تفسير سورة سورة يوسف من كتاب صفوة البيان لمعاني القرآن
.
لمؤلفه
حسنين مخلوف
.
المتوفي سنة 1410 هـ
مكية، وآياتها إحدى عشرة ومائة
ﰡ
بسم الله الرحمن الرحيم
﴿ نحن نقص عليك أحسن القصص ﴾ نبين لك قصة يوسف بن يعقوب – عليه السلام – أحسن البيان، وإن كانت من قبل ذلك لم تقرع سمعك. يقال : قص عليه الخبر، أعلمه إياه. واقتص الحديث : رواه على وجهه. وأصله من قولهم : قص الأثر قصا وقصصا، تتبعه.
﴿ يا أبت ﴾ أصله يا أبي، فحذفت الياء وعوض عنها تاء التأنيث اللفظي، ونقلت إليها كسرة الباء، ثم فتحت الباء على القاعدة في فتح ما قبل تاء التأنيث.
﴿ فيكيدوا لك كيدا ﴾ فيحتالوا في هلاكك احتيال خفيا لا قبل لك بدفعه. و﴿ كاد ﴾ يتعدى بنفسه فيقال : كاده يكيده كيدا، إذا احتال لإهلاكه، ولتضمنه معنى احتال عدى باللام.
﴿ و كذلك يجتبيك ربك ﴾ أي كما اجتباك لهذه الرؤيا الحسنة يجتبيك لأمور عظام. والاجتباء :
الاصطفاء والاختيار﴿ و يعلمك من تأويل الأحاديث ﴾ أي وهو يعلمك تعبير الرؤيا وهو علم ما تئول إليه، من الأول وهو الرجوع.
﴿ لقد كان في يوسف... ﴾ سأل اليهود النبي صلى الله عليه وسلم عن قصة يوسف، فنزلت هذه السورة جملة واحدة فيها كل ما في التوراة من القصة وزيادة، فكان ذلك آية له صلى الله عليه وسلم دالة على صدقه. وفيها من العبر الكثيرة مالا غنى عنه الناس.
﴿ ونحن عصبة ﴾ جماعة قادرون على خدمته دون يوسف وأخيه. والعصبة : ما بين العشرة إلى الأربعين كالعصابة، من العصب وهو الشد، لأن كل واحد منها يشد الآخر ويعضده. أو لأن الأمور تعصب بهم، أي تشتد فتقوى.
﴿ ضلال مبين ﴾ خطأ ظاهر بإيثارهما علينا بالمحبة، مع فضلنا عليهما، وكونهما بمعزل عن كفاية الأمور، ولم يريدوا الخطأ في الدين. وأصل الضلال : الميل عن المنهج السوي. يقال : ضل يضل، إذا خفي وغاب وضاع.
﴿ اطرحوه أرضا ﴾ القوه في ارض بعيدة عن أبيه. ﴿ يخل لكم وجه أبيكم ﴾ تخلص لكم محبة أبيكم دون أن يشارككم فيها أحد، فيقبل عليكم بكليته. يقال : خلا الممكن يخلو خلوا وخلاء، فرغ
ومكان خلاء : ليس به أحد.
﴿ و ألقوه في غيابه الجب ﴾ في قعر الجب حيث يغيب خبره. والجب : البئر التي لم تطو – لم تبن بالحجارة – وجمعه أجياب وجياب وجيبة، وسميت جبا لأنها قطعت في الأرض قطعا. والغيابة : غور الجب وما غاب منه عن الأعين واظلم من أسفله. ﴿ يلتقطه بعض السيارة ﴾ أي المارة من المسافرين، فيذهب به إلى ناحية بعيدة فتستريحون منه. جمع سيار، وهو المبالغ في السير.
﴿ يرتع ويلعب ﴾ يتسع في أكل الفواكه ونحوها، ويلهو بالاستباق والانتضال ونحوهما، من الرتع، وهو الاتساع في الملاذ والتنعم في العيش، وفعله كمنع. ومنه قيل الاتساع في الخصب : الرتعة.
﴿ و أجمعوا ﴾ عزموا عزما قويا. يقال : أجمعت السير والأمر وأجمعت عليه، عزمت عليه. ﴿ أن يجعلوه في غيابة الجب ﴾ وهو بئر على ثلاثة فراسخ من مقام يعقوب عليه السلام.
﴿ وأوحينا إليه ﴾ أي بطريق الإلهام، أو مبشرات الرؤيا، أو بإرسال جبريل عليه السلام. وكان ذلك قبل بلوغه الحلم – على الأرجح – تطمينا له وليس استنباء.
