تفسير سورة هود

الهداية الى بلوغ النهاية
تفسير سورة سورة هود من كتاب الهداية الى بلوغ النهاية المعروف بـالهداية الى بلوغ النهاية .
لمؤلفه مكي بن أبي طالب . المتوفي سنة 437 هـ

بسم الله الرحمن الرحيم

صلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم
سورة هود١. مكية٢
روى مسروق٣ عن أبي بكر الصديق ( رضي الله عنه )٤، أنه قال : قلت يا رسول الله ! لقد أسرع إليك الشيب، فقال : " شيبتني هود وأخواتها٥ : الواقعة، والمرسلات، وعم يتساءلون، وإذا الشمس كورت٦.
وروى عكرمة عن ابن عباس نحوه.
١ ط: صم..
٢ الجمهور: على أن السورة مكية، وهو قول ابن عباس في: ناسخ النحاس ١/٢١٠، وعزاه أيضا في الجامع ٩/٣ إلى الحسن، وعكرمة، وعطاء، وجابر. وفي المحرر ٩/١٠١: هي مكية إلا قوله تعالى: ﴿فلعلك تارك بعض ما يوحى إليك وضائق به صدرك﴾[١٢]، وقوله: ﴿أولئك يومنون به﴾[١٧] نزلت في ابن سلام، وأصحابه. وقوله: ﴿إن الحسنات يذهبن السيئات﴾[١١٤]: نزلت في شأن الثمار. وهذه الثلاثة مدنية. قاله مقاتل، على أن الأولى تشبه (المكي). وفي الجامع ٩/٣: عن ابن عباس، وقتادة: هي مكية إلا آية، وهي قوله: ﴿وأقم الصلاة طرفي النهار﴾[١١٤]..
٣ مسروق بن الأجدع، الغاية ١/٢٩٤..
٤ ساقط من ق..
٥ ق: وإخوتها..
٦ هذا الحديث تفرد بإخراجه الترمذي في جامعه: عن ابن عباس رضي الله عنه، في باب تفسير سورة الواقعة، حيث قال: (حديث حسن غريب) انظر: تحفة الأحوذي ٩/١٨٤..

قوله: ﴿الر﴾ قد تقدم الكلام عليها.
وقولهم: " قَرَأتُ هوداً ": من صرفه أراد به سورة هود، ومن لم يصرفه جعله اسماً للسورة.
ولو قلت: " قرأت الحمد (لله) ". فإنما جاز النصب: تُعْمِلُ الفعل فيه، وجاز الرفع على الحكاية.
فإن قلت: قرأتُ ﴿الحمد للَّهِ رَبِّ العالمين﴾ [الفاتحة: ٢، يونس: ١٠، الزمر: ٧٥، غافر: ٦٥]، حكاية لا غير، وكذلك ﴿بَرَآءَةٌ﴾ [التوبة: ١، القمر: ٤٣]، ترفع على الحكاية، وتنصب على العمل. وتنوِّنُ إذا أردت الحذف، ولا
3338
تصرف إذا جعلته اسماً للسورة.
فإن قلت: قرأتَ ﴿بَرَآءَةٌ مِّنَ الله وَرَسُولِهِ﴾ [التوبة: ١]، حكاية لا غير.
وتقول: قرأت " ألم البقرة ": فتنصِبُ على النعت لقولك: " ألم "، لأنه مفعول به بقراءةٍ، وإن شئت خفضتَ " البقرة "، وتقدّر إضافة " ألم " إليها.
فإن قلت: " قرأت: ﴿المص﴾ [الأعراف: ١]، و ﴿كهيعص﴾ [مريم: ١]، لم يجز الإعراب، لأنه ليس في الأسماء نظير لهذا. وكذلك ﴿المر﴾ [الرعد: ١]، و ﴿الر﴾ [١: هود، يوسف، إبراهيم، الحجر]، وكذا ﴿طه﴾ [طه: ١] لأنه في آخرها ألفاً.
3339
فإن قلت: ﴿طس﴾ [النمل: ١]، قلت هذا " طسين " يا هذا، فلا تصرف لأن هذا من نظيره هابيل، وقابيل.
فإن أردت الحكاية، أسكنت، وتقول هذه ﴿طسم﴾ [الشعراء: ١، القصص: ١] فتُعْرِبُ: إن شئت تجعل " طس " اسماً، و " ميم " اسماً، وتضم أحدهما إلى الآخر مثل: معدي كرب، فيجوز فتح الثاني ورفعه تجعل الإعراب في الآخر.
وأجاز سيبويه: مَعْدِي كرب على الإضافة، فيجوز على هذا، " طس ميم "، وتحسن الحكاية. فإن قلت: " قرأت ﴿حم﴾ [١: غافر، فصلت، الشورى، الزخرف] "، لم ينصرف لأنه مثل " هابيل ". وإن شئت أسكنت على الحكاية.
3340
فإن قلت قرأت ﴿حم* عسق﴾ [الشورى: ١ - ٢] لم يجز الإعراب، لأنه لا نظير له في الأسماء.
وتقول هذه ﴿ن﴾ [القلم: ١] فاعلم بأنها تُنَوَّن، وتُعْرَبُ " تريد سورة " نون ". وإن شئت جعلته اسماً للسورة، فلم تنونْ، وإن شئت أسكنت على الحكاية. وتقول: هذه السبح، فلا تصرف إذا جعلته اسماً للسورة، لأنه فعلٌ، وليس في الأسماء فعلٌ.
وإن شئت فتحتَ فَحَكَيْتَ على ما في السورة، فإن قلت هذه " سِبحْ " لم يجز إلا الإسكان تحكيه لأنه فيه ضمير، والجمل تحكى، وكذلك تحكي: قرأت: ﴿سَأَلَ سَآئِلٌ﴾ [المعارج: ١]، و ﴿يا أيها المدثر﴾ [المدثر: ١]، وقرأت ﴿والفجر﴾ [الفجر: ١] لأنه اسم وحرف.
3341
وتقول: قرأت ﴿اقتربت﴾ [القمر: ١] تقطع الألف، وتقف على الهاء، إذا جعلته اسماً للسورة / لأن تأنيث الأسماء في الوقف بالهاء، وألف الوصل في الأفعال تقطع إذا سمي بالأفعال. وإن شئت قلت: قرأت ﴿اقتربت﴾ فوصلت الألف ووقفت بالتاء، على الحكاية.
فإن قلت: قرأت ﴿اقتربت الساعة﴾ [القمر: ١]، لم يجز إلا الحكاية به ومثلُه:
﴿تَبَّتْ يَدَآ أَبِي لَهَبٍ﴾ [المسد: ١]، فإن أفردت بالهاء، وجعلتهُ اسماً للسورة قلت: قرأت " تبَّت "، تقِفُ على الهاء.
قوله: ﴿كِتَابٌ أُحْكِمَتْ - آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ﴾ - إلى قوله - ﴿على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾.
المعنى: هذا الكتاب الذي أنزلناه ﴿أُحْكِمَتْ - آيَاتُهُ﴾: أي: بالأمر والنهي، ﴿ثُمَّ فُصِّلَتْ﴾ بالثواب، والعقاب. قاله الحسن. وعنه ﴿ثُمَّ فُصِّلَتْ﴾ أي:
3342
الوعد، والوعيد.
وعنه أيضاً: ﴿أُحْكِمَتْ﴾ أي: بالثواب والعقاب ﴿ثُمَّ فُصِّلَتْ﴾ بالأمر، والنهي.
وقال قتادة: أحكمها الله تعالى، من الباطل، ثم فصلها، وبيَّنَ الحلال، والحرام.
وقال مجاهد: ﴿أُحْكِمَتْ﴾: لم ينسخها شيء.
﴿ثُمَّ فُصِّلَتْ﴾ نزلت شيئاً بعد شيء. وقيل: ﴿فُصِّلَتْ﴾: فُسِّرت وبيِّنت: قاله مجاهد، وابن جريج.
﴿مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ﴾: أي: من عند حكيم في أفعاله، خبير بجميع الأشياء، وبمصالح عباده.
وقيل: أحكمت عن أن يدخل فيها الفساد. يقال: أَحْكَمَتْهُ الآيات.
3343
وحكمته لغتان: أي: مَنَعْنَهُ، ومنه حَكَمت اللجام لأنها تمنع الفرس الجماح. وأصله كله من إحكام الشيء، وهو: إبرامه، وإتقانه، عن أن يفسده شيء.
والوقف على ﴿الر﴾ حسن إلا قول من جعله مبتدأه وكتاب خبره.
ثم قال تعالى: ﴿أَلاَّ تعبدوا إِلاَّ الله﴾ أي: فصلت من (أجل) ألا تعبدوا إلا الله تعالى.
ثم قال لنبيه: قل ﴿إِنَّنِي لَكُمْ مِّنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ﴾: أيها الناس. والابتداء بـ " إنني " حسن، ثم قال تعالى: ﴿وَأَنِ استغفروا رَبَّكُمْ﴾. رداً على ﴿أَلاَّ تعبدوا﴾: أي: استغفروه من عبادة الأصنام ﴿ثُمَّ توبوا إِلَيْهِ﴾: من عبادة الأصنام، أي: ارجعوا، ﴿يُمَتِّعْكُمْ مَّتَاعاً حَسَناً﴾ أي: ينسئ في آجالهم إلى الوقت الذي يشاء، ويرزقكم من زينة الدنيا. وأصل الإمتاع: الإطالة. ثم قال: ﴿وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ﴾: أي: يثيب من تفضل بفضل ماله، أو قوته، أو
3344
كلام حسن، أو غير ذلك من وجوه الخير على غيره لوجه الله تعالى.
قال ابن مسعود: من عمل سيئة كتبت واحدة، ومن عمل حسنة كتبت عشراًَ، فذلك فضل الله، تعالى. قال: فإن عوقب بالسيئة في الدنيا زالت عنه، وإن لم يعاقب بها أخذ من الحسنات العشر واحدة، وبقيت له تسع حسنات.
ثم قال تعالى: ﴿وَإِن تَوَلَّوْاْ﴾: أي: عما دَعَوتهم إليه يا محمد من الاستغفار، والتوبة، فقل لهم: ﴿فإني أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ﴾: أي: إن تماديتم على كفركم.
وقال الطبري: المعنى: فإن توليتم، جعله ماضياً وهو على قراؤة البزي: " مستفعل "، لأنه يشدد / التاء.
ثم قال: ﴿إِلَى الله مَرْجِعُكُمْ﴾: أي: مردكم، ومصيركم، ﴿وَهُوَ على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾:
3345
أي: على إيحائكم بعد إماتتكم/ وعقابكم على كفركم. (" وقدير ": بمعنى قادر إلا أن " فعيلاً " أبْلغُ).
قوله: ﴿أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُواْ مِنْهُ﴾ إلى قوله: ﴿مُّبِينٍ﴾.
(ألا): استفتَاحُ كلام، و ﴿يَثْنُونَ﴾: من ثنيت، وهو فعل المنافقين، كانوا إذا مروا بالنبي يثني أحدهم صدره، ويطأطأ رأسه.
وقيل: نزلت فيما، كان المنافقون يبطلون من عداوة النبي، وبغضه، أعماع أن الله تعالى يعلم ما تنطوي عليهم صدورهم من ذلك، وإنْ غطوا عليه رؤوسهم بثيلبهم، ليستتروا، فهو يعلم ما في صدورهم في كل حال من أحوالهم.
يعني بالنافقين: كفار قريش، لا المنافقين من أهل المدينة. لأن السورة مكية.
3346
وقال مجاهد: ظنوا أن الله، تعالى لا يعلم ما في صدورهم.
وقال الحسن: جهلوا أمر الله تعالى.
ثم قال تعالى: ﴿أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ﴾ أي: ألا حين يلبسون ثيابهم في ظلمة الليل، في أجواف بيوتهم. يعلم ذلك الوقت سرهم وجهرهم.
﴿إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصدور﴾ وقيل: إن أحدهم كان يثني ظهره، ويستغشي ثوبه، وقيل: إنهم إنما كانوا يفعلون ذلك لئلاّ يسمعوا كتاب الله تعالى. قاله قتادة.
وقيل: إن هذا إخبار من الله ( تعالى) عن المنافقين، أنه يعلم ما تنطوي عليه صدورهم من الكفر.
وقال ابن زيد: " هذا حين يناجي بعضهم بعضاً ".
3347
وقرأ ابن عباس: " ينثوي " صدورهم على مثال " ينطوي. قال: كانوا لا يأتون النساء، ولا الغائط إلا وقد تغشوا ثيابهم كراهة أن يفضوا بفروجهم إلى السماء ".
وقيل: كان بعضهم ينحني على بعض ليُساره. وبلغ من جهلهم أنهم ظنوا أن ذلك يُحفى على الله سبحانه.
ورُويَ عن ابن عباس أيضاً أنه قرأ تنثوي.
وعنه أيضاً أنه قرأ: " تثنوني "، مثل: تَفْعوعِلُ. ومعناه: المبالغة مثل
3348
" احلَوْلى ": إذا بلغ الغاية في الحلاوة، والهاء في " منه " للنبي ﷺ، على القول الأول، وهي " إنه لله تعالى " على القول الثاني.
وعن ابن عباس: ألا حين يستغشون ثيابهم: " أي: يغطون رؤوسهم ".
والوقف عنج الأخفش، والفراء، وابن كيسان على ذات بالتاء، لأن هذا الاسم لا يستعمل إلا مضافاً. فصارت التاء في وسط الكلام. وعليه جماعة القراء. والوقف عند الكسائي بالهاء، وهو قول الجُرْمي، لأنه ثانية الأسماء، وهو اختيار أبي حاتم.
﴿لِيَسْتَخْفُواْ مِنْهُ﴾ وقف. ﴿وَمَا يُعْلِنُونَ﴾، وقف /.
ثم قال تعالى: ﴿وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأرض إِلاَّ عَلَى الله رِزْقُهَا﴾: أي: يتكفل بذلك حتى
3349
تموت. يعني: بدابة: كل ما دب، ودرج على وجه الأرض من إِنسيّ، أو جني، أو بهيمة، أو هامّة، والهامَّة كل ما يدُب سميت بذلك لأنها تهم، أي: تدب.
وقال الضحاك: والناس منهم.
ثم قال تعالى: ﴿وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا﴾: أي: حيث تستقر، وتأوي. ﴿وَمُسْتَوْدَعَهَا﴾: " حيث تموت " قاله ابن عباس.
وقال مجاهد: ﴿مُسْتَقَرَّهَا﴾ في الرحم، ﴿وَمُسْتَوْدَعَهَا﴾ في الصلب، مثل تلك التي في الأنعام، وهو قول الضحاك. وقد روي أيضاً هذا عن ابن عباس.
(وقيل: المستقر في الرحم، والمستودع: حيث تموت). كل ذلك
3350
﴿كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ﴾: أي: ظاهر لمن قرأه، قد أثبته الله، تعالى، قبل الخلق: وهذا توبيخٌ لمن أخبر عنه أنه يخفي ما في صدره عن الله، تعالى، ويظن أن الله سبحانه لا يعلمه، وكيف يكون آمن من قد أحصى جميع استقرار الحيوان، وموضع موته، وتكفل برزقه، وأثبت ذلك قبل خلقه. فمن كان يقدر على ذلك كيف يخفى عليه ما في صدور هؤلاء.
قوله: ﴿وَهُوَ الذي خَلَق السماوات والأرض فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ﴾ إلى قوله ﴿يَسْتَهْزِءُونَ﴾.
والمعنى: أن الذي إليه مرجعكم أيها الناس، هو الذي خلق السماوات والأرض ومن فيهن في ستة أيام، وهو قادر على أن يخلق ذلك في لحظة.
روى أبو هريرة رضي الله عنهـ، قال: " أخذ رسول الله ﷺ، بيدي، فقال: خلق الله تعالى التربة يوم السبت، وخلق الجبال فيها يوم الأحد، وخلق الشجر فيها يوم الاثنين، وخلق المكروه يوم الثلاثاء، وخلق النور فيها يوم الأربعاء، وبث فيها الدواب يوم الخميس، وخلق آدم بعد العصر من يوم الجمعة في آخر ساعات الجمعة ".
3351
قال كعب: جعل الله تعالى، الدنيا مكان كل يوم من الستة الأيام ألف سنة ".
وقال الضحاك: ﴿فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ﴾ من أيام الآخرة، كل يوم مقدار ألف سنة، ابتدأ في الخلق يوم الأحد، واجتمع الخلق يوم الجمعة، فسميت الجمعة لذلك. ولم يخلق يوم السبت شيئاً.
وقوله: ﴿وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى المآء﴾: أي: قبل خلق السماوات والأرض " وسئل النبي ﷺ، فقيل له: أين كان ربنا قبل أن يخلق السماوات والأرض؟ فقال: في عماء ".
- في بمعنى على عادة العرب، لأنها تبدّل حروف الجر، بعضها من بعض.
3352
العماء: السحاب الرقيق. ومن رواه مقصوراً فمعناه، والله أعلم، أنه كان وحده، وليس معه سواه. شبه عليه السلام العمى بالعماء توسعاً ومجازاً - (فوقه هواء، وتحته هواء، ثم خلق عرشه على الماء).
قال ابن عباس: كان الماء على متن الريح.
ثم قال تعالى: ﴿لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً﴾: أي: فعل ذلك ليختبركم أيكم أحسن عملاً له، وطاعة.
وروى ابن عمر عن النبي ﷺ: ﴿ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً﴾: أحسن عقلاً، وأورع عن
3353
محارم الله تعالى، وأسرع إلى طاعته.
قال ابن جريج: يعني بالاختبار الثقلين. والمعنى: ليختبركم الاختبار الذي تقع عليه المجازاة، وهو عالم بما يفعل الجميع قبل خلقهم. ولكن أراد الله تعالى، أن يظهر من الجميع ما يقع عليه الجزاء.
ثم قال تعالى لنبيه عليه السلام: ﴿وَلَئِن قُلْتَ إِنَّكُمْ مَّبْعُوثُونَ مِن بَعْدِ الموت﴾: أي: إن قلت لهم يا محمد: إنكم مبعوثون من بعد موتكم، وتجازون ليقولن الذين كفروا، ما هذا ﴿إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ﴾ أي: ما قولك إلا سحر ظاهر.
ومن قرأ (إلا ساحر)، فمعناه: ما هذا الذي يخبرنا بهذا إلا ساحر ظاهر.
ثم قال تعالى: ﴿وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ العذاب إلى أُمَّةٍ مَّعْدُودَةٍ﴾: أي: ولأن أخرنا يا محمد عن قومك العذاب إلى وقت معلوم عندنا معدود.
وقيل: المعنى: إلى مجيء أمة وانقراض أمة. وإنما سميت السنون أمة، لأن فيها
3354
تكون الأمة، وتنبتُ وتهلك. وأصل الأمة الجماعة.
ثم قال تعالى إخباراً عما علم منهم: إنهم يقولون: إذا أخرنا عنهم العذاب. ﴿لَّيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ أَلاَ يَوْمَ يَأْتِيهِم﴾: أي: ليقولن هؤلاء الكفار ما يحبه، أي: شيء يمنع الذعاب أن يأتي تكذيباً منهم به. قال الله تبارك وتعالى: ﴿أَلاَ يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفاً﴾ (أي: ليس يصرفه عنهم أحد إذا جاء وقته).
﴿وَحَاقَ بِهِم﴾: أي: نزل بهم وحل ﴿مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ﴾ وهو العذاب. وقيل: المعنى: وحل بهم عقاب استهزائهم بأنبيائهم.
قوله: ﴿وَلَئِنْ أَذَقْنَا الإنسان مِنَّا رَحْمَةً﴾ إلى قوله ﴿على كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ﴾.
المعنى: ولئن وسعنا للإنسان في رزقه وعيشه، ثم سلبنا ذلك منه.
3355
﴿إِنَّهُ لَيَئُوسٌ﴾: أي قنوط من الرحمة.
﴿إِنَّهُ لَيَئُوسٌ﴾: أي: " كفور لمن أنعم عليه، قليل الشكر ".
والإنسان هنا اسم للجنس، وقيل: هو للكفار خاصة.
ثم قال تعالى: ﴿وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَآءَ بَعْدَ ضَرَّآءَ مَسَّتْهُ﴾: أي: ولئن بسطنا له في الرزق والعيش، بعد ضيق في رزقه مسه منه ضرر ﴿لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السيئات عني﴾: أي: ذهب الضيق، والعسر عني. ﴿إِنَّهُ لَفَرِحٌ﴾: أي: مرح، لا يشكر، ﴿فَخُورٌ﴾: أي يفخر بما ناله من السعة في رزقه، فينسى صروف الدنيا، وعوارضها غرَّة منه وجرأة. ﴿الله لاَ يُحِبُّ الفرحين﴾ [القصص: ٧٦]: وهذا كله من صفة الكافر.
وقد قرأ بعض أهل المدينة " لَفَرَحٌ " بضم الرَّاء، وهي لغة، كما يقال:
3356
رجل قطِرٌ وقُطُرٌ وحذَر وحذُرٌ. ثم استثنى. تعالى ذكره من هؤلاء قوماً ليسوا على هذه الصفة فقال: ﴿إِلاَّ الذين صَبَرُواْ﴾ أي: على الضيق والعسر وحمدوا الله على ما نالهم.
