ﰡ
وتسمى سورة النعم لما عدد الله فيها من النعم، وهي مكية على الصحيح، ويدور الكلام فيها حول ذكر النعم وبيان مظاهر القدرة، ونقاش المشركين في عقائدهم مع التعرض ليوم القيامة وما فيه، وقد ذكر في آخر السورة السابقة المستهزئين المكذبين وذكر الموت، وقال: لنسألنهم أجمعين، كل ذلك يتناسب مع أول السورة هنا، وعدد آياتها ثمان وعشرون ومائة آية.
من دلائل وحدانية الله [سورة النحل (١٦) : الآيات ١ الى ٩]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
أَتى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (١) يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ أَنَا فَاتَّقُونِ (٢) خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ تَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (٣) خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (٤)وَالْأَنْعامَ خَلَقَها لَكُمْ فِيها دِفْءٌ وَمَنافِعُ وَمِنْها تَأْكُلُونَ (٥) وَلَكُمْ فِيها جَمالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ (٦) وَتَحْمِلُ أَثْقالَكُمْ إِلى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بالِغِيهِ إِلاَّ بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (٧) وَالْخَيْلَ وَالْبِغالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوها وَزِينَةً وَيَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ (٨) وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْها جائِرٌ وَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ (٩)
أَنْ أَنْذِرُوا الإنذار التحذير مما يخاف منه دِفْءٌ الشيء الذي يدفئك جَمالٌ المراد هنا جمال الصورة وتركيب الخلقة تُرِيحُونَ الرواح رجوعها بالعشي من المرعى تَسْرَحُونَ السراح ذهابها بالغداة إلى المرعى أَثْقالَكُمْ أحمالكم بِشِقِّ الْأَنْفُسِ بمشقتها وغاية جهدها جائِرٌ أى: مائل إلى الحق وزائغ الْأَنْعامَ الإبل والبقر والغنم وهي الثمانية المذكورة في سورة الأنعام.
المعنى:
يقول الله- سبحانه وتعالى-: أتى أمر الله، وتحقق مجيئه إذ خبر الله في الماضي والمستقبل سواء لأنه خبر الحق الآتي ولا شك فيه، وأمر الله هنا عقابه وعذابه لمن أقام على الشرك وتكذيب الرسول، وقد كان كفار مكة يستعجلون العذاب الذي وعدهم به رسول الله حتى قال النضر بن الحارث: اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء.. وقيل أمر الله الآتي: هو قيام الساعة وما يتبعه من إحياء الموتى.
أتى أمر الله فلا تستعجلوه. سبحانه وتعالى عما يشركون أى: تنزيها له وتقديسا عما تشركون، فالله- سبحانه- هو الواحد الأحد. تبرأ من أن يكون له شريك أو ولد وتعالى جنابه عن الشركاء.
ولقد كان استعجال العذاب وقيام القيامة منهم تكذيبا للنبي واستهزاء بوعده، وذلك
وينزل الملائكة بالروح من عنده أن أنذروا أهل الكفر بأنه لا إله إلا أنا فاتقون وبأن خافوا عقابي، وارجوا ثوابي.
وفي هذه الآية يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ توكيد لسابقتها وتفصيل لإجمالها ولذا فصل بينهما، ومن دلائل التوحيد ومظاهر القدرة أيضا.. خلق السموات وما فيها والأرضين وما فيها فقد خلق العالم العلوي، والعالم السفلى خلقهما بالحق الذي لا شك فيه لم يخلقهما عبثا، ولكن ليجزي الذين أساءوا بما عملوا ويجزى الذين أحسنوا بالحسنى، تعالى سبحانه وتسامى عما يشركون، إذ هو الذي خلق وحده فهو الذي يعبد وحده.
وأما أنت أيها الإنسان فمخلوق ضعيف مهين حقير، خلقت من نطفة مذرة ونهايتك جيفة قذرة خلقت من ماء مهين، وآخرك عظم رميم. فإذا أنت خصيم مبين؟؟
تخاصم ربك وتجادل رسله وَضَرَبَ لَنا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ؟ قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ وقد أتى أبى بن خلف الجمحي لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم بعظم رميم (بال متفتت) وقال: يا محمد أترى أن الله يحيى هذا بعد ما قد رم؟! ما أجهلك يا ابن آدم.
لما ذكر الإنسان وأصله ذكر ما منّ به عليه من نعم لا تحصى فذكر أنه خلق الأنعام، خلقها لكم يا بنى آدم فيها دفء من صوف ووبر، وجلد وشعر وبلحمها وشحمها تتولد الحرارة الكافية لنشاط الجسم، وفيها منافع، نعم في الأنعام منافع جمة
ولكم فيها جمال وزينة، وفرح ومسرة في رواحها بالعشي حيث تكون أبهى منظرا وأعلى أسنمة وأكثر لبنا، تملأ البيت ثغاء ورغاء والعين جمالا والنفس سرورا، ولذا قدم الرواح على السرور، وهي تحمل أحمالكم الثقيلة إلى بلد لم تكونوا بالغيه وحدكم إلا بالمشقة والتعب فالجمل سفينة الصحراء، ومركب الأعراب، ولقد أعده العليم الخبير للسير فيها أرأيت خفه الذي لا يغوص في الرمال وصبره على الجوع والعطش الأيام الطوال، إن ربكم لرءوف بكم رحيم. وخلق الخيل والبغال والحمير لتركبوها وتنتقلوا بها من مكان إلى آخر فتتخذونها للركوب والزينة، ومهما تعددت السيارات والدراجات فلا يزال للإبل والبغال والحمير مكانتها عند أصحابها وأربابها، ويخلق الله- سبحانه- غير ذلك مما لا تعلمون. أليس في هذا دليل على إعجاز القرآن الكريم؟ وأن خالقه يعلم بما كان وما سيكون فهذه العبارة جمعت الدراجة والسيارة والطيارة والسفينة وغير ذلك من المخترعات التي جدت وستجد وسبحان العليم البصير القوى القادر سبحانه وتعالى عما يشركون!.
ويستدل بعض الفقهاء بهذه الآية على عدم جواز لحوم الخيل والبغال والحمير لأنها خلقت للركوب والزينة بخلاف الأنعام.
يقولون من تداعى المعاني كلام الله- سبحانه- هنا على السبيل بخصوصه وإن كان ذلك من نعمه علينا بل هي نعمة من أجل النعم أن الله يهدينا إلى سواء السبيل.
وعلى الله وحده هدايتنا بواسطة رسله وكتبه إلى السبيل القصد والطريق الحق المستقيم إِنَّ عَلَيْنا لَلْهُدى. وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ومن السبيل طريق جائر عن العدل والحق فلا تتبعوه. طريق الشيطان والنفس والهوى فلا تسلكوه.
ولو شاء ربكم لهداكم أجمعين على طريق الإلجاء والقسر، ولكنه بيّن وترك لك الاختيار ليجازيك عن عملك واختيارك وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً [سورة يونس آية ٩٩].
من نعم الله علينا أيضا [سورة النحل (١٦) : الآيات ١٠ الى ١٦]
هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً لَكُمْ مِنْهُ شَرابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ (١٠) يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (١١) وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّراتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (١٢) وَما ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (١٣) وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْماً طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها وَتَرَى الْفُلْكَ مَواخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (١٤)
وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهاراً وَسُبُلاً لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (١٥) وَعَلاماتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ (١٦)
تُسِيمُونَ ترعون، والسائمة التي ترعى وَما ذَرَأَ لَكُمْ أى: وسخر ما خلق لكم، ومن ذرأ أخذت الذرية وهي تشمل الثقلين إلا أن العرب تركت همزها أَلْوانُهُ أشكاله ومناظره مَواخِرَ جواري فيه تذهب وتجيء مقبلة ومدبرة بالريح وأصل المخر شق الماء عن يمين وشمال رَواسِيَ جبالا ثابتة أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ خوف أن تضطرب يمينا وشمالا بكم من ماد يميد إذا تحرك ومال وَعَلاماتٍ هي معالم الطرق بالنهار.
المعنى:
لما ذكر الله- سبحانه وتعالى- ما أنعم به علينا من الأنعام والدواب شرع في ذكر نعمته علينا في المطر والنبات، وما يتبع ذلك من ذكر السماء ونجومها والبحار وسفنها.
هو الذي أنزل من السماء ماء عذبا فراتا لكم منه شراب تسيغونه ليس ملحا بل هو النمير الصافي إذ أصله بخار تكاثف في الجو ثم حمله الريح إلى حيث شاء ثم نزل مطرا شرب منه الحيوان ونبت بسببه شجر وزرع، فيه تسام الدواب وترعى مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ.
ينبت لكم ربكم به الزرع بجميع أصنافه وأشكاله، وينبت لكم به الزيتون والنخيل والأعناب ومن كل الثمرات الأخرى التي لم يعرفها العرب المخاطبون بهذا الكلام أولا، إن في ذلك لآية ودلالة على وحدانية الله وقدرته لقوم يتفكرون، نعم إن في عملية المطر وخروجه من ماء البحر الملح ثم صعوده إلى السماء ونزوله منها حيث شاء ثم إنبات الزرع والشجر المختلف الأشكال والألوان بسببه مع أن الماء واحد والأرض واحدة، إن في ذلك كله لآيات ودلائل لقوم يتفكرون..
هو الذي سخر لكم الليل والنهار يتعاقبان، الليل للسكون والهدوء والنوم والراحة، والنهار للحركة وكسب الرزق، وسخر الشمس والقمر كل في فلك يسبحون ذللها للنور والضياء، والحياة والدفء والحرارة ولتعلموا عدد السنين والحساب بمسير الشمس
هو الذي سخر لكم ما خلق في الأرض جميعا على اختلاف أشكاله وألوانه خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً «١» إن في ذلك لآية لقوم يتذكرون ويتدبرون، وهو الله- سبحانه وتعالى- الذي سخر البحر وذلله وجعله خاضعا وهو صاحب قوة وبطش فجعلنا نحده بالجسور والقناطر، ونركبه، ونتخذه طريقا لنقل أنفسنا ومتاعنا إلى حيث نشاء، وجعل فيه- سبحانه- السمك ولحمه الطري والحلية من اللؤلؤ والمرجان، ومكننا من كل ذلك ونرى السفن الكبيرة الثقيلة محمولة على ظهر البحر وتشق الماء شقا، وتمخر عبابه وهي كالبلد المتنقل، سخر البحر لتأكلوا منه لحما طريا، ولتستخرجوا منه حلية تلبسونها، ولتبتغوا من فضله بالتجارة والرحلات والأسفار، وقد من الله علينا بذلك لننتفع ولعلنا نقوم بواجب الشكر علينا.
