بسم الله الرحمن الرحيم
١٢- سورة يوسفسميت به، لأنه معظم قصته مذكورة فيها، ومعظم ما فيها قصته.
قال الشهاب : لما ختمت السورة التي قبلها بقوله١ :﴿ وكلا نقص عليك من أنباء الرسل ﴾، ذكرت هذه بعدها، لأنها من أنبائهم. وقد ذكر أولا ما لقي الأنبياء عليهم السلام من قومهم، وذكر في هذه ما لقي يوسف من إخوته، ليعلم ما قاسوه من أذى الأجانب والأقارب، فبينهما أتم المناسبة. والمقصود تسلية النبي صلى الله عليه وسلم بما لاقاه من أذى القريب والبعيد. انتهى.
و ( يوسف ) اسم عبراني، تعريبه يزيد، أو زيادة. وذلك لما روي أن أمه ( راحيل ) كانت قعدت عن الحمل مدة، ولحقها الحزن تلقاء ضراتها الوالدات. ولما وهبها تعالى، بعد سنين، ولدا سمته ( يوسف ) وقالت : يزيدني به ربي ولدا آخر.
وهذه السورة مكية اتفاقا، وآياتها مائة وإحدى عشرة بلا خلاف.
وقد روى البيهقي في ( الدلائل ) أن طائفة من اليهود، حين سمعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يتلو هذه السورة، أسلموا لموافقتها ما عندهم.
ﰡ
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ (١)الر تقدم الكلام على مثله، وأنها إما حروف مسرودة على نمط التعديد، والإشارة في قوله: تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ إلى آيات السورة، نزّل ما بعده، لكونه مترقبا، منزلة المتقدم. والإشارة بالبعيد لعظمته، وبعد مرتبته. وإما اسم للسورة، والإشارة في (تلك) إليها. والمراد ب (الكتاب) السورة لأنه بمعنى المكتوب، فيطلق عليها. أو القرآن، لأنه كما يطلق على كله، يطلق على بعضه. و (المبين) بمعنى الظاهر أمرها وإعجازها، إن أخذ من (بان) لازما بمعنى ظهر وإن أخذ من المتعدي فالمفعول مقدّر، أي أنها من عند الله تعالى.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة يوسف (١٢) : آية ٢]
إِنَّا أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (٢)
إِنَّا أَنْزَلْناهُ أي الكتاب المنعوت بما ذكر قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ أي لكي تفهموه، وتحيطوا بمعانيه، ولا يلتبس عليكم. كما قال تعالى: وَلَوْ جَعَلْناهُ قُرْآناً أَعْجَمِيًّا لَقالُوا لَوْلا فُصِّلَتْ آياتُهُ [فصلت: ٤٤]، أو لتستعملوا فيه عقولكم، فتعلموا أن اقتصاصه كذلك، ممن لم يتعلم القصص، معجز، لا يمكن إلا بالإيحاء.
أو لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ بإنزاله عربيا، ما تضمن من المعاني والأسرار، التي لا يتضمنها ولا يحتملها غيرها من اللغات وذلك لأن لغة العرب أفصح اللغات وأبينها وأوسعها، وأكثرها تأدية للمعاني التي تقوم بالنفوس. قال بعضهم: نزل أشرف الكتب، بأشرف اللغات، على أشرف الرسل، بسفارة أشرف الملائكة، وكان ذلك في أشرف بقاع الأرض، وفي أشرف شهور السنة، وهو رمضان، فكمل له الشرف من كل الوجوه.
نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِما أَوْحَيْنا إِلَيْكَ هذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغافِلِينَ (٣)
نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ أي أبدعه طريقة، وأعجبه أسلوبا، وأصدقه أخبارا، وأجمعه حكما وعبرا بِما أَوْحَيْنا إِلَيْكَ أي بإيحائنا إليك هذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغافِلِينَ أي عنه، لم يخطر ببالك. والتعبير عن عدم العلم بالغفلة لإجلال شأن النبيّ صلى الله عليه وسلم. وقد جوز في هذا أن يكون مفعول نقص، على أن (أحسن) نصب على المصدر. وأن يكون مفعول (أوحينا) على أن مفعول نقص (أحسن) أو محذوف. وأن يكون بدلا من (ما) على أنها موصولة أو خبر محذوف كذلك.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة يوسف (١٢) : آية ٤]
إِذْ قالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ (٤)
إِذْ قالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يعني يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليه السلام.
والظرف بدل من المفعول قبله بدل اشتمال، أو مفعول لمحذوف. يا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ إنما ناجى يوسف أباه بهذه الرؤيا، لاعتقاده كمال علمه، وشفقته عليه، بحيث لو كانت رؤياه تسوءه لأمكنه صرفها عنه.
قال القاشانيّ: هذه من المنامات التي تحتاج إلى تعبير، لانتقال المتخيّلة من النفوس الشريفة التي عرض على النفس من الغيب سجودها له، إلى الكواكب والشمس والقمر، وما كانت في نفس الأمر إلا أبويه وإخوته. (يا أبت) أصله يا أبي، فعوض عن الياء تاء التأنيث لتناسبهما في الزيادة، وكسرها لأنه عوض عن حرف يناسبها. وقرئ بفتحها لأنها حركة أصلها، أو لأنه كان (يا أبتا) فحذف الألف، وبقي الفتحة. وقرئ بالضم إجراء لها مجرى الأسماء المؤنثة بالتاء، من غير اعتبار التعويض.
وقوله: (رأيتهم) استئناف لبيان حالهم التي رآهم عليها، فلا تكرير: أو تأكيد للأولى تطرية لطول العهد، كما في قوله: أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُراباً وَعِظاماً أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ [المؤمنون: ٣٥]، وإنّما أجريت مجرى العقلاء في ضميرهم وجمع صفتهم جمعا سالما، لوصفها بوصفهم، وهو السجود.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة يوسف (١٢) : آية ٥]
قالَ يا بُنَيَّ لا تَقْصُصْ رُؤْياكَ عَلى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً إِنَّ الشَّيْطانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ (٥)
قالَ يا بُنَيَّ صغره لصغر سنه، وللشفقة عليه، ولعذوبة المصغّر، لا تَقْصُصْ رُؤْياكَ عَلى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً أي فيفعلوا لأجلك أو لإهلاكك تحيلا عظيما متلفا لك. إِنَّ الشَّيْطانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ أي ظاهر العداوة، فلا يألو جهدا في إغواء إخوتك وحملهم على ما لا خير فيه.
قال القاشانيّ: هذا النهي من الإلهامات المجملة، فإنه قد يلوح صورة الغيب من المجردات الروحانية في الروح، ويصل أثره إلى القلب، ولا يتشخص في النفس مفصلا، حتى يقع العلم به كما هو، فيقع في النفس منه خوف واحتراز إن كان مكروها، وفرح وسرور إن كان مرغوبا. ويسمى هذا النوع من الإلهام، إنذارات وبشارات فخاف، عليه السلام، من وقوع ما وقع قبل وقوعه، فنهاه عن إخبارهم برؤياه احترازا، ويجوز أن يكون احترازه كان من جهة دلالة الرؤيا على شرفه وكرامته، وزيادة قدره على إخوته، فخاف من حسدهم عليه عند شعورهم بذلك. انتهى.
تنبيه:
قال السيوطيّ في (الإكليل). قال الكيا: هذا يدل على جواز ترك إظهار النعمة لمن يخشى منه حسد ومكروه.
وقال ابن العربيّ: فيه حكم بالعادة أن الإخوة والقرابة يحسدون. قال: وفيه أن يعقوب عرف تأويل الرؤيا ولم يبال بذلك، فإن الرجل يودّ أن يكون ولده خيرا منه، والأخ لا يود ذلك لأخيه.
وقال بعض المفسرين اليمانين: قال الحاكم: هذا يدل على أنه يجب في بعض الأوقات إخفاء فضيلة، تحرزا من الحسود. وهذا داخل في قولنا: إن الحسن إذا كان سببا للقبيح قبح. ومنه آية الأنعام: وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ [الأنعام: ١٠٨].
إني لأكتم من علمي جواهره | كي لا يرى الحقّ ذو جهل فيفتتنا |
ومقصوده أن خوف شر الأشرار من الصوارف عن الصدع بالحق.
قال السيد ابن المرتضى اليمانيّ في (إيثار الحق) : مما زاد الحق غموضا وخفاء خوف العارفين، مع قلتهم، من علماء السوء، وسلاطين الجور، وشياطين الخلق، مع جواز التقيّة عند ذلك، بنص القرآن، وإجماع أهل الإسلام. وما زال الخوف مانعا من إظهار الحق، وما برح المحق عدوّا لأكثر الخلق.
وذكر رحمه الله قبل في الاستدلال على التقية أنه تعالى أثنى على مؤمن آل فرعون، مع كتم إيمانه، وسميت به سورة (المؤمن). وصح أمر عمّار به، وتقريره عليه، ونزلت فيه: إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ [النحل: ١٠٦]، وقد صح عن أبي هريرة «١» أنه قال في ذلك العصر الأول: حفظت من رسول الله ﷺ وعاءين، أما أحدهما فبثثته لكم، وأما الآخر فلو بثثته لقطع هذا البلعوم. قال الغزاليّ في خطبة (المقصد الأسنى) : من خالط الخلق جدير بأنه يتحامى. لكن من أبصر الحق عسير عليه أن يتعامى. انتهى.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة يوسف (١٢) : آية ٦]
وَكَذلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلى آلِ يَعْقُوبَ كَما أَتَمَّها عَلى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٦)
وَكَذلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ أي مثل ذلك الاصطفاء، بإراءة هذه الرؤيا العظيمة الشأن، يصطفيك للنبوة والسيادة وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ أي تعبير المنامات، وإنما سمي التعبير تأويلا، لأنه جعل المرئيّ آئلا إلى ما يذكره المعبر بصدد التعبير وراجعا إليه. والأحاديث اسم جمع للحديث، سميت به الرؤيا لأنها إما حديث ملك أو نفس أو شيطان. وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ أي بما سيؤول إليه أمرك
تنبيهات:
الأول- قال أبو السعود كأن يعقوب عليه السلام أشار بقوله: وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ إلى ما سيقع من يوسف عليه السلام، من تعبيره لرؤيا صاحبي السجن، ورؤيا الملك، وكون ذلك ذريعة إلى ما يبلغه الله إليه من الرياسة العظمى التي عبر عنها بإتمام النعمة. وإنما عرف يعقوب عليه السلام ذلك منه من جهة الوحي. أو أراد كون هذه الخصلة سببا لظهور أمره عليه السلام على الإطلاق، فيجوز حينئذ أن تكون معرفته بطريق الفراسة، والاستدلال من الشواهد والدلائل والأمارات والمخايل، بأن من وفقه الله تعالى لمثل هذه الرؤيا، لا بد من توفيقه لتعبيرها، وتأويل أمثالها، وتمييز ما هو آفاقيّ منها، مما هو أنفسي كيف لا، وهي تدل على كمال تمكن نفسه عليه السلام في عالم المثال، وقوة تصرفاتها فيه، فيكون أقبل لفيضان المعارف المتعلقة بذلك العالم، وبما يحاكيه من الأمور الواقعة بحسبها في عالم الشهادة، وأقوى وقوفا على النسب الواقعة بين الصور المعاينة في أحد ذينك العالمين، وبين الكائنات الظاهرة على وفقها في العالم الآخر. وإن هذا الشأن البديع، لا بد أن يكون أنموذجا لظهور أمر من اتصف به، ومدارا لجريان أحكامه، فإن لك نبيّ من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام معجزة، بها تظهر آثاره، وتجري أحكامه.
الثاني- استدل بالآية على أن (الجد) يطلق عليه اسم (الأب)، فيدل أن من نسب رجلا إلى جده وقال: (يا ابن فلان) ! أنه لا يكون قذفا.
الثالث- قال المهايميّ: من فوائد هذا المقام استحباب كتمان السر، وجواز التحذير عن شخص بعينه، ومدح الشخص في وجهه إذا لم يضره، واعتبار السبب وإن لم يؤثر وأن لكل حادث تأويلا عند الأولياء، وأنه تعبر الرؤيا من الصغار، وإن كان من عالم الخيال، إذ تصور المخيلة معاني معقولة، بصور محسوسة، فترسلها إلى الحس المشترك فيشاهدها. والصادقة منها ما تكون باتصال النفس عند فراغها من تدبير البدن أدنى فراغ، فيتصور بما فيها مما يناسب المعاني، فإن كانت شديدة المناسبة استغنت عن التعبير، وإلا احتاجت إليه فالأخبار عن هذه الرؤيا آية، وعما ترتب عليها آيات.
قال الإمام الراغب الأصفهاني في كتابه (الذريعة) في بحث (الفراسة) ما مثاله:
ومن الفراسة علم الرؤيا. وقد عظّم الله تعالى أمرها في جميع الكتب المنزلة، وقال لنبيه صلى الله عليه وسلم: وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ [الإسراء: ٦٠]، وقال: إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنامِكَ... [الأنفال: ٤٣] الآية، وقال في قصة إبراهيم: يا بُنَيَّ إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ [الصافات: ١٠٢]، وقوله: يا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً [يوسف: ٤].
والرؤيا هي فعل النفس الناطقة، ولو لم يكن لها حقيقة لم يكن لإيجاد هذه القوة في الإنسان فائدة. والله تعالى يتعالى عن الباطل. وهي ضربان: ضرب وهو الأكثر. أضغاث أحلام وأحاديث النفس بالخواطر الردية، لكن النفس في تلك الحال كالماء المتموّج. لا يقبل صورة.
وضرب وهو الأقل، صحيح، وذلك قسمان: قسم لا يحتاج إلى تأويل، ولذلك يحتاج المعبر إلى مهارة يفرق بين الأضغاث وبين غيرها، وليميز بين الكلمات الروحانية والجسمانية، ويفرق بين طبقات الناس، إذ كان فيهم من لا تصحّ له رؤيا، وفيهم من تصحّ رؤياه. ثم من صحّ له ذلك، منهم من يرشّح أن تلقى إليه في المنام الأشياء العظيمة الخطيرة، ومنهم من لا يرشح له ذلك. ولهذا قال اليونانيون. يجب أن يشتغل المعبر بعبارة رؤيا الحكماء والملوك دون الطغام، وذلك لأن له حظا من النبوّة.
وقد قال عليه الصلاة والسلام «١» :(الرؤيا الصادقة جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوّة)
وهذا العلم يحتاج إلى مناسبة بين متحرّيه وبينه، فرب حكيم لا يرزق حذقا فيه ورب نزر الحظ من الحكمة وسائر العلوم توجد له فيه قوّة عجيبة. انتهى-.
وقال الأستاذ ابن خلدون: حقيقة الرؤيا مطالعة النفس الناطقة، في ذاتها الروحانية، لمحة من صور الواقعات. فإنها عند ما تكون روحانية تكون صور الواقعات فيها موجودة بالفعل، كما هو شأن الذوات الروحانية كلها، وتصير روحانية بأن تتجرد عن المواد الجسمانية، والمدارك البدنية. وقد يقع لها ذلك لمحة بسبب النوم، كما
أخرجه البخاريّ في: التعبير، ٢- باب رؤيا الصالحين، حديث ٢٥٣٦ ونصه: عن أنس بن مالك أن رسول الله ﷺ قال «الرؤيا الحسنة من الرجل الصالح... ».
فإن كان ذلك الاقتباس ضعيفا، وغير جليّ بالمحاكاة، والمثال في الخيال لتخلطه فيحتاج من أجل هذه المحاكاة إلى التعبير، وقد يكون الاقتباس قويا يستغنى فيه عن المحاكاة، فلا يحتاج إلى تعبير لخلوصه من المثال والخيال والسبب في وقوع هذه اللمحة للنفس، أنها ذات روحانية بالقوة، مستكملة بالبدن ومداركه، حتى تصير ذاتها تعقلا محضا ويكمل وجودها بالفعل، فتكون حينئذ ذاتا روحانية مدركة بغير شيء من الآلات البدنية، إلا أن نوعها من الروحانيات دون الملائكة، أهل الأفق الأعلى، على الذين لم يستكملوا ذواتهم بشيء من مدارك البدن ولا غيره، فهذا الاستعداد حاصل لها ما دامت في البدن. ومنه خاصّ، كالذي للأولياء. ومنه عامّ للبشر على العموم، وهو أمر الرؤيا. وأما الذي للأنبياء فهو استعداد بالانسلاخ من البشرية إلى الملكية المحضة التي هي أعلى الروحانيات. ويخرج هذا الاستعداد فيهم متكررا في حالات الوحي، وهي عند ما يعرج على المدارك البدنية، ويقع فيها ما يقع من الإدراك، شبيها بحال النوم شبها بينا، وإن كان حال النوم أدون منه بكثير، فلأجل هذا الشبه عبّر الشارع عن الرؤيا بأنها
(جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة)
وفي رواية (ثلاثة وأربعين)
وفي رواية (سبعين)
وليس العدد في جميعها مقصودا بالذات، وإنما المراد الكثرة في تفاوت هذه المراتب، بدليل ذكر السبعين في بعض طرقه، وهو للتكثير عند العرب، وما ذهب إليه بعضهم
في رواية (ستة وأربعين)
من أن الوحي كان في مبتدئه بالرؤيا ستة أشهر، وهي نصف سنة ومدة النبوة كلها بمكة والمدنية ثلاث وعشرون سنة، فنصف السنة منها جزء من ستة وأربعين- فكلام بعيد من التحقيق. لأنه إنما وقع ذلك للنبي ﷺ ومن أين لنا أن هذه المدة وقعت لغيره من الأنبياء؟ مع أن ذلك إنما يعطي نسبة زمن الرؤيا من زمن النبوة، ولا يعطي نسبة حقيقتها من حقيقة النبوة. وإذا تبين لك هذا مما ذكرناه أولا، علمت أن معنى هذا الجزء نسبة الاستعداد الأول الشامل للبشر، إلى الاستعداد القريب الخاص بصنف الأنبياء الفطري لهم، صلوات الله عليهم، إذ هو الاستعداد البعيد. وإن كان عامّا في البشر، ومعه عوائق وموانع كثيرة من حصوله بالفعل. ومن أعظم تلك الموانع الحواس الظاهرة، ففطر الله البشر على ارتفاع حجاب الحواس بالنوم، الذي هو جبلّيّ لهم، فتتعرض النفس عند ارتفاعه إلى معرفة ما تتشوف إليه في عالم الحق، فتدرك بعض الأحيان منه لمحة يكون فيها الظفر بالمطلوب. ولذلك جعلها الشارع من
فقال «١» :(لم يبق من النبوة إلا المبشرات) ! قالوا: وما المبشرات يا رسول الله! قال (الرؤيا الصالحة، يراها الرجل الصالح، أو ترى له).
وأما سبب ارتفاع حجاب الحواس بالنوم، فعلى ما أصفها لك: وذلك أن النفس الناطقة إنما إدراكها وأفعالها بالروح الحيوانيّ الجسمانيّ، وهو بخار لطيف، مركزه بالتجويف الأيسر من القلب- على ما في كتب التشريح لجالينوس وغيره- وينبعث مع الدم في الشريانات والعروق فيعطي الحس والحركة، وسائر الأفعال البدنية، ويرتفع لطيفه إلى الدماغ، فيعدل من برده، وتتم أفعال القوى التي في بطونه. فالنفس الناطقة إنما تدرك وتعقل بهذا الروح البخاري، وهي متعلقة به، لما اقتضته حكمة التكوين في أن اللطيف لا يؤثر في الكثيف. ولمّا لطف هذا الروح الحيوانيّ من بين المواد البدنية، صار محلّا لآثار الذات المباينة له في جسمانيته، وهي النفس الناطقة، وصارت آثارها حاصلة في البدن بواسطته.
وقد كنا قدّمنا أن إدراكها على نوعين: إدراك بالظاهر وهو بالحواس الخمس، وإدراك بالباطن وهو بالقوى الدماغية. وأن هذا الإدراك كله صرف لها عن إدراكها ما فوقها من ذواتها الروحانية، التي هي مستعدة له بالفطرة. ولما كانت الحواس الظاهرة جسمانية، كانت معرضة للوسن والفشل، بما يدركها من التعب والكلال، وتغشى الروح بكثرة التصرف، فخلق الله لها طلب الاستجمام، لتجرد الإدراك على الصورة الكاملة. وإنما يكون ذلك بانخناس الروح الحيوانيّ من الحواس الظاهرة كلها، ورجوعه إلى الحس الباطن. ويعين على ذلك ما يغشى البدن من البرد بالليل، فتطلب الحرارة الغريزية أعماق البدن، وتذهب من ظاهره إلى باطنه، فتكون مشيعة مركبها، وهو الروح الحيوانيّ، إلى الباطن. ولذلك كان النوم للبشر في الغالب إنما هو بالليل.
فإذا انخنس الروح عن الحواس الظاهرة، ورجع إلى القوى الباطنة، وخفّت عن النفس شواغل الحس وموانعه، ورجعت إلى الصورة التي في الحافظة، تمثل منها بالتركيب والتحليل صورة خيالية وأكثر ما تكون معتادة، لأنها منتزعة من المدركات المتعاهدة قريبا. ثم ينزلها الحس المشترك، الذي هو جامع الحواس الظاهرة، فيدركها على أنحاء الحواس الخمس الظاهرة.
وربما التفتت النفس لفتة إلى ذاتها الروحانية، مع منازعتها القوى الباطنية،
وفي الصحيح أن النبيّ ﷺ قال «١» :(الرؤيا ثلاث: رؤيا من الله، ورؤيا من الملك، ورؤيا من الشيطان)
وهذا التفصيل مطابق لما ذكرناه فالجليّ من الله، والمحاكاة الداعية إلى التعبير من الملك، وأضغاث الأحلام من الشيطان لأنها كلها باطل، والشيطان ينبوع الباطل.
هذه حقيقة الرؤيا، وما يسببها ويشيعها من النوم. وهي خواص للنفس الإنسانية، موجودة في البشر على العموم، لا يخلو عنها أحد منهم، بل كل واحد من الإنسان رأى في نومه ما صدر له في يقظته، مرارا غير واحدة، وحصل له القطع أن النفس مدركة للغيب في النوم، ولا بد. وإذا جاز ذلك في عالم النوم، فلا يمتنع في غيره من الأحوال، لأن الذات المدركة واحدة، وخواصها عامة في كل حال. انتهى.
وذكر رحمه الله عند بحث (علم تعبير الرؤيا) أن التعبير لها كان موجودا في السلف، كما هو في الخلف، وأن يوسف الصديق، صلوات الله عليه، كان يعير الرؤيا، كما وقع في القرآن، وكذلك ثبت في الصحيح عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، وعن أبي بكر رضي الله عنه، والرؤيا مدرك من مدارك الغيب كما تقدم. وأما معنى التعبير فاعلم أن الروح العقليّ، إذا أدرك مدركه، وألقاه إلى الخيال فصوّره، فإنما يصوّره في الصور المناسبة لذلك المعنى بعض الشيء. ومن المرئيّ ما يكون صريحا لا يفتقر إلى تعبير، لجلائها ووضوحها، أو لقرب الشبه فيها بين المدرك وشبهه. وللبحث تتمة سابغة، انظرها ثمة.
وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة يوسف (١٢) : آية ٧]
لَقَدْ كانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آياتٌ لِلسَّائِلِينَ (٧)
لَقَدْ كانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ أي في قصتهم وحديثهم آياتٌ أي دلائل
وقال القاشانيّ: أي آيات معظمات لمن يسأل عن قصتهم ويعرفها، تدلهم أولا: على أن الاصطفاء المحض أمر مخصوص بمشيئة الله تعالى، لا يتعلق بسعي ساع ولا إرادة مريد، فيعلمون مراتب الاستعدادات في الأزل.
وثانيا- على أن من أراد الله به خيرا، لم يمكن لأحد دفعه. ومن عصمه الله، لم يمكن لأحد رميه بسوء، ولا قصده بشر، فيقوى يقينهم وتوكلهم.
وثالثا- على أن كيد الشيطان وإغواءه أمر لا يأمن منه أحد، حتى الأنبياء، فيكونون منه على حذر. وأقوى من ذلك كله أنها تطلعهم من طريق الفهم، الذي هو الانتقال الذهني، على أحوالهم في البداية والنهاية، وما بينهما، وكيفية سلوكهم إلى الله، فتثير شوقهم وإرادتهم، وتشحذ بصيرتهم، وتقوّي عزيمتهم.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة يوسف (١٢) : آية ٨]
إِذْ قالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلى أَبِينا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبانا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٨)
إِذْ قالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ وهو بنيامين شقيقه، وأمهما راحيل بنت لابان، خال يعقوب. أَحَبُّ إِلى أَبِينا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ أي والحال أنا جماعة أقوياء، أحق بالمحبة من صغيرين، لا كفاية فيهما. والعصبة والعصابة: الجماعة من الرجال- عشرة فصاعدا- سموا بذلك لكون الأمور تعصب بهم أي تشد فتقوى وذكرها ليس لإفادة العدد فقط، بل للإشعار بالقوة، ليكون أدخل في الإنكار، لأنهم قادرون على خدمته، والجد في منفعته فكيف يؤثر عليهم من لا يقدر على ذلك؟
إِنَّ أَبانا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ أي ذهاب عن طريق الصواب في ذلك لتفضيله المفضول بزعمهم. وغاب عنهم أنه كان يحب يوسف لما يرى فيه من المخايل، لا سيما بعد تلك الرؤيا. وبنيامين لكونه شقيقه وأصغرهم. ومن المعروف زيادة الميل لأصغر البنين.
وقوله تعالى:
اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضاً يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْماً صالِحِينَ (٩)
اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضاً من مقول قولهم المحكيّ قبل، وإنما قالوا هذا لأن خبر المنام بلغهم، ويروى أنه قصه عليهم، فتشاوروا في كيده، وقالوا ذلك، وقالوا: لنرى بعد ما يكون من أحلامه، سخرية واستهزاء. وتنكير (أرضا) وإخلاؤها من الوصف، للإبهام، أي في أرض مجهولة، لا يعرفها الأب، ولا يمكن ليوسف أن يعرف طريق الوصول إليه.
وقوله: يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ جواب الأمر، كناية عن خلوص محبته لهم، لأنه بدل على إقباله عليهم بكليته، وعلى فراغه عن الشغل بيوسف، فيشتغل بهم.
وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ أي من بعد الفراغ من قتله أو طرحه قَوْماً صالِحِينَ أي تائبين إلى الله عما جنيتم، فيكون صلاحكم فداء عن معصية قتله أو طرحه. أو تصلح دنياكم، وتنتظم أموركم بعده بخلوّ وجه أبيكم.
تنبيهات:
الأول: قال ابن إسحاق: لقد اجتمعوا على أمر عظيم من قطيعة الرحم، وعقوق الوالد، وقلة الرأفة بالصغير، الذي لا ذنب له، وبالكبير الفاني، ذي الحق والحرمة والفضل، والده، ليفرقوا بينه وبين ابنه على صغر سنه، وحاجته إلى لطف والده، وسكونه إليه. يغفر الله لهم!.
الثاني- قال ابن كثير: اعلم أنه لم يقم دليل على نبوّة إخوة يوسف: وظاهر السياق يدل على خلاف ذلك. ومن الناس من يزعم أنهم أوحي إليهم بعد ذلك، وفي هذا نظر ويحتاج مدعي ذلك إلى دليل. ولم يذكروا سوى قوله تعالى: قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ [البقرة: ١٣٦]، وهذا فيه احتمال، لأن بطون بني إسرائيل يقال لهم الأسباط، كما يقال للعرب قبائل. وللعجم شعوب. يذكر تعالى أنه أوحى إلى الأنبياء من أسباط بني إسرائيل، فذكرهم إجمالا لأنهم كثيرون، ولكن كل سبط من نسل رجل من إخوة يوسف. ولم يقم دليل على أعيان هؤلاء أنهم أوحي إليهم. والله أعلم.
قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ لا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ (١٠)
قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ أي صريحا ورضي به الباقون لا تَقْتُلُوا يُوسُفَ أي لأن القتل من الكبائر التي يخاف معها سدّ باب الصلاح. وإنما أظهره في مكان الإضمار استجلابا لشفقتهم عليه، أو استعظاما لقتله. وَأَلْقُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِّ أي في غوره. و (الجب) : البئر التي لا حجارة فيها: يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ أي بعض الأقوام الذي يسيرون في الأرض، فيتملكه، فلا يمكنه الرجوع إلى أبيه، فيحصل مطلوبكم من غير ارتكاب كبيرة يخاف معها سدّ باب الصلاح.
إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ أي عازمين مصرّين على أن تفرقوا بينه وبين أبيه. وقد روي أن القائل هو أخوهم الأكبر، بكر يعقوب (رؤوبين).
ولما تواطأوا على رأيه:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة يوسف (١٢) : آية ١١]
قالُوا يا أَبانا ما لَكَ لا تَأْمَنَّا عَلى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَناصِحُونَ (١١)
قالُوا أي لأبيهم يا أَبانا ما لَكَ لا تَأْمَنَّا عَلى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَناصِحُونَ أي لم تخافنا عليه، ونحن نريد له الخير ونحبه ونشفق عليه؟ أرادوا بذلك استنزاله عن عادته في حفظه منهم. وفيه دليل على أنه أحسّ منهم بما أوجب أن لا يأمنهم عليه- كذا في الكشاف-.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة يوسف (١٢) : آية ١٢]
أَرْسِلْهُ مَعَنا غَداً يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ (١٢)
أَرْسِلْهُ مَعَنا غَداً يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ (الرتع) : الأكل والشرب، والسعي والنشاط، حيث يكون الخضر والمياه والزروع. يريدون: أن إلزامك إياه أن يكون بمكانك، موجب لملاله القاطع لنشاطه على العبادة، واكتساب الكمالات.
قالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غافِلُونَ (١٣)
قالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غافِلُونَ يعني:
وإن زعمتم أنكم له حافظون، فحفظكم إنما يكون ما دمتم ناظرين إليه، لكن لا يخلو الإنسان عن الغفلة، فأخاف غفلتكم عنه.
قال الزمخشري: اعتذر إليهم بشيئين.
أحدهما: أن ذهابهم به، ومفارقته إياه، مما يحزنه لأنه كان لا يصبر عنه ساعة.
والثاني: خوفه عليه من عدوة الذئب إذا غفلوا عنه، برعيهم ولعبهم، أو قلّ به اهتمامهم، ولم تصدق بحفظه عنايتهم.
قال الناصر: وكان أشغل الأمرين لقلبه خوف الذئب عليه، لأنه مظنة هلاكه.
وأما حزنه لمفارقته ريثما يرتع ويلعب ويعود سالما إليه عما قليل، فأمر سهل.
فكأنهم لم يشتغلوا إلا بتأمينه وتطمينه من أشد الأمرين عليه. انتهى- أي فيما حكي عنهم بقوله:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة يوسف (١٢) : آية ١٤]
قالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذاً لَخاسِرُونَ (١٤)
قالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ أي جماعة أقوياء، يمكننا أن ننزعه من يد الذئب إِنَّا إِذاً لَخاسِرُونَ أي هالكون ضعفا وجبنا. أو عاجزون، أو مستحقون لأن يدعى عليهم بالخسارة والدمار.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة يوسف (١٢) : آية ١٥]
فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِّ وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هذا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (١٥)
فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ أي بعد مراجعة أبيهم في شأنه وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِّ فيه تعظيم لما أزمعوا، إذ أخذوه ليكرموه، ويدخلوا السرور على أبيه، ومكروا ما مكروا. وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هذا أي أعلمناه بإلقاء في روعه، أو
وقوله: وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ إما متعلق ب (أوحينا) أي أوحينا إليه ذلك وهم لا يشعرون، إيناسا له، وإزالة للوحشة أو حال من الهاء في (لتنبئنهم)، أي:
لتحدثنهم بذلك وهم لا يشعرون أنك يوسف، لعلوّ شأنك، كما سيأتي في قوله تعالى: فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ [يوسف: ٥٨].
روي أنهم نزعوا قميص يوسف الموشى الذي عليه، وأخذوه، وطرحوه في البئر، وكانت فارغة لا ماء بها، وجلسوا بعد، يأكلون ويلهون إلى المساء.
وجواب (لما) في الآية محذوف، مثل فعلوا ما فعلوا، أو طرحوه فيها. وقيل:
الجواب (أوحينا) والواو الزائدة.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة يوسف (١٢) : آية ١٦]
وَجاؤُ أَباهُمْ عِشاءً يَبْكُونَ (١٦)
وَجاؤُ أَباهُمْ عِشاءً يَبْكُونَ بيان لمكرهم بأبيهم بطريق الاعتذار الموهم موته القاطع عنه متمناه، لتنقطع محبته عنه، ولو بعد حين، فيرجع إليهم بالحب الكليّ.
وقدموا عشاء لكونه وقت الظلمة المانعة من احتشامه في الاعتذار الكذب، ومن تفرسه من وجوههم الكذب وأوهموا، ببكائهم وتفجعهم عليه، إفراط محبتهم له المانعة من الجرأة عليه. ثم نادوه باسم (الأب) المضاف إليهم ليرحمهم، فيترك غضبه عليهم، الداعي إلى تكذيبهم.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة يوسف (١٢) : آية ١٧]
قالُوا يا أَبانا إِنَّا ذَهَبْنا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنا يُوسُفَ عِنْدَ مَتاعِنا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا وَلَوْ كُنَّا صادِقِينَ (١٧)
قالُوا يا أَبانا إِنَّا ذَهَبْنا نَسْتَبِقُ أي في العدو والرمي بالنصل وَتَرَكْنا يُوسُفَ عِنْدَ مَتاعِنا أي ما يتمتع به من الثياب والأزواد وغيرهما ليحفظه فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ أي كما حذرت.
وقوله تعالى: وَما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا وَلَوْ كُنَّا صادِقِينَ تلطف عظيم في تقرير ما يحاولونه. يقولون: ونحن نعلم أنك لا تصدقنا في هذه الحالة، ولو كنا عندك صادقين،
وقد استفيد من الآية أحكام:
منها: أن بكاء المرء لا يدل على صدقه، لاحتمال أن يكون تصنعا- نقله ابن العربيّ-.
ومنها: مشروعية المسابقة. وفيه من الطب رياضة النفس والدواب، وتمرين الأعضاء على التصرف- كذا في الإكليل-.
قال بعض اليمانين: اللعب إن كان بين الصغار جاز بما لا مفسدة فيه، ولا تشبه بالفسقة وأما بين الكبار، ففيه ثلاثة أقسام:
الأول: أن يكون في معنى القمار، فلا يجوز.
الثاني: أن لا يكون في معناه، وفيه استعانة وحث على القوة والجهاد، كالمناضلة بالقسيّ، والمسابقة على الخيل، فذلك جائز وفاقا.
الثالث: أن لا يكون فيه عوض كالمصارعة ونحوها. ففي ذلك قولان للشافعية. رجح الجواز، إن كان بغير عوض، أو بعوض يكون دفعه على سبيل الرضا، لأنه ﷺ «١» صارع يزيد بن ركانة.
وروي أن عائشة قالت «٢» : سابقت رسول الله ﷺ مرتين، فسبقته في المرة الأولى، فلما بدنت سبقني وقال: هذه بتلك.
وفي الحديث «٣» : ليس من اللهو ثلاثة: ملاعبة الرجل أهله، وتأديبه فرسه، ورميه بقوسه.
انتهى.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة يوسف (١٢) : آية ١٨]
وَجاؤُ عَلى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ (١٨)
وَجاؤُ عَلى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ بيان لما تآمروا عليه من المكيدة، وهو أنهم
(٢) أخرجه ابن ماجة في: النكاح، ٥٠- باب حسن معاشرة النساء، حديث رقم ١٩٧٩.
(٣) أخرجه أبو داود، من حديث طويل، عن عقبة بن عامر، في: الجهاد، ٢٣- باب في الرمي، حديث رقم ٢٥١٣.
وقوله: قالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً أي من تغيب يوسف، وتفريقه عني، والاعتذار الكاذب.
قال الناصر: وقوّاه على اتهامهم، أنهم ادعوا الوجه الخاص الذي خاف يعقوب، عليه السلام، هلاكه بسببه أولا، وهو أكل الذئب، فاتهمهم أن يكونوا تلقفوا العذر من قوله لهم: وَأَخافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وكثيرا ما تتفق الأعذار الباطلة، من قلق في المخاطب المعتذر إليه حتى كان بعض أمراء المؤمنين يلقنون السارق الإنكار.
انتهى.
وفي (الإكليل) : استنبط، من هذا، الحكم بالأمارات، والنظر إلى التهمة، حيث قال: بَلْ سَوَّلَتْ....
لطائف:
قال المهايمي: في الآية من الفوائد أن الجاه يدعو إلى الحسد، كالمال، وهو يمنع من المحبة الأصلية من القرابة ونحوها، بل يجعل عداوتهم أشد من عداوة الأجانب، وأن الحسد يدعو إلى المكر بالمحسود، وبمن يراعيه، وأنه إنما يكون برؤية الماكر نفسه أكمل عقلا من الممكور به. وأن الحاسد إذا ادعى النصح والحفظ والمحبة، بل أظهره فعلا، لم يعتمد عليه.
وكذا من أظهر الأمانة قولا وفعلا يفعل الخيانة. وأن الإذلال والإعزاز بيد الله، لا الخلق. وأن من طلب مراده بمعصية الله بعد عنه، وأن الخوف من الخلق يورث البلاء وأن الإنسان، وإن كان نبيا، يخلق أولا على طبع البشرية. وأن اتباع الشهوات يورث الحزن الطويل. وأن القدر كائن، وأن الحذر لا يغني من القدر.
قيل للهدهد: كيف ترى الماء تحت الأرض، ولا ترى الشبكة فوقها؟ قال: إذا جاء القضاء عمي البصر.
و (التسويل) تزيين النفس للمرء ما يحرص عليه، وتصوير القبيح بصورة الحسن. فَصَبْرٌ جَمِيلٌ (صبر) خبر أو مبتدأ، لكونه موصوفا، أي فشأني صبر جميل. أو فصبر جميل أجمل والصبر قوة للنفس على احتمال الآلام كالمصائب إذا
وَاللَّهُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ أي المطلوب منه العون على احتمال ما تصفون من هلاك يوسف- كذا قدروه- وحقق أبو السعود أن المعنى على إظهار حال ما تصفون وبيان كونه كذبا، وإظهار سلامته، فإنه علم في الكذب قال سبحانه:
سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ [الصافات: ١٠٨]، وهو الأليق بما سيجيء من قوله تعالى: فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً [يوسف: ١٨ و ٨٣]، وتفسير المستعان عليه باحتمال ما يصفون من هلاك يوسف، والصبر على الرزء فيه- يأباه تكذيبه عليه السلام لهم في ذلك، ولا تساعده الصيغة، فإنها قد غلبت في وصف الشيء بما ليس فيه، كما أشير إليه. انتهى.
وفي قوله: وَاللَّهُ الْمُسْتَعانُ اعتراف بأن تلبسه بالصبر لا يكون إلا بمعونته تعالى.
قال الرازي: لأن الدواعي النفسانية تدعوه إلى إظهار الجزع، وهي قوية.
والدواعي الروحانية تدعوه إلى الصبر والرضا. فكأنهما في تحارب وتجالد. فما لم تحصل إعانته تعالى، لم تحصل الغلبة فقوله: فَصَبْرٌ جَمِيلٌ يجري مجرى قوله:
إِيَّاكَ نَعْبُدُ وقوله: وَاللَّهُ الْمُسْتَعانُ يجري مجرى قوله: وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ.
انتهى.
ثم ذكر تعالى ما جرى على يوسف في الجب، بعد ما تقدم بقوله:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة يوسف (١٢) : آية ١٩]
وَجاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُوا وارِدَهُمْ فَأَدْلى دَلْوَهُ قالَ يا بُشْرى هذا غُلامٌ وَأَسَرُّوهُ بِضاعَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِما يَعْمَلُونَ (١٩)
وَجاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُوا وارِدَهُمْ أي الذي يرد الماء ويستقي لهم فَأَدْلى دَلْوَهُ أي أرسلها في الجب ليملأها، فتعلق بها يوسف للخروج، فلما رآه قالَ يا بُشْرى هذا غُلامٌ وقرئ (يا بشراي) بالإضافة والمنادى محذوف. أو نزلت منزلة من ينادي ويقال: إن هذه الكلمة تستعمل للتبشير من غير قصد إلى النداء.
قال الزجاج: معنى النداء في هذه الأشياء التي لا تجيب هو تنبيه المخاطبين،
و (الغلام) : الطارّ الشارب: أو من ولادته إلى أن يشبّ. والتنوين للتعظيم.
وَأَسَرُّوهُ بِضاعَةً أي أخفوه متاعا للتجارة ف بِضاعَةً حال. وفي (الفرائد) أنه ضمّن أَسَرُّوهُ معنى (جعلوه) أي جعلوه بضاعة مسرين، فهو مفعول به، أو مفعول له. أي: لأجل التجارة. و (البضاعة) من البضع، وهو القطع لأنه قطعة وافرة من المال تقتنى للتجارة: وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِما يَعْمَلُونَ.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة يوسف (١٢) : آية ٢٠]
وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَراهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ (٢٠)
وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَراهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ الضمير في (أسرّوه) و (شروه) للسيارة لأنها بمعنى القوم السائرين.
وقد روي أنهم كانوا تجارا من بلدة مدين. فلما أصعد واردهم يوسف، وضمّوه إلى بضاعتهم، باعوه لقافلة مرت بهم سائرة إلى مصر بعشرين درهما من الفضة، ثم أتوا بيوسف إلى مصر.
و (دراهم) بدل من الثمن و (المعدود)، كناية عن القليل، لأن الكثير يوزن عندهم. و (الزهد) فيه بمعنى الرغبة عنه.
فوائد:
قال في (الإكليل)، استنبط الناس من هذه الآية أحكام اللقيط، فأخذوا منها أن اللقيط يؤخذ ولا يترك. ومن قوله: هذا غُلامٌ أنه كان صغيرا، وأن الالتقاط خاص به، فلا يلتقط الكبير، وكذا قوله وَأَخافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ لأن ذلك أمر يختص بالصغار. ومن قوله: وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ أن اللقيط يحكم بحريته. وأن ثمن الحرّ حرام. قال بعضهم: وجه الاستدلال لأنهم باعوه بثمن حقير لكونه لقيطا، وهو لا يملك، إذ لو ملك استوفوا ثمنه.
قال بعض الزيدية. وردّ هذا الاستدلال بأن فعلهم ليس شريعة. وأما الآن فلا شبهة أن ظاهر اللقيط الحرية، كما أن ظاهره الإسلام.
قال المهايمي: ومن الفوائد أن الفرج قد يحصل من حيث لا يحتسب، وأنه ينتظر للشدة وأن من خرج لطلب شيء قد يجد ما لم يكن في خاطره. وأن الشيء الخطير قد يعرض فيه ما يهوّنه. وأن البشرى قد يعقبها الحزن، والعزة قد يعقبها الذلة. وبالعكس.
وَقالَ الَّذِي اشْتَراهُ مِنْ مِصْرَ لامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْواهُ عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ وَاللَّهُ غالِبٌ عَلى أَمْرِهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٢١)
وَقالَ الَّذِي اشْتَراهُ مِنْ مِصْرَ لِامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْواهُ عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً يخبر تعالى عن لطفه بيوسف، إذ يسّر له من اشتراه في مصر، فاعتنى به، وأوصى أهله، وتوسّم فيه الخير والصلاح. ومعنى أَكْرِمِي مَثْواهُ اجعلي مقامه حسنا مرضيا. و (المثوى) محل الثواء، وهو الإقامة.
قال الشهاب: وإكرام مثواه كناية عن إكرامه على أبلغ وجه وأتمه، لأن من أكرم المحل بإحسان الأسرّة، واتخاذ الفراش ونحوه، فقد أكرم ضيفه بسائر ما يكرم به. أو (المثوى) مقحم. كما يقال: المقام السامي.
روي أن القافلة لما نزلت مصر اشتراه منهم رئيس الشرط عند ملك مصر، فأقام في بيت سيده، والعناية الربانية تحفه، والنجاح يحوطه فكان يرى سيده أن كل ما يأتي به ينجحه الله تعالى على يده، فنال حظوة لديه، وأقامه قيّما على كل ما بملكه، وضاعف تعالى البركة في زرعه وماله وحوزته.
وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ أي كما جعلنا له مثوى كريما في منزل العزيز وقلبه، جعلنا له تصرفا بالأمر والنهي، ومكانة رفيعة في أرض مصر، ووجاهة في أهلها، ومحبة في قلوبهم، ليكون عاقبة ذلك تعليمه تأويل الرؤيا التي ستقع من الملك، وتفضي بيوسف إلى الرياسة العظمى.
وَاللَّهُ غالِبٌ عَلى أَمْرِهِ أي لا يمنع عما يشاء ولا ينازع فيما يريد. أو على أمر يوسف، أريد به من الفتنة ما أريد غير مرة، فلم يكن إلا ما أراد الله له من العاقبة الحميدة.
وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ أي أن الأمر كله بيده، فيأتون ويذرون زعما أن لهم شيئا من الأمر. أو لا يعلمون لطائف صنعه، وخفايا لطفه.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة يوسف (١٢) : آية ٢٢]
وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (٢٢)
وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ هذه الآية كالتي
قال أبو عبيدة: العرب تقول: بلغ فلان أشده، إذا انتهى منتهاه في شبابه وقوته قبل أن يأخذ في النقصان. و (الحكم) إما الحكمة وهو العلم المؤيد بالعمل، أو الحكم بين الناس.
قال الزمخشري: وفي قوله تعالى: وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ تنبيه على أنه كان محسنا في عمله، متّقيا في عنفوان أمره، وأن الله آتاه الحكم والعلم جزاء على إحسانه.
وعن الحسن: من أحسن عبادة ربه في شبيبته، آتاه الله الحكمة في اكتهاله.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة يوسف (١٢) : آية ٢٣]
وَراوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِها عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوابَ وَقالَتْ هَيْتَ لَكَ قالَ مَعاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوايَ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (٢٣)
وَراوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِها عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوابَ وَقالَتْ هَيْتَ لَكَ، قالَ مَعاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوايَ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ هذا رجوع إلى شرح ما جرى على يوسف في منزل العزيز بعد ما أمر امرأته بإكرام مثواه، من مراودتها له وإبائه.
والمراودة: المطالبة. أي: طلبت منه أن يواقعها. وتعديتها ب (عن) لتضمينها معنى المخادعة. والعدول عن التصريح باسمها للمحافظة على السر والستر، وإيراد الموصول دون امرأة العزيز، لتقرير المراودة. فإن كونه في بيتها مما يدعو إلى ذلك.
قيل لامرأة: ما حملك على ما لا خير فيه؟ قالت: قرب الوساد، وطول السواد. ولإظهار كمال نزاهته عليه السلام- كما سيأتي-.
و (هيت) قرئت ك (ليت وقيل وحيث)، وبكسر الهاء وبهمزة ساكنة بعدها، وفتح التاء وضمها. وهي في هذه اللغات اسم فعل بمعنى (تعال). واللام لتبيين المفعول أي المخاطب. ونقل عن الفرّاء أنها لغة لأهل حوران سقطت إلى مكة فتكلموا بها.
ومَعاذَ اللَّهِ منصوب على المصدر. أي: أعوذ بالله معاذا مما تدعينني إليه، لكونه زنى وخيانة فيما اؤتمنت عليه، وضرّا لمن توقع النفع، وإساءة إلى المحسن.
قال أبو السعود: وهذا اجتناب منه على أتم الوجوه، وإشارة إلى التعليل بأنه منكر هائل،! يجب أن يعاذ بالله تعالى للخلاص منه، وما ذاك إلا لأنه عليه السلام قد شاهد بما أراه الله تعالى من البرهان النيّر على ما هو عليه في حد ذاته من غاية القبح، ونهاية السوء.
وقوله: إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوايَ تعليل للامتناع ببعض الأسباب الخارجية، مما عسى أن يكون مؤثرا عندها، وداعيا لها إلى اعتباره بعد التنبيه على سببه الذاتي الذي تكاد تقبله لما سولته لها نفسها. والضمير للشأن. وفائدة تصدير الجملة به الإيذان بفخامة مضمونها، مع ما فيه من زيادة تقريره في الذهن، فإن الضمير لا يفهم منه من أول الأمر إلا شأن مبهم له خطر، فيبقى الذهن مترقبا لما يعقبه، فيتمكن عند وروده له فضل تمكن. فكأنه قيل: إن الشأن الخطير هذا، وهو ربي، أي سيدي العزيز، أحسن مثواي، أي تعهدي، حيث أمرك بإكرامي، فكيف يمكن أن أسيء إليه بالخيانة في حرمه؟ وفيه إرشاد لها إلى رعاية حق العزيز بألطف وجه. وقيل: الضمير لله عزّ وجلّ، ورَبِّي خبر إن، وأَحْسَنَ مَثْوايَ خبر ثان. أو هو الخبر والأول بدل من الضمير. والمعنى: أن الحال هكذا، فكيف أعصيه بارتكاب تلك الفاحشة الكبيرة؟ وفيه تحذير لها من عقاب الله عزّ وجلّ. وعلى التقديرين، ففي الاقتصار على ذكر هذه الحالة من غير تعرض للامتناع عما دعته إليه، إيذان بأن هذه المرتبة من البيان كافية في الدلالة على استحالته، وكونه مما لا يدخل تحت الوقوع أصلا.
وقوله تعالى: إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ تعليل للامتناع المذكور، غبّ تعليل.
و (الفلاح) الظفر، أو البقاء في الخير. ومعنى (أفلح) دخل فيه، كأصبح وأخواته.
والمراد ب (الظالمين) كل من ظلم، كائنا من كان، فيدخل في ذلك المجازون للإحسان بالإساءة، والعصاة لأمر الله تعالى، دخولا أوليّا، وقيل: الزناة، لأنهم ظالمون لأنفسهم، وللمزنيّ بأهله. انتهى.
وقال بعض اليمانين: ثمرات هذه الآية ثلاث:
الثانية- أن السيد والمالك يسمى (ربّا).
الثالثة- أنه يجوز ترك القبيح لقبحه، ورعاية حق غيره، وخشية العار، أو الفقر، أو الخوف، ونحو ذلك. ولا يقال: التشريك غير مفيد في كونه تاركا للقبيح، وأنه لا يثاب وتدل أيضا على لزوم حسن المكافأة بالجميل، وأن من أخلّ بالمكافأة عليه، كان ظالما. انتهى.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة يوسف (١٢) : آية ٢٤]
وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِها لَوْلا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ كَذلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُخْلَصِينَ (٢٤)
وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ، وَهَمَّ بِها لَوْلا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ، كَذلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشاءَ، إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُخْلَصِينَ (الهم) : يكون بمعنى القصد والإرادة، ويكون فوق الإرادة ودون العزم، إذا أريد به اجتماع النفس على الأمر والإزماع عليه، وبالعزم:
القصد إلى إمضائه، فهو أول العزيمة. وهذا معنى قولهم: الهم همان: هم ثابت معه عزم وعقد ورضا وهو مذموم مؤاخذ به وهمّ بمعنى خاطر، وحديث نفس، من غير تصميم، وهو غير مؤاخذ به. لأنه خطور المناهي في الصدور، وتصورها في الأذهان، لا مؤاخذة بها ما لم توجد في الأعيان.
روى الشيخان وأهل السنن عن أبي هريرة عن النبيّ ﷺ قال: إن الله تجاوز لأمتي عمّا حدّثت به أنفسها، ما لم تتكلم به، أو تعمل به. ورواه الطبراني عن عمران ابن حصين رضي الله عنهما «١».
فمعنى قوله تعالى: وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ أي بمخالطته، أي قصدتها وعزمت عليها عزما جازما، لا يلويها عنه صارف، بعد ما باشرت مبادئها من المراودة، وتغليق الأبواب، ودعوته إلى الإسراع إليها بقولها هَيْتَ لَكَ مما اضطره إلى الهرب إلى الباب.
وأخرجه مسلم في: الإيمان، حديث رقم ٢٠١ و ٢٠٢. [.....]
كما همت به، لتوفر الدواعي. ولكنه رأى من تأييد الله له بالبرهان ما صرف عنه السوء والفحشاء.
قال أبو حيّان: ونظيره (قارفت الإثم لولا الله عصمك). ولا نقول: إن جواب (لولا) يتقدم عليها، وإن لم يقم دليل على امتناعه، بل صريح أدوات الشرط العاملة مختلف فيها، حتى ذهب الكوفيون وأعلام البصريين إلى جواز تقدمه، بل نقول: هو محذوف لدلالة ما قبله عليه. لأن المحذوف في الشرط يقدر من جنس ما قبله.
انتهى.
فالآية حينئذ ناطقة بأنه لم يهمّ أصلا. وقيل: جواب (لولا) لغشيها ونحوه.
فمعنى (الهم) حينئذ ما قاله الإمام الرازي: من أنه خطور الشيء بالبال، أو ميل الطبع. كالصائم في الصيف. يرى الماء البارد، فتحمله نفسه على الميل إليه، وطلب شربه، ولكن يمنعه دينه عنه. وكالمرأة الفائقة حسنا وجمالا، تتهيأ للشاب النامي القوي، فتقع بين الشهوة والعفة، وبين النفس والعقل، مجاذبة ومنازعة (فالهم) هنا عبارة عن جواذب الطبيعة، ورؤية البرهان جواذب الحكمة، وهذا لا يدل على حصول الذنب، بل كلما كانت هذه الحال أشد، كانت القوة على لوازم العبودية أكمل.
انتهى.
وكذا قال أبو السعود: إن همه بها بمعنى ميله إليها، بمقتضى الطبيعة البشرية، وشهوة الشباب وقرمه، ميلا جبلّيا، لا يكاد يدخل تحت التكليف، لا أنه قصدها قصدا اختياريا. ألا يرى إلى ما سبق من استعصامه المنبئ عن كمال كراهيته له، ونفرته عنه، وحكمه بعدم إفلاح الظالمين؟ وهل هو إلا تسجيل باستحالة صدور الهم منه- عليه السلام- تسجيلا محكما؟ وإنما عبر عنه بالهم، لمجرد وقوعه في صحبة همها في الذكر، بطريق المشاكلة، لا لشبهه كما قيل. ولقد أشير إلى تباينهما، حيث لم يلزّا في قرن واحد من التعبير، بأن قيل: ولقد هما بالمخالطة، أو همّ كل منهما بالآخر. وصدّر الأول بما يقرر وجوده من التوكيد القسمي، وعقب الثاني بما يعفو أثره من قوله عزّ وجلّ: لَوْلا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ أي حجته الباهرة، الدالة على كمال قبح الزنى، وسوء سبيله. والمراد برؤيته لها كمال إيقانه، ومشاهدته لها مشاهدة واصلة إلى مرتبة عين اليقين. وكأنه عليه السلام قد شاهد الزنى بموجب ذلك البرهان النّير، على ما هو عليه في حد ذاته أقبح ما يكون، وأوجب ما يجب أن
وجواب (لولا) محذوف، يدل عليه الكلام. أي: لولا مشاهدة برهان ربه في شأن الزنى لجرى على موجب ميله الجبّلي، ولكن حيث كان مشاهدا له من قبل، استمر على ما هو عليه من قضية البرهان، وفائدة هذه الشرطية بيان أن امتناعه عليه السلام، لم يكن لعدم مساعدة من جهة الطبيعة، بل لمحض العفة والنزاهة، مع وفور الدواعي الداخلية، وترتيب المقدمات الخارجية، الموجبة لظهور الأحكام الطبيعية.
انتهى.
فاتضح أن لا شبهة فيها على عصمة يوسف عليه السلام، فإن الأنبياء ليسوا بمعصومين من حديث النفس، وخواطر الشهوة الجبلّية، ولكنهم معصومون من طاعتها، والانقياد إليها، ولو لم توجد عندهم دواع جبلّية، لكانوا إما ملائكة أو عالما آخر. ولما كانوا مأجورين على ترك المناهي، لأنهم يكونون مقهورين على تركها طبعا، والعنّين لا يؤجر ويثاب على ترك الزنى لأن الأجر لا يكون إلا على عمل، والترك بغير داعية ليس عملا، وأما الترك مع الداعية، فهو كف النفس عما تتشوف إليه، فهو عمل نفسي.
وحقيقة عصمة الأنبياء هي نزاهتهم، وبعدهم عن ارتكاب الفواحش والمنكرات التي بعثوا لتزكية الناس منها، لئلا يكونوا قدوة سيئة، مفسدين للأخلاق والآداب، وحجة للسفهاء على انتهاك حرمات الشرائع، وليس معناها أنهم آلهة منزهون عن جميع ما يقتضيه الطبع البشري.
هذا وقد ألصق هنا بعض المفسرين الولعين بسرد الروايات، ما تلقفوه من أهل الكتب، ومن المتصولحين، من تلك الأقاصيص المختلقة على يوسف عليه السلام، في همه، التي أنزه تأليفي عن نقلها، بردّها، وكلها- كما قال العلامة أبو السعود- خرافات وأباطيل، تمجها الآذان، وتردها العقول والأذهان، ويل لمن لاكها ولفّقها، أو سمعها وصدقها. وسبقه الزمخشري، فجوّد الكلام في ردها، فلينظر، فإنه مما يسر الواقف عليه.
و (السوء) : المنكر والفجور والمكروه. (والفحشاء) : ما تناهى قبحه.
قال أبو السعود: وفي قوله تعالى لِنَصْرِفَ عَنْهُ... إلخ آية بينة، وحجة قاطعة على أنه عليه الصلاة والسلام لم يقع منه همّ بالمعصية، ولا توجه إليها قط، وإلا لقيل: لنصرفه عن السوء والفحشاء. وإنما توجه إليه ذلك من خارج، فصرفه الله تعالى بما فيه من موجبات العفة والعصمة. فتأمل.
قال الشهاب: قيل: إن كل من له دخل في هذه القصة شهد ببراءته عليه السلام. فشهد الله تعالى بقوله لِنَصْرِفَ... إلخ، وشهد هو على نفسه بقوله:
هِيَ راوَدَتْنِي ونحوه، وشهدت امرأة العزيز بقولها: وَلَقَدْ راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وسيدها بقوله: إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخاطِئِينَ وإبليس بقوله: لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ فتضمن إخباره بأنه لم يغوه، ومع هذا كله لم يبرئه أهل القصص، انتهى عفا الله عنهم!
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة يوسف (١٢) : آية ٢٥]
وَاسْتَبَقَا الْبابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ وَأَلْفَيا سَيِّدَها لَدَى الْبابِ قالَتْ ما جَزاءُ مَنْ أَرادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً إِلاَّ أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٢٥)
وَاسْتَبَقَا الْبابَ متصل بقوله: وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ... إلخ، وقوله:
كَذلِكَ إلخ، اعتراف جيء به بين المعطوفين تقريرا لنزاهته. والمعنى: ولقد همت به، وأبى هو، واستبقا الباب، أي قصد كلّ سبق الآخر إلى الباب: فيوسف عليه السلام ليخرج، وهي لتمنعه من الخروج ووحّد (الباب) هنا مع جمعه أولا لأن المراد بالباب البراني الذي منه المخلص.
وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ أي اجتذبته من خلفه فانقدّ، أي انشق قميصه.
وَأَلْفَيا سَيِّدَها لَدَى الْبابِ أي صادفا بعلها ثمة قادما.
قالَتْ ما جَزاءُ مَنْ أَرادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذابٌ أَلِيمٌ تبرئة لساحتها، وإغراء عليه.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة يوسف (١٢) : آية ٢٦]
قالَ هِيَ راوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ أَهْلِها إِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكاذِبِينَ (٢٦)
قالَ هِيَ راوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ أَهْلِها إِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكاذِبِينَ لأن قدّه منه أمارة الدفع عن نفسها به، أو تعثره في مقادم قميصه بسبب إقباله عليها، فقدّ لإسراعه خلفها.
وَإِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٢٧)
وَإِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ لأنه أمارة إدباره عنها بسبب أنها تبعته، واجتذبت ثوبه إليها فقدّته.
ومن الطائف ما قيل: إن هذا الشاهد أراد ألا يكون هو الفاضح لها، ووثق بأن انقطاع قميصه إنما كان من دبر، فنصبه أمارة لصدقه وكذبها. ثم ذكر القسم الآخر، وهو قدّه من قبل، على علم بأنه لم ينقدّ من قبل حتى ينفي عن نفسه التهمة في الشهادة، وقصد الفضيحة، وينصفهما جميعا، فيذكر أمارة على صدقها المعلوم نفيه، كما ذكره أمارة على صدقه المعلوم وجوده. ومن ثمّ قدم أمارة على صدقها، على أمارة صدقه في الذكر، إزاحة للتهمة، ووثوقا بأن الأمارة الثانية هي الواقعة، فلا يضره تأخيرها. وهذه اللطيفة بعينها- والله أعلم- هي التي راعاها مؤمن آل فرعون في قوله: وَإِنْ يَكُ كاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ [غافر: ٢٨]. فقدم قسم الكذب على قسم الصدق، إزاحة للتهمة التي خشي أن تتطرق إليه في حق موسى عليه السلام، ووثوقا بأن القسم الثاني وهو صدقه، هو الواقع، فلا يضره تأخيره في الذكر لهذه الفائدة ومن ثم قال: بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ ولم يقل: كل ما يعدكم، تعريضا بأنه معهم عليه، وأنه حريص على أن يبخسه حقه وينحو هذا النحو تأخير يوسف عليه السلام، لكشف وعاء أخيه الآتي ذكره، لأنه لو بدأ به لفطنوا أنه هو الذي أمر بوضع السقاية فيه- والله أعلم-
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة يوسف (١٢) : آية ٢٨]
فَلَمَّا رَأى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ (٢٨)
فَلَمَّا رَأى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ يعني بالكيد:
الحيلة والمكر. وإنما استعظم كيدهن، لأنه ألطف وأعلق بالقلب، وأشد تأثيرا في النفس، ولهن فيه نيقة ورفق، وبذلك يغلبن الرجال.
تنبيه:
قال ابن الفرس: يحتج بالآية من يرى الحكم بالأمارات والعلامات، فيما لا تحضره البينات، كاللّقطة والسرقة والوديعة ومعاقد الحيطان والسقوف وشبهها.
وقوله تعالى:
يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هذا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخاطِئِينَ (٢٩)
يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هذا نودي بحذف حرف النداء، لقربه وكمال تفطنه للحديث.
أي: يا يوسف أعرض عن هذا الأمر واكتمه، ولا تحدث به، وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ أي الذي وقع منك من إرادة السوء بهذا الشاب، ثم قذفه بما هو بريء منه.
إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخاطِئِينَ أي من جملة القوم المتعمدين للذنب. يقال:
خطئ إذا أذنب متعمدا، وأخطأ إذا فعله من غير تعمد. ولهذا يقال: أصاب الخطأ، وأخطأ الصواب، وأصاب الصواب. وإيثار جمع السالم تغليبا للذكور على الإناث، ودل هذا على أن العزيز كان رجلا حليما، إذ اكتفى من مؤاخذتها بهذا المقدار.
قال ابن كثير: أو أنه عذرها لأنها رأت ما لا صبر لها عنه. ويقال: إنه كان قليل الغيرة.
قال الشهاب: وهو لطف من الله تعالى بيوسف عليه السلام.
وقال أبو حيّان: إنه مقتضى تربة مصر. انتهى.
وقد تقرر لدى المحققين أن لاختلاف أحوال العمران في الخصب والجدب، وأقاليمه في الحرارة والبرودة وتوابعها- أثرا في أخلاق البشر وأبدانهم- انظر المقدمة الرابعة والخامسة من (مقدمة ابن خلدون).
ثم ذكر تعالى أن خبر يوسف وامرأة العزيز شاع في المدينة- وهو مصر- بقوله:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة يوسف (١٢) : آية ٣٠]
وَقالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُراوِدُ فَتاها عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَها حُبًّا إِنَّا لَنَراها فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٣٠)
وَقالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُراوِدُ فَتاها عَنْ نَفْسِهِ العزيز: الأمير، مأخوذ من (العز) وهو الشدة والقهر، وقد غلب على أمير مصر والإسكندرية.
و (الشّغاف) كسحاب، حجاب القلب.
إِنَّا لَنَراها فِي ضَلالٍ مُبِينٍ أي في خطأ عن طريق الرشد والصواب. وإقحام الرؤية، للإشعار بأن حكمهن بضلالها صادر عن رؤية وعلم، مع التلويح إلى تنزههن عن مثل ذلك.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة يوسف (١٢) : آية ٣١]
فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ واحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّيناً وَقالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حاشَ لِلَّهِ ما هذا بَشَراً إِنْ هذا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ (٣١)
فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أي اغتيابهن، وسوء قالتهن. استعير (المكر) ل (الغيبة) (الغيبة) لشبهها له في الإخفاء أو (المكر) على حقيقته، وكن قلن ذلك لتريهن يوسف.
أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ أي تدعوهن للضيافة مكرا بهن، وَأَعْتَدَتْ أي أحضرت وهيأت لَهُنَّ مُتَّكَأً أي ما يتكئن عليه من الوسائد، وَآتَتْ كُلَّ واحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّيناً أي ليعالجن بها ما يأكلن من الفواكه ونحوها. وَقالَتِ أي ليوسف اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ أي ابرز إليهن.
قال الزمخشري: قصدت بتلك- الهيئة- وهي قعودهن متكئات والسكاكين في أيديهن- أن يدهشن ويبهتن عند رؤيته، ويشغلن عن نفوسهن، فتقع أيديهن على أيديهن فيقطعنها، لأن المتكئ إذا بهت لشيء وقعت يده على يدهن، فتبكتهن بالحجة، وقد كان ذلك كما قال تعالى: فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ أي أعظمنه، وهبن حسنه الفائق، وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ أي جرحنها، كما تقول: كنت أقطع اللحم فقطعت يدي، تريد: جرحتها وَقُلْنَ حاشَ لِلَّهِ ما هذا بَشَراً إِنْ هذا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ حاش: أصله حاشا، وحذفت ألفه تخفيفا، وبها قرأ أبو عمرو في الدرج، أي تنزيها له سبحانه عن صفات النقص والعجز، وتعجبا من قدرته على مثل ذلك الصنع البديع. وإنما نفين عنه البشرية لغرابة جماله، وأثبتن له الملكية، على نهج القصر، بناء على ما ركز في الطباع ألا أحسن من الملك، كما ركز فيها ألا أقبح من الشيطان، ولذلك يشبه، كل متناه في الحسن والقبح، بهما.
قالَتْ فَذلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ ما آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُوناً مِنَ الصَّاغِرِينَ (٣٢)
قالَتْ فَذلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ أي في الافتتان به وَلَقَدْ راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ أي امتنع، طالبا للعصمة، مستزيدا منها.
قال الزمخشري: الاستعصام بناء مبالغة، يدل على الامتناع البليغ، والتحفظ الشديد، كأنه في عصمة، وهو يجتهد في الاستزادة منها. ونحوه: استمسك، واستوسع الفتق، واستجمع الرأي، واستفحل الخطب. وهذا بيان لما كان من يوسف عليه السلام، لا مزيد عليه، وبرهان لا شيء أنور منه، على أنه برىء مما أضاف إليه أهل الحشو، مما فسروا به الهمّ والبرهان. انتهى.
وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ ما آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ أي ليعاقبنّ بالسجن والحبس وَلَيَكُوناً مِنَ الصَّاغِرِينَ أي الأذلاء المهانين.
ولما سمع يوسف تهديدها:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة يوسف (١٢) : آية ٣٣]
قالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجاهِلِينَ (٣٣)
قالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ أي من مواتاتها، لأنه مشقة قليلة، تعقبها راحات أبدية. ثم فزع إلى الله تعالى في طلب العصمة بقوله وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ يعني: ما أردن مني أَصْبُ إِلَيْهِنَّ أي أمل إلى إجابتهن بمقتضى البشرية وَأَكُنْ مِنَ الْجاهِلِينَ أي بسبب ارتكاب ما يدعونني إليه من القبيح.
قال أبو السعود: هذا فزع منه، عليه السلام، إلى ألطاف الله تعالى. جريا على سنن الأنبياء والصالحين، في قصر نيل الخيرات، والنجاة من الشرور، على جناب الله عزّ وجلّ، وسلب القوى والقدر عن أنفسهم، ومبالغة في استدعاء لطفه في صرف كيدهن بإظهار أن لا طاقة له بالمدافعة، كقول المستغيث: أدركني وإلا هلكت. لا أنه يطلب الإجبار والإلجاء إلى العصمة والعفة، وفي نفسه داعية تدعوه إلى هواهن.
انتهى.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة يوسف (١٢) : آية ٣٤]
فَاسْتَجابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٣٤)
فَاسْتَجابَ لَهُ رَبُّهُ أي أجاب له دعاءه فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ أي أيده بالتأييد القدسي، فصرفه إلى جناب القدس، ودفع عنه، بذلك، كيدهن إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ أي لدعاء المتضرعين إليه، الْعَلِيمُ أي بما يصلحهم.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة يوسف (١٢) : آية ٣٥]
ثُمَّ بَدا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما رَأَوُا الْآياتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ (٣٥)
ثُمَّ بَدا لَهُمْ أي ظهر للعزيز وأهله، مِنْ بَعْدِ ما رَأَوُا الْآياتِ أي الشواهد على براءته، لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ أي إلى مدة يرون رأيهم فيها.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة يوسف (١٢) : آية ٣٦]
وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيانِ قالَ أَحَدُهُما إِنِّي أَرانِي أَعْصِرُ خَمْراً وَقالَ الْآخَرُ إِنِّي أَرانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزاً تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (٣٦)
وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيانِ
روي أنهما غلامان كانا لفرعون مصر، أحدهما رئيس سقاته والآخر رئيس طعامه، غضب عليهما فحبسهما، فكانا مع يوسف. ثم رآهما يوما وهما مهمومان فسألهما عن شأنهما، فذكرا له أنهما رأيا رؤيا غمتهما، وليس لهما من يعبرها. فقال لهما: أليس التأويل لله؟ قصّا عليّ!
فذلك قوله تعالى:
قالَ أَحَدُهُما وهو صاحب شرابه: إِنِّي أَرانِي أَعْصِرُ خَمْراً أي عنبا، تسمية للعنب بما يؤول إليه، أو الخمر بلغة عمان اسم للعنب، وذلك أنه قال: رأيت في المنام كأنّ بين يديّ وعاء فيه ثلاثة قضبان عنب، ثم نضجت عناقيدها وصارت عنبا، وكانت كأس فرعون في يدي، فأخذت العنب، وعصرته في الكأس، وناولتها لفرعون.
وَقالَ الْآخَرُ وهو صاحب طعامه: إِنِّي أَرانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزاً تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ وذلك أنه قال له: رأيت كأن فوق رأسي ثلاث سلال حوّاري، والطير تأكل من السلة العليا فوق رأسي.
ثم أشار، عليه السلام، لهما بأن ما رأياه سهل التأويل، لوجود مثاله في المنام، وأن له علما فوقه، وهو أن يبين لهما كل جليل ودقيق من الأمور المستقبلة، وإن لم يكن هناك مقدمة المنام، حتى إن الطعام الموظف الذي يأتيهما كل يوم، يبينه لهما قبل إتيانه، وإن ذلك ليس من باب الكهانة، بل من الفضل الربانيّ لمن يصطفيه بالنبوّة، وهذا معنى قوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة يوسف (١٢) : آية ٣٧]
قالَ لا يَأْتِيكُما طَعامٌ تُرْزَقانِهِ إِلاَّ نَبَّأْتُكُما بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُما ذلِكُما مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ (٣٧)
قالَ لا يَأْتِيكُما طَعامٌ تُرْزَقانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُما بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُما أي قبل أن يصلكما. والمراد بالطعام ما يبعث إلى أهل السجن. وتأويله ذكر ما هو، بأن يقول:
يأتيكما طعام كيت وكيت، فيجدانه كذلك. وحقيقة (التأويل) تفسير الألفاظ المراد منها خلاف ظاهرها ببيان المراد.
قال أبو السعود: فإطلاقه على تعيين ما سيأتي من الطعام، إما بطريق الاستعارة.
فإن ذلك بالنسبة إلى مطلق الطعام المبهم بمنزلة التأويل، بالنظر إلى ما رئي في المنام، وشبيه له وإما بطريق المشاكلة، حسبما وقع في عبارتهما من قولهما: نَبِّئْنا بِتَأْوِيلِهِ. ومراده عليه السلام بذلك: بيان كل ما يهمهما من الأمور المترقبة قبل وقوعها. وإنما تخصيص الطعام بالذكر لكونه عريقا في ذلك، بحسب الحال، مع ما فيه من مراعاة حسن التخلص إليه مما استعبراه من الرؤيتين المتعلقتين بالشراب والطعام.
ذلِكُما أي ذلك التأويل والإخبار بالمغيبات مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي أي بالوحي والإلهام، لا من التكهن والتنجيم. وفيه إشعار بأن له علوما جمة، ما سمعاه شذرة من جواهرها. وقوله تعالى: إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ.
وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبائِي إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ ما كانَ لَنا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ذلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنا وَعَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ (٣٨)
وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبائِي إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ، ما كانَ لَنا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ، ذلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنا وَعَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ هذه الجملة إما مسوقة لبيان علة تعليم الله له بالوحي والإلهام، أي خصني بذلك لترك الكفر، وسلوك طريق آبائي المرسلين، أو كلام مستأنف، ذكر تمهيدا للدعوة، وإظهار أنه من بيت النبوة، لتقوى رغبتهما في الاستماع إليه، والوثوق به، والمراد بتركه ملة الكفر الامتناع عنها رأسا، كما يفصح عنه قوله: ما كانَ لَنا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ أي ما صح ولا استقام ذلك لنا، فضلا عن الوقوع. وإنما عبر عنه بذلك، لكونه أدخل بحساب الظاهر في اقتدائهما به عليه السلام. والتخصيص بهم، مع أن الشرك لا يصح من غيرهم أيضا، لأنه يثبت بالطريق الأولى. أو المرد نفي الوقوع منهم لعصمتهم.
وتكرير (هم) للدلالة على اختصاصهم، وتأكيد كفرهم بالآخرة. وزيادة (من) في المفعول، أعني مِنْ شَيْءٍ لتأكيد العموم، أي لا نشرك به شيئا من الأشياء، قليلا أو حقيرا، صنما أو ملكا أو جنيا أو غير ذلك.
وقوله: ذلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنا وَعَلَى النَّاسِ يعني عدم الإشراك بالله، وهو التوحيد، من نعم الله العامة، التي يجب شكره تعالى على الهداية لها بالفطر السليمة، ونصب الدلائل الأنفسية والآفاقية.
ثم بين أن أكثر الناس نبذوا هذه النعمة بعد ما حق عليهم شكرها.
ولما ذكر، عليه السلام، ما هو عليه من الدين القويم، تلطف في الاستدلال على بطلان ما عليه قومهما من عبادة الأصنام، فضرب لهما مثلا يتضح به الحق حق اتضاح بقوله:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة يوسف (١٢) : آية ٣٩]
يا صاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ (٣٩)
يا صاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ وصفهما بالصحبة الضرورية المقتضية للمودة، وبذل النصيحة. أي: يا صاحبيّ فيه. فجعل الظرف
قال بعضهم: دلت الآية على أن الشرع كما جاء مطالبا بالاعتقاد، جاء هاديا لوجه الحسن فيه. وذلك أن هذه الآية تشير إشارة واضحة إلى أن تفرّق الآلهة يفرّق بين البشر في وجهة قلوبهم إلى أعظم سلطان يتخذونه فوق قوتهم. وهو يذهب بكل فريق إلى التعصب لما وجه قلبه إليه، وفي ذلك فساد نظامهم كما لا يخفى. أما اعتقاد جميعهم بإله واحد، فهو توحيد لمنازع نفوسهم إلى سلطان واحد، يخضع الجميع لحكمه، وفي ذلك نظام أخوّتهم، وهي قاعدة سعادتهم فالشرع جاء مبينا للواقع في أن معرفة الله بصفاته حسنة في نفسها، فهو ليس محدث الحسن. انتهى.
وفي قوله: أَأَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ إشارة إلى ما كان عليه أهل مصر لعهده عليه السلام، من عبادة أصنام شتى.
يقول بعضهم: كما أن مصر كانت تغلبت في العلوم والسلطة، كذلك في عبادة الأصنام، فإن أهلها فاقوا كل من سواهم في الضلال. فكانوا يسجدون للشمس وللقمر والنجوم والأشخاص البشرية والحيوانات، حتى الهوامّ وأدنى حشرات الأرض.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة يوسف (١٢) : آية ٤٠]
ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلاَّ أَسْماءً سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٤٠)
ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ أي من دون الله إِلَّا أَسْماءً سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ يعني أنكم سميتم، ما لا يستحق الإلهية، آلهة، ثم طفقتم تعبدونها، فكأنكم لا تعبدون إلا أسماء فارغة لا مسميات تحتها ما أَنْزَلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ أي حجة تدل على صحتها إِنِ الْحُكْمُ أي في أمر العبادة والدين إِلَّا لِلَّهِ لأنه مالك، وهو لم يحكم بعبادتها، لأنه أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ لأن العبادة غاية التذلل، فلا يستحقها إلا من له غاية العظمة، ذلِكَ أي التوحيد الدال على كمال عظمة الله، بحيث لا يشاركه فيها غيره الدِّينُ الْقَيِّمُ أي الحق المستقيم الثابت، وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ أي لجهلهم، ولذا كان أكثرهم مشركين.
لا يخفى أن قوله تعالى: قالَ لا يَأْتِيكُما طَعامٌ إلى هنا، مقدمة لجواب سؤالهما عن تعبير رؤياهما، مهد، عليه السلام، بها له ليدعوهما إلى التوحيد، ليزدادا علما بعظم شأنه، وثقة بأمره، توسلا بذلك إلى تحقيق ما يتوخاه من هدايتهما، لا سيما وأن أحدهما ستعاجله منيته بالصلب، فرجا أن يختم له بخير، قال الزمخشري: لما استعبراه ووصفاه بالإحسان، افترض ذلك، فوصل به وصف نفسه بما هو فوق علم العلماء، وهو الإخبار بالغيب، وأنه ينبئهما بما يحمل إليهما من الطعام، وجعل ذلك تخلصا إلى أن يذكر لهما التوحيد، ويعرض عليهما الإيمان، ويزينه لهما، ويقبح إليهما الشرك بالله. وهذه طريقة، على كل ذي علم أن يسلكها مع الجهال والفسقة إذا استفتاه واحد منهم، أن يقدم الهداية والإرشاد والموعظة الحسنة والنصيحة أولا، ويدعوه إلى ما هو أولى به، وأوجب عليه مما استفتي فيه، ثم يفتيه بعد ذلك. وفيه، أن العالم إذا جهلت منزلته في العلم، فوصف نفسه بما هو بصدده- وغرضه أن يقتبس منه، وينتفع به في الدين- لم يكن من باب التزكية.
انتهى.
وبعد تحقيق الحق، ودعوتهما إليه، وبيانه لهما مرتبة علمه، شرع في تفسير ما استفسراه. ولكونه بحثا مغايرا لما سبق، فصله عنه بتكرير الخطاب فقال:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة يوسف (١٢) : آية ٤١]
يا صاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُما فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْراً وَأَمَّا الْآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيانِ (٤١)
يا صاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُما فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْراً أي يخرج من السجن، ويعود إلى ما كان عليه من سقي سيده الخمر، وَأَمَّا الْآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ أي فيقتل ويعلق على خشبة، فتأكل الطير من لحم رأسه.
قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيانِ أي قطع وتم ما تستفتيان فيه. يعني: مآله، وهو نجاة أحدهما، وهلاك الآخر. والتعبير عنه ب (الأمر)، وعن طلب تأويله ب (الاستفتاء) تهويلا لأمره، وتفخيما لشأنه، إذ الاستفتاء إنما يكون في النوازل المشكلة الحكم، المبهمة الجواب، وإيثار صيغة الاستقبال، مع سبق استفتائهما في ذلك، لما أنهما بصدده، إلى أن يقضي عليه السلام من الجواب وطره.
وَقالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ ناجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ فَأَنْساهُ الشَّيْطانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ (٤٢)
وَقالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ ناجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ أي قال يوسف للذي علم نجاته من الفتيين، أي خلوصه من السجن والقتل، وهو الساقي: اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ أي: اذكر حالي وصفتي، وعلمي بالرؤيا، وما جرى عليّ، عند الملك سيدك، عسى يخلصني مما ظلمت به.
و (الظن) بمعنى العلم واليقين، ورد كثيرا، والتعبير به إرخاء للعنان، وتأدب مع الله تعالى. وقيل: الظن بمعناه المعروف، بناء على أن تأويل يوسف بطريق الاجتهاد، والحكم بقضاء الأمر اجتهادي أيضا والأول أنسب بالسياق.
تنبيه:
دلت الآية على جواز الاستعانة بمن هو مظنة كشف الغمة، ولو مشركا. وقد جاء ذلك في قوله تعالى: وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى [المائدة: ٢]، وقوله حكاية عن عيسى: مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ [آل عمران: ٥٢] و [الصف: ١٤]، وفي
الحديث: (والله في عون العبد مادام العبد في عون أخيه) «١»
. وجلي أن ذلك من نظام الكون، والعمران البشريّ، ولذلك ميّز الإنسان بالنطق.
وأما ما
رواه ابن جرير عن ابن عباس مرفوعا: لو لم يقل- يعني يوسف- الكلمة التي قال، ما لبث في السجن طول ما لبث، حيث يبتغي الفرج من عند غير الله تعالى
- فقال الحافظ ابن كثير: حديث ضعيف جدّا، وذكر من رجاله الضعفاء راويين سماهما. ثم قال: وروي أيضا مرسلا عن الحسن وقتادة. قال: وهذه المرسلات هاهنا لا تقبل، لو قبل المرسل من حيث هو، في غير هذا الموطن- والله أعلم- انتهى ولقد أجاد وأفاد عليه الرحمة.
وقوله تعالى: فَأَنْساهُ الشَّيْطانُ ذِكْرَ رَبِّهِ يعني: فشغله الشيطان حتى نسي ذكر يوسف عند الملك. فَلَبِثَ أي مكث يوسف فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ أي طائفة منها.
ولما دنا الفرج من يوسف عليه السّلام، برحمته تعالى، وما هيأه من الأسباب:
رأى فرعون مصر هذه الرؤيا التي أشار إليها تعالى بقوله:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة يوسف (١٢) : آية ٤٣]
وَقالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرى سَبْعَ بَقَراتٍ سِمانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يابِساتٍ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُءْيايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّءْيا تَعْبُرُونَ (٤٣)
وَقالَ الْمَلِكُ أي لملئه: إِنِّي أَرى سَبْعَ بَقَراتٍ سِمانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجافٌ أي هالكات من الهزال. جمع عجفاء، بمعنى المهزولة، ضد السمينة، وَسَبْعَ سُنْبُلاتٍ أي وأرى رؤيا ثانية سبع سنبلات خُضْرٍ وَأُخَرَ يابِساتٍ أي وسبعا أخر يابسات دقيقة، أي نبتت وراءها، فابتلعت السنابل الخضر الممتلئة وإنما استغنى عن عددها وإعدامها للخضر، للاكتفاء بما ذكر من حال البقرات لأنها نظيرتها.
وقوله: يا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُءْيايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّءْيا تَعْبُرُونَ خطاب للأشراف من قومه، وكان دعا، إثر استيقاظه، سحرة مصر وحكماءها، وقص عليهم رؤياه هذه.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة يوسف (١٢) : آية ٤٤]
قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ وَما نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلامِ بِعالِمِينَ (٤٤)
قالُوا أي الملأ للملك أَضْغاثُ أَحْلامٍ أي تخاليطها. جمع (ضغث) وهو في الأصل ما جمع من أخلاط النبات وحزم، ثم استعير لما تجمعه القوة المتخيلة من أحاديث النفس، ووساوس الشيطان، وتريها في المنام. و (الأحلام) جمع (حلم)، وهو ما يراه النائم، فهو مرادف للرؤيا، إلا أنها غلبت في رؤيا الخير، والشيء الحسن، وغلب الحلم على خلافه.
وفي الحديث؟ الرؤيا من الله، والحلم من الشيطان «١».
والمراد بالجمع في (الأحلام) ما فوق الواحد، لأنهما حلمان، رأى كل واحد منهما إثر استيقاظه منه، كما روي، وفهم بعضهم أنه حلم واحد، فالتمس للجمع نكتة فقال: إما المبالغة في وصفه بالبطلان، أو تضمنه أشياء مختلفة. ولا حاجة إليه، كما بينا.
وَما نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلامِ بِعالِمِينَ يحتمل أن يريدوا ب (الأحلام) المنامات الباطلة خاصة. أي: ليس لها تأويل عندنا، وإنما التأويل للرؤيا الصادقة. وأن يعترفوا بقصور علمهم، وأنهم ليسوا في التعبير بنحارير.
قال الناصر: وهذا هو الظاهر. وحمل الكلام على الأول يصيّره من وادي:
على لا حب لا يهتدى بمناره
كأنهم قالوا: ولا تأويل للأحلام الباطلة، فنكون به عالمين. وقول الملك لهم أولا: إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّءْيا تَعْبُرُونَ دليل على أنهم لم يكونوا في علمه عالمين بها، لأنه أتى بكلمة الشك، وجاء اعترافهم بالقصور مطابقا لشك الملك الذي أخرجه مخرج استفهام عن كونهم عالمين بالرؤيا أو لا، وقول الفتى: أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ إلى قوله: لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ دليل أيضا على ذلك- والله أعلم-.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة يوسف (١٢) : آية ٤٥]
وَقالَ الَّذِي نَجا مِنْهُما وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ (٤٥)
وَقالَ الَّذِي نَجا مِنْهُما أي من صاحبي السجن، وهو الساقي: وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أي تذكر بعد مدة. وكان تذكره، على ما روي، بعد سنتين أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ أي أخبركم به بالتلقي عمن عنده علمه، لا من تلقاء نفسي، ولذلك لم يقل: أنا أفتيكم فيها، وعقبه بقوله فَأَرْسِلُونِ أي فابعثوني إلى يوسف، وإنما لم
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة يوسف (١٢) : آية ٤٦]
يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنا فِي سَبْعِ بَقَراتٍ سِمانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يابِساتٍ لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ (٤٦)
يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أي أرسل إليه، فأتاه فقال: يا يوسف! ووصفه بالمبالغة في الصدق، حسبما ذاق أحواله، وتعرف صدقه في تأويل رؤياه، ورؤيا صاحبه، حيث جاء كما أوّل، لكونه بصدد اغتنام معارفه، فهو من باب براعة الاستهلال أَفْتِنا فِي سَبْعِ بَقَراتٍ سِمانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يابِساتٍ أي في تأويل رؤيا ذلك. ولم يغير لفظ الملك، لأن التعبير يكون على وفقه، كما بينوه. وفي قوله: أَفْتِنا مع أنه المستفتي وحده إشعار بأن الرؤيا ليست له، بل لغيره ممن له ملابسة بأمور العامة، وأنه في ذلك معبر وسفير، كما آذن بذلك قوله: لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ أي إلى الملك ومن عنده لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ أي ذلك: فيعملون بمقتضاه، أو يعلمون فضلك ومكانك من العلم، فيطلبوك ويخلصوك من محنتك. وإنما لم يبتّ الكلام، بل قال (لعلي) و (لعلهم) مجاراة معه على نهج الأدب، واحترازا عن المجازفة، إذ لم يكن على يقين من الرجوع، فربما اخترم دونه.
لعل المنايا دون ما تعداني
ولا من علمهم بذلك، فربما لم يعلموه- أشار إليه أبو السعود-.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة يوسف (١٢) : الآيات ٤٧ الى ٤٩]
قالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَباً فَما حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّا تَأْكُلُونَ (٤٧) ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ سَبْعٌ شِدادٌ يَأْكُلْنَ ما قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّا تُحْصِنُونَ (٤٨) ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عامٌ فِيهِ يُغاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ (٤٩)
قالَ أي يوسف له في تأويلها تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَباً أي دائبين مواظبين كل عام منها فَما حَصَدْتُمْ أي من الزرع فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ أي لا تدرسوه، فإنه أبقى له إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تَأْكُلُونَ أي في تلك السنين، يعني بقدر ما تأكلون.
ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ أي السبع المذكورات سَبْعٌ شِدادٌ أي سبع سنين
(نهاره صائم) لجواز أن يكون مشاكلة حينئذ. إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تُحْصِنُونَ أي تحرزون وتخبئون للزراعة.
ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ أي السنين الموصوفة بالشدة. وأكل الغلال المدخرة عامٌ فِيهِ يُغاثُ النَّاسُ أي يمطرون من الغيث، أي يغاثون من القحط، أو يرفع عنهم مكروهه من الغوث وَفِيهِ يَعْصِرُونَ أي ما كانوا يعصرونه على عادتهم من عنب وزيتون ونحوهما.
قال أبو السعود: والتعرض لذكر (العصر)، مع جواز الاكتفاء عنه بذكر (الغيث) المستلزم له عادة، كما اكتفى به عن ذكر تصرفهم في الحبوب، إما لأن استلزام الغيث له ليس كاستلزامه للحبوب، إذ المذكورات يتوقف صلاحها على مبادئ أخر غير المطر. وإما لمراعاة جانب المستفتي باعتبار حالته الخاصة به، بشارة له، وهي التي يدور عليها حسن موقع تغليبه على الناس، في القراءة بالفوقانية. وقيل:
معنى (يعصرون) يحلبون الضروع. انتهى.
واللفظ بعموم معناه يشمله، لأن الحلب فيه عصر الضرع ليخرج الدرّ.
قال الزمخشري: تأويل البقرات السمان والسنبلات الخضر بسنين مخصبة، والعجاف واليابسات بسنين مجدبة، ثم بشرهم بعد الفراغ من تأويل الرؤيا بأن العام الثامن يجيء مباركا خصيبا، كثير الخير، غزير النعم، وذلك جهة الوحي.
تنبيه:
قال في (الإكليل) : هذه الآية من أصول التعبير. وفيها أيضا صحة رؤيا الكفار، وجواز تسميته ملكا، وأن قولنا (الرؤيا لأول عابر) ليس عامّا في كل رؤيا، لأنهم قالوا: أَضْغاثُ أَحْلامٍ، ولم تسقط بقولهم ذلك، فتخص القاعدة بما يحتمل من الرؤيا وجوها فيعبر بأحدها، فيقع عليه. وفي قوله: ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عامٌ... إلخ زيادة على ما وقع السؤال عنه، فيستدل به على أنه لا بأس بذلك في تعبير الرؤيا والفتوى. انتهى.
وَقالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جاءَهُ الرَّسُولُ قالَ ارْجِعْ إِلى رَبِّكَ فَسْئَلْهُ ما بالُ النِّسْوَةِ اللاَّتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ (٥٠)
وَقالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أي أخرجوه من السجن وأحضروه، لما علم من علمه وفضله، فَلَمَّا جاءَهُ الرَّسُولُ أي يستدعيه إلى الملك قالَ أي يوسف له:
ارْجِعْ إِلى رَبِّكَ أي سيدك الملك، فَسْئَلْهُ ما بالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ أي ما شأنهن وخبرهن؟ أمره بأن يسأله ويستفهمه عن ذلك، ولم يكشف له عن القصة، ولا أوضحها له، لأن السؤال مجملا، مما يهيج الملك على الكشف والبحث والاستعلام، فتحصل البراءة. وإنما كان السؤال المجمل يهيج الإنسان، ويحركه للبحث عنه، لأنه يأنف من جهله وعدم علمه به، ولو قال: سله أن يفتش عن ذلك، لكان طلبا للفحص عنه، وهو مما يتسامح ويتساهل به، وفيه جرأة عليه، فربما امتنع منه، ولم يلتفت إليه.
قال الزمخشري: إنما تأنى وتثبت في إجابة الملك، وقدم سؤال النسوة، ليظهر براءة ساحته عما قرف به وسجن فيه، لئلا يتسلق به الحاسدون إلى تقبيح أمره عنده، ويجعلوه سلّما إلى حط منزلته لديه، ولئلا يقولوا: ما خلد في السجن إلا لأمر عظيم وجرم كبير، حق به أن يسجن ويعذب، ويستكفّ شره، وفيه دليل على أن الاجتهاد في نفي التهم واجب وجوب اتقاء الوقوف في مواقفها.
قال عليه السلام: من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يقفنّ مواقف التهم.
ومنه قال «١» رسول الله ﷺ للمارين به في معتكفه، وعنده بعض نسائه: هي فلانة، اتقاء للتهمة.
وعن النبيّ ﷺ لقد عجبت من يوسف وكرمه وصبره، والله يغفر له، حين سئل عن البقرات العجاف والسمان. ولو كنت مكانه ما أخبرتهم حتى أشترط أن يخرجوني. ولقد عجبت منه حين أتاه الرسول فقال: ارْجِعْ إِلى رَبِّكَ ولو كنت مكانه ولبثت في السجن ما لبثت، لأسرعت الإجابة، وبادرتهم الباب، ولما ابتغيت العذر، إن كان لحليما ذا أناة. انتهى.
رواه عبد الرزاق في مصنفه مرسلا عن عكرمة.
مدحه النبيّ ﷺ على هذه الأناة، كان في طيّ هذه المدحة بالأناة والتثبت تنزيهه وتبرئته مما لعله يسبق إلى الوهم أنه همّ بامرأة العزيز همّا يؤاخذ به، لأنه إذا صبر وتثبت فيما له ألا يصبر فيه، وهو الخروج من السجن، مع أن الدواعي متوافرة على الخروج منه، فلأن يصبر فيما عليه أن يصبر فيه من الهم، أولى وأجدر- أفاده الناصر.
قال أبو السعود: وإنما لم يتعرض لامرأة العزيز، مع ما لقي منها ما لقي، من مقاساة الأحزان، محافظة على مواجب الحقوق، واحترازا عن مكرها، حيث اعتقدها مقيمة في عدوة العداوة، وأما النسوة فقد كان يطمع في صدعهن بالحق وشهادتهن بإقرارها بأنها راودته عن نفسه فاستعصم، ولذلك اقتصر على وصفهن بتقطيع الأيدي، ولم يصرح بمراودتهن له، وقولهن (أطع مولاتك) واكتفى بالإيماء إلى ذلك بقوله: إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ يعني ما كدنه به، وفي إضافة علمه إلى الله إشارة إلى عظمه، وأن كنهه غير مأمول الوصول إليه، لكن ما لا يدرك كله، لا يترك كله. وفيه تشويق وبعث على معرفته، فهو تتميم لقوله: (اسأل)، ودلالة على أنه برىء مما قرف به للاستشهاد بعلمه تعالى عليه، وفيه الوعيد لهن على كيدهن، وأنه تعالى مجاز عليه، وقوله:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة يوسف (١٢) : آية ٥١]
قالَ ما خَطْبُكُنَّ إِذْ راوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ قُلْنَ حاشَ لِلَّهِ ما عَلِمْنا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ قالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (٥١)
قالَ ما خَطْبُكُنَّ إِذْ راوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ استئناف مبني على السؤال، كأنه قيل: فماذا كان بعد ذلك؟ فقيل: قال الملك: ما خطبكن- أي شأنكن- إذ راودتن يوسف يوم الضيافة؟ يعني: هل وجدتن منه ميلا إليكن؟
وأخرجه البخاريّ في: الأنبياء، ١١- باب قوله عز وجل: وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ، حديث رقم ١٥٩٣.
وأخرجه مسلم في: الإيمان، حديث رقم ٢٣٨.
قال الزمخشري: ولا مزيد على شهادتهن له بالبراءة، والنزاهة، واعترافهن على أنفسهن، بأنه لم يتعلق بشيء مما قرفنه به، لأنهن خصومه. وإذا اعترف الخصم بأن صاحبه على الحق، وهو على الباطل، لم يبق لأحد مقال. انتهى-.
والفضل ما شهدت به الأعداء
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة يوسف (١٢) : آية ٥٢]
ذلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخائِنِينَ (٥٢)
ذلِكَ تقول امرأة العزيز: ذلك الذي اعترفت به على نفسي لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ أي ليعلم يوسف أني لم أكذب عليه في حال الغيبة، وجئت بالصحيح والصدق فيما سئلت عنه، أو ليعلم زوجي أني لم أخنه بالغيب في نفس الأمر، ولا وقع المحذور الأكبر، وإنما راودت هذا الشاب مراودة فامتنع، فاعترفت ليعلم أني بريئة.
وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخائِنِينَ أي لا يرضاه ولا يسدّده.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة يوسف (١٢) : آية ٥٣]
وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ ما رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (٥٣)
وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا ما رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ تريد:
وما أبرئ نفسي مع ذلك، فإن النفس تتحدث وتتمنى، ولهذا راودته. أو تعني: أني ما أبرئ نفسي من الخيانة، فإني قد خنته حين قرفته وقلت: ما جَزاءُ مَنْ أَرادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ؟ وأودعته السجن. تريد الاعتذار مما كان منها أن كل نفس لأمارة بالسوء، إلا نفسا رحمها الله بالعصمة، كنفس يوسف.
ثم إن تأويل قوله تعالى: ذلِكَ لِيَعْلَمَ... الآية- على أنه حكاية قول امرأة العزيز- قال ابن كثير: هو القول الأشهر والأليق والأنسب بسياق القصة، ومعاني الكلام. وقد حكاه الماورديّ في تفسيره، وانتدب لنصره الإمام أبو العباس ابن تيمية
هذا خلاصة ما قرروه على أنه كلام يوسف. قال ابن كثير: والقول الأول أقوى وأظهر لأن سياق الكلام كله من كلام امرأة العزيز بحضرة الملك، ولم يكن يوسف عليه السلام عندهم، بل بعد ذلك أحضره الملك- والله أعلم-.
لطائف:
الأولى- محل قوله: (بالغيب) الحال من الفاعل أو المفعول، على معنى- وأنا غائب أو غائبة عنه، أو وهو غائب عني خفيّ عن عيني، أو هو ظرف، أي بمكان الغيب، وهو الخفاء والاستتار وراء الأبواب.
الثانية- قيل: معنى لا يَهْدِي كَيْدَ الْخائِنِينَ أي: لا يهديهم بسبب كيدهم، أوقعت الهداية المنفية على الكيد، وهي واقعة عليهم تجوزا، للمبالغة، لأنه إذا لم يهد السبب، علم منه عدم هداية مسببه بالطريق الأولى.
وقيل: المعنى لا يهديهم في كيدهم، كقوله تعالى: يُضاهِؤُنَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا [التوبة: ٣٠]، أي في قولهم.
وقيل: هداية الكيد مجاز عن تنفيذه وتسديده.
الثالثة- قال في (الإكليل) : وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي أصل في التواضع، وكسر النفس وهضمها.
قال الناصر: ولقد صدق في التوريك على نقلة هذه الزيادات بالبهت، وذلك شأن المبطلة من كل طائفة. ويحق الله الحق بكلماته ويبطل الباطل.
الخامسة: رأيت لابن القيم في (الجواب الكافي) في عجيب صبر يوسف وعفته، مع الدواعي من وجوه، قال عليه الرحمة، بعد أن مهد مقدمة في مفاسد عشق الصور العاجلة والآجلة: إنها أضعاف ما يذكره ذاكر، فإنه يفسد القلب بالذات، وإذا فسد فسدت الإرادات والأقوال والأعمال، وفسد ثغر التوحيد. والله تعالى إنما حكى هذا المرض عن طائفتين من الناس: وهم اللوطية والنساء، فأخبر عن عشق امرأة العزيز ليوسف، وما راودته، وكادته به، وأخبر عن الحال التي صار إليها يوسف، لصبره وعفته وتقواه، ومع أن الذي ابتلي به أمر لا يصبر عليه إلا من صبّره الله عليه. فإن موافقة الفعل، بحسب قوة الداعي، وزوال المانع، وكان الداعي هاهنا في غاية القوة وذلك لوجوه:
أحدها- ما ركب الله سبحانه في طبع الرجل من ميله إلى المرأة كما يميل العطشان إلى الماء، والجائع إلى الطعام، حتى إن كثيرا من الناس يصبر عن الطعام والشراب، ولا يصبر عن النساء، وهذا لا يذم إذا صادف حلالا بل يحمد.
الثاني- أن يوسف عليه السلام كان شابا، وشهوة الشباب وحدّته أقوى.
الثالث- أنه كان عزبا لا زوجة له ولا سرية تكسر شدة الشهوة.
الرابع- أنه كان في غربة يتأتى للغريب فيها من قضاء الوطر ما لا يتأتى لغيره في وطنه، وبين أهله ومعارفه.
الخامس: أن المرأة كانت ذات منصب وجمال بحيث أن كل واحد من هذين الأمرين يدعو إلى مواقعتها.
السادس- أنها غير آبية ولا ممتنعة، فإن كثيرا من الناس يزيل رغبته في المرأة إباؤها وامتناعها، لما يجد في نفسه من ذل الخضوع والسؤال لها، وكثير من الناس يزيده الإباء والامتناع زيادة حب، كما قال الشاعر:
وزادني كلفا في الحب أن منعت | أحبّ شيء إلى الإنسان ما منعا |
السابع- أنها طلبت وأرادت وبذلت الجهد، فكفته مؤنة الطلب، وذل الرغبة إليها، بل كانت هي الراغبة الذليلة، وهو العزيز المرغوب إليه.
الثامن- أنه في دارها، وتحت سلطانها وقهرها، بحيث يخشى، إن لم يطاوعها، من أذاها له، فاجتمع داعي الرغبة والرهبة.
التاسع- أنه لا يخشى أن تنمي عليه هي، ولا أحد من جهتها، فإنها هي الطالبة والراغبة، وقد غلقت الأبواب، وغيبت الرقباء.
العاشر- أنه كان مملوكا لها في الدار، بحيث يدخل ويخرج ويحضر معها، ولا ينكر عليه، وكان الأنس سابقا على الطلب، وهو من أقوى الدواعي، كما قيل لامرأة من العرب: ما حملك على كذا؟ قالت: قرب الوساد، وطول السواد. تعني:
قرب وساد الرجل من وسادتي، وطول السواد بيننا.
الحادي عشر- أنها استعانت عليه بأئمة المكر والاحتيال، فأرته إياهن، وشكت حالها إليهن، لتستعين بهن عليه، فاستعان هو بالله عليهن، فقال: وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجاهِلِينَ [يوسف: ٣٣].
الثاني عشر- أنها توعدته بالسجن والصغار، وهذا نوع إكراه، إذ هو تهديد ممن يغلب على الظن وقوع ما هدد به، فيجتمع داعي الشهوة، وداعي السلامة، من ضيق السجن والصغار.
الثالث عشر- إن الزوج لم يظهر من الغيرة والقوة ما يفرق به بينهما، ويبعد كلّا منهما عن صاحبه، بل كان غاية ما خاطبهما به أن قال ليوسف: أَعْرِضْ عَنْ هذا [يوسف: ٢٩]، وللمرأة: اسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخاطِئِينَ [يوسف: ٢٩]، وشدة الغيرة للرجل من أقوى الموانع، وهنا لم يظهر منه غيرة.
ومع هذه الدواعي فآثر مرضاة الله وخوفه، وحمله حبه لله على أن اختار السجن على الزنى، فقال: رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ [يوسف:
٣٣]، وعلم أنه لا يطيق صرف ذلك عن نفسه، وأن ربه تعالى إن لم يعصمه ويصرف
ثم أشار تعالى إلى ما امتنّ به على يوسف من رفع قدره بصبره، وإعلاء منزلته برحمته بقوله سبحانه:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة يوسف (١٢) : آية ٥٤]
وَقالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنا مَكِينٌ أَمِينٌ (٥٤)
وَقالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي أي أخصه بها، دون العزيز، جريا على عادة الملوك من الاستئثار بالنفيس العزيز. قال ذلك لما تحقق براءته مما نسب إليه، وكرم نفسه، وسعة علمه فَلَمَّا كَلَّمَهُ أي فلما أتوا به، وكلمه، أي خاطبه الملك وعرفه، وشاهد فضله وحكمته وبراءته- وجوّز أن يكون فاعل (كلّمه) يوسف عليه السلام- قالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنا مَكِينٌ أي ذو مكانة ومنزل أَمِينٌ أي مؤتمن على كل شيء.
روي أن يوسف عليه السلام لما حضر الملك، وعبّر له رؤياه ابتهج بحديثه هو وخاصته، وقال لهم: هل نجد مثله رجلا مهبطا للإمداد الربانيّ؟ وقال ليوسف: بعد أن عرّفك الله هذا فلا يكون حكيم مثلك، وأنت على بيتي، وإلى كلمتك تنقاد رعيتي، ولا أكون أعظم منك إلا بعرشي، وقد أقمتك على جميع أرض مصر. ونزع خاتمه من يده، ووضعه في إصبعه، وألبسه ثياب بزّ، وجعل طوقا من ذهب في عنقه وأركبه مركبته، وأمر أن يطاف به في شوارع مصر، وينادى أمامه بالخضوع له، وقال له الملك: لا يمضي أمر، ولا ينفذ شأن في مصر إلا برأيك ومشورتك، وسماه مخلص العالم، وزوّجه بنت أحد العظماء لديه. وكان يوسف وقتئذ ابن ثلاثين سنة
- والله أعلم-.
قال بعضهم: إن من أمعن النظر في قصة يوسف عليه السلام، علم يقينا أن التقي الأمين لا يضيع الله سعيه، بل يحسن عاقبته، ويعلي منزلته في الدنيا والآخرة، وأن المعتصم بالصبر لا يخشى حدثان الدهر وتجاربه، ولا يخاف صروفه ونوائبه، فإن الله يعضده وينجح مسعاه ويخلد ذكره العاطر على ممر الأدهار فإن يوسف عليه
وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة يوسف (١٢) : آية ٥٥]
قالَ اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ (٥٥)
قالَ أي يوسف للملك اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ أي ولّني خزائن أرضك. يعني جميع الغلات لما يستقبلونه من السنين التي أخبرهم بشأنها، فيتصرف لهم على الوجه الأرشد والأصلح، ثم بين اقتداره في ذلك فقال: إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ أي أمين أحفظ ما تستحفظنيه، عالم بوجوه التصرف فيه.
قال الزمخشري: وصف نفسه بالأمانة والكفاية اللتين هم طلبة الملوك ممن يولونه.
وإنما قال ذلك ليتوصل إلى إمضاء أحكام الله تعالى، وإقامة الحق، وبسط العدل. والتمكن مما لأجله تبعث الأنبياء إلى العباد، ولعلمه أن أحدا غيره لا يقوم مقامه في ذلك فطلب التولية ابتغاء وجه الله، لا لحب الملك والدنيا.
فإن قلت: كيف جاز أن يتولى عملا من يد كافر، ويكون تبعا له، وتحت أمره وطاعته؟
قلت: روى مجاهد أنه كان قد أسلم. وعن قتادة هو دليل على أنه يجوز أن يتولى الإنسان عملا من يد سلطان جائز. وقد كان السلف يتولون القضاء من جهة البغاة ويرونه. وإذا علم النبيّ أو العالم أنه لا سبيل إلى الحكم بأمر الله ودفع الظلم إلا بتمكين الملك الكافر أو الفاسق، فله أن يستظهر به.
وقيل: كان الملك يصدر عن رأيه، ولا يعترض عليه في كل ما رأى، فكان في حكم التابع له والمطيع. انتهى.
قال أبو السعود: وإنما لم يذكر إجابة الملك إلى ما سأله، عليه السلام، من جعله على خزائن الأرض، إيذانا بأن ذلك أمر لا مردّ له، غنّي عن التصريح، ولا سيما بعد تقديم ما يندرج تحته من أحكام السلطنة بحذافيرها، من قوله: إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنا مَكِينٌ أَمِينٌ، وللتنبيه على أن كل ذلك من الله عزّ وجلّ، وإنما الملك آلة في ذلك.
تنبيه:
قال ابن كثير: خزائن الأرض هي الأهرام التي يجمع فيها الغلات... إلخ.
ولم أر الآن مستنده في كون الأهرام كانت مجمع الغلات، ولم أقف عليه في كلام غيره.
و (الأهرام) بفتح الهمزة، جمع هرم بفتحتين وهي مبان مربعة الدوائر، مخروطية الشكل، بقي منها الآن ثلاثة في الجيزة، بعيدة أميالا عن القاهرة، معدودة من غرائب الدنيا دعيت لرؤياها أيام رحلتي للديار المصرية عام ١٣٢١ هـ. وقد استقرّ رأي المتأخرين في تحقيق شأنها على أنها كانت مدافن لملوكهم.
ففي كتاب (الأثر الجليل لقدماء وادي النيل) : جميع الأهرام ليست إلا مقابر ملوكية آثر أصحابها أن يتميزوا بها بعد موتهم عن سائر الناس، كما تميزوا عنهم مدة حياتهم، وتوخّوا أن يبقى ذكرهم بسببها على تطاول الدهور، وتراخي العصور، وقد أجمع مؤرخو هذا العصر على أن الهرم الأكبر قبر للملك (خوفو) والثاني (خفرع) والثالث للملك (منقرع) وجميعهم من العائلة المنفيسية. ولا عبرة بقول من زعم أنها معابد أو مراصد للكواكب، أو مدرسة للمعارف الكهنوتية، أو غير ذلك. انتهى.
وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة يوسف (١٢) : آية ٥٦]
وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْها حَيْثُ يَشاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنا مَنْ نَشاءُ وَلا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (٥٦)
وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ أي أرض مصر يَتَبَوَّأُ مِنْها أي ينزل من
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة يوسف (١٢) : آية ٥٧]
وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ (٥٧)
وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ أي ثوابها خير من ثوب الدنيا للمؤمنين المتقين. إشارة إلى أن المطلب الأعلى هو ثواب الآخرة، وأن ما يدخر لهؤلاء هو أعظم وأجل مما يخولون به في الدنيا من التمكين في الأرض والجاه والثروة والملك.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة يوسف (١٢) : آية ٥٨]
وَجاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (٥٨)
وَجاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ إشارة إلى ما وقع من مصداق رؤيا يوسف. وذلك أن الأرض أخصبت سبع سنين، وأخرجت من بركاتها ما يعادل رمل البحر كثرة، فجمع يوسف غلالها، وجعل في كل مدينة غلال ما حولها من الحقول، ولما مضت هذه السبع، دخلت السنون المجدبة، فعمّ القحط مصر والشام ونواحيهما، فأخذ الناس، من سائر البلاد، في المسير إلى مصر ليمتاروا منها، لأنفسهم وعيالهم، لما علموا من وجود القوت فيها. وكان من جملة من سار للميرة إخوة يوسف، عن أمر أبيهم يعقوب، لتناول القحط بلادهم- فلسطين- فركبوا عشرة نفر، واحتبس يعقوب عنده ابنه بنيامين، شقيق يوسف، خشية أن يلحقه سوء، وكان أحب ولده إليه بعد يوسف. فلما هبطوا مصر، دخلوا على يوسف، ولم يعرفوه لطول العهد، ومفارقته إياهم في سن الحداثة، وعدم استشعارهم في أنفسهم أن يصير إلى ما صار إليه، وأما هو فعرفهم. روي أنهم لما دخلوا عليه سجدوا له بوجوههم إلى الأرض، تحية له فشرع يخاطبهم متنكرا لهم، وقال: من أين قدمتم؟
قالوا: من أرض كنعان، لنبتاع طعاما. فقال لهم: أنتم جواسيس، إنما جئتم لتجسوا ثغور الأرض! قالوا: معاذ الله! ما جاء عبيدك إلا للميرة، لأن الجهد أصابنا، ونحن إخوة، بنو أب واحد. قال: كم أنتم؟ قالوا: كنا اثني عشر، هلك منا واحد. قال:
فكم أنتم هاهنا؟ قالوا: عشرة. قال: فأين الأخ الحادي عشر؟ قالوا: هو عند أبيه يتسلى به من الهالك. قال: لا بد من امتحان صدق كلامكم، فليبق واحد منكم
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة يوسف (١٢) : آية ٥٩]
وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ قالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ أَلا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ (٥٩)
وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ بفتح الجيم، وقرئ بكسرها، أي أوقر ركائبهم بالطعام والميرة. قالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ أَلا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ أي أتمه وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ أي المضيّفين وقوله ذلك، تحريض لهم على الإتيان به، لا امتنان.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة يوسف (١٢) : آية ٦٠]
فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلا تَقْرَبُونِ (٦٠)
فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي أي فيما تستقبلون وَلا تَقْرَبُونِ أي ولا تقربوني بدخول بلادي مرة ثانية. فالياء محذوفة، والنون نون الوقاية.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة يوسف (١٢) : آية ٦١]
قالُوا سَنُراوِدُ عَنْهُ أَباهُ وَإِنَّا لَفاعِلُونَ (٦١)
قالُوا سَنُراوِدُ عَنْهُ أَباهُ أي سنخادعه ونحتال في انتزاعه من يده، ونجتهد في ذلك. وفيه تنبيه على عزة المطلب. وصعوبة مناله- قاله أبو السعود- وَإِنَّا لَفاعِلُونَ أي ذلك. يعنون المراودة، أو الإتيان به، فيكون ترقيا إلى الوعد بتحصيله بعد المراودة.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة يوسف (١٢) : آية ٦٢]
وَقالَ لِفِتْيانِهِ اجْعَلُوا بِضاعَتَهُمْ فِي رِحالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَها إِذَا انْقَلَبُوا إِلى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (٦٢)
وَقالَ لِفِتْيانِهِ أي لخدامه الكيالين: اجْعَلُوا بِضاعَتَهُمْ فِي رِحالِهِمْ يعني ببضاعتهم، ما شروا به الطعام. روي أنها كانت فضة. أي اجعلوها في أمتعتهم من
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة يوسف (١٢) : آية ٦٣]
فَلَمَّا رَجَعُوا إِلى أَبِيهِمْ قالُوا يا أَبانا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ فَأَرْسِلْ مَعَنا أَخانا نَكْتَلْ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ (٦٣)
فَلَمَّا رَجَعُوا إِلى أَبِيهِمْ قالُوا يا أَبانا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ أي أنذرنا بمنعه بعد هذا، إن لم نأت بأخينا، فَأَرْسِلْ مَعَنا أَخانا نَكْتَلْ أي نرفع المانع من الكيل، ونكتل من الطعام ما نحتاج إليه، وقرئ (يكتل) بالتحتية أي أخونا لنفسه مع اكتيالنا، وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ أي من أن يناله مكروه.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة يوسف (١٢) : آية ٦٤]
قالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلاَّ كَما أَمِنْتُكُمْ عَلى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ فَاللَّهُ خَيْرٌ حافِظاً وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (٦٤)
قالَ أي يعقوب لهم هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلَّا كَما أَمِنْتُكُمْ عَلى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ أي من قبله، يوسف. يعني: هل أقدر أن آخذ عليكم العهد والميثاق، أكثر مما أخذت عليكم في يوسف، وقد قلتم: وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ [يوسف: ١٢]، ثم خنتم بضمانكم؟ فما يؤمنني من مثل ذلك؟ فلا أثق بكم، ولا بحفظكم وإنما أفوض الأمر إلى الله فَاللَّهُ خَيْرٌ حافِظاً أي منكم ومن كل أحد وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ أي أرحم من والديه وإخوته، فأرجو أن يرحمني بحفظه. وهذا ميل منه إلى الإذن في إرساله معهم لما رأى فيه من المصلحة.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة يوسف (١٢) : آية ٦٥]
وَلَمَّا فَتَحُوا مَتاعَهُمْ وَجَدُوا بِضاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ قالُوا يا أَبانا ما نَبْغِي هذِهِ بِضاعَتُنا رُدَّتْ إِلَيْنا وَنَمِيرُ أَهْلَنا وَنَحْفَظُ أَخانا وَنَزْدادُ كَيْلَ بَعِيرٍ ذلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ (٦٥)
وَلَمَّا فَتَحُوا مَتاعَهُمْ وَجَدُوا بِضاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ أي وجدوا دراهمهم، ثمن طعامهم في متاعهم.
قالُوا يا أَبانا ما نَبْغِي أي ماذا نبتغي وراء ذلك؟ هل من زيادة؟ أي: لا مزيد على ما فعل، لأنه أكرمنا، وأحسن مثوانا، بإنزالنا عنده، وردّ الثمن علينا. والقصد إلى استنزاله عن رأيه. أو: لا نبغي في القول ولا نكذب فيما حكينا لك، من إحسانه الداعي إلى امتثال أمره. أو: ما نبغي وما ننطق إلا بالصواب فيما نشير به عليك من تجهيزنا مع أخينا وقرئ على الخطاب. أي: أيّ شيء تطلب وراء هذا من الدليل على صدقنا؟
هذِهِ بِضاعَتُنا رُدَّتْ إِلَيْنا جملة مستأنفة موضحة لما دل عليه الإنكار من بلوغ اللطف غايته، كأنهم قالوا: كيف لا، وهذه بضاعتنا ردت إلينا تفضلا من حيث لا ندري؟
وَنَمِيرُ أَهْلَنا معطوف على مقدر مفهوم. أي: فنستظهر بها، ونمير أهلنا إذا رجعنا إلى الملك: أي: نأتيهم بميرة، أي بطعام. يقال: (ماره) أتاه بطعام ومنه:
(ما عنده خير ولا مير).
وَنَحْفَظُ أَخانا أي: فلا يصيبه شيء مما تخافه وَنَزْدادُ كَيْلَ بَعِيرٍ أي باستصحابه ذلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ أي سهل على هذا الملك المحسن لسخائه، فلا يضايقنا فيه. أو المعنى قصير المدة، ليس سبيل مثله أن تطول مدته بسبب الحبس والتأخير أو المعنى: ذلك الذي يكال لنا دون أخينا شيء يسير قليل، فابعث أخانا معنا حتى نتسع ونتكثر بمكيله..