﴿وَعَمِلُواْ الصالحات﴾: أي: الأعمال التي هي طاعات.
﴿أولئك لَهُمْ مَّغْفِرَةٌ﴾: أي: من الله: أي: لهم مغفرة لذنوبهم، فلا يفضحهم في معادهم.
﴿وَأَجْرٌ كَبِيرٌ﴾: أي: ثواب عظيم على أعمالهم، وهو الجنة.
وقوله: ﴿إِلاَّ الذين﴾ هو استثناء ليس من الأول عند الأخفش بمعنى: " لكن ". فهذا في المؤمنين، والأول / في الكافرين فهما جنسان ونوعان.
وقال الفراء: هو استثناء من أذقناه، لأن الإنسان بمعنى الناس، فهو من الأول.
ثم قال تعالى لنبيه عليه السلام: ﴿فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يوحى إِلَيْكَ﴾ أي: فلعلك تتْرك بعض ما يوحى إليك يا محمد، فلا تُبلغه لمن أمرت أن تبلغه إياه.
3357
﴿وَضَآئِقٌ بِهِ صَدْرُكَ﴾ أي: وضائق بما يوحى إليك صدرك، فلا تبلغهم إياه مخافة أن يقولوا: فهلا ﴿أُنزِلَ عَلَيْهِ كَنزٌ﴾: من مال ﴿أَوْ جَآءَ مَعَهُ مَلَكٌ﴾ يصدقه فيما يقول، وينذر معه. إنما عليك يا محمد الإنذار. ﴿والله على كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ﴾: أي: لست يا محمد عليهم بوكيل. الله هو الوكيل عليهم، أي: هو القائك بمجازاتهم وأمورهم.
فالهاء في " به " تعود على " ما "، أو على " بعض "، أو على التبليغ، أو على التكذيب.
قوله: ﴿أَمْ يَقُولُونَ افتراه قُلْ فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ﴾ إلى قوله ﴿يَعْمَلُونَ﴾:
المعنى: أيقولون افتراه، أي: اختلق القرآن من عند نفسه. و " أَمْ " هنا هي المنقطعة التي هي بمعنى الألف قل لهم يا محمد ﴿فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ﴾: أي: مثل القرآن. ﴿مُفْتَرَيَاتٍ﴾: مختلفات، أي: مختلفات، أي: مفتعلات. كما زعمتم أني اختلقت
3358
القرآن، فاختلقوا أنتم أيضاً. إذ محال أن أقدر على ما لا تقدرون، لأنا أهل لسان واحد.
﴿وادعوا مَنِ استطعتم مِّن دُونِ الله﴾: أي: ادعوا للاختلاق والعون من شئتم إلا الله سبحانه ﴿إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ﴾: في قولكم إن محمداً ﷺ، افترى القرآن من عند نفسه.
ثم قال تعالى: ﴿فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ﴾: أي: إلم يستجب لكم أيها المشركون من (تدعون لأن يأتوا) بعشر سور مثل هذا القرآن ﴿مُفْتَرَيَاتٍ﴾ ولم تطيقوا أن تأتوا بذلك، ﴿فاعلموا أَنَّمَآ أُنزِلَ بِعِلْمِ الله﴾: أي: أيقنوا أن هذا القرآن أنزل على محمد بعلم الله، وألاَّ معبود إلا الله تعالى.
3359
وقيل: المعنى: فإلم يستجب لكم يا محمد هؤلاء المشركون في أن يأتوا بذلك ﴿فاعلموا﴾: أيها المشركون أنه إنما أنزل بعلم الله. وأتى بـ " لكم " لأن المراد النبي ﷺ، والمؤمنون.
وقيل: خوطب النبي ﷺ، بلفظ الجماعة كما يخاطب العظيم، والشريف. والنبي ﷺ، أشرف مَنْ على وجه الأرض.
﴿فَهَلْ أَنتُمْ مُّسْلِمُونَ﴾: أي: مذعنون بالطاعة، مُخْلصُون لله تعالى، العبادة.
ثم قال تعالى: ﴿مَن كَانَ يُرِيدُ الحياة الدنيا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا﴾. المعنى: من " كان يريد بعمله الحياة الدنيا وزينتها، نوف إليهم أجورهم فيها ".
﴿وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ﴾: هذا للكافر، فأما المؤمن فيجازى بحسناته في
3360
الدنيا، ويثاب عليها في الآخرة.
وقيل: إن قوله: ﴿وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ﴾: يعني: في الآخرة لا يظلمون.
قال مجاهد: هي في أهل الرياء.
وقيل: المعنى: لئن كان يريد بغزوه الغنيمة وفي ذلك، ولم ينقص منه شيئاً.
وقال ابن عباس: نسختها ﴿مَّن كَانَ يُرِيدُ العاجلة عَجَّلْنَا (لَهُ) فِيهَا مَا نَشَآءُ / لِمَن نُّرِيدُ﴾ [الإسراء: ١٧]. وهذا مردود، لأنه خبرٌ، والأخبار لا ننسخ.
روى أبو هريرة أن النبي ﷺ، قال: " إن الله جل ثناؤه، إذا كان يوم القيامة نزل إلى العباد ليقضي بينهم، وكل أمة جاثية. فأول من يدعى به: رجل جمع القرآن،
3361
ورجل قتل في سبيل الله، ورجل كثير المال. فيقول الله تعالى، للقارئ: ألم أعلمك ما أنزلت على رسولي؟ قال: بلى، يا رب. قال فما عَمِلتَ فما علِمْت؟ قال: كنت اقرأ آناء الليل، وآناء النهار (ابتغاء وجهك)، فيقول الله، جلَّ ثناؤه: " كذبت، وتقول له الملائكة: كذبت، ويقول الله تعالى: أردتَ أن يُقالَ: فلان " قارئ. فقد قيل ذلك. ويؤتى بصاحب المال، فيقول الله تعالى، له: ألم أوسع عليك حتى لم أدعك تحتاج إلى أحد؟ قال: بلى، يا رب، قال: فماذا عملت فيما أتيتك؟ قال: كنت اصِل الرحم، وأتصدق " ابتغاء وجهك ". فيقول الله تعالى له: كذبت، وتقول الملائكة له: كذبت، بل أردت أن يقال: فلان جواد. فقد قيل ذلك. ويؤتى بالذي قُتل في سبيل الله تعالى، فيقال له: فبماذا قتلت؟ فيقول: أمرت بالجهاد في سبيلك، فقاتلت حتى قتلت. فيقول الله، تعالى، له: كذبت، وتقول الملائكة له: كذبت. فيقول الله تعالى له: بل أردت أن يقال: فلان جريء، فقد قيل ذلك. ثم ضرب رسول الله ﷺ، على ركبتيَّ، فقال: يا أبا هريرة! أولئك الثلاثة أول خلق الله تُسَعَّر بهم النار يوم القيامة ".
3362
ثم قال تعالى: ﴿أولئك الذين لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخرة إِلاَّ النار وَحَبِطَ مَا صَنَعُواْ فِيهَا﴾: أي: في الدنيا، ومعنى حبط: ذهب، ﴿وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ﴾.
قوله: ﴿أَفَمَن كَانَ على بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِّنْهُ﴾ إلى قوله ﴿لاَ يُؤْمِنُونَ﴾.
والمعنى: أفمن كان على بينة من ربه كالذي يريد الحياة الدنيا وزينتها، وهو النبي ﷺ.
والهاء في " ربه " تعود عليه. قال ذلك قتادة، وعكرمة، والنخعي.
وقوله: ﴿وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ﴾: أي: ويتلو محمداً شاهدا منه، أي: من الله، وهو القرآن.
وقيل: المعنى: ويتلو القرآن شاهداً منه، أي: من محمد. وهو لسانه، أي: يقرأه: وهو قول الحسن، ومعمر.
ويجوز أن تكون الهاء في ويتلوه للبينة، لأنها بمعنى البيان.
3363
وقال ابن عباس: ﴿وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ﴾: هو جبريل عليه السلام، يتلو القرآن من عند الله تعالى، على محمد ﷺ.
وقال مجاهد: هو مَلَكٌ مع النبي ﷺ، يحفظه من عند الله، سبحانه.
وقيل: إن قوله ﴿أَفَمَن كَانَ على بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ﴾، يعني: به النبي ﷺ، والمؤمنين. ودلّ على ذلك قوله: ﴿أولئك يُؤْمِنُونَ بِهِ﴾.
وقيل: المعنى: ويتلوه شاهد من الله، تعالى، والشاهد: الإنجيل، ويتلوه القرآن بالتصديق.
﴿وَمِن قَبْلِهِ كِتَابُ موسى﴾، أي ومن قبل الإنجيل التوراة.
وقال الزجاج: المعنى: ويتلوه من قبله كتاب موسى، لأن النبي، ﷺ، موصوف في التوراة، والإنجيل.
3364
وحكى أبو حاتم: (ومن قبله كتابَ موسى) بالنصب، على العطف على الهاء في " يتلوه ". أي: ويتلو كتاب موسى جبريل، فهو من التلاوة التي هي القراءة، وكذلك قال ابن عباس، قال: (الشاهد): جبريل، و " منه " من الله تعالى. و " من قبله " تَلَى جبريل كتاب موسى على موسى ﷺ. ويجوز الرفع في ﴿كِتَابُ﴾ على هذا المعنى، كما تقول: رأيت أخاك، وأباك: أي: وأباك كذلك. فيكون المعنى: ومن قبله كتاب موسى كذلك: أي: تلاه جبريل على موسى، كما تلى على محمد عليهم السلام.
والمعنى: أفمن كان على هذه الحال، كمن هو في الضلالة، والعمى. واختار قوم أن يكون المعنى: أن الشاهد القرآن، يتلوه محمد، أي: بعده شاهداً له. ودل على ذلك قوله: ﴿وَمِن قَبْلِهِ كِتَابُ موسى﴾.
قال ابن عباس: الشاهد جبريل.
3365
قال مجاهد: الشاهد حافظ من الله تعالى، يحفظ محمداً: أي: ملك. فالهاء في " منه " تعود على الله، في هذين القولين.
وقيل: (الشاهد): لسان محمد ﷺ، والهاء تعود على محمدٍ. قاله الحسن.
وقيل: الشاهد هو إعجاز القرآن، والهاء في " منه " للقرآن. والهاء في ﴿يُؤْمِنُونَ بِهِ﴾ للقرآن.
وقيل: الشاهد هو إعجاز القرآن، والهاء في " منه " للقرآن والهاء في ﴿يُؤْمِنُونَ بِهِ﴾ للقرآن، وقيل: لمحمد ﷺ.
ثم قال تعالى: ﴿أولئك يُؤْمِنُونَ بِهِ﴾: أي: مَنْ هذه صفته، يؤمن بالقرآن، وإن كفر به هؤلاء الذين قالوا: إن محمداً افتراه.
ثم قال: ﴿وَمَن يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الأحزاب فالنار مَوْعِدُهُ﴾ " يعني: من مشركي العرب، وغيرهم، ممن يأتي بعدهم إلى يوم القيامة، من كفر بِمُحَمَّدٍ، فالنار موعده يهودياً، كان أو نصرانياً، أو غير ذلك.
3366
ثم قال: ﴿فَلاَ تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِّنْهُ﴾ هذا خطاب للنبي ﷺ، والمراد: أمته، ﴿إِنَّهُ الحق مِن رَّبِّكَ﴾، أي: القرآن حق من عند الله تعالى، فلا تكونوا أيها المؤمنون في شك من ذلك.
﴿ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يُؤْمِنُونَ﴾ أي: " لا يصدقون، بأن ذلك كذلك. ﴿شَاهِدٌ مِّنْهُ﴾: وقف عند نافع على معنى: ويتلوالقرآن شاهد من الله، وهو جبريل.
﴿يُؤْمِنُونَ بِهِ﴾: وقف، وكذلك: ﴿فالنار مَوْعِدُهُ﴾، وكذلك ﴿فَلاَ تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِّنْهُ﴾.
قوله: ﴿وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افترى عَلَى الله كَذِباً﴾ إلى قوله ﴿هُمُ الأخسرون﴾
والمعنى: من أعظم جرماً ممن اختلق على الله سبحانه، الكذب، أي: كذب بآياته، وحججه، وهو النبي ﷺ، وما جاء به.
3367
﴿أولئك يُعْرَضُونَ على رَبِّهِمْ﴾، يوم القيامة، فيسألهم عن أعمالهم في الدنيا.
قال ابن جريج: ذلك الكافر، والمنافق.
﴿وَيَقُولُ الأشهاد﴾: الذين شهدوا على أعمالهم، وحفظوها عليهم:
﴿هؤلاء الذين كَذَبُواْ على رَبِّهِمْ﴾ في الدنيا ﴿أَلاَ لَعْنَةُ الله عَلَى الظالمين﴾: أي: غضبه، وإبعاده من رحمته.
قال مجاهد: الأشهاد هنا: الملائكة الحفظة، وكذلك قال قتادة. وقال الضحاك: الأشهاد: الأنبياء، والرسل، صلوات الله عليهم، يقولون: هؤلاء الذين كذبوا بما جئنا به من عند ربنا.
ثم بين تعالى الظالمين مَنْ هُمْ فقال: ﴿الذين يَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ الله﴾: أي: يُزَيِّغون أن يدخلوا في الإيمان. ﴿وَيَبْغُونَهَا عِوَجاً﴾: أي: يلتمسون لسبيل الله تعالى، العوج والزيغ. وسبيل الله هو الإيمان به، وبما جاء من عنده، وهم مع ذلك
3368
" وَبِالآخِرَةِ هُمْ / كَافِرُونُ ": أي: جاحدون، لا يصدقون بالبعث، ﴿على رَبِّهِمْ﴾: وقف.
ثم قال تعالى: ﴿أولئك لَمْ يَكُونُواْ مُعْجِزِينَ فِي الأرض﴾ والمعنى: أولئك الذين هذه صفتهم، لم يكونوا معجزين ربهم، سبحانه، في الأرض بهرب، أو باستخفاء، إذا أراد عقابهم. ﴿وَمَا كَانَ لَهُمْ مِّن دُونِ الله مِنْ أَوْلِيَآءَ﴾: أي: ليس لهم من يمنعهم من الله تعالى، إذا أراد الانتقام منهم.
ثم قال تعالى: ﴿يُضَاعَفُ لَهُمُ العذاب مَا كَانُواْ يَسْتَطِيعُونَ السمع﴾ ولا يعقلون عن الله تعالى. ﴿ وَمَا كَانُواْ يُبْصِرُونَ﴾. ولا يهتدون إلى رشدهم. وقيل: إن المعنى يضاعف لهم العذاب أبداً: أي: وقت استطاعتهم السمع والبصر.
وقيل: إن " ما " للنفي، فيحسن الابتداء بها على هذا، ولا يحسن على القولين الأولين.
ومعنى النفي هنا أن الضمير في " يستطيعون "، و " يبصرون ": الأصنام، والنفي
3369
عنها: أي: لم تكن تسمع، ولا تبصر. وهذا التأويل مروي عن ابن عباس.
وقيل: المعنى: إن الضمير " لهم "، والنفي " عنهم ": أي: لم يكونوا ليسمعوا شيئاً ينفعهم من الإيمان، ولا يبصرونه، لأن الله، تعالى، حال بينهم وبين ذلك، لما سبق في علمه، فهو مثل قوله: ﴿يَحُولُ بَيْنَ المرء وَقَلْبِهِ﴾ [الأنفال: ٢٤]: بين الكافر والإيمان، وبين المؤمن والكافر. ومثله: ﴿وَلَوْ شِئْنَا لآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا﴾ [السجدة: ١٣]، ومثله ﴿وَلَوْ شَآءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأرض كُلُّهُمْ جَمِيعاً﴾ [يونس: ٩٩] بالله، تعالى. ختم على قلوبهم، وعلى أبصارهم بكفرهم. قال ذلك قتادة، فقال: فهم صمٌّ عن الحق، فما يسمعونه، بُكْمٌ، فما ينطقون به. عميٌ فلا يبصرون. وروي عن ابن عباس رضي الله عنهـ، إن المعنى: لا يستطيعون أن يسمعوا سماع منتفع بما يسمع، ولا يبصرون إبصار مُهتَدٍ، لاشتغالهم بالكفر.
3370
قال الزجاج: ذلك كان منهم لبغضهم النبي ﷺ، فلا يسمعون عنه، ويفهمون ما يقول.
قال الفراء: سبق لهم في اللوح المحفوظ أنه يضلهم.
قوله: ﴿أَوْلِيَآءَ﴾ وقف عند نافع، ﴿العذاب﴾: وقف إن جعلت " ما " نَفياً خاصة.
ثم قال تعالى: ﴿أولئك الذين خسروا أَنْفُسَهُمْ﴾ أي: غبنوا أنفسهم حظها كم رحمة الله تعالى.
﴿ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ﴾: أي: بَطُلَ كذبهم، وافراؤهم على الله، سبحانه.
ثم قال تعالى: ﴿لاَ جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الآخرة هُمُ الأخسرون﴾، و ﴿لاَ جَرَمَ﴾ عند سيبويه، والخليل بمعنى: حق. وأن في موضع رفع، وجيء بـ " لا " عند
3371
الخليل ليعلم أن المخاطل لم يُبتدأ به كلامه، وإنما خاطب غيره.
وقال الزجاج: لا هنا نفي لما ظنوا أنهم ينفعهم كأنه كان المعنى: لا ينفعهم ذلك.
﴿جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الآخرة﴾، أي: كسب ذلك الفعل لم الخُسْرَان، ف " أن " عنده في موضع نصب.
وقال الكسائي: المعنى: " لا صَدَّ "، ولا مَنْعَ عن أنهم ". فإنَّ في موضع نصب أيضاً، فحذف الخافض. وحُكِيَ: لاجَرَ " بغير ميم لغة ناسٍ من فُزَارة.
وحكى / الفراء: " لا ذَا جَرَمْ لغة لبني عامر.
وقال الفراء: هي كلمة كانت في الأصل، والله أعلم، بمنزلة: لا بد أنك قائم،
3372
ولا محالة أنك قائم، فكثرت حتى صارت منزلة " حقاً ".
تقول العرب: لا جرم لآتينك، ولا جرم لقد أحسنت إليك، وأصلها من جرمت، أي: كسبت الشيء.
وذكر ابن مجاهد عن بعض القراء، وهو حمزة: ولا جرم بالمد، وكان يأخذ به بمعنى الاية: حقٌّ أنَّ هؤلاء الذين هذه صفتهم، هم الأخسرون في الآخرة: باعوا منازلهم في الجنة، بمنازلهم في النار، وذلك هو الخسران المبين.
قوله: ﴿إِنَّ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات وأخبتوا إلى رَبِّهِمْ﴾ إلى قوله ﴿عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ﴾
معنى: أخبتوا، أنابوا، وقيل: معناه: اطمأنوا وقيل: خشعوا،
3373
وتواضعوا، وتضرعوا. والمعاني في ذلك متقاربة. وإلى: هنا بمعنى اللام، والمعنى: " لربهم " كما وقعت اللام بمعنى " إلى قوله ". أوحى لها: أي: إليها.
ثم قال تعالى: ﴿مَثَلُ الفريقين كالأعمى والأصم والبصير والسميع﴾ أي: مثل الكافر كالأعمى، والأصم، والمؤمن كالبصير، والسميع: فهذا مثل ضربه الله تعالى، للكافر والمؤمن، فالكافر أصم عن الحق، أعمى عن الهدى، لا يبصره، والمؤمن يبصر الهدى، ويسمع الحق، فينتفع به.
﴿هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً﴾ على اختلاف حاليهما. ومثل نصبه مصدر في موضع الحال. (مثلاً): وقف عند نافع.
ثم قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إلى قَوْمِهِ إِنَّي لَكُمْ﴾ من كسر " إني "،
3374
فالمعنى: فقال: إني: ومن فتح فَعَلَى تقدير حذف الجر.
والمعنى: أنذركم بأسه، وعقابه إن تماديتم على الكفر.
﴿مُّبِينٌ﴾: أي: أبين لم ما أرسلت به إليكم. ثم بين تعالى: بأي شيء أرسل، فقال: ﴿أَن لاَّ تعبدوا إِلاَّ الله إني أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ﴾ إن تماديتم على كفركم. ﴿إلى قَوْمِهِ﴾: وقف إن كسرت " إني "، وجعلت " ألا " تعبدوا متعلقاً بنذير.
قوله: ﴿فَقَالَ الملأ الذين كَفَرُواْ مِن قِوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلاَّ بَشَراً مِّثْلَنَا﴾ إلى قوله: ﴿قَوْماً تَجْهَلُونَ﴾:
المعنى: أنهم قالوا له: ما نواك إلا آدمياً مثلنا في الخلق، ثم قالوا: ﴿وَمَا نَرَاكَ اتبعك إِلاَّ الذين هُمْ أَرَاذِلُنَا﴾ أي: السفلة، دون الأكابر. وقيل: هم الفقراء، وقيل: هم الخسيسو
3375
الصناعات. وروي في الحديث أنهم كانوا حاكة، وحجامين. ولا يقال رجل أرذل، ولا امرأة رذلاء حتى تدخل الألف واللام، أو يضاف.