هو الذي ألقى في الأرض رواسى من الجبال الشامخات لئلا تميد بكم الأرض وتضطرب عند دورانها وتحركها، وجعل لكم فيها أنهارا كنهر النيل والفرات والمسيسبى وغيرها وجعلها سبلا وطرقا لربط أجزاء الأرض ولنقل التجارة والمصالح، وجعلها علامات وحدودا، وفي الأرض علامات أخرى وحدود من أنهار وجبال وآكام، وفي السماء نجوم نهتدي بها في الظلمات وسبحان الله عما يشركون.
هذا هو الخلاق المنعم فأين الشركاء؟! [سورة النحل (١٦) : الآيات ١٧ الى ٢٣]
أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (١٧) وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوها إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (١٨) وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما تُسِرُّونَ وَما تُعْلِنُونَ (١٩) وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ (٢٠) أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْياءٍ وَما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (٢١)
إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ (٢٢) لا جَرَمَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ (٢٣)
هذا خلق الله فأرونى. ماذا خلق الذين من دونه؟ أرونى ماذا خلقوا من الأرض؟
أم لهم شركاء في السماء؟!! عجبا لكم أيها المشركون. أفمن يخلق مما تقدم كمن لا يخلق؟ أعميتم فلا تذكرون وتتعظون؟
ما تقدم من أنواع الخلق بعض نعم الله علينا وهذا في الواقع قطرة من بحر، وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها أبدا. ولا تطيقوا حصرها، فكيف بأداء شكرها والقيام بحقها؟ ومع هذا فالله هو الغفور الرحيم بكم، فأنت مهما عملت لله فعملك لا يوازى نعمة واحدة من نعمه، ولعلك تدرك السر في ختم الآية بالمغفرة والرحمة.
الله خلق جميع الخلق ما نعلم وما لا نعلم، وهو صاحب النعم التي لا تحصى ولا تحصر، وهو الغفور الرحيم، والله يعلم ما تسرون وما تعلنون إذ هو عالم الغيب والشهادة اللطيف الخبير.
والذين تدعونهم من دون الله آلهة. وشركاء لله، لا يخلقون شيئا بل هم يخلقون، وهم أموات غير أحياء أى: هم أجساد ميتة. لا حياة فيها أصلا، فزيادة (غير أحياء) لبيان أنها ليست كبعض الأجساد التي تموت بعد ثبوت الحياة لها، بل لا حياة لهذه أصلا فكيف يعبدونها وهم أفضل لأنهم أحياء، وهم أموات، إن هذا لعجيب!! وهؤلاء الأصنام لا تشعر في أى وقت يبعث عبدتهم من الكفار، وهذا ضرب من التهكم بهم عظيم إذ شعور الجماد بالأمور الظاهرة والمحسوسة مستحيل فكيف بالأمور الخفية التي لا يعلمها إلا الله؟!!
الذين لا يؤمنون بالآخرة وما فيها، ولا يؤمنون بالوحدانية، قلوبهم منكرة لا يؤثر فيها وعظ، لا ينفع معها تذكير، والحال أنهم مستكبرون عن الحق متعالون على الصواب، دائبون على الكفر والجحود، حقا إن ربك يعلم ما يسرون وما يعلنون، وهو مجازيهم على أفعالهم، إنه لا يحب المستكبرين أبدا، ألست معى أن سبب الكفر هو غلق القلوب وختمها بالخاتم حتى لا يدخلها نور؟ وهؤلاء لا يسمعون وإن كانت لهم آذان، ولا يبصرون وإن كانت لهم عين، ولا يفقهون وإن كان لهم قلب، وذلك أن روحهم خبيثة مظلمة بداء الكبر والتكبر، ولقد كان امتناع وليهم إبليس عن امتثال أمر ربه لسبب واحد هو التكبر قالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ [ص ٧٦] أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً [الإسراء ٦١] ولقد صدق الله: إِنَّ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطانٍ أَتاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ ما هُمْ بِبالِغِيهِ [غافر ٥٦].
المستكبرون وجزاؤهم [سورة النحل (١٦) : الآيات ٢٤ الى ٢٩]
وَإِذا قِيلَ لَهُمْ ماذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (٢٤) لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ كامِلَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ وَمِنْ أَوْزارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ (٢٥) قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللَّهُ بُنْيانَهُمْ مِنَ الْقَواعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَأَتاهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ (٢٦) ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يُخْزِيهِمْ وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ قالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكافِرِينَ (٢٧) الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ فَأَلْقَوُا السَّلَمَ ما كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ بَلى إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٢٨)
فَادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (٢٩)
أَساطِيرُ أباطيل وترهات القدماء أَوْزارَهُمْ ذنوبهم الْقَواعِدِ الأسس التي عليها البناء تُشَاقُّونَ تعادون أنبيائى بسببهم الْخِزْيَ الهوان والذل فَأَلْقَوُا السَّلَمَ المراد استسلموا وأقروا لله بالربوبية.
المعنى:
الذين لا يؤمنون بالآخرة، قلوبهم منكرة، وهم مستكبرون، وإذا قيل لهم ماذا أنزل ربكم؟: أى شيء أنزله ربكم؟ ومن هو السائل؟ هل هو الوافد عليهم أو هو واحد من المسلمين أو هو النضر بن الحارث؟ وقال هذا تهكما قالوا في الجواب عن السؤال: ما تدعون نزوله عليكم أيها المسلمون إن هو إلا أساطير الأولين وأباطيل المتقدمين.
قالوا هذه المقالة لكي يحملوا أوزارهم وذنوبهم كاملة غير منقوصة يوم القيامة وليحملوا أوزار من يضلونهم ويتبعونهم في ذلك بغير علم، وهم العوام فمن سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة، ألا ساء ما يحملون! وبئس شيئا يحملونه هذا.
أما في الآخرة فها هو ذا.
ثم يوم القيامة يخزيهم ويذلهم، ويقول بواسطة الملائكة لهم تأنيبا وتهذيبا: أين شركائى؟ أين آلهتكم التي عبدتموها من دوني؟ أين الذين كنتم تشاقون فيهم رسلي، وتعادونهم؟!! قال الذين أوتوا العلم من الملائكة والمؤمنين: إن الخزي اليوم والهوان، والذل والحسرة والسوء على الكافرين وحدهم.
الذين تتوفاهم الملائكة حالة كونهم ظالمي أنفسهم بالكفر والمعاصي، لما حضرهم الموت وبدا لهم ما كانوا ينكرون ألقوا السلم واستسلموا لقضاء الله، وتيقنوا أن قول الرسل حق، وأنه لا إله إلا الله، وقالوا لسوء تقديرهم وظنّا منهم أن ذلك ينفع:
ما كنا نعمل سوءا، فيرد الله عليهم بلى: قد عملتم السوء كله إن الله عليم بما كنتم تعلمون...
فادخلوا أبواب جهنم خالدين فيها فلبئس المثوى والمآب مثوى المستكبرين إِنَّهُمْ كانُوا إِذا قِيلَ لَهُمْ لا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ.. [سورة الصافات آية ٣٥].
المتقون وجزاؤهم [سورة النحل (١٦) : الآيات ٣٠ الى ٣٢]
وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا ماذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا خَيْراً لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ وَلَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دارُ الْمُتَّقِينَ (٣٠) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ لَهُمْ فِيها ما يَشاؤُنَ كَذلِكَ يَجْزِي اللَّهُ الْمُتَّقِينَ (٣١) الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمْ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٣٢)
المعنى:
وقيل للذين اتقوا ماذا أنزل ربكم؟ والسائل هم الوافدون على المسلمين في المواسم والأسواق، وذلك أن رسل العرب كانت تأتى إلى مكة فإذا صادفت مشركا قال في شأن محمد والقرآن: هذا ساحر. كاذب. شاعر وما أنزل عليه أساطير الأولين، وإذا صادفت مؤمنا قال: ما حكاه القرآن ها هنا. قال المتقون في جوابهم: أنزل ربكم خيرا، وانظر يا أخى في الجوابين جواب المشركين أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ. وجواب المسلمين قالُوا خَيْراً ولعل التخريج كما ذكر القرطبي أن المشركين لم يؤمنوا بالتنزيل وقالوا أساطير الأولين بالرفع والمؤمنون آمنوا بالنزول المستمر فقالوا: أنزل خيرا وهذا أساسه الإعراب في الآية.
للذين أحسنوا في هذه الدنيا بالإيمان والعمل حسنة من النصر والفتح والعز والسلطان، ولدار الآخرة ونعيمها وما فيها خير وأبقى لهم، فهم يثابون على عملهم الطيب في الدنيا والآخرة وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتاعاً حَسَناً إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى أى في الدنيا وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ أى في الآخرة...
ولنعم دار المتقين جنات عدن تجرى من تحتها الأنهار، لهم فيها ما يشاءون من متاع ونعيم مثل هذا الجزاء العظيم يجزى الله المتقين، الذين تتوفاهم الملائكة طيبين طاهرين
للحديث «لن يدخل أحد منكم الجنّة بعمله، قالوا: حتّى أنت يا رسول الله! قال: حتّى أنا إلّا أن يتغمّدنى الله برحمته».
عاقبة الكفار [سورة النحل (١٦) : الآيات ٣٣ الى ٣٤]
هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ كَذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَما ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (٣٣) فَأَصابَهُمْ سَيِّئاتُ ما عَمِلُوا وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٣٤)
المعنى:
ما ينتظر هؤلاء الكفار إلا أن تأتيهم الملائكة لقبض أرواحهم ثم يأخذون جزاءهم، أو يأتى أمر ربك بالعذاب والنكال لهم في الدنيا، أو يأتى أمر ربك بحدث القيامة وما فيها من عذاب لهم، لأنهم تسببوا في لحوق ما ذكر بهم، وشبهوا بالمنتظرين المتوقعين لحدوثه، كما فعل هؤلاء فعل الذين من قبلهم، وكان الجزاء على ذلك واحدا، وما ظلمهم الله، ولكن كانوا أنفسهم يظلمون.
كذلك فعل الذين من قبلهم مثل أفعالهم فأصابهم سيئات فعلهم، وحاق بهم جزاؤه، وأحاطهم خطر ما كانوا يستهزئون، فإنهم كانوا يستعجلون العذاب، ويطلبونه استهزاء بالنبي صلّى الله عليه وسلّم وكفرا، وظلوا كذلك حتى حاق بهم العذاب، وأحاط بهم الخطر من كل جانب.
وَقالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللَّهُ ما عَبَدْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ كَذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (٣٥) وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (٣٦) إِنْ تَحْرِصْ عَلى هُداهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (٣٧) وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ بَلى وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٣٨) لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كانُوا كاذِبِينَ (٣٩)
إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (٤٠)
المفردات:
اجْتَنِبُوا اتركوا الطَّاغُوتَ كل ما عبد من دون الله فهو طاغوت، وقيل الطاغوت: الشيطان والمراد اجتنبوا ما يدعو إليه مما نهى عنه الشرع، والطاغوت من الطغيان وهو مجاوزة الحد حَقَّتْ وجبت وثبتت لإصراره على الكفر.
لما سدت السبل أمام المشركين، ولزمتهم الحجج الدامغة، تهربوا وقالوا: لو شاء الله ما أشركنا، ولا فعلنا محرما أبدا، وهم يقصدون بذلك الطعن في الرسالة: قال الشوكانى في كتابه فتح القدير: «ومقصودهم بهذا القول المعلق بالمشيئة الطعن في الرسالة أى: لو كان ما قاله الرسول حقا من المنع من عبادة الله، والمنع من تحريم ما لم يحرمه الله حاكيا الرسول ذلك عن الله. ولو كان هذا صحيحا لم يقع منا ما يخالف ما أراده الله. فإنه قد شاء ذلك وما شاءه كان وما لم يشأ لم يكن، فلما وقعت منا العبادة لغيره وتحريم ما لم يحرمه كان ذلك دليلا على أن ذلك المطابق لمراده والموافق لمشيئته، مع أنهم في الحقيقة لا يعترفون بذلك، ولا يقرون لكنهم قصدوا بذلك الطعن على الرسل.
وقال المشركون: لو شاء الله ما عبدنا شيئا حال كونه من دون الله أى غيره، نحن ولا آباؤنا من قبل، ولا حرمنا شيئا حال كونه دونه أى: دون الله، والمراد:
ما حرمنا شيئا مستقلين بتحريمه.
مثل ذلك الفعل ليس جديدا بل كذلك كذب الذين من قبلهم رسلهم، ولجئوا إلى مثل هذه الطرق. وجادلوا رسلهم بالباطل ليدحضوا به الحق، فهل على الرسل إلا البلاغ الواضح الذي يبين الشريعة وأحكامها! وأما علم الله وإرادته، فشيء آخر ولقد بعثنا في كل أمة رسولا لإقامة الحجة عليهم بأن اعبدوا الله حق العبادة واتركوا كل معبود سواه كالشيطان والصنم الكاهن، وكل من دعا إلى ضلال وتجاوز حدود الدين والعقل.
فمنهم من هداه الله ووفقه فآمن وامتثل، ومنهم من حقت عليه الضلالة وثبتت لإصراره على الذنب والمعاصي فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها [سورة الشمس ٨- ١٠].
ومن هنا نعلم أن الله أرسل الرسل تدعو إلى الخير وامتثال أمر الله، وترك عبادة الأوثان وفعل المحرمات (وهذا معنى الهداية والدلالة) ثم بعد ذلك آمن البعض وكفر البعض فمنهم شقي وسعيد، ولهذا عاقب من خالفه وأثاب من أطاعه فكان في ذلك
ثم خصص الخطاب برسوله صلّى الله عليه وسلّم ليؤكد ما تقدم بقوله:
إن تحرص على هدايتهم وتطلبها فليس يجدي ذلك شيئا فإن وراء الهداية والطلب باللسان توفيق الله وإلهامه، والله- سبحانه- لا يهدى ولا يوافق الضالين المكذبين الذين ختم على قلوبهم وسمعهم وأبصارهم.
انظر إليهم متعجبا وقد أقسموا بالله، وبالغوا في تغليظ اليمين بأن الله لا يبعث من يموت.
بل يبعث من يموت، ويعد ذلك وعدا عليه حقا، ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
يبعث الله الخلق ليبين لهم الذي يختلفون فيه من أمر البعث، وليظهر لهم أنه حق أَنْ قَدْ وَجَدْنا ما وَعَدَنا رَبُّنا حَقًّا [الأعراف ٤٤]، وليعلم الذين كفروا أنهم كانوا كاذبين.
وما لكم لا تؤمنون بالعبث؟ وتقولون من يحيى العظام وهي رميم؟ وما علمتم أن كل شيء في الكون خاضع له سبحانه، وإذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [سورة النحل آية ٤٠].
جزاء المؤمنين وتهديد الكافرين [سورة النحل (١٦) : الآيات ٤١ الى ٥٠]
وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (٤١) الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (٤٢) وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلاَّ رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (٤٣) بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (٤٤) أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ (٤٥)
أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ (٤٦) أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (٤٧) أَوَلَمْ يَرَوْا إِلى ما خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّؤُا ظِلالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمائِلِ سُجَّداً لِلَّهِ وَهُمْ داخِرُونَ (٤٨) وَلِلَّهِ يَسْجُدُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ مِنْ دابَّةٍ وَالْمَلائِكَةُ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ (٤٩) يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ (٥٠)
هاجَرُوا فِي اللَّهِ الهجرة: ترك الأوطان والأهل والبلد في سبيل الله وهي بعد ذلك ترك السيئات من الأعمال لَنُبَوِّئَنَّهُمْ لننزلنهم في الدنيا منزلا حسنا يَخْسِفَ خسف المكان يخسف خسوفا ذهب في الأرض وخسف الله به الأرض غاب فيها فِي تَقَلُّبِهِمْ في أسفارهم وتصرفهم عَلى تَخَوُّفٍ مع تخوف وتوقع للبلايا، وقيل التخوف والتنقص في المال والأنفس والثمرات يَتَفَيَّؤُا ظِلالُهُ يميل من جانب إلى جانب ومنه قيل للظل بالعشي: فيء، لأنه فاء من المغرب إلى المشرق أى: رجع والفيء الرجوع، ومنه حتى تفيء إلى أمر الله أى: ترجع داخِرُونَ خاضعون صاغرون والدخور: الصغار والذل.
والذين هاجروا من بلادهم وأوطانهم، وتركوا أموالهم وأولادهم في سبيل الله وحبا في رضائه، هاجروا من بعد ما ظلموا، وذاقوا الأمرين من المشركين، قيل نزلت في بلال. وصهيب، وخباب، وعمار عذبهم أهل مكة حتى ذاقوا العذاب ألوانا، وقال قتادة نزلت في المهاجرين إلى الحبشة والأولى أن تفهم في الآية العموم، وأنها تشمل كل من عذب في سبيل الله وهاجر لله ولا مانع من أن تفهم الهجرة على أنها ترك المنهيات كما
ورد في الحديث «والمهاجر من ترك ما نهى الله».
والذين هاجروا في سبيل الله لينزلهم الله منزلا ويعطيهم عطاء حسنا في الدنيا، فيه سعادتهم وغناؤهم وعزهم، ولأجر الآخرة أكبر وأفضل من أجر الدنيا، إذ الآخرة هي دار الجزاء والبقاء، لو كانوا يعملون، ولو رأوه لعلموا أنه خير وأفضل بكثير، هؤلاء المهاجرون هم الذين صبروا واحتسبوا أجرهم عند الله، وعلى ربهم فقط يتوكلون ويعتمدون.
ولقد كانت قريش ترى أن الله أجل وأعلى من أن يرسل بشرا أَكانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنا إِلى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ [سورة يونس آية ٢].
فيرد الله عليهم بقوله وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم من أهل القرى وليسوا من أهل السماء كالملائكة، ويأمر الله نبيه بقوله قُلْ سُبْحانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولًا [سورة الإسراء آية ٩٣].
فإن شككتم في ذلك فاسألوا أهل الذكر والعلم من أهل الكتاب فهم أدرى منكم وأعلم بالرسول إن كنتم لا تعلمون، ويقولون لكم: إن جميع الرسل بشر، ولم يرسل الله رسولا إلا وكان بشرا من خلقه أوحى إليهم بدين صحيح موافق لعصره نعم ما أرسل الله من قبلك إلا رجالا أوحى إليهم بالآيات البينات وأنزل معهم الكتاب.
وأما أنت يا رسول الله فقد أنزل الله إليك الذكر والقرآن لتبين للناس ما أنزل إليهم، فأنت أدرى الناس به، وأحرص الناس عليه وعلى اتباع الناس له، فأنزله إليك لتبينه للناس ولعلهم يتفكرون ويهتدون.
أعمى هؤلاء الكفار فأمنوا جزاء مكرهم وعملهم السيئات!! أفأمنوا أن يخسف
أو يأخذهم على تخوف أى حال تخوف وتوقع العذاب، وقيل على تخوف أى:
على تنقص في المال والولد والزرع والثمار، فإن ربكم لرؤوف رحيم حيث لم يعاجل بالعقوبة بل أمهل رجاء التوبة والرجوع إلى الخالق. وما لهم ينكرون ذلك!! ويؤمنون على أنفسهم العذاب!! أو لم يروا إلى ما خلق الله من شيء يتفيأ ظلاله، ويميل من جانب إلى جانب، وفي هذا من مظاهر القدرة والعظمة ما لا يخفى فإن دوران الأرض، وتحركها حتى يتحول وجهها من جهة إلى جهة، والظل من حال إلى حال لدليل على عظمة الله وكمال قدرته، يتفيأ الظل على اليمين والشمائل، ساجدين لأمره، وهم صاغرون وخاضعون لله، ولا شك أن انتقال الظل من حال إلى حال دليل على القدرة الكاملة، هذا في الجمادات أما الأحياء فلله وحده يسجد كل ما في السموات وكل ما في الأرض من دابة، وقد سجد الملائكة والحال أنهم لا يستكبرون أبدا عن شيء كلفوا به أو أراده الله لهم. فالكل يسجد إن طوعا وإن كرها يخافون ربهم من فوقهم فوقية مكانة لا مكان، وهم يفعلون ما يؤمرون.
