مدينة : وآياتها : مائتان، وقيل : مائة : وسبع وثمانون. وكلماتها : ثلاثة آلاف وأربعمائة وثمانون كلمة، ومناسبتها لما قبلها : قوله تعالى في أولها :﴿ إن الذين كفروا بآيات الله. . . ﴾ [ آل عمران : ٤ ] الخ، فكأنه تتميم لقوله :﴿ فانصرنا على القوم الكافرين ﴾ [ البقرة : ٢٨٦ ] وتفسير له.
ومضمنها : توجيه العتاب لثلاث طوائف : للنصارى ؛ لغلوهم في عيسى عليه السلام، ولامتناعهم من الدخول في الإسلام، وبسببهم نزلت السورة، أعني نصارى نجران، ولليهود ؛ لتفريطهم في اتباع النبي –عليه الصلاة والسلام- وللمسلمين ؛ لما وقع لهم من الفشل يوم أحد.
ﰡ
بسم الله الرحمان الرحيم :
﴿ الم * الله لا إله إلا هو الحي القيوم * نزل عليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه وأنزل التوراة والإنجيل * من قبل هدى للناس وأنزل الفرقان. . . ﴾
قلت : فواتح السور كلها موقوفة خالية عن الإعراب ؛ لفقدان مُوجبه ومقتضيه، فيوقف عليها بالسكون، كقولهم : واحد، اثنان. وإنما فَتَحَ الميم هنا في القراءة المشهورة ؛ لإلقاء حركة الهمزة عليها. انظر البيضاوي. قال ابن عباس رضي الله عنه :( الألف آلاؤه، واللام لطفه، والميم مُلكه ).
قلت : ولعلَّ كل حرف يشير إلى فرقة ممن توجَّه العتاب إليهم، فالآلاء لِمنْ أسلم من النصارى، واللطف لمن أسلم من اليهود، والملك لمن أسلم من الصحابة - رضوان الله عليهم -، فقد ملكهم الله مشارق الأرض ومغاربها. والله تعالى أعلم.
﴿ وأنزل التوراة والإنجيل ﴾ من قبله هادياً لمن كُلف باتباعهما من الأنام، أو للجميع، إذا كان شرعُ منْ قبلنا شرعاً لنا - معشر أهل الإسلام -.
ثم هدد من كفر بالفرقان، بعد وضوح سواطع البرهان، فقال :
﴿. . . إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِئَايَاتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انتِقَامٍ ﴾
قلت : الانتقام والنقمة : عقوبة المجرم. وفعله : نقم ؛ القاف وفتحها.
يقول الحقّ جلّ جلاله :﴿ إن الذين كفروا بآيات الله ﴾ المنزلة على نبيه أو على سائر أنبيائه، أو الآيات الدالّة على وحدانيته، ﴿ لهم عذاب شديد ﴾ يوم يظهر نفوذ الوعد والوعيد، فينتقم الله فيه من المجرمين، ويتعطف على عباده المؤمنين، فإن ﴿ الله عزيز ﴾ لا يغلبه غالب، ولا يفُوته هارب، ﴿ ذو انتقام ﴾ كبير ولطف كثير. لطف الله بنا وبجميع المسلمين. آمين.
الإشارة : ظهور أولياء الله لطف من آيات الله، فمن كفر بهم حُرم بركتهم، وبقي في عذاب الحجاب وسوء الحساب، تظهر عليه النقمة والمحنة، حين يرفع الله المقربين في أعلى عليين، ويكون الغافلون مع عوام المسلمين، ( ذلك يوم التغابن ). والله تعالى أعلم.
﴿ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَآءِ ﴾ * ﴿ هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَآءُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴾
يقول الحقّ جلّ جلاله :﴿ إن الله لا يخفى عليه شيء ﴾ من أمر خلقه، إيماناً أو كفراناً، طاعة أو عصياناً، أحاط علمه بما في السماوات العلي وما في الأرضين السفلى، كليّاً كان أو جزئيّاً، حسيّاً أو معنوياً، يعلم عدد الحصى والرمال، ومكاييل المياه ومثاقيل الجبال، ويعلم حوادث الضمائر، وهواجس الخواطر، بعلم قديم أزلي، وله قدرة نافذة وحكمة بالغة.
تَذَكَّر جَمِيلِي فِيكَ إِذْ كُنْتَ نُطْفَةً | وَلا تَنْسَ تَصْوِيرِي لشَخْصِكَ في الْحَشا |
وَكُنْ وَاثِقاً بِي في أُمُورِكَ كُلِّها | سأَكْفِيكَ مِنْهَا ما يُخافُ ويُخْتَشَى |
وَسَلِّمْ لي الأمْرَ واعْلَمْ بأنني | أُصَرِّفُ أحْكَامِي وأَفْعَلُ مَا أشا |
تَذَكَّر جَمِيلِي فِيكَ إِذْ كُنْتَ نُطْفَةً | وَلا تَنْسَ تَصْوِيرِي لشَخْصِكَ في الْحَشا |
وَكُنْ وَاثِقاً بِي في أُمُورِكَ كُلِّها | سأَكْفِيكَ مِنْهَا ما يُخافُ ويُخْتَشَى |
وَسَلِّمْ لي الأمْرَ واعْلَمْ بأنني | أُصَرِّفُ أحْكَامِي وأَفْعَلُ مَا أشا |
﴿ هُوَ الَّذِي أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ ﴾ * ﴿ رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ ﴾ * ﴿ رَبَّنَآ إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لاَّ رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُخْلِفُ الْمِيعَادَ ﴾
قلت :﴿ منه ﴾ : خبر مقدم، و﴿ آيات ﴾ : مبتدأ، فيوقف على ﴿ الكتاب ﴾، وقيل :﴿ منه ﴾ : نعت لكتاب، وهو بعيد.
قال البن السبكي : المحكَم : المتضح المعنى، والمتشابه : ما استأثر الله بعلمه، وقد يُطْلعُ عليه بعضَ أصفيائه. و﴿ هن أم الكتاب ﴾ : جملة، وحق الخبر المطابقة فيقول : أمهات، وإنما أفرده على تأويل كل واحدة، أو على أن الكل بمنزلة آية واحدة. والزيغ : الميل عن الحق. و﴿ الراسخون في العلم ﴾ : معطوف على ﴿ الله ﴾، أو مبتدأ ؛ إن فسر المتشابه بما استأثر الله بعلمه، كمدة بقاء الدنيا ووقت قيام الساعة، أو بما دلّ القاطع على أن ظاهره غير مراد. قاله البيضاوي.
يقول الحقّ جلّ جلاله : إن الذي انفرد بالوحدانية والقيومية، ولا يخفى عليه شيء في العالم العلوي والسفلي ﴿ هو الذي أنزل عليك الكتاب ﴾ المبين، فمنه ما هو ﴿ آيات محكمات ﴾ واضحات المعنى، لا اشتباه فيها ولا إجمال، ﴿ هن أم الكتاب ﴾ أي : أصله، يُرد إليها غيرها، ﴿ و ﴾ منه آيات ﴿ أُخَر متشابهات ﴾ أي : محتملات، لا يتضح مقصودها ؛ لإجماله أو مخالفة ظاهر ؛ إلا بالفحص وجودة الفكر، ليظهر فضل العلماء النُقاد، ويزداد حرصهم على الاجتهاد في تَدبُرها وتحصيل العلوم المتوقف عليها استنباط المراد بها، فينال بها، وبإتعاب القرائح في استخراج معانيها، والتوفيق بينها وبين المحكمات، أعلى الدرجات وأرفع المقامات.
قال في نوادر الأصول : لمّا تكلم على المتشابه قسّمه على قسمين ؛ منه ما طوى علمه إلاَّ على الخواص ؛ كعلم فواتح السور، ومنه ما لم يصل إليه أحد من الرسل فمَنْ دُونَهم، وهو سر القدر ؛ لا يستقيم لهم مع العبودية، ولو كُشِفَ لفسدت العبودية، فطواه عن الرّسل والملائكة ؛ لأنهم في العبودية، فإذا زالت العبودية احتملوها ؛ أي : أسرار القدر. ه. ولمثل هذا يشير قول سهل : للألوهية سر - لو انكشف لبطلت النبوة، وللنبوة سر - لو انكشف لبطل العلم، وللعلم سر لو انكشف لبطلت الأحكام. ه.
