منهم فليست من الله في شيء ولن يدخلها الله الجنة، وأيما رجل جحد ولده وهو ينظر إليه احتجب الله منه وفضحه على رؤوس الأولين والآخرين « ».
وقوله تعالى :﴿ وَلاَ يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ ﴾ يعني فيما أمرتهن بهمن معروف، ونهيتهن عنه من منكر، عن ابن عباس قال : إنما هو شرط شرطه الله للنساء، وقال ابن زيد : أمر الله بطاعة رسوله وهو خيرة الله من خلقه في المعروف، وقد قال غير واحد : نهاهن يومئذٍ عن النوح، وعن الحسن قال كان فيما أخذ النبي ﷺ، ألا تحدثن الرجال إلاّ أن تكون ذات محرم، فإن الرجل لا يزال يحدث المرأة حتى يمذي بين فخذيه، وقال ابن جرير، عن أم عطية الأنصارية قالت :« كان فيما اشترط علينا رسول الله ﷺ من المعروف حين بايعناه أن لا ننوح، فقالت امرأة من بني فلان : إن بني فلان أسعدوني، فلا حتى أجزيهم، فانطلقت فأسعدتهم، ثم جاءت فبايعت، قالت : فما وفى منهن غيرها وغير أم سليم ابنة ملحان أم أنَس بن مالك » وعن امرأة من المبايعات قالت :
2541
« كان فيما أخذ علينا رسول الله ﷺ أن لا نعصيه في معروف أن لا نخمش وجهاً، ولا ننشر شعراً، ولا نشق جيباً ولا ندعو ويلاً » وروى ابن جرير عن أم عطية قالت :« لما قدم رسول الله ﷺ جمع نساء الأنصار في بيت، ثم أرسل إلينا عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقام على الباب وسلم علينا فرددن، أو فرددنا عليه السلام ثم قال : أنا رسول رسول الله صلى الله عليه سلم إليكن، فقالت، فقلنا : مرحباً برسول الله وبرسول رسول الله، فقال : تبايعن على أن لا تشركن بالله شيئاً ولا تسرقن ولا تزنين : قالت : فقلنا : نعم، قالت، فمد يده من خارج الباب أو البيت ومددنا أيدينا من داخل البيت ثم قال : اللهم اشهد، قالت : وأمرنا في العيدين أن نخرج فيه الحيض والعواتق ولا جمعة علينا، ونهى عن اتباع الجنائز »، قال إسماعيل : فسألت جدتي عن قوله تعالى :﴿ وَلاَ يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ ﴾ قالت : النياحة. وفي الصحيحين عن عبد الله بن مسعود قال، قال رسول الله ﷺ :« ليس منا من ضرب الخدود وشق الجيوب ودعا بدعوى الجاهلية » وعن أم سلمة عن رسول الله ﷺ في قول الله تعالى :﴿ وَلاَ يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ ﴾، قال : النوح.
2542
ينهى تبارك وتعالى عن موالاة الكافرين في آخر هذه السورة. كما نهى عنها في أولها فقال تعالى :﴿ ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ تَتَوَلَّوْاْ قوْماً غَضِبَ الله عَلَيْهِمْ ﴾ يعني اليهود والنصارى وسائر الكفار، ممن غضب الله عليه ولعنه، واستحق من الله الطرد والإبعاد، فكيف توالونهم وتتخذونهم أصدقاء وأخلاء ﴿ قَدْ يَئِسُواْ مِنَ الآخرة ﴾ أي من ثواب الآخرة ونعيمها في حكم الله عزَّ وجلَّ، وقوله تعالى :﴿ كَمَا يَئِسَ الكفار مِنْ أَصْحَابِ القبور ﴾ فيه قولان : أحدهما كما يئس الكفار الأحياء من قراباتهم، الذي في القبور أن يجتمعوا بهم بعد ذلك، لأنهم لا يعتقدون بعثاً ولا نشوراً، فقد انقطع رجاؤهم منهم فيما يعتقدونه، قال ابن عباس : يعني من مات من الذين كفروا، فقد يئس الأحياء من الذين كفروا أن يرجعوا إليهم أو يبعثهم الله عزَّ وجلَّ، وقال الحسن البصري : الكفار الأحياء قد يئسوا من الأموات، وقال قتادة : كما يئس الكفار أن يرجع إليهم أصحاب القبور الذين ماتوا. والقول الثاني : معناه كما يئس الكفار الذين هم في القبور من كل خير، قال ابن مسعود :﴿ كَمَا يَئِسَ الكفار مِنْ أَصْحَابِ القبور ﴾ قال : ما يئس هذا الكافر إذا مات وعاين ثوابه واطلع عليه، وهو اختيار ابن جرير رحمه الله.
Icon