وقوله: ﴿بَادِيَ الرأي﴾ مَنْ همزه جعله من الابتداء، أي: ابتعوك ابتداء، ولو فكروا لم يتبعوك. ومن لم يهمز، جاز أن يكون على تخفيف الهمزة، وجاز أن يكون من بَدَا يَبْدو: إذا ظهر، أي: اتبعوك في ظاهر الرأي، وباطنهم على خلاف ذلك.
وقيل: المعنى: ابتعوك في ظاهر الرأي، ولو تدبروا لم يتبعوك.
3376
وقيل: المعنى: اتبعوك في ظاهر الرأي الذي ترى، وليس تدري باطنهم.
ونصبه عند الزجاج على حذف " في " أو على مثل: ﴿واختار موسى قَوْمَهُ﴾ [الأعراف: ١٥٥].
وقيل: المعنى: أنه نعت لمصدر محذوف، والمعنى " اتباعاً ظاهراً ".
ثم حكى الله تعالى، عنهم قالوا لمن آمن بنوح ﷺ: ﴿ وَمَا نرى لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ﴾ إذ آمنتم بنوح ﴿بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ﴾: أي: في دعوتكم أن الله تعالى، ابتعث نوحاً رسولاً. وهذا خطاب لنوح، لأنهم به كذبوا، فخرج الخطاب له مخرج خطاب الجميع.
قال نوح لقومه: ﴿ياقوم أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ على بَيِّنَةٍ مِّن ربي﴾: أي: على معرفة به، وعلم.
﴿وَآتَانِي رَحْمَةً مِّنْ عِندِهِ﴾: أي: رزقني التوفيق، والنبوءة، والحكمة، فآمنت، وأطعت.
3377
﴿فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ﴾: أي: عميت عليكم الرحمة، أي: خفيت، فلم تهتدوا لها.
والرحمة عند الفراء: الرسالة. ومن شدد فمعناه: " فَعَمَّها " الله عليكم، أي: خفاها. وفي قراءة عبد الله، وأُبَيّ: " فَعَمَّاهَا الله عليكم " وقد أجمع الجميع على التخفيف في " القصص "، ولا يجوز غيره.
ثم قال: ﴿أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنتُمْ لَهَا كَارِهُونَ﴾ أي: أنآخِذُكُمْ بالدخول في الإسلام على كره منكم، فنلزمكم ما لا تريدون.
يقول ﷺ: " لا تَفْعَل ذلك، بل نكل أمرهم إلى الله، سبحانه ".
3378
قال النحاس: ﴿أَنُلْزِمُكُمُوهَا﴾: أنجبها عليكم. وأنتم لها كارهون. وقيل: معنى ﴿أَنُلْزِمُكُمُوهَا﴾: هي شهادة أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له.
وقيل: الهاء في ﴿أَنُلْزِمُكُمُوهَا﴾ للرحمة. وقيل: للبينة.
ثم حكى الله عنه أنه قال: ﴿وياقوم لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالاً﴾: أي: لا آخذ منكم على نصحي إياكم، ودعائيَ لكم إلى الإيمان ﴿مَالاً﴾: ما أجري في ذلك إلا على الله، هو يجازيني ويثيبني. ﴿وَمَآ أَنَاْ بِطَارِدِ الذين آمنوا﴾: أي: لست أطردهم، ولا الذين آمنوا بي. وذلك أنهم سألوه أن يطردهم.
قال ابن جريج: قالوا: " إن أحببت أن نتبعك فاطردهم. فقال: لا أطردهم ملاقوا ربهم، فيجازي من طردهم وآذاهم، ويسألهم عن أعمالهم.
ثم قال لهم: ﴿ولكني أَرَاكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ﴾: أي: تجهلون ما يجب عليكم من
3379
حق الله.
وقوله: ﴿وياقوم مَن يَنصُرُنِي مِنَ الله إِن طَرَدتُّهُمْ - إلى قوله - وَمَآ أَنتُمْ بِمُعْجِزِينَ﴾:
والمعنى: من يمنعني من الله، إن هو عاقبني على طردي إياهم، وهم مؤمنون، وموحدون.
﴿أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ﴾ في قولكم، فتعلمون خطأه.
ثم قال لهم: ﴿وَلاَ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَآئِنُ الله﴾ هذا معطوف على قوله: (لا أسألكم)، والمعنى: لا أقول لكم: عندي خزائن الله التي لا يفنيها شيء، فتتبعوني عليها.
﴿وَلاَ أَعْلَمُ الغيب﴾: أي: ما خفي من سرائر الناس. فإن الله يعلم ذلك وحده.
﴿وَلاَ أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ﴾: فأكذب، ﴿وَلاَ أَقُولُ لِلَّذِينَ تزدري أَعْيُنُكُمْ لَن يُؤْتِيَهُمُ الله خَيْراً الله﴾،
3380
أي: للذين اتبعوني وآمنوا بي، فاستحقرتموهم، وقلتم، إنهم أراذلنا. " والخير هنا الإيمان بالله تعالى.
﴿ الله أَعْلَمُ بِمَا في أَنْفُسِهِمْ﴾: أي: في ضمائرهم، واعتقادهم، وإنما لي منهم ما ظهر. ﴿إني إِذاً لَّمِنَ الظالمين﴾: أي: إني ظالم، إن قلت لن يؤتيكم الله خيراً، وقضيت / على سرائرهم: نفى نوح ﷺ، جميع هذا عن نفسه لئلا يتبعوه على ذلك.
﴿قَالُواْ يانوح قَدْ جَادَلْتَنَا﴾: أي: " قد خاصمتنا، فأكثرت خصامنا ﴿فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَآ﴾: أي: بالعذاب، إن كنت صادقاً في قولك: إنك رسول (الله).
وقرأ ابن عباس رضي الله عنهـ: فأكثرت جَدَلَنا ". " والجدل " والجدال: المبالغة في الخصومة.
قال لهم نوح: إنما يأتيكم بالعذاب الله تعالى.
﴿ وَمَآ أَنتُمْ بِمُعْجِزِينَ﴾: أي: لستم ممن يعجزالله، سبحانه، إذ جاءكم عذابه
3381
هرباً، لأنكم في سلطانه حيثما كنتم.
قوله: ﴿وَلاَ يَنفَعُكُمْ نصحي إِنْ أَرَدْتُّ أَنْ أَنصَحَ لَكُمْ﴾ إلى قوله ﴿يَفْعَلُونَ﴾
والمعنى: وليس ينفعكم تحذيري إياكم عقوبة على كفركم. ﴿إِن كَانَ الله يُرِيدُ أَن يُغْوِيَكُمْ﴾ أي: يهلككم.
وقيل: معناه: يحييكم، وحكي عن بعض العرب أنها تقول: أصبح فلاناً غاوياً: أي: مريضاً.
وهذه الآية من أبْيَنِ آية في أن الأمر كله لله تعالى، يضل من يشاء، ويهدي من يشاء، لا مُعْقِب لحكمه يفعل ما يشاء.
وقد نالت المعتزلة: إن معنى: " أن يغويكم: أن يهلككم، وكذبوا على الله، سبحانه، وعلى لغة العرب: ولو كان الأمر كما قالوا، لكات معنى قوله: ﴿قَد تَّبَيَّنَ الرشد مِنَ الغي﴾ [البقرة: ٢٥٦]: من الهلاك، وهذا لا معنى له. إنما هو الضلال، الذي هو نقيض الرشد. ولكان معنى قوله: ﴿وعصىءَادَمُ رَبَّهُ فغوى﴾ [طه: ١٢١]: فهلك، ولم يهلك إنما ضل. ولكان معنى قوله: ﴿الذين أَغْوَيْنَآ أَغْوَيْنَاهُمْ﴾ [القصص: ٦٣] بمعنى الهلاك، ولا معنى لذلك، إنما هو
3382
بمعنى الضلال كُله. ولكان قوله: ﴿وَلأُغْوِيَنَّهُمْ﴾ [الحجر: ٣٩] بمعنى: لأهلِكَنَّهُم: وهذا لا يقوله أحد، ولا معنى له.
وقوله تعالى: ﴿فَسَوْفَ يَلْقَونَ غَيّاً﴾ [مريم: ٥٩] معناه: هلاكاً.
﴿هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾: أي: بعد الهلاك.
ثم قال تعالى: ﴿أَمْ يَقُولُونَ افتراه﴾: أي: أيقولون؟ وهذه " أم " المنقطعة بمعنى الألف، أي: اختلقَه. وهذا خطاب للنبي ﷺ. والمعنى أيقول قومك: اختلق هذا الخبر عن نوح عليه السلام، قل لهم: يا محمد! ﴿قُلْ إِنِ افتريته فَعَلَيَّ إِجْرَامِي﴾: أي: إثم جرمي، لا تؤاخذون به، ﴿وَأَنَاْ برياء﴾ من إثم جرمكم، ولا آخذ به. يقال: أجرم فلان: أي: كسب الإثم.
3383
وأجاز أبو إسحاق " أجرامي " بفتح الهمزة جمع جرم.
ثم قال تعالى: ﴿وَأُوحِيَ إلى نُوحٍ أَنَّهُ لَن يُؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ إِلاَّ مَن قَدْ آمَنَ﴾ والمعنى: إنه لما حّقَّ عليهم العذاب، أعلم أنه لم يؤمن أحد ممن بقي، ﴿فَلاَ تَبْتَئِسْ﴾: أي: لا تحزَنْ على فعلهم، وكفرهم، وذلك حين قال: ﴿رَّبِّ لاَ تَذَرْ عَلَى الأرض مِنَ الكافرين دَيَّاراً﴾ [نوح: ٢٦].
قوله: ﴿واصنع الفلك بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا﴾ إلى قوله: ﴿إِلاَّ قَلِيلٌ﴾.
والفلك: السفينة، يكون واحداً، وجمعاً.
قال ابن عباس: أوحي إليه: أن يصنع الفلك فلم يدر كيف يصنعها، فأوحي إليه أن يصنعها على مثال جُؤجؤ الطير. ومعنى: ﴿بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا﴾: أي: كما نأمرك.
3384
قال قتادة: / بعين الله، ووحيه.
(وقيل: بأعيننا: بحفظنا، وقيل: بعلمنا، وقيل: إن الملائكة كانت تريد ذلك).
وقيل: معنى: (بأعيننا ووحينا): أي: بتعليمنا كيف تصنعه.
وقوله: ﴿وَلاَ تُخَاطِبْنِي فِي الذين ظلموا﴾: أي: لا تسألني في العفو عنهم. قال ابن جريج: معناه: لا تراجعني.
ثم أعلمنا الله تعالى، أنه أخذ يصنع السفينة، وأن ﴿وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلأٌ مِّن قَوْمِهِ﴾ أي: جماعة، وكبراء ﴿سَخِرُواْ مِنْهُ﴾: أي: هزأوا به، يقولون له: أتحولت نجاراً بعد النبوءة؟ وتعمل السفينة في البر؟ فيقول لهم نوح: ﴿إِن تَسْخَرُواْ مِنَّا﴾ اليوم،
3385
﴿فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنكُمْ﴾ في الآخرة ﴿فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ﴾ إذا عاينتم العذاب ﴿مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ﴾ أي: من هو أحمد عاقبة منا، ومنكم.
و" من " تكون هنا خبراً، واستفهاماً، وتقريراً، إعرابها في الوجهين ظاهر. (وروت عائشة رضي الله عنها، أن النبي ﷺ، قال: " لو رحم الله (أحداً من قوم نوح) لرحم أم الصبي، كان نوح قد مكث في قومه ألف سنة إلا خمسين عاماً، يدعوهم إلى الله تعالى، حتى كان آخر زمانه غارس شجرة، فعظمت، وذهبت كل مذهب، ثم قطعها، ثم جعل يعمي سفينته. ويمرون، فيسألونه، فيقول: أعمل سفينة. فيسخرون منه، ويقولون: تعمل سفينة في البر، فكيف تجري؟ فيقول: سوف تعلمون. فلما فرغ منها، وفار التنور، وكثر الماء في السِّكَكِ، وخشيت أم الصبي عليه، وكانت تحبه حباً شديداً، فخرجت إلى الجبل، حتى بلغت ثلثي الجبل، فلما بلغها الماء، خرجت حتى استوت على الجبل، فلما بلغ الماء
3386
رقبتها، رفعته بيديها حتى ذهب بها الماء ".
قال قتادة: كان طول السفينة ثلاثمائة ذراع، وعرضها خمسون ذراعاً، وطولها في السماء ثلاثون ذراعاً، وبابها في عرضها.
وقال الحسن: كان طول السفينة ألف ذراع، ومائتي ذراع، وعرضها ستمائة ذراع.
وقال عكرمة: إنما طولها ثلاثمائة ذراع، وعرضها ورفعها ثلاثون ذراعاً.
وعن الحسن، ( رحمه الله عليه، أيضاً)؛ أنه قال: كان طولها ألف ذراع، في
3387
خمسمائة ذراع، وبابها في جنبها.
قال: أبو رجاء: كانت مطبقة.
وقيل: إنها كانت: ثلاث طبقات: طبقة فيها الدواب والوحوش، وطبقة فيها الإنس، وطبقة فيها الطير. فلما كثر أرْوَاتُ الدواب أوحى الله تعالى، إلى نوح: أن أغْمزْ ذنبَ الفيل، فغمزه. فوقع منه خنزير وخنزيرة، فأقبل على الروث. ثم إن الفأر وقع بحبل السفينة يقرضه، فأوحى الله إلى نوح أن اضرب بين عيني الأسد، فضرب، فخرج من منخره سنور وسنورة، فأقبل على الفأر.
3388
قال ابن عباس: قال الحواريون لعيسى عليه السلام: لو بعثت لنا رجلاً شهد السفينة، فحدثنا عنها، قال: فانطلق بهم عيسى عليه السلام، حتى أتى إلى كثيب من تراب، فأخذ كفاً من ذلك التراب بكفيه، فقال: أتدرون ما هذا قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: هذا / كعب حام بن نوح. قال: فضرب الكثيب بعصى، وقال: قم بإذن الله، فإذا هو قائم ينفض التراب عن رأسه، قد شاب، قال له عيسى: هكذا هلكتَ. قال: لا، ولكن مت، وأنا شاب، ولكنني ظننت أنها الساعة، فمن ثم: شبت. قال: حدثنا عن سفينة نوح قال: كان طولها ألف ذراع، ومائتي ذراع، وعرضها ستمائة ذراع. ثم حكى له طبقاتها، وما كان فيها، وقصة الأرواث، والفأر على ما تقدم ذكره. ثم قال له عيسى عليه السلام: كيف علم نوح أن البلاد قد غرقت؟ قال: بعث الغراب يأتيه بالخبر، فوجد جيبفةً فوقع عليها، فدعا عليه بالخوف، فلذلك لا يألف البيوت. قال: ثم بعث الحمامة، فجاءت بورق زيتون بمنقاريها، وطين برجليها. فعلم أن البلاد قد غرقت، فطوقها الخضرة في عنقها، ودعا أن تكون في أنس، وأمان، فمن ثم تألف البيوت.
وروى عبيد بن عمير الليثي: أنهم كانوا يخنقون نوحاً حتى يغشى عليه، فإذا فاق قال: اللهم أغفر لقومي، فإنهم لا يعلمون. حتى إذا تمادوا في المعصية، وتطاول عليه
3389
منهم الشأن، وعظيم البلاء، ولا يأتي قرن منهم إلا كان أخبث من صاحبه. يقولون: قد كان هذا مع آبائنا، وأجدادنا مجنوناً، ولا تقبل منه شيءاً. فشكا ذلك إلى الله، وقال كما قص الله سبحانه علينا: ﴿رَبِّ قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهَاراً * فَلَمْ يَزِدْهُمْ دعآئي إِلاَّ فِرَاراً﴾ [نوح: ٥ - ٦]- إلى آخر القصة - ثم قال: ﴿رَّبِّ لاَ تَذَرْ عَلَى الأرض مِنَ الكافرين دَيَّاراً﴾ [نوح: ٢٦]- إلى آخر القصة -. فأوحى الله تعالى، إليه: أن اصنع الفلك. وزعم أهل التوراة أن الله، سبحانه، أمره أن يجعل عوده من الساج، وأن يطليه بالقار، من داخل، ومن خارج، وأن يجعل طوله ثمانين ذراعاً، وعرضه خمسين ذراعاً، وطوله في السماء ثلاثين ذراعاً، وجعل الله تعالى، له فور التنور آية. فلما فار، حمل في الفلك من أمره الله، سبحانه، بنيه الثلاثة: سام، وحام، ويافث، ونساءهم، وستة أناس ممن كان آمن به. فكان جميعهم عشرة رجال. وتخلف عنه ابنه يام، وكان كافراً.
3390
قال ابن عباس: كان أول ما حمل نوح في الفلك الذرة، وآخر ما حمل الحمار. فلما دخل، وأدخل صدره، تعلق إبليس بذنبه، فلم تستقل رجلاه، فجعل نوح عليه السلام، يقول: ويحك! ادخل، فلا يستطيع الحمار الدخول. فقال: ويحك! (ادخل) وإن كان الشيطان معك.
فزل لسانه بالكلمة، فدخل الحمار، والشيطان. فقال له: نوح ﷺ: ما أدخلك عليَّ يا عدوَّ الله؟ قال: ألم تقل ادخل، وإن كان الشيطان معك. قال: اخرج عني يا عدو الله. قال: مالَكَ بُدٌّ من أن تحملني، فكان إبليس في ظهر الفلك. فكان بين إرسال الله تعالى، الماء، وبين أن احتمل الماء الفلك أربعون يوماً بلياليها، ودخل فيها لسبع عشرة ليلة مضت من الشهر، فلما دخل من كان معه / (انفتحت أبواب السماء بماء منهمر)، كما قال الله، وكانت السفينة مُسْمَرَّة بدُسُرٍ. والدُّسُر: مسامير الحديد، وقيل: مسامير من عود، بها يسمر اليوم مراكبهم أهل الحجاز، وأهل الهند، وما يلي ذلك. فلما جرت السفينة، قال نوح لابنه: ﴿اركب مَّعَنَا وَلاَ تَكُن مَّعَ الكافرين﴾ [هود: ٤٢]
3391
وكان قد أضمر الكفر، وظن أن الجبال تمنع من الماء، فقال: ﴿سآوي إلى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ المآء﴾ [هود: ٤٣]: أي: يمنعني، فقال له نوح: ﴿لاَ عَاصِمَ اليوم مِنْ أَمْرِ الله﴾ [هود: ٤٣]. فعلا الماء على الجبال خمسين ذراعاً. فهلك كل ما كات على وجه الأرض من الحيوان والأشجار ولم يبق إلا ما في السفينة. وكان بين أن أرسل الله الطوفان، وبين أن غاض الماء ستة أشهر، وعشر ليال.
قال عكرمة: " ركب في السفينة لعشر خَلَوْن من رجب، ﴿واستوت عَلَى الجودي﴾ [هود: ٤٤] لعشر خَلَون من المحرم. فذلك ستة أشهر ".
ومعنى: ﴿وَفَارَ التنور﴾: قيل: إنه انفجر الماء من وجه الأرض. التنور: وجه الأرض قاله ابن عباس، وعكرمة.
وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنهـ: هو تنوير الصبح، من قولهم: نور الصبح يُنَور، فكأنه قال: حتى جاء أمرنا، وطلع الفجر.
وقال قتادة: التنور أعلى الأرض، وأشرافها.
3392
وقال الحسن: التنور هو الذي يخبز فيه، كان من حجارة لِحَوَّاء. ثم صار إلى نوح، فقيل له: إذ رأيت الناء يفور من التنور، فاركب أنت وأصحابك.
وقال الشعبي. فار الماء في ناحية الكوفة.
وعن علي رضي الله عنهـ، أنه قال: فار التنور من مسجد الكوفة، وقال زيد بن حبيش: فار التنور من هذه الزاوية، وأشار إلى زاوية مسجد الكوفة اليمني من القبلة، التي عن يمين المصلى. وكان زيد يقصد إلى الصلاة في تلك الزاوية من مسجد الكوفة، وعن الحسن أيضاً أن التنور الموضع الذي يجتمع فيه الماء في السفينة. وعنابن عباس: أن التنور فار بالهند.
3393
ومعنى: ﴿مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثنين﴾ أي: من كل ذكر، وأنثى، والواحد: زوج، والزوجان ذكر، وأنثى من كل صنف، فمعنى من كل زوجين: من كل صنفين. وقيل الزوجان: الضربان الذكور، والإناث. وقيل: الزوجان: اللونان.
وقوله: ﴿وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ القول﴾: أي: واحمل أهلك، إلا من سبق إهلاكه، وهو بعض نساء نوح، كانت من الباقين: من الهالكين.
وقيل: هو ابنهُ الذي غرق. ﴿وَمَنْ آمَنَ﴾ أي: واحمل من آمن.
قال قتادة: كانوا ثمانية أنفس، خمسة بنين، وثلاث نسوة، فأصاب حام امرأته في السفينة. فدعا عليه نوح أن تغير نطفته. فجاء بالسودان.