وقال ابن كثير: هذا من تمام الكلام وتحسينه. أي: إن هذا يسير في مقابلة أخذ أخيهم لا يعدل هذا. فلا يكون من كلامهم، والجملة محتملة للكل.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة يوسف (١٢) : آية ٦٦]
قالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقاً مِنَ اللَّهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلاَّ أَنْ يُحاطَ بِكُمْ فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قالَ اللَّهُ عَلى ما نَقُولُ وَكِيلٌ (٦٦)
قالَ أي لهم أبوهم لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ أي بهذه المقالة حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقاً
أي عهدا منه، ويمينا به، لتردنّه عليّ إِلَّا أَنْ يُحاطَ بِكُمْ أي تغلبوا كلكم، فلا تقدرون على تخليصه. وأصله من: (أحاط به العدوّ) سدّ عليه مسالك النجاة ودنا ملاكه.
فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قالَ اللَّهُ عَلى ما نَقُولُ وَكِيلٌ أي شهيد رقيب. والقصد حثهم على ميثاقهم بتخويفهم من نقضه بمجازاته تعالى.
قال ابن إسحاق: وإنما فعل ذلك لأنه لم يجد بدّا من بعثهم لأجل الميرة التي لا غنى بهم عنها.
لطيفة:
قال الناصر: ولقد صدقت هذه القصة المثل السائر، وهو قولهم: (البلاء موكل بالمنطق) فإن يعقوب عليه السلام قال أولا في حق يوسف: وَأَخافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ [يوسف: ١٣]، فابتلي من ناحية هذا القول. وقال هاهنا ثانيا: إِلَّا أَنْ يُحاطَ بِكُمْ أي تغلبوا عليه. فابتلي أيضا بذلك، وأحيط بهم وغلبوا عليه. انتهى.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة يوسف (١٢) : آية ٦٧]
وَقالَ يا بَنِيَّ لا تَدْخُلُوا مِنْ بابٍ واحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَما أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (٦٧)
وَقالَ أي أبوهم: يا بَنِيَّ لا تَدْخُلُوا مِنْ بابٍ واحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوابٍ مُتَفَرِّقَةٍ أي لئلا يستلفت دخولهم من باب واحد، أنظار من يقف عليه من الجند، ومن يعسّ للحاكم، فيريب بهم، لأن دخول قوم على شكل واحد، وزيّ متحد، على بلدهم غرباء عنه، مما يلفت نظر كل راصد. وكانت المدن وقتئذ مبوّبة لا ينفذ إليها إلا من أبوابها، وعلى كل باب حرسه، وليس دخول الفرد كدخول الجمع في التنبه، واتباع البصر. وقيل: نهاهم لئلا تصيبهم العين إذا دخلوا كوكبة واحدة- وسيأتي بيانه-.
وَما أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ أي لا أدفع عنكم بتدبيري شيئا مما قضى عليكم، فإن الحذر لا يمنع القدر.
قال أبو السعود: ولم يرد به عليه السلام إلغاء الحذر بالمرة، كيف لا وقد قال عزّ قائلا: وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ [البقرة: ١٩٥]، وقال: خُذُوا حِذْرَكُمْ [النساء: ٧١ و ١٠٢]. بل أراد بيان أن ما وصاهم به ليس مما يستوجب
إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أي لا يشاركه أحد، ولا يمانعه شيء عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة يوسف (١٢) : آية ٦٨]
وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ ما كانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ حاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضاها وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِما عَلَّمْناهُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٦٨)
وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ أي: من الأبواب المتفرقة ما كانَ أي ذلك الدخول يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا حاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضاها أي أبداها، وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِما عَلَّمْناهُ أي: علم جليل، لتعليمنا إياه بالوحي، ونصب الأدلة، حيث لم يعتقد أن الحذر، يدفع القدر، وأن التدبير، له حظ من التأثير. وفي تأكيد الجملة ب (إن) و (اللام) وتنكير العلم، وتعليله بالتعليم المسند إلى ذاته سبحانه، من الدلالة على شأن يعقوب عليه السلام، وعلوّ مرتبة علمه وفخامته، ما لا يخفى- أفاده أبو السعود-.
وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ أي فيظنون الأسباب مؤثرات.
قال ابن حزم في (الملل) : كان أمر يعقوب عليه السلام بدخولهم من أبواب متفرقة، إشفاقا عليهم، إما من إصابة العين، وإما من تعرض عدوّ، أو مستريب بإجماعهم، أو ببعض ما يخوّفه عليهم. وهو عليه السلام معترف أن فعله ذلك، وأمره إياهم بما أمرهم به من ذلك، لا يغني عنهم من الله شيئا يريده عزّ وجلّ بهم. ولكن لما كانت طبيعة البشر جارية في يعقوب عليه السلام، وفي سائر الأنبياء عليهم السلام، كما قال تعالى حاكيا عن الرسل أنهم قالوا: إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ [إبراهيم: ١١]، حملهم ذلك على بعض النظر المخفف لحاجة النفس ونزعها وتوقها إلى سلامة من تحب، وإن كان ذلك لا يغني شيئا، كما كان عليه السلام يحب الفأل الحسن «١».
قال السيوطي في (الإكليل) : في هذه الآية- على ما
روي عن ابن عباس ومجاهد وغيرهما- أن العين حق «١»، وأن الحذر لا يردّ القدر.
ومع ذلك لا بد من ملاحظة الأسباب. انتهى.
وقال بعض اليمانين: لهذه الجملة ثمرات وهي: استحباب البعد عن مضارّ العباد، والحذر عنها. فأما فعل الله تعالى فلا يغني الحذر عنه. ثم قال: وفي (التهذيب) أن أبا عليّ أنكر الضرر بالعين، وهو مروي عن جماعة من المتكلمين.
وصحح الحاكم والأمير الحسين وغيرهما جواز ذلك، لأخبار وردت فيها.
ثم قال: واختلف من أين أتت المضرة الحاصلة بالعين، فمن قائل: بأنه يخرج من عين العائن شعاع يتصل بمن يراه، فيؤثر فيه تأثير السم. وضعفه الحاكم بأنه لو كان كذلك، لما اختص ببعض الأشياء دون بعض، ولأن الجواهر متماثلة، فلا يؤثر بعضها في بعض. ومن قائل: بأنه فعل العائن. قال: وهذا لا يصح، لأن الجسم لا يفعل في جسم آخر شيئا إلا بمماسّته، أو ما في حكمها من الاعتمادات، ولأنه لو كان فعله، وقف على اختياره. ومن قائل: بأنه فعل الله، أجرى الله العادة بذلك لضرب من الإصلاح. وصحح هذا الحاكم، وهو الذي ذكره الزمخشري والأمير الحسين، وهو قول أبي هاشم، ذكره عنهما في (التهذيب) انتهى.
وقد أوضحه الرازي: بقوله: قال أبو هاشم وأبو القاسم البلخي: إنه لا يمتنع أن تكون العين حقّا، ويكون معناه أن صاحب العين إذا شاهد الشيء وأعجب به استحسانا كان المصلحة له في تكليفه أن يغير الله ذلك الشخص، وذلك الشيء حتى لا يبقى قلب ذلك المكلف متعلقا به، فهذا المعنى غير ممتنع. ثم لا يبعد أيضا أنه لو ذكر ربه عند تلك الحالة، وعدل عن الإعجاب، وسأل ربه أن يقيه ذلك، فعنده تتعيّن المصلحة. ولما كانت هذه العادة مطّردة، لا جرم قيل: العين حق.
انتهى.
أقول: وقد بسط الإمام ابن القيّم في (زاد المعاد) هذا البحث بما يشفي ويكفي، في (بحث هديه ﷺ في علاج العين) بعد إيراده ما روي في الصحيحين وغيرهما من حقيّة العين، وشهرة تأثيرها عند العرب، قال:
وقالت فرقة أخرى: لا يستبعد أن ينبعث من عين بعض الناس جواهر لطيفة، غير مرئية، فتتصل بالمعين، وتتخلل مسامّ جسمه، فيحصل له الضرر.
وقالت: فرقة أخرى: قد أجرى الله العادة بخلق ما يشاء من الضرر عند مقابلة عين العائن لمن يعينه، من غير أن يكون منه قوة ولا سبب ولا تأثير أصلا. وهذا مذهب منكري الأسباب والقوى والتأثيرات في العالم. وهؤلاء قد سدوا على أنفسهم باب العلل والتأثيرات والأسباب، وخالفوا العقلاء أجمعين. ولا ريب أن الله سبحانه خلق في الأجسام والأرواح قوى وطبائع مختلفة، وجعل في كثير منها خواصّ وكيفيات مؤثرة، ولا يمكن العاقل إنكار تأثير الأرواح في الأجسام، فإنه أمر مشاهد محسوس. وأنت ترى الوجه كيف يحمر حمرة شديدة إذا نظر إليه من يحتشمه.
ويستحيي منه، ويصفر صفرة شديدة عند نظر من يخافه، إليه. وقد شاهد الناس من يسقم من النظر، وتضعف قواه، وهذا كله بواسطة تأثير الأرواح. ولشدة ارتباطها بالعين ينسب الفعل إليها، وليست هي الفاعلة، وإنما التأثير للروح، والأرواح مختلفة في طبائعها وقواها وكيفياتها وخواصها، فروح الحاسد مؤذية للمحسود أذى بيّنا، ولهذا أمر الله سبحانه رسوله أن يستعيذ به من شره. وتأثير الحاسد في أذى المحسود أمر لا ينكره إلا من هو خارج عن حقيقة الإنسانية، وهو أصل الإصابة بالعين، فإن النفس الخبيثة الحاسدة تتكيف بكيفية خبيثة تقابل المحسود فتؤثر فيه بتلك الخاصية. وأشبه الأشياء بهذا، الأفعى. فإن السم كامن فيها بالقوة، فإذا قابلت عدوّها انبعث منها قوة غضبية، وتكيفت نفسها بكيفية خبيثة مؤذية فمنها ما تشتد كيفيتها وتقوى حتى تؤثر في إسقاط الجنين، ومنها ما يؤثر في طمس البصر. كما
في الأبتر وذي الطفيتين من الحيات: إنهما يلتمسان البصر، ويسقطان الحبل
. ومنها ما يؤثر في الإنسان كيفيتها بمجرد الرؤية من غير اتصال به، لشدة خبث تلك النفس، وكيفيتها الخبيثة الموثرة. والتأثير غير موقوف على الاتصالات الجسمية، كما يظنه من قل علمه، ومعرفته بالطبيعة والشريعة، بل التأثير يكون تارة بالاتصال، وتارة بالمقابلة، وتارة بالرؤية وتارة بتوجه الروح نحو من يوثر فيه، وتارة بالأدعية والرقي والتعوذات، وتارة بالوهم والتخيل. ونفس العائن لا يتوقف تأثيرها على الرؤية، بل قد يكون أعمى فيوصف له الشيء، فتؤثر نفسه فيه وإن لم يره. وكثير من العائنين يؤثر في المعين بالوصف من غير رؤية، وقد قال الله تعالى لنبيه: وَإِنْ يَكادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصارِهِمْ [القلم: ٥١]، وقال: قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ، مِنْ شَرِّ ما خَلَقَ وَمِنْ شَرِّ غاسِقٍ إِذا وَقَبَ، وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثاتِ فِي الْعُقَدِ، وَمِنْ شَرِّ حاسِدٍ إِذا حَسَدَ [الفلق: ١- ٥]، فكل عائن حاسد، وليس كل حاسد عائنا. فلما كان الحاسد أعم من العائن، كانت الاستعاذة منه استعاذة من العائن، وهي سهام تخرج من نفس الحاسد والعين نحو المحسود والمعين، تصيبه العين تارة، وتخطئه تارة، فإن صادفته مكشوفا لا وقاية عليه أثرت فيه، ولا بد. وإن صادفته حذرا، شاكي السلاح، لا منفذ فيه للسهام، لم تؤثر فيه، وربما ردت السهام على صاحبها. وهذا بمثابة الرمي الحسيّ سواء، فهذا من النفوس والأرواح، وهذا من الأجسام والأشباح.
وأصله من إعجاب العائن بالشيء، ثم يتبعه كيفية نفسه الخبيثة، ثم تستعين على تنفيذ سمها بنظرة إلى المعين. وقد يعين الرجل نفسه، وقد يعين بغير إرادته، بل بطبعه. وهذا أرادأ ما يكون من النوع الإنساني. وقد قال أصحابنا وغيرهم من الفقهاء: إن من عرف بذلك، حبسه الإمام، وأجرى له ما ينفق عليه إلى الموت. وهذا هو الصواب قطعا، انتهى. كلام ابن القيّم، عليه الرحمة.
وقال الرازي: ليس من شرط المؤثر أن يكون تأثره بحسب الكيفيات المحسوسة، أعني الحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة، بل قد يكون التأثير نفسانيا محضا، ولا يكون للقوى الجسمانية بها تعلق، والذي يدل عليه أن اللوح الذي يكون قليل العرض، إذا كان موضوعا على الأرض قدر الإنسان على المشي عليه، ولو كان موضوعا فيما بين جدارين عاليين لعجز الإنسان عن المشي عليه. وما ذاك إلا لأن خوفه من السقوط منه يوجب سقوطه، فعلمنا أن التأثرات النفسانية موجودة.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة يوسف (١٢) : آية ٦٩]
وَلَمَّا دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ آوى إِلَيْهِ أَخاهُ قالَ إِنِّي أَنَا أَخُوكَ فَلا تَبْتَئِسْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (٦٩)
وَلَمَّا دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ آوى إِلَيْهِ أَخاهُ قالَ إِنِّي أَنَا أَخُوكَ فَلا تَبْتَئِسْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ يخبر سبحانه بأن إخوة يوسف لما قدموا عليه، ضم إليه أخاه، بنيامين، إما على الطعام، أو في المنزل، وأعلمه بأنه أخوه، وقال له: لا تبتئس. أي لا تحزن بما كانوا يعملون بنا فيما مضى، فإن الله تعالى قد أحسن إلينا، وجمعنا بخير.
وقد روي أنهم لما قدموا عليه، ووقفوا بين يديه، رأى أخاه بنيامين معهم، فأمر بإنزالهم في بيته، وحلولهم في كرامته وضيافته، وحضورهم معه في غدائه. ثم دخل عليهم فقاموا وسجدوا له، وسألهم عن سلامة أبيهم، ورفع طرفه إلى أخيه، فأدناه وآواه إليه، وآنسه بحديثه- كما ذكر في الآية- ثم أراد يوسف أن يحتال على بقاء أخيه عنده، فتواطأ مع فتيانه، إذا جهز إخوته، أن يضعوا سقايته في رحل أخيه
، كما بينه تعالى بقوله.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة يوسف (١٢) : آية ٧٠]
فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ جَعَلَ السِّقايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسارِقُونَ (٧٠)
فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ أي من الطعام جَعَلَ السِّقايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ وهي
وقد روي أن يوسف لما جهزهم وارتحلوا، أمهلهم حتى انطلقوا وبعدوا قليلا عن المدينة، ثم أمر أن يسعى في إثرهم، ويؤذنوا بما فقد،
كما أشار إليه تعالى بقوله: ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسارِقُونَ.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة يوسف (١٢) : الآيات ٧١ الى ٧٢]
قالُوا وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ ماذا تَفْقِدُونَ (٧١) قالُوا نَفْقِدُ صُواعَ الْمَلِكِ وَلِمَنْ جاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ (٧٢)
قالُوا وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ ماذا تَفْقِدُونَ.
قالُوا نَفْقِدُ صُواعَ الْمَلِكِ وَلِمَنْ جاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ معنى (أذّن) نادى. يقال: آذنه: أعلمه، وأذّن أكثر الإعلام، ومنه (المؤذن) لكثرة ذلك منه.
و (العير) : الإبل التي عليها الأحمال، لأنها تعير، أي تذهب وتجيء، وهو اسم جمع للإبل، لا واحد له، فأطلق على أصابها. وقيل: هي قافلة الحمير، ثم كثر حتى قيل لكل قافلة (عير). و (الصواع) هو السقاية المتقدمة، إناء فضة.
تنبيه:
قال في (الإكليل) : في الآية دليل على جواز الحيلة في التوصل إلى المباح، وما فيه الغبطة والصلاح، واستخراج الحقوق.
قال ابن العربي: وفي إطلاق السرقة عليهم، وليسوا بسارقين، جواز دفع الضرر بضرر أقل منه.
وقوله تعالى: وَلِمَنْ جاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ أصل في الجعالة.
وقوله: وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ أصل في الضمان والكفالة. انتهى.
ولما اتهمهم المؤذن ومن معه من الفتيان:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة يوسف (١٢) : آية ٧٣]
قالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ ما جِئْنا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ وَما كُنَّا سارِقِينَ (٧٣)
قالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ ما جِئْنا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ وَما كُنَّا سارِقِينَ أي ما جئنا للسرقة، أو لمطلق فساد، وإنما جئنا للميرة، وما كنا نوصف بالسرقة. وإنما
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة يوسف (١٢) : الآيات ٧٤ الى ٧٥]
قالُوا فَما جَزاؤُهُ إِنْ كُنْتُمْ كاذِبِينَ (٧٤) قالُوا جَزاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزاؤُهُ كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (٧٥)
قالُوا فَما جَزاؤُهُ أي السارق إِنْ كُنْتُمْ كاذِبِينَ.
قالُوا أي لثقتهم ببراءتهم جَزاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزاؤُهُ أي جزاء سرقته، أخذ من وجد في رحله رقيقا. وهو قولهم: فَهُوَ جَزاؤُهُ تقريرا لذلك الحكم وإلزامه، أي: فأخذه جزاؤه لا غيره. ويجوز أن يكون جَزاؤُهُ مبتدأ، والجملة الشرطية كما هي خبره، على إقامة الظاهر مقام المضمر، والأصل جزاؤه من وجد في رحله فهو هو.
كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ أي بالسرقة، تأكيد إثر تأكيد، وبيان لقبح السرقة.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة يوسف (١٢) : آية ٧٦]
فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعاءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَها مِنْ وِعاءِ أَخِيهِ كَذلِكَ كِدْنا لِيُوسُفَ ما كانَ لِيَأْخُذَ أَخاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ (٧٦)
فَبَدَأَ أي فتى يوسف بِأَوْعِيَتِهِمْ أي ففتشها قَبْلَ وِعاءِ أَخِيهِ أي بنيامين، نفيا للتهمة ثُمَّ اسْتَخْرَجَها أي السقاية مِنْ وِعاءِ أَخِيهِ كَذلِكَ كِدْنا لِيُوسُفَ أي دبرنا لتحصيل غرضه ما كانَ لِيَأْخُذَ أَخاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ أي شرعه وقانونه. والجملة استئناف وتعليل لذلك الكيد وصنعه. أي: ما صح له أن يأخذ أخاه في قضاء الملك، فدبر تعالى ما حكم به إخوة يوسف على السارق، لإيصال يوسف إلى أربه، رحمة منه وفضلا. وفيه إعلام بأن يوسف ما كان يتجاوز قانون الملك، وإلا، لاستبد بما شاء، وهذا من وفور فطنته وكمال حكمته ويستدل به على جواز تسمية قوانين ملل الكفر (دينا) لها والآيات في ذلك كثيرة.
وقوله تعالى: إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ يعني: أن ذلك الأمر كان بمشيئة الله وتدبيره، لأن ذلك كله كان إلهاما من الله ليوسف وإخوته، حتى جرى الأمر وفق المراد.
وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ أي من أولئك المرفوعين عَلِيمٌ أي فوقه أرفع درجة منه.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة يوسف (١٢) : آية ٧٧]
قالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ فَأَسَرَّها يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِها لَهُمْ قالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكاناً وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما تَصِفُونَ (٧٧)
قالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ هذا تنصل منهم إلى العزيز بالتشبيه به أي: إن هذا فعل كما فعل أخ له من قبل، يعنون به يوسف.
فَأَسَرَّها يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِها لَهُمْ، قالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكاناً أي منزلة، حيث سرقتم أخاكم من أبيكم، ثم طفقتم تفترون على البريء.
وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما تَصِفُونَ أي من أمر يوسف.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة يوسف (١٢) : آية ٧٨]
قالُوا يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَباً شَيْخاً كَبِيراً فَخُذْ أَحَدَنا مَكانَهُ إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (٧٨)
قالُوا يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَباً شَيْخاً كَبِيراً فَخُذْ أَحَدَنا مَكانَهُ، إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ لما تعين أخذ بنيامين وإبقاؤه عند يوسف بمقتضى فتواهم، طفقوا يعطّفونه عليهم، بأن له أبا شيخا كبيرا يحبه حبا شديدا يتسلى به عن أخيه المفقود، فخذ أحدنا بدله رقيقا عندك.
قال بعضهم: الفقه من هذه الجملة أن للكبير حقا يتوسل به، كما توسلوا بكبر يعقوب وقد ورد في الاستسقاء إخراج الشيوخ. انتهى.
وفي ما عزموا عليه لإنقاذ أخيهم من شرك العبودية، المقضي عليه بها، ما يشفّ عن حسن طوية، ووفاء بالوعد، ويعرب عن أمانة، وصدق بر، وشدّة تمسك بموثق أبيهم، محافظة على رضاه وإكرامه، وهكذا فليتمسك البار بمرضاة أبويه.
وقولهم: إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ أي إلينا، فأتمم إحسانك بهذه التتمة.
أو من المتعودين بالإحسان، فليكن هذا منه.
قالَ مَعاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلاَّ مَنْ وَجَدْنا مَتاعَنا عِنْدَهُ إِنَّا إِذاً لَظالِمُونَ (٧٩)
قالَ مَعاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنا مَتاعَنا عِنْدَهُ إِنَّا إِذاً لَظالِمُونَ أي إن أخذنا بريئا بمتهم، لأنه لا يؤخذ أحد بجرم غيره. قال بعضهم: إلا ما ورد في العقل.
وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة يوسف (١٢) : آية ٨٠]
فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا قالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَباكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقاً مِنَ اللَّهِ وَمِنْ قَبْلُ ما فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ (٨٠)
فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا أي يئسوا من يوسف وإجابته لهم أشد يأس.
كما دل عليه (السين والتاء) فإنهما يزادان في المبالغة.
قال أبو السعود: وإنما حصلت لهم هذه المرتبة من اليأس، لما شاهدوه من عوذه بالله لما طلبوه، الدالّ على كون ذلك عنده في أقصى مراتب الكراهة، وأنه مما يجب أن يحترز عنه، ويعاذ بالله عزّ وجلّ، ومن تسميته (ظلما) بقوله: إِنَّا إِذاً لَظالِمُونَ، و (خلصوا) بمعنى اعتزلوا وانفردوا عن الناس، خالصين، لا يخالطهم سواهم، و (نجيّا) حال من فاعل (خلصوا) أي: اعتزلوا في هذه الحالة مناجين وإنما أفردت الحال، وصاحبها جمع، إما لأن النجي (فعيل) بمعنى (مفاعل) كالعشير والخليط، بمعنى المعاشر والمخالط، كقوله: وَقَرَّبْناهُ نَجِيًّا [مريم: ٥٢]، أي مناجيا، وهذا في الاستعمال يفرد مطلقا. يقال: هم خليطك وعشيرك أي مخالطوك ومعاشروك. وإما لأنه صفة على (فعيل) بمنزلة صديق، وبابه. فوحد لأنه بزنة المصادر، كالصهيل والوحيد والذميل. وإمّا لأنه مصدر بمعنى التناجي، أطلق على المتناجين مبالغة، أو لتأويله بالمشتق: والمصدر، ولو بحسب الأصل، يشمل القليل والكثير، وتنزيل المصدر منزلة الأوصاف أبلغ في المعنى، ولذا قال الزمخشري:
وأحسن منه- أي من تأويل نَجِيًّا بذوي نجوى أو فوجا نجيّا أي مناجيا- إنهم تمحضوا تناجيا لاستجماعهم لذلك، وإفاضتهم فيه، بجد واهتمام، كأنهم في
لطيفة:
ذكر القاضي عياض في (الشفا) في (بحث إعجاز القرآن) : أن أعرابيا سمع رجلا يقرأ: فلما استيأسوا منه خلصوا نجيّا، فقال: أشهد أن مخلوقا لا يقدر على مثل هذا الكلام.
وقال الثعالبي في كتاب (الإيجاز والإعجاز) في الباب الأول: من أراد أن يعرف جوامع الكلم، ويتنبه لفضل الاختصار، ويحيط ببلاغة الإيماء، ويفطن لكفاية الإيجاز فليتدبر القرآن، وليتأمل علوّه على سائر الكلام.
ثم قال: فمن ذلك قوله عز ذكره، في إخوة يوسف فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا وهذه صفة اعتزالهم جميع الناس وتقليبهم الآراء ظهرا لبطن، وأخذهم في تزوير ما يلقون به أباهم عند عودهم إليه، وما يوردون عليه من ذكر الحادث.
فتضمنت تلك الكلمات القصيرة معاني القصة الطويلة.
وقوله تعالى: قالَ كَبِيرُهُمْ أي في السن، كما هو المتبادر، وهو، فيما يروى، (رؤبين)، أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَباكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقاً مِنَ اللَّهِ أي عهدا وثيقا في ردّ أخيكم. وإنما جعل منه تعالى لكون الحلف كان باسمه الكريم. وَمِنْ قَبْلُ أي قبل هذا ما فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ أي قصرتم في شأنه و (ما) إما مزيدة، و (من) متعلق بالفعل بعده، والجملة حالية. وإما مصدرية في موضع رفع بالابتداء و (من قبل) خبره. أو في موضع نصب عطفا على معمول (تعلموا). وإما موصولة بالوجهين، أي: قدمتموه في حقه من الخيانة، ولم تحفظوا عهد أبيكم، بعد ما قلتم: وَإِنَّا لَهُ لَناصِحُونَ [يوسف: ١١]، ووَ إِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ [يوسف: ٦٣].
فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ أي: فلن أفارق أرض مصر حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أي في الرجوع أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي أي بالخروج من مصر، أو بخلاص أخي بسبب ما. وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ لأنه لا يحكم إلا بالحق والعدل.
ثم أمر كبيرهم أن يخبروا أباهم بما جرى، فقال:
ارْجِعُوا إِلى أَبِيكُمْ فَقُولُوا يا أَبانا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَما شَهِدْنا إِلاَّ بِما عَلِمْنا وَما كُنَّا لِلْغَيْبِ حافِظِينَ (٨١)
ارْجِعُوا إِلى أَبِيكُمْ فَقُولُوا يا أَبانا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ أي: نسب إلى سرقة صواع الملك، وَما شَهِدْنا إِلَّا بِما عَلِمْنا أي ما شهدنا عليه بالسرقة، إلا بما تيقناه من إخراج الصواع من رحله.
تنبيه:
استنبط بعضهم من هذا عدم جواز الشهادة على الكتابة بلا علم وتذكر. وكذا من سمع كلمه من وراء حجاب، لعدم العلم به- كذا في الإكليل- ولا يخفى أن مثل هذا مما يستأنس به في مواقع الخلاف.
وَما كُنَّا لِلْغَيْبِ حافِظِينَ أي: وما علمنا أنه سيسرق حين أعطيناك الموثق.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة يوسف (١٢) : آية ٨٢]
وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيها وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنا فِيها وَإِنَّا لَصادِقُونَ (٨٢)
وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيها يعنون مصر. أي: أرسل إلى أهلها فسلهم عن كنه القصة. وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنا فِيها أي جئنا معها. وكان صحبهم قوم من كنعان وَإِنَّا لَصادِقُونَ أي فيما أخبرناك.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة يوسف (١٢) : آية ٨٣]
قالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (٨٣)
قالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً معناه: فرجعوا إلى أبيهم، فقالوا له ما قال لهم أخوهم. فقال: بل سولت، أي زينت وسهلت أنفسكم أمرا، ففعلتموه.
لطيفة:
قال الزمخشري: أمرا أردتموه، وإلا فما أدرى ذلك الرجل أن السارق يؤخذ بسرقته، لولا فتواكم وتعليمكم.
ما كانَ لِيَأْخُذَ أَخاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ [يوسف: ٧٦]، تنبيها من الله تعالى على وجه اتهام يعقوب لهم، فعلم أن الملك إنما فعل ذلك بفتواهم له به، وظن أنهم أفتوه بذلك بعد ظهور السرقة تعمدا ليتخلف أخوهم، وكان الواقع أنهم استفتوا من قبل أن يدعي عليهم السرقة، فذكروا ما عندهم، ولم يشعروا أن المقصود إلزامهم بما قالوا.
واتهام من هو بحيث تتطرق التهمة إليه لا حرج فيه، وخصوصا فيما يرجع إلى الوالد من الولد. ويحتمل- والله أعلم- أن يكون الوجه الذي سوغ له هذا القول في حقهم، أنهم جعلوا مجرد وجود الصواع في رحل من يوجد في رحله، سرقة، من غير أن يحيلوا الحكم على ثبوت كونها سارقا بوجه معلوم، وهذا في شرعنا لا يثبت لا سرقة عليه- والله أعلم-.
وقوله: بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً واقع بمكانه من حالهم، وإن كان شرعهم يقتضي ذلك مخالفا لشرعنا، فالعمدة على الجواب الأول.
وقوله تعالى: فَصَبْرٌ جَمِيلٌ أي: بلا جزع عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً أي بيوسف وأخيه المتوقف بمصر، فتذهب أحزانه بمرة واحدة إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ أي العليم بحالي وحالهم، الحكيم في تشديد الأمر لينظر مقدار الصبر فيفيض بقدره الأجر، ومن الأجر المعجل تعجيل الفرج.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة يوسف (١٢) : آية ٨٤]
وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقالَ يا أَسَفى عَلى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْناهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ (٨٤)
وَتَوَلَّى أي أعرض عَنْهُمْ أي عن بنيه كراهة لما جاءوا به
ولم تنسني أوفى المصيبات بعده | وكل جديد يذكّر بالقديم |
وَابْيَضَّتْ عَيْناهُ مِنَ الْحُزْنِ وذلك لكثرة بكائه.
