سورة يوسف سورة مكية كلها، وآياتها مائة وإحدى عشرة آية فقط، وقيل : إن الآيات الثلاث الأولى مدنيات وهو رأي ضعيف ؛ لأن السورة كلها قصة واحدة ومن العجائب أن يذكر هذا الاستثناء في المصحف المطبوع في مصر ويزاد عليه الآية السابعة، قاله السيوطي في الإتقان وهو رأي واه جدا فلا يلتفت إليه.
وحين نستعرض سورة يوسف نجد أنها سورة فريدة في نوعها من بين سور القرآن الكريم فهناك قصص متعدد مثبوت في ثنايا سور القرآن، لكن القرآن كان يكتفي أحيانا بذكر حلقة أو حلقات محدودة من القصة، كحلقة قصة مولد عيسى، أو حلقة قصة نوح والطوفان ؛ لأن هذه الحلقات تفي بالمقصود منها.
أما قصة يوسف فتقتضي أن تتلى كلها متوالية حلقاتها ومشاهدها من بدئها إلى نهايتها وصدق الله العظيم :﴿ نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِن كُنتَ مِن قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ ﴾. ( يوسف : ٣ ).
وسورة يوسف هي قصة يوسف مطوعة في سردها وطريقة أدائها وخصائصها الفنية كلها للقضية الكبرى التي جاء القرآن ليعالجها ويوضحها، ويثبتها في القلوب. وهي قضية العقيدة وما يقوم عليها في حياة الناس من روابط ونظم وصلات، تسبقها في السورة مقدمة تشير إلى الوحي بهذا القرآن وبقصصه الذي هو أحسن القصص، والذي لم يكن محمد صلى الله عليه وسلم، يعرف عنه شيئا من قبل.
وتتلوها تعقيبات شتى، تفيد أن القصص القرآني : غيب من عند الله يثبت به الرسول، ويعظ به المؤمنين، قال تعالى :﴿ لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُوْلِي الأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ﴾. ( يوسف : ١١١ ).
كذلك تضم السورة جناحيها على لفتات ولمسات أخرى في صفحة الكون وفي أغوار النفس، وفي آثار الماضين، وفي ضمير الغيب المطوي لا يدري البشر ما هو مخبوء خلف ستاره الرهيب وكل هذه العظات المبثوثة في حنايا السورة، تتناسب مع القصة، والقصة تتكامل معها ؛ لتحقيق القضية الكبرى التي جاء بها هذا القرآن للبشرية، وجاءت بها رسالات الأنبياء في العصور المتلاحقة.
وقد ساق القرآن دعوة صريحة إلى العقيدة السليمة والإيمان بالله على لسان يوسف حين مكث في السجن يدعوا إلى الله، ويأخذ بيد الضعفاء، ويواسي المحزونين، ويفسر الأحلام ويشرح لهم سر معرفته وإيمانه فيقول :﴿ ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَهُم بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ * وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَآئِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَن نُّشْرِكَ بِاللّهِ مِن شَيْءٍ ذَلِكَ مِن فَضْلِ اللّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ * يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُّتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ * مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَآؤُكُم مَّا أَنزَلَ اللّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَر َالنَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ ﴾. ( يوسف : ٣٧ ٤٠ ).
وبذلك نجد السورة تربط بين رسالات السماء جميعها برباط أساسي وهدف مشترك هو الدعوة إلى توحيد الله ونبذ الشركاء والأنداد، وبيان أن الإيمان بالله هو الطريق الواضح والدين القيم الذي يسمو بصاحبه ويعصمه من الفتنة ويمنعه من الرذيلة ويجعله يقف ثابت اليقين، يقاوم الإغراء، ويرد المنحرف إلى طريق الصواب. قال تعالى :﴿ و َرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَن نَّفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ ﴾. ( يوسف : ٢٣ ).
قصة يوسف
قصة يوسف أطول قصة في القرآن تجتمع حلقاتها كلها في سورة واحدة وتلحظ فيها الخصائص الفنية البحتة للقصة خصائص الموضوع، وخصائص العرض والأداء.
فالقصة غنية بالعنصر الإنساني، حافلة بالانفعال والحركة، وطريقة الأداء، تبرز هذه العناصر إبرازا قويا، فضلا عن خصائص التعبير القرآنية الموحية المؤثرة.
في القصة يتجلى عنصر الحب الأبوي في صور ودرجات منوعة واضحة الخطوط والمعالم، في حب يعقوب ليوسف وأخيه وحبه لبقية أبنائه، وفي استجاباته للأحداث حول يوسف من أول القصة إلى آخرها.
وعنصر الغيرة والتحاسد بين الإخوة من أمهات مختلفات، بحسب ما يرون من تنوع صور الحب الأبوي.
وعنصر التفاوت في الاستجابات المختلفة للغيرة والحسد في نفوس الإخوة ؛ فبعضهم يقوده هذا الشعور إلى إضمار جريمة القتل، وبعضهم يشير فقط بطرح يوسف في الجب تلتقطه بعض القوافل السيارة، وفي قصة يوسف نجد عنصر المكر والخداع في صور شتى من مكر إخوة يوسف به إلى مكر امرأة العزيز بيوسف وبزوجها وبالنسوة.
وعنصر الشهوة ونزواتها والاستجابة لها بالاندفاع أو بالإحجام، وبالإعجاب والتمني، والاعتصام والتأبي.
وعنصر الندم في بعض ألوانه، والعفو في أوانه، والفرح بتجمع المتقاربين، وذلك إلى بعض صور المجتمع المتحضر في البيت والسجن والسوق والديوان في مصر يومذاك، والمجتمع العبراني، وما يسود العصر من الرؤى والتنبؤات.
وقد بدأت القصة بالرؤيا يقصها يوسف على أبيه، فينبئه بأن سيكون له شأن عظيم، وينصحه بألا يقصها على إخوته ؛ كي لا يثير حسدهم فيغريهم الشيطان به فيكيدون له، ثم تسير القصة بعد ذلك، وكأنما هي تأويل للرؤيا ولما توقعه يعقوب من ورائها حتى إذا اكتمل تأويل الرؤيا في النهاية أنهى السياق القصة، ولم يسر فيها كما سار كتاب ( العهد القديم ) بعد هذا الختام الفني الدقيق الوافي بالغرض كل الوفاء.
وما يسمى : بالعقدة الفنية في القصة الحديثة واضح في قصة يوسف، فهي تبدأ بالرؤيا، ويظل تأويلها مجهولا، ينكشف قليلا قليلا حتى تجيء الخاتمة فتحل العقدة حلا فنيا طبيعيا، يرضى الذوق الفني الخالص، ويرضى الوجدان الديني، ويفي بدوره للقضية الكبرى التي سيقت القصة لها من الأساس.
والقصة مقسمة إلى حلقات كل حلقة تحتوي على جملة من مشاهد، والسياق يترك فجوات بين المشهد والمشهد بحيث يترك بين كل مشهدين أو حلقتين فجوة يملؤها الخيال، ويكمل فيها ما حذف من حركات وأقوال، ويستمتع بإقامة الصلات بين المشهد السابق والمشهد اللاحق، فيمنح القصة بعض خصائص التمثيلية، ويملؤها بالحركة والحيوية وهذه الطريقة متبعة في جميع القصص القرآني على وجه التقريب وهي شديدة الوضوح في القصص الكبيرة، وخاصة قصة يوسف الصديق.
يوسف بين إخوته وأبيه
أكرم الله نبيه يوسف بأصل كريم ؛ فهو يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم، وقد رزق يعقوب اثني عشر ابنا هم الأسباط، كان يوسف وبنيامين من أم تسمى : راحيل، وبقية الأسباط من أمهات أخرى.
وقد ماتت راحيل أم يوسف وتركته في الثامنة عشرة من عمره أشد ما يكون حاجة إلى قلب الأم وعطفها ؛ ولهذا آثر يعقوب يوسف وبنيامين بالحب والحنان، فسرى داء الحسد بين بقية الإخوة وقال قائل منهم : ألا ترون أن يوسف أحب إلى أبينا منا وأقرب منا جميعا.
وقال الثاني : إن حب يوسف قد تمكن من قلب يعقوب ولا شفاء ليعقوب من هذا المرض إلا بإبعاد يوسف عنه، فيجب أن نقتل يوسف أو نتركه في أرض نائية مقطوعة حتى يموت.
وقال يهوذا : إن القتل لا يقره العقل ولا الدين فلا تقتلوا يوسف وإنما ألقوه في البئر العميق بجوار بيت المقدس، فهذا البئر ملتقى الغادي والرائح وسيأخذه بعض القوافل ويبعدون به عنكم، فوافقوا جميعا على رأي يهوذا، وبيتوا أمرهم عليه.
رؤيا يوسف
أصبح يوسف فأخبر أباه : أنه رأى الشمس والقمر وأحد عشر كوكبا ساجدين له، فعلم الأب أن ابنه سيكون له شأن عظيم، وأن أسرته ستأتي له خاضعة معترفة بفضله فيسجد بين يديه يعقوب أبوه، وخالته ليا وهي بمنزلة أمه، وإخوته الأحد عشر، ولكن يعقوب خشي على يوسف من حسد إخوته ؛ فأمره أن يكتم هذه الرؤيا وألا يخبر بها أحدا، ولأمر ما تسرب خبر هذه الرؤيا إلى الإخوة ؛ فأشعل نار الغيرة بينهم واستأذنوا أباهم في مصاحبة يوسف يوما إلى المرعى حيث الهواء الطلق والمنظر الجميل ؛ فأذن لهم بعد تردد، وأخذوا يوسف وألقوه في ظلام البئر بعد أن استغاث بهم فلم يغيثوه، وألقى الله على يوسف السكينة ؛ فاطمأن لمصيره، وجاءت قافلة تريد الماء وألقت بدلوها إلى البئر فتعلق يوسف بالدلو وفرحت القافلة بمنظر الغلام الجميل، وقدموا به إلى أرض مصر فباعوه إلى عزيز مصر ووزيرها الأكبر بثمن بخس زهيد، ولمح العزيز في يوسف كرم الأصل وشرف العنصر وجمال الخلق وطيب المنبت، فقال العزيز لامرأته : أكرمي مثوى هذا الغلام، وأحسني معاملته، حاشاك أن تزجريه زجر الخدم أو تضربيه ضرب العبيد ؛ فإني لأرجو إذا اكتمل عوده ونضجت سنه أن ينفعنا أو نتخذه ولدا !
وانصرف يوسف إلى العمل ببيت العزيز في جد وأمان، فمكن الله له في الأرض وأودع محبته في قلوب الجميع. فلما وصل إلى سن الرشد والقوة، وهو يقع عادة بين العشرين والثلاثين ؛ آتاه الله حكما وعلما، وصوابا في الحكم على الأمور، ومعرفة بمصائر الأحاديث وتأويل الرؤيا.
وهكذا أراد إخوة به أمرا وأراد الله له أمرا، ولكن أمر الله غالب، ومشيئته نافذة، فقد زادت ثقة العزيز في يوسف وظهر له مكنون حزمه وعقله، وأمانته ونزاهته ؛ فأدخله فيما بين نفسه وأهله، وبوأه مكان الأشراف الأحرار ووضعه من قلبه موضع الأبناء الأبرار.
يوسف وامرأة العزيز
نما يوسف وترعرع وبلغت سنه خمسا وعشرين سنة، وصار أمينا في بيت العزيز، وكانت امرأة العزيز في سن الأربعين، ولها سلطان الملك وقدرة الأمر والنهي، وسيطرة النفوذ والجاه، ولكن سلطان الحب قد ملك قلبها وسيطر فؤادها، وحاولت إغراء يوسف مستغلة كل فنون الإغراء، قال تعالى :﴿ وراودته التي هو في بيتها عن نفسه وغلّقت الأبواب وقالت هيت لك ﴾. ( يوسف : ٢٣ ).
فكلمة : راودته من راد، يراود بالإبل ؛ إذا ذهب بها وجاء، وهي تشير إلى فنون الأنثى مقبلة إلى فن مدبرة عن فن من فنون الإغراء الصامتة التي تحاول أن تثير يوسف، فلما يئست من الصمت ﴿ غلقت الأبواب ﴾ بتشديد اللام، كأنها أرادت أن تجعل الأبواب حيطانا، ثم عرضت نفسها على يوسف، ﴿ وقالت هيت لك ﴾، قد تهيأت لك راغبة فيك، وهنا وقد خلعت المرأة ثياب الملك والعظمة والسيادة، ولبست ثوب الإغراء والتوله والرغبة، وقف يوسف في عزة وإباء وإيمان يقول :﴿ مَعَاذَ اللّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ ﴾. ( يوسف : ٢٣ ).
فالمرأة في كل العصور أكثر عاطفة من الرجل، وأكثر تدينا وإيمانا، وأكثر مراعاة لحرمة الزوجية، وأكثر نفورا من الظلم ولهذا عمد يوسف إلى عاطفة الإيمان بالله فقال :﴿ معاذ الله ﴾. أستعيذ ب
ﰡ
﴿ الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ ١إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ٢ نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِن كُنتَ مِن قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ ٣ ﴾.
المفردات :
الر : هذه الأحرف التي تبدأ بها السور، قيل : إنها أسرار علوية، وقيل : إنها أقسام الله تعالى. أي : أقسم الله بهذه الأحرف التي ينطق بها الناس، ويتكون منها القرآن الكريم.
وقيل : هي أسماء الله تعالى، أو صفات.
وقيل : هي إشارات لابتداء كلام وانتهاء كلام.
وقيل : هي أسماء للسور.
وقيل : هي حروف للتحدي والإعجاز، وبيان : أن الخلق عاجزون عن الإتيان بمثل هذا القرآن مع أنه مكون من حروف عربية هي : الألف واللام والراء، وهم ينطقون بها ويؤلفون منها كلامهم.
وقال بعضهم بجواز اشتمال هذه الأحرف على جميع المعاني التي ذكرها العلماء في تفسيرها، فهي أسماء للسورة، وهي رموز لأسماء الله تعالى أو صفاته، وهي مما استأثر الله تعالى بعلمه،
وهي حروف للتحدي والإعجاز... الخ.
تمهيد :
اشتملت سورة يوسف على معان متعددة متميزة ؛ فهي سورة تشتمل على قصة كاملة فيها عبرة وعظة، فيها عفة وتماسك واستعلاء من يوسف، وفيها إغراء وكيد من امرأة العزيز ونسوة المدينة، وفيها تنافس الأبناء وتحاسدهم إذا كانت أمهاتهن متعددة، وفيها بيان لطف الله وكرمه ؛ فإذا قدر لإنسان أمرا ؛ فلابد أن يصل إليه مهما اجتمعت الأمة كلها على غير ذلك.
وفيها عاقبة التقوى والعفة والاستقامة ؛ فقد جعل الله يوسف عزيزا على خزائن الأرض، ثم قال يوسف في نهاية السورة ؛ حين سجد له إخوته تأويلا لرؤياه :﴿ رب قد آتيتني من الملك وعلمتني من تأويل الأحاديث فاطر السموات والأرض أنت ولي في الدنيا والآخرة توفني وألحقني بالصالحين ﴾. ( يوسف : ١٠١ ).
التفسير :
١ ﴿ الر... ﴾ الآية.
هذه الأحرف قيل : هي مما استأثر الله بعلمه، وقيل : هي حروف للتحدي والإعجاز، وبيان : أن الخلق عاجزون عن الإتيان بمثل هذا القرآن، مع أنه مكون من حروف عربية ينطقون بها ويكونون منها كلامهم.
وقد اشتملت هذه الفواتح في أوائل السور على ( ١٤حرفا ) بعد حذف المكرر منها، واشتملت هذه الفواتح على نصف صفات الحروف ؛ ففيها نصف الحروف الرخوة، وفيها نصف حروف الاستفال، ونصف حروف القلقلة، وكأن الله تعالى يقول للمكذبين : جعلت من نصف هذه الحروف فواتح للسور، وتركت لكم النصف ؛ لتصنعوا من قرآنا إن استطعتم !
والسور المبدوءة بهذه الحروف ٢٩ سورة هي : البقرة، آل عمران، الأعراف، يونس، يوسف، الرعد، إبراهيم، الحجر، مريم، طه، الشعراء، النمل، القصص، العنكبوت، الروم، لقمان، السجدة، يس، ص، غافر، فصلت، الشورى، الزخرف، الدخان، الجاثية، الأحقاف، ق، القلم.
﴿ تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ ﴾.
تلك الآيات الواردة في هذه السورة : آيات من الكتاب الواضح الظاهر في معانية وأغراضه، المبين لحقائق الدين الحق، ومصالح الدنيا والآخرة.
اشتملت سورة يوسف على معان متعددة متميزة ؛ فهي سورة تشتمل على قصة كاملة فيها عبرة وعظة، فيها عفة وتماسك واستعلاء من يوسف، وفيها إغراء وكيد من امرأة العزيز ونسوة المدينة، وفيها تنافس الأبناء وتحاسدهم إذا كانت أمهاتهن متعددة، وفيها بيان لطف الله وكرمه ؛ فإذا قدر لإنسان أمرا ؛ فلابد أن يصل إليه مهما اجتمعت الأمة كلها على غير ذلك.
وفيها عاقبة التقوى والعفة والاستقامة ؛ فقد جعل الله يوسف عزيزا على خزائن الأرض، ثم قال يوسف في نهاية السورة ؛ حين سجد له إخوته تأويلا لرؤياه :﴿ رب قد آتيتني من الملك وعلمتني من تأويل الأحاديث فاطر السموات والأرض أنت ولي في الدنيا والآخرة توفني وألحقني بالصالحين ﴾. ( يوسف : ١٠١ ).
٢ ﴿ إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ﴾.
أي : أنزلنا هذا القرآن عربيا واضحا ؛ لعلكم تعقلون معانيه وتفهمون ألفاظه، وتنتفعون بهدايته، وتدركون أنه ليس من كلام البشر ؛ ولكنه من كلام الله القادر المقتدر.
اشتملت سورة يوسف على معان متعددة متميزة ؛ فهي سورة تشتمل على قصة كاملة فيها عبرة وعظة، فيها عفة وتماسك واستعلاء من يوسف، وفيها إغراء وكيد من امرأة العزيز ونسوة المدينة، وفيها تنافس الأبناء وتحاسدهم إذا كانت أمهاتهن متعددة، وفيها بيان لطف الله وكرمه ؛ فإذا قدر لإنسان أمرا ؛ فلابد أن يصل إليه مهما اجتمعت الأمة كلها على غير ذلك.
وفيها عاقبة التقوى والعفة والاستقامة ؛ فقد جعل الله يوسف عزيزا على خزائن الأرض، ثم قال يوسف في نهاية السورة ؛ حين سجد له إخوته تأويلا لرؤياه :﴿ رب قد آتيتني من الملك وعلمتني من تأويل الأحاديث فاطر السموات والأرض أنت ولي في الدنيا والآخرة توفني وألحقني بالصالحين ﴾. ( يوسف : ١٠١ ).
٣ ﴿ نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِن كُنتَ مِن قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ ﴾.
نحن روي لك يا محمد أحسن القصص الواقعي النافع، في شتى نواحي الحياة، ومن هذا القصص : قصة يوسف التي جاءت كاملة مفصلة ؛ ذات أهداف سامية وعبر كثيرة. وإن كنت قبل هذا الوحي لمن الغافلين عنه، لا علم لك به، شأن قومك، لا يعلمون من أخبار الماضين وقصصهم شيئا موثوقا به مفيدا نافعا.
المفردات :
يا أبت : أصله : يا أبي، فعوض عن ياء المتكلم بتاء التأنيث ؛ لتناسبهما في الزيادة.
التفسير :
٤ ﴿ إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ ﴾.
سبب النزول :
روى ابن جرير : عن ابن عباس قال : قالوا : يا رسول الله ؛ لو قصصت علينا ؛ فنزلت :﴿ نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ.. ﴾
تمهيد :
تأتي هذه القصة ؛ جوابا لسؤال قوم عنها ؛ فأجاب القرآن رسول الله بهذه القصة التي لا يعلمها هو ولا قومه، وإنما هي وحي من عالم الغيب.
والمعنى : اذكر يا محمد لقومك : قصة يوسف حين قال لأبيه يعقوب : إني رأيت أحد عشر كوكبا، والشمس والقمر تسجد لي سجود احترام وانحناء، لا سجود عبادة. والأحد عشر كوكبا هم : إخوته الأحد عشر نفرا، والشمس والقمر : أبوه وأمه، وقد استمرت القصة من أولها إلى آخرها، وكأنها تنزع إلى تحقيق هذه الرؤيا.
فقد تسربت الرؤيا إلى إخوته، ثم ألقوه في الجب، والتقطه ركب مسافرين، وباعوه إلى عزيز مصر، وتعرض لإغراء زليخا ثم دخوله السجن، وكان يفسر الأحلام، ويدعو إلى توحيد الله في السجن. فلما رأى الملك رؤيا فسرها يوسف، وامتنع عن الخروج من السجن ؛ حتى يحقق الملك في قصته، ثم شهد الجميع بنزاهته وعفته، وقالت امرأة العزيز ما يبرأ ساحته، وقالت النسوة :﴿ حاش لله ما علمنا عليه من سوء ﴾ ؛ فخرج من السجن مكرما، وجعله الملك وزيرا، وجاء إخوته ؛ ليحصلوا على الطعام، ثم أرسل قميصه إلى أبيه ؛ فارتد بصيرا، وجاء الإخوة مع أبيهم وأمهم، وخروا ساجدين ليوسف، وقال يوسف :﴿ هذا تأويل رؤياي من قبل قد جعلها ربي حقا ﴾. ( يوسف : ١٠٠ ).
والرؤيا الصادقة جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة كما ورد في البخاري، وكما أورد أيضا قوله صلى الله عليه وسلم :( لم يبق من النبوة إلا المبشرات ). قالوا : وما المبشرات يا رسول الله ؟ قال :( الرؤيا الصالحة يراها الرجل أو ترى له ). ٢ ( أخرجه البخاري ).
فيكيدوا : فيحتالوا لإهلاكك حيلة، وأصل الكيد : هو الاحتيال على إنسان لإيقاعه.
التفسير :
٥ ﴿ قَالَ يَا بُنَيَّ لاَ تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُواْ لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلإِنسَانِ عَدُوٌّ مُّبِينٌ ﴾.
ألهم الله يعقوب تأويل الرؤيا، وفهم منها : أن يوسف سيكون له شأن عظيم في المستقبل، حيث ترمز الكواكب الأحد عشر إلى : إخوته، والشمس والقمر إلى : أبيه وأمه، وأن الجميع سيعظمونه ويسجدون له سجود انحناء وتعظيم لا سجود عبادة.
وإذا أخبر إخوته بذلك ؛ أدى إلى إثارة نوازع الحسد والغيرة والكيد، والتدبير للإيذاء في خفاء ؛ فربما أدى ذلك إلى هلاك يوسف أو إيذائه. والشيطان يوسوس للإنسان بالشر ويغريه بالمعصية، وهو عدو مبين للإنسان. يستدرجه إلى المعصية استدراجا. قال تعالى :﴿ إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدوا إنما يدعوا حزبه ليكونوا من أصحاب السعير ﴾. ( فاطر : ٦ ).
لذلك نهى يعقوب عليه السلام ابنه يوسف عن أن يقص رؤياه على إخوته، وأمره أن يمسك عن الخوض في هذا الموضوع، الذي يثير نوازع الحسد والغيرة، ويحرك في إخوته دواعي الشر والإيذاء ليوسف. حيث الشيطان يستدرج الإنسان إلى المعصية، وقد أشار يوسف في ختام القصة إلى ذلك حيث قال :﴿ مِن بَعْدِ أَن نَّزغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِّمَا يَشَاء إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ ﴾. ( يوسف : ١٠٠ ).
يجتبيك : يختارك ويصطفيك.
تأويل الأحاديث : تعبير الرؤيا، وتفسير الأحلام، وبيان ما تئول إليه.
أبويك : المراد بهما : الجدّان : إبراهيم، وإسحاق بن إبراهيم عليهما السلام، وأطلق عليهما أبوان ؛ لأن الجد أب لغة وعرفا وشرعا ؛ حيث يرث الجد ميراث الأب عند عدم وجوده.
التفسير :
٦ ﴿ وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ... ﴾
أي : كما اختارك ربك واصطفاك، وأراك هذه الكواكب مع الشمس والقمر ساجدة لك، يختارك لنفسه، ويصطفيك لنبوته، ويعلمك تأويل الرؤيا وتفسيرها والإخبار بما تئول إليه، وترى أن هذه الآية حملت بشارات من يعقوب لابنه يوسف، منها ما يأتي :
١ الإخبار بأن الرؤيا بشرى بمستقبل عظيم ليوسف.
٢ رعاية الله ليوسف وعنايته به وتقريبه واصطفاءه من الله.
٣ يختص الله يوسف بمعرفة تأويل الرؤيا وتفسير الأحلام.
﴿ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ ﴾.
أي : سيتم الله عليك النعمة ؛ بإرسالك رسولا يوحى إليك من السماء، ويتم نعمته على أبيك وإخوتك وذريتهم ؛ بأن يجعل النبوة في أعقابهم. وآل الإنسان : أهله، وهو خاص بمن له مجد وشرف.
﴿ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِن قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَقَ ﴾.
كما أتمها على جدك على جدك إبراهيم ؛ بأن جعله خليلا، وجعل النار بردا وسلاما عليه، وجعله أبا للأنبياء، وأتم الله النعمة على جدك إسحاق ؛ بأن جعله رسولا، وجعل النبوة في عقبه وأطلق لفظ الأب على الجد ؛ لأن الجد أب في اللغة والعرف والشرع.
﴿ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ﴾.
إن ربك عليم بخلقه، خبير بمن يستحق الاصطفاء والرسالة، حكيم في صنعه وتدبيره. قال تعالى :﴿ الله أعلم حيث يجعل رسالته ﴾. ( الأنعام : ١٢٤ ).
وقال سبحانه :﴿ الله يصطفي من الملائكة رسلا ومن الناس إن الله سميع بصير ﴾. ( الحج : ٧٥ ).
المفردات :
آيات : عبر أو علامات ودلائل على قدرة الله تعالى وحكمته في كل شيء لمن سأل عنهم وعرف قصتهم.
للسائلين : الذين سألوا عن قصتهم من أهل مكة.
التفسير :
٦ ﴿ لَّقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِّلسَّائِلِينَ ﴾.
تأتي هذه الآية في مقدمة قصة يوسف من أول السورة إلى آخرها، وقد سبق هذه الآيات حديث عن رؤيا يوسف، ثم تمضي الآيات وكأنها سبيل إلى تحقيق هذه الرؤيا ؛ فلولا كيد إخوة يوسف ومكرهم به، لما ألقى في الجبّ، ولولا أنه ألقى في الجب ؛ لما حمله الركب المسافر، ولولا ذلك ؛ لما تم بيعه إلى عزيز مصر، ولولا بيعه إلى عزيز مصر ؛ لما راودته زليخا عن نفسه، ولولا هذه المراودة لما دخل السجن، ولولا دخوله السجن ؛ لما فسر رؤيا نديم الملك، ثم فسر رؤيا الملك، ولولا تفسير رؤيا الملك ؛ لما جعل على خزائن الأرض، ولولا أنه جعل على خزائن الأرض ؛ لما تعرف على إخوته، ثم جاءوا إليه بعد ذلك مع أبيه وأمه، حيث سجدوا له جميعا، وتحققت رؤياه، ثم شكر الله على ما أنعم به عليه، وطلب منه حسن الختام والوفاة على الإسلام.