3394
وقيل: كانوا عشرة سوى نسائهم: ستة ممن آمن، وثلاثة بنين، ونوح.
وعن ابن عباس: أنهم كانوا ثمانين رجلاً، غير النساء من غير أهله وروي أن الله جل ذكره، كان قد أعقم أرحام النساء، وأصلاب الرجال، قبل الغرق بأربعين سنة /، فلم يولد فيهم مولود، ولم يغرق إلا ابن أربعين، فما فوق ذلك.
قوله: ﴿وَأَهْلَكَ﴾: وقف عند أبي حاتم، وليس يوقف عند غيره، لأن بعده استثناء.
﴿وَمَنْ آمَنَ﴾: وقف عند نافع وغيره، ﴿إِلاَّ قَلِيلٌ﴾: وقف حسن.
3395
قوله: ﴿وَقَالَ اركبوا فِيهَا بِسْمِ الله مجراها﴾ - إلى قوله - ﴿فَكَانَ مِنَ المغرقين﴾
المعنى: فحملهم فيها، وقال: اركبوا فيها. ومن قرأ بضم الميم، فمعناه: بسم الله إجراؤها، وإرساؤها: ابتداء وخبر، ويجوز أن يكون في موضع نصب على الظرف، على معنى بسم الله، وقتَ إجرائها، وعند إرسائها. ويكون بسم الله كلاماً مكتفياً بنفسه كقول المبتدئ في عمل: بسم الله، فتكون الياء في موضع نصب على معنى ابتدأت بسم الله، أو في موضع رفع على معنى أبتدأ، أي: بسم الله. ﴿ومجراها﴾: ظرف كما تقول: زيد قائم خلفك. ومن فتح الميم فعلى هذا التقدير، إلا
3396
أنه يقدر في موضع الإجراء الجري. والمعنى: بالله إجراؤها، وبالله جَرْيُهَا، وبالله إرْساؤها.
وقال مجاهد، والجحدري، والعطاردي: " مجريها ومرسيها بالياء، وجعلوه نعتاً لله تعالى، أو في موضع رفع على إضمار مبتدأ.
وقال الضحاك وغيره: كان إذا قال: بسم الله جرت، وإذا قال: بسم الله رَسَت.
واختار " مجراها " بالفتح لقربه من قوله: وهي تجري بهم، ولم يقل تُجْري
3397
وخرجت " مرساها " بالضم على الإجماع ﴿إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾: أي: لساتر ذنوب من تاب إليه، رحيم به. ثم أخبر تعالى أنها تجري بهم في موج مثل الجبال، ثم قال: ﴿ونادى نُوحٌ ابنه وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ﴾ (أي: في معزل) عن دين نوح. وقيل: في معزل عن السفينة، وذلك أن نوحاً، صلوات الله عليه، لم يعلم بأنه كافر، لقوله ﴿وَلاَ تَكُن مَّعَ الكافرين﴾.
وقيل: إنه لم يكن ابنه، إنما كان ابن امرأته.
وحكى أبو حاتم أنه قرأ: " ونادى نوحَ ابنَه " بفتح الحاء، يريد " ابنها " ثم حذف الألف لخفتها، كما تحذف الواو من " ابنهُو ". وعن علي رضي الله عنهـ، أنه قرأ:
3398
"ابنها" بألف، لم يكن ابنه، إنما كان ابن رجل تزوجَها قبل نوح.
وعن الحسن رضي الله عنهـ، أنه قال: خانت نوحاً في الولد. والله تعالى يعيذ نبيه ﷺ، من ذلك إنما خانته في الدين، لا في الفراش.
قال ابن عباس: ما بَغَت امرأة نبي قطٌّ ".
ومن قرأ ﴿يابني اركب مَّعَنَا﴾ بالفتح، فزعم أبو حاتم أنه أرادَ: يا بَنياهُ، فحذف الهاء، لأنه يصل، وحذف الألف لدلالة الفتحة.
ولا يجوز عند سيبويه حذف الألف لخفتها، وليس مثل الواو.
وقال الزجاج: كان أصله " يا بنيَّ " بياءين كما تقول: يا غلاميَّ بالياء، فأبدل من
3399
الكسرة فتحة، ومن الباء ألفاً، ثم حذف الألف لسكونها، وسكون الراء بعدها من " اركب "، وكتبت على اللفظ. ومن كسر الياء، فعلى الأصل، لأن الكسرة تدل على الياء المحذوفة، ككسر الميم في " يا غلام! تعال ".
ثم قال تعالى إخباراً عن قول ابن نوح لنوح: ﴿سآوي إلى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ المآء﴾: أي: سأصير / إلى جبل يمنعني من الماء، قال له نوح: ﴿لاَ عَاصِمَ اليوم مِنْ أَمْرِ الله إِلاَّ مَن رَّحِمَ﴾: أي: إلا الراحم، أي: ليس يعصم إلا الله، أي: لا يمنع إلا الله الذي رَحِمنَا، فأنقذنا من الغرق، وقيل: " من " في موضع نصب استثناء، ليس من الأول، أي: لكن من رحم الله، فإنه معصوم.
وقيل: المعنى: إن عاصماً بمعنى معصوم، فيكون " من " أيضاً في موضع رفع لأنه لا معصوم من أمر الله إلا المرحوم على البدل من موضع معصوم،
3400
والاختيار: ان يكون عاصم على بابه و"من" في موضع رفع على البدل من عاصم.
والتقدير: لا يعصم اليوم من امر الله الا الله.
ثم قال تعالى: ﴿وَحَالَ بَيْنَهُمَا الموج﴾: أي: بين نوح، وابنه، فكان ابنه من المغرقين.
﴿مِنْ أَمْرِ الله﴾: وقف حسن، إن جعلت إلا من رحم الله استثناء، ليس من الأول، وليس من الأول، وليس بالبين لأنه لا بد للثاني أن يكون فيه سبب من الأول.
﴿إِلاَّ مَن رَّحِمَ﴾. وقف.
قوله: ﴿وَقِيلَ يا أرض ابلعي مَآءَكِ﴾ إلى قوله ﴿أَكُن مِّنَ الخاسرين﴾.
المعنى: يا أرض اشربي ما عليك من الماء.
﴿وياسمآء أَقْلِعِي﴾: لا تمطري. ﴿وَغِيضَ المآء﴾: أي: نَقُص جعل
3401
الله تعالى، في الأرض والسماء تمييزاً، وقيل: هو مجاز.
﴿وَقُضِيَ الأمر﴾: أي: بهلاكهم، ﴿واستوت عَلَى الجودي﴾: أي: استقرت السفينة على الجودي، وهو جبل بناحية الموصل، أو الجزيرة. ﴿وَقِيلَ بُعْداً﴾: أي: وقال الله بعداً.
وقيل: المعنى: وقال نوح ومن معه ﴿بُعْداً لِّلْقَوْمِ الظالمين﴾: أي: أبعدهم الله من رحمته.
وروي عن النبي ﷺ، أنه قال: ركب نوح السفينة في أول يوم من رجب، فصام هو ومن معه، وجرت السفينة ستة أشهر. فانتهى ذلك إلى المحرم، فأرست على الجودي يوم عاشوراء فصام نوح وأمر من معه من الوحش، فصاموا شكراً لله تعالى.
3402
وروي أن السفينة مرت بالبيت، فطافت به أسبوعاً.
وفي الجودي لغتان: تشديد الياء، وتخفيفها. فمن شدد جمعه على جوادي، ومن خفف جمع على جوادٍ، مثل جوارٍ.
(على الجودي): وقف عند أبي حاتم، وليس كذلك، لأن (وقيل): عطف على واستوت.
ثم قال تعالى: ﴿وَنَادَى نُوحٌ رَّبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابني مِنْ أَهْلِي﴾: أي: إنك وعدتني أن تنجيَ أهلي، وابني منهم.
3403
﴿وَإِنَّ وَعْدَكَ الحق﴾: أي: الذي لا خلف فيه، ﴿وَأَنتَ أَحْكَمُ الحاكمين﴾ أي: فاحكم لي (بأن تفي) بما وعدتني.
قال الله له: ﴿يانوح إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ﴾: أي: ليس من أهلك الذين وعدتك أن أنجيهم.
وقال الحسن: لم يكن ابنه، وكان يحلف أنه ما كان ابنه. فمعنى: ﴿لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ﴾: أي: ليس بابن لك، إنما هو ابن امرأته وقال عكرمة، هو ابنه، ولكن على غير دينه، وإنما وعده الله تعالى، أن ينجيَ أهله المؤمنين به. فمعنى ﴿لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ﴾: ليس من أهل دينك.
ثم قال تعالى: ﴿إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ﴾: أي: إن سؤالك يا نوح إياي أن أنجي مشركاً عملٌ منك غير صالح.
3404
وقيل: المعنى: إن الذي سألت أن أنجيه، ذو عمل صالح.
وقيل: المعنى: إن عماه غير صالح.
وعن ابن مسعود / أنه قرأ " إنه عمل صالح أن تَسْألني ما ليس لك به علم " ﴿فَلاَ تَسْئَلْنِ﴾، فتكون الهاء للمجهول، وخبر " عمل " محذوف دل عليه ﴿فَلاَ تَسْئَلْنِ﴾.
ومن قرأ: " عمل غير صالح "، فكذلك قرأ الكسائي. وفيه: حديث عن النبي ﷺ، أنه كذلك قرأ. ومعناه: ظاهر، كأنه قال: إنه كافر
3405
والمعنى: إن ابنك كافر، عمل عملاً غير صالح، مثل ﴿واعملوا صَالِحاً﴾ [المؤمنون: ٥٢، سبأ: ١١]، ومثل ﴿وَعَمِلَ صَالِحاً﴾ [البقرة: ٦٢، سبأ: ٣٧].
ثم قال تعالى: ﴿إني أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الجاهلين﴾ هذا تنبيه لنوح، ﷺ، لئلا يسأل عما طوي عنه علمه.
وقال ابن زيد: المعنى: إني أعظك أن تبلغ الجهالة بك، أن تظن أني لا أفي بوعد وعدتك، حتى تسألني ما ليس لك به علم. فاستقال نوح من سؤاله، واستعاذ من ذلك. وقال: ﴿رَبِّ إني أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلاَّ تَغْفِرْ لِي وترحمني أَكُن مِّنَ الخاسرين﴾: فاستغفر من زلته في مسألته، وهذا " يدل على أن الأنبياء (صلوات الله عليهم)، يذنبون ".
3406
ومعنى: ﴿مِّنَ الخاسرين﴾: أي: الذين خسروا رحمتك يوم القيامة. والمعنى: إني أسألك أن توفقني وتلطف بي، حتى لا أسألك (ما ليس لي به علم).
قوله: ﴿قِيلَ يانوح اهبط بِسَلاَمٍ مِّنَّا وَبَركَاتٍ عَلَيْكَ وعلى أُمَمٍ مِّمَّن مَّعَكَ﴾ - إلى قوله - ﴿مُجْرِمِينَ وَلاَ تَتَوَلَّوْاْ﴾
والمعنى: قال الله تعالى، يا نوح! اهبط من الفلك إلى الأرض سلامة، وبركات عليك، وعلى أمم ممن معك: أي: من ذرية من معك: أي: من ذرية من معك من ولدك، وولد من معك من المؤمنين الذين سبقت لهم السعادة قبل خلقهم.
ثم قال تعالى مخبراً عن الكافرين من ذرية من معه: ﴿وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِّنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾: فلذلك رفعت الأممُ ها هنا، ولا تخفض، لأنها ليست ممن بارك الله عليها، ودعا لها بالسلامة، و'نما هو بمنزلة: رأيت زيداً، وعَمْرو جالس.
ومعنى: ﴿سَنُمَتِّعُهُمْ﴾: أي: " سنرزقهم في الحياة الدنيا ما يمتعون به إلى أن
3407
يبلغوا آجالهم ".
﴿ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِّنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾: أي: في القيامة.
قال محمد بن كعب القرظي: دخل في هذا السلام والبركة، كل مؤمن؛ ومؤمنة إلى يوم القيامة. ودخل في هذا العذاب كل كافر، وكافرة إلى يوم القيامة.
ممن معك: وقف، وأجاز الفراء " وأمماً " ممن معك بالنصب على معنى ونمتع أمماً.
ثم قال تعالى: ﴿تِلْكَ مِنْ أَنْبَآءِ الغيب﴾ أي: تلك القصة، بمعنى: هذه القصة من الأخبار الغائبة عنك يا محمد، وعن قومك، لم تكونوا تعلمونها من قبل إخبارنا لكم، فإخبارك إياهم بهذا يدل على صدقك، ونبوتك لو عقلوا. (فاصبر): على
3408
قولهم، وعلى القيام بأمر الله تعالى، في التبليغ، وعلى ما تلقى منهم.
﴿إِنَّ العاقبة لِلْمُتَّقِينَ﴾ وهذا إشارة إلى القرآن. ()
ثم قال تعالى: ﴿وإلى عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً﴾: أي: وأرسلنا إلى عاد أخاهم هوداً. هو معطوف على قوله / ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً (إلى قَوْمِهِ)﴾ [هود: ٢٥] وسمي هود أخاهم، لأنه منهم، ومبين بلسانهم، وقيل: سمي بذلك لأنه منه ولد آدم، بشر مثلهم.
وعاد: قبيلة، وهو ابن أبيهم الأكبر، فلذلك قال أخوهم، وهو هود بن عبد الله بن عاد بن عادية بن عاد بن أرام بن الخالد بت عابر. قال لهم (هود): ﴿اعبدوا الله مَا لَكُمْ مِّنْ إله غَيْرُهُ﴾ إلا هو، ولا يستحق العبادة إلا هو.
3409
﴿إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ مُفْتَرُونَ﴾: أي: ما أنتم في اتخاذكم إلهاً غيره إلا كاذبون. ثم قال لهم: ﴿ياقوم لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً﴾: أي: ليس أسألكم على ما دعوتكم إليه، كم من إخلاص العبودية لله تعالى، أجراً، ما أجري في ذلك إلا على الله سبحانه، ﴿الذي فطرني﴾: أي: خلقني.
ثم قال: ﴿وياقوم استغفروا رَبَّكُمْ ثُمَّ توبوا إِلَيْهِ﴾: أي: سلوه المغفرة من عبادتكم غيره، ﴿ثُمَّ توبوا إِلَيْهِ﴾ من عبادة غيره. فإن فعلتم ذلك أرسل عليكم السماء مدراراً: أي: قطر السماء متتابعاً.
ومفعال للتكثير، وفيه معنى الكسب. ولذلك حذفت الهاء. وأكثر ما يأتي " مفعال " من " أفعلتُ "، وقد أتى هنا من " فعلت "، يقال: درّت تدرُّ وتدر، فهي مدرار.
ثم قال: ﴿وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إلى قُوَّتِكُمْ﴾: أي: " شدة إلى شدتكم " قاله مجاهد
3410
(إن أطعتم).
وقيل: إن النسل كان قد انقطع منهم سنتين، فقال لهم هود: إن آمنتم بالله، أحيا الله بلادكم، ورزقكم الولدان، فذلك القوة.
وقال أبو إسحاق: المعنى قوة في النعمة. وكانت مساكن عاد الرمال، ما بين الشام واليمن، وكانوا أهل زرع، وبساتين وعمارة، فلما أقاموا على كفرهم، وعبادة أصنامهم، ولم يُطيعوا هوداً أرسل الله تعالى، عليهم الريح، فكانت تدخل في أنوفهم، وتخرج من أدبارهم، وتقطعهم عضواً عضواً.
ثم قال لهم هود: ﴿وَلاَ تَتَوَلَّوْاْ مُجْرِمِينَ﴾: أي: لا تدبروا عني، وعن ما دعوتكم إليه كافرين.
وله: ﴿قَالُواْ ياهود مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بتاركي آلِهَتِنَا عَن قَوْلِكَ - إلى قوله - صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ﴾ والمعنى: ما جئتنا ببرهان على قولك، فنترك آلهتنا لقولك، وما نؤمن لك، فنصدقك بما جئتنا به. ما نقول ﴿إِلاَّ اعتراك بَعْضُ آلِهَتِنَا بسواء﴾: أي: أخذك خبل من عند بعض آلهتنا لطعنك عليها، وسبك لها: أي: جنون.
3411
قال لهم هود: ﴿إني أُشْهِدُ الله واشهدوا﴾ أنتم ﴿أَنِّي برياء مِّمَّا تُشْرِكُونَ * مِن دُونِهِ﴾: أي: من آلهتكم التي تعبدون من دون الله سبحانه. ﴿فَكِيدُونِي جَمِيعاً﴾: أي: احتالوا في كيدي، أنتم وآلهتكم التي تعبدون ثم لا تؤخروا ذلك عني.
﴿إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى الله رَبِّي وَرَبِّكُمْ﴾: أي: فوضت أمري إلى مالكي، ومَالِكِكُم. ﴿مَّا مِن دَآبَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَآ﴾: أي: ليس من شيء يدب على الأرض إلا والله تعالى، مالكه.
وخص ذكر الناصية دون سائر الأعضاء، لأن العرب تستعمل ذلك فيمن وصفته بالذلة والخضوع: تقول: ما ناصية فلان إلا بيدي: أي: هو مطيع لي أصرفه كيف أشاء.
وقيل: إنما خص ذكر الناصية، لأنهم كانوا إذا أسروا أسيراً، وأرادوا المَنَّ عليه، جَزُّوا ناصيته، ليعتدُّوا بذلك / فخراً، فخوطبوا بعادتهم.
3412
وكل ما فيه الروح يقال له: داب ودابة، فتدخل الهاء للمبالغة.
ثم قال: ﴿إِنَّ رَبِّي على صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ﴾ أي: على الحق. والصراط في اللغة: المنهاج الواضح.
قوله: ﴿فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ مَّآ أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ﴾ - إلى قوله - ﴿هُودٍ﴾.
والمعنى: إنّ هوداً قال لقومه: فإن أجبرتم على ما جعوتكم إليه، وأعرضت فقد أبلغتكم ما أمرت به، وقامت عليكم الحجة في تبليغي إياكم رسالة ربكم، فهو يهلككم، ثم يستخلف قوماً غيركم، توحدون، وتخلصون له العبادة.
﴿وَلاَ تَضُرُّونَهُ شَيْئاً﴾: أي: لا تقدرون على ضر إذا أراد هلاككم. وقيل: المعنى: ولا يضره هلاكم شيئاً.
﴿إِنَّ رَبِّي على كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ﴾: أي: ذ١وحفظ بخلقه.
ثم قال تعالى: ﴿وَلَمَّا جَآءَ أَمْرُنَا﴾ أي: العذاب للكفار. {نَجَّيْنَا هُوداً والذين آمَنُواْ
3413
مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِّنَّا}: أي: بفضل منا مما أصاب الكفار. ﴿وَنَجَّيْنَاهُمْ مِّنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ﴾: أي: يوم القيامة من عذاب جهنم، كما نجيناهم في الدنيا من عذاب الكفار.
ثم قال تعالى: ﴿وَتِلْكَ عَادٌ جَحَدُواْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْاْ رُسُلَهُ واتبعوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ﴾ أي: معاند لله تعالى، معارض بالخلاف. ﴿وَأُتْبِعُواْ فِي هذه الدنيا لَعْنَةً﴾: أي: غضباً من الله، وسخطاً، ويوم القيامة مثل ذلك.
﴿ألا إِنَّ عَاداً كَفَرُواْ رَبَّهُمْ أَلاَ بُعْداً لِّعَادٍ﴾: أي: أبعدهم الله، وإنما قال: ﴿وَعَصَوْاْ رُسُلَهُ﴾ بجمع، ولم يأتهم إلا رسول واحد، لأن من كفر ببني واحد، وعصاه فقد كفر بجميع الأنبياء، وعصاهمز وله في القرآن نظائر، قد مضت، ومنها ما يأتي بعد.
(يوم القيامة): وقف، (قوم هود): وقف.
3414
(" إكمال السفر الثالث من كتاب الهداية بحمد الله وعونه. وصلى الله على محمد نبيه وسلم تسليماً. يتلوه في السفر الرابع قوله) ".
قوله تعالى: ﴿وإلى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً قَالَ ياقوم اعبدوا الله﴾ إلى قوله ﴿مُرِيبٍ﴾:
ثمود: قبيلة، وصالح ابن أبيهم الأكبر. فلذلك قال أخوهم، وهو صالح بن عبيد بن جابر بن عبيد بن ثمود بن الخالد بن عابر. والمعنى: وأرسلنا إلى ثمود أخاهم صالحاً، فقال لهم: اعبدوا الله ليس لكم إلهٌ إلا هو، هو أنشأكم): أي: خلقكم من الأرض، يعني: أصلهم الذي هو آدم. خلق من طين من الأرض، ﴿واستعمركم﴾ أنتم (فيها): أي: أسكنكم فيها.
﴿فاستغفروه﴾: مما عبدتم من دونه. ﴿ثُمَّ توبوا إِلَيْهِ﴾: من عبادة الأوثان. ﴿إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُّجِيبٌ﴾ يسمع دعاءكم، وتوبتكم، واستغفاركم. ﴿مُّجِيبٌ﴾ لمن دعاه، وأخلص في التوبة.