قلت : فَتَحَصَّل أن الكتاب العزيز مشتمل على المحكم والمتشابه. وأما قوله تعالى :
﴿ كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ﴾ [ هُود : ١ ] فمعناه : أنها حُفظت من فساد المعنى وركاكة اللفظ، وقوله تعالى :﴿ كِتَاباً مُّتَشَابِهاً ﴾ [ الزُّمَر : ٢٣ ] معناه : أنه يشبه بعضه بعضاً في صحة المعنى وجزالة اللفظ.
ثم إن الناس في شأن المتشابه على قسمين :﴿ فأما الذين في قلوبهم زيغ ﴾ : أي : شك، أو ميل عن الحق، كالمبتدعة وأشباههم، ﴿ فيتبعون ما تشابه منه ﴾، فيتعلقون بظاهره، أو بتأويل باطل، ﴿ ابتغاء الفتنة ﴾ أي : طلباً لفتنة الناس عن دينهم : بالتشكيك والتلبيس، ومناقضة المحكم بالمتشابه، ﴿ وابتغاء تأويله ﴾ على ما يشتهون ليوافق بدعتهم.
رُوِيَ عن عائشة - رضي الله عنها- : أن النبيّ صلى الله عليه وسلم - قرأ هذه الآية فقال :" إِذَا رَأَيتُم الذِينَ يَسألُون عن المتشابه منه، ويجادلون فيه، فهم الذين عَنَا الله تعالى، فاحذروهم، ولا تجالسوهم ".
﴿ وما يعلم تأويله ﴾ على الحقيقة ﴿ إلا الله ﴾ تعالى، وقد يُطلع عليه بعضَ خواص أوليائه، وهم ﴿ الراسخون ﴾ أي : الثابتون في العلم، وهم العارفون بالله أهل الفناء والبقاء، وهم أهل التوحيد الخاص. . . فقد أطلعهم تعالى على أسرار غيبه، فلم يبق عندهم متشابه في الكتاب ولا في السنة، حال كونهم ﴿ يقولون آمنا به ﴾، وصدقنا أنه من كلامه، ﴿ كُلّ من عند ربنا ﴾ ؛ المحكم والمتشابه، وقد فهمنا مراده في القسمين، وهم أولو الألباب، ولذلك مدحهم فقال :﴿ وما يَذَكَّرَ إلا أُولو الألباب ﴾ أي : القلوب الصافية من ظلمة الهوى وغَبَش الحس.
سُئل عليه الصلاة والسلام : مَن الراسخون في العلم ؟ فقال :" من برَّ يمينُه، وصدق لسانُه، واستقام قلبُه، وعفَّ بطنُه وفرجه، فذلك الراسخ في العلم ". وقال نافع بن يزيد : الراسخون في العلم : المتواضعون لله، المتذللون في طلب مرضات الله، لا يتعظمون على مَنْ فوقهم، ولا يحقرون من دونهم. ه. وقيل : الراسخ في العلم : من وجُد فيه أربعة أشياء : التقوى بينه وبين الله، والتواضع بينه وبين الخلق، والزهد بينه وبين الدنيا، والمجاهدة بينه وبين نفسه. ه. قلت : ويجمع هذه الأوصاف العارف بالله، فهو الراسخ في العلم كما تقدم.
ربنا إنك جامع الناس. وهم السائرون إليك ليوم لا ريب في الوصول إليه، وهو يوم اللقاء، ﴿ إنك لا تخلف الميعاد ﴾ فاجمع بيننا وبينك، وحل بيننا وبين من يقطعنا عنك ؛ ﴿ إنك على كل شيء قدير ﴾.
ويقولون أيضاً في تضرعهم إلى الله :﴿ ربنا لا تزغ قلوبنا ﴾ عن نهج الحق بالميل إلى اتباع الهوى، ﴿ بعد إذ هديتنا ﴾ إلى طريق الوصول إلى حضرتك، ﴿ وهب لنا من لدنك رحمة ﴾ تجمع قلوبنا بك، وتضم أرواحنا إلى مشاهدة وحدانيتك، ﴿ إنك أنت الوهاب ﴾ ؛ تهب للمؤمل فوق ما يؤمل.
ربنا إنك جامع الناس. وهم السائرون إليك ليوم لا ريب في الوصول إليه، وهو يوم اللقاء، ﴿ إنك لا تخلف الميعاد ﴾ فاجمع بيننا وبينك، وحل بيننا وبين من يقطعنا عنك ؛ ﴿ إنك على كل شيء قدير ﴾.
وقال في النوادر أيضاً : لَمَّا رَدَّ الراسخون في العلم عِلْمَ المتشابه إلى عالمه، حيث قالوا :﴿ آمنا به كل من عند ربنا ﴾، خافوا شَرَه النفوس لطلبها ؛ فإنَّ العلم لذيذ، وفتنة تلك اللذة لها عتاب، ففزعوا إلى ربهم فقالوا :﴿ ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة ﴾، علموا أن الرحمة تطفئ تلك الفتنة. ولما كان يوم القيامة ينكشف فيه سر القدر حنوا إليه فقالوا :﴿ ربنا إنك جامع الناس. . . ﴾ الآية. سكنوا نفوسهم لمجيء ذلك اليوم الذي تَبْطُنِ فيه الحكمة، وتظهر فيه القدرة. ه. بالمعنى.
ربنا إنك جامع الناس. وهم السائرون إليك ليوم لا ريب في الوصول إليه، وهو يوم اللقاء، ﴿ إنك لا تخلف الميعاد ﴾ فاجمع بيننا وبينك، وحل بيننا وبين من يقطعنا عنك ؛ ﴿ إنك على كل شيء قدير ﴾.
﴿ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَن تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُم مِّنَ اللَّهِ شَيْئاً وَأُولَئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ ﴾ * ﴿ كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ ﴾
قلت :﴿ الوقود ﴾ بالفتح : الحطب، وبالضم : المصدر، ﴿ كدأب آل فرعون ﴾.
يقول الحقّ جلّ جلاله :﴿ إن الذين كفروا ﴾ بما أنزلته، على نبينا محمد - عليه الصلاة والسلام -، إذا عاينوا العذاب ﴿ لن تُغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله ﴾، أي : بدلاً من رحمته أو طاعته، أو بدلاً من عذابه، ﴿ شيئاً ﴾ وأولئك هم حطب جهنم.
مَنْ فَاتَه منكَ وصلٌ حَظُّه الندمُ | ومَنْ تَكُنْ هَمِّه تَسْمُو به الهممُ |
وقال آخر :
مَنْ فاتَهُ طَلَبُ الوُصُولِ وَنَيْلُهُ *** مِنْه، فقُلْ : ما الذِي هُوَ يَطلُبُ !
حَسْبُ المحِبِّ فناؤه عما سِوى | مَحْبوبِهِ إنْ حاضِرٌ وَمُغَيَّبُ |
وقال آخر :
لكُلِّ شَيء إذا فارقْتَهُ عِوَضٌ | وَلَيْسَ لله إنْ فارقْتَ مِنْ عَوِضِ |
فشأنهم كشأن ﴿ آل فرعون والذين من قبلهم ﴾، قد ﴿ كذبوا بآياتنا فأخذهم الله بذنوبهم ﴾ أي : أهلكهم، وشدد العقوبة عليهم، ﴿ والله شديد العقاب ﴾ لمن أعرض عنه وركن إلى غيره.
مَنْ فَاتَه منكَ وصلٌ حَظُّه الندمُ | ومَنْ تَكُنْ هَمِّه تَسْمُو به الهممُ |
وقال آخر :
مَنْ فاتَهُ طَلَبُ الوُصُولِ وَنَيْلُهُ *** مِنْه، فقُلْ : ما الذِي هُوَ يَطلُبُ !