ومعنى الآية : تالله ! لقد كان فيما حدث بين يوسف وإخوته لأبيه عبرة ومواعظ لكل من سأل عن قصتهم، وفتح قلبه للانتفاع بما فيها من حكم وأحكام تشهد بصدق محمد صلى الله عليه وسلم، وهو النبي الأمي الذي سئل عن هذه القصة فجاء بها متتابعة متناسقة، تدل على أنها وحي من السماء.
وأخوه : هو بنيامين.
عصبة : جماعة أقوياء لأحق بالمحبة. وقال البيضاوي : تطلق العصبة على : الجماعة من الرجال عشرة فصاعدا، أطلق عليهم ذلك ؛ لأن الأمور تعصب بهم، أي : تشتد وتقوى.
ضلال مبين : خطأ بين واضح.
التفسير :
٧ ﴿ إِذْ قَالُواْ لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ ﴾.
حين قالوا : والله ! إن يوسف وأخاه بنيامين، وهما صغيران ضعيفان، أحب إلى أبينا منا، مع أننا جماعة قوية يشتد بنا ساعده، فما باله يحبهما أكثر من حبه لنا، ويؤثر القلة على الكثرة ؟ !
إن أبانا لفي خطأ واضح، مجاف للصواب في ذلك ؛ بإيثار يوسف وأخيه علينا بالمحبة، وتركه العدل والمساواة في المحبة، وفاتهم أن الفضل في الرجال ليس بالكثرة بل بسمو الروح، وصفاء النفس، وغلبة الخير، وكل ذلك كان في يوسف وشقيقه بنيامين، وقد اجتمع إلى ذلك ما دلت عليه رؤيا يوسف عليه السلام، من الجاه العظيم، والعز الرفيع الذي ينظره عند الله والناس، فكان ذلك كله باعثا على أن يؤثرهما يعقوب عليه السلام ؛ بمزيد من الحب أكثر من بقية إخوتهما ؛ فحقدوا عليهما، وتآمروا على يوسف ؛ ليخلوا لهم وجه أبيهم.
اطرحوه أرضا : أي : ارموه في أرض بعيدة عن العمران.
التفسير :
٩ ﴿ اقْتُلُواْ يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُواْ مِن بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ ﴾.
أي : ومما قالوا، أي : قال بعض إخوة يوسف لبعض :﴿ اقتلوا يوسف ﴾ بأي وجه من وجوه القتل ؛ حسما للمشكلة، أو انبذوه في أرض مجهولة بعيدة عن العمران، فلا يستطيع الرجوع إلى أبيه فإن فعلتم واحدا منهما ؛ ﴿ يخل لكم وجه أبيكم ﴾. تقع هذه الجملة في جواب الأمر، أي : اقتلوا يوسف أو ألقوه في أرض مجهولة، فإنكم إن فعلتم ذلك ؛ يخل لكم وجه أبيكم ويفرغ لكم فلا ينازعكم فيه أحد، وذكر الوجه هنا لتصوير معنى إقباله عليهم ؛ لأن الرجل إذا أقبل على الشيء ؛ أقبل عليه بوجهه.
﴿ وَتَكُونُواْ مِن بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ ﴾.
هذه الجملة معطوفة على جواب الأمر. أي : وتكونوا من بعد الفراغ من أمر يوسف قوما تائبين إلى الله مما جنيتم عليه، أو قوما صالحين مع أبيكم ؛ بأن يكثر إقباله عليكم، وبره بكم، وإغداق الخير عليكم، بعد يأسه من عودة يوسف وخفاء أمره عليه.
غيابت الجب : قعره، سمي به ؛ لغيبوبته عن أعين الناظرين.
السيارة : المسافرين الذين يسيرون في الأرض.
التفسير :
٨ ﴿ قَالَ قَآئِلٌ مَّنْهُمْ لاَ تَقْتُلُواْ يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ ﴾.
قال قائل منهم عز عليه قتل أخيه بلا ذنب جناه، قيل : هو يهوذا، وقيل هو روبيل لا تقدموا على قتله ؛ فإن القتل جريمة عظيمة، وهو أخوكم، ولكن ألقوه في أسفل البئر ؛ يلتقطه بعض المسافرين الذين يسيرون في الأرض للتجارة، حين يدلون بدلائهم في البئر ؛ ليستقوا منها ؛ فيتعلق بها ؛ فيبعدوه عن بلادنا إلى حيث يجد رزقه ويبقى حيا.
﴿ إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ ﴾. أي : عازمين على ما تقولون، وفاعلين ما هو الصواب، فهذا هو الرأي.
في أعقاب الآية
١ إن تفضيل بعض الأولاد على بعض ؛ يورث الحقد والحسد ويورث الآفات، ولعل يعقوب عليه السلام لم يفضل يوسف إلا في المحبة، والمحبة ليست في وسع البشر.
٢ ورد في هدى السنة : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :( اتقوا الله واعدلوا بين أولادكم حتى في التمرة والكلمة الطيبة ).
٣ لقد فعل إخوة يوسف أمرا عظيما ؛ حين حملوا فتى صغيرا ضعيفا، وأبعدوه عن والده، وأقدموا على أمر عظيم من قطيعة الرحم، وعقوق الوالد، وقلة الرأفة بالصغير الذي لا ذنب له، وبالكبير الفاني ذي الحق والحرمة والفضل... يغفر الله لهم وهو أرحم الراحمين. ٣
٤ الرأي الأصح : أن إخوة يوسف لم يكونوا أنبياء، لا أولا، ولا آخرا ؛ لأن الأنبياء معصومون عن الكبائر، وقيل : لم يكونوا في ذلك الوقت أنبياء، ثم تابوا، ثم نبأهم الله. ٤
المفردات :
لناصحون : القائمون بمصالحه، والناصح : المشفق المحب للخير.
التفسير :
١١ ﴿ قَالُواْ يَا أَبَانَا مَا لَكَ لاَ تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ ﴾.
أي : قال إخوة يوسف لأبيهم محاولين استرضاءه ؛ لاستصحاب يوسف معهم : يا أبانا ! وهذا النداء فيه تلطف واستجلاب للعطف، ﴿ مالك لا تأمنا على يوسف ﴾. أي شيء جعلك لا تأمنا على يوسف وهو أخونا ونحن راغبون في خروجه معنا ؟ !
﴿ وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ ﴾. لا نريد له إلا الود والخير.
وتوحي هذه الآية : بأنهم بذلوا محاولات قبل ذلك في اصطحابه معهم، ولكنها جميعا باءت بالفشل.
يرتع : يتوسع في أكل الفواكه وغيرها من الرتع وهو أكل البهائم، يقال : رتع، يرتع رتعا، ورتوعا. أي : أكل البهيم وتوسع، وذكر الراغب : أن الرتع حقيقة في أكل البهائم، ويستعار للإنسان إذا أريد به الأكل الكثير ا ه.
التفسير :
١٢ ﴿ أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَدًا يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ﴾.
أرسل معنا يوسف غدا في رحلة رياضية يأكل ما يشتهي فيها ؛ حيث يطيب الطعام في الرحلة، ويلعب ما يشاء له من ألوان اللعب النافع لبدنه وروحه كالاستباق والاصطياد، وألعاب الفروسية.
﴿ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ﴾. سنحافظ عليه كل الحفظ من أن يصيبه مكروه أو يمسه سوء.
ليحزنني : بفتح الياء وقرئ بضمها، وكلاهما بمعنى : يجعلني حزينا.
غافلون : مشغلون عنه بالرتع واللعب، أو لقلة اهتمامكم بحفظه.
التفسير :
١٣ ﴿ قَالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَن تَذْهَبُواْ بِهِ وَأَخَافُ أَن يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ ﴾.
ذكر يعقوب عليه السلام حجتين ؛ ليعتذر بهما :
الأولى : هي حبه ليوسف وشدة أنسه به ؛ فبعده عنه يوقعه في الحزن.
الثانية : خوفه من انشغال إخوته عنه باللعب والرعي وقلة الاهتمام، فيتعرض لأذى من الحيوانات المفترسة كالذئب.
وهذه الحجج كانت تزيد في ولعهم بإبعاد يوسف عن أبيه :
فالحجة الأولى : وهي شدة تعلق الأب بيوسف ؛ كانت ملهبة ؛ لتحمسهم في إبعاده.
والحجة الثانية : كأنها أغرتهم بالغدر وقدمت لهم الغدر الذي يستخدمونه بعد إبعاد يوسف.
ونحن عصبة : ونحن جماعة.
لخاسرون : عاجزون أو ضعفاء مغبونون، أو مستحقون لأن يدعى عليهم بالخسار.
التفسير :
١٤ ﴿ قَالُواْ لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذًا لَّخَاسِرُونَ ﴾.
أي : قال إخوة يوسف لأبيه محاولين إدخال الطمأنينة عليه : والله ! لئن أكل الذئب يوسف وهو معنا، ونحن جماعة قوية من الرجال، قادرة على الدفاع والنزال.
﴿ إِنَّا إِذًا لَّخَاسِرُونَ ﴾. خسارة قوية نستحق بسببها عدم الصلاح لأي شيء.
المفردات :
أجمعوا : أي : عزموا. يقال : أجمع الأمر، وأجمع على الأمر أي : عزم فيه. وجواب لما محذوف تقديره : ضربوه أو آذوه.
وأوحينا إليه : في البئر أي : ألهمناه، وله سبع عشرة سنة، أو دونها ؛ تطمينا لقلبه.
لتنبئنهم : لتخبرنهم بعد اليوم.
يأمرهم : بصنيعهم.
التفسير :
١٥ ﴿ لَمَّا ذَهَبُواْ بِهِ وَأَجْمَعُواْ أَن يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ... ﴾ الآية.
استجاب يعقوب لرجاء أبنائه وإلحاحهم، ووعدهم أن يذهب يوسف معهم في الصباح، وفي الصباح أخذوا يقبلونه ويعانقونه أمام أبيهم، وحملوا على أكتافهم فلما تواروا عن أعين أبيهم ؛ غدروا بعهدهم مع أبيهم، وأساءوا معاملة يوسف، وقرروا وصمموا أن يلقوه في قعر جبّ معروف لهم، على بعد ثلاثة فراسخ من منزل يعقوب عليه السلام بفلسطين.
وقد وردت عدة روايات في استغاثة يوسف بإخوته، وتوسله إليهم واحدا واحدا توسلا يلين له الصخر، لكن هذه الروايات ليس فيها ماله سند يعول عليه. ٥
﴿ وَأَوْحَيْنَآ إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُم بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ ﴾.
عندما ألقى يوسف في الجب وحيدا، حزينا، عاريا من قميصه الذي يستره، أوحى الله إليه وحي إلهام ؛ ليزيل عنه الحزن، ويلهمه بمستقبل باهر عظيم يكون فيه سيدا مطاعا، ويخبر يوسف إخوته عندئذ بما فعلوه به عند الجب، من حيث لا يتوقعون أنه يوسف ؛ لبعد المدة وطول الفراق، ولكون يوسف سيدا مطاعا ذا هيبة وسلطان.
وقد تحقق ذلك كما أخبر القرآن الكريم حين قال لإخوته :﴿ هَلْ عَلِمْتُم مَّا فَعَلْتُم بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنتُمْ جَاهِلُونَ * قَالُواْ أَإِنَّكَ لَأَنتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَاْ يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللّهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَن يَتَّقِ وَيِصْبِرْ فَإِنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ ﴾. ( يوسف : ٨٩ ٩٠ ).
الوحي إلى يوسف في الجب
كان الوحي إلى يوسف إلهاما، كما أوحى الله إلى النحل، وإلى أم موسى عن طريق الإلهام القلبي، وقيل : عن طريق جبريل، وقيل : عن طريق الرؤيا الصالحة.
قال تعالى :﴿ وأوحينا إلى أم موسى أن أرضعيه... ﴾. ( القصص : ٧ ).
عشاء : وقت المساء، آخر النهار.
يبكون : متباكين.
نستبق : نتسابق في العدو أو في الرمي.
متاعنا : ما نتمتع به من الثياب والطعام ونحوهما.
بمؤمن لنا : بمصدق لنا فيما نقوله.
التفسير :
١٦، ١٧ ﴿ وَجَاؤُواْ أَبَاهُمْ عِشَاء يَبْكُونَ قَالُواْ يَا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِندَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ... ﴾
جاء إخوة يوسف إلى أبيهم بعد أن ذهب النهار، وبدأ الظلام وهم يتباكون وسألهم يعقوب : لماذا تبكون هل حدث للغنم شيء ؟ !
قالوا : لا.
قال يعقوب : فأين يوسف ؟ !
قالوا : إنا ذهبنا نتسابق بالنبل، أو بالخيل، أو بالجري، وتركنا يوسف في مكان قريب منا عند متاعنا، وفي لحظة خاطفة هجم الذئب وأكله، وأحسوا في قرارة أنفسهم بالكذب ؛ فصوت المريب واضح، والصوت فضاح، ويكاد المريب يقول : خذوني ؛ لذلك قال إخوة يوسف لأبيهم : إنك لا تصدقنا والحالة هذه لو كنا صادقين موثوقين عندك، فكيف وأنت تتهمنا في ذلك ؟ ! وأنت معذور في هذا لغرابة ما وقع، وعجيب ما حدث.
والحاصل : أنا وإن كنا صادقين، لكنك لا تصدقنا ؛ لأنك تتهمنا في يوسف ؛ لشدة محبتك إياه، ولظنك أنا قد كذبنا.
السباق :
دلت هذه الآية على أن السباق مشروع، لكن لا يجوز أن يكون على وجه الرهان إلا في ثلاثة : الخف، والحافر، والنصل. قال الشافعي : ما عدا هذه الثلاثة فالسبق فيها قمار. ا ه. والأصل في ذلك قوله صلى الله عليه وسلم :( لا سبق إلا في نصل، أو خف، أو حافر ). ٦.
قال ابن العربي : المسابقة شرعة في الشريعة، وخصلة بديعة، وعون على الحرب، وقد فعلها النبي صلى الله عليه وسلم بنفسه وبخيله، وسابق عائشة على قدميه فسبقها، فلما كبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، سابقها فسبقته، فقال لها :( هذه بتلك ). ٧
المفردات :
عشاء : وقت المساء، آخر النهار.
يبكون : متباكين.
نستبق : نتسابق في العدو أو في الرمي.
متاعنا : ما نتمتع به من الثياب والطعام ونحوهما.
بمؤمن لنا : بمصدق لنا فيما نقوله.
التفسير :
١٦، ١٧ ﴿ وَجَاؤُواْ أَبَاهُمْ عِشَاء يَبْكُونَ قَالُواْ يَا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِندَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ... ﴾
جاء إخوة يوسف إلى أبيهم بعد أن ذهب النهار، وبدأ الظلام وهم يتباكون وسألهم يعقوب : لماذا تبكون هل حدث للغنم شيء ؟ !
قالوا : لا.
قال يعقوب : فأين يوسف ؟ !
قالوا : إنا ذهبنا نتسابق بالنبل، أو بالخيل، أو بالجري، وتركنا يوسف في مكان قريب منا عند متاعنا، وفي لحظة خاطفة هجم الذئب وأكله، وأحسوا في قرارة أنفسهم بالكذب ؛ فصوت المريب واضح، والصوت فضاح، ويكاد المريب يقول : خذوني ؛ لذلك قال إخوة يوسف لأبيهم : إنك لا تصدقنا والحالة هذه لو كنا صادقين موثوقين عندك، فكيف وأنت تتهمنا في ذلك ؟ ! وأنت معذور في هذا لغرابة ما وقع، وعجيب ما حدث.
والحاصل : أنا وإن كنا صادقين، لكنك لا تصدقنا ؛ لأنك تتهمنا في يوسف ؛ لشدة محبتك إياه، ولظنك أنا قد كذبنا.
السباق :
دلت هذه الآية على أن السباق مشروع، لكن لا يجوز أن يكون على وجه الرهان إلا في ثلاثة : الخف، والحافر، والنصل. قال الشافعي : ما عدا هذه الثلاثة فالسبق فيها قمار. ا ه. والأصل في ذلك قوله صلى الله عليه وسلم :( لا سبق إلا في نصل، أو خف، أو حافر ). ٦.
قال ابن العربي : المسابقة شرعة في الشريعة، وخصلة بديعة، وعون على الحرب، وقد فعلها النبي صلى الله عليه وسلم بنفسه وبخيله، وسابق عائشة على قدميه فسبقها، فلما كبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، سابقها فسبقته، فقال لها :( هذه بتلك ). ٧
سولت لكم أنفسكم أمرا : أي : سهلة وزينته لكم حتى ارتكبتموه.
التفسير :
١٨ ﴿ وَجَآؤُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْرًا ﴾.
أي : جاء إخوة يوسف إلى أبيهم بأدلة ملفقة ؛ فحينما رجعوا إليه آخر اليوم في وقت العشاء، جاءوا بقميصه ملطخا بدم مكذوب مفترى، أخذوه من دم سخلة ذبحوها، ولطخوا ثوب يوسف بدمها !
قال الآلوسي : " أخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ : عن قتادة : أن إخوة يوسف بعد أن ألقوا به في الجب، أخذوا ظبيا فذبحوه، ولطخوا بدمه قميصه، ولما جاءوا به إلى أبيهم، جعل يقلبه ويقول : تالله ما رأيت كاليوم ذئبا أحلم من هذا الذئب ! ! أكل ابني ولم يمزق عليه قميصه ".
وقال القرطبي : " استدل الفقهاء بهذه الآية في إعمال الأمارات في مسائل الفقه كالقسامة وغيرها، وأجمعوا على أن يعقوب عليه السلام قد استدل على كذب أبنائه بصحة القميص، وهكذا يجب على الحاكم أن يلحظ الأمارات والعلامات... ".
﴿ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ ﴾.
أي : ليس الأمر كما زعمتم من أكل الذئب له، بل زينت لكم أنفسكم الكارهة ليوسف أمرا منكرا فظيعا لا يعلمه إلا الله، ولا أملك في هذه الساعة إلا الصبر الجميل.
﴿ وَاللّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ ﴾.
أي : أستعين بالله وألجأ إليه ؛ فهو ولي الصابرين، وغوث المتغيثين، أستعين به على غياب يوسف، وعلى احتمال ما تقولون في شأن يوسف كذبا، أستعين بالله حتى يفرّج الكرب بعونه ولطفه.
يروى : أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن الصبر الجميل فقال : " هو الذي لا شكوى معه ".
والصبر نصف الإيمان، وهو الملجأ والملاذ، والاعتصام بالصبر والاستعانة بالله في المحنة والشدة ؛ مؤمن بالفرج بعد الكرب، وباليسر بعد العسر، ومن وجد الله ؛ وجد كل شيء، ومن فقد الله ؛ فقد كل شيء. قال تعالى :﴿ فإن مع العسر يسرا * إن مع العسر يسرا ﴾. ( الشرح : ٥، ٦ ).
المفردات :
سيارة : رفقة يسيرون، جمع سيارة.
واردهم : الذي يرد الماء ويستقى لهم.
فأدلى دلوه : أي : أرسلها إلى الجب ليملأها.
وأسروه بضاعة : وأخفوه متاعا للتجارة.
التفسير :
١٩ ﴿ وَجَاءتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُواْ وَارِدَهُمْ فَأَدْلَى دَلْوَهُ قَالَ يَا بُشْرَى هَذَا غُلاَمٌ وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً... ﴾ الآية.
من طبيعة القرآن ذكره للأمور الرئيسة في الموضوع ؛ اعتمادا على فهم السامع وإدراكه.
والمراد : بعد أن ألقى يوسف في الجب، جاء ركب المسافرون إلى مصر ونزلوا قريبا من هذه البئر للاستراحة، وشرب الماء والتزود به. فأرسلوا الذي يرد لهم الماء عادة، فأخذ دلوه وألقاه في الجب ليملأه ماء، بيد أن يوسف تعلق به واستغاث بصاحب الدلو أن ينقذه، وما إن رآه صاحب الدلو وشاهد جماله وهيأته وملامحه الجميلة ؛ حتى صاح قائلا :﴿ يا بشرى هذا غلام ﴾، فهو مستبشر بهذا الغلام الجميل الذي منحه الله نصف الحسن ؛ فقال : يا بشرى، أقبلي، أي : يا بشارتي، فهذا أوان إقبالك، وقرأ أهل المدينة ومكة : يا بشراي هذا الغلام، بإضافة البشرى إلى ياء المتكلم.
﴿ وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً ﴾. وأخفى جماعة المسافرين، خبر التقاط يوسف من الجب ؛ مخافة أن يطلبه أحد من السكان المجاورين للجب، واعتبروه بضاعة سرية لهم، وعزموا على بيعه ؛ على أنه من العبيد الأرقاء.
﴿ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ ﴾. أي : إن الله مطلع على أعمالهم حيث يبيعون الحر ويأكلون ثمنه، وهو كريم أصيل.
جاء في الحديث الصحيح : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم : يوسف ابن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم ). ٨
وشروه : وباعوه، شرى وباع يؤدى كل منهما معنى الآخر.
دراهم معدودة : دراهم قليلة.
وكانوا فيه من الزاهدين : من الراغبين عنه.
التفسير :
٢٠ ﴿ وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُواْ فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ ﴾.
أي : إن إخوة يوسف باعوه للسيارة بثمن قليل. قال ابن كثير : وهذا هو الرأي الأقوى، أو أن الركب الذي أنقذ يوسف من الجب باعوه بثمن بسيط، لا يوازي ثمن أمثاله، وكانوا زاهدين في بقائه بينهم، راغبين في التخلص منه بأي حال، دون أن يعلموا منزلته عند الله تعالى، وقد اشتراه عزيز مصر، رئيس الشرطة وصار فيما بعد مسلما ؛ آمن بيوسف ومات في حياته.
والخلاصة : أن الله تعالى وصف هذا الثمن بثلاث صفات :
١ ثمن بخس. ٢ دراهم معدودة. ٣ كانوا فيه من الزاهدين.
المفردات :
أكرمي مثواه : أي : اجعلي مقامه عندنا كريما، المثوى : هو المقام والمنزل، يقال : ثوى بالمكان، يثوى ثواء أي : أقام به.
مكنا ليوسف في الأرض : مكنا له في أرض مصر، وجعلنا له مكانة رفيعة فيها، حتى صار رئيس حكومتها، ووزير ماليتها.
ولنعلمه من تأويل الأحاديث : تعبير الرؤيا.
والله غالب على أمره : أي : غالب على الأمر الذي يشاؤه فلا يعجزه شيء، ولا يمنع عما يشاء، ولا ينازع فيما يريد.
التفسير :
٢١ ﴿ وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِن مِّصْرَ لاِمْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَن يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا... ﴾ الآية.
قال عزيز مصر ورئيس شرطتها لامرأته زليخا : أكرمي هذا الغلام وأحسني معاملته ؛ فلا تزجريه زجر الخدم ؛ فإني ألمح فيه شرف المحتد، وجمال المحيّا، ولعله في المستقبل يكون صالحا لرعاية شئوننا، أو رعاية شئون الدولة، فإن فراستي فيه : أنه أهل للمكارم والعظائم، أو عسى أن نتخذه ولدا نتبناه، ونحسن القيام عليه ؛ ليكون لنا ابنا يرعانا عند الكبر، ويحنو علينا عند الحاجة إلى ذلك.
وقد صدقت فراسة هذا العزيز، فكان يوسف وزيرا ناجحا استطاع أن ينقذ مصر من المجاعة التي مرت بها، واستطاع أن يحافظ على الأقوات، بما يكفي مصر ويكفي جيرانها.
أخرج سعيد منصور والحاكم وصححه، وجماعة : عن ابن مسعود رضي الله عنه قال : أفرس الناس ثلاثة : عزيز مصر ؛ حين قال لامرأته :﴿ أكرمي مثواه ﴾، وزوجة موسى ؛ حين قالت لأبيها :﴿ يا أبت استأجره إن خير من استأجرت القوي الأمين ﴾. ( القصص : ٢٦ ). وأبو بكر رضي الله عنه ؛ حين استخلف عمر رضي الله عنه.
قال ابن العباس وابن إسحاق : إنما قال العزيز :﴿ أو نتخذه ولدا ﴾ ؛ لأنه كان حصورا لا يولد له.
﴿ وَكَذَلِكَ مَكَّنِّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ... ﴾
كما أكرمنا برعايته في الجب، وبإلقاء محبته في قلب عزيز مصر، وبرعايته في محنته عندما تعلقت به زليخا، وعلمناه تأويل الأحاديث وتعبير الرؤيا ومعرفة ما تئول إليه الرؤيا، وجعلنا تأويله لرؤيا السجينين سبيلا إلى تأويل رؤيا الملك، ثم تقدير الملك له، وتوليته الوزارة، وتوفيقه لأن يكون وزيرا ناجحا، ثم تيسير حضور إخوته إليه من مصر، وسجودهم له سجود تعظيم، وتحقيق رؤياه، وإنعام الله عليه وعلى والديه.
﴿ وَاللّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ ﴾.
أي : والله غالب على كل أمر يريده، فلا يغلب على شيء منه، بل يقع كما أراد :﴿ إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون ﴾. ( يس : ٨٢ ).
فما حدث من إخوة يوسف له، ومن تعلق امرأة العزيز به، ودخوله السجن، وخروجه من السجن وزيرا مفوضا ؛ قد كان من الأسباب التي أراد الله تعالى له بها التمكين في الأرض، ولكن أكثر الناس يأخذون الأمور بظواهرها، والأقل يدركون أن هناك أسبابا خفية تلطف الله بها في التوصل إلى تحقيق مراده، على نحو ما قال يوسف :﴿ إن ربي لطيف لما يشاء إنه هو العليم الحكيم ﴾. ( يوسف : ١٠٠ ).
ولما بلغ سن رشده وكمال قوته ؛ باستكمال نموه البدني والعقلي ؛ وهبناه حكما صحيحا فيما يعرض له من مهام الأمور، ومشكلات الحوادث، مقرونا بالحق والصواب، لما وهبناه علما غزيرا وبصرا بالأمور، ومثل ذلك الجزاء العظيم، نجازي به المتحلين بصفة الإحسان الذين لم يدنسوا أنفسهم بسيئات الأعمال ؛ فنؤتيهم نصيبا من الحكم بالحق والعدل، وعلما وتوفيقا وبصرا بالأمور.
المفردات :
وراودته : طلبت إليه، من راد يرود ؛ إذا ذهب وجاء لطلب شيء، والمراد : تحايلت لمواقعته إياها، ولم تجد منه قبولا.
وغلقت الأبواب : أحكمت إغلاقها، قيل : كانت سبعة، والتشديد ؛ للتكثير أو للمبالغة في الإيثاق.
هيت لك : هيث : اسم فعل أمر بمعنى : أقبل وبادر، واللام في لك للبيان. أي : لك أقول هذا، كما في هلم لك، وقرئ : هئت بكسر الهاء وبالهمز وضم التاء، بمعنى : تهيأت لك فهو : فعل ماضي وفاعله.
معاذ الله : أي : أعوذ بالله معاذا. أي : ألجأ إليه التجاء.
إنه ربي : إنه سيدي الذي رباني.
أحسن مثواي : مقامي، أي : أحسن تعهدي وأكرمني فلا أخونه أبدا.
تمهيد :
تشير هذه الآية إلى : محنة جديدة ليوسف الصديق، تلك هي مراودة امرأة العزيز له وإلحاحها عليه، واعتصامه بالله رب العالمين.
التفسير :
٢٣ ﴿ وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَن نَّفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ... ﴾ الآية.