﴿قَالُواْ ياصالح قَدْ كُنتَ فِينَا مَرْجُوّاً قَبْلَ هذا﴾، أي: كنا نرجو أن تكون فينا سيداً،
قبل قولك هذا الذي قلته لنا، إنه ليس لنا إلهٌ إلا الله. ﴿أَتَنْهَانَآ أَن نَّعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا﴾ من الآلهة. ﴿وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِّمَّا تَدْعُونَآ إِلَيْهِ﴾ من عبادة إله واحد ﴿مُرِيبٍ﴾: أي: متهم، من أربته، فأنا أربيه، إذاً فعلت فعلاً يوجب له التهمة.
قوله: ﴿قَالَ ياقوم أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ على بَيِّنَةً مِّن رَّبِّي وَآتَانِي مِنْهُ رَحْمَةً﴾ - إلى قوله - ﴿غَيْرُ مَكْذُوبٍ﴾.
المعنى: إن صالحاً قال لهم: إذ قالوا له: ﴿وَإِنَّنَا / تَدْعُونَآ إِلَيْهِ مُرِيبٍ لَفِي شَكٍّ مِّمَّا﴾
﴿ياقوم أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ على بَيِّنَةً مِّن رَّبِّي﴾: أي: على برهان، وحجة، قد علمت ذلك وأيقنته. ﴿وَآتَانِي مِنْهُ رَحْمَةً﴾: يعني النبوؤة والحكمة والإيمان.
﴿فَمَن يَنصُرُنِي مِنَ الله إِنْ عَصَيْتُهُ﴾: أي: من ينقذني من عذابه إن عصيته. ﴿فَمَا تَزِيدُونَنِي﴾ بعذركم أنكم تعبدون ما كان يعبد آباؤنا ﴿غَيْرَ تَخْسِيرٍ﴾: أي
3416
تخسرون حظوظكم من رحمة ربكم.
ثم قال: ﴿وياقوم هذه نَاقَةُ الله لَكُمْ آيَةً﴾: " آية: حال، والمعنى: انتبهوا إليها في هذه الحال.
﴿فَذَرُوهَا تَأْكُلْ في أَرْضِ الله﴾: أي: دعوها، ويذر ويدع لم يستعمل منها ماض. وأصل " يدع ": يَوْدِعْ، فحذفت الواو على الأصل، ثم فتحت العين من أجل حروف الحلق. وشابهت " يذر " " يدع " من أجل أنها لم ينطق منها بماض، ففتحت العين منها، مثل " ودع "، وبابهما جميعاً فَعَل يَفْعِل، ففتحت " يدع " لحرف الحلق، وفتحت " يذر " للمضارعة التي بينها وبين " يدع ". وإنما تفتح العين إذا كانت حرف حلق، أو كانت اللام حرف حلق، لأن الفتجة أًلها من الألف. فلما وقع بعدها حرف حلق جعلوا حركة ما قبله مما هو من مخرج الحروف، ليكون الحرف،
3417
والحركة من جنس واحد. وكذلك، إن كانت العين حرف حلق تفتح، لتكون حركته من الحرف الذي هو مثله، فتكون الحركة والحرف من جنس واحد أيضاً.
وإنما صارت الناقة آية، لأنهم طلبوا الله أن يخرج لهم من جبل لهم ناقة ويؤمنوا، فأخرجها لهم من ذلك الجبل بقدرة الله تعالى، فلم يؤمنوا، فقال لهم: دعوها ﴿تَأْكُلْ في أَرْضِ الله﴾ ليس على أحد منكم رزقها. ﴿وَلاَ تَمَسُّوهَا بسواء﴾: أي: لا تعقروها، فيأخذكم عذاب قريب: أي: قريب من عقرها. وقيل: المعنى: ﴿قَرِيبٌ﴾: غير بعيد فيهلككم. ﴿فَعَقَرُوهَا﴾، والمعنى: فكذبوه، فخالفوه، فعقروها. فقال لهم صالح: استمتعوا في دار الدنيا ثلاثة أيام، ثم يأتيكم العذاب فهو ﴿وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ﴾.
ويروى أن الناقة كانت أحسن ناقة في الأرض، حمراء عشراء، فوضعت فصيلاً، فكانت تغدو، فتشرب جميع الماء، ثم تغدوا عليهم، بمثله لبناً، فإذا انصرفت عنهم عَدَوْا إلى الماء، فاستقوا حاجتهم ليومين، فعقروها، فأخذهم العذاب.
3418
قال قتادة: لما أخبرهم صالح أن العذاب يأتيهم لبسوا الأنطاع، والأكسية.
وقيل لهم: آية ذلك أن تصفر ألوانكم أول يوم، ثم تحمر في اليوم الثاني، ثم تسود في اليوم الثالث.
وقال قتادة: لما عقروا الناقة ندموا، وقالوا: عليكم بالفصيل، فصعد الفصيل إلى الجبل. فلما كان اليوم الثالث استقبل القبلة، وقال: يا رب! أمِّي، فأرسلت الصيحة عليهم عند ذلك.
وكانمت منازلهم بالحجر بين المدينة والشام.
قوله: ﴿فَلَمَّا جَآءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا صَالِحاً والذين آمَنُواْ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِّنَّا﴾ - إلى قوله - ﴿لِّثَمُودَ﴾:
والمعنى: ولما جاء عذابنا نجينا صالحاً منه. ﴿والذين آمَنُواْ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِّنَّا﴾: أي: بنعمة، ﴿وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ﴾: أي: نجيناهم من هوان ذلك اليوم، وذلته.
ومن خفض ﴿يَوْمِئِذٍ﴾، أضاف إليه حرفاً واحداً بالإعراب، ومن
3419
نصب بناه مع " إذ " لإضافته إلى غير متمكن وهو إذ.
قال المبرد: من خفض قال: سير عليه يومئذ فرفع، ومن فتح فتح مع سير، وغيره لأنه مبني.
﴿إِنَّ رَبَّكَ هُوَ القوي﴾ أي: في بطشه إذا بطش ".
﴿العزيز﴾: أي: الذي لا يغلبه شيء.
وروى عمرو بن خارجة، عن النبي ﷺ، أنه قال: " كانت ثمود يوم صالح، أطال الله أعمارهم حتى جعل أحدهم يبني المسكن من المدر، فينهدم لطول حياته، فلما رأوا ذلك اتخذوا من الجبال بيوتاً، فنحتوها، وجوَّفُوها وكانوا في سعة من عيشهم فقالوا: يا صالح! ادعُ لنا ربك يخرج لنا آية تعلم أنك رسول الله. فدعا صالح
3420
ربه، فأخرج لهم الناقة، فكان شِرْبُها يوماً، وشربهم يوماً معلوماً. فإذا كان يومُ شِرْبِها، خلوا عنها، وعن الماء وحلبوها لبناً ملءَ كل إناءٍ، ووعاء، وسقاء، فأوحى الله، جلّ ذكره، إلى صالح: أن قومك سيعقرون الناقة، فقال لهم صالح ذلك، فقالوا: ما كنا لنفعل ذلك، فقال لهم: إلا تعقروها أنتم يوشك أن يولد فيكم مولود يعقرها. قالوا: ما علامة ذلك المولود؟ قال: فإنه غلام أشقر، أزرق، أصهب، أحمر. وكان في المدينة شيخان عزيزان منيعان، (وكان) لأحدهما ان يرغب له عن المناكح، وللآخر ابنة لا يجد لها كفؤاً. فجمع بينهما مجلس، فزوّج أحدهما ابنته لابن الآخر، فولد بينهما ذلك المولود. وكان في المدينة شيخان عزيزان منيعان، (وكان) لأحدهما ابن يرغب له عن المناكح، وللآخر ابنة لا يجد لها كفؤاً. فجمع بينهما مجلس، فزوّج أحدهما ابنته لابن الآخر، فولد بينهما ذلك المولود. وكان في المدينة ثمانية رهطٍ، يفسدون في الأرض، ولا يصلحون، فقال صالح لقومه: اختاروا ثماني نسوة، قوابل من القرية، واجعلوا معهن شُرَطاً، فكانوا يطوفون بالقربة، فإذا وجدوا امرأة تَلِدُ نظروا صفة ولدها إن كان ذكراً. فلما رأ] ْنَ ذلك المولود صرخن، وقلن: هذا الذي يريد رسول الله
3421
صالح. فأراده الشرط، فحال جداه بينهم وبينه، وقالا: لو أن صالحاً أراد هذا قتلناه. فكان شو مولود، فشب في سرعة، واجتمع الثمانية الذين يفسدون في الأرض، وفيهم الشيخان، فاستعملوا على أنفسهم (الغلام) لمنزلته، وشرفه. وكانوا تسعة، وكان صالح لا ينام معهم في القرية. كان ينام في مسجد له خارج القرية. فإذا أًبح أتاهم، فوعظهم، وذكرهم ".
وروى ابن جريج أن صالحاً أمر بقتل الولدان، فقتل أبناء ثمانية رهط. وكان لهم صاحبٌ ترك ابنه فكبر. فقال الثمانية: لو أنا لم نقتل أبناءنا لكانوا مثل هذا الغلام. فائتمروا التسعة بينهم بقتل صالح. وقالوا: نخرج مسافرين، والناس يروننا علانية، ثم نرجه في وقت كذا من ليلة كذا، فنقتله في مُصَلاَّه، والناس يحسبون أننا مسافرون، فأقبلوا حتى دخلوا تحت صخرة يرصدونه. فأرسل الله، جلّ ذكره، عليهم، الصخرة فَرَضَخَتْهم /، فأخبر الله أهل القرية بموتهم، فقالوا: تَنَادَوْنَ: أي: عباد
3422
الله! ما رضي صالح بِأن جعلهم قتلوا أولادهم حتى قتلهم. فأجمع أهل القرية على عقر الناقة أجمعون إلا رجلاً منهم.
وقال عرم وابن خارجة: أراد المولود مع الثمانية قتل صالح، فمشوا حتى أتَوا سِرياً على طريق صالح، فاختفى فيه ثمانية، وبقي هو، وقالوا: إذا خرج علينا قتلناه، وأتينا أهله، فبيتناهم، فأمر الله تعالى، الأرض، فاستوت عليهم، فاجتمعوا ومشَوْا إلى الناقة، وهي على حوضها قائمة. فقال الشقي لأحدهم " إيتِهَا فاعقرها، فأتاها فتعاظمه ذلك، فرجع ثم بعث آخر، فَعَظُم عليه عقرها، فرجع ثم آخر، فرجع، حتى رجع الجميع، ولم يعقروا. فمشى هو إليها، وتطاول، فضرب عُرْقُوبَيْها، فوقعت تركض. وأتى رجل منهم صالحاً، فقال: أدرك الناقة، فقد عقرت. فأقبل، وخرج وهم يتلقونه، ويعتذرون إليه. يا نبي الله! إنما عقرها فلان، إنه لا ذنب لنا. قال: انظروا هل تدركون فصيلها، فإن أدركتموه فعسى الله أن يدفع عنكم العذاب. فخرجوا
3423
يطلبونه، فلما رأى الفصيل أمه أن تضطرب أتى جبلاً يقال له: القارة قصيراً. فصعد عليه، وذهبوا ليأخذوه. فأوحى الله تعالى، إلى الجبل، فطال في السماء حتى ما تناله الطير، قال: ودخل صالح القرية، فلما رآه الفصيل بكى حتى سالت دموعه، ثم استقبل صالحاً، فَرَغَا رغوةً، ثم رغا أخرى. فقال صالحُ لقومه: لكل رغوة أجل يوم: تمتعوا في داركم ثلاثة أيام، وآية العذاب أن اليوم الأول تصبح وجُوهُهُم كأنها طليت بالخلوق، كلهم كذل. فلما أمسوا صاحوا بأجمعهم: ألا إنه قد مضى يوم من الأجل وحضركم العذاب. فلما أصبحوا اليوم الثاني، إذا وجوههم محمرة، كأنها خضبت بالدماء، فصاحوا وضجوا، وبكوا، وعرفوا أنه العذاب. فلما أمسوا صاحوا بأجمعهم: ألا إنه قد مضى يومان من الأجل، وحضركم
3424
العذاب. فلما أصبحوا اليوم الثالث إذا وجوههم مسودة، كأنها طليت بالقار. فصاحوا: ألا قد حضركم العذاب من فوق (رؤوسهم)، أو من أسفل. فلما أصبحوا في اليوم الرابع أتتهم صيحة من السماء فيها صوت كل صاعقة، وصوت كل شيء له صوت في الأرض، فتقطعت قلوبهم في صدورهم، فأصبحوا جاثمين.
أي: خامدين في ديارهم. والدار محلة القوم، والموضع الذي / فيه نزلهم في معسكرهم ومجتمعهم، والديار: الدور التي سكنها كل واحد منهم.
" ولما مر النبي ﷺ، ( في) غزوة تبوك بوادي ثمود، أمر أصحابه أن
3425
يسرعوا لئلا ينزلوا به، ولا يشربوا من مائه. وأخبرهم أنه واد ملعون "
﴿كَأَن لَّمْ يَغْنَوْاْ فِيهَآ﴾: أي: لم يعيشوا. قال الأصمعي: المغاني: المنازل، ويقال: غَنَيْتُ بالمكان: إذا أقمت به.
فالمعنى كأن لم يَغْنَوْا بها في سرور، وغبطة.
﴿أَلاَ إِنَّ ثَمُودَ كَفرُواْ رَبَّهُمْ أَلاَ بُعْداً لِّثَمُودَ﴾: ألا أبعدهم الله لنزول العذاب بهم.
قوله: ﴿وَلَقَدْ جَآءَتْ رُسُلُنَآ إِبْرَاهِيمَ بالبشرى﴾ - إلى قوله - ﴿عَجِيبٌ﴾.
من نصب " سلاماً " نصبه على المصدر، أو على أعمال القول، والرفع على إضمار خبر محذوف. والمعنى: قالوا: سلام عليكم. ومن قرأ " سِلْمٌ " فعلى معنى الأمر.
3426
سلم أو نحو سلم: أي: نحن آمنون منكم، إذا سلمتم علينا، لأن الملائكة لما سلمت عليه أَمِنَ منهم، وعلم أنهم مؤمنون. فقال لهم: سلام: أي: نحن سلم منكم إذن.
وقيل: المعنى: نحن سلم، أي: غير باغين شراً، وأنتم قوم منكرون: أي: لا نعرفكم. وقيل: سلم بمعنى سلام. كما يُقال حرمٌ، وحَرَامٌ بمعنى واحد. ويجوز رفع الأول، ونصب الثاني، ونصب أيهما شئت على هذا التقدير، ومعنى ﴿قَوْمٌ مُّنكَرُونَ﴾ [الحجر: ٦٢، الذاريات: ٢٥]: أي: غير معروفين في بلدنا.
وقيل: المعنى: إنكم قومٌ منكرون، إذا سلمتم، لأن التسليم في بلدنا منكر، ولم نعهده إلا لمن هو على ديننا. والرسل الذين أتَوْهم: جبريل، وميكائيل، وإسرافيل، عليهما السلام.
روي أن رجلاً جلَّ ذكره، أرسل إسرافيل يبشر سارة زوج إبراهيم بإسحاق، ويعقوب ولد إسحاق، وأرسل الله جبريل ليقلب مدائن قوم لوط، وأرسل
3427
ميكائيل ليأخذ بيد لوط، ويسري بهم. والبشرى هي البشارة بإسحاق. وقيل: هي البشارة بهلاك قوم لوط.
﴿قَالُواْ سَلاَماً﴾ قال مجاهد: المعنى سَدَاداً.
﴿فَمَا لَبِثَ أَن جَآءَ﴾: " أن ": في موضع نصب عند سيبويه، يقال: لا يلبث عن أن يأتيك.
وأجاز الفراء أن تكون في موضع رفع. فلبث، أي: فما أبطأ عنه مجيئه. والمعنى: فما أبطأ عنهم حتى جاء ﴿بِعِجْلٍ حَنِيذٍ﴾: أي: مشوي، وهو فعيل، بمعنى مفعول.
وقال ابن عباس: (حنيذ): نضيج. وقيل: كان قد أشوي على حجارة محمية. فما: نافية في قوله (فما لبث)، وفي " لبث " ضمير إبراهيم عليه السلام.
3428
وقيل: لا ضمير في " لبث "، والفاعل: أن جاء، أيك فما أبطأ مجيئه عن أن جاء. وقيل: " ما " بمعنى " الذي " في موضع رفع على الابتداء، والخبر: " أن جاء "، والتقدير: فإبطاؤه مجيئه بعجل بين قدر الإبطاء.
قوله: ﴿فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ﴾ أي: فلما رأى إبراهيم أيدي الرسل، صلوات الله عليهم، لا تصل إلى العجل، فتأكل منه، (نكرهم)، وعلم أنهم لم يتركوا الأكل إلا لقصة. فأوجس منهم خوفاً في نفسه. يقال: نكره ينكره، وأنكره بمعنى. فالهاء في " إليه " تعود على العجل، وقيل: على إبراهيم، بمعنى: لا تصل / إلى طعامه، ثم حذف المضاف.
قال قتادة: إنما أنكر إبراهيم أمرهم، لأنهم كانوا إذا نزل بهم ضيف، فلم يطعم من طعامهم ظنوا أنه لم يجيء بخير، فخاف إبراهيم منهم، فقالوا له: ﴿لاَ تَخَفْ﴾ منا ﴿إِنَّا أُرْسِلْنَا إلى قَوْمِ لُوطٍ﴾ بالعذاب.
3429
﴿وامرأته قَآئِمَةٌ﴾: أي: " من وراء الستر ". وفي قراءة ابن مسعود: " وامرأته قائمة، وهو قاعد.
وقيل: إنها كانت قائمة، تخدُم الرسل، وإبراهيم جالس مع الرسل.
وقوله: ﴿فَضَحِكَتْ﴾ قيل: إنها ضحكت من أمرها أنها تخدم، وضيافها لا يمسون الطعام.
قال السدي: قال إبراهيم للرسل، صلوات الله عليهم: ألا تأكلون؟ قالوا: يا إبراهيم! إنا لا نأكل طعاماً إلا بثمن. قال لهم: فإن لهذا ثمناً! قالوا: وما هو؟ قال: تذكرون اسم الله على أوله، وتحمدونه على آخره. فنظر جبريل إلى ميكائيل، عليهما السلام، فقال: حُقَّ لهذا أن يتخذه ربه خليلاً. فلما لم يأكلوا، قالت سارة، امرأة إبراهيم: عجباً لأضيافنا هؤلاء، إنا لنخدمهم بأنفسنا، تكرمة لهم، وهم لا
3430
يأكلون! وضحكت تعجُّباً.
وقيل: ضحكت من أن قوم لوط في غفلة، وقد جاءت رُسُلَ الله تعالى، بهلاكهم. فكان ضحكها تعجباً لغفلة قوم لوط، عما أتاهم من العذاب، وهو قول قتادة.
وقيل: إنها ضحكت لما رأته من زوجها إبراهيم عليه السلام، من الروع تعجباً، وهو قول الكلبي.
وقال وهب بن منبه: ضحكت لما بشرت بإٍحاق، وهي كبيرة،
3431
فضحكت تعجباً من أن يكون لها ولد على كبر سنها. ويكون في الكلام تقديم وتأخير، وهو بعيد مع الفاء، ولا يحسنُ الوقف على هذا المعنى، على " ضحكت ".
وقال مجاهد: معنى: ضحكت: ساغت، وكذا ابنة تسعين سنة. وقيل: بل زادت على التسعين، وكان إبراهيم، عليه السلام، ابن مائة سنة.
وذكر بعض البصريين أن بعض أهل الحجاز حكى عن العرب: " ضحكت المرأة " بمعنى: حاضت.
وقال الضحاك: الضحك: الحيض، ويقال: ضحكت النخلة: إذا أخرجت الطلع، والبشر. وقيل: إنها إنما ضحكت، لأن الملائكة أحْيَوا العجل بإذن الله تعالى، فضحكت تعجباً. ﴿فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ﴾. وقيل: إنها إنما ضحكت، لأنها قالت لإبراهيم قبل مجيء الرسل: أحسب أن قوم لوط سينزل الله بهم عذاباً. فضم لوطاً
3432
إليهم، فلما أتت الرسل بما قالت سُرَّت به، فضحكت.
وقيل: إنها إنما ضحكت من إبراهيم، لأنه كان ﷺ يقوم بمائة رجل، فتعجبت من خوفه من نفر.
وقيل: ضحكت سروراً، حيث قالوا: لا تخف، لقد كانت خافت منهم.
وقوله: ﴿فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِن وَرَآءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ﴾: أي: من رفع " يعقوب " فعلى الابتداء، ﴿وَمِن وَرَآءِ إِسْحَاقَ﴾: الخبر، والجملة في موضع الحال. أي: بشرناها بإسحاق، مقابلاً له يعقوب. وهو داخل في البشارة، فلا يوقف على إسحاق على هذه المعنى. ويجوز أن يرتفع بفعل دل عليه الكلام، / والمعنى: ومن وراء
3433
إسحاق يحدث يعقوب، فلا يكون داخلاً في البشارة، فيجوز الوقف على إسحاق.
وقيل: المعنى: وقبت لهما من وراء إسحاق يعقوب.