مناقشة المشركين في عقائدهم وأعمالهم [سورة النحل (١٦) : الآيات ٥١ الى ٦٢]
وَقالَ اللَّهُ لا تَتَّخِذُوا إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (٥١) وَلَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلَهُ الدِّينُ واصِباً أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ (٥٢) وَما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْئَرُونَ (٥٣) ثُمَّ إِذا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (٥٤) لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (٥٥)
وَيَجْعَلُونَ لِما لا يَعْلَمُونَ نَصِيباً مِمَّا رَزَقْناهُمْ تَاللَّهِ لَتُسْئَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ (٥٦) وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَناتِ سُبْحانَهُ وَلَهُمْ ما يَشْتَهُونَ (٥٧) وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (٥٨) يَتَوارى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ ما بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرابِ أَلا ساءَ ما يَحْكُمُونَ (٥٩) لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٦٠)
وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ ما تَرَكَ عَلَيْها مِنْ دَابَّةٍ وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ (٦١) وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ ما يَكْرَهُونَ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنى لا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ (٦٢)
الدِّينُ الطاعة والإخلاص واصِباً دائما. واجبا خالصا. تَجْئَرُونَ تضجون بالدعاء، يقال جأر يجأر جؤاره، والجؤار مثل الخوار وهو صوت البقر مُسْوَدًّا المراد متغيرا والسواد كناية عن غمه بالبنت كَظِيمٌ ممتلئ غما وحزنا، أو هو المغموم الذي يطبق فاه فلا يتكلم من شدة الألم مأخوذ من الكظامة وهو شد فم القربة يَتَوارى يختفى ويغيب هُونٍ هون وبلاء يَدُسُّهُ فِي التُّرابِ يواريه في التراب ويرده إليه مَثَلُ السَّوْءِ المثل المراد به الصفة الغريبة غرابة المثل مُفْرَطُونَ متروكون فيها مقدمون إليها.
بعد ما ثبت أن كل ما في الكون خاضع لله- سبحانه وتعالى-، ومنقاد لأمره أتبع ذلك بالنهى عن الشرك، ببيان بعض فضائح العرب المشركين وأعمالهم علهم يرجعون ويثوبون إلى رشدهم.
وقال الله- سبحانه-: لا تتخذوا إلهين اثنين إنما الله إله واحد فالألوهية منحصرة في الذات الأقدس- جل جلاله-.
وقد يقال: ما فائدة زيادة اثنين بعد قوله إلهين، وزيادة واحد بعد قوله إله؟ وقد قالوا في الجواب: إن الزيادة لأجل المبالغة في التنفير من اتخاذ الشريك حيث قال:
إلهين اثنين، وكانت زيادة (واحد) دفعا لتوهم أن المراد إثبات الألوهية دون الوحدة، وخلاف المشركين منصب على الوحدة في الإله.
إن كنتم ترهبون شيئا في الوجود فإياى وحدي فارهبون.
وكيف لا يكون ذلك؟ ولله كل ما في السموات وما في الأرض ملكا وخلقا وعبيدا وتصريفا، وله الدين والطاعة، والإيمان والإخلاص ثابتا. واجبا دائما، إذ ليس لأحد أن يطاع، إلا انقطع ذلك بهلاكه أو زوال ملكه، إلا الله- سبحانه وتعالى- فطاعته دائمة ثابتة واجبة.
أفغير الله بعد ذلك تتقون وتخافون؟؟؟
وما بكم من نعمة أيّا كان لونها وجنسها فمن الله وحده. فعلى العاقل ألا يشرك بالله، وألا يعبد إلا الله، وألا يتقى إلا الله.
ولكن الإنسان يتلون، ولا يتجه الوجهة الصحيحة وهو غارق في بحار النعمة ولذا يقول الله: ثم إذا مسكم الضر في نعمة من صحة أو ولد أو مال فإلى الله- سبحانه- تجأرون، وتتضرعون في كشف الضر عنكم، إذ لا يكشف الضر إلا هو، ثم إذا كشف الضر عنكم، ورفع ما نزل بكم عاد بعض أفراد الإنسان إلى طبعه، وإذا فريق منكم يا بنى آدم يشركون بربهم، ألست تعجب من فعل هؤلاء حيث يضعون الشرك بالله الذي أنعم عليهم بكل نعمة، وكشف عنهم ما نزل بهم من ضر جعلوه مكان
ثم حكى- سبحانه وتعالى- نوعا آخر من قبائحهم فقال: ويجعلون للأصنام التي لا يعلمون حقيقتها نصيبا مما رزقناهم.
أليس عجبا أن يجأر هؤلاء إلى الله بالدعاء إذا مسهم الضر، ثم إذا أزاح عنهم الضر أشركوا به غيره، ومع ذلك يجعلون لما لا يعلمون حقيقته من الجمادات أو لما صنعوه بأيديهم نصيبا مما رزقناهم من الأموال يتقربون به إليه... تالله قسما بذاته العليا لتسألن عما كنتم تفترون وتختلقون من الأكاذيب والضلالات.
وهؤلاء يجعلون لله البنات وقد كانت خزاعة وكنانة تقول الملائكة بنات الله..
سبحانه وتعالى عما يقولون علوا كبيرا! ولهم ما يشتهون من الذكور أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى [النجم ٢١] أى: جائرة. أَلا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ. وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ.
[الصافات ١٥١ و ١٥٢].
إن هذا لعجيب!! البنات لله والذكور لهم!! وهم يأنفون من البنات، وإذا بشر أحدهم بالبنت ظل وجهه مسودا، وظل كئيبا حزينا كاسف البال لأنه بشر بولادة أنثى، ويظل في حيرة من أمره أيمسك المولود الأنثى على هوان وذل وعار وفقر أم يدسه في التراب؟ وكانوا يصنعون ذلك في الجاهلية، أفمن يكرهونه هذه الكراهة ويأنفون أن يجعلوه لأنفسهم يجعلونه لله؟!! ألا ساء ما يحكمون!! لهؤلاء الذين لا يؤمنون بالحياة الآخرة وما فيها مثل السوء والصفة السوءى التي لا أسوأ منها، ولله- سبحانه- المثل الأعلى والكمال المطلق وهو العزيز الحكيم.
وهو الرحمن الرحيم واسع الكرم كثير الحلم حيث لم يعاجلهم بالعقوبة، ولو يؤاخذ الله الناس بظلمهم، ويعاقبهم على جرمهم فورا ما ترك على ظهر الأرض من دابة، ولكنه- جل جلاله- حليم ستار غفور رحيم، وهو يؤخرهم إلى أجل مسمى عنده فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون، وعندئذ يأخذ المسيء جزاءه حتما بلا تأخير ولا إمهال.
من مظاهر قدرته ونعمه علينا [سورة النحل (١٦) : الآيات ٦٣ الى ٦٩]
تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٦٣) وَما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ إِلاَّ لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٦٤) وَاللَّهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (٦٥) وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَناً خالِصاً سائِغاً لِلشَّارِبِينَ (٦٦) وَمِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (٦٧)
وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ (٦٨) ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها شَرابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (٦٩)
فِي الْأَنْعامِ الإبل والبقر بنوعيه والضأن والمعز لَعِبْرَةً العبرة تمثيل الشيء بالشيء ليعرف حقيقته بطريق المشاكلة فَرْثٍ الفرث ما ينزل إلى كرش الحيوان فأما الخارج منه فلا يسمى فرثا سَكَراً السكر ما يسكر من الخمر، وقيل غير ذلك وَرِزْقاً حَسَناً جميع ما يأكل من هاتين الشجرتين وَأَوْحى الوحى قد يستعمل بمعنى الإلهام وهو ما يخلق في القلب ابتداء من غير سبب كالغرائز والطبائع في الحيوان مِمَّا يَعْرِشُونَ من الذي يعرشه ابن آدم ويعمله بيده كالخلايا من الطين والغاب والخلايا الحديثة من الخشب والزجاج.
بعد ما ذكر بعض صنيع العرب في جاهليتهم ووقوفهم من الدعوة الإسلامية موقف المشرك المعاند أخذ يذكر أن هذا طبع في الناس قديما وحديثا ليعلم النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه ليس بدعا من الرسل، وليس قومه منفردين بالعتو والاستكبار ثم أخذ بعد ذلك يعدد نعمه علينا وأياديه المختلفة.
المعنى:
تالله العلى القدير (إنه لقسم من الله بنفسه) لقد أرسلنا إلى أمم من قبلك رسلهم فوقفوا منهم مثل ما وقفوا معك: وزين لهم الشيطان أعمالهم، وفي هذا إشارة إلى أن الأنبياء جميعا يدعون إلى ناحية الخير والروح في الإنسان، والشيطان دائما يقف منهم موقف العناد ويستغل ناحية المادة في الإنسان ويزين له عمله السوء ومعاكسة الأنبياء.
زين لهم الشيطان أعمالهم السيئة فهو وليهم اليوم، وقرينهم في الدنيا، ويحتمل أن يكون المعنى فهو وليهم وناصرهم اليوم أى يوم القيامة، والمراد نفى الناصر عنهم على أبلغ وجه.
وقيل المعنى: فهو ولى هؤلاء الكفار اليوم، ولهم في الآخرة عذاب أليم. ولم يكن هلاك الأمم وعذابهم إلا بعد إقامة الحجة عليهم، وأنت مع أمتك كذلك، ولهذا قال:
وما أنزلنا عليك الكتاب أى: القرآن لحال من الأحوال أو لعلة من العلل إلا لتبين
والله- سبحانه- أنزل من السماء ماء فأحيا به الأرض بعد موتها، ألم تر إلى الأرض وهي هامدة فإذا أنزل الله عليها الماء اهتزت وتفاعلت مع البذور وربت وانتفخت وأنبتت من كل زوج بهيج، ذلك النبات الأخضر، اليانع الذي يخرج من تراب فيه ماء، فبدل العفونة التي تنشأ من وضع شيء غريب في الأرض المبتلة يخرج نبات بهجة للناظرين، إن في ذلك لآية لقوم يسمعون كلام الله ويتدبرون معناه.
نعم وإن لكم في الأنعام لعبرة وعظة، ودلالة على قدرة الله ووحدانيته وعظمته، وقال أبو بكر الوراق: العبرة في الأنعام تسخيرها لأربابها وطاعتها لهم، وتمردك على ربك، وخلافك له في كل شيء، ومن أعظم العبر برىء يحمل مذنبا.
وإن لكم يا بنى آدم في الأنعام لعبرة وعظة حيث نسقيكم مما في بطونه لبنا خالصا من كل شيء يكدر صفوه سائغا للشاربين لذيذا وهنيئا، لا يغص به شاربه، فيه الغذاء الكامل الذي يكفى عن كل طعام وشراب، ويكفى أنه يغذى الطفل مدة من الزمن فلا يحتاج لغيره واللبن من بين الأطعمة قد أظهر النبي صلّى الله عليه وسلّم مكانته بقوله إذا أكل غيره ولو لحما
«اللهم بارك لنا فيه وزدنا خيرا منه، وإذا أكل اللبن قال: اللهم بارك لنا فيه وزدنا منه»
والطب الحديث يعرف مقدار اللبن ويفسر لنا كلام النبي صلّى الله عليه وسلّم تفسيرا عمليا.