سبق أن قال العزيز لامرأته :﴿ أكرمي مثواه ﴾، ونشأ يوسف كريما حكيما عليما، وبلغ أشده، واستوى له العلم والجسم والفضل والكمال والجمال ؛ فأحبته امرأة العزيز، وتمنت لو بدأها، لكنه كان في غاية الأدب وحسن السيرة ؛ فلجأت إلى فنون الأنثى ذاهبة إلى فن، آبية من فن، ﴿ وراودته ﴾ من راد، يراود بالإبل ؛ إذا ذهب وجاء، وهي تعبر عن تلطف الأنثى وتحايلها في رفق ولين ؛ كأنها تريد أن تصرفه عن نفسه، فهو في عفة واستقامة تجعله يسيطر على نفسه وهواه، لكنها تريد أن تسلبه سيطرته على نفسه، تريد أن تتصباه وتستثير نوازع شهوته وطلبات جسده.
﴿ وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَن نَّفْسِهِ ﴾.
والمعنى : واحتالت امرأة العزيز التي يقيم يوسف في بيتها احتالت عليه وطالبته برفق وخديعة أن يمكنها من نفسه، يخالطها مخالطة الرجل للمرأة.
﴿ وَغَلَّقَتِ الأَبْوَابَ ﴾.
أحكمت إغلاق الأبواب، بل حاولت أن تجعلها حيطانا لا يسهل الوصول لأحد منها ؛ لذلك قال القرآن ﴿ غلقت ﴾ بتشديد اللام، فهي التي أغلقت الأبواب بنفسها، وأحكمت إغلاقها.
﴿ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ ﴾.
أي : هلم أقبل وبادر، قد تهيأت لك ! وهي كلمة أقرب إلى منجاة خاصة تطلب بها الأنثى من يريد مخالطتها، وهي تعبر عن تضرع المرأة بكل وسيلة تملكها ؛ لإغراء الرجل الذي تريده، وهنا وقد بلغت المرأة آخر ما تستطيع من إغراء ؛ وقف يوسف الصديق يذكرها بالزوج، وبالله، ويحذرها من الظلم.
﴿ قَالَ مَعَاذَ اللّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ ﴾.
أي : أعوذ بالله معاذا، وألتجيء إليه وأعتصم مما تريدين مني، فهو يعيذني من هذا المنكر وهذه الفاحشة.
﴿ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ ﴾.
إنه الضمير للشأن والحديث. أي : إن الأمر والشأن الخطير الذي يمنعني من إجابتك ؛ هو سيدي الذي رباني وأحسن تعهدي، حيث أمرك بإكرامي، فكيف أسيء إليه بخيانته في زوجته ؟ !
واختار أبو حيان أن الضمير لله تعالى.
والمعنى : أن الله تعالى خالقي أحسن مثواي، وجعل قلب العزيز يعطف علي، ويطلب منك إكرامي ؛ فكيف أعصى ربي بارتكاب تلك الفاحشة ؟ !
﴿ ِإنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ ﴾.
أي : إن الشأن في سنة الله في خلقه وعدالته، هو أنه لا يفوز الظالمون في دنياهم وأخراهم، فأما في الدنيا فيعاقبون بالعلل والأسقام، والذلّ بعد العزّ، والفقر بعد الغنى، وغير ذلك من الآفات، وأما في الآخرة فالجحيم والزمهرير، ومن فاتته عقوبة الدنيا لم يفلت من عقوبة الآخرة.
قال تعالى :﴿ ولا تحسبن الله غافلا عما يعمل الظالمون إنما يؤخرهم ليوم تشخص في الأبصار ﴾. ( إبراهيم : ٤٢ ).
تشير هذه الآية إلى : محنة جديدة ليوسف الصديق، تلك هي مراودة امرأة العزيز له وإلحاحها عليه، واعتصامه بالله رب العالمين.
المفردات :
همت به : عزمت وقصدت مخالطته.
وهم بها : نازعته الشهوة لمخالطتها إلا أنه ضبط نفسه، وتذكر ربه ؛ فامتنع. قال تعالى :﴿ إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون ﴾. ( الأعراف : ٢٠١ ).
وهم بها لولا أن
رأى برهان ربه : هنا جواب الشرط محذوف تقديره : لولا أن رأى برهان ربه لخالطها، أما هذا البرهان فقيل : إنه رأى جبريل وقيل : رأى يعقوب.
كذلك : أي : مثل ذلك التثبيت ثبتناه، وأريناه البرهان.
المخلصين : بفتح اللام أي : الذين أخلصهم الله لطاعته
التفسير :
٢٤ ﴿ وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ... ﴾
كثر كلام المفسرين حول هذه الفقرة وكأنهم أرادوا أن يردوا عن مقام النبوة كل هفوة ؛ من ذلك أن السيد رشيد رضا فسرهّم المرأة هنا : بأنها أرادت ضربه، حيث أذلها وكسر كبرياءها ؛ فصممت على ضربه، وهم بها ليمنعها أو يضربها ؛ لولا أن أراه الله برهانا، ويقينا يدعوه إلى الخروج من المأزق، والهروب من أمام هذه المرأة ؛ طلبا للنجاة، وكما أكرمه الله سابقا، أكرمه بهذا التفكير ؛ ليصرف الله عنه ارتكاب القتل، وارتكاب الزنا ؛ لأن الله أخلصه وقربه واصطفاه.
وإذا أمعنا النظر في الآية والسياق والأحاديث ؛ وجدنا أن الآية تشير إلى هم امرأة العزيز بيوسف.
والهم نوعان :
الأول : هم بمعنى : القصد والعزم والتصميم على التنفيذ.
والثاني : هم بمعنى حديث النفس، وهو خطرات النفس، وفي الحديث : " إن الله غفر لأمتي ما حدثت به نفسها ". ٩
وهذا الهم الثاني : حديث النفس، أو خطرات تعرض للنفس، ثم يتراجع المؤمن، ويرى أوامر الله صريحة أو برهان الله واضحا في تحريم الفعل والزنا ؛ فيكون له ثواب الكف عن المحرم، وتلك محمدة لا مذمة.
وفي الصحيحين : عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : يقول الله تعالى :( إذا هم عبدي بحسنة ؛ فاكتبوها له حسنة، فإن عملها فاكتبوها بعشر أمثالها، وإن هم بسيئة فلم يعملها ؛ فاكتبوها حسنة ؛ فإنما تركها من جرائي، فإن عملها ؛ فاكتبوها بمثلها ). ١٠
وقد ذهب إلى هذا المعنى الزمخشري في تفسير الكشاف والإمام الآلوسي، والأستاذ محمد فريد وجدي في المصحف المفسر حيث قال :
﴿ وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا ﴾. أي : قصدت مخالطته، وقصد مخالطتها، والهم بالشيء ؛ قصده والعزم عليه، والمراد بهم يوسف : منازعة الشهوة إياه، لا القصد الاختياري، وهذا لا يدخل تحت التكليف قط، بل يثاب المرء على الامتناع عن مجاراته، وهذا لا يقدح في يوسف ؛ فإنه عام في جميع الناس وإنما يتفاضلون في ضبط نفوسهم، وكف رعونتها. ١١
وقال الإمام الآلوسي :
﴿ ولقد همت به ﴾. أي : بمخالطته، والمعنى : أنها قصدت المخالطة وعزمت عليها عزما جازما، لا يلويها عنها صارف.
﴿ وهم بها ﴾. أي : مال إلى مخالطتها بمقتضى الطبيعة البشرية، ومثل ذلك لا يكاد يدخل تحت التكليف، وليس المراد : أنه قصدها قصدا اختياريا ؛ لأن ذلك أمر مذموم.. وإنما عبر عنه بالهم لمجرد وقوعه في صحبة همها في الذكر، على سبيل المشاكلة لا لشبهة به.
﴿ لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ ﴾. أي : محبته الباهرة الدالة على كمال قبح الزنا وسوء سبيله، والمراد برؤيته لبرهان الله : كمال إيقانه به، ومشاهدته له مشاهدة وصلت إلى مرتبة عين اليقين. ١٢ ا ه.
والبرهان الذي رآه يوسف، هو برهان الله المأخوذ على المكلفين، من وجوب اجتناب المحارم، أو حجة الله تعالى في تحريم الزنى، والعلم بما على الزناة من العقاب. وقيل : هو تطهير نفوس الأنبياء عن الأخلاق الذميمة.
وقد بالغ بعض المفسرين في تفسير هذا البرهان، فادّعى بعضهم : أن يوسف سمع هاتفا يقول : يا يوسف، اسمك، في ديوان الأنبياء، وتفعل فعل السفهاء !
وادعى بعضهم : بأن يوسف حل سراويله، وجلس من زليخا مجلس الخاتن، ثم رأى زليخا تقوم وتغطي صورة صنم موجود ؛ فقال لزليخا : تستحين من صنم، ولا أستحي من رب الأرض والسماء ؟ !
وادعى بعضهم : أنه رأى صورة والده يعقوب، يعض على إصبعه، ويحذر يوسف ؛ فاستحى يوسف من فعل الفاحشة.
وادعى بعضهم : أنه رأى جبريل عليه السلام يحذره من ارتكاب الفاحشة.
ونقول لهؤلاء ما قاله شيوخنا : لو أن أقل الناس حياء وأكثرهم وقاحة، رأى أمثال ذلك لخجل وذهبت منه كل رغبة في الشهوة ؛ فأي فضيلة لهذا النبي الكريم، الذي مدحه الله، وسجل شهادة بنزاهته، ثم قالت النسوة عنه :﴿ حاش لله ما علمنا عليه من سوء ﴾. وقالت امرأة العزيز عنه :﴿ أنا راودته عن نفسه وإنه لمن الصادقين ﴾. كل هذه الشهادات تثبت أن يوسف، ورجوعه إلى الحق والالتزام ؛ كان سببه يقين داخلي، ورغبة ذاتية. وفي هذا المعنى يقول الله تعالى :﴿ إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون ﴾. ( الأعراف : ٢٠١ ).
لقد كان هم يوسف بامرأة العزيز مجرد تفكير في هذا الإغراء، الذي يزل له عقل البشر، ثم عصمه الله بالعقل والفكر والتأمل، والالتجاء إلى الله، كما قال تعالى :﴿ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاء إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ ﴾. ( يوسف : ٢٤ ).
والبرهان هذا هو المفتاح الذي يفتح أبواب النصر على الإغراء، والارتقاء على حيل الشيطان ؛ قد يكون تذكر الموت أو القبر أو الحساب أو الآخرة، أو الأب الرجل الصالح، أو الملاك جبريل، وهو يهبط بالوحي، أو جلال الله وعظمته وهو مطلع وشاهد، وكلها براهين تنبع من داخل النفس والوجدان والتصور، لكنها تتجمع كلها على معنى واحد هو : رقابة الله والتزام أمره واجتناب نهيه ؛ لهذا عبر عنها بالمفرد فقال :﴿ لولا أن رءا برهان ربه ﴾. وهو معونة الله للصادقين، ورعايته للمخلصين، وعصمته للأنبياء والمرسلين.
﴿ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاء إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ ﴾.
رجحنا فيما سبق أن الامتناع عن الزنى مع الخطور بالبال ؛ يدل على قوة الوازع، وقوة الإرادة أكثر من عدم وجوده، أي : أن يوسف لم يكن عنينا، ولا حصورا، وإنما كان بشرا مكتمل الجسم والقوة، يفكر في هذا الإغراء، أو يتخيله لأول وهلة، ثم يعتصم ببرهان الله وتوفيقه.
كما قالت امرأة العزيز للنسوة :﴿ ولقد راودته عن نفسه فاستعصم ﴾. أي : طلب العصمة وتمسك بها.
وهنا يقول الله تعالى :﴿ كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء ﴾.
أي : جرت أفعالنا وأقدارنا كذلك ؛ لنصرف عنه دواعي ما أرادت به من السوء، وما راودته عليه قبله من الفحشاء ؛ بعصمة منا تحول دون تأثير دواعيهما الطبيعية في نفسه، حتى لا يخرج من جماعة المحسنين إلى جماعة الظالمين.
رجاء في تفسير الكشاف للزمخشري. ١٣
﴿ كَذَلِكَ ﴾. الكاف منصوب المحل أي : مثل ذلك التثبيت ثبتناه.
﴿ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ ﴾. من خيانة السيد.
﴿ وَالْفَحْشَاء ﴾. من الزنى.
﴿ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ ﴾. أي : الذين أخلصهم الله لطاعته بأن عصمهم.
ويجوز أن يراد بالسوء : مقدمات الفاحشة من : القبلة، والنظر بشهوة، ونحو ذلك.
﴿ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ ﴾. أي : من جملة المخلصين، أو هو ناشئ منهم ؛ لأنه من ذرية إبراهيم الذين قال الله عنهم :﴿ وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إبْرَاهِيمَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ أُوْلِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ إِنَّا أَخْلَصْنَاهُم بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ وَإِنَّهُمْ عِندَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيَارِ ﴾. ( ص : ٤٥٤٧ ).
تشير هذه الآية إلى : محنة جديدة ليوسف الصديق، تلك هي مراودة امرأة العزيز له وإلحاحها عليه، واعتصامه بالله رب العالمين.
٢٥ ﴿ وَاسُتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِن دُبُرٍ وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ... ﴾
أي : تسابقا إلى الباب ؛ كل منهما يريد أن يسبق الآخر، مع اختلاف المقصد ؛ فيوسف أسرع من أمامها هاربا طالبا النجاة من هذه المرأة الراغبة في الشهوة بكل ما أوتيت من وسيلة، و زليخا أسرعت وراءه تبتغي إرجاعه ؛ حتى لا يفلت من يدها، وهي لا تدري إذا خرج إلى أين يذهب، ولا ماذا يقول، ولا ماذا يفعل ؟ لكنها أدركته.
﴿ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِن دُبُرٍ ﴾.
أي : جذبته من قميصه فانقدّ طولا إلى ذيله.
﴿ وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ ﴾.
أي : وحينئذ وجدا زوجها عند الباب الخارجي، ويوسف يسرع هاربا، وهي تلهث وراءه طالبة، وهي في زينتها وحلتها، وفي وهلة المفاجأة أسرعت المرأة إلى تخليص نفسها من التهمة، وتهديد يوسف حتى يستجيب لها، ويعرف أن أمره بيدها.
﴿ قَالَتْ مَا جَزَاء مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوَءًا إِلاَّ أَن يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾.
وقد ذكر المفسرون : أن هذه الجملة تدل على ذكاء المرأة وحسن تخلصها.
* فهي لم تصرح باسم يوسف ؛ تهويلا للأمر، وتعظيما له، كأن ذلك قانون مطرد في حق كل من أراد سوءا بأهل العزيز.
* لم تصرح بجرم يوسف ؛ حتى لا يشتد غضب العزيز عليه، ويقسو في عقابه ؛ كأن يبيعه أو يقصيه عن الدار ؛ وذلك غير ما يريد.
* حبها الشديد ليوسف عليه السلام ؛ حملها على أن تبدأ بذكر السجن، وتؤخر ذكر العذاب ؛ لأن المحب لا يسعى في إيلام المحبوب لاسيما أن قولها :﴿ إلا أن يسجن ﴾. قد يكون المراد منه
السجن لمدة يوم أو يومين. ١٤
﴿ قَالَتْ مَا جَزَاء مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوَءًا إِلاَّ أَن يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾.
أي : وحينئذ قالت زليخا للعزيز : ما جزاء من أراد بأهلك فاحشة ؛ إلا أن يحبس أو عذاب مؤلم موجع، فيضرب ضربا شديدا، وكانت نساء مصر تلقب الزوج : بالسيد.
المفردات :
وشهد شاهد من أهلها : قيل : ابن عمها، وقيل : ابن خالها، وكان صبيا في المهد ؛ أنطقه الله ؛ معجزة له.
قد : شق، يقال : قده، يقده، قدا ؛ شقه.
من قبل : أي : من أمام.
التفسير :
٢٦ ﴿ قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَن نَّفْسِي... ﴾ الآية.
أي : قال يوسف مدافعا عن نفسه مكذبا لها : هي التي دعتني إلى مقارفة الفاحشة، لا أني أردت بها السوء.
﴿ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّنْ أَهْلِهَا إِن كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الكَاذِبِينَ ﴾.
تعددت آراء المفسرين حول هذا الشاهد ؛ فقيل : إنه طفل في المهد شهد بما فصله الله بعد، وكان من أهل امرأة العزيز.
وذكر القطبي نقلا عن ابن عباس : أن الشاهد كان ابن عمها، وكان رجلا عاقلا حكيما، شاوره العزيز في هذا الأمر.
قال صاحب الظلال :
لعله شهد الواقعة، أو أن زوجها استدعاه وعرض عليه الأمر، كما يقع في مثل هذه الأحوال، أن يستدعي الرجل كبيرا من أسرة المرأة، ويطلعه على ما رأى، وبخاصة تلك الطبقة الباردة الدم، الهادئة الأعصاب. ا ه.
ويلاحظ أن هذا الكلام من قريب زليخا لا يعتبر شهادة ؛ لأنه لم ير شيئا مما حدث، ولكنه لما كان يرشد إلى دليل الحكم، أطلق عليه شهادة مجازا ؛ لأنه يشبهها في التوصيل إلى الحكم الصحيح.
﴿ إِن كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الكَاذِبِينَ ﴾.
أي : إن كان قميص يوسف شق من قدامه، فقد صدقت في دعواها : أنه أراد بها سوءا ؛ فهو قرينه على أنه بادرها بالاعتداء ؛ فنازعته وأخذت بتلابيبه من قدامه، وجعلا يتصارعان، وهي ممسكة بتلابيبه فشق القميص في يدها من قدامه وهو يخلّصه منها، وهو حينئذ من الكاذبين في دعواه : أنها راودته عن نفسه فامتنع.
﴿ وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ ﴾ : فهو من أثر تملصه منها، وأنه أسرع إلى الباب ؛ ليهرب منها، وأنها تابعته وجذبت ثوبه من الخلف ؛ لتمنعه من الهروب.
وقد قدم الفرض الأول ؛ لأنها سيدة. صاحبة القصر، وهو فتى عندها فمن باب اللياقة أن يذكر الفرض الأول أولا، والأمر لا يخرج عن أن يكون قرينة " واعتماد القضاة على القرائن معروف في الفقه، ويؤخذ بالقرينة في اللفظة وفي كثير من المواضع، حتى قال مالك في اللصوص : إذا وجدت أمتعته معهم ؛ فادّعاها قوم وليست لهم بينة ؛ فإن الحاكم ينتظر بعض الوقت، فإن لم يأت غيرهم ؛ دفعها إليهم.
وقال محمد بن الحسن الشيباني : في متاع البيت إذا اختلف فيه الرجل والمرأة، إن ما كان للرجل فهو للرجل، وما كان للنساء فهو للمرأة، وما كان للرجل والمرأة فهو للرجل.
وكان شريح وإياس بن معاوية يعملان العلامات في الحكومات، أي : في القضايا التي لا شهود فيها، وأصل ذلك هذه الآية ". ١٥
من كيدكن : أي : من حيلتكن، يقال : كاده، يكيده كيدا : احتال عليه ؛ حتى أوقعه.
التفسير :
٢٨ ﴿ فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِن كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ ﴾.
أي : فلما شاهد العزيز قميص يوسف قد انشق من خلفه ؛ التفت إلى زوجته وقال لها : إن اتهامك اتهام باطل حين قلت :﴿ ما جزاء من أراد بأهلك سوءا... ﴾ أو إن تدبير المكر بالرجال من كيدكن وتدبيركن ؛ معشر النسوة ؛ فهن أكثر تلطفا واحتيالا ؛ للوصول إلى أهدافهن من الرجال، ولأن ذلك يتناسب وطبيعة هذه الطبقة المترفة من النساء، التي تجد من الوقت ؛ لتدبير الكيد وإحكام المكر، ونسب الكيد إلى جميع النساء، فقال :﴿ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ ﴾. مكركن محكم قوي، وفيه ما ترى من برود العزيز ؛ حيث نسب المكر إلى كل النساء، وهي واحدة منهن، فكأنها من أبرع بنات جنسها في تدبير الكيد والمكر.
قال : " ما أيس الشيطان من أحد إلا أتاه من جهة النساء ".
وقال بعض العلماء : أنا أخاف من النساء ما لا أخاف من الشيطان، فإنه تعالى يقول في حق الشيطان :﴿ إن كيد الشيطان كان ضعيفا ﴾. ( النساء : ٧٦ )، وقال في حق النساء :﴿ إن كيدهن عظيم ﴾.
يوسف أعرض عن هذا : أي : يا يوسف : اكتمه ولا تذكره.
واستغفري : يا زليخا وهي زوجته.
من الخاطئين : من المذنبين من خطئ يخطأ، خطأ أي : أذنب متعمدا، أما أخطأ فمعناه أذنب : غير متعمد.
التفسير :
٢٩ ﴿ يوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنبِكِ إِنَّكِ كُنتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ ﴾.
بعدما ظهرت براءة يوسف ؛ اتجه العزيز إليه بالخطاب طالبا منه أن يكتم الأمر، ولا يفضح الزوجة، واتجه إلى زوجته بخطاب يسير يطلب منها أن تستغفر من ذنبها، أي : تطلب منه الصفح، أو تطلب من الآلهة التي كانوا يتجهون إليها بالعبادة ؛ فإنك تعمدت الخطأ، ودبرت خطة محكمة ؛ في الإيقاع بيوسف، واتهامه بدون وجه حق. قال النسفي في تفسير الآية : " وكان العزيز رجلا حليما، قليل الغيرة ؛ حيث اقتصر على هذا القول ". ١٦
المفردات :
نسوة : جماعة من النساء لا واحد له من لفظه.
امرأة العزيز : زوجته.
تراود فتاها عن نفسه : تطالب فتاها بمضاجعتها، وتخادعه عن نفسه.
قد شغفها حبا : شق شغاف قلبها حبا حتى وصل إلى فؤادها، وشغاف القلب حجابه المغشي له.
ضلال مبين : بعد عن طريق الصواب والعفة، بين واضح.
التفسير :
٣٠ ﴿ وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَن نَّفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا... ﴾ الآية.
تفيد هذه الآية : أن خبر امرأة العزيز مع يوسف ؛ قد انتشر في مدينة مصر، خصوصا بين نساء الطبقة الراقية التي تهتم بمثل هذه الأخبار.
لقد كثر كلامهن وغيبتهن وعيبهن لامرأة العزيز ؛ حيث أن زوجها هو كبير الوزراء، وله نصيب من الملك والحكم، ثم تنشغل هذه الزوجة عن زوجها الكبير الخطير، بحب فتاها وتابعها، حيث تستمر في طلبهن الفاحشة منه، وتريد مضاجعته، وقد تمكن حبه من شغاف قلبها، فلم يعد في قلبها مكان لغير حب يوسف، وعقب النسوة بقولهن :﴿ إنا لنراها في ضلال مبين ﴾. أي : إن لنراها في ضلال واضح بين ؛ لرغبتها في الزنا، وانشغالها بفتى تابع لها، وتمكن حبه من قلبها ؛ مع أن زوجها في منزلة رفيعة عالية.
فلما سمعت بمكرهن : أي : باغتيابهن، وإنما سماه : مكرا ؛ لأنهن أخفينه كما يخفي الماكر مكره.
وأعتدت لهن متكئا : أي : أعدت لهن ما يتكئن عليه من الوسائد، يقال : أعتد الشيء، أي : أعده، وهو من العتاد، أي : الأداة.
وآتت : وأعطت.
أكبرنه : عظمنه، وهبن حسنه، من أكبر الشيء أي : رآه كبيرا.
و قطعن أيديهن : أي : جرحن أيديهن من فرط الدهش.
حاش لله : تنزيها له عن صفات العجز والنقص، والمراد : التعجب من حسن يوسف.
إن هذا إلا ملك : أي : ما هذا إلا ملك.
التفسير :
٣١ ﴿ فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وأعدت لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِّنْهُنَّ سِكِّينًا... ﴾ الآية.
تفيد هذه الآية : قدرة امرأة العزيز على مقابلة كيد النسوة، وحديثهن عنها، وتجريحهن لها، وانتقاصهن لضلالها، وفتنتها بغلام مملوك لها قابلت كل ذلك بمكر مثله، وأبرع منه ؛ فقد عملت وليمة ودعت إليها نساء الطبقة الراقية، قيل : إنها دعت أربعين امرأة. منهن خمس من المتكلمات عليها :( امرأة الساقي، وامرأة الخباز، وامرأة الحاجب، وامرأة صاحب الدواب، و امرأة صاحب السجن )، وأعدت حشايا وأرائك مريحة يجلسن فيها ويسترخين، وصنعت لهن طعاما فيه اللحوم والفاكهة، وغير ذلك مما يحتاج إلى سكين ؛ للتقطيع أو التقشير، ووزعت على كل امرأة سكينا لتقطيع الطعام.
﴿ وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ ﴾.
أمرت زليخا يوسف أن يخرج على النسوة وهو لا يدري بما دبرته و بيّتته، فلما شاهدنه ؛ بهرهن جماله، وحسنه الرائق الفائق، وعظمنه وتهيبن حسنه الرائع، وجرحن أيديهن بما معهن من السكاكين ؛ لفرط دهشتهن، وخروج الأمر عن إرادتهن، حتى لم يشعرن بما فعلن.
﴿ وَقُلْنَ حَاشَ لِلّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ ﴾.
أي : قالت النسوة ؛ تنزيها لله تعالى عن العجز عن خلق هذا الجمال المثالي :﴿ حاش لله ﴾. أي : تنزه الله عن صفات العجز، وتعالت عظمته في قدرته على خلق مثله. والمقصود : التعجب والتعبير عن الدهشة، والإعجاب بهذا الجمال الباهر، وبصنع الله القادر.
﴿ ما هذا بشرا ﴾. أي : ما هذا الذي نراه بشرا ؛ فما مثله في الناس أحدا.
﴿ إن هذا إلا ملك كريم ﴾. أي : ما هذا إلا ملك من الملائكة ؛ فإن هذا الجمال الباهر، والحسن الرائع، مما لا يكاد يوجد بين البشر، يردن وصفه بأقصى مراتب الحسن، والجمال والكمال.
وهكذا جرت العادة في تشبيه كل متناه في الحسن بالملك، كما جرت في تشبيه كل متناه في القبح بالشيطان.
لمتنني فيه : أي : هذا الذي غبتنّني فيه وعيرتنّني.
فاستعصم : فامتنع ؛ طلبا للعصمة، وبالغ في ذلك.
من الصاغرين : من الأذلاء.
التفسير :
٣٢ ﴿ قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ فَاسَتَعْصَمَ... ﴾
أحست زليخا أنها انتصرت على بنات جنسها ؛ فقد كن يلمنها، ويتصورن يوسف بصورة أدنى، فلما شاهدنه ؛ بهرهن جماله، وشهدن له بأن حسنه ليس لبشر، بل هو حسن الملاك. أي : أن حسنه خارج عن صفات البشر، والمراد : الإعجاب والدهشة والانبهار بما يملك يوسف من جمال بارع، فائق، خارج عن حد البشر.
وفي صحيح البخاري : أن النبي صلى الله عليه وسلم شاهد في السماء الثالثة يوسف. وقد أعطى شطر الحسن.
ثم وجهت امرأة العزيز الخطاب إلى جمع النسوة فقالت : إن هذا الفتى العبراني، هو الذي لمتنّني في الافتتان به، والوقوع في حبه، وقد فتنكن ؛ فقطعتن أيديكن، وأنا أعيش معه ليل نهار، وأشاهده صباح مساء، ولقد راودته عن نفسه، وطلبت منه الجماع فامتنع امتناعا كاملا.
وجاء في تفسير الكشاف للزمخشري :
أي : أردت أن أنال وطري منه، وأن أقضي شهوتي معه، فامتنع امتناعا شديدا، وأبى إباء عنيفا. والاستعصام بناء مبالغة يدل على الامتناع البليغ و التحفظ الشديد.
﴿ وَلَئِن لَّمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا مِّنَ الصَّاغِرِينَ ﴾.