﴿ نستبق ﴾ نتسابق في الرمي بالسهام، أو على الخيل أو على الأقدام، يقال : استبقا، أي تسابقا حتى ينظر أيهما اسبق.
﴿ سولت لكم أنفسكم أمرا ﴾ زينت وسهلت لكم أنفسكم أمرا عظيما في يوسف فعلمتوه،
من التسويل، وهو تزين النفس لما تحرص عليه، وتصوير القبيح منه بصورة الحسن. ﴿ فصبر جميل ﴾ فصبري صبر جميل، وهو ما لا شكوى فيه لأحد غير الله تعالى.
﴿ وجاءت سيارة ﴾ مسافرون من جهة مدين إلى مصر﴿ فأرسلوا واردهم ﴾ وهو الذين يتقدم القوم فيرد المنهل ويستقي لهم. يقع على الواحد وعلى الجماعة. ويقال لكل من يرد الماء : وارد، والماء مورود. ﴿ فأدلى دلوه ﴾ فأرسلها إلى الجب ليستخرج الماء منه، فتعلق بها يوسف، فلما خرج فرح الوارد وقال :﴿ يا بشرى هذا غلام ﴾. يقال : أدلى دلوه يدليها في البئر، إذا أرسلها فيها ليملأها، فإذا نزعها وأخرجها ملأى قيل : دلا الدلو بدلوها، من باب عدا. والدلو : التي يستقى بها تؤنث وتذكر. ﴿ و أسروه بضاعة ﴾ أي أخفى الوارد وأصحابه أمره عن باقي الرفقة، مخافة أن يشاركوهم فيه إذا علموا خبره، وقالوا لهم : قد دفعه إلينا أهل هذا الماء بضاعة لنبيعه لهم بمصر، من الإسرار، ضد الإعلان. والبضاعة : القطعة من المال تتخذ للتجارة، من البضع وهو القطع، وأصله جملة من اللحم تبضع، أي تقطع. ولما علم إخوة يوسف بأمره أتوا الوارد وأصحابه وقالوا : إنه عبد آبق منا، فاشتروه منهم بثمن ناقص زهدا فيه لكونهم معيبا.
و﴿ بخس ﴾ أي نقص بمعنى ناقص أو منقوص، مصدر بخسه يبخسه بخسا، نقصه أو عابه.
﴿ أكرمي مثواه ﴾ ولما اشترى العزيز – الذي كان على خزائن مصر من قبل ملكها يومئذ – يوسف من السيارة قال لزوجته زليخا : اجعل منزلة ومقامه عندنا حسنا مرضيا( آية ١٥١ آل عمران ص ١٢٨ ).
﴿ ولما بلغ أشده ﴾ منتهى شدته وقوته، وذلك بتمام خلقه واستكمال عقله( آية ١٥٢ الأنعام ص ٢٤٨ ). وفي سنه التي بلغ فيها أشده أقوال. ﴿ آتيناه حكما ﴾ أي حكمة، وهي الإصابة في القول والعمل. أو هي النبوة. ﴿ و علما ﴾ أي فقها في الدين. أو علم تعبير الرؤيا.
﴿ وراودته.. ﴾ المراودة مفاعلة من الرويد، وهو الرفق والتمحل، وتعديتها ب﴿ عن ﴾ لتضمنها معنى المخادعة. أي دعته امرأة العزيز إلى نفسها، وفعلت معه المخادع لصاحبه عن شيء لا يريد أن يخرجه من يده، وهو يحتال أن يأخذه منه، فكان منها الطلب، وكان منه الإباء خوفا من الله تعالى. وقيل : إن المفاعلة من جانب واحد، على حد قولهم : مماطلة المدين، ومداواة المريض، ونظائرهما.
﴿ هيت لك ﴾ اسم فعل بمعنى هلم، أي تعال وأقبل وأسرع ونحوه، مما يدل على الحث
و الإقبال على الشيء. وقيل : هي لفظة معربة، أو من الألفاظ التي اتفقت فيها اللغات. واللام في ﴿ لك ﴾ لتبيين المخاطب، كما في : سقيا لك، ورعيا لك. وهي متعلقة بمحذوف، كأنها تقول : أقول لك، أو الخطاب لك.
﴿ قال معاذ الله ﴾ أعوذ بالله معاذا مما تريدين مني. أي أعتصم بالله وأستجير به، والتجأ إليه التجاء في دفع ذلك عني. وهو منصوب على المصدر بفعل محذوف.