هذا اللبن خرج من بين فرث ودم، يا سبحان الله! إنه من غذاء الحيوان، والغذاء تتحول عصارته إلى فرث، وإلى دم وإلى لبن بواسطة شعيرات دقيقة حول أنسجه الجهاز لهضمه يا سبحان الله!! أنت القدير الحكيم، ومن الذي علم هذا الرجل الأمى الذي نشأ في بيئة أمية جاهلة لم تعرف شيئا أبدا؟!! إنه الله الذي أنزل عليه القرآن كتابا أحكمت آياته.
يقولون إن هذه أول آية نزلت في تحريم الخمر، وقد نزلت بمكة لأن السورة مكية، وتحريم الخمر في المدينة، وقد سأل بعضهم كيف تكون هذه أول آية في تحريم الخمر؟
ولأنها أول آية في تحريم الخمر التي امتدت جذورها وتأصلت عند العرب كانت الإشارة فيها للتحريم إشارة بعيدة الغور، حيث كانت ثمرات النخيل والعنب سكرا ورزقا حسنا فوصف الرزق منها بأنه حسن وترك السكر دليل على أنه ليس بحسن، وفي هذا إشارة إلى خلو ذلك من الخير والحسن، وفي الآيات التالية لتحريم الخمر أبان خطرها وضررها، والآية الكريمة التي معنا دلالة على قدرة الله وعظمته إن في ذلك لآية لقوم يعقلون.
وأوحى ربك إلى النحل، وجعل من غريزتها وطبعها ذلك. أوحى لها أن اتخذى من الجبال وكواها بيوتا، وكذلك من الشجر وجوفه، ومما يعرش ابن آدم، ويصنع لك ويهيأ من الخلايا على النظام القديم والحديث وقد أوحى الله لها وألهمها أن كلى من رحيق كل الثمرات، يا سبحان الله هذا الكون وحدة لا يتجزأ، ولا يمكن أن يكون نظامه مصادفة، بل لا بد له من إله مدبر عالم حكيم قوى قادر، هذه النحلة التي ألهمت تأكل من كل الثمرات، وتدخل في أكمام الأزهار تبحث عن الغذاء هي التي تنقل على أجنحتها تلقيح الأزهار من الذكر إلى الأنثى من حيث لا تشعر، ويظهر أن لكل كائن في الوجود رسالة يؤديها علم بها أو لم يعلم، أوحى لها أن كلى من كل الثمرات فاسلكي سبل ربك مذللة طائعة.
يخرج من بطونها شراب مختلف ألوانه هو العسل.
يا سبحان الله!! لقد صدق من قال: ورق التوت: يأكله الدود فيخرج منه الحرير، ويأكله الظبى فيخرج منه المسك، ويأكله النحل فيخرج منه العسل، ويأكله المعز فيخرج منه الروث.
هذا العسل فيه شفاء للناس، نعم فيه شفاء لكثير من الأدواء، ولقد حدثنا أستاذنا الدكتور محمد جعفر عن فوائده الطبية بما به عرفنا أن فيه شفاء لكثير من أمراض الناس.
من عجائب قدرة الله وآياته ووجدانيته [سورة النحل (١٦) : الآيات ٧٠ الى ٧٤]
وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (٧٠) وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلى ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَواءٌ أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (٧١) وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ أَفَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ (٧٢) وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقاً مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ شَيْئاً وَلا يَسْتَطِيعُونَ (٧٣) فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (٧٤)
المفردات:
أَرْذَلِ الْعُمُرِ أردؤه يَجْحَدُونَ يكفرون حَفَدَةً جمع حافد وهو المسرع في الخدمة المسارع في الطاعة ولذا قيل الحفدة هم الأعوان والخدم، والرأى أنهم أولاد البنين.
هذا لون آخر من ألوان صنعه الباهر، ومظهر من مظاهر قدرته وألوهيته في الإنسان، وما يتصل به بعد بيان ذلك في المطر والنبات والحيوان.
والله خلقكم يا بنى آدم، ولم تكونوا شيئا ثم يتوفاكم عند انقضاء آجالكم، ومنكم من يرد إلى أرذل العمر وأردئه لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ. ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ «١». اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً «٢» فمن يكبر في السن حتى يبلغ أرذل العمر يفقد قوة إحساسه وشعوره العام، بل ويصبح كالطفل من ناحية إدراكه ورغبته في تحقيق ما تصبو إليه نفسه، ولقد صدق الله حيث علل بلوغه أرذل العمر بقوله: لِكَيْ لا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئاً من العلم لا كثيرا ولا قليلا بعد علم كان قد حصل له، أما تحديد أرذل العمر فذلك موكول إلى ظروف الإنسان، وإن كان الغالب أن يكون بعد الخامسة والستين.
وهذا حكم غالبى
ففي الحديث ما معناه: «خير الناس من طال عمره وحسن عمله، وشر الناس من طال عمره وساء عمله».
والله فضل بعضكم على بعض في الرزق، ورفع بعضكم فوق بعض درجات ليتخذ بعضكم بعضا سخريا، ولم يترك الله الغنى يعبث بماله حيث شاء، بل جعل للفقير في ماله حقا معلوما، وللدولة ممثلة في الحاكم المسلم حق آخر تبعا لظروف الدولة العامة.
ومع هذا فما الذين فضلهم الله بسعة الرزق على غيرهم برادي رزقهم- الذي أعطاه الله لهم بلا سبب- فما الذين فضلوا برادي رزقهم على ما ملكت أيمانهم من عبيدهم وإمائهم فالمالكون والمملوكون في الرزق سواء عند الله إذ هم أنفقوا من مال جعلهم الله خلفاء عليه.
ومعنى الآية بالتوضيح أن الله فضل بعضا على بعض في الرزق، وأوجب على الغنى أن يعطى الفقير، وعلى المالك أن يعطى المملوك، ومع هذا فلم يعط غنى فقيرا ولم يرد مالك على مملوك رزقا حتى يتساوى معه، وإنما يردون عليهم شيئا يسيرا، وندرا قليلا في بعض الأحيان.
وهذا مثل ضربه الله للناس بمعنى: إذا كنتم لم ترضوا أن يكون خدمكم معكم
(٢) سورة الروم الآية ٥٤.
ورزقكم من الطيبات التي تستطيبونها في الدنيا أعموا؟ فبالباطل من الشركاء والأصنام يؤمنون به وحده، وبنعمة الله البينة السابقة التي لا تعد ولا تحصى هم يجحدون ويكفرون؟! ويعبدون من دون الله أشياء لا تملك لهم رزقا أى رزق من السموات والأرض، ولا يستطيعون هذا أبدا، وانظر إلى الجمع بين نفى الملك، ونفى الاستطاعة، وإذا كان الأمر كذلك فلا تضربوا لله الأمثال والأشباه والنظائر فلله المثل الأعلى، وهو لا يشبه أحدا من خلقه أيا كان، واعلموا أن البحث في كنه ذات لله إشراك، والوقوف عند ما أجمله الله إدراك.
وقد كانوا يقولون، إن الملوك تخدمهم الأكابر، والأكابر تخدمهم العبيد فهؤلاء أصنام نتخذهم قربى وواسطة إلى الله العلى الكبير، وهذا خطأ فاحش، وفهم سقيم وقياس الخلق على الخالق.
ليس بينك وبين الله حجاب، وليس له وزير ولا حاجب بل هو أقرب إلينا من حبل الوريد، وهو الذي يقول: وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ [البقرة ١٨٦].
إن الله يعلم وأنتم لا تعلمون شيئا فاسمعوا وأطيعوا يغفر لكم من ذنوبكم ويؤخركم إلى أجل مسمى...
ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً عَبْداً مَمْلُوكاً لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْناهُ مِنَّا رِزْقاً حَسَناً فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْراً هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٧٥) وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَجُلَيْنِ أَحَدُهُما أَبْكَمُ لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلى مَوْلاهُ أَيْنَما يُوَجِّهْهُ لا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٧٦) وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما أَمْرُ السَّاعَةِ إِلاَّ كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٧٧) وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٧٨) أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّراتٍ فِي جَوِّ السَّماءِ ما يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ اللَّهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٧٩)
المفردات:
أَبْكَمُ الأبكم من ولد أخرس، وقيل: الذي لا يسمع ولا يبصر كَلٌّ ثقل على وليه وقرابته، ووبال على صاحبه وابن عمه، ولذا يسمى اليتيم كلا لثقله
المعنى:
ضرب الله مثلا للأصنام المعبودة وهي لا تنفع ولا تضر، والله الواحد الخالق البارئ فاطر السموات والأرض، واهب الوجود، والمنعم بكل شيء موجود، ضرب الله مثلا: عبدا مملوكا لمالكه، وهو لا يقدر على شيء أبدا، فلا ينفع نفسه ولا غيره، وحرا رزقناه منا رزقا حسنا، وأعطيناه مالا وفيرا، فهو ينفق المال سرا وجهرا في جهات الخير والبر، هل يستوي هذا الذي لا خير فيه مع هذا الحر الغنى المنفق في وجوه البر والخير؟ هل يستوي الضار مع النافع؟! لا يستوي هذا وذاك أيضا!، ومن يسوى بين الصنم من حجارة أو خشب الذي لا يدفع عن نفسه الذباب وبين المولى القدير- جل جلاله- وتباركت أسماؤه صاحب اليد والنعم، وله ملك السموات والأرض، يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء.
الحمد لله، والثناء بالجميل والشكر الجزيل لله الواحد القهار المنعم بجلائل النعم، والمتفضل بجلائلها، لا مانع لما أعطى. ولا معطى لما منع، هو المستحق وحده للحمد والثناء لا إله إلا هو، بل أكثرهم لا يعلمون الحق فيتبعوه، ويعرفوا المنعم عليهم بالنعم الجليلة فيخصوه وحده بالتقديس والتنزيه.
ثم ضرب الله- سبحانه- مثلا ثانيا لنفسه ولما يفيض على عباده من النعم الدينية والدنيوية، وللأصنام التي هي أموات بل لم تسبق لها الحياة وهي لا تضر ولا تنفع فقال.
وضرب الله مثلا رجلين أحدهما أبكم عيى مفحم، مقطوع اللسان أخرس، لا يقدر على شيء أبدا لعدم فهمه، وعدم قدرته على النطق، لا يقوم بحاجته، ولا يؤدى عمله وهو كل على مولاه، وثقل على قرابته، هذا الإنسان الأبكم الذي لا يقدر على تحصيل شيء أبدا، وهو كل على مولاه، أينما يوجهه إلى أى جهة أخرى لا يأت بخير قط لأنه لا يفهم ولا يعقل ما يقال له.
وحاصل الوصفين في المثل الثاني أن الأول لا يستحق شيئا، والثاني يستحق أكمل وصف، والمقصود الاستدلال بعدم تساوى هذين الموصوفين على امتناع التساوي بينه وبين ما يجعلونه شريكا له.