وجهت زليخا تهديدا إلى يوسف أمام النسوة، وقد كان أمرها معه سرا لكنها صرحت برغبتها فيه، وأوعزت إلى النسوة بمعاونتها. ولعل لهذه النسوة من حركاتهن المثيرة ؛ وملابسهن الكاشفة عن مفاتنهن ؛ ما يثير الرغبة ويزلزل كيان المستعصم.
كان يوسف قد امتنع عن مضاجعة المرأة، فذاقت آلام الهجر، وسهر الليل، والحرمان والإحباط ؛ فهددته بأنه إذا أصر على إبائه، ولم يفعل ما آمره به من المضاجعة ؛ ليوضعن في السجن مع السرّاق والمجرمين والقتلة، وليذوقن الصغار والذل بينهم، فقد زهد في أميرة تلبس الحرير والديباج، متهيأة لتلبية طلبه، فليذق مثلها سهر الليالي مع المجرمين العتاة، وليجلس على الأماكن الخشنة، وليعاني آلاما مبرحة ؛ عقابا له على إهانتي، وعدم تلبية أمري !
وهكذا نشاهد تعنت المرأة وتبجحها ؛ فهي تجاهر بالمعصية، وتهدد المستعصم المستقيم، وتستعين بالنسوة على إغرائه، وتيسير أمره ؛ حتى يلبي دعوة الفاحشة.
ومن كل ما سبق نشاهد كمال يوسف، وزهده في هذه المرأة وفي أمثالها، بل واتجاهه إلى الله تعالى ؛ ليحفظه من هذا الإغراء المتتابع.
كيدهن : احتيالهن. الكيد : ضرب من الاحتيال. قد يكون محمودا ومذموما، وهو في المذموم أكثر.
أصب إليهن : أي : أمل إليهن، وأستجب إلي هواهن، يقال : صبا إليه، يصبوا صبوا، أي : مال إليه، والصبوة هي : الميل مع الهوى.
التفسير :
٣٣ ﴿ قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُن مِّنَ الْجَاهِلِينَ ﴾.
هنا لجأ يوسف إلى ربه ؛ عندما شاهد عودة زليخا إلى المراودة والتهديد والوعيد، وشاهد دعوة النسوة له إلى إجابة طلبها، وربما عرضن أنفسهن عليه مبهورات بجماله ؛ فخشي من هذا الإغراء المتتابع، ومد يديه إلى الله داعيا، مستجيرا، طالبا منه : الثبات والمعونة، مفضلا السجن وما فيه من خشونة العيش وشظف الحياة، على الوقوع في المعصية، واقتراف الزنا.
واستمر في دعاء مولاه : بأن يصرف عنه كيد النسوة، وتدبيرهن المحكم لإغوائه ؛ حتى لا يتأثر بهذا الإغواء ؛ فيستجيب لهن بمقتضى الطبيعة البشرية، أو بميل إلى الاستجابة لهن، وبذلك يكون ممن جهل حق العلم، وحق الله في الطاعة والانصراف عن الغواية.
وقد ذكر الإمام القرطبي في معاني الآية :
" قال يوسف : رب السجن أحب إلي مما يدعونني إليه من الزنا، أو أحب إلي من أن آتي ما تكره ".
﴿ وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُن مِّنَ الْجَاهِلِينَ ﴾.
يقول : وإن لم تدفع عني يا رب فعلهن الذي يفعلن بي في مراودتهن إياي على أنفسهن ؛ ﴿ أصب إليهن ﴾. يقول : أميل إليهن، وأتابعهن ما يردن مني ويهوين. من قول القائل : صبا فلان إلى كذا، ومنه قول الشاعر :
إلى هند صبا قلبي *** وهند مثلها يصبى١٧
لقد لجأ يوسف إلى ربه يطلب منه : القوة والمنعة، وأن يصرف عنه إغراء النسوة، وقد وعد الحق سبحانه بإجابة الدعاء، خصوصا دعاء المضطر الصادق مثل يوسف. قال تعالى :﴿ أمن يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء ﴾. ( النمل : ٦٢ )، فصرف الله عنه كيد النسوة ؛ بأن ألقي اليأس في قلوبهن ؛ ثم زاده الله عصمة وتثبيتا ؛ ﴿ إنه هو السميع ﴾ لدعاء الداعين، ﴿ العليم ﴾ بالخفايا وبالأسرار، وبما هو أخفى من الأسرار.
أي : ثم بدا للعزيز وزوجته وأهل مشورته أن يدخلوه السجن إلى حين، أي : إلى وقت معين ؛ تنقطع فيه الألسنة عن الكلام عنه، وعن افتتان زليخا به، مع أنهم قد شاهدوا العلامات الدالة على براءة يوسف، ومن هذه العلامات : قد القميص من دبر، وخمش وجد في وجهه، وتقطيع النسوة أيديهن.
لكن امرأة العزيز يئست من يوسف، واشتكت إلى زوجها : بأن يوسف يشيع بين الناس : أن زوجة العزيز راودته، ويجب أن يوضع في السجن.
وجاء في البحر المحيط : عن ابن عباس :
" فأمر به فحمل على حمار، وضرب بالطبل، ونودي عليه في أسواق مصر، أن يوسف العبراني أراد سيدته فجزاؤه أن يسجن ".
ودخل يوسف السجن بريئا، تشهد الآيات على براءته ؛ قال الشاعر :
قالوا : تروح إلى السجون فقلت : جيرى *** إن السجون مواطن الآساد
أوكل من دخل السجون بمجرم *** بل كان يوسف ذروة الأمجاد
وجاء في ظلال القرآن :
" وهنا لا بد أن تحفظ سمعة ( البيوتات ). وإذا عجز رجال البيوتات عن صيانة بيوتهن ونسائهن، فإنهم ليسوا بعاجزين عن سجن فتى بريء، كل جريمته أنه لم يستجب، وأن امرأة من ( الوسط الراقي ) قد فتنت به، وشهرت بحبه، ولاكت الألسن حديثها في الأوساط الشعبية ". ١٨
المفردات :
أعصر خمرا : أي : أعصر عنبا يئول إلى خمر وأسقي منه الملك.
نبئنا بتأويله : أخبرنا : بمآل ما رأيناه في المنام، أي : فسر لنا الرؤيا.
التفسير :
٣٦ ﴿ وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانَ قَالَ أَحَدُهُمَآ إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا وَقَالَ الآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ ﴾.
أي : دخل في الوقت الذي دخل فيه يوسف السجن ؛ فتيان خادمان للملك، كان أحدهما : خباز الملك، والثاني : ساقيه، واتّهما بدس السّم للملك في الطعام والشراب ؛ فأدخلا السجن.
وعرف عن يوسف الإحسان، وزيارة المريض، وعزاء المحزون، ومعاونة المحتاج، كما عرف عنه علمه بتفسير الأحلام وتعبير الرؤيا ؛ فكان يوسف صديق الجميع ؛ لحسن سيرته، وكريم خصاله.
ولما جاء إليه الغلامان طلبا منه تفسير رؤياهما، قال أحدهما وهو الساقي : لقد رأيت في منامي أني قطفت ثلاث عناقيد من العنب، ثم عصرتها في كأس الملك ؛ فصارت خمرا يشرب منها الملك، وقال خباز الملك : إني رأيت في منامي أني أحمل فوق رأسي خبزا ؛ وجاءت الطيور الجارحة والنسور، فكانت تأكل من هذا الخبز. أخبرنا يا يوسف، عن تفسير هذه الرؤيا ومدلولها ؛ إنا نراك من المحسنين الذين يجيدون تفسير الأحلام وتأويل الرؤيا، ومن المحسنين في سلوكهم ؛ وكريم خصالهم.
ملة : دين.
التفسير :
٣٧ ﴿ قَالَ لاَ يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلاَّ نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَن يَأْتِيكُمَا ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَهُم بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ ﴾.
انتهز يوسف الفرصة ليبين للسجينين فضل الله عليه، وإنعامه ؛ تمهيدا لدعوتهما إلى دين التوحيد، وترك ما عليه عامة المصريين في ذلك الوقت من عبادة آلهة متعددة.
﴿ قَالَ لاَ يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلاَّ نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَن يَأْتِيكُمَا ﴾. كان يخبرهما بنوع الطعام وأوصافه قبل حضوره إليهما، فيقول لهما : اليوم يأتيكما طعام من صفته كذا وكذا، فيجدانه كذلك بعد حضوره. وأطلق التأويل على ذلك ؛ تشبيها له بتأويل الرؤيا، فإنهما يشتركان في الإخبار بالغيب.
﴿ ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَهُم بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ ﴾.
أي : ذلك الإخبار بالغيب، ليس عن طريق الكهانة أو التنجيم، بل هو بسبب إلهام ووحي من الله ؛ فهو من تعليم الله للأنبياء ما لا يعلمون.
إن يوسف يؤمن بالله إيمانا صادقا ؛ عن يقين جازم بأنه واحد واحد، فرد صمد لا شريك له ولا مثيل، وقد ابتعد عن دين المصريين الذين لا يؤمنون بالله إيمانا كاملا على الوجه الذي يليق به ؛ بل يشركون غيره.
﴿ وَهُم بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ ﴾. فلا يؤمنون والجزاء والحساب والثواب والعقاب.
أي : اتبعت دين الأنبياء والرسل الذين اصطفاهم الله، وأرسلهم لتعليم عباده، وهم آبائي إبراهيم، وابنه إسحاق، وحفيده يعقوب.
﴿ مَا كَانَ لَنَا أَن نُّشْرِكَ بِاللّهِ مِن شَيْءٍ ﴾.
أي : ما صح ولا استقام لنا معاشر الأنبياء أن نشرك مع الله شيئا، أي شيء سواء أكان صنما أم وثنا أم نجما ؛ فكلها مخلوقات لله، وآيات شاهدات بوجود الله ؛ فكيف نعبدها مع الله ؟ !
﴿ ذَلِكَ مِن فَضْلِ اللّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ ﴾.
أي : هذه الهداية إلى الإيمان والتوحيد، وهذا المنهج السليم في العقيدة ؛ من فضل الله الذي يختص برحمته من يشاء ؛ فاصطفانا بالرسالة والنبوة ؛ وهذا من فضل الله على الناس ؛ حيث أرسل لهم الرسل، وأنزل عليهم الكتب ؛ لإرشادهم إلى الطريق القويم.
﴿ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ ﴾.
أي : أكثر الناس لا يشكرون فضل الله عليهم ؛ فيؤمنون بالله الواحد الأحد الفرد الصمد ؛ بل يكفرون بالله، أو يجعلون مع الله آلهة أخرى لا تنفع ولا تضر ولا تسمع ولا تجيب ؛ وليس لها من صفة الألوهية إلا الاسم دون الفعل.
المفردات :
يا صاحبي السجن : المراد بهما : الفتيان اللذان دخلا معه السجن، وطلبا من يوسف تأويل الرؤيا، أي : يا صحابي في السجن.
أأرباب متفرقون : متعددون لا ارتباط ولا اتفاق بينهم.
القهار : الغالب الذي لا يدانى في قهره، ولا يستعصى عليه جبار، ولا يفوته مطلوب.
التفسير :
٣٩ ﴿ يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُّتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ ﴾.
يا رفيقي في السجن وصاحبي ؛ فقد اتخذ منهما صاحبين له في السجن ؛ حيث الوحدة والشدة والغربة تؤلف بين قلوب بعض المساجين ؛ فيناديهما ويعرض عليهما قضية تستحق التأمل وهي : أعبادة آلهة متعددة أفضل، أم عبادة إله واحد له منهج واحد، وسنة واحدة، وبيده وحده الخلق والأمر، وعليه الاعتماد ؟ !
في هذا المعنى قال تعالى :﴿ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَّجُلًا فِيهِ شُرَكَاء مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِّرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ﴾. ( الزمر : ٢٩ ).
فهذا العبد الذي يملكه أشخاص كثيرون متشاكسون ؛ إذا أرضى أحدهم أغضب الآخر فلا يدري أيهم يطيع وعلى أيهم يعتمد. وهناك عبد أخلص عبوديته لرجل واحد، يعتمد عليه ويطيعه، وكذلك الآية التي معنا.
﴿ ءَأَرْبَابٌ مُّتَفَرِّقُونَ ﴾. متصارعون لكل منهم منهج وطريق، فهذا للخير وهذا للشر، وهذا للنور وهذا للظلام. أعبادة آلهة متعددة أفضل، أم عبادة إله واحد له الخلق والأمر وهو على كل شيء قدير أفضل ؟ !.
وهذا الاستفهام مراد به : لازمه، وهو لفت الأنظار إلى ما كان يجري بين عدد كبير من المصريين ؛ من عبادة آلهة متعددة، وبيان : أن عبادة إله واحد أفضل.
أسماء سميتموها : أسماء اتخذتموها دون أن يكون لها مسميات على الحقيقة.
سلطان : حجة.
القيم : أي القويم.
التفسير
٤٠ ﴿ مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَآؤُكُم... ﴾
أي : ما تعبدون يا معشر القوم من دون الله إلا أسماء فارغة من المسمى، سميتموها : آلهة، وهي لا تملك القدرة ولا السلطان ؛ لأنها جمادات.
﴿ مَّا أَنزَلَ اللّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ ﴾. أي : ما أنزل الله بألوهيتها من حجة أو برهان أو دليل يصحح لكم عبادتها ؛ فعبادتكم لها باطل لا دليل عليه ولا سند يؤيده من نقل أو عقل.
﴿ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ ﴾. أي : ما الحكم في أمر العبادة والدين إلا لله، الواحد الأحد، الفرد الصمد.
﴿ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ ﴾. أي : أمر الله تعالى ألا يعبد الناس إلا الله الواحد ؛ فهو وحده الذي يفرد بالعبادة، ونقول له :﴿ إياك نعبد وإياك نستعين ﴾. أي : لا نعبد إلا أنت، ولا نستعين إلا بك ؛ فلا معبود بحق إلا الله وحده لا شريك له.
﴿ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ ﴾. هذا الذي أدعوكم إليه وهو الدين المستقيم الذي لا اعوجاج فيه، وهو دين الفطرة السليمة، ودين التوحيد، وهو في نفس الوقت الدين الذي له قيمة عالمية كبرى ؛ دين الإله الواحد، والنبي الواحد، والقبلة الواحدة، والأمة الواحدة التي تتجه بقلوبها إلى الله وحده، قال تعالى :﴿ إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون ﴾. ( الأنبياء : ٩٢ ).
﴿ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ ﴾. أي : يجهلون عظمة الله فيعبدون مالا يضر ولا ينفع.
وهنا نجد حكمة يوسف ؛ فقد أدرك تشوق صاحبي السجن إلى تفسير رؤياهما، فقدم لهما جرعة مناسبة من الدعوة إلى الإيمان ؛ حيث بين لهم في أسلوب حكيم، رجحان التوحيد على اتخاذ الآلهة المتعددة، ثم برهن على أن ما يسمونها آلهة ويعبدونها من دون الله ؛ لا تستحق الألوهية والعبادة، ثم نص على ما هو الحق القويم والدين المستقيم، وهو عبادة الواحد الأحد الفرد الصمد.
وبعد هذه الدعوة المستنيرة إلى الإيمان والتوحيد وترك الشركاء، انتقل يوسف إلى تفسير الرؤيا لصاحبيه.
المفردات :
فيسقى ربه : أي : فيسقي سيده.
تستفتيان : تطلبان الفتيا.
التفسير :
٤١ ﴿ يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا وَأَمَّا الآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِن رَّأْسِهِ قُضِيَ الأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ ﴾.
أي : يا صاحبي في السجن، أما الذي رأى أنه يعصر خمرا أو يعصر ثلاثة عناقيد من العنب تصير خمرا ؛ فإنه يمكث في السجن ثلاثة أيام، ثم يخرج من السجن ؛ فيعود إلى عمله ويصبح ساقي الملك.
وأما الذي رأى أنه يصلب فتأكل الطير من رأسه ؛ فإنه سيخرج من السجن بعد ثلاثة أيام، ثم يقتل ويعلق على خشبة ؛ فتأكل الطير من لحم رأسه.
قال المفسرون :
روى أنه لما أخبرهما بذلك ؛ جحدا، وقالا : ما رأينا شيئا ؛ فقال يوسف :﴿ قُضِيَ الأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ ﴾. أي : عبرت لكما الرؤيا، وأنا واثق من صدق تعبيرها ؛ ولا مجال في ذلك لحدث أو تخمين، وتم قضاء الله فهو لا محالة، وما أخبرت به موافق لما علمني ربي وأرشدني إليه.
عند ربك : عند سيدك.
بضع سنين : البضع : العدد من الثلاث إلى التسع، واشتهر أن يوسف مكث في السجن سبع سنين.
التفسير :
٤٢ ﴿ وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِّنْهُمَا اذْكُرْنِي عِندَ رَبِّكَ فَأَنسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ ﴾.
أقام يوسف في السجن مظلوما، فاقدا للحرية ؛ فأراد أن يذكر ساقي الملك، بأن يذكر قصته للملك، ويخبره : أن في السجن رجلا مظلوما يفسر الرؤيا، ويسير بين المسجونين بمكارم الأخلاق، لكن ساقي الملك شغله المنصب، وحياة القصور وأمورها، فنسى وصية يوسف له، ونسي يوسف في السجن ؛ فمكث فيه سبع سنوات.
قال القرطبي : قال وهب بن منبه : أقام أيوب في البلاء سبع سنين، وأقام يوسف في السجن سبع سنين.
تعليق
ذهب بعض المفسرين إلى أن يوسف مكث في السجن بضع سنين عقوبة له ؛ لأنه التفت إلى العباد، وطلب من الساقي أن يذكر قصته للملك، وكان ينبغي أن يذكر يوسف قصته لله ويشتكي إليه، واعتمدوا على أحاديث واهنة لا يصح الأخذ بها.
وعند التأمل نجد أن يوسف الصديق، كان دائم الذكر لله تعالى ؛ فهو الذي رفض الفاحشة، وذكر زليخا بالله تعالى وبحرمة الزوج، وهو الذي رفض إغراء النسوة وقال :﴿ رب السجن أحب إلي مما يدعونني إليه ﴾. وهو الذي استمر في السجن يدعو الناس إلى توحيد الله تعالى.
ويوسف حين يذكر الساقي بأن يعرض أمره على الملك، هو آخذ في الأسباب، وقد أمر الله تعالى بذلك حين قال سبحانه :﴿ فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه ﴾. ( الملك : ١٥ ).
وزعم بعض المفسرين : أن الذي نسي ذكر ربه هو : يوسف في قوله تعالى :﴿ فَأَنسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ ﴾. أي : أن الشيطان أنسى يوسف ذكر الله، والاعتماد عليه في الخروج من السجن ؛ فمكث فيه بضع سنين. وعند التأمل نجد أن السياق لا يساعد على هذا الرأي ؛ بدليل قوله تعالى :﴿ وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا واذكر بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَاْ أُنَبِّئُكُم بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ ﴾. أي : وقال الذي نجا منهما، وتذكر يوسف بعد مدة طويلة... الخ.
وقد جاء في تفسير القرطبي، وفي صفوة التفاسير :
أن جبريل جاء إلى يوسف فأخبره : أن الله تعالى هو الذي نجاه من الجب، ونجاه من زليخا، ونجاه من كيد النسوة، فكيف لجأ إلى مخلوق ليخرج من السجن ؟ ! وعقوبته أن يمكث في السجن بضع سنين.
و مثل هذه المرويات الواهية ينبغي أن نعيد النظر فيها، في ضوء حقائق القرآن الكريم، والسنة المطهرة ؛ في الحث على الأخذ بالأسباب ؛ مع اليقين الجازم بأن مسبب الأسباب، هو الله تعالى.
لقد جاهد النبي محمد صلى الله عليه وسلم، وهاجر من مكة إلى المدينة، وبذل جهدا كبيرا في بناء الدولة الإسلامية، ومراسلة الملوك، ودعوتهم إلى الإسلام، ونهى عن التفرغ للعبادة، وترك الجهاد، وبين : أن التوكل على الله لا يمنع الأخذ بالأسباب.
قال أعرابي للرسول صلى الله عليه وسلم : ناقتي بالباب هل أعلقها ؟ أم أتركها وأتوكل على الله ؟، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : " أعلقها وتوكل على الله ". ١٩
المفردات :
عجاف : جمع أعجف، وهو المهزول، والأنثى : عجفاء.
الملأ : الأشراف الذين يملئون العين مهابة.
تعبرون : تفسرون.
التفسير :
٤٣ ﴿ وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنبُلاَتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ... ﴾
أراد الله إرسال الفرج إلى يوسف عليه السلام ؛ فرأى الملك في منامه رؤيا عجيبة ؛ جمع كبار الكهنة والعلماء والمختصين، وقص عليهم رؤياه ؛ فقال مستحضرا منامه : إني أرى سبع بقرات سمان خرجت من نهر يابس، وفي إثرهن سبع بقرات هزيلة في غاية الهزال، فابتلعت العجاف السمان ورأيت سبع سنبلات خضر قد انعقد حبها، وسبع سنبلات أخر قد يبست وجف حبها ونضج. وبعد أن قص الرؤيا على حكمائه ومستشاريه الكهنة قال :
﴿ يَا أَيُّهَا الْمَلأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِن كُنتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ ﴾. أي : يا أيها الأشراف من رجالي وأصحابي أخبروني : عن تفسير هذه الرؤيا، إن كنتم تجيدون تعبيرها وتعرفون مغزاها.
أضغاث : جمع ضغث وهو الحزمة من الحشيش أو البقل اختلط فيها الرطب باليابس.
أحلام : جمع حلم وهو ما يراه النائم، ومعناه : اختلط فيها الحق بالباطل.
التفسير :
٤٤ ﴿ قَالُواْ أَضْغَاثُ أَحْلاَمٍ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الأَحْلاَمِ بِعَالِمِينَ ﴾.
عجز العلماء والكهنة عن تفسير هذه الرؤيا، أو عرفوا تأويلها، وأحسوا أنها تشير إلى سوء، لم يريدوا أن يوجهوا به الملك، على طريقة رجال الحاشية في إظهار كل ما يسر الملوك، وإخفاء ما يزعجهم، وصرف الحديث عنه، فقالوا : إنها أخلاط أحلام مضطربة، وليست رؤيا كاملة تحتمل التأويل.
﴿ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الأَحْلاَمِ بِعَالِمِينَ ﴾. أي : لسنا نعرف تأويل مثل هذه الأحلام المضطربة المختلطة، فهي لا تشير إلى شيء، وربما كان المعنى : أن علمنا قاصر عن تفسير الأحلام : فلسنا معمقين في تأويلها، مع أن لها تأويلا.
وقد ورد في صحيح البخاري : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " الرؤيا من الله والحلم من الشيطان، فإذا رأى أحدكم في منامه خيرا ؛ فليحمد، وإن رأى غير ذلك ؛ فليتفل عن يساره ثلاث مرات، وليصل ركعتين ولا يخبر بها أحدا ؛ فإنها لا تضره ". ٢٠
والمعنى : إن المؤمن الصادق يرى رؤيا صادقة واضحة، أما الحلم فهو من الشيطان ؛ ليثير التكدير والحزن على الإنسان ؛ رؤيا صادقة واضحة ؛ فهي بشارة من الله، يستبشر بها المؤمن ويعمل بما يناسبها ؛ وإذا رأى حلما فيه أمور مختلطة، أو مضطربة لا يستوضح مدلولها ؛ فإنه يتفل عن يساره ثلاث مرات، ويستعيد بالله من الشيطان الرجيم، ويتوضأ ويصلي ركعتين لله، بنية أن يصرف عنه السوء، ثم يقول : " اللهم، لا يأتي بالخير إلا أنت، ولا يذهب السوء إلا أنت، اللهم، اكفني السوء بما شئت وكيف شئت إنك على ما تشاء قدير "، ٢١ ولا يخبر أحدا بهذا الحلم ؛ فإن الحلم كالطير إذا قص وقع، ونلاحظ : أنه مر بنا عدد من المنامات والأحلام والرؤى منها : رؤيا يوسف أحد عشر كوكبا، ورؤيا الخباز والساقي، ثم رؤيا الملك ؛ فلعل تفسير الأحلام والاهتمام بها يعطينا صورة من جو العصر كله في مصر، وخارج مصر، وأن الهبة اللّدنية التي وهبها يوسف كانت من روح العصر وجوه، على ما نعهد في معجزات الأنبياء. ٢٢
الذي نجا : هو ساقي الملك.
وادّكر بعد أمة : وتذكر بعد جماعة كثيرة من الزمن، وكل جماعة كثيرة ؛ فهي أمة.
التفسير :
٤٥ ﴿ وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا واذكر بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَاْ أُنَبِّئُكُم بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ ﴾.
أي : وبعد أن عرض الملك رؤياه على الملإ من رهبانه وحكمائه، وعجزوا عن تأويلها ؛ تذكر الساقي الذي نجا من السجن، ومكث مدة من الزمان ناسيا، ثم ذكّرته الأحداث بفضل يوسف في تأويل الأحلام، وكان السجن بعيدا عن المدينة ؛ فطلب منهم إرساله إلى يوسف في السجن ؛ حتى يفسر لهم رؤيا الملك.
الصدّيق : الكثير الصدق.
التفسير :
٤٦ ﴿ يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنبُلاَتٍ خُضْر وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ... ﴾
أي : فأرسلوه ؛ فانطلق إلى يوسف، وذكر أمامه رؤيا الملك، وسماه : صديقا، أي : كثير الصدق ؛ لأنه شاهد ذلك عمليّا ؛ حين رآه يفسر الأحلام في السجن، وطلب منه التقوى له ولمن خلفه من إدارة الدولة، ولذلك قال :﴿ أفتنا ﴾. في تأويل هذه الرؤيا العجيبة : سبع بقرات سمان، يأكلهن سبع عجاف، وأفتنا في سبع سنبلات خضر، وأخر يابسات وبين لنا : مآلها ومدلولها.
﴿ لَّعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ ﴾. أي : لكي أرجع إلى من بيدهم الأمر ؛ ليعلموا تأويلها، ويعملوا بمقتضاه، وليعلموا فضلك وعلمك ويخلصوك من محنتك.
دأبا : مصدر دأب في العمل. أي : جد فيه.
التفسير :
٤٧ ﴿ قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا َصَدتُّمْ فَذَرُوهُ فِي سُنبُلِهِ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّا تَأْكُلُونَ ﴾.
أي : قال يوسف لساقي الملك : إن هذه الرؤيا ترمز إلى ما يأتي : ستأتي سبع سنين مخصبة يجود فيها النيل بالماء، وتخصب الأرض بالزراعة، وعليكم أن تدّخروا القمح وتتركوه في سنابله ؛ حتى يسلم من السوس والمؤثرات الجوية، لكن لا بأس أن تجردوا قليلا من القمح من سنابله بمقدار ما تأكلونه فقط، أما الزيادة فاحتفظوا بها في سنابلها ؛ حتى تنقذكم في السنوات السبع العجاف، المرموز لها بالبقرات العجاف التي تأكل البقرات السمان.
ويبدو أن تخزين القمح في سنابله لمدة طويلة تصل إلى سبع سنين لم يكن معروفا لدى قدماء المصريين ؛ فقد كانوا يزرعون لكل عام، ولا يحرمون من فيضان النيل سبع سنين متتابعة ؛ فلذلك أرشدهم يوسف، إلى هذه الطريقة المثلى في التخزين لمدة طويلة، ولعل ذلك من فضل الله عليه وإلهامه بهذه الأمور الحكيمة التي أنقذت مصر من المجاعة، وكانت سببا في إنقاذ ما حولها من البلاد وحسبنا قول يوسف لصاحبي السجن :﴿ ذلكما مما علمني ربي ﴾.