ومن قرأ بالفتح، فهو في موضع خفض عند الكسائي، والأخفش، وأبي حاتم، على العطف علاى " إسحاق ": يجيزون التفريق بين المجرور، وبين ما يشركه، فيفرقون بين حرف العطف والمعطوف.
ومذهب سيبويه والفراء أن يعقوب في موضع نصب، على معنى: ومن وراء إسحاق وهبنا له يعقوب. ولا يجيزون التفريق بين المجرور، وحرف العطف. فتقف على إسحاق على هذا التقدير، ولا تقف عليه إذا قدرت العطف.
3434
وقيل: معنى: ﴿وَمِن وَرَآءِ إِسْحَاقَ﴾: أي: ومن ولد إسحاق، لأن ولد الولد: الوراء، وهو قول ابن عباس، والشعبي، وجماعة معهما.
وفي هذا دليل على أن: الذبيح إسماعيل، لأنها بشرت بإسحاق، وأنها تعيش حتى يولد له، فغير جائز أن يعلم إبراهيم أنه يعيش حتى يولد له، ثم يؤمر بذبحه، قبل أن يولد له. فلا يجوز أن يؤمر بذبح من أخبر أنه يعيش إلى وقت بعد، وقت الذبح بسنين.
قال السدي: لما بُشرت بذلك، سكّت وجهها وقالت: ﴿ءَأَلِدُ وَأَنَاْ عَجُوزٌ﴾ ثم قالت لجبريل: ما آية ذلك؟ فأخذ جبريل، عيله السلام، عوداً يابساً، فلواه بين أصبعيْه فاهتزَّ خضراً. فقال إبراهيم: هو لله إذاً " ذبيحاً ".
قيل: إنها كانت ابنة تسعة وتسعين سنة، و'براهيم ابن مائة وعشرين سنة. وقيل: كان أكبر منها بسنة.
و ﴿ياويلتى﴾ " كلمة تقولها العرب عند التعجب من الشيء ".
3435
وحكى ابن يونس عن العرب: " عجوزة " بالهاء، وأنكر ذلك أبو حاتم. ويقال: للمرأة شيخ وشيخة. والمؤنث في كلام العرب على أربعة أوجه:
- الأول: أن يكون فيه علامة التأنيث، تفصل بينه وبين المذكرن نحو: خديجة، وفاطمة، وعائشة وليلى، وسعدى، وحمرى.
- والثاني: أن تكون الثانية في صيغة الاسم، وبلا علامة ظاهرة، نحو: زينب، ونوار، وهند، وعير وفخرٌ، وشبهه.
- والثالث: أن يكون الاسم المؤنث يخالف لفظه لفظ ذكره، فيستغنى عن علامة التأنيث، لمخالفة اللفظ، وذلك نحو: جَدْيٌ، وعناق، وحمار، وربما مالوا إلى المؤنث فأدخلوا الهاء، وإن كان لفظه يخالف لفظ المذكر: قالوا: عجوزة،
3436
والأكثر عجوزه، وقالوا: غلام، وجارية، فأدخلوا الهاء. ولفظ " جارية " مخالف لِلَفْظِ غلام. وقالوا: جمل وناقة، وكان الأصل ألا تدخل الهاء في هذا، وربما أدخلوا التأنيث في المذكر. قالوا: شيخ وشيخة، وغلام وغلامة، ورجل ورجلةٌ.
- والقسم الرابع: أن يكون الاسم واقعاً على المؤنث والمذكر، فيكون " بالهاء " كقولك: شاة وبقرة، وجرادة، وهذه الهاء فصل بين الواحد والجمع. وقولها: ﴿إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ﴾ وإن في كون الولد من مثلي شيئاً عجيباً.
قوله: ﴿قالوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ الله رَحْمَتُ الله وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ البيت﴾ - إلى قوله - ﴿مَرْدُودٍ﴾.
والمعنى: قالت الرسل: أتعجبين من أمر / قضاء الله تعالى فيك، وفي بعلك، ﴿رَحْمَتُ الله وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ﴾.
ثم قال: ﴿إِنَّهُ حَمِيدٌ﴾: أي: محمود على نعمه عليكم، وعلى غيركم. ﴿مَّجِيدٌ﴾: أي: ذو مجد، وثناء، وقيل: معنى: ﴿مَّجِيدٌ﴾: كريم، والمجد: الكرم،
3437
والجود، ﴿مِنْ أَمْرِ الله﴾: وقف.
﴿فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الروع﴾: أي: لما سكن خوفه من الرسل، وعلم منهم من هم.
قال الأخفش، والكسائي: قوله " يجادلنا " لأن جواب " لمَّا " يكون بالماضي، وقيل " يجادلنا ": في موضع الحال. ومعنى يجادلنا: أي: يطلب. وقيل: في قوم لوط. وقيل: المعنى: يخاصم رسلنا في قوم لوط.
قال ابن جريج: قال إبراهيم للرسل: أتهلكونهم إن وجدتم فيهم مائة رجل مؤمن؟ قالوا: لا. ثم قال: فتسعين؟ حتى هبط إلى خمسة، وكان في قرية لوط أربعة آلاف ألف، يجادل الرسل عن قوم لوط، ليرد عنهم العذاب.
وقيل: إنه لم يزل يقول: آرأيتم إن وجدتم فيهم كذا، وكذا مؤمناً أتهلكونهم؟ فيقولون: لا حتى بلغ إلى أن قال: أرأيتم إن وجدتم فيها واحداً مسلماً؟ قالوا: لا. فلم يخبر إبراهيم أن فهيم رجلاً واحداً، يدفع عنهم به البلاء. قال لهم: إن فيها
3438
لوطاً يدفع عنهم به العذاب. ﴿قَالُواْ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَن فِيهَا لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امرأته﴾ [العنكبوت: ٣٢].
وقد بين الله، جل ذكره، ذلك في سورة " والذاريات " فقال: ﴿فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِّنَ المسلمين﴾ [الذاريات: ٣٦] يعني: بيت لوط إلا امرأته.
وقيل معنى: ﴿يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ﴾: أي: في المؤمنين منهم خاصة، ثم قالوا: ﴿ياإبراهيم أَعْرِضْ عَنْ هاذآ إِنَّهُ قَدْ جَآءَ أَمْرُ رَبَّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ﴾. قال ابن عباس: قال الملك لإبراهيم: إن كان فيهم خمسة يصلون رفع عنهم العذاب.
وقوله: ﴿أَوَّاهٌ مُّنِيبٌ﴾: الأوّاهُ: المُبْتَهِلُ إلى الله، تعالى، المتخشع في ابتهاله، الذي يكثر التأَوُّهُ خوفاً، وإشفاقاً من الذنوب، والمنيب: الرجاع إلى طاعة الله تعالى.
3439
وقيل: إنما وصفه بالحلم، لأنه ﷺ لم ينتصر لنفسه قط، إنما كان ينتصر لله تعالى، ولم يعاقب أحداً بذنب صنعه إلا لله، ولم يغضب قطُّ إلا لله.
والأوّاه: الدّعَاء، البكَّاء، والمنيب: التارك للذنوب، الراجع إلى ما يحبه الله تعالى، ويرضى به، وقيل: الأوَّاه: الدَّعاء، وقيل: هو المتأوه، المرتجع من الذنوب.
وقوله: ﴿وَلَمَّا جَآءَتْ رُسُلُنَا لُوطاً سياء بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعاً﴾ - إلى قوله - ﴿شَدِيدٍ﴾.
والمعنى: ولما جاءت الرسل لوطاً ساءه ذلك، ولم يعرفهم، وخاف من قومه. ﴿وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعاً﴾: أي: ضاقت نفسه بهم لما يعلم من فسق قومه. فالضمير في " بهم " في الموضعين للرسل.
قال قتادة: قالت الرسل: لا تهلكهم حتى يشهد عليهم لوط، قال: فأتوه، وهو في أرض (له)، يعمل فيها، فقالوا له: إنا متضيفوك الليلة. فانطلق به، فلما مشى، قال: أما بلغكم أمرهم؟ قالوا: وما أمرهم؟ قال: أشهد بالله إنها لشر قرية
3440
بالأرض عملاً، يقول ذلك أربع مرات.
وروي أنهم لقوه، وهو يحطب، فسلموا / عليه، فرد عليهم السلام، ثم حمل حزمته، ودعاهم إلى ضيافته. فلما دخل بهم المدينة، مر بقوم فقالوا: هذا مع لوط حاجتنا، قوموا بنا إليهم. فقال لوط: أشهد أنكم قوم سوء، ثم مر بآخرين، فقالوا بمثل ذلك، فشهد لوط عليهم بمثل ذلك، ثم مر بآخرين. فقالوا بمثل ذلك، فشهد عليهم لوط مثل ذلك. فقال جبريل لإسرافيل، وميكائيل، عليهم السلام: هذه ثلاث مرات شهد بها نبيهم عليهم.
وقال السدي: خرجت الملائكة من عند إبراهيم، عليهم السلام، نحو قرية لوط، فأتوها نصف النهار، فلما بلغوا نهر سَدُوم، لقد بنت لوط تستقي من الماء لأهلها، فقالوا لها: يا جارية هل من منزل؟ قالت: نعم، مكانكم حتى آتيكم. فرقت عليهم من قومها، فأتت أباها، فقالت: يا أبتاه: إن أدرك فتْيَاناً على باب المدينة، ما
3441
رأيت وجوه قوم هي أحسن منهم، لئلا يأخذهم قومك فيفضحوهم وقد كان قومه نهوه أن يضيف رجلاً، وقالوا: خل عنا نضيف الرجال، فجاء بهم لوط، ولم يعلم أحد إلا أهل بيت لوط، فخجرت امرأته، فأخبرت قومها، وقالت: إن في بيت لوط رجالاً ما رأيت قط مثلهم.
﴿وَجَآءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ﴾: أي: يسرعون، وقيل: يسعون، وقيل: يهرولون، فقال لهم لوط: ﴿هذا يَوْمٌ عَصِيبٌ﴾: أي: شديد شره، عظيم بَلاَؤُهُ.
﴿وَمِن قَبْلُ كَانُواْ يَعْمَلُونَ السيئات﴾: أي: من قبل مجيئهم إلى لوط، كانوا يأتون الرجال في أدبارهم، فراودُوه في أضيافه، فقال: ﴿هؤلاء بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ﴾،
3442
أي: هؤلاء النساء هن أحل لكم، يريد نساءهم، والنبي أبٌ لأمته.
وقد قرئ: " وأزواجه أمهاتهم، وهو أب لهم " قرأه ابن مسعود.
قال عكرمة: إنما قال لهم هذا لينصرفوا، ولم يعرض بأحد. وقيل: عرض التزويج عليهم من بناته إن أسْلموا. وقيل: كان في ملتهم جائز أن يتزوج الكافر المسلمة.
وقوله: ﴿أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَّشِيدٌ﴾: أي: يعرف الحق، فيأمر به. قالوا له: ﴿لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ﴾: أي: هل لنا أزواجاً.
﴿وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ﴾: أي: أضيافك إياهم نريد، قال لهم لوط، عليه السلام، ﴿لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً﴾ أي:
3443
أنصاراً ينصرونني عليكم. ﴿أَوْ آوي إلى رُكْنٍ شَدِيدٍ﴾: أي: أنضم إلى عشيرة مانعة، تحول بينكم، وبين أضيافي. والجواب محذوف، والمعنى محذوف، والمعنى: لقاتلتكم، ولحلت بينكم وبينهم.
وقال ابن جريج: " بلغنا أنه لم يبعث نبي من بعد لوط، إلا في ثروة من قومه.
وروى أبو هريرة أن النبي ﷺ، قال: " رحمة الله على لوط، إنه كان ليأوي إلى ركن شديد "
وقيل: إن لوطاًَ لما قال ذلك وجدت عليه الملائكة، وقالوا: إن ركنك لشديد.
قوله: ﴿قَالُواْ يالوط إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَن يصلوا إِلَيْكَ﴾ - إلى قوله - ﴿بِبَعِيدٍ﴾.
والمعنى: قالت له الرسل، لما ضاق، ونزل الركب، فقال لقومه ما قال:
3444
﴿لَن يصلوا إِلَيْكَ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ﴾ - بسوء - ﴿فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِّنَ الليل﴾: أي: اخرج بهم في بقية من الليل، وفي طائفة منه، ﴿إِلاَّ امرأتك﴾ نهى أن يخرج بها.
ومن قرأ بالرفع، فالمعنى: " ولا يلتفت منكم أحد إلا امرأتك " فيكون قد خرج بها، فالتفتت تنظر ما حل بقولمها، فأصابها ما أصابهم. ومن نصب فعلى الاستثناء.
وفي قراءة ابن مسعود: " فأسر بأهلك إلا امرأتك ". وهذا يدل على الاستثناء، والمعنى: فأسر بأهلك إلا امرأتك، فيكون المعنى: إنه خرج بهم إلا امرأته، وإنه لم يخرج بها. والنهي في الالتفات، إنما وقع على من خرج معه، إلا امرأته ﴿إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَآ أَصَابَهُمْ﴾ من العذاب.
3445
قال ابن إسحاق: قال الرسل للوط: إنما ينزل عليهم العذاب من صبح ليلتك هذه، فامض لما تُؤمَر. فقالوا: ﴿أَلَيْسَ الصبح بِقَرِيبٍ﴾؟ أي: عند الصبح ينزل بهم العذاب.
فلما كانت الساعة التي أهلكوا بها، أدخل جبريل عليه السلام، جناحه، فرفعها حتى سمع أهل السماء صياح الديكة، ونباح الكلاب، فجعل عليها سافلها، وأرسل عليهم حجارة من سجيل. وسمعت امرأة لوط الهَدَّة، فقالت: واقوماه! والتفتت، فأدركتها أحجار، فقتلتها. وكانت مدائنهم خَمْساً، فدمرت إلا زعن وحدها تركها الله تعالى، لآل لوط، وهي بالشام.
3446
وقال السدي: لما قال لوط: (لو أن لي بكم قوة، أو آوي إلى ركن شديد) بسط جبريل حينئذ جناه، ففقأ أعينهم، وخرجوا يدوس بعضهم بعضاً عمياناً، يقولون: النَّجَاءَ! النجاءَ! فإن في بيت لوط أسْحَرَ قوم، فذلك قوله: ﴿وَلَقَدْ رَاوَدُوهُ عَن ضَيْفِهِ فَطَمَسْنَآ أَعْيُنَهُمْ﴾ [القمر: ٣٧] فأخرج الله تعالى، لوطاً وأهله إلى الشام.
قال مجاهد: " سجيل " بالفارسية أولها حجر، وآخرها طين.
وقال قتادة: " سجيل ": طين. وقال ابن عباس: " سجيل ": سنك وجل. فالسنْك: الحجر، والجل: الطين، وهو فارسي أعرب. وقيل: سجيل، من أسجلته، أي: أرسلته، فكأنها مرسلة. وقيل: هي من أسجلت: إذا
3447
أعطيت، فهي من السجل، وهو الدلو. وقيل: " سجيل " من " سجَّل ": إذا كتب، أي: مما كتب لهم، وهو اختيار الزجاج.
وقيل: " سجيل " اسم للسماء الدنيا، أي: أرسل عليهم حجارة من سماء الدنيا. والمعنى: أنها حجارة من كتب الله تعالى، لهم أن يعذبهم بها، ويدل عليه قوله: ﴿وَمَآ أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ * كِتَابٌ مَّرْقُومٌ﴾ [المطففين: ٨ - ٩]، والنون بدل من اللام.
قال عكرمة: " منضود " (مصفوفة)، وقيل: " منضوط ": متراكب بعضها على بعض.
وقيل المعنى نضد بعضها على بعض.
وقيل: المعنى: إنها في السماء منضودة، أي: مُعدة لهم، يعلق بعضها على بعض.
3448
﴿مُّسَوَّمَةً﴾: قال ابن جريج: لا تشبه حجارة الأرض.
وقال الحسن: معلمة ببياض، وحمرة.
وقال السدي: المسومة المختمة، ثم قال تعالى: ﴿وَمَا هِيَ مِنَ الظالمين بِبَعِيدٍ﴾: أي: من ظالمي قومك يا محمد، فهذا على التهديد للمشركين. و " هي " تعود على / الحجارة. وقيل: تعود على القرى. وما قرى قوم لوط من ظالمي قومك ببعيد، وكانت قرى قوم لوط بين الشام والمدينة، وأتى ببعيد مذكراً على معنى: بمكان بعيد عند ربك تمام عند أبي حاتم، ﴿مَّنْضُودٍ﴾: وقف عند نافع، وهو قبيح، لأن " مسومة " نعت للحجارة.
3449
﴿وإلى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً﴾ - إلى قوله - ﴿بِحَفِيظٍ﴾.
والمعنى: وأرسلنا إلى مدين أخاهم شعيباً، فقال لهم: ﴿ياقوم اعبدوا الله مَا لَكُمْ مِّنْ إله غَيْرُهُ وَلاَ تَنقُصُواْ المكيال والميزان﴾: أي: " لا تنقصوا الناس حقوقهم في مكيالهم وميزانهم ".
﴿إني أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ﴾: أي: برُخْصٍ في أسْعَارِكُمْ قاله ابن عباس، وقيل: المعنى: أراكم أغنياء، ذوي مال وزينة. " ومدين ": اسم أرض، فلذلك لم ينصرف، لأنه معرفة مؤنثة.
وقال مقاتل: هو اسم رجل في الأصل أعجمي معرفة، وقيل: هو اسم رجل سميت به أمته، فلم ينصرف للتأنيث، والتعريف أيضاً.
قوله: و ﴿وإني أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُّحِيطٍ﴾: أي: محيط بكم عذابه، ثم كرر عليهم الوصية، فقال: ﴿وياقوم أَوْفُواْ المكيال والميزان بالقسط﴾: أي: بالعدل
3450
﴿وَلاَ تَبْخَسُواْ الناس أَشْيَآءَهُمْ﴾ أي: حقوقهم. ﴿وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي الأرض﴾، أي: لا تسيروا في الأرض مفسدين.
وقال الضحاك: ﴿وَلاَ تَعْثَوْاْ﴾ أي: لا تسعوا بنقص الكيل، والوزن. ﴿بَقِيَّتُ الله خَيْرٌ لَّكُمْ﴾: أي: ما أبقاه الله لكم من الحلال بعد أن توفوا الناس حقوقهم، خير لكم من الذي يبقى لكم يبخسكم الناس حقوقهم.
﴿إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ﴾: أي: " مصدقين بوعد الله تعالى، ووعيده " وقال مجاهد: ﴿بَقِيَّتُ الله خَيْرٌ لَّكُمْ﴾، أي: طاعة الله خير لكم.
وقيل: المعنى: حظكم من ربكم خير لكم قاله قتادة.
وعن ابن عباس: رزق الله خير لكم. وقيل: المعنى: مراقبة الله خير لكم.
3451
وقيل: المعنى: حظكم من ربكم خير لكم قاله قتادة.
﴿وَمَآ أَنَاْ عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ﴾: أي: برقيب. أراقبكم عند كيلكم، ووزنكم، إنما علي أن أبلغكم رسالة ربي.
قوله: ﴿قَالُواْ ياشعيب أصلاتك﴾ - إلى قوله - ﴿وَدُودٌ﴾.
والمعنى: قالوا: يا شعيب: أصلواتك أي: أدعواتك ﴿تَأْمُرُكَ أَن نَّتْرُكَ مَا يَعْبُدُ ءابَاؤُنَآ أَوْ أَن نَّفْعَلَ في أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ﴾ من بخس الناس في الكيل والوزن.
قال ابن زيد: نهاهم عن قطع الدنانير، والدراهم، كانوا ينقصون منها، ويجوزونها بالوازنة. وقيل: معناه: مساجدك التي تتعبد فيها تأمرك بِنَهْيِنَا. وقد سمى الله، تعالى، المساجد صلوات، فقال: ﴿وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسم الله كَثِيراً﴾ [الحج: ٤٠].
وقيل: هي صلاته لله تعالى، لأنها كانت على خلاف ما كانوا عليه.
قوله: ﴿إِنَّكَ لأَنتَ الحليم الرشيد﴾ قالوا على معنى الاستهزاء. وقيل:
3452
المعنى: إنك لأنت الحليم الرشيد عند نفسك.
وقيل: المعنى: أنت الحليم، الرشيد، فكيف تأمرنا بترك عيادة ما كان آباؤنا يعبدون، وتنهانا أن نفعل في أموالنا ما نشاء، من قطع، أو بخس، أو غير ذلك. وقال: هو تعريض يُراد به الشتم ومعناه: إنك لأنت السفيه الجاهل.
ثم قال تعالى حكاية عن جواب شعيب لهم: ﴿قَالَ ياقوم أَرَأَيْتُمْ (إِن كُنتُ على بَيِّنَةٍ) مِّن رَّبِّي﴾: أي: على بيان، وبرهان فيما أدعوكم إليه. ﴿وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقاً حَسَناً﴾ أي: حلالاً، وجواب / الشرط محذوف لعلم السامع. والمعنى: أفتأمرونني بالعصيان.
وقيل: المعنى: أفلا أنهاكم عن الضلالة.