ولما فرغ من ذكر المثلين أخذ يتحدث عن نفسه فقال:
ولله وحده- سبحانه- غيب السموات والأرض، يختص بذلك لا يشاركه أحد من خلقه، وما أمر الساعة التي هي محط الأنظار، ومحل البحث والجدل بين المنكرين وبين الذين يؤمنون بالبعث ويوم الساعة، إلا كلمح البصر، أو غمضة العين، أو هو أقرب. وهذا مثل في وصف سرعة القدرة على الإتيان بها لأن الله إذا أراد شيئا قال له كن فيكون، إن الله على كل شيء قدير.
والله أخرجكم من بطون أمهاتكم، لا تعلمون شيئا، وجعل لكم طرق العلم، وسبل الإدراك وهي السمع والبصر والفؤاد، لتدركوا البيئة التي أنتم فيها، وتقفوا على أسرارها، والله خلق كل هذا لكي تصرفوا كل حاسة فيما خلقت له، ولعلكم بهذا تشكرون ربكم الذي أنعم عليكم بهذه النعم، ألم يروا إلى الطير مسخرات في جو السماء ومذللات للطيران في أرجاء الفضاء، ما يمسكهن وهن طائرات إلا الله، ألم يروا إلى الطائر يطير في الجو باسطا جناحيه أو قابضهما ما الذي حمله في الهواء وهو جسم ثقيل؟ ومن الذي خلق في الطائر حب الطيران؟ وذلّله وعلمه كيف يطير الله- سبحانه وتعالى-..
من نعم الله علينا [سورة النحل (١٦) : الآيات ٨٠ الى ٨٣]
وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَناً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعامِ بُيُوتاً تَسْتَخِفُّونَها يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوافِها وَأَوْبارِها وَأَشْعارِها أَثاثاً وَمَتاعاً إِلى حِينٍ (٨٠) وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلالاً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبالِ أَكْناناً وَجَعَلَ لَكُمْ سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ كَذلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ (٨١) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (٨٢) يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَها وَأَكْثَرُهُمُ الْكافِرُونَ (٨٣)
سَكَناً أى: تسكنون فيها وتهدءون تَسْتَخِفُّونَها يصير خفيفا عليكم حملها ظَعْنِكُمْ الظعن سير أهل البادية للانتجاع وللانتقال من موضع إلى آخر أَثاثاً الأثاث متاع البيت، وفيه معنى الكثرة، ومنه شعر أثيث أى كثير أَكْناناً جمع- كن وهو الغار يتحصن فيه الإنسان من المطر، ويأوى إليه من وهج الشمس وضوضاء الناس سَرابِيلَ جمع سربال وهو القميص أو كل ما يلبس.
هذا امتداد لبيان نعم الله على خلقه، وتعداد آيات الله على عبيده بعد ما ثبت أن آلهتهم لا تضر ولا تنفع، وفي هذا تنفير من الشرك وغرس لبذور التوحيد، وكشف لمظاهر قدرة الله ونعمه علينا.
المعنى:
والله جعل لكم من بيوتكم التي تأوون إليها سكنا وراحة، فيها تسكنون، وبها تهدءون، وجعل لكم من جلود الأنعام إبلها وبقرها وغنمها بيوتا يتخذها المسافر ويأوى إليها، وتكون خفيفة في حملها ونقلها يوم سفركم وانتقالكم ويوم إقامتكم.
والله جعل لكم من الجبال أكنانا ومغارات تأوون إليها من العدو أو خوفا من الشمس أو من زحمة الناس، وجعل لكم سرابيل ولباسا تلبسونها فتقيكم الحر والبرد، وسرابيل تقيكم بأسكم في الحرب والشدائد ولقد لبس النبي صلّى الله عليه وسلّم لباس الحرب ودروعها ولأمتها استعدادا للقاء العدو، والله يفعل ما يشاء.
مثل ذلك الإتمام البالغ نهايته يتم عليكم نعمته في الدنيا والآخرة للدين والدنيا رجاء أن تسلموا لله وتنقادوا لصاحب هذه النعم وتتركوا عبادة الأوثان والأصنام واتباع الهوى والشيطان.
فإن تولوا وأعرضوا عنك يا محمد. فلا عليك شيء أبدا إنما عليك البلاغ المبين، وعلينا الحساب والجزاء.
هؤلاء الناس يعرفون نعمة الله بلسانهم فإذا سألتهم من صاحبها؟ قالوا: هو الله، ثم ينكرونها بأفعالهم وعبادتهم غير الله.
وأكثرهم الكافرون الجاحدون وأقلهم المؤمنون الصادقون.
مشهد من مشاهد يوم القيامة [سورة النحل (١٦) : الآيات ٨٤ الى ٨٩]
وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً ثُمَّ لا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (٨٤) وَإِذا رَأَى الَّذِينَ ظَلَمُوا الْعَذابَ فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (٨٥) وَإِذا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكاءَهُمْ قالُوا رَبَّنا هؤُلاءِ شُرَكاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُوا مِنْ دُونِكَ فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكاذِبُونَ (٨٦) وَأَلْقَوْا إِلَى اللَّهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (٨٧) الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْناهُمْ عَذاباً فَوْقَ الْعَذابِ بِما كانُوا يُفْسِدُونَ (٨٨)
وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنا بِكَ شَهِيداً عَلى هؤُلاءِ وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ (٨٩)
يُسْتَعْتَبُونَ أصل العتب من عتب عليه يعتب إذا وجد عليه وأنكر عليه فعله وأعتبه أزال عتبة وترك ما كان يغضب عليه لأجله، واستعتبه استرضاه، والاسم العتبى وهو رجوع المعتوب عليه إلى ما يرضى العاتب، ومنه في الحديث «لك العتبى يا ربّ حتى ترضى» وقول النابغة الشاعر الجاهلى يعتذر للنعمان ابن المنذر.
فإن كنت مظلوما فعبدا ظلمته | وإن كنت ذا عتبى فمثلك يعتب |
بعد بيان آيات الله التي ترشدنا إلى التوحيد الخالص ونعمه على الناس وبيان أن منهم المؤمنين وأكثرهم الكافرون أخذ يتكلم عن مشاهد يوم القيامة لعل فيها عبرة وعظة.
المعنى:
واذكر لهم يا محمد يوم نبعث من كل أمة من الأمم شهيدا عليهم بالإيمان والكفر
ولا هم يستعتبون إذ لا فائدة من العتاب مع العزم على السخط وعدم الرضا، ولا هم يسترضون أى: يكلفون أن يرضوا ربهم لأن الآخرة ليست دار تكليف وعمل:
وإذا رأى الذين أشركوا شركاءهم يوم القيامة- وقد رأوا بأعينهم ما وعدهم ربهم حقا قالوا: ربنا هؤلاء شركاؤنا الذين كنا ندعوهم ونعبدهم من دونك!! يا حسرتنا على ما فرطنا في جنبك يا رب وهم يقصدون بذلك إحالة الذنب والإثم على هؤلاء الشركاء.
وهذا عمل المتخبط المتحير في عمله.
أما الشركاء فألقوا إليهم القول، وردوا إليهم دعواهم أسوأ رد، قالوا لهم: إنكم أيها الشركاء، لكاذبون فيما تزعمون وتدعون، وتعللون به أنفسكم.
وألقى المشركون إلى الله يومئذ السلم، واستسلموا لقضاء الله مكرهين وانقادوا لعذابه الشديد، وضل عنهم ما كانوا يفترونه ويدعونه من أن لله شركاء ستشفع لهم، وتدفع عنهم السوء.
الذين كفروا، وصدوا عن سبيل الله وهو طريق الحق والإسلام زدناهم عذابا فوق العذاب، وألما فوق الألم بما كانوا يفسدون. ويوم نبعث من كل أمة شهيدا يشهد عليهم من أنفسهم إتماما للحجة، وقطعا للمعذرة، وتأكيدا لما مضى.
وجئنا بك يا محمد شهيدا على هؤلاء الأنبياء، فأنت الحكم العدل الذي تقضى بين الأمم وأنبيائها، وكتابك الذي أنزل عليك هو المهيمن على ما سبقه من الكتب وشاهد على رسالاتهم.
ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء، وكان كتابك فيه البيان الشافي والدواء الناجع الذي لم يترك صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ [سورة الأنعام آية ٣٨] وهو الهداية للناس، والراحة والبشرى التامة للمسلمين خاصة.
وهذا القرآن الكريم وروافده من سنة وإجماع وقياس قد بينت لنا النظام الإسلامى الدقيق الشامل لكل نواحي الحياة من دين ودنيا وقيادة وعبادة، فالنظم الاقتصادية والسياسية والحربية والاجتماعية وغيرها تصلح لكل زمان ومكان موجودة في هذا الفيض الإلهى، وبأسلوب مرن يتفق مع أحدث النظريات العلمية، وهذا هو النظام الذي وصفه الإله العليم الخبير بخلقه فهلموا إليه أيها المسلمون وفقكم الله إلى الخير.
أجمع آية للخير والشر [سورة النحل (١٦) : الآيات ٩٠ الى ٩٦]
إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (٩٠) وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذا عاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ (٩١) وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَها مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكاثاً تَتَّخِذُونَ أَيْمانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّما يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ ما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (٩٢) وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَلكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَلَتُسْئَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٩٣) وَلا تَتَّخِذُوا أَيْمانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِها وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِما صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَلَكُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (٩٤)
وَلا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلاً إِنَّما عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٩٥) ما عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَما عِنْدَ اللَّهِ باقٍ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (٩٦)
بِالْعَدْلِ بالإنصاف، والتوسط في الأمور، والمساواة وَالْإِحْسانِ إحكام العمل وإتقانه، ومقابلة الخير بأكثر منه والشر بأقل منه الْفَحْشاءِ من الفحش وهو الإفراط في القبح وَالْمُنْكَرِ ما أنكره الشرع، وأباه العقل السليم وَالْبَغْيِ التطاول والظلم وتجاوز الحد وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمانَ نقض اليمين الحنث فيه وعدم الوفاء به كَفِيلًا شاهدا ورقيبا نَقَضَتْ أفسدت مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أى إحكام له أَنْكاثاً جمع نكث بمعنى منكوث وهو المنقوض، ونكث ونقض بمعنى واحد دَخَلًا الدخل الفساد والخديعة فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِها فتسقط بعد ثبوتها على ساحل الأمان.
المعنى:
إن الله يأمر فيما أنزله عليك يا محمد بالعدل والإنصاف والتوسط بلا إفراط ولا تفريط، أليست كلمة العدل مع وجازتها قد جمعت كل حق وعدل وفضل وواجب في الدين والدنيا.