من تفسير القرطبي :
قال القرطبي : وهذه الآية أصل في القول بالمصالح الشرعية التي هي : حفظ الأديان، والنفوس، والعقول، والأنساب، والأموال ؛ فكل ما تضمن تحصيل شيء من هذه الأمور ؛ فهو مصلحة، وكل ما يفوت شيئا منها ؛ فهو مفسدة، ودفعه مصلحة، ولا خلاف في أن مقصود الشرائع إرشاد الناس إلى مصالحهم الدنيوية ؛ ليحصل لهم التمكن من معرفة الله وعبادته الموصلتين إلى السعادة الأخروية.
سبع شداد : أي : سنين من القحط، صعاب على الناس.
مما تحصنون : مما تدخرون من البذور.
التفسير :
٤٨ ﴿ ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّا تُحْصِنُونَ ﴾.
ثم تأتي بعد السبع سنوات الحصبة، سبع سنوات شديدة من القحط وجفاف ماء النيل، وبحكمة التخزين للقمح في سنابله، والذرة في كيزانه ؛ تعبرون سنوات الجفاف ؛ لأنكم تأكلون من المخزون عندكم. وكأن هذه الأيام هي التي تأكل المخزون الذي يقدم لها، كما تقول : نهاره صائم، وليلة قائم، فأسند الأكل إلى الأيام ؛ لشدة نهمها وجوعها.
يغاث الناس : يمطرون من الغيث وهو المطر.
التفسير :
٤٩ ﴿ ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ ﴾.
أي : ثم يأتي بعد سني القحط والجدب العصيبة عام رخاء فيه يمطر الناس بالغيث الذي كانوا محرومين من غزارته وتتابعه سبع سنين. وفيه يعصر الناس ما يقبل العصر من الثمار والحب وغيرهما كالعنب والزيتون والسمسم والقصب. وقيل : معنى يعصرون : يحلبون الضروع من الماشية.
المفردات :
ما بال النسوة : ما حالهن ؟
التفسير :
٥٠ ﴿ وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جَاءهُ الرَّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللاَّتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ... ﴾ الآية.
يفيد السياق : أن ساقي الملك ذهب إليه، وأخبره بتفسير الرؤيا، ولعله أخبره بما شاهد عن يوسف وأنه كريم حليم، كامل الأوصاف، كريم الأخلاق، قد حبس ظلما ؛ فأمر الملك أن يؤتي بيوسف لمقابلة الملك، وليسمع منه تفسير الرؤيا مشافهة، بعد أن نجح يوسف بما عجزت عن الكهنة وكبار العلماء.
ولما وصل رسول الملك إلى يوسف، يخبره برغبة الملك في مقابلته، رفض يوسف أن يخرج من السجن ؛ حتى يعاد التحقيق في قضيته ؛ لتثبت براءته، وطلب من الملك سؤال النسوة اللائي جرحن أيديهن، فجمعهن الملك في مجلس تحقيق، في قضية مضى عليها بضع سنين.
﴿ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ ﴾. إن ربي عليم بخفيات الأمور، وبما دبّرن من كيد لبعضهن، ومن كيد لي، وهذا التدبير في خفاء يعلمه الله، وهو بكل شيء عليم.
ما خطبكم : ما شأنكن ؟ والخطب : الأمر الذي يستحق أن يخاطب المرء فيه صاحبه ؛ ومن هنا سميت الشدائد بالخطوب.
قلن حاش لله : تنزيها لله، وتعجبا من نزاهة يوسف.
حصحص الحق : وضح بعد خفاء، وأصله : بمعنى : تبينت حصة الحق، من حصة الباطل.
التفسير :
٥١ ﴿ قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدتُّنَّ يُوسُفَ عَن نَّفْسِهِ... ﴾
جمع الملك النسوة، ودعا امرأة العزيز معهن ؛ فسألهن عن أمر يوسف، وقال لهن : ما شأنكن الخطير ؛ حين دعوتن يوسف إلى مقارفة الفاحشة ؟ !، وفي هذا يوجه الاتهام إلى النسوة، بعد أن استقصى عن الموضوع كما هي العادة.
قال صاحب الظلال :
" ومن هذا نعلم شيئا مما دار في حفل الاستقبال في بيت العزيز، وما قالته النسوة ليوسف، وما أشرن إليه من الإغراء الذي يبلغ درجة المراودة، ومن هذا نتخيل صورة لهذه الأوساط ونسائها حتى في ذلك العهد الموغل في التاريخ... " ا ه.
﴿ قُلْنَ حَاشَ لِلّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِن سُوءٍ ﴾. أي : تنزيها لله ؛ يردن بذلك : تبرئة يوسف، والاعتراف بنظافته وعفته.
﴿ ما عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِن سُوء ﴾. أي : من ذنب ؛ أو من أمر سيء ينسب إليه فضلا عن الفحشاء.
﴿ قَالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ ﴾. منزهة لجانبه، مقرّة على نفسها بالمراودة له.
﴿ الآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ ﴾. أي : بانت حصة الحق من حصة الباطل، وظهر الحق بعد خفائه.
﴿ أَنَاْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ ﴾. ولم تقع منه المراودة لي أصلا.
﴿ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ ﴾. فيما قاله من تبرئة نفسه ونسبة المراودة إليها.
وذهب بعض المفسرين : إلى أن الكلام الآتي كلام يوسف، وذهب آخرون إلى أنه كلام امرأة العزيز.
لا يهدي كيد الخائنين : أي : لا ينفذه ولا يواصله إلى غايته.
التفسير :
٥٢ ﴿ ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ ﴾.
أي : قالت امرأة العزيز تعقيبا على شهادتها ؛ ببراءة يوسف من مراودتها : إني فعلت ذلك، وبرّأت ساحة يوسف، مع أنه غائب عن مجلسنا ؛ ليعلم يوسف أني لم أخنه في غيابه ولم أفتر عليه، وليعلم أن الله لا يهدي كيد الخائنين.
ولعل هذه السنون، قد طحنت هذه المرأة ؛ ولعل ضميرها عذّبها حين قذفت ببريء إلى السجن، طوال هذه المدة، ولعلها تابت ورجعت إلى طريق النور والهدى، وطرقت باب الله معلنة رغبتها في التوبة إلى :﴿ غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب ﴾.
ويذهب بعض المفسرين : إلى أن هذه الآية من كلام يوسف ؛ حين ذهب مندوب الملك بنتيجة التحقيق، وبراءة يوسف على لسان النسوة، وعلى لسان امرأة العزيز ؛ فقال يوسف :﴿ َذلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ ﴾. أي : هذا الذي فعلته، من رد رسول الملك ؛ حتى يحقق الملك في قضيتي، وتظهر براءتي ؛ ليعلم العزيز : أني لم أخنه في زوجته في غيبته ؛ بل تعففت عنها.
﴿ وَأَنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ ﴾. أي : لا يوفّق الخائن، ولا يسدد خطاه.
منزلة يوسف
بلغ يوسف منزلة من النزاهة وكرم النفس، وحسبك أنه لم يتعجل الخروج قبل أن تظهر براءته، براءة علنية على هذا النحو المشرّف ؛ وذلك أنه خشي أن يخرج من السجن، وينال منزلة عالية، فيقول الناس : هذا هو الذي راود امرأة مولاه، وقد صفح عنه الملك، وينظر إليه الناس باستمرار نظرة فيها ريبة وشك.
من الصحاح
ورد في كتب الحديث الصحيحة : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إن الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم : يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم، ولو لبثت في السجن ما لبث يوسف، ثم جاءني الرسول ؛ لأجبت الداعي، ثم قرأ :﴿ بِهِ فَلَمَّا جَاءهُ الرَّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللاَّتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ... ) ﴾. ٢٣
قال ابن عطية في التفسير : مدح النبي صلى الله عليه وسلم يوسف، بالصبر والأناة، ثم ذكر : أنه لو دعي إلى الخروج من السجن ؛ لبادر بالخروج، ثم حاولوا بيان عذره وبراءته بعد ذلك.
يريد الرسول صلى الله عليه وسلم : حمل الناس على الأحزم من الأمور ؛ حتى لا تضيع فرصة الخروج من السجن، وتنصرف نفس مخرجه عنه وإذا كان يوسف قد أمن ذلك بعلمه من الله ؛ فغيره من الناس لا يأمن ذلك ؛ فالحالة التي ذهب النبي صلى الله عليه وسلم بنفسه إليها حالة حزم، وما فعله يوسف عليه السلام صبر وجلد. ا ه.
وصل اللهم على سيدنا محمد النبي الأمي وعلى آله وصحبه وسلم.
وكان الفراغ منه عشية يوم الخميس ٥ صفر ١٤١٥ه / الموافق ١٤/٧/١٩٩٤ م بمدينة المقطم الهضبة العليا، مسجد حراء، قرب ميدان النافورة، والحمد لله حمدا كثيرا طيبا طاهرا مباركا فيه كما يرضى ربنا ويحب، وآخر دعوانا : أن الحمد لله رب العالمين.
التفسير :
٥٣ ﴿ وما أبرئ نفسي إن النفس لأمارة بالسوء إلا ما رحم ربي إن ربي غفور رحيم ﴾.
هذه الآية يحتمل أنها من كلام امرأة العزيز بعد أن اعترفت بأنها راودت يوسف عن نفسه ؛ واعترفت بأنه من الصادقين.
﴿ قالت امرأت العزيز الآن حصحص الحق أنا راودته عن نفسه وإنه لمن الصادقين * ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب وأن الله لا يهدي كيد الخائنين ﴾. ( يوسف : ٥٢، ٥١ ).
ثم قالت امرأة العزيز :﴿ وما أبرئ نفسي إن النفس لأمارة بالسوء إلا ما رحم ربي إن ربي غفور رحيم ﴾.
أي : أنني لست ملاكا، بل أنا بشر فيه الضعف، وفيه وسوسة النفس والهوى، والنفس أمارة بالسوء، داعية إلى الهدى، إلا من عصمه الله بالتقوى والإيمان، مثل : يوسف، وإني أتوب إلى الله وأرغب في فضله ورحمته ومغفرته ؛ إن ربي غفور رحيم ؛ لمن تاب وأناب، وهذه الآية يحتمل أن تكون من كلام يوسف الصديق، والمعنى : لا أزكي نفسي ولا أنزهها، فإن النفس البشرية ميّالة إلى الشهوات، إلا من رحمه الله بالعصمة، إن ربي واسع المغفرة، عظيم الرحمة ؛ قال ذلك يوسف ؛ تواضعا، وهضما لنفسه.
المفردات :
أستخلصه لنفسي : أجعله خالصا لي، أي : خاصا بي.
مكين أمين : ذو مكانة رفيعة مؤتمن على كل شيء.
التفسير :
٥٤ ﴿ وقال الملك ائتوني به أستخلصه لنفسي... ﴾.
أي : ولما ثبتت براءة يوسف، مما نسبته إليه امرأة العزيز ؛ ارتفع قدره عند الملك، وطلب أن يخرج من السجن، وأن يقرب إلى الملك، وجعله مستشارا، وأمينا، ومساعدا له في تدبير أمور مملكته، وكان صاحب مكانة خاصة عنده.
وإذا نظرت إلى طلب الملك حضور يوسف ؛ فإنك تراه أولا قال : ائتوني به. ولم يزد على ذلك.
فلما ظهر إباؤه، ووضحت أمانته وعفته في قصة امرأة العزيز، وظهر تجلده وصبره على السجن، إلى أن تثبت براءته ؛ ازداد تعلق الملك به، وعظمت منزلته عند الملك ؛ فطلبه ؛ ليكون من خلصاء الملك، بحيث لا يكون لأحد سلطان عليه سواه، وذلك بقوله :﴿ ائتوني به أستخلصه لنفسي ﴾.
وهكذا يرفع الله أهل العلم والأمانة والعفة درجات عالية.
﴿ فلما كلمه قال إنك اليوم لدينا مكين أمين ﴾.
فلما حضر يوسف مقابلة الملك، وتبين للملك من الكلام معه رجحان عقله، واتساع مواهبه، ومعرفته بتأويل الأحلام ؛ والاستعداد للأحداث وفي تفسير النسفى : أنه أعاد عليه تفسير الرؤيا، وما ينبغي الاحتياط به ؛ للتغلب على جفاف النيل، ولبيع الزرع والثمار للبلاد المجاورة، وكيف تعبر بلاد مصر المحنة، وفي رصيدها فائض من الزراعات، وأثمان المبيعات، وما يعرف بالتجارة الخارجية.
حفيظ عليم : قوي الحفظ، كثير العلم.
التفسير :
٥٥ ﴿ قال اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم ﴾.
أي : مكني من إدارة خيرات مصر : زراعة، وحصادا، وإيرادا، وصرفا، وبيعا، وخزنا، وتدبيرا، فإني ﴿ حفيظ ﴾. لأرض مصر وخراجها من التبذير والتقتير، والإفراط والتفريط، ﴿ عليم ﴾. ذو علم بوجوه التصرف فيها والحفظ لها وفي الآية دليل على جواز طلب الولاية إذا كان طالبها على أهلية متميزة، ومقدرة بإقامة العدل وإحقاق الحق.
وأما ما ورد في الصحيح من النهي عن طلب الولاية ؛ فمحمول على ما إذا كان طالبها لا يقدر على القيام بتبعاتها، والنجاة من مآتمها.
روى مسلم : عن عبد الرحمن بن سمرة قال : قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم :( يا عبد الرحمن، لا تسأل الإمارة، فإنك إن أعطيتها عن مسألة ؛ وكلت إليها، وإن أعطيتها عن غير مسألة ؛ أعنت عليها )٢٤.
فإذا علم الإنسان أنه أقدر على تصريف أمور الإمارة ؛ فالأولى أن يطلبها، وإذا علم أن هناك من يقوم بها، ويصل لها سواه ؛ فالأولى ألا يطلبها ؛ لقوله صلى الله عليه وسلم لعبد الرحمن بن سمرة :( لا تسأل الإمارة... الحديث ).
المفردات :
مكنا ليوسف في الأرض : جعلنا له في أرض مصر مكانة رفيعة أقدرناه بها على ما يريد.
يتبوأ منها حيث يشاء : ينزل من بلادها ومن أمورها وقلوب أهلها، حيث يشاء.
نصيب برحمتنا : نجود بنعمتنا.
التفسير :
٥٦ ﴿ وكذلك مكنا ليوسف في الأرض يتبوأ منها حيث يشاء... ﴾.
وهكذا مكنا ليوسف في أرض مصر، وجعلنا له العز والسلطان بعد المحنة والاتهام والسجن، وأصبح طليق اليد في أرض مصر، وشملها سلطانه، فكأنها منزله ؛ يتصرف فيها كما يتصرف الرجل في منزله ومكانه، وكان ذلك بعدل وحكمة.
روى : أن الملك لما فوض أمر مصر إلى يوسف، تلطف يوسف بالناس، وكان يدعوهم إلى الإسلام، ويقيم فيهم العدل ؛ فأحبه الناس، وكانت له بذلك منزلة رفيعة بينهم.
﴿ نصيب برحمتنا من نشاء ولا نضيع أجر المحسنين ﴾. نخص بإنعامنا وفضلنا من نشاء من عبادنا، ولا نضيع أجر المحسنين. الذين يحسنون الإيمان بالله والتوكل عليه، والالتجاء إليه، ويحسنون السلوك والعمل والتصرف مع الناس.
وثواب الآخرة وما فيها من الجنة ونعيمها، ورضوان الله ورحمته، خير وأفضل كثيرا من ثواب الدنيا، للذين آمنوا واطمأنوا في إيمانهم إلى ربهم ؛ فاتقوا الله وأخلصوا له العمل، وهكذا عوض الله يوسف على صبره وإيمانه ؛ الجزاء الحسن في الدنيا والآخرة.
كان القحط الذي حل بمصر في السنين العجاف ؛ قد أصاب المنطقة كلها، وامتد إلى أرض كنعان بالشام، وتسامع الناس بأخبار يوسف، وعرفوا أنه خزّن الحبوب، والقمح في سنابله، وأنه يوزعها بعدل ورحمة، فلا يعطى الطعام لمن يدفع الثمن الأكثر، بل يعطى لكل فرد قدرا معينا على مقدار حاجته، وحاجة من يشترى لهم، لعله مقدار حمل بعير.
وكان يوسف يشرف على التوزيع بنفسه ؛ ضمانا للعدالة والدّقة، وجاء أخوة يوسف ؛ امتثالا لأمر أبيهم، فدخلوا عليه فعرفهم، فهم لم يتغيروا كثيرا. أما هو فقد تغير ؛ فقد ألقوه في الجب صغيرا، لكنه الآن ملكا متوجا، في حاشية وخدم، وقد تزيا بزي أهل مصر، وعليه مظاهر النعمة والسلطان.
المفردات :
جهزهم بجهازهم : أعد لهم حاجتهم من الطعام الذي حضروا لجلبه من مصر في السنين العجاف، والجهاز في اللغة : ما يحتاج إليه المسافر والعروس والميت. وتجهيزه : إحضاره. وقد أجمع القراء على فتح الجيم في الآية الكريمة، ويجوز فيها الكسر لغة وإن كان الفتح أشهر.
خير المنزلين : أي : خير المضيفين مأخوذ من النزل، وهو الطعام الذي يقدم للضيوف الذين ينزلون. أو خير من ينزلون الناس في منازلهم، مأخوذ من المنزل بجهازهم، وهو الدار.
التفسير :
٥٩ ﴿ ولما جهزهم بجهازهم قال ائتوني بأخ لكم من أبيكم... ﴾.
استدرج يوسف إخوته في الحديث عن أنفسهم، وعن أبيهم، وعن أخيهم بنيامين، كما أنه أكرم وفادتهم، وقام بالواجب نحوهم، ونحو دوابهم، وجهز لكل فرد منهم حمل بعير، وهو مقدار يعطى للفرد في المدة المحدودة، أشبه ببطاقات التموين، وبذلك تتم السيطرة على توزيع الغلال والحبوب طوال مدة المجاعة.
والمعنى :
ولما هيأ لهم الطعام والميرة وأعطى كل واحد منهم حمل بعير، وما يحتاجون إليه في سفرهم.
﴿ قال ائتوني بأخ لكم من أبيكم ﴾. أي : أحضروا معكم في المرة القادمة أخاكم بنيامين.
﴿ ألا ترون أني أوفي الكيل وأنا خير المنزلين ﴾.
أي : وقد رأيتم أني أوفي الكيل فسأوفيه نصيبه ؛ حين يجئ معكم، ورأيتم أني أكرم النزلاء ؛ فلا خوف عليه، بل سيلقى مني الإكرام المعهود.
أراد يوسف تهديدهم ؛ فتوعدهم بالحرمان من الكيل للطعام، ومن إعطاء كل واحد منهم حمل بعير، وتوعدهم بالحرمان من الضيافة ؛ ما لم يحضروا معهم أخاهم بنيامين في المرة القادمة !.
جاء في البحر المحيط :
والظاهر أن كل ما فعله يوسف عليه السلام، كان بوحي من الله ؛ وإلا فمقتضى البر أن يبادر إلى أبيه، ويستدعيه لكن الله أراد تكميل أجر يعقوب ومحنته، ولتفسير الرؤيا الأولى.
سنراود عنه أباه : سنطلبه من أبيه ؛ ليرسله معنا.
التفسير :
﴿ قالوا سنراود عنه أباه وإنا لفاعلون٦١ ﴾.
كانوا يعلمون أن حضور بنيامين ؛ شاق متعب لأبيهم، خصوصا بعد غياب يوسف عنه ؛ لذلك قالوا : سنحاول إقناع أبيه، بالسماح له بالحضور معنا، وسنجتهد في هذه المحاولة، ونفعل كل ما نستطيع لإحضار بنيامين.
المفردات :
فتيانه : غلمانه الكيالين، جمع فتى.
بضاعتهم : ما جاءوا به من المتاع ؛ ليشتروا به الطعام.
في رحالهم : في أوعيتهم. قال ابن الأنباري : يقال للوعاء : رحل، وللبيت : رحل.
انقلبوا إلى أهلهم : رجعوا إليهم.
التفسير :
٦٢ ﴿ وقال لفتيانه اجعلوا بضاعتهم في رحالهم لعلهم يعرفونها إذا انقلبوا إلى أهلهم لعلهم يرجعون ﴾.
أراد يوسف أن يسدي إلى أسرته مكرمة، وكانوا قد أحضروا معهم بضاعة من بلادهم ؛ لتكون عوضا عن القمح.
روى عن ابن عباس : أنها كانت نعالا وأدما أي : جلدا، وقيل : إنها كانت دراهم ودنانير ؛ فأمر يوسف غلمانه المختصين بالبيع وقبض الثمن قائلا : اجعلوا المال أو البضاعة التي اشتروا بها القمح والحبوب في أوعيتهم سرا، ولا تشعروهم أنني نزلت لهم عنها ؛ لعلهم يعرفون هذه المكرمة، ويقدرونها قدرها ؛ حين يرجعون إلى أهلهم ؛ ويفاجئون بها في متاعهم، لعلهم يعودون إلى بأخيهم الذي طلبته منهم.
عاد إخوة يوسف إلى أبيهم، وأخبروه بقصتهم، وقالوا : إن الملك ظننا جواسيس فأخبرناه بأسماء أسرتنا، وأن لنا أخا أصغر منا ؛ استبقاه أبوه معه، فطلب منا إحضاره في المرة القادمة، وجعل حضوره شرطا لبيع الطعام لنا.
وتلطفوا مع أبيهم وقالوا : يا أبانا، أرسل معنا أخانا بنيامين ؛ لنأخذ ما نستحقه من الحبوب التي تكال لنا، وسوف نحافظ عليه من أن يناله مكروه.
أثارت وعودهم بحفظ أخيهم، ذكريات أليمة عند أبيهم ؛ حين عاهدوه بالمحافظة على يوسف وإرجاعه لهم، ثم جاءوا في المساء يبكون، وادعوا : أن الذئب قد أكله، فقال يعقوب لهم، ألم تقدموا نفس الكلام عند أخذ يوسف ؟ ! ورجعتم بدونه ؛ فكيف آمنكم الآن على بنيامين، بعد أن فعلتم ما فعلتم بيوسف، وضمنتم لي حفظه، ثم خنتم العهد ؛ فلا آمن أن تكيدوا له كما كدتم لأخيه.
﴿ فالله خير حافظا وهو أرحم الراحمين ﴾. أي : اتركوني من تعهدكم بالحفظ ؛ لأني ألجأ إلى الله العلي القدير ؛ فهو الذي أطلب منه الحفظ لولدي والرحمة لي.
المفردات :
ولما فتحوا متاعهم : المقصود بمتاعهم : الأوعية التي فيها طعامهم وبضاعتهم، وهي المعبر عنها سابقا : برحالهم في قول يوسف :﴿ اجعلوا بضاعتهم في رحالهم ﴾.
ما نبغي : أي شيء نبغيه ونطلبه أكثر من كرم العزيز برده الثمن إلينا وتوفيته الكيل لنا ؟ !.
نمير أهلنا : أي : نجلب لهم الميرة وهي : الطعام، من المير وهو : جلب الطعام.
كيل بعير : أي طعاما مكيلا مقداره : حمل بعير لأخينا بنيامين.
كيل يسير : مكيل سهل على عزيز مصر لا يمنعنا إياه لكرمه.
التفسير :
٦٥ ﴿ ولما فتحوا متاعهم وجدوا بضاعتهم ردت إليهم... ﴾ الآية.
أي : وحين فتحوا أوعية طعامهم الذي اشتروه من عزيز مصر، فوجئوا بوجود أثمان هذا الطعام قد ردت إليهم معه.
ولعل يعقوب كان شاهدا لهذه المفاجأة ؛ حيث وجد الطعام كاملا، وثمنه عائدا معه.
﴿ قالوا يا أبانا ما نبغي٢٥ هذه بضاعتنا ردت إلينا ﴾.
أي : كيف لا نعجب ولا ندهش، أو أي شيء نطلبه وراء هذا، أكرمنا عزيز مصر، ووفّى لنا الكيل، ورد علينا الثمن الذي هو بضاعتنا، فكيف لا نستجيب لطلبه، ونحضر له بنيامين ؟ !.
﴿ ونمير أهلنا ونحفظ أخانا ونزداد كيل بعير ذلك كيل يسير ﴾.
﴿ ونمير أهلنا ﴾. هذه الجملة معطوفة على مقدر يفهم من الكلام السابق.
أي : هذه بضاعتنا ردت إلينا. فننتفع بها في معاشنا.
﴿ ونمير أهلنا ﴾. أي : ونجلب الطعام والميرة إليهم مرة أخرى.
﴿ ونحفظ أخانا ﴾. ونحافظ عليه في سفره ؛ حتى لا يصيبه مكروه هذه المرة ؛ لأننا لن ننشغل عنه باللهو واللعب.
﴿ ونزداد كيل بعير ﴾. أي : بوجود بنيامين معنا ؛ حيث كان يوسف يكيل الطعام على عدد الرءوس ؛ حتى يستطيع أن يوفر للجميع في تلك السنوات الشداد.
﴿ ذلك كيل يسير ﴾. أي : سهل هين على عزيز مصر، فلا يخيبنا في طلبه.
وفي هذه الآية تحريض متكرر من إخوة يوسف لأبيهم ؛ حتى يستجيب لطلبهم ؛ فقد عرضوا أمام أبيهم بضاعتهم التي ردت إليهم من عزيز مصر، وأظهروا حاجتهم إلى العودة إليه، مع المحافظة على أخيهم، واستجلاب الطعام لأهليهم.
موثقا من الله : أي : عهدا منكم مع الله تعالى ؛ يدعوني إلى الثقة بوفائكم له.
إلا أن يحاط بكم : أي : إلا أن تغلبوا عليه.
وكيل : موكول إليه تنفيذ هذا الميثاق.
التفسير :
﴿ قال لن أرسله معكم حتى تؤتون موثقا من الله... ﴾.
أي : قال يعقوب لأولاده، وقد ألانه كلامهم، وهيأه لقبول مطلبهم : لن أرسل بنيامين معكم، حتى تعطوني عهدا من الله على رده، وموثقا من جهته على ذلك ؛ ليكون شهيدا عليكم، ومنتقما منكم إن لم تكونوا أوفياء.
﴿ لتأتنني به إلا أن يحاط بكم ﴾. أي : لترجعون بنيامين معكم، عند عودتكم بالطعام من مصر، إلا أن تغلبوا بما لا قبل لكم به، فيحول دون وفائكم بقسمكم.
أي : طلب منهم : أن يقسموا بالله يمينا مؤكدا : لنأتينك يا أبانا ببنيامين معنا، ونحن عائدون من مصر بالطعام، إلا أن نغلب على أمرنا بما لا قبل لنا به.
﴿ فلما آتوه موثقهم قال الله على ما نقول وكيل ﴾. أي : فلما أعطى الأبناء أباهم العهد الذي طلبه منهم واليمين الموثق بإرجاعه إليه ؛ قال لهم : الله تعالى مطلع ورقيب وحسيب على هذا القول، وسيجازى الأوفياء الجزاء الحسن، ويعاقب الخائنين وينتقم منهم.
التفسير :
٦٧ ﴿ وقال يا بني لا تدخلوا من باب واحد وادخلوا من أبواب متفرقة... ﴾ الآية.
أي : قال يعقوب لأبنائه عند عزمهم على مغادرة بادية الشام إلى مصر : لا تجتمعوا عند دخول أبواب مصر، ولا تدخلوا من باب واحد، وادخلوا من أبواب متفرقة متعددة.
قيل في سبب ذلك : إن يعقوب كان يخاف على أولاده العين والحسد، وكانوا على جانب كبير من الجمال والقوة، والنشاط والاتساق، فإذا شاهدهم الناس في هذه الصورة ؛ عشر رجال في زى واحد وهيئة واحدة ؛ ربما حسدهم الحاسد.