﴿ ولقد همت به وهم بها.. ﴾ الهم : المقاربة من الفعل من غير دخول فيه. ولا خلاف في أن همها كان بالمعصية، وكان عزما وجزما، ولا في أن يوسف عليه السلام لم يأت بفاحشة، وأن الله برأه منها وأنطق المرأة ببراءته، وأن همه عليه السلام كان مجرد خاطرة قلب بمقتضى الطبيعة البشرية، من غير جزم وعزم. و ذلك لا يدخل تحت التكليف، ولا يخل بمقام النبوة، كالصائم يرى الماء البارد في اليوم الحار فتميل نفسه إليه، ولكن يمنعه منه دينه فلا يؤاخذ بهذا الليل، وقوله تعالى :﴿ لولا أن رأى برهان ربه ﴾ أي لولا مشاهدته البرهان الإلهي على شناعة المعصية لجرى على موجب ميله الجبلي، لكنه لمشاهدته البرهان استمر على ما هو عليه من الطهارة وإياه المعصية. ولذا قيل : الهم همان :
هم ثابت، وهو كان معه عزم وعقد ورضا، مثل امرأة العزيز. وهم عارض، وهو الخطرة وحديث النفس من غير اختيار ولا عزم، مثل هم يوسف وقد عصمه الله وصرف عنه السوء
والفحشاء، كيف وهو من عباد الله المخلصين ؟. وقيل : إنه عليه السلام هم بدفعها عن نفسه بالقوة
و كاد، لولا أن أراه الله أنه لو فعل ذلك لفعلت معه ما يوجب هلاكه، فكان في الامتناع عنه صون نفسه من الهلاك، فربما تعلقت به فتمزق ثوبه من قدام، وكان في علم الله أن الشاهد يشهد بأن تمزيقه من الأمام دليل جنايته، وتمزيقه من الخلف دليل جنايتها وبراءته، فلا جرم لا يشتغل بدفعها بالقوة وفر عنها هاربا، حتى صارت الشهادة حجة له على براءته. فلم يقع منه هم بالفاحشة، وإنما وقع منه الهم بدفع امرأة العزيز عن نفسه، ولم يحصل الدفع لرؤيته برهان ربه. وفي البحر : أنه لم يقع منه هم البتة، بل هو منفي لوجود رؤية البرهان، وهو نظير قولك : قارفت الذنب لولا عصمك الله. وجواب ﴿ لولا ﴾ محذوف لدلالة ما قبله عليه، أي لولا أن رأى البرهان لهم بها، أي أن الهم كان يوجد لو لم ير برهان ربه، لكنه رآه فانتفى الهم.
﴿ و استبقا الباب ﴾ تسابقا إليه، يقصد هو الفرار من الفاحشة، وتقصد هي منعه منه لتقضى حاجتها منه. والتسابق والمسابقة بمعنى واحد. ﴿ وقدت قميصه من دبر ﴾ شقته، من القد وهو القطع والشق، وأكثر ما يستعمل فيما كان طولا، وهو المراد هنا، لأنها جذبته من وراء، فانخرق القميص إلى أسفله.
﴿ قد شغفها حبا ﴾ أصاب حبها إياه شغاف قلبها، حتى غلب عليه وتمكن منه. والشغاف : سويداء القلب، أو حجابه وغلافه الذي هو فيه. يقال : شغف الهوى قلبه شغفا- من باب نفع- بلغ شغافه
و الاسم الشغف. و﴿ حبا ﴾ محول عن الفاعل، والأصل : شغفها حبها إياه.
﴿ فلما سمعت بمكرهن ﴾ باغتيابهن إياها وسوء مقالتهن فيها. وسمي ذلك مكرا لشبهه في الإخفاء.
﴿ و أعتدت لهن متكأ.... ﴾ هيأت لهن في مجلسها ما يتكئن عليه من النمارق والوسائد، اسم مفعول من الاتكاء وهو الميل إلى أحد الشقين في الجلوس كعادة المترفين. وأحضرت لهن طعاما يقطع بالسكين عند أكله، وآتت كل واحدة منهن سكينا، فلما رأين يوسف﴿ أكبرنه ﴾ أي أعظمنه، ودهشن عند رؤية جماله. يقال : أكبر الشيء، رآه كبيرا وعظم عنده. وكبر الشيء : جعله كبيرا، من الكبر بمعنى العظم. ﴿ و قطعن أيديهن ﴾ خدشنها وحززنها بما في أيديهن من السكاكين، ولم يشعرن لأفتتانهن به. يقال إذا خدش الإنسان يد صاحبه : قطع يده. ﴿ حاش لله ما هذا بشرا ﴾ معاذ الله أن يكون هذا بشرا، أو جانب يوسف ما قرف به الله، أي لأجل مخافة الله ومراقبته. والمراد تنزيهه وبعده، كأنه صار في جانب عما اتهم به لما رأوه من آثار العصمة وجلال النبوة عليه. ف [ حاش ] فعل ماض، واللام في لله للتعليل. وقيل : هو اسم فعل بمعنى برئ الله من كل سوء. أو تنزيها لله سبحانه عن صفات التقصير والعجز عن خلق مثله، وفيه معنى التعجب من قدرته تعالى على مثل هذا الصنيع البديع.