حَسْبُ المحِبِّ فناؤه عما سِوى | مَحْبوبِهِ إنْ حاضِرٌ وَمُغَيَّبُ |
وقال آخر :
لكُلِّ شَيء إذا فارقْتَهُ عِوَضٌ | وَلَيْسَ لله إنْ فارقْتَ مِنْ عَوِضِ |
﴿ قُلْ لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ ﴾ * ﴿ قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِّثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَن يَشَآءُ إِنَّ فِي ذالِكَ لَعِبْرَةً لأُوْلِي الأَبْصَارِ ﴾
قلت : لمَّا رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوة بدر غالباً منصوراً بالغنائم والأسارى، جمع اليهود في سوق بني قينقاع، وقال لهم : يا معشر اليهود، اتقوا الله وأسلموا، فإنكم تعلمون أني رسول الله حقّاً، واحذوا أن يُنزل الله بكم من نقمته ما أنزل على قريش يوم بدر، فقالوا : يا محمد، لا يَغُرَّنَّكَ أنك لقيت أغماراً لا علم لهم بالحرب، لئن قاتلتنا لتعلَمنَّ أنَّا نحن الناس. فأنزل الله فيهم هذه الآية.
يقول الحقّ جلّ جلاله :﴿ قل ﴾ يا محمد ﴿ للذين كفروا ﴾ من بني إسرائيل، أو مطلقاً :﴿ ستغلبون ﴾ إن قاتلتم المسلمين، ﴿ وتحشرون ﴾ بعد الموت والهزيمة ﴿ إلى جهنم وبئس المهاد ﴾ ما مهدتم لأنفسكم من العذاب، وقد صدق وعده بقتل قريظة، وإجلاء بني النضير، وفتح خيبر، وضرب الجزية على من عداهم، فقد غُلِبوا أينما ثُقفوا، وحشروا إلى جهنم، إلا من أسلم منهم.
والرؤية، على هذا، علمية. ومن قرأ ( بالياء ) يكون الضمير راجعاً للكفار، أي : يرى الكفارُ المسلمين مثليهم، وذلك بعد أن قللهم الله في أعينهم حتى اجترأوا عليهم، وتوجهوا إليهم، فلما لاقوهم كثروا في أعينهم حتى غلبوا، مدداً من الله للمؤمنين.
أو : يرى المؤمنون المشركين مثلي المؤمنين، وكانوا ثلاثة أمثالهم، ليثبتوا لهم، ويتيقنوا بالنصر الذي وعدهم الله بقوله :﴿ إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُواْ مِاْئَتَيْنِ. . . ﴾ [ الأنفَال : ٦٥ ] الآية. ﴿ والله يؤيد ﴾ أي : يقوي ﴿ بنصره من يشاء ﴾ نصره، كما أيد أهل بدر، ﴿ إن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار ﴾ المفتوحة. وذلك حين نصر الله قوماً لا عدد لهم ولا عدة، على قوم لهم عدد وعدة، فلم تغن عنهم من الله شيئاً.
﴿ زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذالِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ ﴾
قلت :﴿ زُين ﴾ : بحذف الفاعل، وهو الله، حقيقة ؛ إذ لا فاعل سواه، أو الشيطان، شَريعَةً ؛ إذ هو منديل لمسح أوساخ الأقذار. والقنطار : المال الكثير، وقيل : مائة ألف دينار، وقيل : ملء مسك الثور. وروى عنه - عليه الصلاة والسلام - أنه قال :" القنطار : ألف دينار "، وفي رواية :" ألفا دينار "، وفي عرفنا اليوم : ألف مثقال.
والمقنطرة : المنضدة بعضها فوق بعض، وسمي الذهب ذهباً ؛ لذهابه وفنائه، أو لذهابه بالقلوب عن حضرة الغيوب، وسميت الفضة فضة ؛ لأنها تَنْفَضُّ أي : تنفرق، أو تفرق القلوب لمن اشتغل بها. والمسوَّمة : المعلمة أو الراعية أو المطهمة الحسان.
يقول الحقّ جلّ جلاله :﴿ زُين للناس حب الشهوات ﴾ والركون إلى المألوفات، حتى صرفهم ذلك عن النظر والاعتبار، أو الشهود والاستبصار، وذلك لمن وقف مع متعتها، وغرته شهوة لذتها، وأما من ذكرته نعيم الجنان، وأعانته على طاعة الملك الديان، فلم يقف مع متعتها، ولا التفت إلى عاجل شهوتها، بل نزل إليها بالإذن والتمكين، والرسوخ في اليقين، فلا يشمله تحذير الآية ؛ لقوله - عليه الصلاة والسلام - :" حُبِّبَ إلِيَّ من دنياكم ثلاث. . . " الحديث.
وقال بعض الأولياء :[ كل شهوة تحجب القلب عن الله، إلا شهوة الجماع ] يعني الحلال، وقال الورتجبي : ابتلاهم حتى يظهر الصادق بترك هذه الشهوات، من الكاذب بالشروع في طلبها، قيل : من اشتغل بهذه الأشياء قطعته عن طريق الحق، ومن استصغرها وأعرض عنها، عوض عليها السلامة منها، وفتح له الطريق إلى الحقائق. ه.
ثم بدأ برأس الشهوات فقال :﴿ من النساء ﴾ وذلك لمن شُغف بهن فصرف عن ذكر الله، أو تناولهن على وجه الحرام. وفي الخبر عنه - عليه الصلاة والسلام - :" مَا تَرَكْتُ في الناس بَعْدِي فِتْنَةً أَضَرُّ عَلَى الرِّجَالِ مِنَ النِّسَاءِ ". وفي خبر آخر :" النظر إلى محاسن المرأة من سهام إبليس ". ومَنْ ثَمَّ جُعِلْنَ في القرآن عين الشهوات، قال تعالى :﴿ زيّن للناس حب الشهوات من النساء ﴾.
وقال بعض العارفين : ما أيس الشيطانُ من إنسان قط إلا أتاه من قبل النساء. وقال عليّ رضي الله عنه : أيها الناس، لا تطيعوا للنساء أمراً، ولا تَدَعُوهُنَّ يدبرن أمر عيش، فإنهن إن تُرِكْنَ وما يُرِدْن أفسدن الملك، وعصَين المالك، وجدناهن لا دين لهن في خلَواتهن، ولا ورع لهن عند شهواتهن اللذة بهن يسيرة، والحيرة بهن كثيرة، فأما صوالحهن ففاجرات، وأما طوالحهن فعاهرات - أي : زانيات -، وأما المعصومات فهن المعدومات، يتظلمن وهن الظالمات، ويتمنعن وهن الراغبات، ويحلفن وهن الكاذبات، فاستعيذوا بالله من شرارهن، وكونوا على وجل من خيارهن، والسلام. ه.
﴿ والبنين ﴾ : قال - عليه الصلاة والسلام - :" إنهم لثمرة القلوب، وقُرَّةُ الأعيُن، وأنهم مع ذلك لَمَجْبَنَةٌ مَبْخَلَةٌ مَحْزَنَةٌ ". ﴿ والقناطير المقنطرة ﴾ : أي : المجموعة المنضدة، ﴿ من الذهب والفضة. والخيل المسومة ﴾ أي : المعلمة : وهي البلق، أو غيرها، وفي الحديث عنه صلى الله عليه وسلم :" الخَيْلُ معقودٌ في نَواصِيها الخَيْرُ إلى يوْمِ القِيَامةِ، الأجرُ والمَغْنمُ ".
وعن أنس قال :( لم يكن شيء أحب إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم بعد النساء، من الخيل ). وعن أبي وهب الجشمي قال النبيّ صلى الله عليه وسلم :" ارتبطوا الخيل، وامسحوا بنواصيها، وقَلِّدُوها، ولا تقلدوها الأوتار، وعليكم بكل كُمَيْت١ أغر مُحَجِّلِ، أو أشقر أغر محجل، أو أدهم أغر مُحَجَّل ". وعن خباب رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" الخيل ثلاثة : فرس للرحمان، وفرس للإنسان، وفرس للشيطان، فأما فرس الرحمان فما اتخذ لله في سبيل الله، وقوتل عليه أعداء الله، وأما فرس الإنسان فما استطرق عليه - أي : ركب عليه في طريق حوائجه، وأما فرس الشيطان فما روهن عليه، وقومر عليه ". وفي البخاري ما يشهد لهذا.