ثم قال: ﴿وَمَآ أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إلى مَآ أَنْهَاكُمْ عَنْهُ﴾: أي: لست أنهاكم عن شيء، وأركبه.
3453
﴿إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإصلاح مَا استطعت﴾: أي: ما أريد فيما آمركم به إلا الإصلاح، لئلا ينالكم من الله، تعالى، عقوبة.
﴿وَمَا توفيقي إِلاَّ بالله﴾: أي: ليس توفيقي، وإصابتي الحق فيما أنهاكم عنه إلا بالله. ﴿عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ﴾ أي: فوضت أمري إليه، ﴿وَإِلَيْهِ أُنِيبُ﴾: أي: أرجع.
﴿رِزْقاً حَسَناً﴾: وقف عند أبي حاتم. ﴿مَا استطعت﴾: وقف عند نافع.
ثم قال لهم: ﴿وياقوم لاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شقاقي﴾: أي: لا يكسبنكم مشاقتي، أي: مخالفتي، وعداوتي، ﴿أَن يُصِيبَكُم مِّثْلُ مَآ أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ﴾: من الغرق، ﴿أَوْ قَوْمَ هُودٍ﴾: من العذاب، ﴿أَوْ قَوْمَ صَالِحٍ﴾: من الرجفة. ﴿وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِّنكُم بِبَعِيدٍ﴾ الذين انقلبت عليهم مدائنهم. وأًل الشقاق في اللغة: العداوة.
3454
﴿واستغفروا رَبَّكُمْ﴾: أي: من ذنوبكم التي أنتم عليها مقيمون. ﴿ثُمَّ توبوا إِلَيْهِ﴾: أي: ارجعوا إليه باتباع طاعته.
﴿إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ﴾: أي: رحيم لمن تاب إليه، ﴿وَدُودٌ﴾: أي: ذو محبة لمن تاب وأناب.
قوله: ﴿قَالُواْ ياشعيب مَا نَفْقَهُ كَثِيراً مِّمَّا تَقُولُ﴾ - إلى قوله - ﴿كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ﴾ والمعنى: ما نفقه كثيراً مما تقول.
وقوله: ﴿وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفاً﴾ أي: قيل: ضعيفاً، قيل: إنه ﷺ، كان أعمى.
قال أبو إسحاق: حمير تسمي المكفوف ضعيفاً.
ويقال: إن شعيباً كان خطيب الأنبياء ﷺ، ( وعليهم أجمعين). ثم قالوا له: ﴿وَلَوْلاَ رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ﴾: أي: لولا عشيرتك وأهلك لسبَبْناك. وقيل: معنى " لرجمناك ": لقتلناك رجْماً.
3455
﴿وَمَآ أَنتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ﴾: أي: لست ممن يكرم علينا "، ﴿قَالَ﴾ لهم شعيب: ﴿ياقوم أرهطي أَعَزُّ عَلَيْكُم مِّنَ الله﴾: أي: أعشيرتي أعز عليكم من الله، فترركم إيَّايَ لله تعالى أولى لكم من أن تتركوني لعشيرتي، فلا يكون رهطي أعظم في قلوبكم من الله، سبحانه.
﴿واتخذتموه وَرَآءَكُمْ ظِهْرِيّاً﴾: أي: تركتم أمر الله سبحانه، خلف ظهوركم، فلا تراقبوه في شيء مما تراقبون قومي. فالضمير في ﴿واتخذتموه﴾ يعود على اسم الله سبحانه، وقيل: يعود على ما جاءهم به شعيب.
﴿إِنَّ رَبِّي بِمَا تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ﴾: أي: لا يخفى عليه شيء من ذلك، يجازيكم على جميعه.
ثم قال لهم: ﴿وياقوم اعملوا على مَكَانَتِكُمْ﴾: أي: على منازلكم، وقيل:
3456
المعنى: على مكانتكم من العمل، ﴿إِنِّي عامل﴾. ﴿سَوْفَ تَعْلَمُونَ﴾: أينا الجاني على نفسه، وأينا المصيب وأينا المخطئ. ﴿مَن يَأْتِيهِ﴾: " مَنْ ": في موضع نصب " بتعملون "، مثل: ﴿يَعْلَمُ المفسد مِنَ (المصلح)﴾ [البقرة: ٢٢٠]. وقيل: هي في موضع رفع على أنها استفهام. " ومَن " الثانية عند الطبري في موضع نصب عطف على الهاء، في " يُجْزِيه " على معنى: ويخزي من هو كاذب منا، ومنكم.
﴿وارتقبوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ﴾: أي: انتظرونا إني منتظر.
﴿تَعْلَمُونَ﴾: وقف إن جعلت " مَن " استفهاماً ". وقيل: لا يكون وقفاً، لأن الجملة إذا رفعت في موضع نصب " بتعملون " فالوقف عليه قبيح.
ثم قال تعالى: ﴿وَلَمَّا جَآءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْباً﴾: أي: جاء قومه العذاب / نجيناه
3457
والمؤمنين به، ﴿وَأَخَذَتِ الذين ظَلَمُواْ الصَّيْحَةُ﴾، أي: صيحة من السماء أخرجت أرواحهم ﴿فَأَصْبَحُواْ فِي (دِيَارِهِمْ) جَاثِمِينَ﴾ أي: خامدين في دارهم ﴿كَأَن لَّمْ يَغْنَوْاْ فِيهَآ﴾: أي: (كأن لم يعيشوا فيها)، وقيل: لم يقيموا.
﴿أَلاَ بُعْداً لِّمَدْيَنَ﴾، أي: أبعدهم الله، فبعدوا بُعداً.
﴿كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ﴾، أي: أهلكهم الله، كما هلكت ثمود. وقيل: المعنى: أبعد الله مدين من رحمته، كما أبعد ثمود، يقال: بعِد يبعد: إذا هلك، وبعُد يبعد: إذا تباعد.
قوله: ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا موسى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُّبِينٍ﴾ - إلى قوله - ﴿المرفود﴾.
والمعنى: ولقد أرسلنا موسى بالأدلة، والحجة الظاهرة.
﴿إلى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ﴾ أي: أطراف قومه. ﴿فاتبعوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ﴾: أي: اتبع ملؤه قوله، وكذبوا بما جاء به موسى ﴿وَمَآ أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ﴾: أي: لا يرشد من اتبعه إلى خير، بل يورده جهنم.
3458
﴿يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ القيامة﴾. (قال قتادة: يمضي فرعون بين أيدي القوم) حتى يهجم بهم على النار.
وقال ابن عباس: " أضلهم فأوردهم النار، والورد هنا: الدخول " قوله: ﴿وَبِئْسَ الورد المورود﴾: أي: يبس ما أوردهم.
﴿أَمْرُ فِرْعَوْنَ﴾: وقف، وكذلك ﴿فَأَوْرَدَهُمُ النار﴾.
ثم قال تعالى: ﴿وَأُتْبِعُواْ فِي هذه لَعْنَةً﴾: أي: أتبعوا في الدنيا لعنة مع العذاب الذي عجل بهم، وهو الغرق. ﴿وَيَوْمَ القيامة﴾ يلعنون أيضاً، فتلك لعنتان.
﴿بِئْسَ الرفد المرفود﴾: أي: بئس اللعنة بعد اللعنة، وأصل الرفد: العطاء، والمعنى: الذي يقوم لهم مقام العطاء اللعنة، وبئس العطاء ذلك. والتقدير في العربية: بئس الرفد رفْدَ المرفود.
3459
﴿وَيَوْمَ القيامة﴾: وقف.
قوله: ﴿ذَلِكَ مِنْ أَنْبَآءِ القرى﴾ - إلى قوله - ﴿أَلِيمٌ شَدِيدٌ﴾
المعنى: هذا الذي نقصه عليك، مِن أخبار القرى، منها ما هو عامر، ومنها ما هو خرب، فيه عامر.
وقيل: المعنى: منها ما بقي أثره، ومنها ما لم يبق له أثر. قال ابن جريج: ﴿مِنْهَا قَآئِمٌ﴾: خاوٍ على عروشه، وباق رسمه، ﴿وَحَصِيدٌ﴾: ملزق بالأرض، لا رسم له، وهو معنى قول قتادة، وغير (هـ).
ثم قال تعالى: ﴿وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ ولكن ظلموا أَنفُسَهُمْ﴾: أي: لم نضع العقوبة بهم في
3460
غير موضعها، بل أوجبوا لأنفسهم بكفرهم العقوبة، إذ وضعوا العبادة في غير موضعها.
﴿فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ﴾: التي عبدوها، ودعوها من دون الله شيئاً لما جائهم العذاب، وما زادهم آلهتهم ﴿غَيْرَ تَتْبِيبٍ﴾: أي: إلا خسراناً، ونقصاً، وهلاكاً، وتدميراً.
ثم قال تعالى: ﴿وكذلك أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ القرى وَهِيَ ظَالِمَةٌ﴾ أي: وكما أخذ ربك يا محمد هذه القرى بظلمهم، كذلك يأخذ القرى الظالم أهلها، فيهلكهم. (هذه الآية تحذير لهذه الأمة أن تسلك في المعصية طريق من كان قبلها من الأمم) فيحل بهم ما حل بأولئك، وأخذ الله تعالى في سطوته. ﴿إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ﴾: أي: موجع. ومعنى ﴿أَخَذَ القرى﴾: أي: أخذ أهلها.
وقرأ الجحدري: " إذ أخذ القرى ".
3461
قوله: ﴿إِنَّ فِي ذلك لآيَةً لِّمَنْ خَافَ عَذَابَ الآخرة﴾ - إلى قوله - ﴿غَيْرَ مَجْذُوذٍ﴾:
والمعنى: إن في أخذه القرى لعظةً، وعبرةً / ممن خاف عذاب الآخرة، وحجة عليه.
﴿ذلك يَوْمٌ مَّجْمُوعٌ لَّهُ الناس﴾: أي: يُحشَر الناس كلهم من قبورهم للجزاء فيه. ﴿(وذلك يَوْمٌ) مَّشْهُودٌ﴾: أي: يشهده الخلق كلهم: أهل السماء، وأهل الأرض، وهو يوم القيامة.
قال ابن عباس: الشاهد محمد ﷺ، والمشهود يومُ القيامة.
ثم قال تعالى: ﴿وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلاَّ لأَجَلٍ مَّعْدُودٍ﴾: أي: ما نؤخره يوم القيامة عنكم إلا لأجل قد قضيتُهُ، وعددتُهُ وأحصيتُهُ. فلا يتقدم اليوم ولا يتأخر.
ثم قال تعالى: ﴿لاَ تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ يَوْمَ يَأْتِ﴾: أي: يوم تقوم الساعة ما تكلم نفس إلا بإذن الله، وهو مثل قوله: ﴿هذا يَوْمُ لاَ يَنطِقُونَ﴾ [المرسلات: ٣٥]. وقد قال في موضع
3462
آخر: ﴿فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ على بَعْضٍ يَتَسَآءَلُونَ﴾ [الصافات: ٥٠]، وقال: ﴿يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَن نَّفْسِهَا﴾ [النحل: ١١١]، وقال: ﴿وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَّسْئُولُونَ﴾ [الصافات: ٢٤]، وقال: ﴿فَيَوْمَئِذٍ لاَّ يُسْأَلُ عَن ذَنبِهِ إِنسٌ وَلاَ جَآنٌّ﴾ [الرحمن: ٣٩]. وهذه الآيات يسأل عنها أهل الإلحاد. فالجواب عن ذلك: أنه تعالى قد أحصى الأعمال، وعِلِمَها قبل أن تكون، فلا حاجة (له) إلى سؤال أحد عن ذنبه، (ليعلم) ما عنده. فأما قوله: (إنهم مسئولون) فإنما هو سؤال توبيخ، وتقرير، لا سؤال استخبار.
وقوله: ﴿لاَ يَنطِقُونَ﴾ [النمل: ٨٥، المرسلات: ٣٥] بحجة تجب لهم، وإنما يتكلمون بذنوبهم، ويلوم بعضهم بعضاً بعد أن ينطلق لهم الكلام، بإذنه تعالى في لوم بعضهم بعضاً، لا في حجة يقيمونها لأنفسهم.
﴿فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ﴾: أي: فمن هذه النفوس التي لا تتكلم إلا بإذن الله، سبحانه، شقي وسعيد.
3463
وذكر ابن الأنباري أنه قد قيل: إن الضمير لأمة محمد، ﷺ، خاصة: أي: فمن هذه الأمة يا محمد شقي، وسعيد ﴿فَأَمَّا الذين شَقُواْ فَفِي النار...﴾ ﴿خَالِدِينَ فِيهَا...﴾ ﴿إِلاَّ مَا شَآءَ رَبُّكَ﴾: أي: إلا ما شاء الله من ترك خلودهم، وإخراجهم إلى الجنة بإيمانهم على ما روي في الآثار المشهورة.
والأشهر أن الضمير في " فمنهم " يعود على الخلق كلهم، على كل نفس. ﴿فَأَمَّا الذين شَقُواْ فَفِي النار لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ﴾: قال ابن عباس: " صوت شديد، (وصوت) ضعيف ".
قال أبو العالية: الزفير في الحلق، والشهيق في الصدر، وروي عنه ضد ذلك.
قال قتادة: " صوت الكافر في النار صوت الحمار، أَوَّله زفيرٌ، وآخره شهيق. وقال أهل اللغة: الزفير مثل: " ابتداء الحمار في النهيق، والشهيق بمنزلة آخر
3464
صوت الحمار في النهيق ".
(ولما نزلت) هذه الآية، قال عمر رضي الله عنهـ: " سألت رسول الله ﷺ، فقلت: يا نبي الله فعلام عملنا؟: على شيء قد فرغ منه؟ أم على شيء لم يُفْرَغْ منه؟ فقال رسول الله ﷺ: على شيء قد فرغ مِنه يا عمر، وجرت به الأقلام، ولكن كل مُيَسَّر لما خلق له ".
قوله: ﴿خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السماوات والأرض﴾: أي: وقت دوام ذلك. ومعنى الآية: أبداً، لأن العرب تقول: لا أكلمك ما دامت السماوات والأرض، وما اختلف الليل والنهار /. فخوطبوا على ما يعلمون، ويفهمون بينهم.
3465
وقوله: (﴿إِلاَّ مَا شَآءَ رَبُّكَ﴾) اختلف في ذلك اختلافاً شديداً.
١ - فمن العلماء من قال: " إلا " للاستثناء، استثنى به من الزمان، " فما " على بابها: لما لا يعقل.
٢ - ومنهم من قال: " إلا " بمعنى: " سوى " " وما " على بابها للزمان، فهي في زيادة الخلود.
٣ - ومنهم من قال: " إلا " على بابها، و " ما " بمعنى " من ": جاءت لِمَنْ يعقل، فهي استثناء من الأشخاص والمعذبين الذين يخرجون من النار من المؤمنين. وسنذكر قول من بلغنا (قوله) من العلماء في ذلك.
قال قتادة: " الله أعلم بِثَنِيَّاه. ذُكِر لنا أن ناساً يصيبهم سَفَعٌ من النار
3466
بذنوب أصابوها، ثم يدخلهم الله الجنة برحمته يسمون: الجهنميون. فيكون هذا الاستثناء في أهل التوحيد.
(وقيل: المعنى: إلا ما شاء ربك أن يتجاوز عنه. وذلك في أهل التوحيد) فهو استثناء من الداخلين النار، لا من الخلود. " فإلا " على هذين القولين لللاستثناء، و " ما " بمعنى " من ": استثنى خروج من يدخل النار من المؤمنين.
وقيل: " عنى بذلك أهل النار، وكل من دَخَلَهَا ".
وروي عن ابن مسعود رضي الله عنهـ، أنه قال: " ليأتين على جهنم زمان تَخْفِقُ أبوابها، ليس فيها أحد ".
وقال الشعبي: " جهنم أسرع الدارين عمراناً، وأسرعها خراباً ". وهذان القولان شاذَّان.
وقال ابن زيد: هي مشيئته في الزيادة من العذاب، أو في النقصان، وقد
3467
تبين لنا معنى تبيانه في أهل الجنة بقوله: ﴿عَطَآءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ﴾: إنه في الزيادة، ولم يبين لنا ذلك في أهل النار. وهو محتمل للزيادة والنقص من العذاب.
وقوله تعالى: ﴿فَذُوقُواْ فَلَن نَّزِيدَكُمْ إِلاَّ عَذَاباً﴾ [النبأ: ٣٠]، يدل على أنه في الزيادة. وقال بعض (أهل) العربية: وهو استثناءٌ استثناه، ويفعله، كقولِك: " لأضربنك إلا أن أرى غير ذلك، وعَزْمِك على ضربه وقال بعضهم: " إلا " هنا: بمعنى سوى. والمعنى: سوى ما شاء الله من الزيادة في الخلود، وهو اختيار أبي بكر. قال: لأن الله تعالى لا خلف لوعده، وقد وصل الاستثناء في أهل الجنة بقوله: ﴿عَطَآءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ﴾، (فدلّ) على أن الاستثناء إنما هو في زيادة الخلود.
" فما " على بابها، و " إلا " لللاستثناء.
وقول آخر، وهو قول المازني: إنه استثناء إقامتهم، واحتسابهم، ما بين
3468
الموت والبعث. وهو البرزخ، إلى أن يصيروا في الجنة. يقول: لم يغيبوا عنها إلا مقدار إقامتهم في البرزخ. " فما " أيضاً على بابها للزمان، و " إلا " للاستثناء.
وقول آخر: وهو أن يكون الاستثناء يراد به من دوام السماوات والأرض في الدنيا.
ومعنى: ﴿مَا دَامَتِ السماوات والأرض إِلاَّ مَا شَآءَ رَبُّكَ﴾ يعني: تعميرهم في الدنيا قبل ذلك.
وقيل: الاستثناء واقع على مقامهم في قبورهم. وقيل: إن معنى الاستثناء في أهل الجنة مخصوص في بعضهم. يراد به: قدر بعث من دخل النار من الموحدين إلى أن رحموا، وأخْرجوا، وأدخلوا الجنة.
وقال ابن زيد: المعنى: " ما دامت الأرض أرضاً، والسماء سماء ". ﴿إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ﴾: أي: لا يمنعه مانع من فعل ما أراد. (قال أبو محمد مكي). وقد أفردنا / كتاباً مفرداً لشرح هذه الآية، وذكرنا فيها من أقاويل
3469
العلماء بضعة عشر قولاً، وبيَّنا جواز وقوع " ما " لمن يعقل بياناً شافياً في ذلك الكتاب. وذكرنا في هذا اختصار ما ذكرنا في ذلك الكتاب.
ومن قرأ " سعدوا " بالفتح فهي اللغة الجيدة المشهورة. يقال: ما سعد حتى أسعده الله. وإجماعهم على " شقوا " بالفتح يدل على فتح " سعدوا "، ولو كانت بالضم لقيل: " سعدوا "، ومن قرأ بالضم فهي مكروهة عند أكثر النحويين، واحتج الكسائي في الضم بقولهم: " مسعود: (وهذا) لا حجة فيه له، لأن " فيه " محذوفة منه. يقال: مكان مسعود فيه. واحتج الكسائي بقول العرب: " فغر فاه، وفغر فوه "، وجبر العظم وجبرته، ونزحت البئر ونزحتها: فهذا لا يقاس عليه، إنما يسمع
3470
سماعاً. واحتج الكسائي للضم أيضاً، بأنه كذلك سمعتُ من أًحاب عبد الله يقرؤونها.
وكان الكسائي، وغيره حكوها لغة في " أسعد ": تسقط الألف وتضم السين. كقوله: ﴿مَا دَامَتِ السماوات والأرض﴾، وقال في موضع آخر: ﴿يَوْمَ نَطْوِي السمآء كَطَيِّ السجل لِلْكُتُبِ﴾ [الأنبياء: ١٠٤]، وقال: ﴿يَوْمَ تُبَدَّلُ الأرض غَيْرَ الأرض﴾ [إبراهيم: ٤٨]. فإن قيل: فما دوام ذلك على هذا؟ فالجواب إن ابن عباس قال: وقد سأله رجل، فقال: يا أبا عبد الله من أي شيء خلقت الأشياء؟ فقال: من خمسة أشياء من نار، وتراب، وريح، وماء، ودخان. فقال له: ومن أي شيء خلقت هذه الخمسة؟ فقال: من نور العرش. فقال له: أفرأيت قول الله تعالى، ﴿ مَا دَامَتِ السماوات والأرض﴾، وقوله: ﴿يَوْمَ تُبَدَّلُ الأرض غَيْرَ الأرض﴾ [إبراهيم: ٤٨] وقوله:
3471
﴿يَوْمَ نَطْوِي السمآء كَطَيِّ السجل لِلْكُتُبِ﴾ [الأنبياء: ١٠٤] فما دوامها، وقد فنيتا. فقال ابن عباس: فإذا كان ذلك، ردتا إلى النور الذي أخذتا منه، فهما دائمتان لا بد في نور العرش.
ومعنى: ﴿غَيْرَ مَجْذُوذٍ﴾: غير مقطوع، وقيل: غير منزوع.