﴿ فاستعصم ﴾ فامتنع امتناعا بليغا، وتحفظ تحفظا شديدا عما طلبته منه، من العصمة وهي المنع يقال : عصمه الطعام، منعه من الجوع وعصم القربة : شدها بالعصام. واعتصم بالله : امتنع بلطفه من المعصية.
﴿ أصب إليهن ﴾ أمل إليهن وأمالئهن على ما يردن مني بحكم الميل الطبيعي والشهوة البشرية، من الصبوة، وهي الميل إلى الهوى. يقال : صبا يصبو صبوا وصبوة، إذا مال، ومنه الصبا للريح المعروفة، لميل النفوس إليها لطيب نسيمها وروحها.
﴿ لا يأتيكما طعام... ﴾ وعدهما بإخبارهما بكل طعام يأتيهما قبل إتيانه بطريق الكشف بنور النبوة، لأجل أن يعلما صدقه فيمتثلا دعاءه لهما إلى التوحيد. وهذه معجزة له كمعجزة عيسى حيث قال :﴿ وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم ﴾.
﴿ فأنساه الشيطان... ﴾ أنسى الشيطان ذلك الناجي ذكر يوسف عند سيده ﴿ بضع سنين ﴾ البضع –بالكسر ويفتح- ما بين الثلاث إلى التسع أو السبع، من البضع بمعنى القطع والشق يقال : بضعت الشيء، أي قطعته.
﴿ يأكلهن سبع عجاف ﴾ مهزولة. والعجف – بفتحتين – ذهاب السمن، وهو أعجف وهي عجفاء.
و قد عجف – كفرح وكرم- : ذهب سمنه. ﴿ إن كنتم للرؤيا تعبرون ﴾ أي إن كنتم تعبرون الرؤيا، أي تعلمون تعبيرها علما مستمرا، من العبور وهو المجاوزة. يقال : عبر الرؤيا يعبرها عبرا
وعبارة وعبرها، فسرها وأولها، أي ذكر عاقبتها وآخر أمرها. وعبرت النهر عبرا وعبورا، إذا قطعته وجاوزته. واللام لتقوية الفعل بعدها.
﴿ أضغاث أحلام ﴾ أي هذه تخاليط أحلام ومنامات باطلة. جمع ضغث، وأصله جمع من أخلاط النبات وحزم كالحزمة من الكلأ، استعير لما تجمعه القوة المتخيلة من أحاديث النفس ووساوس الشيطان في المنام. والأحلام جمع حلم وحلم، وهو ما يراه النائم مما ليس بحسن.
﴿ و اذكر بعد أمته ﴾ تذكير بعد حين طويل من الزمن ما سبق له مع يوسف في السجن. وأصله اذتكر – بوزن افتعل – من الذكر، ودخله الإبدال. والأمة هنا : الطائفة من الزمن ( آية ١٠٤ آل عمران ص ١١٩ ).
﴿ دأبا ﴾ أي على عادتكم المستمرة في الزراعة. مصدر دأب على الشيء يدأب دأبا ودأبا، أي دوام عليه ولازمه. وحاصل تعبيره : أنه أول البقرات السمان والسنبلات الخضر بسنين مخصبة، والعجاف واليابسات بسنين مجدية، وابتلاع العجاف السمان بأكل ما جمع في السنين المخصبة في السنين المجدية.
﴿ تحصنون ﴾ تحرزونه وتخبئونه من البذر للزراعة، من الإحصان، وهو جعل الشيء في الحصن كالأحراز. يقال : أحصن الشيء، جعله في الحصن، وهو الموضع الحصين الذي لا يوصل إلى جوفه.
﴿ فيه يغاث الناس ﴾ يمطرون، من الغيث وهو المطر. يقال : غاث الله البلاد غيثا، أنزل بها المطر. وغاث الغيث، أصابها أو يغاثون، من الغوث وهو زوال الهم والكرب. يقال : أغاثه الله إغاثة، أعانه ونصره فهو مغيث، واستغاثني فأغثته إغاثة ومغوثة والاسم الغوث والغياث.
﴿ وفيه يعصرون ﴾ ما شأنه أن يعصر من نحو العنب والزيتون والقصب والسمسم للانتفاع بما يخرج منها، وذلك لخصبه.