ومما زُيِّن للناس أيضاً : حب ﴿ الأنعام ﴾، وهي الإبل والبقر والغنم، إن شغلته عن ذكر الله، ومنع منها حق الله، ﴿ والحرث ﴾ أي : الزراعة والغراسة، ﴿ ذلك ﴾ الذي ذكرت ﴿ متاع الحياة الدنيا ﴾ الفانية الزائلة، ﴿ والله عنده حسن المآب ﴾، أي : المرجع في دار البقاء التي لا يفنى نعيمها، ولا تنقطع حياتها إلى أبد الأبد.
الإشارة : كل ما يقطع القلبّ عن الشهود، أوُ يُفَتِّرُهُ عن السير إلى الملك المعبود، فهو شهوة، كائناً ما كان، أغياراً أو أنواراً، أو علوماً أو أحوالاً، أو غير ذلك، فالنساء الأغيار، والبنون الأنوار، والقناطير المقنطرة من الذهب علوم الطريقة، والفضة علوم الشريعة، والخيل المسومة هي الأحوال، والأنعام الأذكار، والحرب استعمال الفكرة. فكل مَنْ وقف مع حلاوة شيء من هذا، ولم يُفْضِ إلى راحة الشهود والعيان، فهي في حقه شهوة.
وبعد أن ذكر الحق تعالى أنواعاً من الشهوات، زَهَّدَ فيها فقال :﴿ ذلك متاع الحياة الدنيا والله عنده حسن المآب ﴾ قال أبو هاشم الزاهد رضي الله عنه : وَسَمَ اللّهُ الدنيا بالوحشة ؛ ليكون أنس المريد بربه دونها، وليقبل المطيعون بالإعراض عنها، وأهلُ المعرفة بالله من الدنيا مستوحشون، وإلا الله مشتاقون. ه.
وقد تعوّذ النبيّ صلى الله عليه وسلم من شر فتنتها، غناها وفقرها. وأكثرُ القرآن مشتملٌ على ذمها، وتحذير الخلق منها، بل ما من داع يدعو إلى الله تعالى إلا وقد حذر منها، ورغَّب في الآخرة، بل هو المقصود بالذات من بيان الشرائع، وكيف لا - وهي عدوة الله ؛ لقطعها طريق الوصلة إليه، ولذلك لم ينظر إليها منذ خلقها. وعدوة لأوليائه ؛ لأنها تزينت بزينتها حتى تجرعوا مرارة الصبر في مقاطعتها، وعدوة لأعدائه ؛ لأنها استدرجتهم بمكرها، واقتنصتهم بشبكتها، فوثقوا بها، فخذلتهم أحوج ما كانوا إليها، كفانا الله شرّها بمنِّه وكرمه.
﴿ قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِّن ذالِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ ﴾ * ﴿ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَآ إِنَّنَآ آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ﴾ * ﴿ الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأَسْحَارِ ﴾
قلت :﴿ للذين ﴾ : خبر، و﴿ جنات ﴾ : مبتدأ، وهو استئناف لبيان الخيرية، والرضوان فيه لغتان : الضم والكسر، كالعدوان والطغيان.
يقول الحق جلّ جلاله :﴿ قل ﴾ يا محمد : أأخبركم ﴿ بخير ﴾ من الذي ذكرتُ لكم من الشهوات الفانية واللذات الزائلة، وهو ما أعد الله للمتقين عند لقاء ربهم، وهو ﴿ جنات تجري من ﴾ تحت قصورها الأنهار ؛ من الماء واللبن والعسل والخمر، ﴿ خالدين فيها ﴾، لا كنعيم الدنيا الفاني، ﴿ ولهم فيها أزواج ﴾ من الحور العين، مطهرات من الحيض والنفاس وسائر المستقذرات، ﴿ ورضوان من الله ﴾ الذي هو ﴿ أكبر ﴾ النعم.
فانظر : كيف ذكر الحقّ - جلّ جلاله - أدنى النعيم وأوسطه وأعلاه ؟ فأدناه : متاع الدنيا الذي زُين للناس، وأوسطه : نعيم الجنان، وأعلاه : رضى الرحمان، وفي الحديث الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم :" يَقُولُ الله تعالى لأهِل الْجنَّةِ : يَا أهْلَ الجَنَّةِ، فيقول أهْلُ الجَنَّةِ : لَبيكَ رَبَّنَا وَسَعْدَيْك، والخير في يديك، فيقول : هَلْ رضِيتُم ؟ فَيَقُولُونَ : مَالنَا لاَ نَرْضى وَقَدْ أَعْطَيْتَنَا ما لَمْ تُعْطِ أَحَداً مِنْ العالمين، فَيَقُولُ : ألا أعْطِيكُم أَفْضَلَ من ذلك ؟ فيقُولون : يا ربنا، وأيُّ شَيء أَفْضَلُ مِنْ ذَلِكَ ؟ قال : أُحِلُّ عَلَيْكُمْ رِضْوَانِي فَلاَ أَسْخَطُ عَلَيْكُم َبَداً ".
﴿ والله بصير بالعباد ﴾ ؛ لا يخفى عليه شيء من أعمالهم، فيثيب المحسن، ويعاقب المسيء، أو :﴿ بصير ﴾ بأحوال المتقين.
﴿ شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قَآئِمَاً بِالْقِسْطِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴾
﴿ الذين يقولون ربنا إننا آمنا فاغفر لنا ذنوبنا وقنا عذاب النار ﴾. وفي ترتيب السؤال على مجرد الإيمان دليل على أنه كاف في استحقاق المغفرة والاستعداد لها.
﴿ شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قَآئِمَاً بِالْقِسْطِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴾
ثم وصف المتقين بقوله :﴿ الصابرين ﴾ على أداء الأمر واجتناب النهي، وفي البأساء والضراء وحين البأس، ﴿ والصادقين ﴾ في أقوالهم وأفعالهم وأحوالهم، فاستوى سرهم وعلانيتهم، ﴿ والقانتين ﴾ أي : المطيعين، ﴿ والمنفقين ﴾ أموالهم في سبيل الله، ﴿ والمستغفرين بالأسحار ﴾ ؛ لأن الدعاء فيها أقرب إلى الإجابة ؛ لأن العبادة حينئذٍ أشق، والنفس أصفى، والروح أجمع، وَلاَسيما للمتهجدين.
قيل : إنهم كانوا يُصلُون إلى السحر، ثم يستغفرون ويدعون، وفي الحديث عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال :" إن الله تعالى يقول : إني لأهُمُّ بأهل الأرض عذاباً، فإذا نظرت إلى عُمَّار بيوتي، وإلى المتهجدين، وإلى المتحابين فِيَّ، وإلى المستغفرين بالأسحار، صرفت عنهم العذاب ".
وقال سفيان : إن لله ريحاً يقال لها الصيحة، تهبُّ وقتَ السحر، تحمل الأذكار والاستغفار إلى الملك الجبار. قال : وبلَغنا أنه إذا كان أول الليل، نادى مناد : ألا ليقم القانتون، فيقومون يُصلون إلى السحَر، فإذا كان وقت السحر، ينادي منادٍ : أين المستغفرون بالأسحار ؟ فيستغفر أولئك، ويقوم آخرون، ويُصلون، فيلحقون بهم، فإذا طلع الفجر، نادى منادٍ : ألا ليقم الغافلون، فيقومون من فرشِهم كالموتى إذا نُشروا من قبورهم.
﴿ شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قَآئِمَاً بِالْقِسْطِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴾
قلت :﴿ قائماً ﴾ : حال مِن ﴿ الله ﴾، وإنما جاز من بعض المعطوفات لعدم اللبس، كقوله :
﴿ وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً. . . ﴾ [ الأنبيَاء : ٧٢ ]، ولا يجوز : جاء زيد وعمرو راكباً ؛ لعدم القرينة، أو مِن ﴿ هو ﴾، والعامل الجملة ؛ لأنه حال مؤكدة، أي : تفرد قائماً، أو حقه قائماً، ﴿ بالقسط ﴾ أي : العدل.