ويأمر بالإحسان والإتمام والكمال، وعبادة الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك.. يا سبحان الله تربية إلهية، وتأديب رباني وغرس المراقبة لله في القلوب، وهذا خير للناس عظيم.
وبإيتاء ذي القرى... والعطاء مطلقا شيء ندبه الدين وحببه إلينا خصوصا مع الأقارب فهو يثل السخائم، ويجمع القلوب، وينزع الضغائن ويظهرنا صفا واحدا كالبنيان المرصوص، والقريب له أمل خاص فإن لم تعطه مع حاجته كان شرا عليك.
وينهى عن الفحشاء، والفحش كل ما فيه تجاوز لحدود الله المحدودة ومعالمه المرسومة فمن تجاوزها هلك، وباء بالخسران المبين.
أما المنكر فهو ما أنكره العقل السليم والطبع المستقيم والدين الحنيف فكيف تأتيه، وفيه بلاء عظيم وخطر جسيم؟! يعظكم ربكم بهذا رجاء أن تتذكروا وتثوبوا إلى رشدكم، وترجعوا عن غيكم.
إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون.
وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسئولا، وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم، وعهد الله عام شامل جامع لكل عهد بينك وبين ربك أو بينك وبين نفسك أو بينك وبين غيرك
ثبت في الصحيحين من قوله صلّى الله عليه وسلم: «من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليأت الّذى هو خير وليكفّر عن يمينه».
وكيف تنقضونها؟ وقد جعلتم الله عليكم كفيلا، وشاهدا وحفيظا، وإن الله يعلم ما تفعلون.
ثم أكد وجوب الوفاء وتحريم النقض فقال:
ولا تكونوا فيما تفعلون من النقض كالتي نقضت وأفسدت ما غزلته من بعد قوة وإحكام وعمل وإجهاد، نقضته أنكاثا ونقضا شديدا، بل ولا تنقضوا أيمانكم متخذيها دخلا وفسادا بسبب أن تكون أمة هي أربى وأزيد من جماعة أخرى.
والمعنى لا تتخذوا الأيمان دخلا وخديعة للناس بسبب أن تكون جماعة أقوى من جماعة فتنقضوا اليمين لمصلحة تافهة حقيرة.
إنما يبلوكم الله بهذا، وليبينن لكم يوم القيامة ما كنتم فيه تختلفون ومن بلائه للناس أن جعلهم مختلفين ليتخذ بعضهم بعضا سخريا، ولو شاء ربك لجعلهم أمة واحدة لا اختلاف فيها أبدا، ولكن لحكمة هو يعلمها يضل من يشاء ممن رأى في سابق علمه أنه لو ترك ونفسه لما فعل إلا الضلال والبهتان، ويهدى من يشاء ممن اطلع عليه في سابق الأزل فرآه يميل إلى الخير ولو ترك وشأنه لما فعل إلا الخير.
ولتسألن عما كنتم تعملون، وأما ربك فلا يسأل عما يفعل- سبحانه وتعالى-، ويظهر والله أعلم أن القرآن أعاد النهى عن اتخاذ الأيمان دخلا لأنها أيمان خاصة في البيعة مع النبي صلّى الله عليه وسلّم بدليل المبالغة في قوله فتزل قدم بعد ثبوتها، ولا تتخذوا أيمانكم فسادا وخديعة بينكم ثم تنقضوها فتزل قدم بعد ثبوتها ورسوخها، وهذه استعارة للمستقيم الحال يقع في شر عظيم وبلاء كثير كمن تزل قدمه فيقع في الخطر، وتذوقوا العذاب السيئ الشديد بما صددتم عن سبيل الله فإن الذي يبايع ويدخل في الدين ثم يخرج منه كان دخوله وخروجه مشجعا لغيره وداعيا للفساد ومزلزلا لعقائد العامة، ولكم عند ذلك عذاب عظيم.
ما عندكم ينفد قطعا فكل آت قريب وكل شيء هالك وما يصادفنا ينتهى بانتهاء وقته وما عند الله باق لأنه هو الذي ينفع ثوابه، ويدخر جزاءه ولنجزين الذين صبروا في الله وجاهدوا فيه حق جهاده أجرهم بأحسن جزاء وأكرم مثوبة بسبب ما كانوا يعملون مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها.
من آداب القرآن وتوجيهه [سورة النحل (١٦) : الآيات ٩٧ الى ١٠٥]
مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (٩٧) فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ (٩٨) إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (٩٩) إِنَّما سُلْطانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ (١٠٠) وَإِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يُنَزِّلُ قالُوا إِنَّما أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (١٠١)
قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ (١٠٢) وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهذا لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ (١٠٣) إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللَّهِ لا يَهْدِيهِمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (١٠٤) إِنَّما يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْكاذِبُونَ (١٠٥)
سُلْطانٌ تسلط وقوة بَدَّلْنا آيَةً رفعنا آية وجعلنا موضعها غيرها رُوحُ الْقُدُسِ أى: جبريل يُلْحِدُونَ يميلون إليه ويشيرون أَعْجَمِيٌّ العجمة في لسان العرب الإخفاء وضدها البيان، ورجل أعجم وامرأة عجماء أى: لا يفصح.
المعنى:
من عمل عملا صالحا سواء كان ذكرا أو أنثى أو بأى صفة كانت وهو مؤمن بالله واليوم الآخر ومصدق بالنبي صلّى الله عليه وسلّم فلنحيينه حياة طيبه كريمة حياة فيها سعادة ونعيم، وقناعة وغنى عن الغير، حياة فيها توفيق واتجاه إلى الله- سبحانه وتعالى-، لا ضنك فيها ولا تعب: يقول عبد الله التستري: «الحياة الطيبة هي أن ينزع عن البعد تدبيره ويرد تدبيره إلى الحق» وقيل هي الاستغناء عن الخلق والافتقار إلى الحق هي كما يقول القرآن بأبلغ عبارة: حياة طيبة: هذا في الدنيا وأما في الآخرة فلنجزينهم أجرهم كاملا بأحسن ما كانوا يعملون.
ومعنى الاستعاذة بالله اللجوء إليه لجوءا صحيحا حتى يطرد من قبله الشيطان الرجيم ووسوسته له، وحتى يكون قلبه مخلصا وعمله لله.
إنه ليس للشيطان سلطان ولا قوة على المؤمنين المتوكلين إنما سلطانه وقوته على الذين يتولونه والذين رسخ في نفوسهم حب المادة وحب الدنيا والذين هم بربهم يشركون، وهذا كقوله تعالى: إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ. [الحجر ٤٢]
قال هؤلاء المشركون: إنما أنت مفتر كاذب، بل أكثرهم لا يعلمون، راجع بحث النسخ في القرآن في آية (ما ننسخ) جزء ثان.
قل لهم يا محمد: أنزله روح القدس جبريل من ربك بالحق ليثبت الذين آمنوا ونزله هدى وبشرى للمسلمين.
كان هنا غلام للفاكه بن المغيرة واسمه جبر وكان نصرانيا فأسلم وكان المشركون إذا سمعوا من النبي صلّى الله عليه وسلّم ما مضى وما هو آت مع أنه أمى لم يقرأ قالوا: إنما يعلمه جبر وهو أعجمى فقال الله تعالى: عجبا لكم لسان الذي تشيرون إليه وتقولون إنه علمه، لسان أعجمى ولغته أعجمية، وهذا القرآن الذي نزل على النبي صلّى الله عليه وسلّم عربي مبين.
ولا غرابة في افترائهم فهم دائما غير موفقين إن الذين لا يؤمنون بآيات الله لا يهديهم ربهم إلى خير أبدا، ولهم عذاب أليم، وأما محمد صلّى الله عليه وسلّم فلا يمكن أن يفترى كذبا، وهو الصادق الأمين، الذين لا يؤمنون بآيات الله وأولئك البعيدون في درجات الكفر والضلال هم الكاذبون الضالون.
المرتدون عن الإسلام والعياذ بالله [سورة النحل (١٦) : الآيات ١٠٦ الى ١١١]
مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ وَلكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (١٠٦) ذلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَياةَ الدُّنْيا عَلَى الْآخِرَةِ وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ (١٠٧) أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ (١٠٨) لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْخاسِرُونَ (١٠٩) ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجَرُوا مِنْ بَعْدِ ما فُتِنُوا ثُمَّ جاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (١١٠)
يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجادِلُ عَنْ نَفْسِها وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (١١١)
شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فتحه ووسعه والمراد اطمأن صدره له غَضَبٌ أشد من اللعن الذي هو الطرد من رحمة الله اسْتَحَبُّوا اختاروا وأحبوا فُتِنُوا اختبروا بالعذاب.
لا يزال الكلام في نقض البيعة والعهد والردة عن الإسلام نقض البيعة الكبرى.
المعنى:
من كفر بالله ورسوله من بعد إيمانه، وارتد عن دين الإسلام- والعياذ بالله- فعليه غضب الله ولعنته، وله عذاب عظيم، إلا من أكره على الكفر وكان قلبه مطمئنا بالإيمان، عامرا باليقين. فليس عليه شيء من العذاب ولكن من شرح بالكفر صدرا، واطمأن إليه ودخل في غماره راضية نفسه مطمئنا قلبه، فعليه الغضب من الله وله العذاب العظيم.
ذلك الجزاء الوافي بسبب أن المرتدين استحبوا الحياة الدنيا على الآخرة، واختاروا العاجلة وآثروها على الباقية، وأن الله لا يهدى القوم الكافرين خصوصا هؤلاء الذين
روى عن ابن عباس قال: أخذ المشركون عمارا وأباه ياسرا، وأمه سمية وصهيبا وبلالا. وخبابا وسالما، فعذبوهم، وربطوا سمية بين بعيرين ووجئ قبلها بحرية وقيل لها: إنك أسلمت من أجل الرجال (وفي رواية إن الذي قال لها وفعل بها هو أبو جهل) وقتلت سمية بسبب ذلك، وقتل زوجها ياسر فكانا أول قتيلين في الإسلام ومن أجله، وأما عمار فأعطاهم ما أرادوا بلسانه مكرها فشكا ذلك لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم
فقال له الرسول صلّى الله عليه وسلم: «كيف تجد قلبك؟ قال مطمئن بالإيمان فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم:
فإن عادوا فعد»
ومن هنا قال القرطبي في تفسيره: «أجمع أهل العلم على أن من أكره على الكفر حتى خشي على نفسه القتل فإنه لا إثم عليه إن كفر وقلبه مطمئن بالإيمان، ولا تبين منه زوجته ولا يحكم عليه بكفر»
وفي الحديث «رفع عن أمّتى الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه»
وللفقهاء في حكم المكره أقوال وتفصيلات يحسن الرجوع إليها في كتب الفقه.