﴿ ما بال النسوة ﴾ أي ما حالهن. والبال : الحال التي يكترث بها، ومنه : ما باليت بكذا، أي ما اكترثت به.
﴿ قال ما خطبكن ﴾ ولما أخبر الرسول الملك بذلك جمعهن وقال لهن : ما كان شأنكن وأمر كن إذ قلتن ليوسف ما قلتن ؟. مصدر خطب يخطب، ومنه : هذا خطب يسير، وخطب جلل، وجمعه خطوب.
و خصه بعضهم بما له خطر، وأصله الأمر العظيم الذي يكثر فيه التخاطب ويخطب له. ﴿ حاش لله ﴾.
معاذ الله أن يعمل سوءا. أو تنزيها لله تعالى عن أن يعجز عن خلق بشر عفيف كيوسف. ل﴿ الآن حصحص الحق ﴾ انكشف الحق وتبين بعد خفاء. وأصله حص، كما قيل : كبكب في كب من الحص وهو استئصال شعر الرأس بحلق أو مرض.
﴿ ذلك ليعلم أني ﴾ هو من كلام يوسف عليه السلام. وقيل : هو من كلا م امرأة العزيز.
﴿ مكين ﴾ متمكن نافذ القول لعظم منزلتك. اسم فاعل من مكن مكانة، إذا عظم وارتفع. يقال : مكنته من الشيء، جعلت له عليه سلطانا وقدرة، فتمكن منه واستمكن أي قدر عليه.
﴿ إني حفيظ عليم ﴾ حفيظ للخزائن، عليم بوجوه مصالحها، أو حفيظ لما تستودعني، عليم بما توليني.
﴿ يتبوأ منها حيث يشاء ﴾ يتخذ من أرض مصر منزلا وموطنا ينزله حيث يشاء. يقال : بوأه منزلا وفي منزل، أنزله.
﴿ جهزهم بجهازهم ﴾ هيأ لهم ما هم في حاجة إليه من الطعام، وأوقر ركائبهم به. وأصل الجهاز-بالفتح – والكسر لغة قليلة - : ما يحتاج إليه المسافر من زاد ومتاع. يقال : جهزت المسافر تجهيزا، هيأت له جهازه، ومنه جهاز العروس وجهاز الميت
﴿ اجعلوا بضاعتهم في رحالهم ﴾ البضاعة في الأصل : قطعة وافرة من المال تقتنى للتجارة.
والمراد بها هنا : أثمان الطعام الذي اكتالوه من مصر. والرحال : الأوعية التي يحمل فيها الطعام وغيره. جمع رحل، وأصله ما يوضع على البعير للركوب. ﴿ لعلهم يعرفونها ﴾ لكي يعرفوها. ﴿ إذا انقلبوا إلى أهلهم ﴾ رجعوا إليهم﴿ لعلهم يرجعون ﴾ لتحملهم معرفتهم إياها على الرجوع إلينا.
﴿ ما نبغي ﴾ أي أي شيء نطلب من إحسان للملك الذي وصفناه لك وراء ما فعل، من البغاء وهو الطلب. ﴿ و نمير أهلنا ﴾ نجلب لهم الميرة، وهي الطعام يجلبه الإنسان من بلد إلى بلد. يقال : مار عياله يميرهم ميرا، وأمارهم وامتار لهم، بمعنى جلب لهم طعاما، وهو ميار. وهو معطوف على محذوف، أي نستعين بها ونمير أهلنا.
﴿ موثقا من الله ﴾ ميثاقا وعهدا مؤكدا باليمين، وجمعه مواثيق ومياثيق. ﴿ لتأتنني به إلا أن يحاط بكم ﴾ أي إلا أن تهلكوا جميعا. تقول العرب : أحيط بفلان، إذا هلك أو قارب الهلاك،
و أصله من إحاطة العدو، واستعمل في الهلاك، لأن من أحاط به العدو يهلك غالبا. أو إلا أن تغلبوا عليه فلا تطيقوا الإتيان به.
﴿ لا تدخلوا من باب واحد... ﴾ نهاهم عن الدخول من باب واحد، وأمرهم بالدخول من أبواب متفرقة، أخذا بالسبب العادي في اتقاء الحسد. وأرشدهم إلى التوكل على الله، مع ذلك، لأنه لا حكم إلا له تعالى، ولا يدفع قضاءه شيء إلا أن يكون شيء قد قدره الله تعالى سببا لمنع شيء آخر. فكل من التوكل والأخذ بالأسباب مطلوب من العبد، إلا أنه حين الأخذ بالأسباب يجزم بأن الحكم لله وحده في كل الأمور. وما الأسباب إلا أمور عادية يخلق الله عندها ما يريد، أو يمتنع عندها ما يريد منعه، والله فعال لما يريد. وقد أخير الله تعالى أن امتثالهم أمر أبيهم ما كان يغنى عنهم من الله شيئا لو سبق في قضائه إصابتهم بالعين، ولكن شفقة يعقوب حملته على وصيتهم بما ذكر، دفعا للخطرة التي تسبق إلى النفس، وهو يعلم أن ذلك لا تأثير له إلا بإذن الله،
﴿ و إنه لذو علم ﴾ بأن الحذر لا يدفع القدر. ﴿ و لكن أكثر الناس لا يعلمون ﴾ سر القدر، وأنه لا يندفع بالحذر.