يقول الحقّ جلّ جلاله :﴿ شهد الله أنه لا إله إلا هو ﴾ أي : بيَّن وحدانيتَه بنصب الدلائل الدالة عليها وإنزال الآيات الناطقة بها، أو بتدبيره العجيب وصنعته المتقنة وأموره المحكمة، وفي ذلك يقول القائل١ :
يَا عَجَباً كيف يُعْصَى الإلهُ | أم كيف يَجْحَدُه الجاحدُ ؟ ! |
وللهِ في كل تحريكةٍ | وتسكينةٍ أبداً شاهدُ |
وفي كُلِّ شَيءٍ له آيةٌ | تَدُلُّ على أنَّه واحِدُ |
﴿ و ﴾ شهدت ﴿ الملائكة ﴾ أيضاً بالإقرار بالوحدانية والإخبار بها، ﴿ وأولوا العلم ﴾ وهم : الأنبياء والعلماء بالله، بالإيمان بها والاحتجاج عليها، شبه ذلك في البيان والكشف بشهادة الشاهد. وفيه دليل شرف أهل العلم وفضلهم، حيث قرن شهادتهم بشهادته ؛ لأن العلم صفة الله العليا ونعمته العظمى، والعلماء أعلام الإسلام، والسابقون إلى دار السلام، وسُرج الأمكنة وحجج الأزمنة.
وعن جابر قال : قال النبيّ صلى الله عليه وسلم :" سَاعَةٌ مِنْ عَالِم يتَّكِئ على فِرَاشِهِ، ينظُرُ في علمهِ، خَيرٌ مِنْ عِبَادَة العَابِد سَبعينَ عاماً ". وعن معاذ قالَ : قال النبي صلى الله عليه وسلم :" تعلموا العلم فإن تعلمه لله خشيةٌ، ومدارستَه تسبيحٌ، والبحث فيه جهادٌ، وتعليمه مَنْ لا يعلمه صدقةٌ، وتذكُّره في أهله قُرْبَة ". ثم قال في آخر الحديث في فضل أهل العلم :" وتَرْغَبُ الملائكة في خُلتِهم، وبأجنحتها تمسحُهم، وفي صلاتها تستغفر لهم، وكلُّ رطب ويابس يستغفر لهم. حتى حيتان البحر وهوامه، وسباع الأرضين وأنعامها، والسماء ونجومها، ألا وإن العلم حياةُ القلوب من العمى، ونورُ الأبصار من الظلم، وقوة الأبدان من الضعف، يبلغ بالعبد منزل الأحرار ومجالسة الملوك، والفكر فيه يُعْدل بالصيام، ومدارسته بالقيام، وبه يُعرف الحلال والحرام، وبه تُوصلَ الأرحام، العلم إمام والعمل تابعه، يُلْهَمُه بالسعداء، ويُحْرَمه الأشقياء ".
حال كون الحقّ تعالى ﴿ قائماً بالقسط ﴾ أي : مُدبراً لأمر خلقه بالعدل، فيما حكم وأبرم، ﴿ لا إله إلا هو ﴾، كرر الشهادة للتأكيد، ومزيد الاعتبار بأمر التوحيد، والحكم به، بعد إقامته الدليل عليه، وقال جعفر الصادق :( الأُولى وصف وتوحيد، والثانية رسم وتعليم ). أي : قولوا :﴿ لا إله إلا هو ﴾، أو ليرتب عليه قوله :﴿ العزيز الحكيم ﴾، فيعلم أنه الموصوف بهما، وقدَّم ﴿ العزيز ﴾ ليتقدم العلم بقدرته على العلم بحكمته.
﴿ إن الدين عند الله الإسلام ﴾ أي : إن الدين المرضي عند الله هو الانقياد لأمر التوحيد والإذعان لمن جاء به. ورُوِيَ عن أنسَ رضي الله عنه قال : قال النبيّ صلى الله عليه وسلم :" من قرأَ هذه الآيةَ عند منامه خَلَقَ اللَّهَ تعالى سبعين ألف خَلْقٍ يستغفرون الله له إلى يوم القيامة ". وهي أعظم شهادة في كتاب الله، " من قرأها إلى ( الحكيم ) وقال : وأنا أشهد بما شهد الله به، وأستودِعُ اللّهَ هذه الشهادة، وهي لي عند الله وديعة، يقول الحق تعالى : إن لعبدي هذا عندي عهداً وأنا أحقُّ مَنْ وفى بالعهد، أدخِلوا عبدي الجنة ".
ثم ذكر من سبق له الخذلان بعد سطوع الدليل والبُرهان، فقال :
﴿. . . وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَآءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَمَن يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهِ سَرِيعُ الْحِسَابِ ﴾
قلت :﴿ بغياً ﴾ : مفعول له، علة للاختلاف.
يقول الحقّ جلّ جلاله :﴿ وما اختلف ﴾ اليهود والنصارى في حقيقة الإسلام والتدين به، ﴿ إلا من بعد ما جاءهم العلم ﴾ أي : من بعد ما تمكنوا من العلم بصحته، وأن الدين عند الله هو الإسلام، فجحدوه ظلماً وحسداً. أو ما اختلف أرباب الكتب المتقدمة في دين الإسلام ؛ فأثبته قوم، وقال قوم : إنه مخصوص بالعرب، ونفاه آخرون مطلقاً، إلا من بعد ما ثبت لهم بصحته وعموم الدعوة له. أو في التوحيد ؛ فثلث النصارى، وقالت اليهود : عزير ابن الله، بعد ما صح لهم العلم بالتوحيد فغيروا. وقال الربيع : إن موسى عليه السلام لما حضره الموت، دعا سبعين حبراً من قومه، فاستودعهم التوراة، فلما مضى القرن الأول والثاني والثالث وقعت بينهم الفرقة، وهم : الذين أوتوا الكتاب من أبناء السبعين، فأراقوا الدماء ووقع بينهم الشر والاختلاف.
وذلك من بعد ما جاءهم العلم، يعني بيان ما في التوراة، ﴿ بغياً بينهم ﴾ أي : طلباً للملك والرئاسة والتحاسد، فسلّط عليهم الجبابرة، ﴿ ومن يكفر بآيات الله ﴾ المنزلة على رسوله، أو الدالة على وحدانيته، ﴿ فإن الله سريع الحساب ﴾ ؛ لا يشغله شأن عن شأن، وفيه تهديد لأهل الاختلاف.
الإشارة : الاختلاف على الصوفية، والإنكار عليهم، إن كان بغياً وحسداً وخوفاً على زوال رئاسة المنكر، فهذا معرض لمقت الله، فقد آذن بحرب الله، وبالُه سوء الخاتمة، والعياذ بالله، وفي ذلك يقول القائل :
هِمَمُهُمْ تَقْضِي بحُكْم الوَقْتِ | مُنِكِرُهُم مُعَرَّضٌ للمٌقْتِ |
﴿ فَإنْ حَآجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ للَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُلْ لِّلَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ وَالأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُواْ فَقَدِ اهْتَدَواْ وَّإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاَغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ ﴾
قلت :﴿ ومن اتبعن ﴾، عطف على فاعل ﴿ أسلمت ﴾ ؛ الضمير.
يقول الحقّ جلّ جلاله :﴿ فإن حاجوك ﴾ في الدين، وخاصموك فيه، بعدما أقيمت الحجج على صحته، ﴿ فقل ﴾ لهم : أما أنا فقد ﴿ أسلمت وجهي لله ﴾، وانقدت بكليتي إليه، وتمسكت بدينه القويم، الذي قامت الحجج على حقيته، وكذلك من تبعني من المؤمنين. وخصّ الوجه بالانقياد ؛ لأنه أشرف الأعضاء ومحل ظهور المحاسن، فإذا انقاد الوجه فقد انقاد الكل.