ثم إن ربك للذين هاجروا وجاهدوا وصبروا أى: لهم بالمعونة والنصر والتأييد من بعد ما فتنوا وعذبوا ثم جاهدوا وصبروا بعد ذلك إن ربك من بعدها لغفور رحيم.
والمعنى في الآية أن من يفتن في دينه فيتكلم بكلمة الكفر مكرها، وصدره غير منشرح للكفر إذا صلح عمله وجاهد في سبيل الله وصبر على المكاره فالله غفور رحيم به، وثم التي في الآية لبيان بعد مرتبة من فتن في دينه وصبر ولم ينطق بالكفر عن مرتبة من فتن وكفر مكرها.
واذكر يوم تأتى كل نفس وذات تجادل عن نفسها، وتوفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون وهذا وصف جامع ليوم القيامة.
وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيها رِزْقُها رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذاقَهَا اللَّهُ لِباسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ (١١٢) وَلَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذابُ وَهُمْ ظالِمُونَ (١١٣) فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالاً طَيِّباً وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (١١٤) إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١١٥) وَلا تَقُولُوا لِما تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هذا حَلالٌ وَهذا حَرامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ (١١٦)
مَتاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (١١٧)
المفردات:
فَأَذاقَهَا شبه إدراكهم الضرر والألم بتذوقهم طعم المر الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ تقدم تفسيرها في سورة المائدة..
هذا مثل ضربه الله لكل قرية فيها جماعة من الناس مجتمعين.
وضرب الله مثلا قرية مطمئنة يأتيها رزقها رغدا من كل مكان، جعل القرية التي هذه حالها مثلا لكل قوم أنعم الله عليهم بالنعم فأبطرتهم النعمة وكفروا وتولوا، فأنزل الله عليهم نقمته، وبدل نعمتهم سوءا وسرورهم ألما وحزنا، وقد ضربها الله مثلا لكل قرية خصوصا مكة.
وانظروا إلى وصف الله أهل القرية بالأمن والطمأنينة فلا يزعجهم خوف، ولا قلق ثم بالرزق الرغد الواسع الكثير، ومع هذا قدم نعمة الأمن على نعمة الرزق لعل الناس يعتبرون بهذا، وأن السيادة في الهدوء والطمأنينة، هذه القرية التي غمرها الله بفيض من عنده، ولكنها لما كفرت بأنعم الله ولم تقابل النعمة بالشكر بل قابلتها بالكفر أذاقها الله عاقبة عملها ذوقا عميقا يشبه تذوقهم طعم المر أو أشد.
أما لباس الجوع فاستعارة في لفظ لباس حيث شبه ما يعترى الإنسان الجائع الخائف باللباس لظهور الأثر عليه.
أهل هذه القرية جاءهم رسولهم فكذبوه فأخذهم العذاب، وهم ظالمون لأنفسهم، وما ظلمهم ربهم أبدا.
وأما أنتم يا أهل مكة فينطبق عليكم المثل تماما، فلقد جاءكم رسول من جنسكم يعرفكم وتعرفونه، وقد أمركم بما ينفعكم فكذبتم فأصابكم العذاب وأنتم ظالمون.
وإذا كان الأمر كذلك فاتركوا ما أنتم عليه من أعمال الجاهلية وكلوا مما رزقكم الله حلالا طيبا هنيئا مريئا، واشكروا نعمة الله عليكم إن كنتم إياه وحده تعبدون، ولا تحرموا شيئا مما أحله الله لكم، إنما حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير، وما ذبح على اسم غير اسمه- تعالى- وأما ما حرمتموه أنتم على أنفسكم من البحيرة والسائبة والوصيلة (انظر تفسيرها في سورة المائدة آية ١٠٤) فشيء لا يلتفت إليه أصلا..
فمن كان مضطرا لا باغيا ولا معتديا فلا مانع من أكله بقدر إزالة ضرورته فإن الله غفور ستار رحيم بخلقه كريم.
ولا تقولوا القول الكذب لما تصفه ألسنتكم بالحل والحرمة في قولكم ما في بطون هذه الأنعام خالصة لذكورنا ومحرم على أزواجنا من غير استناد في ذلك الوصف إلى وحى من الله أو قياس أو سند شرعي لا تقولوا القول الكذب. هذا حلال وهذا حرام.
والمعنى لا تحرموا ولا تحللوا لأجل قول تنطق به ألسنتكم كذبا وزورا، ويجول في أفواهكم بلا حجة ولا بينة.
لا تقولوا هذا حلال وهذا حرام لتفتروا على الله الكذب وتختلقوه إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون أبدا.
وما تراهم فيه في الدنيا فعرض زائل وعارية مستردة، ومتاع قليل، ولهم في الآخرة عذاب أليم جدا يصغر بجانبه كل متاع قليل في الدنيا.
نقاش المشركين في معتقداتهم [سورة النحل (١٦) : الآيات ١١٨ الى ١٢٤]
وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا ما قَصَصْنا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (١١٨) ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (١١٩) إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً قانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٢٠) شاكِراً لِأَنْعُمِهِ اجْتَباهُ وَهَداهُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (١٢١) وَآتَيْناهُ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (١٢٢)
ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٢٣) إِنَّما جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (١٢٤)
أُمَّةً لها معان كثيرة والمراد بالأمة هنا الرجل الجامع للخير، والذي يعلم الناس الخير قانِتاً مطيعا اجْتَباهُ اختاره، واصطفاه حَسَنَةً المراد نعمة الولد أو الثناء أو الحسن أو النبوة حَنِيفاً مائلا عن الشرك والباطل.
المعنى:
ما لكم أيها العرب تحرمون وتحلون من عند أنفسكم؟ بدون الرجوع إلى دين حق أو شرع من الله، ولا يصح لكم أن تقلدوا اليهود فيما حرم عليهم فعلى الذين هادوا وحدهم حرمنا ما قصصنا عليك من قبل في سورة الأنعام وكان التحريم بسبب ظلم ارتكبوه، وما ظلمناهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون..
ولا تيأسوا أيها المشركون من رحمة الله فإن تبتم قبل الله عملكم وأثابكم وغفر لكم:
ثم إن ربك للذين عملوا السوء بجهالة أى: جاهلين غير عارفين بالله- تعالى- وعقابه غير متدبرين للعاقبة لغلبة الشهوة عليهم ثم تابوا من بعد ذلك وأصلحوا أنفسهم، وعملوا صالحا إن ربك من بعدها لغفور رحيم.
وأنتم أيها العرب تدعون أنكم على ملة أبيكم إبراهيم، ولكنكم كاذبون في دعواكم لأن إبراهيم كان أمة وحده جامعا لخصال الخير، عالما معلما، فيه من صفات الكمال والخلق ما يوازى ما عند أمة من الناس، وكان مطيعا لله مائلا عن الشرك وعبادة الأوثان إلى عبادة الرحمن، ولم يك من المشركين، شاكرا لأنعم الله عليه، اختاره واجتباه ربه، وهداه إلى صراط مستقيم معتدل لا عوج فيه.
إنما جعل إثم السبت ووباله وهو المسخ على الذين اختلفوا فيه وقد اختلف اليهود في السبت فبعضهم عظمه وامتثل أمر الله في تحريم الصيد وبعضهم خالف ذلك،
وروى أنهم اختلفوا في تعظيم يوم السبت وقد كان موسى أمرهم بتعظيم يوم الجمعة.
وإن ربكم ليحكم بينهم يوم القيامة فيما اختلفوا فيه وسيجازى المحسن على إحسانه والمسيئ على إساءته.
منهاج الوعاظ والدعاة [سورة النحل (١٦) : الآيات ١٢٥ الى ١٢٨]
ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (١٢٥) وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ (١٢٦) وَاصْبِرْ وَما صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللَّهِ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (١٢٧) إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ (١٢٨)
هذه تذكرة الدعاة والمرشدين، وقانون سنه لهم رب العالمين.
المعنى:
كل خير في الوجود لا بد له من دعاة ومحامين يدافعون عنه، ويشرحون حقيقته،
ادع إلى سبيل ربك كل من يصادفك فدعوة الإسلام عامة والرسول صلّى الله عليه وسلّم أرسل إلى الناس كافة ولكن ادع بالحكمة والمقالة المحكمة التي تصيب المحز، وتحرك النفس، وتستولى على القلب فتنزع أعراق السوء وتقلع جذور العادات السيئة الموروثة، ادع إليه بالحكمة، والموعظة الحسنة التي تستحسنها العقول السليمة، وتألفها الطباع المستقيمة، وإن صادفت في طريقك أشياء فجادل بالتي هي أحسن، ولا تسب الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم، وإياك أن تصادم قوما في معتقداتهم الباطلة قبل أن تهيء نفوسهم وعقولهم لقبول كلامك وإلا كنت داعيا للفرقة والفساد.
واعلم أن من النفوس نفوسا لا تلين بوعظ، ولا تستجيب لعقل، وهؤلاء قوم أضلهم الله فأعمى أبصارهم، وهو أعلم بهم، فإذا صادفك شيء من هذا فكل الأمر لله، ولا عليك شيء أبدا، إن عليك إلا البلاغ والزمن كفيل بتحقيق ما تطلب.
ولا بد من وقوع الخطوة الثانية خطوة العمل والنزاع العملي بعد النقاش الكلامى.
وإن عاقبتم غيركم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم بلا زيادة في الأذى، بمعنى لو سمح الزمان ومكنكم من أعدائكم الذين أذاقوكم ألوان الشدائد فخذوا منهم القصاص وعاقبوهم بمثل ما عاقبوكم ولا تزيدوا.
ولئن صبرتم على المكروه. ووكلتم الأمر لله فهو خير لكم أيها الصابرون فالصبر خير كله ودعوا الأمر لله.
والصبر!! نعم الصبر هو مطية النجاح، وسلاح المؤمن بل هو سلاح كل من يريد النصر، ولا بد منه لكل مسلم أراد أن ينجح في حياته الخاصة والعامة.
ولا تحزن يا محمد عليهم فالأمر موكول لله، وهكذا أراد الله ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة.
ولا تك في ضيق وألم مما يمكرون، ودعهم لمن خلقهم.
إن الله معك وناصرك وحافظك لأن الله مع الذين اتقوا، وأنت إمامهم، والذين هم محسنون في عملهم، وأنت زعيمهم.
وفقنا الله وهدانا إلى الخير والصواب، وإلى اتباع نصائح القرآن