﴿ آوى إليه أخاه ﴾ ضمه إلى نفسه وأنزله معه في منزله. يقال : آواه إذا ضمه. وأويت منزلي وإلى منزلي، نزلته. وتأوت الطير وتآوت : تجمعت. ﴿ فلا تبتئس ﴾ فلا تحزن بشيء فعلوه بنا فيما مضى، افتعال من البؤس وهو الشدة والضرر. يقال : بئس – كسمع – بؤسا وبئوسا، اشتدت حاجته وابتئاسا، ومنه المبتئس، أي الكاره الحزين.
﴿ السقاية ﴾ هي إناء كان يشرب به الملك، ويكيل به الطعام للممتازين، لعزة ما يكال به في ذلك الوقت. وهو الصاع والصواع. ﴿ أذن مؤذن ﴾ نادى مند وأعلم معلم، من التأذين وهو الإعلام.
﴿ أيتها العير ﴾ هي في الأصل : الإبل التي تحمل الميرة، والمراد هنا أصحابها. وقيل : العير قافلة الحمير، ثم أطلقت على كل قافلة.
﴿ نفقد صواع الملك ﴾ صاعه، وهما لغتان معناهما آلة الكيل، وتقدم أنه هو السقاية. والصواع يؤنث باعتبار السقاية، ويذكر باعتبار الصاع. ﴿ و أنا به زعيم ﴾ كفيل أؤديه إليه. وأصل الزعيم، القائم بأمر القوم، وهو الكفيل والحميل والضمين والقبيل.
﴿ جزاءه من وجد في رحله ﴾ أي جزاء سرقته : استرقاق من وجد في رحله سنة. وكان ذلك شريعة يعقوب في حكم السارق.
﴿ كدنا ليوسف ﴾ دبرنا لأجل تحصيل غرضه تلك المقدمات. وأصله الاحتيال والمكر، يستعمل في المحمود وفي المذموم، وهو هنا من الأول واللام في ﴿ ليوسف ﴾ للتعليل. ﴿ في دين الملك ﴾ أي في حكمه، إذ جزاؤه فيه مضاعفة الغرم الاسترقاق. فألهمه الله تعالى أن يسأل إخوته عن الحكم فيجيبوا بسنتهم وطريقتهم، وذلك قوله :﴿ إلا أن يشاء الله ﴾.
﴿ إن يسرق فقد سرق أخ له من قبل ﴾ يعنون شقيقه يوسف عليه السلام. فقد روى أنه دخل كنيسة فوجد تمثالا من ذهب يعبدونه فأخذه ودفنه. وأنه كان لجده أبي أمه ضم من ذهب وفضة فكسره وألقاه على الطريق، فعيره إخوته بذلك. وليس شيء من ذلك بسرقة، وإنما هو مثلها في الظاهر.
﴿ معاذ الله ﴾ أستجير بالله استجارة من أن نأخذ بريئا بغير برئ، والأصل : ندعوك عائدين أن نأخذ إلا من وجدنا متاعنا عنده.
﴿ فلما استيئسوا منه... ﴾ فلما يئسوا من يوسف أن يجيبهم إلى ما سألوه يأسا كاملا، انفردوا عن الناس يتناجون ويتشاورون فيما يقولونه لأبيهم في شأن بنيامين. يقال : خلص يخلص خلوصا وخالصة، صار خالصا. والخالص الصافي. والنجي : من تساره، ويطلق على جماعة القوم يناجي بعضهم بعضا.
﴿ و من قبل ما فرطتم في يوسف ﴾ أي ومن قبل هذا قصرتم في أمر يوسف ولم تحفظوا عهد أبيكم فيه. و﴿ ما ﴾ زائدة.
﴿ بل سولت لكم أنفسكم... ﴾ بل زينت لكم أنفسكم أمرا أردتموه، فصبري صبرا جميل. لا شكوى معه لغير الله تعالى.