﴿ وقل للذين أوتوا الكتاب ﴾ من اليهود والنصارى، ﴿ والأميين ﴾ الذين لا كتاب لهم من المشركين :﴿ أأسلمتم ﴾ كما أسلمتُ : لما وضحت لكم من الحجة ؟ أم أنتم على كفركم بغياً وحسداً ؟ والاستفهام معناه الأمر، كقوله :﴿ فَهَلَ أَنتُم مُّسْلِمُونَ ﴾ [ هُود : ١٤ ] أي : أسلموا، ﴿ فإن أسلموا فقد اهتدوا ﴾ وأنقذوا أنفسكم من الهلاك، ﴿ وإن تولوا ﴾ وأعرضوا ﴿ فإنما عليك البلاغ ﴾، ولا يضرك عنادهم، فقد بلغت ما أمرت به. ﴿ والله بصير بالعباد ﴾ لا يخفى عليه من أسلم ممن تولى.
رُوِيَ أنه - عليه الصلاة والسلام - قرأ عليهم هذه الآية، فقال لليهُود :" أتشهدون أن عزيراً عبد الله ورسوله وكلمته ؟ " فقالوا : معاذ الله، وقال للنصارى :" أتشهدون أن عيسى عبد الله ورسوله ؟ " فقالوا : معاذ الله أن يكون عيسى عبداً. فنزل قوله تعالى :﴿ وإن تولوا فإنما عليك البلاغ ﴾ الآية.
الإشارة : لا يليق بالفقير، إذا توجه إليه الإنكار أو المجادلة والاستظهار، إلا السكوت والإقرار، والاستسلام بكليته لأحكام الواحد القهار، إذ لا يرى فاعلاً إلا الله، فلا يركن إلى شيء سواه. وفي الحكم :" إنما أجرَى الأذى عليهم لئلا تكون ساكناً إليهم، أراد أن يزعجك عن كل شيء، حتى لا تكون ساكناً إلى شيء ". وقال بعض العارفين : لا تشتغل قط بمن يؤذيك، واشتغل بالله يرده عنك، وقد غلط في هذا خلق كثير، اشتغلوا بمن يؤذيهم، فطال عليهم الأذى مع الإثم، ولو أنهم رجعوا إلى مولاهم لكفاهم أمرهم. ه. بالمعنى. وبهذا يأمر الشيخ أتباعه، فإن انقادوا لأحكام الحق، فقد اهتدوا إلى طريق الوصول، وإن تولوا فإنما عليك البلاغ، والهداية بيد السميع البصير.
﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ﴾ * ﴿ أُولَئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِّن نَّاصِرِينَ ﴾
قلت : إنما دخلت الفاء في خبر إنَّ ؛ لتضمن اسمها معنى الشرط ؛ لعموم الموصول وإبهامه، وهو خاص بإنَّ، دون ليت ولعل ؛ لأن " إن " لا تغير معنى الابتداء، وإنما تؤكده. وقيل : الخبر :﴿ أولئك. . . ﴾ الخ.
يقول الحقّ جّل جلاله :﴿ إن الذين يكفرون بآيات الله ﴾ أي : بحُججه الدالة على توحيده، وصحة نبوة رسله، أو بكلامه، وهم اليهود، ﴿ ويقتلون النبيين بغير حق ﴾ بل بغياً ﴿ ويقتلون الذين يأمرون ﴾ بالعدل وترك الظلم من الأحبار ﴿ فبشرهم بعذاب أليم ﴾ موجع.
وعن أبي عبيدة بن الجراح رضي الله عنه قال : سألت النبيّ صلى الله عليه وسلم أيُّ النَّاسِ أشَدُّ عَذَاباً يَوْمَ القيامة ؟ قال :" رَجُلٌ قَتَلَ نَبِيّاً، أو رَجل أمَرَ بالمُنكَر ونَهَى عن المَعْرُوفِ، ثم قرأ النبيّ صلى الله عليه وسلم :﴿ ويقتلون النبيين بغير حق ﴾ الآية، ثم قال : يا أبَا عُبَيْدَةَ، قتلَتْ بَنُو إسْرَائِيلَ ثلاثةً وأرْبَعِين نبيّاً أوَّل النَّهَار في سَاعَةٍ، فقام مائة وعشرون من عُبَّادِ بَني إسْرَائِيل فأَمرُوهم بالمَعرُوف ونَهوهُمْ عن المنكر، فقتلوهم جميعاً مِنْ آخِرِ النَّهارِ من ذلك اليوم، فهم الذين ذكرهم في كتابه، وأنزل الآية فيهم " ه. من الثعلبي.
﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيباً مِّنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِّنْهُمْ وَهُمْ مُّعْرِضُونَ ﴾ * ﴿ ذالِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَّعْدُودَاتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ ﴾ * ﴿ فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لاَّ رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ ﴾
قلت : التنكير في ﴿ نصيب ﴾ ؛ يحتمل التحقير والتعظيم، والأول أقرب. وجملة :﴿ وهم معرضون ﴾ ؛ حال من ﴿ فريق ﴾ ؛ لتخصيصه بالصفة.
يقول الحقّ جلّ جلاله :﴿ ألم تر ﴾ يا محمد، أو مَنْ تصح منه الرؤية، ﴿ إلى الذين أوتوا نصيباً من الكتاب ﴾ وهم : اليهود، تمسكوا بشيء من التوراة، ولم يعملوا به كلّه، كيف ﴿ يدعون إلى كتاب الله ﴾ القرآن ﴿ ليحكم بينهم ﴾ فيما اختلفوا فيه من أمر التوحيد وصحة نبوته - عليه الصلاة والسلام، فأعرضوا عنه، أو المراد بكتاب الله : التوراة. قال ابن عباس رضي الله عنه :( دخل النبيّ صلى الله عليه وسلم على جماعة من اليهود، فَدَعاهُمْ إلى الله تعالى، فقال نُعَيْمُ بْنُ عَمِرْو والحَارِثُ بنُ زَيْد : على أيِّ دين أنْتَ يا مُحَمَّدُ ؟ قال :" على مِلَّةِ إبْرَاهِيم " قالا : إنَّ إبرَاهِيم كان يَهُودِيّاً، فقال لهما النبيّ صلى الله عليه وسلم :" فَهَلمُّوا إلى التَّوراةِ فهي بَيْنَنَا وبينكم " فأبَيا عليه، فنزلت الآية ). وقيل : نزلت في الرجم، على ما يأتي في العقود.
﴿ قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَآءُ وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَآءُ وَتُعِزُّ مَن تَشَآءُ وَتُذِلُّ مَن تَشَآءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ * ﴿ تُولِجُ اللَّيْلَ فِي الْنَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي الْلَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الَمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَن تَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ ﴾
قلت :﴿ اللهم ﴾ منادى مبني على الضم، حذفت منه الياء المتضمنة للفرق، وعوضت منها الميم المُؤْذِنة بالجمع، لئلا يبقى بين الداعي والمدعو فَرْقٌ، و﴿ مالك ﴾ : نعت لمحل المنادي ؛ لأنه مفعول، ومنادى ثانٍ عند سيبويه، لأن الميم عنده تمنع الوصفية.
يقول الحقّ جلّ جلاله :﴿ قل ﴾ يا محمد في استنصارك على عدوك :﴿ اللهم ﴾ يا ﴿ مالك الملك ﴾ ؛ مُلك الدنيا وملك الآخرة، ﴿ تؤتي الملك ﴾ والنصر ﴿ من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء ﴾، فهب لنا ملك الدارين، والنصر على الأعداء في كل أين، وانزع الملك من يد عدونا، وانقله إلينا وإلى من تبعنا إلى يوم الدين. قال قتادة :( ذُكر لنا أن النبيّ صلى الله عليه وسلم سأل ربه أن يجعل مُلك فارس والروم في أمته، فأنزل الله تعالى هذه الآية ).
﴿ وتعز من تشاء ﴾ بالإيمان والطاعة ﴿ وتذل من تشاء ﴾ بالكفر والمعصية، أو تعز من تشاء بالمعرفة، وتذل من تشاء بالفكرة، أو تعز من تشاء بالقناعة والورع، وتذل من تشاء بالحرص والطمع، أو تعز من تشاء بالتوفيق والإذعان، وتذل من تشاء بالكسل والخذلان، ﴿ بيدك الخير ﴾ كله، فأعطنا من خيرك الجزيل، وأجرنا من الشر الوبيل، فالأمور كلها بيدك.