قال الزمخشري: إذا كثر الاستعبار محقت العبرة سواد العين، وقلبته إلى بياض كدر. فَهُوَ كَظِيمٌ أي مملوء من الغيظ على أولاده، ولا يظهر ما يسوؤهم.
(فعليل) بمعنى (مفعول) كقوله وَهُوَ مَكْظُومٌ [القلم: ٤٨]، أو بمعنى شديد التجرع للغيظ أو الحزن، لأنه لم يشكه إلى أحد قط. فهو بمعنى (فاعل).
تنبيه:
دلت الآية على جواز التأسف والبكاء عند المصيبة.
قال الزمخشري: فإن قلت: كيف جاز لنبيّ الله أن يبلغ به الجزع ذلك المبلغ؟
قلت: الإنسان مجبول على أن لا يملك نفسه عند الشدائد من الحزن، ولذلك حمد صبره، وأن يضبط نفسه حتى لا يخرج إلى ما لا يحسن.
ولقد بكى رسول الله ﷺ على ولده إبراهيم
وقال «١» : إن العين تدمع والقلب يحزن، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا، وإنا بفراقك يا ابراهيم لمحزونون.
وإنما الجزع المذموم ما يقع من الجهلة من الصياح والنياحة ولطم الصدور والوجوه وتمزيق الثياب.
وعن الحسن أنه بكى على ولد، أو غيره فقيل له في ذلك؟ فقال: ما رأيت الله جعل الحزن عارا على يعقوب.
أخرجه البخاريّ في: الجنائز، ٤٤- باب قول النبيّ ﷺ (إنّا بك لمحزونون)
، حديث ٦٩٢، عن أنس.
وأخرجه مسلم في: الفضائل، ١٥- باب رحمته ﷺ الصبيان والعيال، وتواضعه وفضل ذلك، حديث رقم ٦٢.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة يوسف (١٢) : آية ٨٥]
قالُوا تَاللَّهِ تَفْتَؤُا تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضاً أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهالِكِينَ (٨٥)
قالُوا أي أولاد يعقوب، لأبيهم على سبيل الرفق به، والشفقة عليه: تَاللَّهِ تَفْتَؤُا تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضاً أي مريضا مشفيا على الهلاك، أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهالِكِينَ أي بالموت. يقولون: إن استمر بك هذا الحال، خشينا عليك الهلاك والتلف، واستدل به على جواز الحلف بغلبة الظن. وقيل: إنهم علموه، لكنهم نزّلوه منزلة المنكر، فلذا أكّدوه. وتَفْتَؤُا مضارع فتئ، مثلثة التاء. يستعمل مع النفي ملفوظا أو منويّا لأن موضعه معلوم، فيحذف للتخفيف كقوله:
فقلت يمين الله أبرح قاعدا | ولو قطعوا رأسي لديك وأوصالي |
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة يوسف (١٢) : آية ٨٦]
قالَ إِنَّما أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (٨٦)
لَ إِنَّما أَشْكُوا بَثِّي
أي غمي وحالي. حُزْنِي إِلَى اللَّهِ
أي لا أشكو إلى أحد منكم ومن غيركم، إنما أشكو إلى ربي داعيا له، وملتجئا إليه، فخلّوني وشكايتي.
أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ
أي لمن شكا إليه من إزالة الشكوى، ومزيد الرحمةا لا تَعْلَمُونَ
ما يوجب حسن الظن به، وهو مع ظن عبده به.
ولما علم من شدة البلاء مع الصبر، قرب الفرج، قوّى رجاءهم، وأمرهم أن يرحلوا لمصر، ويتطلبوا خبر يوسف وأخيه بقوله:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة يوسف (١٢) : آية ٨٧]
يا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكافِرُونَ (٨٧)
يا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ أي تعرّفوا من نبئهما، وتخبروا
وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة يوسف (١٢) : آية ٨٨]
فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قالُوا يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنا بِبِضاعَةٍ مُزْجاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنا إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ (٨٨)
فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ أي على يوسف بعد ما رجعوا من مصر، ولانفهامه من المقام طوى ذكره إيجازا قالُوا: يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ أي: الملك القادر، المتمنع مَسَّنا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ أي: الشدة من الجدب. وَجِئْنا بِبِضاعَةٍ مُزْجاةٍ أي: بدراهم قليلة في مقابلة ما نمتاره. استقلوا الثمن واستحقروه اتضاعا لهيبة الملك، واستجلابا لرأفته وحنانه. وأصل معنى (التزجية) : الدفع والرمي، فكنوا به عن القليل الذي يدفع، رغبة عنه، لذلك فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ أي: أتممه ووفره بهذه الدراهم المزجاة، كما توفره بالدراهم الجياد. وَتَصَدَّقْ عَلَيْنا أي: بردّ أخينا، أو بالإيفاء، أو بالمسامحة وقبول ما لا يعد عوضا. إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ أي يثيبهم أحسن المثوبة.
تنبيهات:
الأول- في الآية إرشاد إلى أدب جليل، وهو تقديم الوسائل أمام المآرب، فإنها أنجح لها. وهكذا فعل هؤلاء: قدموا ما ذكر من رقة الحال، والتمسكن، وتصغير العوض، ولم يفجئوه بحاجتهم، ليكون ذريعة إلى إسعاف مرامهم، ببعث الشفقة، وهز العطف والرأفة وتحريك سلسلة الرحمة- كما قدمنا- ومن ثم، رقّ لهم، وملكته الرحمة عليهم، فلم يتمالك أن عرّفهم نفسه، كما يأتي- الثاني- يؤخذ من الآية جواز شكوى الحاجة لمن يرجى منه إزالتها.
الثالث- استدل بعضهم بقوله تعالى: فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ على أن أجرة الكيال على البائع، لأنه إذا كان عليه توفية الكيل، فعليه مؤنته، وما يتم به.
الرابع- استدل بقوله تعالى: وَتَصَدَّقْ عَلَيْنا من قال: إن الصدقة لم تكن
الخامس- في قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ حثّ على الإحسان، وإشارة إلى أن المحسن يجزى أحسن جزاء منه تعالى، وإن لم يجزه المحسن إليه.
ثم بيّن تعالى رأفة يوسف بتعرفه إليهم بقوله:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة يوسف (١٢) : آية ٨٩]
قالَ هَلْ عَلِمْتُمْ ما فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جاهِلُونَ (٨٩)
قالَ أي يوسف مجيبا لهم هَلْ عَلِمْتُمْ ما فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جاهِلُونَ أي شبان غافلون؟ استفهام تقرير، يفيد تعظيم الواقعة. ومعناه: ما أعظم ما ارتكبتم في يوسف، وما أقبح ما أقدمتم عليه! كما يقال للمذنب: هل تدري من عصيت وهل تعرف من خالفت؟ وهذه الآية تصديق لقوله تعالى: وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هذا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ [يوسف: ١٥].
لطائف:
الأولى- أبدى المهايميّ مناسبة بديعة في قول يوسف لهم: هَلْ عَلِمْتُمْ إثر قولهم: إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ، وهو أنهم أرادوا بقولهم: إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ أنه يعطيهم في الآخرة ما هو خير من العوض الدنيويّ، فأشار لهم يوسف بأنكم تريدون دفع الضرر العاجل، بوعد الأجر الآجل، ولا تدفعون عن أنفسكم الضرر الآجل، كأنكم تنكرونه، هل علمتم ضرر ما فعلتم بيوسف؟
الثانية- قيل: من تلطفه بهم قوله: إِذْ أَنْتُمْ جاهِلُونَ كالاعتذار عنهم، لأن فعل القبيح على جهل بمقدار قبحه، أسهل من فعله على علم. وهم لو ضربوا في طرق الاعتذار لم يلفوا عذرا كهذا. ألا ترى أن موسى عليه السلام، لما اعتذر عن نفسه لم يزد على أن قال: فَعَلْتُها إِذاً وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ [الشعراء: ٢٠] ففيه تخفيف للأمر عليهم.
الثالثة- قال الزمخشري: فإن قلت: ما فعلهم بأخيه؟ قلت: تعريضهم إياه للغمّ والثكل، بإفراده عن أخيه لأبيه وأمه، وجفاؤهم به، حتى كان لا يستطيع أن يكلم أحدا منهم إلا كلام الذليل للعزيز، وإيذاؤهم له بأنواع الأذى. انتهى.
قالُوا أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قالَ أَنَا يُوسُفُ وَهذا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (٩٠)
قالُوا أي: استغرابا وتعجبا من أن هذا لا يعلمه إلا يوسف: أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ؟ قالَ: أَنَا يُوسُفُ أي: الذي فعلتم به ما فعلتم، وَهذا أَخِي أي من أبويّ.
قال أبو السعود: زادهم ذلك مبالغة في تعريف نفسه، وتفخيما لشأن أخيه، وتكملة لما أفاده قوله: هَلْ عَلِمْتُمْ ما فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ حسبما يفيده قوله:
قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا فكأنه قال: هل علمتم ما فعلتم بنا من التفريق والإذلال، فأنا يوسف، وهذا أخي، قد منّ الله علينا بالخلاص مما ابتلينا به، والاجتماع بعد الفرقة، والعزة بعد الذلة، والأنس بعد الوحشة.
ثم علل ذلك بطريق الاستئناف التعليلي بقوله: إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ أي ربه في جميع أحواله وَيَصْبِرْ أي: على الضراء، وعن المعاصي. فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ أي أجرهم وفي وضع الظاهر موضع الضمير، تنبيه على أن المنعوتين بالتقوى والصبر، موصوفون بالإحسان.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة يوسف (١٢) : آية ٩١]
قالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنا وَإِنْ كُنَّا لَخاطِئِينَ (٩١)
قالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنا أي فضّلك بما ذكرت من التقوى والصبر، وسيرة المحسنين وَإِنْ كُنَّا لَخاطِئِينَ أي: وإن شأننا وحالنا أنا كنا متعمدين للذنب، لم نتق ولم نصبر، ففعلنا بك ما فعلنا، ولذلك أوثرت علينا. وفيه إشعار بالتوبة والاستغفار، ولذلك:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة يوسف (١٢) : آية ٩٢]
قالَ لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (٩٢)
قالَ لا تَثْرِيبَ أي: لا تعيير ولا توبيخ ولا تقريح، عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ أي: وإن كنتم ملومين قبل ظهور منتهى فعلكم، ولا إثم عليكم، إذ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ أي حقي لرضاي عنكم، وحقه أيضا لواسع رحمته كما قال: وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ أي:
وقال الشريف المرتضى في (الدرر) : إن اليوم موضوع موضع الزمان كله كقوله:
اليوم يرحمنا من كان يغبطنا | واليوم نتبع من كانوا لنا تبعا |
وقوله: وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ تحقيق لحصول المغفرة لأنه عفا عنهم، فالله أولى بالعفو والرحمة لهم، وبيان للوثوق بإجابة الدعاء. وجوز تعلق (اليوم) ب (يغفر). والجملة خبرية سيقت بشارة بعاجل غفران الله، لما تجدد يومئذ من توبتهم وندمهم على خطيئتهم. والوجه الأول أظهر. والثاني من الإغراب في التوجيهات.
تنبيه:
قال بعضهم: إن تجاوز يوسف عن ذنب إخوته، وإبقاءه عليهم، ومصافاته لهم، تعلمنا أن نغفر لمن يسيء إلينا، ونحسن إليه، ونصفي له الودّ، وأن نغضي عن كل إهانة تلحق بنا، فيسبغ الله تعالى إذ ذاك علينا نعمه وخيراته في هذه الدنيا، كما أوسع على يوسف ويورثنا السعادة الأخروية. وأما إذا أضمرنا السوء للمسيئين إلينا، ونقمنا منهم، فينتقم الله منا، ويوردنا مورد الثبور، فنعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا.
ثم قال لهم يوسف:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة يوسف (١٢) : آية ٩٣]
اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هذا فَأَلْقُوهُ عَلى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيراً وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ (٩٣)
اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هذا فَأَلْقُوهُ عَلى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيراً وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ
وفي (الكنوز) من كتب الطب: الفرح، إن كان بلطف، فإنه ينفع الجسم، ويبسط النفس، ويريح العقل، فتقوى الأعضاء وتنتعش. انتهى.
ثم رأيت الرازيّ عوّل على نحو ما ذكرناه، وعبارته: قال المفسرون: لما عرفهم يوسف سألهم عن أبيه، فقالوا: ذهبت عيناه، فأعطاهم قميصه. قال المحققون: إنما عرف أن إلقاء القميص على وجهه يوجب قوة البصر بوحي من الله تعالى، ولولا الوحي، لما عرف ذلك، لأن العقل لا يدل عليه. ويمكن أن يقال: لعل يوسف عليه السلام علم أن أباه ما صار أعمى إلا أنه من كثرة البكاء، وضيق القلب، ضعف بصره، فإذا ألقي عليه قميصه، فلا بد أن ينشرح صدره، وأن يحصل في قلبه الفرح الشديد.
وذلك يقوي الروح، ويزيل الضعف عن القوى، فحينئذ يقوى بصره، ويزول عنه ذلك النقصان. فهذا القدر مما يمكن معرفته بالقلب. فإن القوانين الطبية تدل على صحة هذا المعنى. انتهى.
ولعل الرازيّ عنى بالمحققين الصوفية، أو من يقف على الظاهر وقوفا بحتا، ولا يخفى أن أسلوب التنزيل في كناياته ومجازاته أسلوب فريد، ينبغي التفطن له.
وقد جوز في قوله: يَأْتِ بَصِيراً أن يكون معناه يصير بصيرا، أو يجيء إليّ بصيرا، على حقيقة الإتيان ف (بصيرا) حال. قيل: ينصره قوله: وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ أي: بأبي وغيره، وفيه نظر، لأن اتحاد الفعلين هنا في المبنى لا يدل على اتحادهما في المعنى. ولا يقال: الأصل الحقيقة، لأن ذلك فيما يقتضيه السياق، ولا اقتضاء هنا. فالأول أرق وأبدع، لما فيه من التجانس.
روي أن يوسف عليه السلام، بعد أن دعا لهم بالمغفرة قال لهم: إن الله بعثني أمامكم لأحييكم وقد مضت سنتا جوع في الأرض وبقي خمس سنين، ليس فيها حرث ولا حصاد. فأرسلني الله أمامكم ليجعل لكم بقية في الأرض، ويستبقيكم
وكان نما الخبر إلى بيت فرعون. وقيل: جاء إخوة يوسف، فسرّ بذلك فرعون وخاصته وأمره أيضا بأن يؤكد عليهم إتيانهم بأبيهم وأهلهم، ووعدهم خير أرض في مصر تكون لهم، لئلا يأسفوا على ما خلّفوا. ثم زود يوسف إخوته أحسن زاد. وأعطاهم من الحلل والثياب والدراهم مقدارا وافرا، وبعث إلى أبيه بمثل ذلك، وأصحبهم عجلات لأطفالهم ونسائهم، وأوصاهم ألا يتخاصموا في الطريق- والله أعلم-.
وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة يوسف (١٢) : آية ٩٤]
وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلا أَنْ تُفَنِّدُونِ (٩٤)
وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ أي خرجت من مصر. يقال: فصل القوم عن المكان وانفصلوا، بمعنى فارقوه قالَ أَبُوهُمْ أي: لحفدته ومن حوله من قومه، من عظم اشتياقه ليوسف، وانتظاره لروح الله: إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلا أَنْ تُفَنِّدُونِ الريح:
الرائحة، توجد في النسيم. أي: لأتنسم رائحته مقبلة إليّ. كناية عن تحققه وجوده بما ألقى الله في روعه من حياته، وساق إليه من نسائم البشارة الغيبية بسلامته. وقد كان عظم رجاؤه بذلك من مولاه، ووثق بنيل مأموله ومبتغاه، ولذلك نهى نبيه عن الاستيئاس من روح الله. وإذا دنا أجل الضراء، أخذت تهب نسائم الفرج حاملة عرف السراء، يدري ذلك كل من قوي إحساسه، وعظمت فطنته، واستنارت بصيرته، فيكاد أن يلمس في نهاية الشدة زهر الفرج، ولا يحنث إن آلى أنه يجد من نسيمه أزكى الفرج. عرف ذلك من عرف، فأحرى بمن نالوا من النبوة ذروة الشرف.
وإضافة الريح إلى الولد معروفة في كلامهم:
وفي حديث عند الطبرانيّ: ريح الولد من ريح الجنة
: وقال الشاعر:
ريح الخزامى في البلد
وقوله: لَوْلا أَنْ تُفَنِّدُونِ بمعنى إلا أنكم تفندون. أو لولاه لصدقتموني.
و (فنّده) نسبه إلى الفند بفتحتين. وهو ضعف الرأي والعقل من الهرم وكبر السن.
قال في (العناية) : مأخوذ من الفند، وهو الحجر والصخرة، كأنه جعل حجرا لقلة فهمه، كما قال:
إذا أنت لم تعشق ولم تدر ما الهوى... فكن حجرا من يابس الصّخر جلمدا
ثم اتسع فيه فقيل: فنده، إذا ضعّف رأيه، ولامه على ما فعله.
وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة يوسف (١٢) : آية ٩٥]
قالُوا تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ (٩٥)
قالُوا أي حفدته ومن عنده: تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ أي لفي ذهابك عن الصواب المتقدم، في إفراطك في محبة يوسف، ولهجتك بذكره، ورجائك للقائه، وكان عندهم أنه مات أو تشتت، فاستحال الاجتماع به. وجعله فيه لتمكنه ودوامه عليه.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة يوسف (١٢) : آية ٩٦]
فَلَمَّا أَنْ جاءَ الْبَشِيرُ أَلْقاهُ عَلى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيراً قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (٩٦)
فَلَمَّا أَنْ جاءَ الْبَشِيرُ أي المخبر بما يسرّه من أمر يوسف أَلْقاهُ عَلى وَجْهِهِ أي: طرح البشير القميص على وجه يعقوب، أو ألقاه يعقوب نفسه على وجهه، فَارْتَدَّ بَصِيراً أي عاد بصيرا لما حدث فيه من السرور والانتعاش. قالَ: أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ أي: من حياة يوسف، وإنزال الفرج وجوّز كون إِنِّي أَعْلَمُ كلاما مبتدأ. والمقول لا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إن كان الخطاب لبنيه. أو إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ إن كان لحفدته ومن عنده.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة يوسف (١٢) : آية ٩٧]
قالُوا يا أَبانَا اسْتَغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا إِنَّا كُنَّا خاطِئِينَ (٩٧)
قالُوا يا أَبانَا اسْتَغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا إِنَّا كُنَّا خاطِئِينَ الضمير لبنيه. طلبوا أن يستغفر
ولما كان من حق المعترف بذنبه أن يصفح عنه، ويسأل له المغفرة، وعدهم بذلك:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة يوسف (١٢) : آية ٩٨]
قالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (٩٨)
قالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي، إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ أي: سوف أدعوه لكم، فإنه المتجاوز عن السيئات، الرحيم لمن تاب.
قال المهايميّ: صرّحوا بالذنوب دون الله، لمزيد اهتمامهم بها، وكأنهم غلب عليهم النظر إلى قهره. وصرّح يعقوب بذكر الرب دون الذنوب، إذ لا مقدار لها بالنظر إلى رحمته التي ربّي بها الكل. انتهى.
وهذا من دقائق لطائف التنزيل ومحاسنها فيه.
تنبيه:
قيل: في هذه الآيات دلالة على جواز التبشير ببشائر الدنيا واستحبابه، وجواز السرور بحصول النعم الحاصلة في الدنيا. وفيها دلالة على إرجاء الاستغفار والدعاء لوقت يرى أنه أحضر فيه قلبا من غيره أو أنه أفضل وأقرب للإجابة.
وقد روي أنه أخر الاستغفار إلى السحر.
وتخصيص الأوقات الفاضلة بالاستغفار والدعاء معروف في السنة، ومنه شرع الاستغفار في السحر، وعقب الصلوات، وقضاء الحج. وكان الدعاء في السجود، وعند الأذان، وبينه وبين الإقامة، والإفطار من الصيام، أقرب للإجابة مما عداه.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة يوسف (١٢) : آية ٩٩]
فَلَمَّا دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ آوى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ (٩٩)
فَلَمَّا دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ آوى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ إشارة إلى ورود يعقوب وآله على يوسف. وذلك أنهم تخلوا عن آخرهم، وترحلوا من بلاد كنعان، وأركبوا أطفالهم
وروي أنهم كانوا سبعين نفسا
- وتقدمهم يهوذا إلى يوسف ليدله على أرض (جاسان) فينزلوها. ثم خرج يوسف في مركبته، فتلقى أباه في (جاسان) ولما ظهر له ألقى بنفسه على عنقه وبكى طويلا. والمراد بدخولهم على يوسف وصولهم لملتقاه خارج البلد، وبإيواء أبويه ضمهما إليه، واعتناقهما واصطحابه لهما في مركبه. قالوا: عنى بأبويه والده وخالته، لأن أمه راحيل توفيت وهي نفساء بأخيه بنيامين، وتنزيل الخالة منزلة الأم، لكونها مثلها في زوجة الأب، وقيامها مقامها وتوقيرها، كتنزيل العم منزلة الأب في قوله: وَإِلهَ آبائِكَ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ [البقرة: ١٣٣].
وَقالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ أي من القحط وأصناف المكاره.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة يوسف (١٢) : آية ١٠٠]
وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً وَقالَ يا أَبَتِ هذا تَأْوِيلُ رُءْيايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَها رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِما يَشاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (١٠٠)
وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ أي أجلسها معه على سرير ملكه تكريما لهما وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً أي سجد له أبوه وإخوته الباقون، وكانوا أحد عشر، تحية وتكرمة له. وكان السجود عندهم للكبير يجري مجرى التحية عندنا.
وَقالَ يا أَبَتِ هذا أي السجود تَأْوِيلُ أي تعبير رُءْيايَ مِنْ قَبْلُ أي التي رأيتها أيام الصبا، وهي سجود أحد عشر كوكبا والشمس والقمر قَدْ جَعَلَها رَبِّي حَقًّا أي صدقا مطابقا للواقع في الحسّ وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ أي نجاني من العبودية، وجعل الملك مطيعا لي مفوضا إليّ خزائن الأرض، وفي الاقتصار على التحدث بالخروج من السجن على جلالة ملكه، وفخامة شأنه من التواضع، وتذكر ما سلف من الضراء، استدامة للشكر، ما فيه من أدب النفس الباهر، وفيه إشارة إلى النعمة في الانطلاق من الحبس، لأنه كما قال عبد الملك بن العزيز، لما كان في حبس الرشيد:
ومحلة شمل المكاره أهلها | وتقلّدوا مشنوءة الأسماء |
دار يهاب بها اللئام وتتّقى | وتقلّ فيها هيبة الكرماء |
ويقول علج ما أراد، ولا ترى | حرّا يقول برقة وحياء |
ويرقّ عن مسّ الملاحة وجهه | فيصونه بالصمت والإغضاء |
خرجنا من الدنيا ونحن من أهلها | فلسنا من الأحياء فيها ولا الموتى |
هذا وقد حاول كثير من الأدباء مدح السجن بسحر بيانهم، فقال عليّ بن الجهم:
قالوا:
حبست فقلت ليس بضائري | حبسي. وأيّ مهنّد لا يغمد؟ |
أو ما رأيت الليث يألف غابه | كبرا وأوباش السّباع تردّد |
والبدر يدركه المحاق فتنجلي | أيّامه وكأنه متجدّد |
ولكل حال معقب ولربّما | أجلى لك المكروه عمّا تحمد |
والسجن، ما لم تغشه لدنيّة | شنعاء، نعم المنزل المتورّد |
بيت يجدّد للكريم كرامة | فيزار فيه ولا يزور ويحفد |
أما في رسول الله يوسف أسوة | لمثلك محبوسا على الجور والإفك |
أقام جميل الصّبر في السجن برهة | فآل به الصبر الجميل إلى الملك |
وَجاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ أي البادية، وقد كانوا أصحاب مواش، مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ أي أفسد الشَّيْطانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي أي بالحسد. وأسنده إلى الشيطان لأنه بوسوسته وإلقائه. وفيه تفاد عن تثريبهم أيضا. وإنما ذكره لأن النعمة بعد البلاء أحسن موقعا.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة يوسف (١٢) : آية ١٠١]
رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (١٠١)
رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ أي بعضا منه عظيما، وهو ملك مصر، وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ أي تعبير الرؤيا، فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي مبدعهما وخالقهما، أَنْتَ وَلِيِّي أي مالك أموري، فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ أي من النبيين والمرسلين. دعا يوسف عليه السلام بهذا الدعاء لما تمت نعمة الله عليه باجتماعه بأبويه وإخوته وما آثره به من العلم والملك، فسأل ربه عز وجلّ، كما أتم عليه نعمته في الدنيا، أن يحفظها عليه باقي عمره، حتى إذا حان أجله قبضه على الإسلام، وألحقه بالصالحين. فلبس فيه تمنّ للموت، وطلب التوفي منجزا كما قيل.
روى الإمام أحمد والشيخان عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا يتمنينّ أحدكم الموت لضر نزل به، إن كان محسنا فيزداد، وإن كان مسيئا فلعله يستعتب:
ولكن ليقل: اللهم أحيني ما كانت الحياة خيرا لي
وفي رواية: وتوفني إذا كانت الوفاة خيرا لي «١».
تنبيهان:
الأول- في فقه هذه الآيات: قال بعض اليمانين: يستدل مما
روي أن يوسف خرج للقاء أبيه، على حسن التعظيم باللقاء
، وكذا يأتي مثله في التشييع، ومنه ما روي في تشييع الضيف: ويستدل مما روي أن المراد بأمه خالته- كما مر- أن من نسب رجلا إلى خالته فقال: يا ابن فلانة! لم يكن قاذفا لها ويستدل من رفعهما على العرش- وهو السرير الرفيع- جواز اتخاذه، ورفع الغير، تعظيما للمرفوع، ويستدل من قوله:
وَجاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ على أن الانتقال منه نعمة، وذلك لما يحلق أهل البادية من
ومسلم في: الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، حديث رقم ١٠.
والإمام أحمد في مسنده ٣/ ١٠١.
أرض الحراثة لو أتاها جرول | أعني الحطيئة لاغتدى حرّاثا |
ما جئتها من أي وجه جئتها | إلا حسبت بيوتها أجداثا |
بزيادة.
الثاني- قص كثير نبأ استقرار يعقوب وآله بمصر. ومجمله أن يوسف اختار لمستقرهم أرض جاسان. فلما دخلوا مصر أخبر يوسف فرعون بقدوم أبيه وإخوته وجميع ما لهم إلى أرض جاسان، ثم أدخل أباه على فرعون. فأكرمه وكلمه حصة.
وسأله عن عمره فأجابه: مائة وثلاثون سنة، وأقطعه وبنيه أجود أرض في مصر، وهي أرض رعمسيس، أي عين شمس، وملكها إياهم، ودعا له يعقوب ثم انصرف. ثم أخذ يوسف خمسة من إخوته، فمثلهم بين يدي فرعون، فقال لهم: ما حرفتكم فأجابوه-: كما أوصاهم يوسف-: نحن وآباؤنا رعاة غنم! فقال فرعون ليوسف: إن كنت تعلم أن فيهم ذوي حذق، فأقمهم وكلاء على ماشيتي. وأجرى يوسف لأبيه وإخوته وسائر أهله طعاما على حسبهم. وأقاموا في أرض مصر بجاسان، فتملكوا فيها، ونموا وكثروا جدّا. وعاش يعقوب في أرض مصر سبع عشرة سنة، فكانت مدة عمره كله مائة وسبعا وأربعين سنة. ولما دنا أجله قال ليوسف: لا تدفني بمصر إذا مت، بل احملني منها إلى مدفن آبائي، فأجابه لذلك. ثم بعد مدة أخبر يوسف بمرض أبيه، فأخذ ولديه وسار إلى أبيه، فانتعش أبوه بمقدمه، ورأى ولديه، فقال:
من هذان؟ فقال: ابناي رزقنيهما الله هاهنا. فقال: أدنهما مني، فأدناهما، فقبلهم، ودعا لهما، وقال له: لم أكن أظن أني أرى وجهك، والآن أراني الله نسلك أيضا. ثم أعلم يوسف بدنو أجله، وبشره بأن الله سيكون معكم، ويردكم إلى أرض آبائكم. ثم دعا بقية بنيه، ودعا لهم بالبركة، وأوصاهم بأن يضموه إلى قومه، ويدفنوه مع آبائه في
(٢) أخرجه البخاريّ في: بدء الخلق، ١٥- باب خير مال المسلم غنم يتبع بها شعف الجبال، حديث ١٥٦٢ عن ابن مسعود، من حديث، ونصه: ألا إن القسوة وغلظ القلوب.. إلخ.
وأخرجه مسلم في: الإيمان، حديث رقم ٨١.
هذا ما قصه قدماء المؤرخين، والله أعلم بالحقائق. وإنما لم يذكر هذا، القرآن الكريم، لأن القرآن لم يبن على قانون التاريخ، فليس فيه شيء من التاريخ من حيث هو قصص وأخبار، وإنما هي الآيات والعبر، تجلت في سياق الوقائع، ولذلك لم تذكر قصة بترتيبها وتفاصيلها، وإنما يذكر موضع العبرة فيها، كما سيأتي الإشارة إليه في قوله تعالى: لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبابِ [يوسف: ١١١]، وقوله:
وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ الرُّسُلِ ما نُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَكَ [هود: ١٢٠]، ومضى في المقدمة بسط هذا البحث، فراجعه. وسنذكر إن شاء الله في آخر السورة شيئا من الحكم والعبر المقتبسة من نبأ يوسف، فانتظر.
وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة يوسف (١٢) : آية ١٠٢]
ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ (١٠٢)
ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ إشارة إلى ما سبق من نبأ يوسف، البعيد درجة كماله في جميع ما لا يتناهى من المحاسن والأسرار حتى صار معجزا.
والخطاب لرسول الله ﷺ أي: هذا من أخبار الغيوب السابقة، نوحيه إليك، ونعلمك به، لما فيه من العبرة والاتعاظ.
وقوله تعالى: وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ كالدليل على كونه نبأ غيبيا ووحيا سماويا. أي: لم تعرف هذا النبأ إلا من جهة الوحي، لأنك لم
قال أبو السعود: وليس المراد مجرد نفي حضوره عليه الصلاة والسلام في مشهد إجماعهم ومكرهم فقط، بل سائر المشاهد أيضا. وإنما تخصيصه بالذكر لكونه مطلع القصة، وأخفى أحوالها كما ينبئ عنه قوله تعالى وَهُمْ يَمْكُرُونَ والخطاب- وإن كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم- لكن المراد إلزام المكذبين. والمعنى: ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك، إذ لا سبيل إلى معرفتك إياه سوى ذلك، إذ عدم سماعك ذلك من الغير، وعدم مطالعتك للكتب أمر لا يشك فيه المكذبون أيضا، ولم تكن بين ظهرانيهم عند وقوع الأمر حتى تعرفه كما هو، فتبلغه إليهم. وفيه تهكم بالكفار، فكأنهم يشكّون في ذلك فيدفع شكهم. وفيه أيضا إيذان بأن ما ذكر من النبأ هو الحق المطابق للواقع، وما ينقله أهل الكتاب ليس على ما هو عليه. يعني: أن مثل هذا التحقيق بلا وحي لا يتصور إلا بالحضور والمشاهدة، وإذ ليس ذلك بالحضور فهو بالوحي. ومثله قوله تعالى: وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ [آل عمران: ٤٤]، وقوله: وَما كُنْتَ بِجانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنا إِلى مُوسَى الْأَمْرَ. انتهى.
وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة يوسف (١٢) : آية ١٠٣]
وَما أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ (١٠٣)
وَما أَكْثَرُ النَّاسِ يريد به العموم، أو أهل مكة وَلَوْ حَرَصْتَ أي جهدت كل الجهد على إيمانهم، وبالغت في إظهار الآيات القاطعة الدالة على صدقك، بِمُؤْمِنِينَ أي بالكتب والرسل، لميلهم إلى الكفر، وسبيل الشر. يعني: قد وضح بمثل هذا النبأ نبوته صلوات الله عليه، وقامت الحجة، ومع ذلك فما آمن أكثر الناس، كما قال تعالى: إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ [الشعراء: ٨- ٦٧- ١٠٣- ١٢١- ١٣٩- ١٥٨- ١٧٤- ١٩٠].
قال الرازي: ما معناه: وجه اتصال هذه الآية بما قبلها، أن كفار قريش، وجماعة من اليهود، طلبوا من النبيّ عليه الصلاة والسلام قص نبأ يوسف تعنتا، فكان
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة يوسف (١٢) : آية ١٠٤]
وَما تَسْئَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (١٠٤)
وَما تَسْئَلُهُمْ عَلَيْهِ أي على هذا النصح، والدعاء إلى الخير والرشد، مِنْ أَجْرٍ أي أجرة إِنْ هُوَ أي ما هو، يعني القرآن، إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ أي: عظة لهم، يتذكرون به ويهتدون وينجون في الدنيا والآخرة يعني: أن هذا القرآن يشتمل على العظة البالغة، والمراشد القويمة، وأنت لا تطلب في تلاوته عليهم مالا، ولا جعلا. فلو كانوا عقلاء لقبلوا، ولم يتمردوا.
قال بعض اليمانين: في الآية دليل علي أن من تصدّر للإرشاد، من تعليم ووعظ، فإن عليه اجتناب ما يمنع من قبول كلامه.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة يوسف (١٢) : آية ١٠٥]
وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْها وَهُمْ عَنْها مُعْرِضُونَ (١٠٥)
وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْها وَهُمْ عَنْها مُعْرِضُونَ أي:
وكم من آية على وحدانية الخالق، وقدرته الباهرة، ونعوته الجليلة، في السموات: من كواكبها وأفلاكها. وفي الأرض: من قطع متجاورات، وحدائق وجنات، وجبال راسيات، وبحار زاخرات، وقفار شاسعات، وحيوان ونبات، وثمار مختلفات، وأحياء، وأموات، يشاهدونها، ولا يعتبرون بها.
قال الرازيّ: يعني أنه لا عجب إذا لم يتأملوا في الدلائل الدالة على نبوتك، فإن العالم مملوء من دلائل التوحيد، والقدرة والحكمة ثم إنهم يمرون عليها، ولا يلتفتون إليها. واعلم أن دلائل التوحيد والعلم والقدرة والحكمة والرحمة، لا بد وأن تكون من أمور محسوسة، وهي إما الأجرام الفلكية، وإما الأجرام العنصرية. أما الأجرام الفلكية فهي قسمان: أفلاك وكواكب أما الأفلاك، فقد يستدل بمقاديرها المعينة على وجود الصانع. وقد يستدل بكون بعضها فوق البعض أو تحته، وقد يستدل بأحوال حركاتها، إما بسبب أن حركاتها مسبوقة بالعدم، فلا بد من محرك قادر، وإما بسبب كيفية حركاتها في سرعتها وبطئها، وإما بسبب اختلاف جهات
وأما الدلائل المأخوذة من الأجرام العنصرية: فإما أن تكون مأخوذة من بسائط، وهي عجائب البر والبحر، وإما من المواليد وهي أقسام:
أحدها- الآثار العلوية، كالرعد والبرق والسحاب والمطر والثلج والهواء وقوس قزح.
وثانيها- المعادن على اختلاف طبائعها وصفاتها وكيفياتها.
ثالثها- النبات وخاصية الخشب والورق والتمر، واختصاص كل واحد منها بطبع خاص وطعم خاص، وخاصية مخصوصة.
ورابعها- اختلاف أحوال الحيوانات في أشكالها وطبائعها وأصواتها وخلقتها.
وخامسها- تشريح أبدان الناس، وتشريح القوى الإنسانية، وبيان المنفعة الحاصلة فيها.
فهذه مجامع الدلائل.
ومن هذا الباب أيضا قصص الأولين، وحكايات الأقدمين، وأن الملوك إذا استولوا على الأرض وخربوا البلاد، وقهروا العباد، ماتوا ولم يبق منهم في الدنيا خبر ولا أثر، ثم بقي الوزر والعقاب.
ولما كان العقل البشريّ لا يفي بالإحاطة بشرح دلائل العالم الأعلى والأسفل، ذكر في الكتاب العزيز مجملا. انتهى.
وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة يوسف (١٢) : آية ١٠٦]
وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلاَّ وَهُمْ مُشْرِكُونَ (١٠٦)
وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ أي: الناس، أو أهل مكة، بِاللَّهِ أي في إقرارهم بوجوده وخالفيته إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ أي: بعبادتهم لغيره، وباتخاذهم الأحبار والرهبان أربابا، وبقولهم باتخاذه تعالى ولدا. سبحانه وتعالى عما يقولون علوا كبيرا.
تنبيه:
كما تدل الآية على النعي عليهم بالشرك الأكبر، وهو أن يعبد مع الله غيره.
رواه ابن حبان في صحيحه: الشرك في هذه الأمة أخفى من دبيب النمل
. فالرياء كله شرك، وهو محبط للعبادة، مبطل ثواب العمل، ويعاقب عليه إذا كان العمل واجبا. فإنه تعالى أمر بعبادته خالصة. قال تعالى: وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفاءَ [البينة: ٥]، فمن لم يخلص لله في عبادته، لم يفعل ما أمر به، بل الذي أتى به شيء غير المأمور، فلا يقبل منه.
وروى مسلم «١» وغيره عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يقول الله: أنا أغنى الشركاء عن الشرك. من عمل عملا أشرك فيه معي غيري، تركته وشركه.
وروى الإمام أحمد «٢» عن محمود بن لبيد، رفعه إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم: إن أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر! قالوا: وما الشرك الأصغر يا رسول الله؟ قال: الرياء!
ومن الشرك نوع غير مغفور، وهو الشرك بالله في المحبة والتعظيم، بأن يحب مخلوقا كما يجب الله. فهذا من الشرك الذي لا يغفره الله، وهو الشرك الذي قال سبحانه فيه: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْداداً.. [البقرة: ١٦٥] الآية، وقال أصحاب هذا الشرك لآلهتهم، وقد جمعتهم الجحيم: تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ، إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ [الشعراء: ٩٧- ٩٨]، ومعلوم أنهم ما سوّوهم به سبحانه في الخلق والرزق، والإماتة والإحياء، والملك والقدرة، وإنما سوّوهم به في الحب والتألّه، والخضوع لهم والتذلل. وهذا غاية الجهل والظلم فكيف يسوّى من خلق من التراب، برب الأرباب؟ وكيف يسوّى العبيد بمالك الرقاب، وكيف يسوى الفقير بالذات، الضعيف بالذات، العاجز بالذات، المحتاج بالذات، الذي ليس له من ذاته إلا العدم، بالغنيّ بالذات، القادر بالذات، الذي غناه وقدرته وملكه ووجوده
(٢) أخرجه الإمام أحمد في مسنده ٥/ ٤٢٨.
قال الحافظ ابن كثير: وثمّ شرك خفيّ لا يشعر به غالبا فاعله، كما روي عن حذيفة أنه دخل على مريض، فرأى في عضده سيرا فقطعه، ثم قال: وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ.
وفي الحديث «١» : من حلف بغير الله فقد أشرك- رواه الترمذيّ عن ابن عمر
وحسّنه.
وفي الحديث الذي رواه أحمد «٢» وأبو داود «٣» وغيرهما عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الرقي والتمائم والتّولة شرك.
ورواه الإمام أحمد بأبسط من هذا عن زينب امرأة عبد الله قالت: كان عبد الله إذا جاء من حاجة فانتهى إلى الباب، تنحنح وبزق كراهة أن يهجم منا على أمر يكرهه؟ قالت: وإنه جاء ذات يوم فتنحنح، وعندي عجوز ترقيني من الحمرة، فأدخلتها تحت السرير. قالت: فدخل فجلس إلى جانبي، فرأى في عنقي خيطا، فقال: ما هذا الخيط؟ قالت: قلت: خيط رقي لي فيه! فأخذه فقطعه، ثم قال: إن آل عبد الله لأغنياء عن الشرك. سمعت رسول الله ﷺ يقول: إن الرقي والتمائم والتّولة شرك. قالت: قلت له: لم تقول هذا، وقد كانت عيني تفرق، فكنت أختلف إلى فلان اليهوديّ يرقيها، فكان إذا رقاها سكنت؟! فقال: إنما ذاك من الشيطان، كان ينخسها بيده، فإذا رقاها كفّ عنها، كان يكفيك أن تقولي كما قال النبي ﷺ أذهب البأس، ربّ الناس، اشف وأنت الشافي. لا شفاء إلا شفاؤك، شفاء لا يغادر سقما.
وروى الإمام أحمد «٤» عن عقبة بن عامر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من علق تميمة فقد أشرك!
وأخرج أيضا «٥» عن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من ردته الطّيرة عن حاجته فقد أشرك.
(٢) أخرجه الإمام أحمد في مسنده ١/ ٣٨١ والحديث رقم ٣٦١٥.
(٣) أخرجه أبو داود في: الطب، ١٧- باب في تعليق التمائم، حديث رقم ٣٨٨٣.
(٤) أخرجه الإمام أحمد في مسنده ٤/ ١٥٦.
(٥) أخرجه الإمام أحمد في مسنده ٢/ ٢٢٠ والحديث رقم ٧٠٤٥.
قال ابن القيم:
حقيقة الشرك هو التشبه بالخالق، والتشبه للمخلوق به، فالمشرك مشبه للمخلوق بالخالق في خصائص الإلهية فإن من خصائص الإلهية التفرد بملك الضر والنفع، والعطاء والمنع، وذلك يوجب تعليق الدعاء، والخوف والرجاء، والتوكل به وحده. فمن علق ذلك بمخلوق فقد شبهه بالخالق، وجعل من لا يملك لنفسه نفعا ولا ضرا، ولا موتا ولا حياة ولا نشورا، فضلا عن غيره، مشبها بمن له الأمر كله، جل وعلا. فمن أقبح التشبيه تشبيه هذا العاجز الفقير بالذات، بالقادر الغنيّ بالذات. ومن خصائص الإلهية الكمال المطلق من جميع الوجوه، الذي لا نقص فيه بوجه من الوجوه. وذلك يوجب أن تكون العبادة كلها له وحده، والتعظيم والإجلال والخشية والدعاء والرجاء والإنابة والتوكل والاستعانة وغاية الذل، مع غاية الحب، كل ذلك يجب عقلا وشرعا وفطرة، أن يكون له وحده. ويمنع عقلا وشرعا وفطرة أن يكون لغيره. فمن جعل شيئا من ذلك لغيره فقد شبه ذلك الغير، بمن لا شبيه له، ولا ندّ له، وذلك أقبح التشبيه وأبطله، ولشدة قبحه، وتضمنه غاية الظلم، أخبر سبحانه عباده أنه لا يغفره. مع أنه كتب على نفسه الرحمة، ومن خصائص الإلهية العبودية التي قامت على ساقين، لا قوام لها بدونهما: غاية الحب، مع غاية الذل. هذا تمام العبودية. وتفاوت منازل الخلق فيها بحسب تفاوتهم في هذين الأصلين. فمن أعطى حبه وذله وخضوعه لغير الله، فقد بحسب تفاوتهم في هذين الأصلين. فمن أعطى حبه وذله وخضوعه لغير الله، فقد شبهه به في خالص حقه، وهذا من المحال أن تأتي به شريعة من الشرائع، وقبحه مستقر في كل فطرة وعقل. ولكن غيرت الشياطين فطر أكثر الخلق وعقولهم، وأفسدتها عليهم، ومضى على الفطرة من سبقت له من الله
وفي الصحيح «١» عنه ﷺ قال: يقول الله عزّ وجلّ: العظمة إزاري، والكبرياء ردائي، فمن نازعني واحدا منهما عذبته.
وكذلك من تشبه به في الاسم الذي لا ينبغي إلا لله وحده، كملك الأملاك، وحاكم الحكام، ونحوه.
وفي الصحيح «٢» عنه صلى الله عليه وسلم، أغيظ رجل على الله رجل يسمى ملك الأملاك، لا ملك إلّا الله.
فهذا غضب الله على من تشبه في الاسم، الذي لا ينبغي إلا له، فهو سبحانه ملك الملوك وحده يحكم عليهم كلهم، ويقضي عليهم، لا غيره.
وتتمة هذا البحث في (الجواب الكافي) لابن القيّم، فانظره.
وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة يوسف (١٢) : آية ١٠٧]
أَفَأَمِنُوا أَنْ تَأْتِيَهُمْ غاشِيَةٌ مِنْ عَذابِ اللَّهِ أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (١٠٧)
أَفَأَمِنُوا أي هؤلاء المشركون أَنْ تَأْتِيَهُمْ غاشِيَةٌ مِنْ عَذابِ اللَّهِ أي: عقوبة تنبسط عليهم وتغمرهم أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً أي فجأة وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ أي:
بإتيانها وهذا كقوله تعالى: أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ، أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ، أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ [النحل: ٤٥- ٤٦-
(٢) أخرجه البخاري في: الأدب، ١١٤- باب أبغض الأسماء إلى الله، حديث رقم ٢٣٦٧، عن أبي هريرة.
ومسلم في: الآداب، حديث رقمي ٢٠ و ٢١.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة يوسف (١٢) : آية ١٠٨]
قُلْ هذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحانَ اللَّهِ وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٠٨)
قُلْ هذِهِ سَبِيلِي أي هذه السبيل، التي هي الدعوة إلى الإيمان والتوحيد، سبيلي، أي طريقي ومسلكي وسنتي. والسبيل والطريق يذكّران ويؤنّثان. ثم فسر سبيله: بقوله: أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ أي: إلى دينه وتوحيده، ومعرفته بصفات كماله، ونعوت جلاله عَلى بَصِيرَةٍ أي: مع حجة واضحة، غير عمياء. أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي أي: آمن بي، يدعون إلى الله أيضا على بصيرة، لا على هوى. وَسُبْحانَ اللَّهِ أي:
وأنزهه وأجله وأقدسه عن أن يكون له شريك أو ندّ أو كفء أو ولد أو صاحبة، تعالى عن ذلك علوّا كبيرا. وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ أي: على دينهم.
تنبيهات:
الأول- قال السمين أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ يجوز أن يكون مستأنفا، وهو الظاهر، وأن يكون حالا من الياء. وعَلى بَصِيرَةٍ حال من فاعل أَدْعُوا أي: أدعو كائنا على بصيرة وقوله: وَمَنِ اتَّبَعَنِي عطف على فاعل أَدْعُوا ولذلك أكد بالضمير المنفصل. ويجوز أن يكون مبتدأ، والخبر محذوف. أي: ومن اتبعني يدعو أيضا ويجوز أن يكون عَلى بَصِيرَةٍ خبرا مقدما، وأَنَا مبتدأ مؤخرا ومَنِ اتَّبَعَنِي عطف عليه ومفعول أَدْعُوا إما منويّ، أي الناس، أو منسي.
الثاني- دل قوله تعالى: عَلى بَصِيرَةٍ على مزية هذا الدين الحنيف، ونهجه الذي انفرد به، وهو أنه لم يطلب التسليم به لمجرد أنه جاء بحكايته، ولكنه ادعى وبرهن وحكى مذاهب المخالفين، وكرّ عليها بالحجة، وخاطب العقل، واستنهض الفكر، وعرض نظام الأكوان وما فيها من الإحكام والإتقان، على أنظار العقول، وطالبها بالإمعان فيها لتصل بذلك إلى اليقين بصحة ما ادعاه ودعا إليه- انظر (رسالة التوحيد) في تتمة ذلك.
قال الرازي: كل من ذكر الحجة، وأجاب عن الشبهة، فقد دعا بمقدار وسعه إلى الله. وهذا يدل على أن الدعاء إلى الله تعالى إنما يحسن ويجوز مع هذا الشرط:
وأن يكون على بصيرة مما يقول، وعلى هدى ويقين، فإن لم يكن كذلك، فهو محض الغرور. انتهى.
ولا يخفى أن الدعوة إلى الله إنما هي بنشر مطالب الدين، وإذاعة آدابه وتعليمه.
قال بعضهم: ينبغي للعالم أن يكون حديثه مع العامة، في حال مخالطته ومجالسته لهم، في بيان الواجبات والمحرمات، ونوافل الطاعات، وذكر الثواب والعقاب، على الإحسان والإساءة. ويكون كلامه معهم بعبارة قريبة واضحة يعرفونها ويفهمونها. ويزيد بيانا للأمور التي يعلم أنهم ملابسون لها ولا يسكت حتى يسأل عن شيء من العلم، وهو يعلم أنهم محتاجون إليه، ومضطرون إليه، فإن علمه بذلك سؤال منهم بلسان الحال، والعامة قد غلب عليهم التساهل بأمر الدين، علما وعملا، فلا ينبغي للعلماء أن يساعدوهم على ذلك بالسكوت عن تعليمهم وإرشادهم، فيعمّ الهلاك، ويعظم البلاء. وقلما تختبر عاميا- وأكثر الناس عامة- إلا وجدته جاهلا بالواجبات والمحرمات، وبأمور الدين التي لا يجوز ولا يسوغ الجهل بشيء منها. وإن لم يوجد جاهلا بالكل، وجد جاهلا بالبعض. وإن علم شيئا من ذلك، وجدت علمه به علما مسموعا من ألسنة الناس، لو أردت أن تقلبه له جهلا فعلت ذلك بأيسر مؤونة، لعدم الأصل والصحة فيما يعلمه. وعلى الجملة، فيتأكد على العلماء أن يجالسوا الناس بالعلم، ويحدثوهم به، ويبثوه لهم، ويكون كلام العالم معهم في بيان الأمر الذي جاءوا من أجله. مثل ما إذا جاءوا لعقد نكاح، يكون كلامه معهم فيما يتعلق بحقوق النساء من الصداق والنفقة والمعاشرة بالمعروف. أو لعقد بيع، يكون كلامه في صحيح البيوع وآدابها، وفوائد التجارة النافعة، واجتناب الغش والخداع وهكذا. ولا ينبغي للعالم أن يخوض مع الخائضين، ولا أن يصرف شيئا من أوقاته في غير إقامة الدين. وبالسكوت عن التذكير والتعليم، يغلب الفساد، ويعم الضرر، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
وقوله تعالى:
وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلاَّ رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرى أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلا تَعْقِلُونَ (١٠٩)
وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرى أي لا ملائكة من أهل السماء. ردّ لقول المشركين: لَوْ شاءَ رَبُّنا لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً [فصلت: ١٤]، وهذا كقوله تعالى: وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْواقِ [الفرقان: ٢٠]، وقوله: وَما جَعَلْناهُمْ جَسَداً لا يَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَما كانُوا خالِدِينَ [الأنبياء: ٨]. وقوله: قُلْ ما كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ [الأحقاف: ٩] الآية.
واحتج بقوله تعالى: إِلَّا رِجالًا على أنه لم ينتظم في سلك النبوّة امرأة.
والقرى: جمع قرية، وهي على ما في (القاموس) : المصر الجامع، وفي (كفاية المتحفظ) : القرية كل مكان اتصلت به الأبنية، واتخذ قرارا، وتقع على المدن وغيرهما. انتهى.
قال ابن كثير: والمراد بالقرى هنا المدن. أي: لا أنهم من أهل البوادي الذين هم أجفى الناس طباعا وأخلاقا. وهذا هو المعهود المعروف: أن أهل المدن أرقّ طباعا، وألطف من أهل بواديهم. وأهل الريف والسواد أقرب حالا من الذين يسكنون في البوادي. ولهذا قال تعالى: الْأَعْرابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفاقاً... الآية [التوبة: ٩٧].
قال قتادة: إنما كانوا من أهل القرى لأنهم أعلم وأحلم من أهل العمور.
وقوله تعالى: أَفَلَمْ يَسِيرُوا أي: هؤلاء المكذّبون، فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا أي نظر تفكّر. كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أي: من الأمم المكذّبة. كقوله تعالى:
أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِها... الآية [الحج: ٤٦]، فإذا استمعوا خبر ذلك، رأوا أن الله أهلك الكافرين، ونجى المؤمنين. وهذه كانت سنته تعالى في خلقه، ولهذا قال تعالى: وَلَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أي: الشرك والفواحش، وآمنوا بالله ورسله وكتبه.
قال ابن كثير: أي وكما نجينا المؤمنين في الدنيا، كذلك كتبنا لهم النجاة في
أَفَلا تَعْقِلُونَ أي تستعملون عقولكم، فتعلموا أن الآخرة خير، أو تعلموا كيف عاقبة أولئك.
ثم بيّن تعالى أن العاقبة لرسله، وأن نصره يأتيهم إذا تمادى تكذيبهم، تثبيتا لفؤاده صلى الله عليه وسلم، فقال سبحانه:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة يوسف (١٢) : آية ١١٠]
حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جاءَهُمْ نَصْرُنا فَنُجِّيَ مَنْ نَشاءُ وَلا يُرَدُّ بَأْسُنا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (١١٠)
حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ أي: من إجابة قومهم، وَظَنُّوا أي: علموا وتيقنوا. يعني: الرسل. أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جاءَهُمْ نَصْرُنا يقرأ كذبوا بضم الكاف وتشديد الذال. أي: كذبهم قومهم بما جاءوا به، لطول البلاء عليهم. ويقرأ بضم الكاف وتخفيف الذال. فالضمير في ظَنُّوا- على ما اختاروه- للقوم. أي: ظنوا أن الرسل قد كذبوا. أي: ما وعدوا به من النصر.
وروي عن ابن عباس أن الضمير للرسل. أي: وظنوا حين ضعفوا وغلبوا أنهم قد أخلفوا ما وعدهم الله من النصر، وقال: كانوا بشرا، وتلا قوله تعالى: وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتى نَصْرُ اللَّهِ [البقرة: ٢١٤]، وقد استشكلوه على ابن عباس، وتأوّلوا لكلامه وجوها:
قال الزمخشري: أراد بالظن ما يخطر بالبال، ويهجس في القلب، من شبه الوسوسة، وحديث النفس، على ما عليه البشرية. انتهى.
وقيل: المراد بظنهم عليهم السلام ذلك، المبالغة في التراخي والإمهال، على طريق الاستعارة التمثيلية، بأن شبه المبالغة في التراخي بظن الكذب، باعتبار استلزام كل منهما، لعدم ترتب المطلوب، فاستعمل ما لأحدهما للآخر.
وقال الخطابي: لا شك أن ابن عباس لا يجيز على الرسل أنها تكذب بالوحي، ولا تشك في صدق المخبر، فيحمل كلامه على أنه أراد أنهم، لطول البلاء عليهم، وإبطاء النصر وشدة استنجاز ما وعدوا به- توهموا أن الذي جاءهم من الوحي كان
قال الحافظ ابن حجر: ويؤيده قراءة مجاهد وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا بفتح أوله مع التخفيف أي: غلطوا. ويكون فاعل (وظنوا) الرسل.
وقال أبو نصر القشيري: ولا يبعد أن المراد خطر بقلب الرسل، فصرفوه عن أنفسهم. أو المعنى: قربوا من الظن، كما يقال: بلغت المنزل، إذا قربت منه.
وقال الترمذي الحكيم: وجهه: أن الرسل كانت تخاف بعد أن وعدهم الله النصر، أن يتخلف النصر، لا من تهمة بوعد الله، بل لتهمة النفوس أن تكون قد أحدثت حدثا ينقض ذلك الشرط، فكان الأمر إذا طال، واشتد البلاء عليهم، دخلهم الظن من هذه الجهة.
وحكى الواحدي عن ابن الأنباري أنه قال: ما روي عن ابن عباس غير معوّل عليه، وأنه ليس من كلامه، بل تؤوّل عليه.
قال ابن حجر: وعجب لابن الأنباري في جزمه بأنه لا يصح ثم للزمخشري في توقفه عن صحة ذلك عن ابن عباس، فإنه صح عنه، أي: فرواه البخاريّ «١» في تفسير البقرة بلفظ: ذهب بها هناك، وأشار إلى السماء، وزاد الإسماعيلي عنه: كانوا بشرا ضعفوا وأيسوا وظنوا أنهم قد كذبوا.
وروى البخاري «٢» أن عائشة كانت تقرأ (كذبوا) مشددة، وتتأوّلها على المعنى الأول، وأن عروة قال لها: لعلها (كذبوا) مخففة، فقالت: معاذ الله! قال الحافظ ابن حجر: وهذا ظاهر في أنها أنكرت القراءة بالتخفيف، ولعلها لم تبلغها ممن يرجع إليه في ذلك، وقد قرأها بالتخفيف أئمة الكوفة من القرّاء: عاصم ويحيى بن وثاب والأعمش وحمزة والكسائي. ووافقهم من الحجازيين أبو جعفر بن القعقاع، وهي قراءة ابن مسعود وابن عباس وأبي عبد الرحمن السلميّ، والحسن
(٢) أخرجه البخاريّ في: التفسير، ٢- سورة البقرة، ٣٨- باب أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ، حديث رقم ١٥٩٨، عن عائشة.
وقوله تعالى: فَنُجِّيَ مَنْ نَشاءُ وهم الرسل والمؤمنون بهم. وقرئ (فننجي) بالتخفيف والتشديد. وقرئ (فنجا) وَلا يُرَدُّ بَأْسُنا أي عذابنا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ أي: إذا نزل بهم.
وفيه بيان من شاء الله نجاتهم، لأنه يعلم من المقابلة أنهم من ليسوا بمجرمين. وهم من تقدم.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة يوسف (١٢) : آية ١١١]
لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبابِ ما كانَ حَدِيثاً يُفْتَرى وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (١١١)
لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبابِ الضمير ليوسف وإخوته، أو للأنبياء وأممهم. ورجّح الزمخشري الثاني بقراءة (قصصهم) بكسر القاف، جمع قصة.
والمفتوح مصدر بمعنى المفعول. وأجيب بأن قصة يوسف وأبيه وإخوته مشتملة على قصص وأخبار مختلفة، وقد يطلق الجمع على الواحد، كما مرّ في أَضْغاثُ أَحْلامٍ وسنذكر وجوه العبر منها بعونه تعالى.
ما كانَ أي: القرآن المدلول عليه بما سبق دلالة واضحة حَدِيثاً يُفْتَرى أي: يختلق. وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ أي: من الكتب المنزلة، فهو يصدق ما فيها من الصحيح، وينفي ما وقع فيها من تحريف وتبديل وتغيير، ويحكم عليها بالنسخ أو التقرير.