﴿ يا أسفا ﴾ يا حزني عليه. والأسف : شدة الحزن على ما فات. يقال : أسف على كذا يأسف..... أسفا، حزن أشد الحزن، كأنه يقول : يا أسفا هلم فهذا أوانك، وألفه بدل من ياء المتكلم.. ﴿ فهو كظيم ﴾ مكظوم ممتلئ من الحزن، ممسك عليه لا يبثه، يقال : كظمت الغيظ أكظمه كظما وكظوما، أمسكت على ما في نفسك منه على غيظ أو صفح.
﴿ تفتؤا تذكر يوسف ﴾ أي لا تزال تذكره تفجعاا عليه. قال الكسائي : فتأت وفتئت أفعل كذا، أي مازلت. وقال الفراء : إن ﴿ لا ﴾ مضمرة، أي لا تفتأ، وإنما أضمرت لأنه، لا يلتبس بالإثبات. فإن القسم إذا لم يكن معه علامة الإثبات – وهي اللام ونون التوكيد – كان على النفي، لأنه لو كان مثبتا لزم أن يكون بهما عند البصريين، أو بأحدهما عند الكوفيين، فلما وجدناه خاليا منهما علمنا أن القسم على النفي، أي أن جوابه منفي لا مثبت. ﴿ حتى تكون حرضا ﴾ مشفيا على الهلاك لطول مرضك. وهو في الأصل مصدر حرض – من باب تعب- أشرف على الهلاك، فهو حرض.
و لكونه كذلك في الأصل يستوي فيه المذكر والمؤنث والواحد والجمع.
﴿ أشكو بثي ﴾ همي الذي انطوت عليه نفسي. وأصله : التفريق وإثارة الشيء، كبث الريح التراب، واستعمل في الغم الذي لا يطيق صاحبه الصبر عليه.
﴿ فتحسسوا من يوسف وأخيه ﴾ أي تحسسوا خبرا من أخبارهما. أو تحسسوا عنهما. والتحسس : التعرف. وأصله طلب الخير بالحاسة. واستعمل في التعرف للزومه له. ﴿ ولا تيأسوا من روح الله ﴾ ولا تقنطوا من فرج الله وتنفيسه. وأصل معنى الروح : التنفس. يقال : أراح الإنسان إذا تنفس، ثم استعير للفرج.
﴿ وجئنا ببضاعة مزجاة ﴾ مدفوعة يردها كل من يراها لرداءتها. يقال : زجاه، ساقه ودفعه، كزجاه وأزجاه. والريح تزجي السحاب : تسوقه سوقا رفيقا. وكانت بضاعتهم من متاع الأعراب سوقا وسمنا. أو دراهم زيوفا، مردودة لغش فيها.
﴿ لا تثريب عليكم اليوم ﴾ لا تأنيب ولا لوم عليكم اليوم. يقال : ثربه يثربه، وثربه وعليه وأثر به، إذا بكته بفعله وعدد عليه ذنوبه. قيل : أصله من الثرب، وهو شحم رقيق يغشى الكرش والأمعاء.
﴿ اذهبوا بقميصي هذا... ﴾ أي اذهبوا بقميصي هذا، مشيرا إلى القميص الذي كان عليه حينئذ.
و قد علم بالوحي أن إلقاءه على وجه أبيه يرد إليه بصره، وهذا من باب خرق العادة. وقيل : إن يوسف لما علم أن أباه قد عرا بصره منا عراه من كثرة البكاء عليه وضيق القلب، بعث إليه قميصه ليجد ريحه فيزل بكاءه، ويفرح قلبه فرحا شديدا، فعند ذلك يزول الضعف ويقوى البصر.
﴿ ولما فصلت العير ﴾ خرجت من عريش مصر قاصدة مكان يعقوب عليه السلام قرب بيت المقدس. ﴿ قال أبوهم ﴾ يعقوب عليه السلام لمن حضره من ذوي قرابته ﴿ إني لأجد ريح يوسف لولا أن تفندون ﴾ أي إني لأشم ريحه. لولا تفنيدكم إياي لصدقتموني. وقد أشمه الله ما عبق من القميص من ريح يوسف من مسيرة أيام، وهي معجزة ظاهرة. قال مالك : قد أوصل ريحه من أوصل.
عرش بلقيس قبل أن يرتد إلى سليمان طرفه. والتفنيد : النسبة إلى الفند، وهو الكذب أو الخطأ في القول والرأي. أو الخرف وإنكار العقل من هرم أو مرض.
﴿ إنك في ضلالك القديم ﴾ أي لفي ذهابك عن طريق الصواب قدما بالأفراط في محبة يوسف والتوقع للقائه.
﴿ آوى إليه أبويه ﴾ ضمهما إليه واعتنقهما. والمراد بهما أبوه وخالته، لأن أمه قد توفيت قبل ذلك.