قال البيضاوي : ذكر الخير وحده ؛ لأنه المقضي بالذات، والشر مقضي بالعرض ؛ إذ لا يوجد شر جزئي ما لم يتضمن خيراً كليّاً. أو لمراعاة الأدب في الخطاب، أو لأن الكلام وقع فيه، إذ رُوِيَ أنه عليه الصلاة والسلام - لَمَّا خَطَّ الخَنْدَقَ، وقَطَعَ لكل عَشَرَة أربعينَ ذِرَاعاً، وأخذوا يَحْفرُون، فظهر فيه صخْرَةٌ عظيمةٌ لم تَعْمَلْ فيها المَعَاوِلُ، فَوَجَّهُوا سلْمَانَ إلى رَسُول الله صلى الله عليه وسلم يُخبرُه، فجاء عليه الصلاة والسلام، فأخذ المعْول منه، فَضَرب به ضَرْبَةً صدعَهَا، وَبَرَقَ مِنْهَا برق أضَاءَ ما بَيْنَ لابَتَيْها١، لكأن مصباحاً في جوْف بَيتِ مُظلم، فكَبَّرَ، وكَبَّرَ معه المسلمونَ، وقال : أضَاءَتْ لي مِنْهَا قُصُور الحيرة، كأنها أنيابُ الكلاب، ثم ضرب الثانية، فقال : أضَاءَتْ لي مِنْها القُصور الحمر من أرض الروم، ثم ضرب الثالثة، فقال : أضاءت لي منها قُصُورُ صَنعاء، وأخْبرَنِي جِبْريل أنَّ أُمَّتِي ظَاهرةٌ علَى كُلِّها، فأبشروا، فقال المنافقون : ألا تَعْجَبُون ! يمنيكم ويعدكم الباطل، ويُخبركم أنه يبصر من يثرب قصور الحِيَرةِ، وأنَّها تُفْتحُ لَكُمْ، وأنتم إنما تَحْفُرون الخنْدَقَ مِنَ الفَرَق٢ فنزلت، أي : الآية. ونبّه على أن الشر أيضاً بيده بقوله :﴿ إنك على كل شيء قدير ﴾. ه.
دَعَوْنِي لمُلْكِهم، فلمَّا أجبتُهم *** قالُوا : دَعَوْنَاك للمُلْك لا للمِلْكِ
ومن أذلَّ نفسه لله فقد أعزّه الله، قال الشاعر :
تَذَلَّلّ لِمَنْ تَهوَى لِتَكْسِبَ عِــزَّةً | فَكَمْ عزَّةٍ قَدْ نَالَهَا المَـرْء بالذُّلِّ |
إذَا كانَ مَنْ تَهْوى عَزِيزاً وَلَم تَكُنْ | ذَلِيلاً لَهُ، فَاقْرِ السَّلامَ عَلَى الْوصْلِ |
لا تَتْبَع النَّفْسَ في هَوَاهَا | إنَّ اتِّبَاعَ الْهَوَى هَوَانُ |
قال الشافعي رضي الله عنه :
أَلاَ يا نفسُ إن ترضَيْ بِقُوتٍ | فأنت عزيزةٌ أبداً غنيهْ |
دَعِي عنكِ المطامِعَ والأمانِي | فكمْ أُمْنِيَّةٍ جَلبَتْ مَنِيهْ |
أَفَادتني القناعةُ كلَّ عــزٍّ | وهَلْ عِزّ أعزُّ مِنْ القَنَاعَـهْ |
فَصَيِّرْها لنفسِكَ رأسَ مالٍ | وصَيِّرْ بعدها التَّقْوى بِضَاعَهْ |
تَنَل عِزّاً وتَغْنَى عَنْ لَئِيمٍ | وتَرْحَلْ للجِنَان بصبْرِ ساعَـهْ |
تولج ليل القبض في نهار البسط، وتولج نهار البسط في ليل القبض، وترزق من تشاء فيهما من العلوم والأسرار، بغير حساب ولا مقدار، أو تولج ليل العبودية في نهار الحرية، وتولج نهار الحرية في ليلة العبودية، فمن كان في نهار الحرية تاه على الوجود، ومن كان في ليل العبودية عطل ذله ذل اليهود، والعبد لا يخلو من هذين الحالين، يتعاقبان عليه تعاقب الليل والنهار، والله تعالى أعلم.
٢ الفرق: الخوف..
﴿ وتخرج الحي من الميت وتخرج الميت من الحي ﴾ ؛ كالحيوانات من النُّطَف، وبالعكس، والنباتات من الحبوب، وبالعكس، أو المؤمن من الكافر والعالم من الجاهل، وبالعكس، ﴿ وترزق من تشاء ﴾ من الأقوات والعلوم والأسرار، ﴿ بغير حساب ﴾، ولا تقدير ولا حصر. اللهم ارزقنا من ذلك الحظ الأوفر، ﴿ إنك على كل شيء قدير ﴾.
روى معاذ رضي الله عنه أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال له :" يا معاذُ، أتحبُّ أن يقضيَ اللّهُ عنك دَيْنك ؟ " قال : نعم يا رسول الله، قال :" قل " ﴿ اللهم مالك الملك ﴾ إلى قوله :﴿ بغير حساب ﴾، رحمان الدنيا والآخرة ورحيمهما، تعطي منهما ما تشاء، وتمنع منهما ما تشاء اقضِ عني ديني، فلو كان عليك ملءُ الأرض ذهباً وفضة لأدَّاه الله عنك ".
ورُوِيَ عن عليّ رضي الله عنه أنه قال : الفاتحة، وآية الكرسي، و﴿ شهد الله ﴾، و﴿ قل اللهم مالك الملك. . . ﴾ إلى ﴿. . . بغير حساب ﴾، لمّا أراد الله أن ينزلهن، تعلقن بالعرش وقلن : تهبطنا إلى دار الذنوب فقال الله عزّ وجلّ : وعزتي وجلالي لا يقرؤكن عبد، دبر كل صلاة مكتوبة، إلا أسكنته حظيرة القدس، على ما كان فيه، وإلا نظرت إليه بعيني المكنونة في كل يوم سبعين نظرة، وقضيت له في كل يوم سبعين حاجة، وأعززته من كل عدو، نصرته عليه. . . " الحديث. انظر الثعلبي.
دَعَوْنِي لمُلْكِهم، فلمَّا أجبتُهم *** قالُوا : دَعَوْنَاك للمُلْك لا للمِلْكِ
ومن أذلَّ نفسه لله فقد أعزّه الله، قال الشاعر :
تَذَلَّلّ لِمَنْ تَهوَى لِتَكْسِبَ عِــزَّةً | فَكَمْ عزَّةٍ قَدْ نَالَهَا المَـرْء بالذُّلِّ |
إذَا كانَ مَنْ تَهْوى عَزِيزاً وَلَم تَكُنْ | ذَلِيلاً لَهُ، فَاقْرِ السَّلامَ عَلَى الْوصْلِ |
لا تَتْبَع النَّفْسَ في هَوَاهَا | إنَّ اتِّبَاعَ الْهَوَى هَوَانُ |
قال الشافعي رضي الله عنه :
أَلاَ يا نفسُ إن ترضَيْ بِقُوتٍ | فأنت عزيزةٌ أبداً غنيهْ |
دَعِي عنكِ المطامِعَ والأمانِي | فكمْ أُمْنِيَّةٍ جَلبَتْ مَنِيهْ |
أَفَادتني القناعةُ كلَّ عــزٍّ | وهَلْ عِزّ أعزُّ مِنْ القَنَاعَـهْ |
فَصَيِّرْها لنفسِكَ رأسَ مالٍ | وصَيِّرْ بعدها التَّقْوى بِضَاعَهْ |
تَنَل عِزّاً وتَغْنَى عَنْ لَئِيمٍ | وتَرْحَلْ للجِنَان بصبْرِ ساعَـهْ |
تولج ليل القبض في نهار البسط، وتولج نهار البسط في ليل القبض، وترزق من تشاء فيهما من العلوم والأسرار، بغير حساب ولا مقدار، أو تولج ليل العبودية في نهار الحرية، وتولج نهار الحرية في ليلة العبودية، فمن كان في نهار الحرية تاه على الوجود، ومن كان في ليل العبودية عطل ذله ذل اليهود، والعبد لا يخلو من هذين الحالين، يتعاقبان عليه تعاقب الليل والنهار، والله تعالى أعلم.