جاء في تفسير أبي السعود٤/٢٩٢ :
وقال. يعقوب ناصحا لهم ؛ لما أزمع على إرسالهم جميعا :﴿ يا بني لا تدخلوا ﴾ مصر من باب واحد، نهاهم عن ذلك ؛ حذرا من إصابة العين ؛ فإنهم كانوا ذوي جمال وشارة حسنة، وقد كانوا تجملوا في هذه المرة أكثر مما في المرة الأولى، وقد اشتهروا في مصر بالكرامة والزلفى لدى الملك، بخلاف النوبة الأولى، حيث كانوا مغمورين عند دخولهم من أبواب مصر، ثم اشتهر أمرهم عندما قربهم يوسف إليه وأكرم وفادتهم.
ثم قال أبو السعود :
" وإصابة العين بتقدير العزيز الحكيم، وليست مما ينكر، وقد ورد عنه صلى الله عليه وسلم :( إن العين حق )٢٦، وعنه صلى الله عليه وسلم :( إن العين لتدخل الرجل القبر، والجمل القدر )٢٧، وقد كان صلى الله عليه وسلم يعوذ الحسنين رضي الله عنهما بقوله :( أعوذ بكلمات الله التامة من كل شيطان وهامة، ومن كل عين لامه )٢٨.
وكان صلى الله عليه وسلم يقول :( كان أبوكما يعوذ بها إسماعيل وإسحاق عليهم السلام )٢٩، رواه البخاري في صحيحه، وقد شهدت بذلك التجارب. اه.
" وقيل : إن السبب في وصية يعقوب لأبنائه بهذه الوصية ؛ خوفه عليهم، من أن يسترعى عددهم حراس مدينة مصر، إذا ما دخلوا من باب واحد ؛ فيترامى في أذهانهم أنهم جواسيس أو ما شابه ذلك، فربما سجنوهم أو حالوا بينهم وبين الوصول إلى يوسف عليه السلام " ٣٠.
﴿ وما أغني عنكم من الله من شيء ﴾.
أي : إني آمركم بالدخول من أبواب متفرقة ؛ لتسلموا من حسد الحاسدين أو كيد الكائدين، ولا أدفع عنكم شيئا قدره الله عليكم، ولو كان هذا الشيء قليلا، وإنما ذلك من باب الأخذ بالأسباب مع اليقين الجازم بأن النافع هو الله، والضار هو الله تعالى، وأن العباد لا تنفع ولا تضر إلا بشيء قد كتبه الله على الإنسان.
ويعقوب عليه السلام يريد أن يلقن أولاده درسا في العقيدة السليمة التي توصي : بأن يأخذ الإنسان بالأسباب العادية الميسرة له، مع اليقين الجازم بأن مسبب الأسباب هو الله تعالى، وأنه سبحانه واضع الأسباب ومشرعها.
﴿ إن الحكم إلا لله عليه توكلت وعليه فليتوكل المتوكلون ﴾.
أي : ما الحكم في أمر الخلائق جميعا إلا لله وحده ؛ لا ينازعه في ذلك منازع ولا يدافعه مدافع.
﴿ عليه توكلت ﴾. أي عليه وحده دون سواه توكلت واعتمدت.
﴿ وعليه فليتوكل المتكلون ﴾. وعلى الله وحده فليتوكل المتوكلون الصادقون، وهذا التوكل لا يتعارض مع الأخذ بالأسباب التي شرعها الله وأمر بها.
فالعبد له كسب واختيار، والله تعالى له إرادة عليا، وقدرة فاعلة في تدبير هذا الكون، والجمع بين اختيار العبد وإرادة الله تعالى يحتاج إلى شيء من الانحناء والتسليم، فالعبد يفعل ويختار ويأخذ في الأسباب، ويجزم بأن الحكم لله وحده في كل الأمور، وقد جمع يعقوب عليه السلام بأطراف الموضوع، حين أمر أبناءه بالدخول من أبواب متعددة، ثم بين : أن ذلك أخذ بالأسباب العادية، مع الإيمان بالقضاء والقدر خيره وشره، حلوه ومره، ومع اليقين بأن ما أراده الله نافذ لا محالة كما أشار إلى ذلك القرآن الكريم، والسنة النبوية.
المفردات :
من حيث أمرهم أبوهم : من الأبواب المتفرقة التي أمرهم بالدخول منها.
لما علمناه : لتعليمنا إياه بالوحي.
التفسير :
٦٨ ﴿ ولما دخلوا من حيث أمرهم أبوهم ما كان يغني عنهم من الله من شيء إلا حاجة في نفس يعقوب قضاها... ﴾.
أي : ولما دخل إخوة يوسف من الأبواب المتفرقة، ولم يجتمعوا داخلين من باب واحد، ما كان يدفع عنهم ذلك الدخول من أبواب متفرقة شيئا مما قضاه الله، وقدره عليهم، ولكن الذي حمل يعقوب على أمرهم بذلك، هو خوفه عليهم من الحسد، أو خوفه من بطش الملك بهم ؛ حين يراهم مجتمعين، في هيئة واحدة ؛ فأظهر يعقوب رغبته في دخولهم متفرقين، ووصاهم بها، ولم يستطع إخفاءها ؛ لشدة حبه لهم، مع اعتقاده بأن كل شيء بقضاء الله وقدره.
﴿ وإنه لذو علم لما علمناه ولكن أكثر الناس لا يعلمون ﴾.
أي : وإن يعقوب لذو علم عظيم ؛ لأجل تعليمنا إياه بالوحي ؛ حيث لم يعتقد أن الحذر يدفع القدر ؛ حيث قال :﴿ وما أغني عنكم من الله من شيء ﴾. أي وما أدفع عنكم بهذا التدبير من شيء قضاه الله ؛ وإنما نأخذ بالأسباب ؛ فالأخذ بها مشروع ومأمور به.
﴿ ولكن أكثر الناس لا يعلمون ﴾. ما أعطاه الله تعالى لأنبيائه وأصفيائه من العلم والمعرفة محسن التأني للأمور.
فلا تبتئس بما كانوا يعملون : فلا تأسف ولا تحزن بسبب ما صنعوا.
التفسير :
﴿ ولما دخلوا على يوسف آوى إليه أخوه... ﴾.
تبدأ من هذه الآية أحداث أخرى جديدة ومثيرة في قصة يوسف.
والمعنى : ولما دخل إخوة يوسف عليه ؛ أكرم وفادتهم، ثم ضم إليه شقيقه بنيامين، وحدثه حديثا خاصا :﴿ قال إني أنا أخوك فلا تبتئس بما كانوا يعملون ﴾. أي : قال يوسف لبنيامين : إني أنا أخوك الشقيق يوسف، وأخبره بقصته، وما جرى له في الجب، وفي بيت العزيز، وفي السجن حتى صار على خزائن الأرض، وطلب منه أن يكتم هذا الأمر عن إخوته، وألا يحزن بسبب ما أصابهم في الماضي من الحسد والأذى ؛ فإن الله تعالى قد عوض صبرهم خيرا.
المفردات :
جهزهم بجهازهم : الجهازة في اللغة : ما يحتاج إليه المسافر والعروس والميت، وتجهيزهم بجهازهم : تنجيز ما يحتاجون إليه من الطعام وإعداد في أوعيتهم.
السقاية : المشربة التي يشرب بها، وهي والصواع شيء واحد، قال الشاعر : نشرب الخمر بالصواع جهارا.
رحل أخيه : المراد به : وعاء الطعام الخاص بأخيه بنيامين.
أذن مؤذن : نادى مناد.
أيتها العير : العير : هي الإبل التي عليها الأحمال، والمراد بندائها : نداء أصحابها، وقال أبو عبيد : هي الإبل المرحولة المركوبة.
التفسير :
٧٠ ﴿ فلما جهزهم بجهازهم جعل السقاية في رحل أخيه... ﴾.
السقاية : إناء يشرب فيه الملك، وعادة يكون من معدن نفيس ؛ وقد كان يوسف عليه السلام، يكتال به في ذلك الوقت ؛ نظرا لقلة الطعام وندرته.
أراد يوسف عليه السلام أن يستبقي أخاه بنيامين معه في مصر ؛ فأمر بدس الإناء الذي يشرب فيه ويكال به في رحل بنيامين، وكان إناء ثمينا يمكن الاتهام بسرقته ؛ لارتفاع قيمته.
﴿ ثم أذن مؤذن أيتها العير إنكم لسارقون ﴾.
بعد أن ركب إخوة يوسف رواحلهم نادى مناد فيهم : يا أصحاب العير، إنكم لسارقون. ولم يعين لهم ما سرقوه في ندائه ؛ ليسترعي كامل انتباههم.
جاء في تفسير أبي السعود :
﴿ جعل السقاية في رحل أخيه ﴾. قيل : كانت السقاية تسقى بها الدواب، ويكال بها الحبوب، وكانت من فضة، وقيل : من ذهب، وقيل : من فضة مموهة بالذهب، وقيل : كانت السقاية مرصعة بالجواهر. اه٣١.
أي : قال إخوة يوسف، وقد أقبلوا على المنادي وزمرته : ماذا تفقدون أيها الناس من أشياء حتى اتهمتمونا بأننا سارقون ؟ !
زعيم : كفيل وضمين.
التفسير :
﴿ قالوا نفقد صواع الملك... ﴾.
أي : قال المؤذن، ومعه الحراس : نفقد صواع الملك. أي : صاعه الذي يشرب فيه، ويكتال به للمتارين.
﴿ ولمن جاء به حمل بعير وأنا به زعيم ﴾.
أي : من جاء به من عند نفسه، أو أرشد إليه عند غيره ؛ فله حمل بعير من الطعام زيادة على ما دفعه كمكافأة له.
﴿ وأنا به زعيم ﴾.
قال المؤذن ؛ تأكيدا لكلامه السابق : أنا كفيل بأن أوصل حمل البعير لمن جاء بصواع الملك أو أرشد إليه.
التفسير :
٧٣ ﴿ قالوا تالله لقد علمتم ما جئنا لنفسد في الأرض وما كنا سارقين ﴾.
أي : وحق الله ! لقد عرفتم من استقامتنا في المعاملة، وما نحن عليه من التدين والتصون، وقد كان هؤلاء الإخوة فعلا مثلا أعلى في الأخلاق السليمة، والسلوك المستقيم، فاستشهدوا بسلوكهم وأحوالهم على أنهم ما حضروا من بلادهم ؛ ليفسدوا في أرض مصر بالسرقة، وما كانت السرقة خلقا ولا جبلة فيهم قبل ذلك ولا بعده.
أي : قال أعوان يوسف لإخوته : إذا فما جزاء وعقاب هذا السارق لصواع الملك في شريعتكم ؛ إن وجدنا هذا الصواع في حوزتكم.
﴿ إن كنتم كاذبين ﴾. في دعواكم : أن الصواع ليس في أوعيتكم.
أي : قال إخوة يوسف : جزاء الصواع المفقود في شريعتنا ؛ أخذ من وجد في رحله واسترقاقه لمدة سنة ؛ هذا هو جزاؤه في شريعتنا.
قال الزجاج : وقوله : فهو جزاؤه. زيادة في البيان، أي : جزاؤه أخذ السارق فهو جزاؤه لا غير٣٢.
﴿ كذلك نجزي الظالمين ﴾. أي : مثل ذلك الجزاء نجزي الظالمين بالسرقة في شريعتنا ؛ لأنهم معتدون على أموال غيرهم.
أي : بدأ يوسف أو من ينوب عنه بتفتيش أوعية إخوته العشرة الذين هم من أبيه، قبل تفتيش وعاء أخيه بنيامين الشقيق ؛ لنفى التهمة في أول الأمر عن نفسه إن بدأ به، ولينسيهم فرحهم ببراءتهم أولا، ما حدث لأخيهم من أبيهم أخيرا.
وفي التوراة الحالية :" ففتش مبتدئا من الكبير حتى انتهى إلى الصغير، فوجد الطاس في عدل بنيامين ".
روى : أنه لما بلغت النوبة إلى وعاء بنيامين ؛ قال يوسف : ما أظن هذا أخذ شيئا ؛ فقالوا : والله لا تتركه حتى تنظر في رحله ؛ فإنه أطيب لنفسك، وأنفسنا ! ففعل٣٣.
﴿ ثم استخرجها من وعاء أخيه ﴾. ثم استخرج السقاية من وعاء أخيه بنيامين ؛ فأخذه يوسف بحكم اعترافهم والتزامهم، وإلزامهم إلزاما لهم بما يعتقدونه.
﴿ كذلك كدنا ليوسف ﴾. أي : مثل ذلك الكيد والتدبير المحكم ﴿ كدنا ليوسف ﴾. أي : علمناه إياه وأرشدناه إليه، حتى يصل إلى هدفه بدس الصواع في وعاء بنيامين ؛ واستفتاء إخوته بحكم من وجد الصواع في وعائه، وحكمهم بهذا الحكم الذي يدينون في شريعتهم.
﴿ ما كان ليأخذ أخاه في دين الملك ﴾. أي : إن شريعة الملك كانت تقتضي عقوبة السارق بعقوبات أخرى كالضرب والتغريم، وما كان يستطيع أن يحبس أخاه، ويأخذه من إخوته ؛ ليقيم معه ؛ إذا نفذ دين الملك وأوامره وقوانينه.
﴿ إلا أن يشاء الله ﴾. إلا بمشيئة الله وإرادته وعونه، كما قال يوسف فيما بعد :﴿ إن ربي لطيف لما يشاء ﴾ ؛ فهو سبحانه ييسر الأسباب ويرتبها للوصول إلى النهاية التي يريدها.
﴿ نرفع درجات من نشاء وفوق كل ذي علم عليم ﴾.
إذا أراد الله رفعة عبد ؛ سبب له الأسباب، ويسر له الأمور ؛ كما فعل بيوسف، حيث جعله على خزائن الأرض، ويسر له انتقال شقيقه بنيامين إلى جواره.
قال الأستاذ سعيد حوى في ( الأساس في التفسير ) :
" وهذا ثناء ضمني على يوسف ؛ إذ المعنى : نرفع درجات في العلم من نشاء كما رفعنا درجة يوسف عليه السلام٣٤ " اه.
﴿ وفوق كل ذي علم عليم ﴾.
فمن سنته سبحانه ومن عطائه، ومن حكمته : أن يجعل الناس منازل في العلم، فما من عالم إلا وفوقه من هو أعلم منه، وأرفع درجة في العلم، أو فوق العلماء جميعا، عليم. هم دونه في العلم، قال تعالى :﴿ والله يعلم وأنتم لا تعلمون ﴾( البقرة : ٢١٦ ).
المفردات :
شر مكانا : أسوأ مكانة ومنزلة.
والله أعلم بما تصفون : والله عالم أبلغ العلم بحقيقة ما تزعمون من صدور السرقة عن أخيه.
التفسير :
٧٧ ﴿ قالوا إن يسرق فقد سرق أخ له من قبل... ﴾.
أي : قال إخوة يوسف غير الأشقاء، عندما شاهدوا صواع الملك يستخرج من وعاء بنيامين : إننا برءاء من السرقة ؛ فوالدنا نبي وجدنا نبي، أما إذا سرق بنيامين ؛ فهذا لأنه من أم أخرى غير أمنا، وقد سرق أخ شقيق له من قبل. واختلف المفسرون في السرقة التي اتهموا يوسف بها.
جاء في تفسير أبي السعود :
﴿ قالوا إن يسرق ﴾. يعنون بنيامين ﴿ فقد سرق أخ له من قبل ﴾. يريدون به يوسف عليه السلام، وما جرى عليه من جهة عمته على ما قيل من : أنها كانت تحضنه فلما شب ؛ أراد يعقوب عليه السلام انتزاعه منها، وكانت لا تصبر عنه ساعة، وكانت لها منطقة ورثتها من أبيها إسحاق عليه السلام ؛ فاحتالت لاستبقاء يوسف عليه السلام، فعمدت إلى المنطقة فحزمتها عليه من تحت ثيابه، ثم قالت : فقدت منطقة إسحاق عليه السلام، فانظروا من أخذها فوجدوها محزومة على يوسف، فقالت : إنه لي سلم، أفعل به ما أشاء، فخلاه يعقوب عليه السلام عندها حتى ماتت.
وقيل : كان أخذ في صباه صنما لأبي أمه فكسره وألقاه في الجيف، وقيل : دخل كنيسة فأخذ تمثالا صغيرا من ذهب كانوا يعبدونه فدفنه. ا. ه٣٥.
﴿ فأسرها يوسف في نفسه ولم يبدها لهم قال أنتم شر مكانا... ﴾.
أي : فأخفى يوسف في نفسه هذه الفرية التي افتروها عليه، ولم يظهرها لهم أنها فرية ؛ كتمانا لأمره، مع أنه سمع من إخوته وعرف أنه هو المقصود بنسبة السرقة إليه، فيوسف لم يسرق حقا، وإنما سرّق ثم قال يوسف في نفسه عن إخوته :﴿ أنتم شر مكانا ﴾. أنتم أسوأ موضعا ومنزلا، ممن نسبتموه إلى السرقة وهو برئ ؛ فأنتم الذين ألقيتم يوسف في الجب ؛ وأنتم أشبه بمن سرقني من أبي، ثم عاد إليه، فادعى : أن الذئب قد أكله كذبا وبهتانا.
﴿ والله أعلم بما تصفون ﴾.
أي : الله أعلم مني ومنكم ﴿ بما تصفون ﴾ به غيركم من الأوصاف التي يخالفها الحق، ولا يؤيدها الواقع.
التفسير :
٧٨ ﴿ قالوا يا أيها العزيز إن له أبا شيخا كبيرا... ﴾ الآية.
أي : قال إخوة يوسف له على سبيل الاستعطاف :﴿ يا أيها العزيز ﴾، إن لبنيامين أبا شيخا طاعنا في السن، لا يستطيع فراقه، وهو سلواه عن شقيقه المفقود، فخذ واحدا منا مكانه ؛ ليحبس عاما بدلا منه ؛ ﴿ إنا نراك من المحسنين ﴾. للناس عامة وإلينا خاصة.
معاذ الله : المعاذ، والعياذ، والعوذ بمعنى : الالتجاء. وقد يقصد منها التبرؤ كما هنا. فمعاذ الله هنا بمعنى نبرأ إلى الله.
متاعا : المتاع ما ينتفع به إلى حين. والمقصود منه هنا : صواع الملك.
التفسير :
﴿ قال معاذ الله أن نأخذ إلا من وجدنا متاعنا عنده إنا إذا لظالمون ﴾.
أي : قال يوسف : أستعيذ بالله معاذا من أن نأخذ في جريمة السرقة إلا الشخص الذي وجدنا صواع الملك عنده وهو بنيامين، وأنتم الذين أفتيتم : أن السارق عندكم عقوبته استرقاقه لمدة عام ؛ فنحن نسير في هذا الحكم تبعا لشريعتكم.
﴿ إنا إذا لظالمون ﴾ ؛ إذا أخذنا شخصا آخر غير الذي وجد صواع الملك عنده، والظلم تأباه شريعتكم، كما تأباه شريعتنا.
المفردات :
استيئسوا منه : يئسوا منه أشد اليأس.
خلصوا نجيا : انفردوا عن يوسف وغيره متناجين أي : متسارين، والنجى من تتحدث معه سرا، واحدا أو أكثر، والنجوى : السر.
التفسير :
٨٠ ﴿ فلما استيئسوا منه خلصوا نجيا... ﴾.
أي : فلما يئسوا من يوسف ومن استجابته لطلبهم ؛ انفردوا متناجين فيما بينهم، وأخذوا يقلبون الآراء ظهرا لبطن، ويتدبرون شئونهم كيف يلقون أباهم، وكيف يخبرونه بالحادث، وكيف يصنعون في هذه المشكلة، لقد عبر القرآن عن هذه الأمور الكثيرة بعبارة موجزة هي : خلصوا نجيا. ٣٦
﴿ قال كبيرهم ألم تعلموا أن أباكم قد أخذ عليكم موثقا من الله ومن قبل ما فرطتم في يوسف ﴾.
قيل : هو روبيل وهو أكبرهم سنا، وقيل : شمعون ؛ لأنه رئيسهم والرأس المدبر لهم٣٧، وقيل : يهوذا. والاستفهام هنا للتقرير، أي : لقد علمتم علما يقينا بعهد أبيكم عليكم بشأن بنيامين، وعلمتم علما يقينا بتفريطكم في يوسف.
أي : فبأي وجه ترجعون إلى أبيكم وليس معكم أخوكم بنيامين.
﴿ فلن أبرح الأرض. أرض مصر ﴾.
﴿ حتى يأذن لي أبي ﴾. بمفارقتها والخروج منها.
﴿ أو يحكم الله لي ﴾. بمفارقتها والخروج منها.
وقيل : أو يحكم الله لي بالنصر على من أخذ أخي فأحاربه وآخذ أخي منه، ﴿ وهو خير الحاكمين ﴾ ؛ لأنه لا يحكم إلا بالحق والعدل.
أي : ارجعوا من مصر إلى أبيكم بالشام، وتلطفوا في إخباره بأمر بنيامين، فقولوا : يا أبانا، إن ابنك سرق صواع الملك، ووضعه في رحله.
وقرئ : سرّق أي : نسب إلى السرقة، ﴿ وما شهدنا ﴾ عليه ﴿ إلا بما علمنا ﴾ من وجود الصاع في رحله.
﴿ وما كنا للغيب حافظين ﴾.
أي : وما كنا حين أعطيناك الموثق، نعلم أنه سيسرق أو أنا سنلاقي هذا الأمر، أو أنك تصاب به كما أصبت بيوسف.
القرية التي كنا فيها : هي مصر والمراد بها : أهلها.
والعير : وأصحاب العير الذين كانوا معنا.
التفسير :
﴿ واسأل القرية التي كنا فيها والعير التي أقبلنا فيها وإنا لصادقون ﴾.
أي : إذا شئت التثبت من صدق كلامنا ؛ فأرسل إلى أهل مصر المتصلين بالملك حيث كنا معهم، واسألهم عن ذلك.
واسأل أصحاب القافلة التي رجعنا فيها إلى بلادنا.
قيل : وكانوا قوما معروفين من جيران يعقوب عليه السلام، ﴿ وإنا لصادقون ﴾. فيما أخبرناك به ؛ فكن واثقا من صدقنا.
وهكذا صورت السورة ما دار بين يوسف وإخوته بأسلوب حافل بالإثارة والمحاورة، والأخذ والرد... فماذا كان بعد ذلك ؟ لقد كان بعد ذلك أن عاد الإخوة إلى أبيهم، وأخبروه خبرهم، ثم ذكر القرآن الكريم جوابه عليهم.
المفردات :
سولت : زينت وسهلت.
فصبر جميل : هو الذي لا يكون معه ضجر ولا شكوى لأحد.
التفسير :
٨٣ ﴿ قال بل سولت لكم أنفسكم أمرا فصبر جميل... ﴾.
أي : عاد إخوة يوسف من مصر برحالهم، فأخبروا أباهم بالقصة فقال لهم : بل زينت لكم أنفسكم أمرا أنتم أردتموه ؛ فصبري على ما قلتم صبر جميل، لا جزع ولا شكوى منه إلا إلى الله تعالى.
وهذا الجواب يشبه جواب يعقوب بأبنائه، حين جاءوا أباهم يبكون، وادعوا : أن الذئب أكل يوسف ؛ قال بل سولت لكم أنفسكم أمرا فصبر جميل...
لقد كان إخوة يوسف متهمين عندما أبعدوا يوسف، وادعوا : أن الذئب قد أكله، وكانوا صادقين في حق بنيامين.
لكن حديثهم عن بنيامين نكأ الجرح القديم، بشأن يوسف فأجابهم الأب جواب المتشكك في براءتهم ؛ فقد سبق أن فجعوه في يوسف، بعد أن عاهدوه على المحافظة عليه.
وجاء في تفسير أبي السعود :
﴿ بل سولت لكم أنفسكم أمرا ﴾. يريد يعقوب بذلك فتياهم : بأخذ السارق بسرقته ؛ فإن هذا الحكم ليس من قوانين مصر، وإنما هو من قوانين ديانة يعقوب وحدها.
ثم لجأ يعقوب إلى الله تعالى مستعينا به، راجيا أن يجمع شمله بأبنائه جميعا فقال :
﴿ عسى الله أن يأتيني بهم جميعا إنه هو العليم الحكيم ﴾.
أي : لعل الله أن يجمع شملي بأبنائي ويرد عليّ يوسف، وبنيامين، وروبيل الذي تخلف في مصر، ﴿ إنه هو العليم الحكيم ﴾. إنه هو الواسع العلم الذي يبتلي بحكمة ويرفع البلاء بحكمة، وقد جرت سنته تعالى أن يجعل بعد الشدة المستحكمة فرجا، وبعد العسر يسرا.
يا أسفى على يوسف : الألف في أسفى بدلا من ياء المتكلم ؛ للتخفيف. والأصل : يا أسفى بكسر الفاء، والأسف : أشد الحزن على ما فات.
فهو كظيم : فهو مملوء القلب غيظا، لكنه لا يظهر. وقيل : مملوء القلب حزنا ممسك له لا يبديه من كظم السقاء ؛ إذا شده بعد ملئه. فهو فعيل بمعنى : مفعول.
وابيضت عيناه : أصابتها غشاوة بيضاء.
التفسير :
﴿ وتولى عنهم وقال يا أسفى على يوسف... ﴾.
أي : أعرض يعقوب عن أولاده ؛ كارها لحديثهم عن بنيامين، وتخلفه محبوسا في مصر، ثم جددت هذه المصيبة أحزانه القديمة فقال :
﴿ يا أسفى على يوسف ﴾. أي : يا شدة حزني وحسرتي على غياب يوسف وبعده عني !.
﴿ وابيضت عيناه من الحزن فهو كظيم ﴾.
أي : أصابت عيناه سحابة بيضاء من كثرة البكاء والحزن على يوسف ؛ فهو مملوء من الحزن على أولاده الغائبين، ومملوء من الغيظ من أولاده الحاضرين.
قال تعالى :﴿ والكاظمين الغيظ ﴾. أي : يمسكونه فلا يشتد غضبهم وإيذاؤهم ؛ فيعقوب مع شدة حزنه وأسفه يكتم حزنه عن الناس، ولا يبوح به لأولاده.
وقد جاء في كتب التفسير تساؤل مفاده ما يأتي :
كيف جاز لنبي الله يعقوب أن يشتد حزنه إلى هذه الدرجة.
والجواب : أن الحزن على المفقود فطرة بشرية، والممنوع : هو الهلع والجزع والصياح ولطم الخدود، أو شق الجيوب، أو إعادة دعوى الجاهلية، وقد بكى رسول الله صلى الله عليه وسلم على ولده إبراهيم وقال :( العين تدمع، والقلب يحزن، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا، وإنا بفراقك يا إبراهيم لمحزونون ! )٣٨ رواه الشيخان.
وعن الحسن : أنه بكى على ولد له ؛ فقيل له في ذلك ؛ فقال : ما رأيت الله جعل الحزن عارا على يعقوب.
وفي تفسير الكشاف :
أنه قيل له عليه الصلاة والسلام : تبكي وقد نهيتنا عن البكاء ! قال :( ما نهيتكم عن البكاء وإنما نهيتكم عن صوتين أحمقين : صوت عند الفرح، وصوت عند الترح )٣٩.
المفردات :
تالله : أي : والله ! فالتاء حرف يستعمل في القسم بالله خاصة.
تفتأ : أي : ما زلت.
قال الكسائي : فتأت وفتئت أي : ما زلت، وقال الفراء : إن الكلام هنا بتقدير( لا ) أي( لا تفتأ ). وكثيرا ما تضمر( لا ) في جواب القسم كما في قول امرئ القيس : فقلت :
يمين الله أبرح قاعدا ولو | قطعوا رأسي لديك وأوصالي. |
حرضا : الحرض لغة : فساد الجسم أو العقل من الحزن أو العشق أو الهرم ؛ كما قال أبو عبيد وغيره.