﴿ و رفع أبويه على العرش ﴾ أ ي على سرير الملك. ﴿ وخروا ﴾ أي أبواه وإخوته ﴿ له ﴾ أي في شريعة يعقوب، وجاريا مجرى التحية والتكرمة. وقيل : إنه كان بإيمان الرءوس. ﴿ هذا تأويل رؤياي.. ﴾ أي هذا السجود تصديق الرؤيا التي رأيتها في الصغر. وكان بين الرؤيا وظهور تأويلها أربعون سنة، في قول الأكثرين. ﴿ نزع الشيطان... ﴾ أفسد وأغرى وأصله من نزغ الرائض الدابة : إذا نخسها وحملها على الجري. وإلى هنا انتهت القصة، وفيها عبر ومعجزات وعجائب.
﴿ رب قد آتيتني... ﴾ ولما أتم الله النعمة على يوسف قابلها بالثناء عليه تعالى، ثم سأله حسن العاقبة، والخاتمة الصالحة.
﴿ ذلك من أنباء الغيب... ﴾ أي ما ذكر من قصة يوسف وإخوته، من أخبا ر الغيب التي لا سبيل لك إلى العم بها إلا من طريق الوحي، لأنك لم تقرأها في كتب، ولم تروها عن علماء، ولم تسافر إلى غير بلدك، ولم تكن مع إخوة يوسف حين اعتزموا الكيد له، ودبروا ما دبروا من الأمر. فنزل القرآن بهذه القصة الطويلة على أحسن ترتيب وأفصح عبارة، وأصدق بيان.
﴿ و كأين من آية ﴾ أي وكم من آية ( آية ١٤٦ آل عمران ص ١٦٧ ) تسلية للرسول صلى الله عليه وسلم، وتقرير لكون الإعراض عن التأمل في الآيات، والجحود للحقائق شأن الكفار دائما، ومنهم قريش واليهود الذين سألوا عن قصة يوسف تعنيتا وتعجيزا، فلما نزلت كاملة وافية لم يسلموا، و استمروا على جحودهم وتكذيبهم. وذلك من فرط الجهل والعناد، مع أن هؤلاء الذين كفروا بالله لو تأملوا في الآيات النفسية والآفاقية لآمنوا به، وأخلصوا له العبادة وحده، ولكن أكثرهم حين تقرعهم الحجج، وتلجئهم الآيات البينات إلى الإقرار بوجود الإله، وبأنه خالق كل شيء- يؤمنون به، ثم يخلطون إيمانهم بالشرك في العبادة، فيعبدون من دون الله الأصنام وغير الأصنام ضلالا وكفرا، وذلك قوله تعالى :﴿ وما يؤمن أكثرهم بالله وهو مشركون ﴾ وعن ابن عباس رضي الله عنهما : أنهم يقرون أن الله خالقهم فذلك إيمانهم، وهم يعبدون غيره فذلك شركهم.
﴿ أفأمنوا أن تأتيهم غاشية ﴾ نائبة تغشاهم وتجللهم، والمراد بها عقوبة الدنيا، والغاشية : كل ما يغطى الشيء ويستره، ومنه غاشية السرج.
﴿ حتى إذا استيئس الرسل... ﴾ أي وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا فتراخى نصرهم، حتى إذا يئسوا من إيمان أممهم يأسا شديدا، وظن أممهم أن الرسل قد كذبوهم فيما أخبروا به من العذاب، ولم يصدقوا، جاءهم نصرنا. وقرئ﴿ كذبوا ﴾ بالتشديد، أي حتى إذا يئس الرسل من إيمان من كذبهم من أممهم، وظنوا أن إتباعهم الذين آمنوا بهم كذبوهم لطول البلاء وتأخر النصر- جاءهم نصرنا. يقال : كذبه – بالتخفيف – لم يصدقه فقال له الكذب. وكذبه – بالتشديد – تكذيبا وكذابا : جعله كاذبا وقال له كذبت. أو أخبر أنه كاذب.
﴿ ما كان حديثا يفترى ﴾ ما كان هذا القرآن حديثا يختلق﴿ ولكن تصديق الذي بين يديه ﴾ من الكتب السماوية ﴿ وتفصيل كل شيء ﴾أي وتبيين كل شيء من أصول الدين، إذ ما من أمر ديني إلا وهو يستند إلى القرآن بالذات أو بالواسطة، أو مما يحتاج إليه العباد في أمور دينهم
ودنياهم، على نحو ما بيناه في قوله تعالى :﴿ ما فرطنا في الكتاب من شيء ﴾. والله أعلم.