(شقي وسعيدٌ): وقف. ﴿إِلاَّ مَا شَآءَ رَبُّكَ﴾ وقف عند أبي حاتم في الموضعين. والوقف على الاستثناء في قصة أهل النار جائز وليس بجائز في قصة أهل الجنة، لأن بعده " عطاء " منصوب على المصدر، فما قبله يعمل فيه. فإن نصبته بإضمار فعل وقفت على ما قبله.
3472
قوله: ﴿فَلاَ تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِّمَّا يَعْبُدُ هؤلاء مَا يَعْبُدُونَ إِلاَّ كَمَا يَعْبُدُ آبَاؤُهُم مِّن قَبْلُ﴾ - إلى قوله - ﴿مُرِيبٍ﴾.
الإشارة في هؤلاء إلى مشركي قريش. والمعنى: فلا يكن من آمن بك يا محمد في شك مما يعبده مشركو قريش من الأصنام، إنها باطل. ما يعبدون إلا كعبادة آبائهم من قبل. ﴿وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ﴾ يا محمد ﴿نَصِيبَهُمْ﴾، أي: حظهم من خير وشر. ﴿غَيْرَ مَنقُوصٍ﴾: أي: " لا أنقصهم مما وعدتهم ".
ثم قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا موسى الكتاب فاختلف فِيهِ﴾: وهذا تسلية من الله تعالى لنبيه عليه السلام، في تكذيب مشركي العرب له، فيما جاءهم به من عند الله تعالى. فالمعنى: آتينا موسى الكتاب، كما آتيناك، ﴿فاختلف فِيهِ﴾: فكذب بعضهم، وصدق بعضهم، كما فعل قومك يا محمد.
﴿وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ﴾ وهو أنه سبق / أن يؤخر عقوبتهم
إلى يوم القيامة. فإنه لا يعجل عليهم. ﴿لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ﴾: أي: في الدنيا.
﴿وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مُرِيبٍ﴾: أي: وإن الذين كذبوا، لفي شك منه إنه من عند الله. ﴿مُرِيبٍ﴾: أي: " يريبهم، فلا يدرون أحق؟ أم باطل؟ ".
قوله: ﴿وَإِنَّ كُلاًّ لَّمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمَالَهُمْ﴾ - إلى قوله - ﴿ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ﴾.
قرأ الزهري: " وإن كلاًّ " بالتشديد، لما " بالتنوين مشدداً أيضاً، وقرأ الأعمش: (" وإن كلا " بتخفيف " إنْ "، ورفع " كل " وتشديد " لما ". (وفي حرب أبي ": " وإن كلّ " إلا ليوفينَّ ربك أعمالهم ". وفي حرف ابن
3474
مسعود: " وإن كل) إلا ليوفينهم ربك أعمالهم ". ومن شدَّدَ " إنَّ " نصب " كلاً " بها. واللامُ في " لَما " لام تأكيد. و " ما " صلة، هذا على قراءة التخفيف. والخبر في " ليوفينهم ".
والتقدير: وإن كلاً ليوفينهم. وقراءة من خفف إنْ، ونصب " كلا " على هذا التقدير، إلا أنه، خفف " إن " وأعملها كما يفعل الفعل، وهو محذوف منه.
وأنكر الكسائي التخفيف والعمل.
وقال الفراء: من خف " إن " نصب " كلاً " بقوله: " ليوفينهم، وهذا لا يجوز أن يعمل ما بعد اللام فيما قبلها. ومن شدد " إن " و " لما " فهي غير جائزة عند
3475
المبرد، والكسائي.
قال المبرد: لا يجوز: " أن زيداً إلا لأضربنه ".
وقال الفراء: الأصل " لمن ما "، فاجتمعت ثلاث ميمات عند الإدغام، فحذفت إحداهن. وهذا لا يجوز عند البصريين.
وقال المازني: الأصل التخفيف في " لَما "، ثم ثقلت. وهذا أيضاً لا أصل له، (و) يجوز (تثقيل المخفف)، إلا لمعنى.
وقال أبو عبيد القاسم بن سلام: الأصل " لما " بالتنوين، من لممته لمّا: أي: جمعته، ثم بني منه فَعْلى، كما قرأ: " تثرا، و " تثري ".
3476
ومن خفف " إن "، وشدد " لما "، " فإن " بمعنى " ما "، و " لما " بمعنى " ألا " حكى ذلك الخليل، وسيبويه بمنزلة قوله: ﴿إِن كُلُّ نَفْسٍ لَّمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ﴾ [الطارق: ٤] أي: إلا عليها حافظ والقراءات الثلاث تكون فيها " إن " بمعنى " ما " لا غير.
وقد قيل: في قراءة من شدد " إنَّ " وخفف " لما ": إنَّ (ما) بمعنى: " من ". وإن المعنى: وإن كلا ﴿لَّمَّا﴾ ليوفينهم ربك أعمالهم، كما قال: ﴿فانكحوا مَا طَابَ لَكُمْ مِّنَ النسآء﴾ [النساء: ٣]: أي: ما طاب لكم نكاحه.
وقوله: ﴿إِنَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ﴾: أي: " لا يخفى عليه شيء من عملكم ".
ثم قال تعالى: ﴿فاستقم كَمَآ أُمِرْتَ﴾: أي: دم يا محمد على ما أنت عليه.
3477
﴿وَمَن تَابَ مَعَكَ﴾: أي: رجع إلى عبادة ربك، يدوم على ذلك. ﴿وَلاَ تَطْغَوْاْ﴾: أي: ولا تتعدوا أمره إلى ما نهاكم عنه.
﴿إِنَّهُ بِمَا (تَعْمَلُونَ) بَصِيرٌ﴾: أي: ذو علم، لا يخفى عليه شيء من عملكم. وقال سفيان: معنى ﴿فاستقم كَمَآ أُمِرْتَ﴾: أي: " استقم على القرآن "، ﴿وَلاَ تَطْغَوْاْ﴾: وقف.
ثم قال تعالى: ﴿وَلاَ تركنوا إِلَى الذين ظَلَمُواْ﴾. قرأ الأعمش ويحيى بن وثاب: " فتمسكم " بكسر التاء.
وقرأ قتادة: ولا تركُنوا بالضم في الكاف، يقال: رَكَنَ يركنُ، وركُنَ يركَنُ. قال ابن عباس: معناه: لا تذهبوا إلى الكفار.
3478
وقال ابن جريج: لا تميلوا إليهم.
وقال أبو العالية: " لا ترضوا أعمالهم ".
وقال قتادة: لا تلحقوا بالشرك ".
وقال ابن زيد: الركون هنا: / الإذعان. وذلك ألا ينكر عليهم كفرهم، وهذا لأهل الشرك. نهى الله تعالى، المؤمنين أن يميلوا إلى محبتهم، ومصافاتهم، وليس لأهل الإسلام. فأما أهل الذنوب من أهل الإسلام، فقد بينت السنة، والكتاب أنه لا يجوز أن يركن إلى شيء من معاصي الله، ولا يصالح عليها، ولا يقرب.
فالمعنى: ولا تميلوا إلى قول المشركين، فتمسكم النار، (بفعلكم ذلك). ﴿ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ﴾: إن فعلتم. وليس لكم ولِيّ من دون الله، ينقذكم من عذابه.
قوله ﴿وَأَقِمِ الصلاة طَرَفَيِ النهار وَزُلَفاً مِّنَ اليل﴾ - إلى قوله - ﴿وَكَانُواْ مُجْرِمِينَ﴾.
3479
وقال أبو جعفر: " وزُلُفاً " بضم اللام. وقرأ ابن مُحيصن بإسكان اللام فمن فتح اللام، فهو حمع واحده زلفة، وزلف، ومن ضم اللام فواحدةٌ " زليف " كقريب، وقرب. وقيل: عو واحد مثل الحلم، والحلم.
وقرأ مجاهد: " وزلفى " مثل " فعلى ". والزلف: الساعات، واحدها زلفة. ومن هذا سميت المزدلفة، لأنها منزل بعد عرفة. وقيل: سميت (بذلك) لازْدِلافِ آدم من عرفة إلى حوَّاء، وهي بها.
ومن أسكن اللام خففها من " زلفى " بالضم. ويعني بالزلف: الساعات القريبة من الليل.
3480
ومعنى الآية: ﴿وَأَقِمِ الصلاة طَرَفَيِ النهار﴾، يعني: الغداة، والعشي، فالغداة الصبح، والعشاء مجاهد هي صلاة الظهر.
ورُوي عنه: الظهر والعصر، وقيل: عنى بها صلاة المغرب، وهو قول الحسن، وابن زيد.
وروي عن منصور، عن مجاهد أنه قال: ﴿طَرَفَيِ النهار﴾ صلاة الفجر، والظهر، ﴿وَزُلَفاً مِّنَ اليل﴾: المغرب والعشاء.
وقال الضحاك: عنها بها صلاة العصر.
وقال مجاهد: وزلفاً من الليل: أي: ساعات من الليل: صلاة العتمة.
وروي عن الحسن: أنها صلاة المغرب، والعتمة. والاختيار عند الطبري، وغيره أن تكون صلاة المغرب، لأنها طرف، تصى بعد غروب الشمس، كما
3481
صلاة الصبح طرف، تصلى قبل طلوع الشمس: فكلاهما طرف.
وقوله تعالى: ﴿إِنَّ الحسنات يُذْهِبْنَ السيئات﴾.
(روى ابن عمر أن النبي ﷺ، قال: " الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة كفارات لما بينهن، إذا اجتنبت الكبائر "
" وقال أبو عثمان النهدي: كنت مع سلمان تحت شجرة، فأخذ غصناً منها، فهزَّه حتى تساقط ورقه، ثم ضحك، فقلت: ما أضحكك؟ قال: إني كنت مع رسول الله ﷺ، يوماً تحت شجرة، فأخذ غصناً منها، فهزَّه حتى تساقط ورقه، ثم ضحك. فقلت: ما أضحكك يا رسول الله؟ فقال: أضحكني أن العبد المسلم إذا توضأ وضوءه للصلاة، ثم صلى الصلوات الخمس، تساقطت عنه
3482
ذنوبه كما تساقطت هذه الورق، ثم تلى هذه الآية ﴿وَأَقِمِ الصلاة﴾ - إلى آخرها ".
وروي عن مجاهد، عن ابن عمر، أنه قال: " ما من مسلم يتوضأ، فيحسن الوضوء، إلا تناثرت عنه خطاياه، كما تتناثر ورق الشجرة اليابسة. ثم تكون صلاته نافلة (له). ثم قرا ابن عمر: ﴿وَأَقِمِ الصلاة﴾ الآية قال ابن عباس وغيره: هي الصلوات الخمس.
وقال مجاهد: هو قولنا: سبحان الله /، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر. وقيل: المعنى: أن التوبة تذهب الصغائر. ﴿ذلك ذكرى لِلذَّاكِرِينَ﴾: أي: النهي عن الركون إلى الذين ظلموا، وإقامة الصلاة تذكرة لقوم يذّكرون، وعد الله تعالى،
3483
وثوابه، وعقابه، سبحانه.
" وروي أن هذه الآية نزلت في رجل أتى إلى النبي ﷺ، فقال: يا رسول الله! إني وجدت امرأة في بستان قبلتها والتزمتها، ونلْت منها كل شيء إلا الجماع، فافعل بي ما شئت. فأنزل الله ﴿وَأَقِمِ الصلاة﴾ - إلى قوله - ﴿لِلذَّاكِرِينَ﴾. فقال معاذ بن بن جبل: يا رسول الله! أخاصٌّ له أم عام للناس؟ (فقال: بل للناس كافة "
وقال أنس بن مالك، رضي الله عنهـ، " أتى رجل إلى رسول الله ﷺ، فقال
3484
له: إني أصبت حداً، فأقمه عليّ. فأمسك النبي ﷺ، عنه. وحضرت الصلاة، فصلى: فقال: يا رسول الله! إني أصبت حداً، فأقم علي كتاب الله. فقال: أصليت معي؟ قال: نعم. قال: قد غفر الله لك ".
وقيل: المعنى: أن الصلوات الخمس، يكفرن ما بينهن من الذنوب، إذا اجتنبت الكبائر.
ثم قال تعالى لنبيه عليه السلام: ﴿واصبر فَإِنَّ الله لاَ يُضِيعُ أَجْرَ المحسنين﴾: أي: " اصبر يا محمد على ما تلقى من مشركي قومك من الأذى ". فالله لا يضيع ثواب من صبر في الله تعالى.
ثم قال تعالى: ﴿فَلَوْلاَ كَانَ مِنَ القرون مِن قَبْلِكُمْ أُوْلُواْ بَقِيَّةٍ﴾ أي: فهلاَّ كان من القرون الذين خصصنا خبرهم في هذه السورة، أو لو بقية في الفهم، والعقل، فيعتبرون مواعظ الله تعالى، ويتدبرون حججه، جلت عظمته فينتهون عن الفساد.
وفي الكلام معنى التعجب.
وقوله: ﴿إِلاَّ قَلِيلاً﴾ قليل هو استثناء ليس من الأول.
3485
قال ابن زيد: هم الذين نجوا حين نزل العذاب، يعني: قوم يونس عليه السلام، ومن نجا مع الرسل.
﴿اتبع الذين ظَلَمُواْ﴾ أي: من دنياهم وبطرهم. والمعنى: اتبعوا ما أبطَرَهُمْ فيه ربهم من نعيم دنياهم، إيثاراً على الآخرة، وما ينجيهم من عذاب الله.
وقال مجاهد: ابتعوا مهلكهم وتَجَبُّرَهُم، وتركوا الحق، واستكبروا عن أمر الله. والمترف في كلام العرب (المُنَعَّمُ في الدنيا) الذي قد غُذِّي باللذات.
﴿وَكَانُواْ مُجْرِمِينَ﴾: أي: مكتسبين الكفر. ﴿مِّمَّنْ أَنجَيْنَا مِنْهُمْ﴾: وقف وقد أجاز أبو حاتم الوقف على الأرض، ورُدَّ ذلك عليه، لأن بعده استثناء.
3486
قوله: ﴿وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ القرى بِظُلْمٍ﴾ إلى قوله: ﴿لِلْمُؤْمِنِينَ﴾
والمعنى وما كان ربك يا محمد أن يهلك القرى التي قص عليم نبأها (بظلم)، وأهلها مصلحون، ولكن أهلكها بكفرها.
وقيل: المعنى: ما كان الله ليهلكهم بظلمهم، أي: بشركهم، وهم مصلحون، لا يتظالمون بينهم، إنما يهلكهم إذا جمعوا مع الشرك غيره من الفساد. ألا ترى إلى قوله في قوم لوط؟: ﴿وَمِن قَبْلُ كَانُواْ يَعْمَلُونَ السيئات﴾ [هود: ٧٨]، يريد الشرك، فعذبهم باللواط الذي أَافوه إلى شركهم. وأخبر الله عن قوم شعيب أنه عذبهم لنقصهم الكيل، وأمسك عن ذكر شركهم، وهذا قول غريب.
وقال الزجاج المعنى: " ما كان ربك ليهلك أحداً، وهو يظلمه كما قال: ﴿إِنَّ الله لاَ يَظْلِمُ الناس شَيْئاً﴾ [يونس: ٤٤].
ثم قال / تعالى: ﴿وَلَوْ شَآءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ الناس أُمَّةً وَاحِدَةً﴾: أي: " على مِلَّة واحدة، ودين واحد ".
قال قتادة: كلّهم مسلمين، ﴿وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ﴾: أي لا يزال الناس
3487
مختلفين. وروي عن ابن عباس أنّه يعني في الأديان: اليهود، والنصارى. وقيل: في الأرزاق، هذا فقير، وهذا غني. قاله الحسن.
وقيل: في المغفرة والرحمة.
﴿إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ﴾: أي: لكن من رحم ربك فإنه غير مختلف. وقيل: ﴿إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ﴾: أهل الإيمان والإسلام.
وقوله: ﴿ولذلك خَلَقَهُمْ﴾ قال الحسن: للاختلاف في الأرزاق خلقهم. وقال ابن عباس: خلقهم فريقين: فريقاً يرحم، وفريقاً لا يرحم يختلف، وذلك قوله: ﴿فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ﴾ [هود: ١٠٥].
وقال عطاء: ولذلك خلقهم: يعني: مؤمناً وكافراً. وقال أشهب: سألت
3488
مالكاً، رحمة الله، عن قوله: ﴿وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ ولذلك خَلَقَهُمْ﴾ فقال: خلقهم ليكونوا فريقاً في الجنّة، وفريقاً في السعير.
ففي الكلام على هذا القول تقديم وتأخير، والتقدير: " إلا من رحم ربك، وتمت كلمة ربك لأملأن جهنّم من الجنة والناس أجمعين، ولذلك خلقهم ". وقد كان يجب في قياس العربية على هذا التقدير أن يكون اللفظ: وتمّت كلمته.
وروى ابن وهب: عن عمر بن عبد العزيز رضي الله عنهما، أنه قال في معنى الآية: خلق الله أهل رحمته لئلا يختلفوا.
وقيل: المعنى: وللرحمة خلقهم. والرحمة، والرحم واحدة، فلذلك ذكر. قاله مجاهد، وقتادة، والضحاك.
وروي أيضاً ذلك عن ابن عباس، وقيل: إنّ هذا متعلق بما قبله، وهو
3489
قوله: ﴿يَنْهَوْنَ عَنِ الفساد فِي الأرض﴾ [هود: ١١٦]، ولذلك خلقهم. (وقيل: هو متعلق بما قبله بقوله: ﴿رَبِّكَ لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الجنة والناس أَجْمَعِينَ﴾، ولذلك خلقهم): وهو قول مالك المتقدّم.
وقيل: المعنى: وللاسعاد خلقهم، وقيل: للإسعاد والإشقاء خلقهم.
ثم قال تعالى: ﴿وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ﴾: أي: وجبت: ﴿لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الجنة والناس أَجْمَعِينَ﴾: لما تقدم في علمه أنهم يستوجبون ذلك.
وقوله: ﴿مِنَ الجنة﴾: يعني: ما اجتن عن عيون بني آدم من الجن والناس، يعني: بني آدم أجمعين، وذلك على التوكيد.
وقيل: إنّما سموا " جنة " لأنهم كانوا على الجنان. والملائكة كلهم جنة لاستتارهم.
ثم قال تعالى: ﴿وَكُلاًّ نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرسل﴾: أي: من أخبارهم، وأخبار أممهم يا محمد. نفعل ذلك لنثبت به فؤادك، لأن كلما كثرت البراهين كان القلب أثبت. والفؤاد يُراد به القلب، وهذا كما قال إبراهيم صلوات الله
3490
عليه، ﴿وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي﴾ [البقرة: ٢٦٠] وقيل: المعنى: ما نثبتك به على أداء الرسالة، والصبر على ما ينالك منهم. فتعلم ما نالت الرسل، وما حلّ بها قبلك، فتتأسى بذلك.
و" كلا " منصوب ل " نقص "، " وما " بدل من " كل ".
وقال الأخفش: كلا " نصب " على / الحال. وقال غيره: هي منصوبة على المصدر: أي: كل القصص نقص عليك.
ثم قال تعالى: ﴿وَجَآءَكَ فِي هذه الحق وَمَوْعِظَةٌ وذكرى﴾: أي: في هذه السورة. قالَهُ ابن عباس، والحسَن، ومجاهد، وقتادة.
وقيل: في هذه الدنيا، رُويِ ذلك عن قتادة.
والمعنى: وجاءك في هذه السورة الحق، مع ما جاءك في غيرها من السور. وليس
3491
المعنى: وجاءك في هذه السورة الحق، دون غيرها، بل في الكل جاء الحق. وذكر في هذه السورة بهذا تأكيداً لما فيها من القصص والمواعظ، وذكر الجنة والنار ومقام الفريقين.
والقسم بأن يوفي لكل عمله، وغير ذلك من الإخبار، والمواعظ، والتحريض على إقامة الصلوات وغير ذلك. وليس إذا كان في هذه الحق فيما لا يكون في غيرها، بل غيرها فيه الحق. وقد اختار قومٌ قول قتادة: إن المعنى: في هذه الدنيا، وموعظة: لمن جهل، (وذكرى) لمن عقل من المؤمنين.
قوله: ﴿وَقُل لِّلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ اعملوا على مَكَانَتِكُمْ﴾ إلى آخر السورة - أي: وقل يا محمد للذين لا يؤمنون بما جئت به، اعلموا على طريقتكم وتمكنكم، وما أنتم عليه، ﴿إِنَّا عَامِلُونَ﴾: على ما نحن عليه من الأعمال التي أمرنا ربنا بها، ﴿وانتظروا﴾ ما وعدكم الشيطان ﴿إِنَّا مُنتَظِرُونَ﴾: ما وعدنا الله.
3492
ثم قال تعالى: ﴿وَللَّهِ غَيْبُ السماوات والأرض﴾: أي: ملك ما غاب عنك، ومعرفته. ﴿وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الأمر كُلُّهُ﴾: أي: يرد كله، وهو الحاكم في جميعهم، ومجازيهم. ﴿فاعبده وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ﴾: أي: " فوض أمرك إليه " ﴿وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ﴾: " هؤلاء المشركون من قومك، بل هو محيط بهم "، عالم بما يعملون.
قال كعب: " خاتمة التوراة خاتمة هود ".
3493
Icon