التفسير :
٨٥ ﴿ قالوا تالله تفتؤا تذكر يوسف حتى تكون حرضا أو تكون من الهالكين... ﴾.
أي : قال أبناء يعقوب له بعد أن سمعوه يردد الأسف على فقد يوسف : يا أبانا، لا تزال تذكر يوسف بهذا الحنين الجارف، والحزن المضني، حتى تكون حرضا. أي : مريضا ضعيف القوة.
﴿ أو تكون من الهالكين ﴾. أو يصيبك الموت فعلا ؛ فأنت إما أن تقارب الموت ضعفا وهزالا، أو تموت بالفعل وقد قالوا ذلك ؛ رقة له وشفقة عليه ورأفة به.
قال النسفى : ويجوز للنبي أن يبلغ به الجزع ذلك المبلغ ؛ لأن الإنسان مجبول على ألا يملك نفسه عند الحزن ؛ ولذلك حمد صبره.
بثي : البث : المصيبة التي لا قدرة لأحد على كتمانها فيبثها وينشرها.
التفسير :
﴿ قال إنما أشكو بثي وحزني إلى الله ﴾.
أي : قال يعقوب ردا على أولاده : إني لا أشكو أحزاني إليكم، ولا إلى غيركم من الناس ؛ وإنما أناجي ربي وأناديه، وألجأ إليه في شدتي ؛ أشكو إليه ما أعاني من اللوعة والحرقة ؛ لغياب يوسف ثم إخوته.
﴿ وأعلم من الله ما لا تعلمون ﴾.
أي : عودني ربي الرحمة واللطف والإجابة والأمل ؛ فلا أيئس من رحمته، وأتوقع لطفه وفضله، وأستشرف إلى معونته وكرمه.
ويجوز أن يعقوب عرف في منامه، أو ألهمه الله : أن يوسف حي يرزق ؛ فزاد أمله في ذلك.
روى : أنه رأى ملك الموت في منامه فسأله : هل قبضت روح يوسف ؟ ! فقال : لا والله، هو حي فاطلبه.
وقال ابن عباس :﴿ وأعلم من الله ما لا تعلمون ﴾. هي رؤيا يوسف، أي : قال يعقوب : أعلم أن رؤيا يوسف صدق وأن الله لا بد أن يظهرها، وهذا يقتضي حياة يوسف، وتفوقه، وعلو شأنه ؛ حتى يسجد له إخوته.
المفردات :
فتحسسوا : التحسس : طلب معرفة الشيء بالحواس.
ولا تيئسوا من روح الله : ولا تقنطوا من رحمته التي يحيى بها العباد.
التفسير :
٨٧ ﴿ يا بني اذهبوا فتحسسوا من يوسف وأخيه ولا تيأسوا من روح الله إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون ﴾.
طلب يعقوب من أولاده أن يذهبوا إلى أرض مصر، جادين في البحث عن يوسف وبنيامين، مستغلين حواسهم كالسمع والبصر في تلمس هذه الحقيقة، والأمل الكبير في الله أن يوصلهم إلى هدفهم، وأوصاهم : ألا يقنطوا من فرجه سبحانه، وتنفيسه عن النفس هذا الكرب، بما ترتاح إليه الروح، ويطمئن به القلب.
﴿ إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون ﴾.
إن المؤمن بخير حال ؛ إن أصابته ضراء ؛ صبر ؛ فكان خيرا له، وإن أصابته نعماء ؛ شكر، فكان خيرا له ؛ فالمؤمن دائما واثق من فضل الله ورحمته ورضوانه، واثق بأن بعد العسر يسرا وأن من يتق الله ؛ يجعل له مخرجا، ويرزقه من حيث لا يحتسب.
أما إذا يئس الإنسان من قدرة الله على كشف كربه، أو شك في قدرته على ذلك ؛ فهذا هو اليائس من روح الله وفضله وألطافه، وهو كافر بقدرة ربه ؛ ولذلك فإن المنتحر يائس من الفرج، وهو يقتل نفسه ليذهب بها إلى النار.
وفي الحديث( الذي يقتل نفسه ؛ يقتلها في النار " ).
وقال صلى الله عليه وسلم :( من تحسّى سما فهلك، فسمه في يده يتحساه إلى يوم القيامة، ومن وجأ بطنه بحديدة ؛ فحديدته في يده يجأ بها بطنه إلى يوم القيامة، ومن تردى من فوق جبل فهلك ؛ فهو يتردى من فوق الجبل إلى يوم القيامة... ).
واستدل بالآية جمع من العلماء : على أن اليأس من رحمة الله كفر !.
والجمهور : على أن اليأس من رحمته تعالى من الكبائر، اللهم إلا إذا اقترن بذلك ما يدل على نسبته تعالى إلى العجز عن تنفيس الكرب أو مغفرة الذنب، وأيا ما كان الأمر فاليأس من رحمة الله من صفات الكفار، ومن أسباب الكفر والعياذ بالله تعالى ! ووصية يعقوب عليه السلام لبنيه في الآية الكريمة درس من دروس النبوة في شحذ الهمم وتربية العزائم ٤٠.
المفردات :
وجئنا ببضاعة مزجاة : المراد من البضاعة هنا : الثمن، والمزجاة : المدفوعة التي يردها من يراها لرداءتها من أزجيته ؛ إذا دفعته، والريح تزجى السحاب : تسوقه وتدفعه. وقال ثعلب : البضاعة المزجاة : الناقصة غير التامة. اه. ومن معانيها : القليلة كما ذكره صاحب القاموس، ولعل هذا المعنى هو المراد هنا.
التفسير :
٨٨ ﴿ فلما دخلوا عليه قالوا يا أيها العزيز مسنا وأهلنا الضر... ﴾
استجاب أبناء يعقوب لتوجيه أبيهم ؛ فعادوا إلى مصر للمرة الثالثة، ودخلوا على يوسف فأظهروا أمامه ما أصابهم من ضر وحاجة ؛ تحريكا لعطفه، وكان أبوهم يرجح أن هذا العزيز هو يوسف، فلما أخبروه بحالهم ؛ رق لهم رقة شديدة.
جاء في تفسير أبي السعود :
﴿ قالوا يا أيها العزيز ﴾. أي : الملك القادر المتمنع.
﴿ مسنا وأهلنا الضر ﴾. الهزال من شدة الجوع.
﴿ وجئنا ببضاعة مزجاة ﴾. مدفوعة يدفعها كل تاجر ؛ رغبة عنها واحتقارا لها.
قيل : كانت بضاعتهم من متاع الأعراب صوفا وسمنا، وقيل : دراهم زيوفا ؛ لا تقبل إلا بوضيعة.
وإنما قدموا ذلك ؛ ليكون ذريعة إلى إسعاف مراميهم ؛ ببعث الشفقة، وهو العطف، والرأفة، وتحريك سلسلة المرحمة.
﴿ فأوف لنا الكيل ﴾. أي : أتممه لنا، ﴿ وتصدق علينا ﴾ ؛ برد أخينا إلينا، أو المراد بالتصدق : زيادة يزيدها لهم على ما يقابل بضاعتهم، أو بالإغماض عن رداءة البضاعة التي جاءوا بها٤١.
﴿ إن الله يجزي المتصدقين ﴾. فيخلف عليهم ما ينفقون، ويضاعف الأجر لهم.
تأثر يوسف بما تكلم به إخوته، وأراد أن يرشدهم إلى طريق التوبة فقال لهم : ما أعظم ما فعلتم بيوسف وأخيه في حال جهلكم بحقوق إخوتكم عليكم، وبعاقبة البغي والعقوق. وقد يكون المراد من الجهل : الطيش والنزق واتباع الهوى، وطاعة الحسد والأثرة.
وقد قال لهم هذه المقالة ؛ تمهيدا لتعريفهم بنفسه، بعد أن بلغ الكتاب أجله.
وكأن يوسف أراد أن يرشدهم إلى عظم ما اقترفوا في حق يوسف وأخيه، في حال جهلهم، ليتنبهوا إلى التوبة إلى الله تعالى مما فعلوا ؛ لأن معرفة الإنسان بقبح الذنب يجره إلى الندم والتوبة منه.
فكان كلامه شفقة عليهم، وتنصحا لهم في الدين ؛ لا معاتبة وتثريبا ؛ إيثارا لحق الله على نفسه٤٢. في ذلك المقام الذي يتنفس فيه المكروب، فلله تعالى هذا الخلق النبوي الكريم.
وكان سؤاله إياهم، سؤال العارف بأمرهم من البداية إلى النهاية، مصدقا لما أوحاه الله إليه، حين ألقوه في غيابت الجب من قوله :﴿ وأوحينا إليه لتنبئنهم بأمرهم هذا وهم لا يشعرون ﴾. ( يوسف : ١٥ ).
أي : قالوا : من المؤكد قطعا أنك أنت يوسف، وقد عجبوا من أنهم يترددون عليه مدى سنتين أو أكثر، وهم لا يعرفونه وهو يعرفهم ويكتم نفسه.
قال أنا يوسف. الذي تتحدثون عنه والذي فعلتم به ما فعلتم، وهذا أخي بنيامين قد من الله علينا ؛ فجمع بيننا بعد الفرقة، وأعزنا بعد الذلة، وآنسنا بعد الوحشة، وخلصنا مما ابتلينا به وبدل أحوالنا من عسر إلى يسر، ومن ضيق إلى فرج.
﴿ إنه من يتق ويصبر ﴾.
أي : من يتق الله راجيا رحمته، خائفا من غضبه، عاملا في مرضاته.
﴿ ويصبر ﴾. على قضائه وقدره، وأداء طاعته وتجنب معاصيه.
﴿ فإن الله لا يضيع أجر المحسنين ﴾.
أي : فإن الله تعالى يرحمه برحمته ويكرمه بكرمه ؛ لأن من سنة الله التي لا تتخلف أنه لا يضيع أجر من أحسن عملا.
قال تعالى :﴿ هل جزاء الإحسان إلا الإحسان ﴾. ( الرحمان : ٦٠ ).
وقال سبحانه :﴿ إن رحمت الله قريب من المحسنين ﴾. ( الأعراف : ٥٦ ).
المفردات :
تالله : أي : والله ! وتقدم قريبا : أن التاء حرف للقسم بالله خاصة.
آثرك : اختارك وفضلك.
لخاطئين : لمذنبين متعمدين.
التفسير :
٩١ ﴿ قالوا تالله لقد آثرك الله علينا وإن كنا لخاطئين ﴾.
أحس إخوة يوسف بالندم والأسف على ما فعلوه به ؛ فقالوا له : والله لقد فضلك الله علينا بالعلم والحلم، والفضل والعزة، وقد كنا متعمدين الخطأ حين ألقيناك في الجب قديما، وحين اتهمناك بالسرقة حديثا ؛ ولذلك أعزك الله وأذلنا، وأغناك وأفقرنا، ونرجو منك الصفح والعفو.
لا تثريب عليكم : لا لوم عليكم ولا تأنيب، يقال : ثربه، يثربه، وثربه ؛ إذا بكته بفعله وعدد عليه ذنوبه.
التفسير :
﴿ قال لا تثريب عليكم اليوم... ﴾.
أي : لا تقريع ولا تأنيب ثابت أو مستقر عليكم اليوم، عفا عنهم عفوا تاما ؛ لا مؤاخذة معه، وهذا هو الصفح الجميل، ثم دعا لهم : بمغفرة الله تعالى فقال :
﴿ يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين ﴾.
أي : يغفر الله لكم عن ذنبكم وظلمكم ويستره عليكم ؛ ﴿ وهو أرحم الراحمين ﴾. يغفر الصغائر والكبائر، ويتفضل على التائب بالقبول. وقد تمثل رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذه الآية عند فتح مكة ؛ فصفح عن أهلها، ثم قرأ هذه الآية.
نبذة من تفسير أبي السعود
" كان يوسف عليه السلام يدعو إخوته إلى الطعام، بكرة وعشيا ؛ فقالوا له : إنا نستحي منك بما فرط منا فيك ؛ فقال يوسف : إن أهل مصر وإن ملكت فيهم، كانوا ينظرون إلىّ بالعين الأولى، ويقولون : سبحان من بلغ عبدا بيع بعشرين درهما ما بلغ، ولقد شرفت بكم الآن، وعظمت في العيون ؛ حيث علم الناس أنكم إخوتي، وأني من حفدة إبراهيم عليه الصلاة والسلام٤٣.
علم يوسف بطريق الوحي، أو بسؤال إخوته أن أباه فقد بصره أو كاد ؛ فأمر إخوته أن يذهبوا بقميصه الذي كان يلبسه حينئذ، أو بقميص في يده أحضره لهذا الغرض، وأخبرهم : أن أباه سيعود بصيرا ؛ بذهاب حزنه، وسروره بعودة يوسف، ولعل الله ألهمه ذلك أو أوحى إليه.
﴿ وأتوني بأهلكم أجمعين ﴾.
أي : الرجال والنساء والذرية والخدم وغيرهم، وقد روى : أن أهله كانوا سبعين رجلا وامرأة وولدا، دعاهم يوسف للإقامة في جواره آمنين.
المفردات :
فصلت العير : خرجت القافلة، يقال : فصل من البلد، يفصل فصولا ؛ إذا انفصل منه وجاوز حيطانه.
تفندون : تنسبونني إلى الفند وهو الخرف و فساد العقل من الهرم والشيخوخة، وفي معناه ما قاله ابن عباس : لولا أن تسفهون.
التفسير :
٩٤ ﴿ ولما فصلت العير قال أبوهم إني لأجد ريح يوسف لولا أن تفندون ﴾.
تحركت القافلة من إخوة يوسف ؛ متجهة من أرض مصر إلى العريش، في طريقها إلى بيت المقدس، وحين جاوزت العريش، وانفصلت عن حدود مصر ؛ تحركت الريح فحملت رائحة القميص إلى أنف يعقوب، وبينهما ثمانون فرسخا أو ثمانية أيام ؛ وأحس يعقوب برائحة القميص ؛ فقال لمن حوله : إني أتنسم الآن رائحة يوسف، وأثق بوجوده، وقرب لقائه، ولولا أن تنسبوني لي ضعف العقل والتخريف ؛ لقلت لكم : إن لقائي بيوسف قد اقترب.
وبعض المفسرين نسب ذلك إلى شدة إحساس يعقوب بولده ؛ فتذكر رائحة قميصه وهو صغير، أو هو سر من أسرار الروح التي تستشعر عن بعد ما يحدث مع وجود مسافات شاسعة بين الروح وبين الأمر الذي تشعر به.
وفسر آخرون الأمر على أنه : معجزة إلهية لنبي الله يعقوب عليه السلام.
قال الإمام مالك رحمه الله أوصل الله تعالى ريح قميص يوسف ليعقوب، كما أوصل عرش بلقيس إلى سليمان، قبل أن يرتد إلى سليمان طرفه.
" وعموما : علينا التسليم بما أخبره القرآن الكريم وهو حق وصدق، دون البحث في كنهه أو صفته ما دام ذلك داخلا في حيز الإمكان " ٤٤.
والمعجزة أمر خارق للعادة يظهره الله على يد مدعي الرسالة ؛ تصديقا له في دعواه، فيعقوب رسول كريم يسر الله له معرفة الواقع وهو اقتراب القميص، واقتراب لقاء يوسف عليه السلام.
ضلالك : ذهابك عن الصواب وبعدك عنه.
التفسير :
﴿ قالوا تالله إنك لفي ضلالك القديم ﴾.
قال الحاضرون حول يعقوب من أحفاده : والله إنك لا تزال في ضلالك القديم ؛ من حب يوسف، والإغراق في محبته، والاعتقاد بأنه حي يرزق، وكانوا يظنون أن يوسف قد مات.
التفسير :
٩٦ ﴿ فلما أن جاء البشير ألقاه على وجهه فارتد بصيرا... ﴾.
جاء إخوة يوسف من أرض مصر إلى أرض كنعان ببلاد الشام، وكان يهوذا هو حامل القميص ؛ أراد أن يبشر أباه بيوسف ؛ تكفيرا عن ذنبه ؛ لأنه هو الذي حمل قميصه الملطخ بدم كذب، وألقى يهوذا القميص على وجه يعقوب ؛ فعاد إلى يعقوب بصره، كأن لم يكن به ضعف أو مرض قبل ذلك.
وعودة البصر إلى يعقوب معجزة إلهية، وكان إلقاء القميص سببا ظاهريا ؛ أعاد إلى يعقوب الفرح والسرور، وللفرح والسرور آثار حسية ومعنوية لا تنكر.
من تفسير المراغى
قال الدكتور/ عبد العزيز إسماعيل باشا :
لا تتحسن أعراض مرض( الجو لكوما ) أو شدة توتر العين، أو تقف شدته إلا بالعلاج، ومنه : العمليات الجراحية، ولكن شفاء سيدنا يعقوب ؛ بوضع القميص على وجهه هو معجزة من المعجزات الخارجة عن قدرة الإنسان، وليس المهم هو القميص أو وضعه على وجهه ؛ فقد كان ذلك لتسهيل وقع المعجزة على الحاضرين فحسب، ولكن المهم هو طريقة الشفاء، وهي إرادة الله المنحصرة في( كن فيكون ) وهي خارجة عن كل السنن الطبيعية التي أمر الإنسان أن يتعلمها، فعظمة المعجزة ليست في النتيجة فحسب، ولكن في طريق الشفاء، وما أعظم إعجاز القرآن، الذي وصف حالة مرضية خاصة وبين سببها، ولم يكن يعلم العالم شيئا عن هذا المرض في ذلك الوقت، ولا بعده بزمن طويل. اه.
﴿ قال ألم أقل لكم إني أعلم من الله ما لا تعلمون ﴾.
أي : قال يعقوب لأولاده : ألم أقل لكم حين أرسلتكم إلى مصر، وقلت لكم : اذهبوا فتحسسوا من يوسف وأخيه، ونهيتكم عن اليأس من فضل الله وفرجه.
﴿ إني أعلم من الله ما لا تعلمون ﴾. أي : أعلم بوحي الله وإلهامه ؛ لا من خطرات الأوهام، ﴿ ما لا تعلمون ﴾ من حياة يوسف.
التفسير :
٩٧ ﴿ قالوا يا أبانا استغفر لنا ذنوبنا... ﴾.
طلب أولاد يعقوب من أبيهم : أن يستغفر لهم الله ؛ لأنهم أتوا جرما عظيما ؛ ترتب عليه آثار نفسية وصحية ؛ لذلك قالوا :
﴿ إنا كنا خاطئين ﴾. أي : متعمدين للجريمة في إبعاد يوسف، وادعاء : أن الذئب قد أكله.
من هدي السنة
روى البخاري في صحيحه : عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( من كانت له مظلمة لأخيه من عرضه أو شيء ؛ فليتحلله منه اليوم، قبل ألا يكون دينار ولا درهم. إن كان له عمل صالح أخذ منه بقدر مظلمته، وإن لم يكن له حسنات ؛ أخذ من سيئات صاحبه فحمل عليه )٤٥.
وهذا الحديث يرشد المسلم إذا أخطأ ؛ أن يطلب الصفح ممن أساء إليه ؛ بأن يستسمحه، أو يوصل إليه من الهدايا أو الخدمات ما يكافئ مظلمته، وعندما أحس إخوة يوسف بخطئهم ؛ طلبوا من أبيهم أن يستغفر لهم.
أي : سوف أتضرع إلى ربي ؛ لكي يغفر لكم ذنوبكم.
﴿ إنه هو الغفور الرحيم ﴾.
إنه سبحانه كثير المغفرة، كثير الرحمة لمن شاء أن يغفر له، ويرحمه من عباده.
قال الزجاج : أراد يعقوب أن يستغفر لهم في وقت السحر ؛ لأنه أخلق بإجابة الدعاء، ولم يعجل بالدعاء ؛ لعظيم جريمتهم. فأراد أن يخلص لله الدعاء، ويتحرى ساعة الإجابة ؛ شفقة على أولاده لعل الله أن يتجاوز عنهم.
وقد روى : عن ابن عباس : أن يعقوب عليه السلام أخر الدعاء إلى السحر ؛ لأن الدعاء فيه مستجاب وروى عنه أيضا : أنه أخره إلى ليلة الجمعة. وفي رواية : عن طاووس : سحر ليلة الجمعة، وجاء ذلك في حديث طويل رواه الترمذي وحسنه عن ابن عباس يرفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
ويذكر المفسرون هنا : مقارنة بين موقف يوسف، وموقف يعقوب ؛ فيوسف رد على إخوته في الحال قائلا :﴿ لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين ﴾ ؛ لأنه موقف ملك قادر، أراد أن يطمئن إخوته ؛ حتى لا يستبد بهم جزع أو هلع.
أما يعقوب فهو أب حكيم، أراد أن يؤخر الاستغفار ؛ حتى تصدق توبتهم، ويعظم ندمهم، وهو أسلوب مناسب في التربية.
المفردات :
آوى إليه أبويه : ضمهما إليه.
التفسير :
٩٩ ﴿ فلما دخلوا على يوسف آوى إليه أبويه... ﴾.
طوى القرآن الكريم ما دل عليه السياق، وهو أن إخوة يوسف بلغوا أباهم وسائر أهلهم، أن يأتوا إليه جميعا ؛ ليقيموا معه ؛ استجابة لطلبه ؛ لذلك ارتحلوا من بلاد كنعان قاصدين إلى مصر.
﴿ فلما دخلوا على يوسف ﴾. استقبلهم استقبالا كريما.
﴿ آوى إليه أبويه ﴾. أي : أباه وأمه، وقيل : أراد أباه وخالته، وكان أبوه قد تزوجها ؛ بعد وفاة أمه، والخالة بمنزلة الأم، كما أن العم بمنزلة الأب.
قيل : إن يوسف قد خرج لاستقبالهم في الطريق، في جمع حافل ؛ احتفاء بهم، ثم ضم إليه أبويه واعتنقهما.
﴿ وقال ادخلوا مصر إن شاء الله آمنين ﴾.
أي : وقال لهم : ادخلوا بلاد مصر إن شاء الله آمنين على أنفسكم وأنعامكم من الجوع والهلاك ؛ فإن سنى القحط كانت لا تزال باقية، ولا غرابة في هذه السماحة والكرم من يوسف عليه السلام ؛ فهو كريم من سلالة رسل كرماء.
روى البخاري : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :( الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم بن يعقوب ابن إسحاق بن إبراهيم )٤٦.
وتعليق دخولهم مصر آمنين بالمشيئة الإلهية ؛ للتيمن والتبرك، وللتبرؤ من حوله وقوته إلى حوله تعالى ومشيئته وفضله العظيم.
المفردات :
العرش : سرير الملك.
البدو : البادية. وأصل البدو : المبسوط من الأرض، سمي بذلك ؛ لأن ما فيه يبدو للناظر ؛ لعدم ما يواريه.
نزغ : أفسد وأغرى. وأصله : من نزغ الرائض الدابة ؛ إذا همزها وحملها على الجري.
التفسير :
١٠٠ ﴿ ورفع أبويه على العرش... ﴾.
أي : أصعد أبويه على السرير الذي يجلس عليه ؛ لتدبير أمور الملك ؛ تكرمة لهما ؛ زيادة عما فعله بإخوته.
﴿ وخروا له سجدا ﴾.
أي : أهوى أبواه وإخوته ساجدين له ؛ سجود تحية لا سجود عبادة.
قال القرطبي : وأجمع المفسرون : أن ذلك السجود على أيّ وجه كان ؛ فإنما كان تحية لا عباده، وعلى إثر هذا السجود ؛ ذكّر يوسف أباه برؤياه في صباه.
﴿ وقال يا أبت هذا تأويل رؤياي من قبل ﴾. أي : هذا السجود منكم هو العاقبة التي آلت إليها رؤياي التي رأيتها من قبل في صغري :﴿ إني رأيت أحد عشر كوكبا والشمس والقمر رأيتهم لي ساجدين ﴾.
﴿ قد جعلها ربي حقا ﴾. أي : أمرا واقعا لا ريب فيه، وقد رأيتموه الآن رأي العين ؛ فإخوتي مثال الكواكب الأحد عشر، وأبي وأمي مثال الشمس والقمر.
﴿ وقد أحسن بي ﴾. ربي إحسانا عظيما.
﴿ إذ أخرجني من السجن ﴾. معززا مكرما إلى عرش الملك والسيادة.
ولم يذكر نعمة خروجه من الجب ؛ حتى لا يجرح شعور إخوته.
﴿ وجاء بكم من البدو ﴾. معطوف على ما قبله ؛ تعدادا لنعم الله عليه. أي : وقد أحسن بي ربي حيث أخرجني من السجن، وأحسن بي أيضا ؛ حيث يسر لي جمع الشمل، وقدوم أسرتي من البادية، وشظف العيش إلى الحاظرة ؛ حيث تعيش في رغد واستقرار وأمان.
قال الزمخشري : كانوا أصحاب خيام ومواش يتنقلون في الحياة والمناجع. اه.
﴿ من بعد أن نزغ الشيطان بيني وبين إخوتي ﴾.
أي : أفسد بيننا، وحمل بعضنا على بعض. أحال يوسف ذنب إخوته على الشيطان ؛ تكرما منه وتأدبا.
﴿ إن ربي لطيف لما يشاء ﴾.
أي : لطيف التدبير لما يشاؤه، حتى يجئ على وجه الحكمة والصواب، فإذا أراد أمرا ؛ هيأ له أسبابه وقدره ويسره، وإن كان في غاية البعد عما يخطر بالبال، فمن ذا الذي كان يدور بخلده أن الإلقاء في الجب يعقبه الرق، ويتلو الرق فتنة العشق، ومن أجله يزج في غيابات السجن، ثم إلى السيادة والملك.
﴿ إنه هو العليم ﴾. بمصالح عباده ؛ فلا تخفى عليه مبادئ الأمور وغايتها، ﴿ الحكيم ﴾. الذي يجعل الأمور على وجه الحكمة والمصلحة ؛ فيجازي الذين أحسنوا بالحسنى، ويجعل العاقبة للمتقين.
المفردات :
تأويل الأحاديث : تفسير ما غمض منها. والمراد هنا : تفسير الأحلام.
فاطر السماوات والأرض : خالقهما على غير مثال سابق.
وليي : ناصري ومعيني.
التفسير :
أنعم الله تعالى على يوسف بالعديد من النعم، وجعل له من كل شدة فرجا، ومن كل هم مخرجا.
من ذلك : إلقاؤه في الجب، تعلق زليخا به، ودخوله السجن.
ثم نجاه الله من السجن، وجعله على خزائن الأرض ؛ فاتجه إلى ربه تعالى بالدعاء قائلا :
١٠١ ﴿ رب قد آتيتني من الملك وعلمتني من تأويل الأحاديث... ﴾.
أي : يا إلهي يا خالق السماوات والأرض، قد أعطيتني من الملك التنفيذي الفعلي، وإن الاسم لغيري، إلا أن التنفيذ الفعلي في الأمور صار بتوجيهي وعملي، وعلمتني تفسير الرؤيا، وشرح الأحلام الغامضة، ﴿ فاطر السماوات والأرض أنت ولي في الدنيا والآخرة ﴾.
يا خالق السماوات والأرض على غير مثال سابق ؛ فكان الكون كله على هذا النحو البديع المتكامل، بما فيه من سماء وأرض وجبال وبحار وهواء وشمس وقمر ؛ ﴿ وكل في فلك يسبحون ﴾. ( يس : ٤٠ ).
إنك متولي أموري ومتكفل بها، أو أنت موال لي وناصري على من عاداني وأرادني بسوء.