قال بعض المحققين: المراد به أن قصص القرآن ليست مخترعة ولا مفتراة، بدليل وجود أمثالها بين الناس، قبل نزوله. فهي وإن اختلفت قليلا في بعض التفاصيل والجزئيات، عما يرويه الناس، إلا أن توافقها في الجملة، وتصدقها في الجوهر فلا تظنوا أيها المشركون أن النبي اخترعها بعقله، بل اسألوا عنها أهل الكتاب، تجدوا أنها معروفة بينهم، ومروية في كتبهم، فوجود قصص القرآن عند الناس من قبل، من أعظم ما يصدقه ويؤيده، لأن النبيّ صلوات الله عليه، لم يطلع على كتب أهل الكتاب. ولا يتوهم من هذه الآية أن قصص القرآن يجب ألا تختلف عن قصص
وقوله تعالى: وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ أي. تبيان كل ما يحتاج إليه من أحكام الحلال والحرام، والآداب والأخلاق، ووجوه العبر والعظات، ولذا كان أعظم ما تنقذ به القلوب من الغيّ إلى الرشاد، ومن الضلال إلى السداد. وتبتغي به الرحمة من رب العباد، كما قال تعالى: وَهُدىً أي: من الضلالة وَرَحْمَةً أي: من العذاب لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ أي يصدقون به، ويعلمون بأوامره، فإن الإيمان قول وعقد وعمل.
وخصهم لأنهم المنتفعون به.
خاتمة في مباحث مهمة:
المبحث الأول
- فيما قيل في وجوه العبر في هذا القصص.
قال في (اللباب) : الاعتبار والعبرة: الحالة التي يتوصل بها الإنسان من معرفة المشاهد إلى ما ليس بمشاهد. والمراد منه التأمل والتفكر. ووجه الاعتبار بهذه القصة أن الذي قدر على إخراج يوسف من الجبّ بعد إلقائه فيه، وإخراجه من السجن، وتمليكه مصر بعد العبودية. وجمع شمله بأبيه وإخوته بعد المدة الطويلة، واليأس من الاجتماع، قادر على إعزاز محمد ﷺ وإعلاء كلمته، وإظهار دينه. وأن الإخبار بهذه القصة العجيبة جار مجرى الإخبار عن الغيوب، فكانت معجزة له صلى الله عليه وسلم.
وقال بعضهم: إن قصة يوسف الصديق، جمة الفائدة وجليلة العائدة، تحدو بكل امرئ أبيّ إلى الاقتداء بها. فإن من أطلق سوام الفكر في حياة يوسف عليه السلام رآها رغيدة، وألفاها هنيئة، وما ذلك إلا لطيب سيرته، وحميد سريرته، وتمسكه بعرى التقوى والفضيلة، ولا سيّما فضيلة العفة والطهارة، التي ترفع قدر صاحبها، وتنزله المنزلة السامية. فعلى المرء أن يقتفي أثر هذه الفضيلة الجليلة، كيوسف، فيتسنم ذروة المجد في هذه الدنيا، وينال السعادة الدائمة في الآخرة. انتهى.
وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ...
[النور: ٥٥] إلى قوله: أَمْناً وكانت قصة يوسف عليه السلام بجملتها أشبه شيء بحال المؤمنين في مكابدتهم في أول الأمر، وهجرهم، وتشققهم مع قومهم، وقلة ذات أيديهم، إلى أن جمع الله شملهم: وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً [آل عمران: ١٠٣]، وأورثهم الأرض، وأيدهم ونصرهم، وذلك بجليل إيمانهم وعظيم صبرهم، فهذا ما أوجب تجرد هذه القصة عن تلك القصص- والله أعلم-.
ثم إن حال يعقوب ويوسف عليهما السلام، في صبرهما، ورؤية حسن عاقبة الصبر في الدنيا، ما أعدّ لهما من عظيم الثواب، أنسب بحال نبينا عليه السلام في
طال الأمر على أمتنا، فأهملت ما في غضون كتابها من أساس التربية والحكمة، وكيف تنتقى الرجال الأكفاء في مهام الأعمال. يا ليت شعري! ما الذي أصابها حتى غضت النظر عن القصص التي قصها، وأهملت أمرها، وظن أهلها أنها أمور تاريخية لا تفيد إلا المؤرخين. القصص في كل أمة، عليها مدار ارتقائها، سواء كانت وضعية أم حقيقية، على ألسنة الحيوان أو الإنسان أو الجماد. على هذا تبحث الأمم، قديمها وحديثها. وناهيك بكتاب (كليلة ودمنة) وما والاه من القصص الناسجة على منواله في الإسلام، ككتاب (فاكهة الخلفاء) و (مقامات الحريري). جاء القرآن بقصص الأنبياء، وهي- لا جرم. أعلى منالا، وأشرف مزية. كيف لا وقد جمعت أحسن الأسلوب، واختيار المقامات المناسبة لما سيقت إليه، والقدوة الحسنة للكمّل المخلصين من الأنبياء ومن والاهم، وتحققها في أنفسها، لوقوع مواردها، وإن حب التشبه طبيعة مرتكزة في الإنسان، لا سيما لمن يقتدي بهم. فهذه خمس مزايا اختصت بها هذه القصص، ونقصت في سواها. أليس من العيب الفاضح أن نقرأ قصص القرآن، فلا نكاد نفهم إلا حكايات ذهبت مع الزمان، ومرت كأمس الدابر؟! وما لنا ولها إذن؟! تالله إن هذا لهو البوار! ولم يكن هذا إلا للجهل بالمقصود من قصصها، وأنها عبرة لمن اعتبر، وتذكرة لمن تفكر، وتبصرة لمن ازدجر. أما الرجوع إلى التاريخ، ومقارنته بما قصه المؤرخون في كتبهم، وما سطره الأقدمون على مباينتهم، وما يقوله القاصّون في خرافتهم، فتلك سبيل حائد عن الجادّة، يضلّ فيه الماهرون. يرشدك لذلك ما تسمعه من نبأ فتية الكهف، وكيف يقول: سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ، وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْماً بِالْغَيْبِ. وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ ما يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ [الكهف: ٢٢] فانظر كيف أسند العلم لله، ولم يعوّل على قول المؤرخين المختلفين ثم لم يبيّن الحقيقة لئلا يكون ذريعة للطعن في التنزيل. فإن قال: خمسة، قالوا: ستة وإن قال: أربعة،
ولسنا ممن يتبجح بالقول بلا بيان، فلا نعتمد إلا على البرهان. تأمّل هذا القصص، تجده لا يذكر إلا ما يناسب الإرشاد والنصح، ويعرض عن كثير من الوقائع، إذ لا لزوم له، ولا معوّل عليها. فلا ترى قصة إلا وفيها توحيد وعلم ومكارم أخلاق، وحجج عقلية، وتبصرة وتذكرة، ومحاورات جميلة تلذّ العقلاء. ولاقتصر من تلك القصص على ما حكاه عن يوسف الصدّيق عليه السلام، وكيف جاوز فيها كل ما لا علاقة له بالأخلاق، من مدنية المصريين وأحوالهم، إلى الخلاصة والثمرة. ألا ترى كيف صدرت بحديث سجود الشمس والقمر والكواكب له في الرؤيا، دلالة على أن للطفل استعدادا يظهر على ملامحة، وأقواله وأفعاله ورؤياه؟ وهذا أعظم شيء اعتنى به قدماء الحكماء، من اليونان والفرس، كما ذكره المؤرخون وعلماء الأخلاق: كانوا يختبرون أبناءهم، ويتأمّلون ملامحهم، ليعرفوا ما استعدوا له من الصناعات والرئاسات والعلوم. ثم تأمل في قصة الإخوة، وحديث القميص والجبّ والذئب والدم، لتعلم ما نشاهده كلّ يوم من معاداة الأقران لمن ظهرت مبادئ الجمال النفسي، والخلق المرضي، والجلال الظاهر على ملامحة. فيعيبونه بما يشينه في نفسه أو عرضه أو خلقه، دلالة على أن هذه سنّة في الكون لا تغادر نبيّا، ولا حكيما، ولا عالما مهما حسنت أخلاقه وجمل ظاهره وباطنه... !
كلّ العداوات قد ترجى إزالتها... إلّا عداوة من عاداك من حسد
جرت تلك السنّة في الأناسي: فإذا صبر الصالح فاز بالولاية عليهم، وأحبّوه بعد العداوة ولو بعد حين، وعادوا من آذاه! ثم انظر في حديث قصة امرأة العزيز، وكيف عفّ مع الشباب، وكيف ساس نفسه وصدق ظن مولاه في الأمانة، وأرضى إلهه، واتّسم بالفضيلة، فتوازى جماله الباطني والظاهري... ! ولنكتف بهذا القدر الآن، ولنشرع في الكلام على الآداب والأخلاق وتربية الأمراء والعفو والصفح، التي تضمّنتها تلك القصّة! فأما علم الأخلاق، وتربية رؤساء الأمم منها، فتأمل في كلام الحكماء- أولهم وآخرهم- تجد إجماعهم على أنّ سياسة أخلاق النفس أوّلا فالمنزل فالمدينة كل واحدة مقدمة للاحقتها ثمرة لسابقتها إذ لا يعقل أن يسوس منزله من لم يسس نفسه، أو يسوس أمته من لم يدبر إدارة منزله!
فانظر هذه الحقائق من سيرة النبيّ يوسف الصدّيق كيف ذكرت في الكتب السماوية، ورتبت في القرآن ترتيبا محكما، ذكرت فيها السياسات الثلاث مرتبة هكذا: النفس فالمنزل فالمدينة، ترتيبا طبيعيا، تنبيها لبني الإسلام على معرفة هذا العلم وانتقائهم الأكفاء للأعمال العامة. فأشير فيها لتربية الأخلاق الفاضلة بالعفة في عنفوان الشباب مع الصديق. وليت شعري! كيف حفظ أخلاق آبائه وقومه والأنبياء في وسط مدنية المصريين وزخرفهم وجمالهم، وعبد الله وحده، ونسي ما يراه من أبي الهول وأبيس والأرباب المتفرقة... ؟! يذكر هذا تبصرة لمن أحاطت بهم أمواج الحدثان من كلّ جانب، أن يحافظوا على أصول دينهم وقواعده، ثم ليفعلوا ما يشاءون في أمور دنياهم..!
ظهر صدق يوسف في أخلاقه الشخصية، فلم يكن ذلك كافيا لإدارة أموره العامة، فأودع السجن وأحيط بالأحداث والجهلة من كلّ جانب، فأخذ يسوسهم كما يسوس الرجل أهل منزله، وبثّ عقيدته بينهم، ظاهرا بمظهر الكمال والإحسان والعطف عليهم: قالَ لا يَأْتِيكُما طَعامٌ تُرْزَقانِهِ... [يوسف: ٣٧] الآية. وأخذ يقص عليهم سيرة أسلافه، وحبّه لمذهبهم، وبغضه لأصنام المصريين، ونحوهم، فقال: إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ... [يوسف: ٣٧] الآية. ثم أخذ يذكّرهم أنّ تفرّق وجهة الأمة ضلال في السياسة، وأنّ توحيد وجهتها كياسة فيها، فقال: يا صاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ [يوسف:
٣٩]، فتفريق الوجهة شتات الجامعة. لم تسد أمة في الوجود إلا برجال يوحّدون وجهتها أيا كانت فيؤمّون مقصدا واحدا! والتفصيل لا يخفى على أولي الألباب..!
وفي (آراء أهل المدينة الفاضلة) للفارابي اثنتا عشرة جامعة بكل منهن قوم اتحدت بها: كاللغة، والوطن، والدين، والأخلاق، والجنس، والحكيم المرشد، والأب الأكبر ونحو ذلك مما امتازت به أمة أو جماعة.
ولما تمّ له، عليه السلام، الأمران- سياسة النفس والعشيرة- أخرج من
والبراعة والكياسة في علوم العمران، وتدبير أمر الأمة، إمّا بوحي وهذا خاصّ به وبأمثاله من الأنبياء عليهم السلام، وإمّا بتعليم وتدريب وهو اللائق بسائر الناس.
ترشد هذه السيرة الشريفة إلى أن الأخلاق الفاضلة ما تثبت عليها النفس مع الحقير والعظيم والصغير والكبير، وأن الإنسان لا يستحقر تعليم الأصاغر، فإنه لا بدّ يوما ما أن يصل إلى الأكابر، كما في حديث هرقل «١» مع أبي سفيان، وتعليم الصدّيق من في السجن. فبلغ صاحب السجن فرعون المصريين.
ابتلي هذا النبيّ بالسراء والضراء فلم تتغير أخلاقه، وكان نموذج الكمال في سعة بيت الملك والجلال، وموضع الثقة في ضيق قبر السجن وعشرة الأسافل التي تتغير بها الأخلاق، وتنسى بها أصول الأعراق، وتنزل الكامل من عروش الفضيلة إلى أسفل مقاعد الرذيلة، ومن أوج الكمال إلى حضيض النقص! وهذه قصة يوسف- الذي تربى في مصر ونشأ فيها ولم تبهجه زخارف تلك المدنية إلى الرذيلة- جاءت عبرة للناس كافة وإلى المصريين خاصة! بهذه الأخلاق اعتلى يوسف عرش العظمة والجلال فساس مصر بعد أن كان مسوسا، وملك بعد أن كان مملوكا! ليس الجزاء على الأخلاق والكمال خاصا بالآخرة، بل في الدارين:
وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْها حَيْثُ يَشاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنا مَنْ نَشاءُ وَلا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ، وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ [يوسف:
٥٦- ٥٧].
هذه هي الأخلاق الفاضلة، ذكرت في التنزيل نموذجا، في غضون هذه السيرة، للأمم الإسلامية ليأخذوا ثمرتها ولا يضيّعوا الزمن في أصلها وموردها في التاريخ كما يجمد المفسّر على الإعراب أو الصرف أو البلاغة وهذا غيض من فيض من حكم هذه
وسيدنا يوسف عليه السلام حاز من كمال المرسلين وجمال النبيين. ولقد جاء في سيرته هذه ما يتخذه عقلاء الأمم هدى لاختيار الأكفاء في مهام الأعمال، إذ قد حاز الملك والنبوة! ونحن لا قبل لنا بالنبوة لانقطاعها، وإنما نذكر ما يليق بمقام رئاسة المدينة الفاضلة، ولنذكر منها ثلاث عشرة خصلة هي أهم خصال رئيس المدينة الفاضلة لتكون ذكرى لمن يتفكر في القرآن، وتنبيها للمتعلمين- العاشقين للفضائل- على نفائس الكتاب العظيم، وحبّا في نظرهم في القرآن، وليعلموا أن تلك القصص وقد أودعت ما لم يكن ليخطر على بال من سمعه للتغني به ومجرّد اللهو واللعب! أهم ما شرطه الحكماء في رئيس المدينة الفاضلة:
١- العفة عن الشهوات، ليضبط نفسه وتتوافر قوته النفسية كَذلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشاءَ، إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُخْلَصِينَ [يوسف: ٢٤].
٢- الحلم عند الغضب، ليضبط نفسه قالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ، فَأَسَرَّها يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِها لَهُمْ [يوسف: ٧٧].
٣- وضع اللّين في موضعه، والشدّة في موضعها وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ قالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ، أَلا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ، فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلا تَقْرَبُونِ [يوسف: ٥٩- ٦٠]، والصدر للين والعجز للشدة.
٤- ثقته بنفسه اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ [يوسف: ٥٥].
٥- قوة الذاكرة ليمكنه تذكر ما غاب ومضى له سنون، ليضبط السياسات ويعرف للناس أعمالهم وَجاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ [يوسف: ٥٨].
٧- استعداده للعلم، وحبه له، وتمكّنه منه وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبائِي إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ، ما كانَ لَنا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ، ذلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنا وَعَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ [يوسف: ٣٨]، وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً، وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ [يوسف: ٢٢]، رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ [يوسف: ١٠١].
٨- شفقته على الضعفاء وتواضعه مع جلال قدره وعلوّ منصبه. فخاطب الفتيين المسجونين بالتواضع فقال: يا صاحِبَيِ السِّجْنِ... [يوسف: ٣٩] الآية، وحادثهما في أمور دينهما ودنياهما، فالأول بقوله: لا يَأْتِيكُما طَعامٌ تُرْزَقانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُما بِتَأْوِيلِهِ [يوسف: ٣٧]. والثاني بقوله: إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ... [يوسف: ٣٧] الآية، وشهدا له بقولهما: إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ [يوسف: ٣٦].
٩- العفو مع القدرة قالَ لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ، يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ، وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ [يوسف: ٩٢].
١٠- إكرام العشيرة وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ [يوسف: ٩٣].
١١- قوة البيان والفصاحة بتعبيره رؤيا الملك، واقتداره على الأخذ بأفئدة الراعي والرعية والسوقة، ما كان هذا إلّا بالفصاحة المبنية على العلم والحكمة فَلَمَّا كَلَّمَهُ قالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنا مَكِينٌ أَمِينٌ [يوسف: ٥٤].
١٢- حسن التدبير فَما حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ... [يوسف: ٤٧] الآية.
ثم تأمل في اقتدار يوسف عليه السلام على سياسة الملك، وكيف اجتذب إليه القلوب بالإحسان وَقالَ لِفِتْيانِهِ اجْعَلُوا بِضاعَتَهُمْ.. [يوسف: ٦٢] الآية، ودبر الحيلة العجيبة بمسألة الصواع والاتهام بالسرقة ليضم أخاه إليه فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ... [يوسف: ٧٦] الآية، وعامل المحكومين بشرعهم ودينهم وملتهم وعادتهم، كما عليه جميع الأمم الشرقية الحية من الرفق بالأمة المحكومة لهم، فيسوسونهم بدينهم وعادتهم وشرعهم وأخلاقهم وأموالهم اتباعا لما رسمته الشريعة الغراء مما
ومن العجب الغريب تدبير هذه الحيلة بإخفاء الصواع، ثم نظر أمتعتهم جميعا فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعاءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَها مِنْ وِعاءِ أَخِيهِ [يوسف:
٧٦]، وهذه: - وأيم الله- هي بعينها ما يصنعه ملوك الأرض قاطبة اليوم من السياسات والتلطف في الأمور الخفية، وإلباسها ألبسة مختلفة لسياسة بلادهم، وطلبا لحصول المقاصد النافعة، ودخولا للبيوت من أبوابها ولكن بينهم وبين هذا النبيّ بون بعيد... ! فانظر كيف تعطي هذه القصة هذه الأمور العجيبة! لعمري! إن من طالع ما أمليناه بإمعان عن هذه القصة يتخيل عند تلاوتها أنه مشاهد أعمال الأمم الحاضرة والغابرة! وكأنما طالع آراء أهل المدينة الفاضلة، وعرف الحكماء وسواس الأمم، وشاهد جمال العلم والأدب والحكمة والموعظة الحسنة، حتى يعلم علم اليقين كيف قال الله في أول السورة نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِما أَوْحَيْنا إِلَيْكَ هذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغافِلِينَ [يوسف: ٣]، ويقول في آخرها: ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ [يوسف: ١٠٢]، ويقول:
قُلْ هذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحانَ اللَّهِ وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ [يوسف: ١٠٨]، ثم ذكر أن الإنسان لا ينبغي له أن ييأس من روح الله فقال: حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ... [يوسف: ١١٠] الآية، ثم أفاد أن المقصود هو العبر والنظر لتأثير القصص وثمراتها، لا مجرد تفسيرها إذ مجرد التفسير أمر بسيط يقنع به البسطاء. وإنما المقصد هو الاتعاظ والاعتبار فقال: لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبابِ، ما كانَ حَدِيثاً يُفْتَرى.. الآية.
كم للإنسان من آيات وعبر في السموات والأرض فيعرض عنها! خلقت لنا الأبصار والأسماع والعقول لننظر ماذا في السموات والأرض مما ذرأ المبدع في الكون، وتلا القرآن- وهو كلام مبدع الكون- وتلطف في تصوير المعاني، وألبسها أجمل لباس، فأعرض العقلاء فضلا عن العامة! فما للعامة لا يتعلمون! وما لذوي البصائر لا ينصحون ولا يبّينون؟ وما للناس لا يكادون يفقهون؟
ذكرنا نموذجا عن هذه السورة استنشاطا لهمم العقلاء، وحثا لمن لهم ذكاء وفطن وعقول راجحة- على الرجوع إلى كتابهم ونظرهم فيه، وإزالة لشبه من ارتاب في هذه القصص فأعرض! وجليّ أن قصص القرآن جميعها مملوءة بالحكم كهذه القصة، وفي كل واحدة منها ما ليس في الأخرى كأنها ثمرات مختلف لونها! أين من يفقه هذا ممن يقف مع ألفاظها وهم عن آياتها معرضون؟ ولا عجب فإن نفوس الأسافل تأخذ الحكمة فترجعها من أفق سمائها إلى أرض ضعتها، كما يصير الماء في شجرة الحنظل مرّا. فيقصدها هذا للنغمات، وذلك لقصة بسيطة، وآخر تسلية وتضييعا للزمن، وآخر يقف عند الألفاظ وإعرابها وصرفها وبلاغتها.
ولكن هذا أرقى مما قبله- فقد سار في الطريق وهي الألفاظ، ولكن هيهات أن يصل للمقصود والثمرات إلا إذا أعدّ تلك القواعد مقدمة للمقصود وبحث فيه! وآخرون يسمعون الآيات فيعرضونها على التاريخ، والمؤرخون مختلفون كما قدمنا.
وما مثل هؤلاء في سيرهم إلا كمثل رجل أوتي آلة بخارية ليسقي بها الحرث من النهر، فجلس بجانبها وترك استعمالها وأخذ يتفكر: من أين هذا الحديد؟ ولم يجلب الماء؟ وإلى أي مسافة يرتفع، وما العلة فيه، ومن أين يأتي الفحم الحجريّ،
المبحث الثاني:
احتج من جوز المعصية على الأنبياء- وهم الكرّاميّة والباقلّانيّ- بما جرى من إخوة يوسف وبيعهم أخاهم وكذبهم لأبيهم، وبما وقع من يوسف نفسه من أخذه أخاه وإيحاشه أباه.
قال الإمام أبو محمد بن حزم رحمه الله في (الملل والنحل) :
ما احتجوا به لا حجة فيه: لأن إخوة يوسف، عليه السلام، لم يكونوا أنبياء، ولا جاء قط- في أنهم أنبياء- نصّ لا من قرآن، ولا من سنة صحيحة، ولا من إجماع، ولا من قول أحد من الصحابة رضي الله عنهم! فأما يوسف عليه السلام فرسول الله بنص القرآن، قال عز وجل: وَلَقَدْ جاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّناتِ فَما زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جاءَكُمْ بِهِ.. إلى قوله- مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا [غافر: ٣٤]، وأما إخوته فأفعالهم تشهد بأنهم لم يكونوا متورعين عن العظائم، فكيف أن يكونوا أنبياء! ولكن الرسولين- أباهم وأخاهم- قد استغفرا لهم وأسقطا التثريب عنهم! وبرهان ما ذكرنا- من كذب من يزعم أنهم كانوا أنبياء- قول الله تعالى حاكيا عن الرسول أخيهم أنه قال لهم: أَنْتُمْ شَرٌّ مَكاناً [يوسف: ٧٧]، ولا يجوز البتة أن يقوله لنبي من الأنبياء نعم، ولا لقوم صالحين!، إذ توقير الأنبياء فرض على جميع الناس، لأن الصالحين ليسوا شرّا مكانا! وقد عقّ ابن نوح أباه بأكثر مما عقّ به إخوة يوسف أباهم، إلّا أن إخوة يوسف لم يكفروا. ولا يحلّ لمسلم أن يدخل في الأنبياء من لم يأت نصّ ولا إجماع أو نقل كافة بصحة نبوّته! ولا فرق بين التصديق بنبوّة من ليس نبيّا، وبين التكذيب بنبوّة من صحّت نبوّته منهم! فإن ذكروا في ذلك ما روي عن بعض الصحابة رضي الله عنهم وهو زيد بن أرقم: (إنما مات إبراهيم ابن رسول الله ﷺ لأنه لا نبيّ بعد رسول الله ﷺ وأولاد الأنبياء أنبياء!) فهذه غفلة شديدة وزلة عالم، من وجوه:
وثالثها: أن ولد نوح كان كافرا بنصّ القرآن: عمل عملا غير صالح. فلو كان أولاد الأنبياء لكان هذا الكافر المسخوط عليه نبيّا. وحاشا لله من هذا..!
ورابعها: لو كان ذلك، لوجب ولا بدّ أن تكون اليهود كلهم أنبياء إلى اليوم، بل جميع أهل الأرض أنبياء، لأنه يلزم أن يكون الكلّ من ولد آدم لصلبه أنبياء، لأن أباهم نبيّ، وأولاد أولادهم أنبياء لأن آباءهم أنبياء وهم أولاد أنبياء، وهكذا... أبدا حتى يبلغ الأمر إلينا! وفي هذا من الكفر لمن قامت عليه الحجة وثبت عليه- ما لا خفاء به. وبالله تعالى التوفيق..!
ثم قال ابن حزم:
وذكروا- يعني الكرّامية ومن وافقهم- أيضا أخذ يوسف عليه السلام أخاه، وإيحاشه أباه عليه السلام منه، وأنه أقام مدّة يقدر فيها على أن يعرف أباه خبره وهو يعلم ما يقاسي به من الوجد عليه، فلم يفعل وليس بينه وبينه إلّا عشر ليال! وبإدخاله صواع الملك في وعاء أخيه ولم يعلم بذلك سائر إخوته، ثم أمر من هتف أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسارِقُونَ [يوسف: ٧٠]، وهم لم يسرقوا شيئا، ويقول الله تعالى: وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ، وَهَمَّ بِها لَوْلا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ [يوسف: ٢٤]، وبخدمته لفرعون، وبقوله للذي كان معه في السجن اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ [يوسف: ٤٢].
قال ابن حزم: وكل هذا لا حجة لهم في شيء منه، ونحن نبين ذلك بحول الله تعالى وقوته، فنقول وبالله تعالى نتأيّد: اما أخذه أخاه وإيحاشه أباه منه فلا شك في أن ذلك ليرفق بأخيه وليعود إخوته إليه، ولعلهم لو مضوا بأخيه لم يعودوا إليه وهم في مملكة أخرى، وحيث لا طاعة ليوسف عليه السلام ولا لملك مصر هنالك، وليكون ذلك سببا لاجتماعه وجمع شمل جميعهم! ولا سبب إلى أن يظن برسول الله يوسف عليه السلام الذي أوتي العلم والمعرفة بالتأويل- إلّا أحسن الوجوه. وليس مع من خالفنا نصّ بخلاف ما ذكرنا. ولا يحل أن يظن بمسلم فاضل عقوق أبيه، فكيف برسول الله صلوات الله عليه وأما ظنّهم- أنه أقام مدة يقدر فيها على تعريف أبيه خبره ولم يفعل- فهذا جهل شديد ممن ظن هذا لأن يعقوب في أرض كنعان من
إذ ما كان بالنسيان فلا يبعد عن الأنبياء! وأما قوله هَمَّتْ بِهِ، وَهَمَّ بِها لَوْلا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ [يوسف: ٢٤]، فليس كما ظنّ من لم يمعن النظر حتى قال من المتأخرين من قال: (إنه قعد منها مقعد الرجل من المرأة) ومعاذ الله من هذا أن يظن برجل من صالحي المسلمين أو مستوريهم! فكيف برسول الله صلى الله عليه وسلم!! فإن قيل: إن هذا قد روي عن ابن عباس رضي الله عنه من طريق جيدة الإسناد، قلنا: نعم! ولا حجة في قول أحد إلّا فيما صحّ عن رسول الله ﷺ فقط! والوهم في تلك الرواية إنما هي بلا شك عمّن دون ابن عباس، أو لعلّ ابن عباس لم يقطع بذلك إذ إنّما أخذه عمن لا يدري من هو، ولا شك في أنه شيء سمعه فذكره، لأنه رضي الله عنه لم يحضر ذلك ولا ذكره عن رسول الله، ومحال أن يقطع ابن عباس بما لا علم له به! لكن معنى الآية لا يعدو أحد وجهين: إمّا أنه همّ بالإيقاع بها وضربها: كما قال تعالى: وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ [غافر: ٥]، وكما يقول القائل: لقد هممت بك، لكنه عليه السلام امتنع من ذلك ببرهان أراه الله إياه استغنى به عن ضربها. وعلم أن الفرار أجدى عليه وأظهر لبراءته، على ما ظهر بعد ذلك من حكم الشاهد بأمر قدّ القميص. والوجه الثاني: أن الكلام تمّ عند قوله وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ ثم ابتدأ تعالى خبرا آخر فقال وَهَمَّ بِها لَوْلا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ وهذا ظاهر الآية بلا تكلف تأويل، وبهذا نقول. وبرهان ربه هاهنا هو النبوّة وعصمة الله عزّ وجلّ إياه، ولولا البرهان لكان يهم بالفاحشة، وهذا لا شك فيه! ولعلّ من ينسب هذا إلى النبيّ المقدس يوسف، ينزه نفسه الرذلة عن مثل هذا المقام فيهلك. وقد خشي النبيّ ﷺ الهلاك على من ظن به ذلك الظن، إذ قال للأنصاريين حين لقيهما: هذه صفية «١» ! ومن الباطل الممتنع أن يظن ظان أن يوسف عليه السلام همّ بالزنى وهو يسمع قول الله تعالى: كَذلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشاءَ [يوسف: ٢٤]، ! فنسأل من
انتهى كلام ابن حزم عليه الرحمة والرضوان. وإنما نقلت كلامه برمته لأنه كما قيل:
(وما محاسن شيء كلّه حسن... !!)
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة الرعدسمّيت به لما فيها من قوله عزّ وجلّ: وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ [الرعد: ١٣] الدالّ على الصفات السلبية والثبوتية، مع الإخبار عن الأمور الملكوتية، ومع كون الرعد جامعا للتخويف والترجية، وهذه من أعظم مقاصد القرآن- قاله المهايميّ.
وللسلف رأيان في أنها مكية أو مدنية ويقال: إنها مدنية إلّا قوله: وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا... [الرعد: ٣١] الآية، ويقال: من أوّلها إلى آخر وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً [الرعد: ٣١]، مدنيّ وباقيها مكيّ. والله أعلم.
وآيها ثلاث وأربعون.