﴿ توفني مسلما وألحقني بالصالحين ﴾.
اختم لي حياتي على الإسلام والإيمان، وثبتني على الإسلام في حياتي، ثم ألحقني يا رب بالصالحين من عبادك.
وفي هذه الآية يختم يوسف قصته بدعاء مخلص يرجو ربه أن يثبته على الإيمان والإسلام حتى الموت، وأن يكتب له درجة الصلاح ويلحقه بالصالحين من آبائه، وبالصالحين من المسلمين وفيه دليل على منزلة الصلاح، وأنها منزلة يتطلع إليها الأنبياء والمرسلون. قال تعالى :﴿ ونبيا من الصالحين ﴾. ( آل عمران : ٣٩ ).
المفردات :
أجمعوا أمرهم : أحكموا تدبيرهم.
يمكرون : يتآمرون ويحتالون.
التفسير :
١٠٢ ﴿ ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك وما كنت لديهم إذ أجمعوا أمرهم وهم يمكرون ﴾.
هذا تعقيب من الحق سبحانه على قصة يوسف عليه السلام، والتفات إلى رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم ؛ يواسيه ويشد أزره فيقول له : هذه قصة يوسف، من أخبار الوحي والغيب ؛ أعلمناك بها بطريق الوحي، وأنت لم تكن مشاهدا لإخوته حين دبروا أمرهم، وأحكموا مكرهم على إلقائه في الجب، وإبعاده عن أبيه.
وما كان لك علم بما في هذه القصة من رحلة يوسف إلى مصر، وفتنة امرأة العزيز به، ودخوله السجن، ثم خروجه من السجن ملكا عزيزا متصرفا، أي : لم تشاهد شيئا من قصة يوسف، وما كنت تعلمها إلا بطريق الوحي.
شبه الجاحدين على الوحي
ادعى بعض الجاحدين على الوحي : أن محمدا كان شديد الذكاء، قوي الفراسة، له قدرة على التخيل، فصاغ هذا القرآن من عند نفسه، ونسبه إلى الله تعالى.
ونقول لهؤلاء :
القرآن فيه أخبار وقصص وردود في غاية الصدق، وفيه أرقام عن أهل الكهف، وعن بدء الخليقة لا ينفع فيها الذكاء، وفيه إخبار بالغيب في سورة الروم وغيرها، وفيه معلومات علمية عن الكون والسماء والأرض، لم تصطدم بالعلم، بل كلما تقدم العلم ؛ كلما أكد وأيد ما في كتاب الله.
قال تعالى :﴿ سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق ﴾. ( فصلت : ٥٣ ).
ونبي الله محمد لم يكن مصاحبا ليوسف حتى يحكي قصته بهذا الصدق، ولم يكن مصاحبا لموسى، أو لنوح ؛ أو لشعيب مع أهل مدين، حتى يحكي قصص هؤلاء بصورة كانت أصلا لأحكام المؤرخين.
قال تعالى :﴿ وما كنت بجانب الطور إذ نادينا... ﴾( القصص : ٤٦ )، وقال سبحانه :﴿ وما كنت ثاويا في أهل مدين تتلوا عليهم آياتنا ولكنا كنا مرسلين ﴾. ( القصص : ٤٥ ).
وخلاصة هذا : أن الله هو الذي أطلع رسوله على أنباء ما سبق ؛ ليكون فيها عبرة للناس في دينهم ودنياهم.
التفسير :
١٠٣ ﴿ وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين ﴾.
سبب النزول :
جاء في تفسير الفخر الرازي والآلوسي وغيرهم ما يأتي :
سألت قريش واليهود رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قصة يوسف ؛ فنزلت مشروحة شرحا وافيا، فأمل رسول الله صلى الله عليه وسلم في إسلامهم، لكنهم أصروا على كفرهم ؛ فحزن الرسول صلى الله عليه وسلم لذلك ؛ فنزلت هذه الآيات تواسيه.
والمعنى : وما أكثر مشركي قومك، ولو حرصت على أن يؤمنوا بك، ويتبعوا ما جئتهم به من عند ربك، بمصدقيك ولا متبعيك، أو أن هذه الظاهرة هي طبيعة معظم الناس، لا أهل مكة وحدهم ؛ فعليك أيها الرسول أن تتسلى عنهم، وأن تصبر على أذاهم ؛ لأن الهدى هدى الله، قال تعالى :﴿ ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين ﴾. ( يونس : ٩٩ ).
وقال سبحانه :﴿ ليس عليك هداهم ﴾. ( البقرة : ٢٧٢ )، ﴿ فلا تذهب نفسك عليهم حسرات ﴾. ( فاطر : ٨ ). ﴿ ولا يحزنك قولهم ﴾. ( يونس : ٦٥ ). ﴿ إن عليك إلا البلاغ ﴾. ( الشورى : ٤٨ ).
أي : أنك لا تطلب منهم أجرا على تبليغ الرسالة، ولا تطلب منهم مالا ولا منفعة، وإنما تبلغ الرسالة ؛ ابتغاء مرضاة الله ؛ فكان الواجب أن يتأملوا في ذلك، وأن يعلموا أنك لا تقصد من وراء تبليغ الرسالة مالا ولا أي مطلب دنيوي، وإنما تحمل رسالة الله إلى خلقه ؛ لتذكرهم بما يجب عليهم نحوه، وفي قوله تعالى : إن هو إلا ذكر للعالمين. إشارة إلى عموم الرسالة المحمدية وأنها هداية للبشرية جمعاء، قال تعالى :﴿ ولتعلمن نبأه بعد حين ﴾. ( ص : ٨٨ )، وفعلا كان لهذا القرآن شأن أي شأن، في قيام الدولة، ونشر الهداية وانتصار الحق، وبلوغ هذا الدين المشارق والمغارب.
المفردات :
وكأين من آية : وكم من علامة دالة على وجود الصانع ووحدته وقدرته وسائر صفاته.
معرضون : منصرفون.
التفسير :
١٠٥ ﴿ وكأين من آية في السماوات والأرض يمرون عليها وهم عنها معرضون ﴾.
كثير من الآيات الدالة على قدرة الله وعظمته، وجليل فضله ونعمه، يمر عليها هؤلاء المشركون فلا يتعظون ولا يتأملون، فالسماء والأرض، والجبال والبحار، والليل والنهار، والشمس والقمر، والنبات والإنسان والحيوان، وكل ما في هذا الكون البديع يشهد بقدرة القادر، وعظمة الصانع، ولكنهم يشغلهم الإلف والعادة وغشاوة القلب، فلا يتأملون ولا يتدبرون، ولا تهتز قلوبهم لبديع صنع الله، في شروق الشمس، أو طلوع البدر، أو هطول المطر، أو حدوث الرعد والبرق، أو ارتفاع السماء، ووجود النجوم والمجرات والأفلاك بها، أو انبساط الأرض، ووجود البحار والأنهار والجبال والنبات والإنسان والحيوان عليها.
تحذر هذه الآية من الشرك بجميع أنواعه، وتدعو إلى الإيمان بالله خالصا نقيا.
والمعنى : وما يؤمن أكثر أهل مكة بالله إلا إيمانا مشوبا بالشرك ؛ من حيث اعتقادهم : أن الأصنام تنفعهم، أو تقربهم إلى الله زلفى.
قال ابن عباس : هم أهل مكة آمنوا وأشركوا، وكانوا يقولون في تلبيتهم :" لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك، إلا شريكا هو لك، تملكه وما ملك "، وهذا هو الشرك الأعظم.
وفي الصحيحين : عن ابن مسعود : قلت : يا رسول الله، أي الذنب أعظم ؟ !، قال :( أن تجعل لله ندا، وهو خلقك )٤٧.
وقد بين ابن القيم في إغاثة اللهفان، ما خلاصته :
أن الشيطان يزين للناس زيارة القبور، ويوحي لهم : أن الدعاء عندها مستجاب، ثم يسأل أصحاب القبور الشفاعة والوسيلة، ثم يتخذ القبور عيدا تعلق عليها القناديل والستور، ويطاف بها ويذبح عندها، ويحج إليها، ويعتبر ذلك عبادة ومنسكا، مع أن دين الإسلام جاء بإخلاص العبادة لله وحده، والنهي عن جميع مظاهر الشرك٤٨.
غاشية : كارثة كبرى تغمرهم.
الساعة : القيامة.
بغتة : فجأة دون توقع أو انتظار.
التفسير :
﴿ أفأمنوا أن تأتيهم غاشية من عذاب الله... ﴾.
تأتي هذه الآية ؛ تهديدا ووعيدا للمشركين ؛ بأن الله قادر أن ينزل عليهم عذابا يغشاهم ويعمهم، فهل أمنوا أن ينزل الله عليهم صاعقة من العذاب، مثل : الشهب والنيازك، أو الزلازل والبراكين، وكل أسباب الموت ؟ !.
﴿ أو تأتيهم الساعة بغتة وهم لا يشعرون ﴾.
وهل أمنوا أن تأتيهم الساعة فجأة من حيث لا يتوقعون، وهم مقيمون على شركهم فيكون جزاؤهم جهنم وبئس المصير، وهذه الآية كقوله تعالى :﴿ أفأمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا بياتا وهم نائمون* أو أمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا ضحى وهم يلعبون* أفأمنوا مكر الله فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون ﴾. ( الأعراف : ٩٧ ٩٩ ).
والآيات نداء جهر : أن تنبهوا، أفيقوا، قبل أن تفاجئكم القيامة، أو قبل أن ينزل بكم عذاب الله ؛ فإنه يأتي فجأة، ولا يعصمكم منه إلا الإيمان بالله وامتثال أمره، واجتناب ما نهى عنه !.
المفردات :
سبيلي : طريقي وطريقتي.
على بصيرة : على يقين ناشئ من وحي الله وآياته وحججه.
التفسير :
١٠٨ ﴿ قل هذه سبيلي أدعوا إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني... ﴾.
أي : قل يا محمد، لهؤلاء المشركين، وللناس أجمعين : هذه رسالتي وطريقتي، والدعوة التي أدعو إليها، وهي شهادة ألا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله أدعوا إليها على يقين وحجة واضحة قاطعة وبرهان. أنا أدعو لهذه الدعوة، ويدعو إليها كل من آمن بها واتبعني وآمن بدعوتي وصدق برسالتي، ﴿ وسبحان الله ﴾. أي : أنا أنزه الله عن أن يكون له شريك، أو نظير، أو صاحبة، أو وزير، أو مشير، تقدس الله وتعالى علوا كبيرا.
﴿ وما أنا من المشركين ﴾. فلا أشرك بعبادة الله أي معبود ؛ بل إني أخلص العبادة لوجهه، قال تعالى :﴿ وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين ﴾. ( البينة : ٥ ).
التفسير :
١٠٩ ﴿ وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم من أهل القرى... ﴾.
تمهيد :
تختم سورة يوسف بهذه الآيات الأخيرة من السورة ؛ تعقيبا على سورة يوسف وقصته، التي هي محل العظة والاعتبار في ألوان متعددة، منها : إلقاؤه في الجب، ثم صيرورته في بيت العزيز، ثم تعرضه للفتنة والامتحان، ونجاحه وسلامته، ثم إلقاؤه في السجن، وتفسيره للرؤيا، ثم انتقاله وزيرا مطلق اليد، ونجاحه في إدارة أمور البلاد، وتسامحه مع إخوته، وتعظيمه أبويه، وأخيرا تحقيق الرؤيا التي رآها يوسف.
ومعنى الآية :
إن هؤلاء الرسل الذين أرسلناهم برسالة السماء، كانوا رجالا من البشر تميزوا باختيار الله لهم ؛ لحمل رسالته :﴿ الله أعلم حيث يجعل رسالته ﴾. ( الأنعام : ١٢٤ )، كما شرفهم الله بالوحي إليهم، فلم يكونوا ملائكة، وإنما كانوا رجالا في البشر نزل عليهم الوحي، قال تعالى :﴿ قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إليّ ﴾. ( فصلت : ٦ )، وقوله سبحانه :﴿ وما أرسلنا قبلك من المرسلين إلا إنهم ليأكلون الطعام ويمشون في الأسواق ﴾. ( الفرقان : ٢٠ ).
﴿ من أهل القرى ﴾. أي : من أهل المدن، والبلاد العامرة الكثيرة المباني، لا من أهل البادية ؛ فهم في العادة أهل جفاء وغلظة، على حد قوله تعالى :﴿ الأعراب أشد كفرا ونفاقا وأجدر ألا يعلموا حدود ما أنزل الله على رسوله والله عليم حكيم ﴾. ( التوبة : ٩٧ ).
جاء في تفسير القاسمي :
والقرى : جمع قرية وهو على ما في( القاموس ) : المصر الجامع، وفي( كفاية المتحفظ ) : القرية : كل ما اتصلت به الأبنية، واتخذ قرارا، وتقع على المدن وغيرها. اه.
قال ابن كثير :
والمراد بالقرى هنا : المدن، أي : لا أنهم من أهل البوادي الذين هم أجفى الناس طباعا وأخلاقا، وهذا هو المعهود المعروف : أن أهل المدن أرق طباعا، ألطف من أهل بواديهم، وأهل الريف والسواد أقرب حالا من الذين يسكنون في البوادي، ولهذا قال تعالى :﴿ الأعراب أشد كفرا ونفاقا... ﴾ الآية. قال قتادة : إنما كانوا من أهل القرى ؛ لأنهم أعلم وأحلم من أهل العمود. ٤٩.
ونقل عن الحسن أنه قال :" لم يبعث رسول من أهل البادية ولا من النساء ولا من الجن " ٥٠.
﴿ أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم ﴾.
أفلم يعتبروا بسنن الله في الخلق، ويسيروا في الأرض بأجسامهم أو بعقولهم وأفكارهم، فيتأملوا وينظروا :﴿ كيف كان عاقبة الذين من قبلهم ﴾. أي : من المكذبين من أمثال فرعون وهامان وعاد وثمود كيف أهلك الله الكافرين ونجى المؤمنين. والاستفهام هنا ؛ للتقريع والتوبيخ، وفيه حث على النظر والتدبر والتفكر ؛ ليكون ذلك سبيلا إلى الهداية.
﴿ ولدار الآخرة خير للذين اتقوا أفلا تعقلون ﴾.
أي : إن العبرة التي يستخلصها العقلاء من وقوفهم على هلاك الظالمين ونجاة المؤمنين : أن الدنيا متاع قليل، وأن الآخرة هي الحياة الدائمة للذين اتقوا ربهم وتزودوا لهذه الدار بالعمل الصالح.
﴿ أفلا تعقلون ﴾. أفلا تستخدمون عقولكم ؛ فتدركون أن الإيمان أبقى وأنفع، وفيه تقريع وتوبيخ لهؤلاء المشركين الضالين، الذي عطلوا عقولهم ؛ فلم يهتدوا بها إلى خير، ولم يتعرفوا بها على حق، وذلك هو الخسران المبين.
المفردات :
استيأس الرسل : أغرقوا في اليأس والقنوط.
وظنوا أنهم قد كذبوا : أي : رجح عندهم أن نفوسهم حدثتهم بالنصر، وكانت كاذبة في حديثها.
بأسنا : عذابنا.
التفسير :
١١٠ ﴿ حتى إذا استيأس الرسل وظنوا أنهم قد كذبوا جاءهم نصرنا فنجي من نشاء ولا يرد بأسنا عن القوم المجرمين ﴾.
في هذه الآية بشارة بالنصر مهما طال جهاد المرسلين، ومهما تعاقبت ظلمات من طول الجهاد وتأخر النصر، حتى وصلت النفوس إلى لحظات من الشك في النصر، وهذه كناية عن المرحلة الحرجة التي تطيف بالنفوس، عندما يطول ليل الظلام، وتتأخر بوارق النصر ؛ فيتسرب اليأس إلى النفوس، وتطيف بها لحظات من اليأس، أو ضعف الأمل في اقتراب النصر، عبر عنه بقبوله.
﴿ وظنوا أنهم قد كذبوا ﴾. أي : كذبتهم نفوسهم، حيث استيقنت بالنصر وتأملت طويلا حدوثه أو تأخر النصر بسبب من جهة أنفسهم، وظنت الرسل أنهم قد كذبوا، حين وعدوا بالنصر، وتأخر النصر حتى ظنوا أن تقصيرهم وقع منهم تسبب في تأخير النصر.
جاء في التفسير القرآني للقرآن :
" وهكذا يظل الرسل في متلاطم الشدائد والمحن، حتى لقد يدخل اليأس عليهم، وتغيم الحياة في أعينهم، ويغم عليهم طريق النجاة، ويخيل إليهم أن النصر أبعد ما يكون منهم ؛ عندئذ تهب ريح النصر، وتطلع عليهم تباشير الصباح، فتطوى جحافل الظلام وتطارد فلوله، وإذا دولة الباطل قد ذهبت، وإذا راية الحق قد علت، وفي هذا تسلية للنبي الكريم، وشحذ لعزيمته، قال تعالى :﴿ كتب الله لأغلبن أنا ورسلي إن الله قوي عزيز ﴾. ( المجادلة : ٢١ ).
وليس في استيئاس الرسل، وفي إطافة الظنون بهم ليس في هذا ما ينقص من قدر الرسل، فهم على يقين راسخ بما وعدهم الله به.
ولكن هناك مواقف حادة من الضيق، وأحوال بالغة من الشدة تأخذ على الإنسان تقديره وتدبيره، عندئذ وللحظة عابرة عبور الطيف، يخون الإنسان يقينه، ويفلت منه زمام أمره، ثم يعود إلى موقفه، أشد تثبتا، وأقوى يقينا وأرسخ قدما.
فتلك الحال التي تمثل الرسل في هذا الموقف، هي القمة التي تنتهي عندها طاقة الاحتمال البشري، في مصادمة الأحداث، ومدافعة الأهوال والشدائد، وهي قمة لا يبلغها إلا أولوا العزم من رسل الله٥١.
وجاء في زاد الميسر لابن الجوزي :
قوله تعالى :﴿ حتى إذا استيأس الرسل ﴾، المعنى متعلق بالآية الأولى فتقديره :﴿ وما أرسلناك من قبلك إلا رجالا ﴾. أي : فدعوا قومهم، فكذبوهم، وصبروا وطال دعاؤهم، وتكذيب قومهم.
﴿ حتى إذا استيأس الرسل ﴾، وفيه قولان :
أحدهما : استيأسوا من تصديق قولهم، قاله ابن عباس.
والثاني : من أن نعذب قومهم، قاله مجاهد٥٢.
﴿ وظنوا أنهم قد كذبوا ﴾. توهموا أن نفوسهم كذبت عليهم، حين توقعت النصر على من كفر بهم، وعقابهم في الدنيا حتى إذا حدث كل ذلك ﴿ جاءهم نصرنا فنجي من نشاء ولا يراد بأسنا عن القوم المجرمين ﴾. أي : جاء نصر الله فجأة.
﴿ فنجي من نشاء ﴾. وهم النبي والمؤمنون، وحل العقاب والعذاب بالمكذبين الكافرين.
﴿ ولا يرد بأسنا عن القوم المجرمين ﴾. ولا يمنع أحد عذاب الله عن القوم الذين أجرموا، فكفروا بالله وكذبوا رسله ؛ فاعتبروا يا أهل مكة بسنن الله فيمن كان قبلكم، واحذروا أن يحل بكم ما حل بهم، فإن الله ينصر رسله ولو بعد حين.
قراءة : كذبوا
وردت قراءة أخرى بتشديد الذال عن عائشة، والمعنى : وأيقنت الرسل : أن الأمم كذبوهم تكذيبا، لا يصدر منهم الإيمان بعد ذلك ؛ فحينئذ دعوا عليهم، فهنالك أنزل الله سبحانه عليهم عذاب الاستئصال.
ويجوز أن يكون المعنى : حتى إذا استيأس الرسل من إيمان قومهم ؛ فظن الرسل أن الذين آمنوا بهم كذبوهم، روى البخاري : عن عائشة رضي الله عنها، أنها قالت لابن أختها عروة بن الزبير، وهو يسألها عن قوله تعالى :﴿ حتى إذا استيئس الرسل... ﴾ الآية : معاذ الله ! لم تكن الرسل تظن ذلك بربها، وهم أتباع الرسل الذين آمنوا بربهم، وصدقوهم، فطال عليهم البلاء، واستأخر عنهم النصر، حتى إذا استيأس الرسل ممن كذبهم من قومهم، وظنت الرسل أن أتباعهم قد كذبوهم، جاءهم نصر الله عند ذلك.
من تفسير روح المعاني للآلوسى :
" فالاعتقاد المرجوح هو ظن، وهو وهم، وهذا قد يكون ذنبا يضعف الإيمان ولا يزيله، وقد يكون حديث النفس المعفو عنه، كما قال صلى الله عليه وسلم :( إن الله تعالى تجاوز لأمتي عما حدثت به أنفسها ؛ ما لم تتكلم أو تعمل )٥٣. ونظير هذا ما صح من قوله صلى الله عليه وسلم :( نحن أولى بالشك من إبراهيم ؛ إذ قال له ربه :﴿ أو لم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي ﴾ )٥٤.
وعلى هذا يقال : الوعد بالنصر في الدنيا لشخص، قد يكون الشخص مؤمنا بإنجازه، ولكن قد يضطرب قلبه فيه فلا يطمئن ؛ فيكون فوات الاطمئنان ظنا أنه كذب ؛ فالشك والظن أنه كذب من باب واحد، وهذه الأمور لا تقدح في الإيمان الواجب، وإن كان فيها ما هو ذنب ؛ فالأنبياء عليهم السلام معصومون من الإقرار على ذلك، كما في أفعالهم، على ما عرف من أصول السنة والحديث٥٥.
" وفي قص مثل ذلك ؛ عبرة للمؤمنين بهم ؛ فإنهم لا بد أن يبتلوا بما هو أكثر من ذلك فلا ييأسوا إذا ابتلوا، ويعلمون أنه قد ابتلي من هو خير منهم، وكانت العاقبة إلى خير ؛ فيتيقن المرتاب، ويتوب المذنب، ويقوى إيمان المؤمن، وبذلك يصح الإتساء بالأنبياء٥٦ ومن هنا قال سبحانه :﴿ لقد كان في قصصهم عبرة ﴾.
من تفسير القاسمي :
قال أبو نصر القشيري :﴿ وظنوا أنهم قد كذبوا ﴾. لا يبعد أن المراد : خطر بقلب الرسل فصرفوه عن أنفسهم، أو المعنى : قربوا من الظن، كما يقال : بلغت المنزل إذا قربت منه.
وقال الترمذي الحكيم : وجهه : أن الرسل كانت تخاف بعد أن وعدهم الله بالنصر ؛ أن يتخلف النصر، لا من تهمة بوعد الله، بل لتهمة النفوس أن تكون قد أحدثت حدثا ينقض ذلك الشرط، فكان الأمر إذا طال واشتد البلاء عليهم ؛ دخلهم الظن من هذه الجهة٥٧.
الابتلاء في القرآن والسنة
لقد ورد في معنى هذه الآية طائفة من الآيات والأحاديث والآثار، تتلاقى مع الآية في أن الله يمتحن الرسل والأنبياء والأولياء.
قال تعالى :﴿ أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله ألا إن نصر الله قريب ﴾. ( البقرة : ٢١٤ ).
وقال سبحانه :﴿ الم* أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون* ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين ﴾. ( العنكبوت : ١ ٣ ).
وقال صلى الله عليه وسلم :( ما يصيب المؤمن من هم ولا حزن ولا وصب ولا تعب حتى الشوكة يشاكها ؛ إلا كفر الله بها من خطاياه )٥٨. رواه البخاري.
وقال صلى الله عليه وسلم :( أشدكم بلاء الأنبياء، ثم الأولياء، ثم الأمثل، فالأمثل، ولا يزال البلاء يصيب المؤمن حتى يمشي على الأرض وما عليه خطيئة )٥٩.
وقال صلى الله عليه وسلم :( إنما الصبر عند الصدمة الأولى )٦٠.
وقال تعالى :﴿ ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات وبشر الصابرين ﴾( البقرة : ١٥٥ ).
في أعقاب الآية
تظل هذه الآية منارا لبيان سنة الله في الدعوات، لابد من الشدائد، ولابد من الكروب ؛ حتى لا تبقى بقية من جهد، ولا بقية من طاقة، ثم يجئ النصر بعد اليأس من كل أسبابه الظاهرة التي يتعلق بها الناس...
يجب أن يستيقن الدعاة أن الدعوة إلى الله كثيرة التكاليف.. وفي قصة يوسف ألوان من الشدائد : في الجب، وفي بيت العزيز، وفي السجن، وألوان من الاستيئاس من نصرة الناس، ثم كانت العاقبة خيرا للذين اتقوا، كما هو وعد الله الصادق الذي لا يخيب٦١.
المفردات :
عبرة : عظة.
لأولي الألباب : لأصحاب العقول.
يفترى : يخترع ويلفق.
بين يديه : ما تقدم عليه.
التفسير :
١١١ ﴿ لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب... ﴾.
تأتي هذه الآية في ختام سورة يوسف ؛ فتبرز الهدف من ذكر هذه القصة فتقول : لقد كان في ذكر قصص الرسل والأنبياء عبرة وعظة لأصحاب العقول ؛ حيث تعرض يوسف لألوان من البلاء فصبر وتمسك بالتقوى ؛ وكان جزاء ذلك الفلاح في الدنيا، والنجاة في الآخرة.
﴿ ما كان حديثا يفترى ﴾.
أي : ما كان هذا القرآن حديثا يختلق ويكذب من دون الله ؛ لأنه كلام أعجز رواة الأخبار، وحملة الأحاديث، وإنما هو كلام الله من طريق الوحي والتنزيل، المشتمل على العقائد والأخلاق، وقصص الأمم الخالية في أعلا درجات الفصاحة والبلاغة، وذلك كله فوق طاقة الإنس والجن.
قال تعالى :﴿ قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا ﴾. ( الإسراء : ٨٨ ).
﴿ ولكن تصديق الذي بين يديه ﴾.
جاء القرآن مصدقا للكتب السماوية التي سبقته، كالتوراة والإنجيل والزبور، أي : تصديق ما جاء فيها من الصحيح والحق، ونفى ما وقع فيها من تحريف وتبديل وتغيير، فهو مصدق أصولها الصحيحة ومبين ما وقع فيها من اختلاف.
قال تعالى :﴿ إن هذا القرآن يقص على بني إسرائيل أكثر الذي هم فيه يختلفون ﴾. ( النمل : ٧٦ ).
﴿ وتفصيل كل شيء ﴾.
والقرآن أيضا فيه تفصيل كل شيء من الحلال والحرام، والمحبوب والمكروه، والأمر والنهي، والوعد والوعيد، وصفات الله الحسنى، وقصص الأنبياء.
﴿ وهدى ورحمة لقوم يؤمنون ﴾.
أي : هداية للناس من الضلال والحيرة، ورحمة لقوم يؤمنون به ويسلكون سبيله، ويهتدون بهديه.
قال الحافظ ابن كثير في تفسيره :
" وتفصيل كل شيء من تحليل وتحريم، ومحبوب ومكروه، وغير ذلك من الأمر بالطاعات، والواجبات والمستحبات، والنهي عن المحرمات، وما شاكلها من المكروهات، والإخبار عن الأمور الجلية، وعن الغيوب المجملة والتفصيلية، والإخبار عن الرب تبارك وتعالى بالأسماء والصفات، وتنزهه عن مماثلة المخلوقات ؛ فلهذا كان :﴿ هدى ورحمة لقوم يؤمنون ﴾.
تهتدي به قلوبهم من الغي إلى الرشاد، ومن الضلال إلى السداد، ويبتغون به الرحمة من رب العباد في هذه الحياة الدنيا ويوم المعاد " ٦٢.