﴿ لاَّ يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَآءَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَن يَفْعَلْ ذالِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلاَّ أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ ﴾ * ﴿ قُلْ إِن تُخْفُواْ مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ * ﴿ يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَراً وَمَا عَمِلَتْ مِن سُواءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدَاً بَعِيداً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ ﴾
قلت :﴿ تُقاة ﴾ : مصدر تَقَى، على وزن فَعَل، وله مصدران آخران : تُقّى وتَقِيَّة - بتشديد الياء -، وبه قرأ يعقوب، وأصله : تُقِيَة، فقلبت الياء ألفاً ؛ لتحركها وانفتاح ما قبلها.
يقول الحقّ جلّ جلاله : لقوم من الأنصار، كانوا يُوالون اليهود ؛ لقرابة أو صداقة تقدمت في الجاهلية :﴿ لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء ﴾، أي : أصدقاء، إذ الحب إنما يكون في الله والبغض في الله، أو لا تستعينوا بهم في غزو ولا غيره، فلا تودوهم ﴿ من دون المؤمنين ﴾ ؛ إذ هم أحق بالمودة، ففيهم مَنْدُوحة عن مولاة الكفرة، ﴿ ومن يفعل ذلك ﴾ الاتخاذ ﴿ فليس من ﴾ ولاية ﴿ الله في شيء ﴾ ؛ إذ لا تجتمع ولاية الله مع ولاية عدوه. قال الشاعر :
تَوَدُّ عَدُوِّي ثُمِّ تَزْعُمُ أنَّني | صَدِيقكَ، لَيْسَ النّوْك عَنْكَ بِعَازِبِ |
فلا تُوالوا الكفار ﴿ إلا أن تتقوا منهم تقاة ﴾ أيْ : إلا أن تخافوا من جهتهم ما يجب اتقاؤه، فلا بأس بمداراتهم ظاهراً، والبعد منهم باطناً، كما قال عيسى عليه السلام :( كن وَسَطاً وامْشِ جانباً ). وقال ابن مسعود رضي الله عنه : خالطوا الناس وزايلوهم، وصافحوهم بما يشتهون، ودينكم لا تَثْلُموه. وقال جعفر الصادق : إني لأسمع الرجل يشتمني في المسجد، فأستتر منه بالسارية لئلا يراني. ه. ﴿ ويحذركم الله نفسه ﴾ أي : يخوفكم عذابه على موالاة الكفار ومخالفة أمره وارتكاب نهيه، تقول العرب : احذرنا فلاناً : أي : ضرره لا ذاته، وفي ذكر النفس زيادة تهديد يُؤذِن بعقاب يصدر منه بلا واسطة، ﴿ وإلى الله المصير ﴾ ؛ فيحسر كل قوم مَن أحب.
وَقَاطِعْ لِمَنْ وَاصَلْتَ أيَّامَ غَفْلَةٍ | فَمَا وَاصَلَ العُذالَ إلاَّ مُقَاطِعُ |
وَجَانِب جَنَابَ الأَجْنَبِي لَو أنَّهُ | لِقُربِ انْتِسَابِ فِي المَنَامِ مُضَاجع |
فَلِلنَّفْسِ مِنْ جُلاَّسِهَا كُلُّ نِسْبَةٍ | وَمِنْ خُلَّةٍ لِلْقَلْبِ تِلْكَ الطَّبَائِعُ |
ثم قال :﴿ ويحذركم الله نفسه ﴾ أن تقصدوا معه غيره، وهذا خطاب للسائرين بدليل تعقيبه بقوله :﴿ وإلى الله المصير ﴾ أي : إليه ينتهي السير وإليه يكون الوصال، ثم شدد عليهم في المراقبة فقال :﴿ إن تُخفوا ما في صدوركم ﴾ من الميل أو الركون إلى الغير أو الوقوف عن السير، ﴿ أو تبدوه يعلمه الله ﴾ ؛ فينقص عنكم المدد بقدر ذلك الميل، يظهر ذلك يوم الدخول إلى بلاد المشاهدة، ﴿ يوم تجد كل نفس ﴾ ما قدمت من المجاهدة، فبقدر المجاهدة تكون المشاهدة. ثم خاطب الواصلين فقال :﴿ ويحذركم الله نفسه ﴾ من أن تشهدوا معه سواه، فلو كُلّف الواصل أن يشهد غيره لم يستطع، إذ لا غير معه حتى يشهده. ويدل على أن الخطاب هنا للواصلين تعقيبه بالمودة والرأفة، اللائقة بالواصلين المحبوبين العارفين الكاملين. خرطنا الله في سلكهم بمنِّه وكرمه.
وَقَاطِعْ لِمَنْ وَاصَلْتَ أيَّامَ غَفْلَةٍ | فَمَا وَاصَلَ العُذالَ إلاَّ مُقَاطِعُ |
وَجَانِب جَنَابَ الأَجْنَبِي لَو أنَّهُ | لِقُربِ انْتِسَابِ فِي المَنَامِ مُضَاجع |
فَلِلنَّفْسِ مِنْ جُلاَّسِهَا كُلُّ نِسْبَةٍ | وَمِنْ خُلَّةٍ لِلْقَلْبِ تِلْكَ الطَّبَائِعُ |
ثم قال :﴿ ويحذركم الله نفسه ﴾ أن تقصدوا معه غيره، وهذا خطاب للسائرين بدليل تعقيبه بقوله :﴿ وإلى الله المصير ﴾ أي : إليه ينتهي السير وإليه يكون الوصال، ثم شدد عليهم في المراقبة فقال :﴿ إن تُخفوا ما في صدوركم ﴾ من الميل أو الركون إلى الغير أو الوقوف عن السير، ﴿ أو تبدوه يعلمه الله ﴾ ؛ فينقص عنكم المدد بقدر ذلك الميل، يظهر ذلك يوم الدخول إلى بلاد المشاهدة، ﴿ يوم تجد كل نفس ﴾ ما قدمت من المجاهدة، فبقدر المجاهدة تكون المشاهدة. ثم خاطب الواصلين فقال :﴿ ويحذركم الله نفسه ﴾ من أن تشهدوا معه سواه، فلو كُلّف الواصل أن يشهد غيره لم يستطع، إذ لا غير معه حتى يشهده. ويدل على أن الخطاب هنا للواصلين تعقيبه بالمودة والرأفة، اللائقة بالواصلين المحبوبين العارفين الكاملين. خرطنا الله في سلكهم بمنِّه وكرمه.
﴿ يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضراً ﴾ بين يديها تنتفع به، ﴿ وما عملت من سوء تود له أن بينها وبينه أمداً بعيداً ﴾، كما بين المشرق والمغرب، ولا ينفع الندم وقد زلَّت القدم. ﴿ ويحذركم الله نفسه ﴾، كرره للتأكيد وزيادة التحذير، وسيأتي في الإشارة حكمة تكريره، ﴿ والله رؤوف بالعباد ﴾ حيث حذرهم مما يضرهم، وأمرهم بما يقربهم، فكل ما يصدر منه - سبحانه - في غاية الكمال.
وَقَاطِعْ لِمَنْ وَاصَلْتَ أيَّامَ غَفْلَةٍ | فَمَا وَاصَلَ العُذالَ إلاَّ مُقَاطِعُ |
وَجَانِب جَنَابَ الأَجْنَبِي لَو أنَّهُ | لِقُربِ انْتِسَابِ فِي المَنَامِ مُضَاجع |
فَلِلنَّفْسِ مِنْ جُلاَّسِهَا كُلُّ نِسْبَةٍ | وَمِنْ خُلَّةٍ لِلْقَلْبِ تِلْكَ الطَّبَائِعُ |
ثم قال :﴿ ويحذركم الله نفسه ﴾ أن تقصدوا معه غيره، وهذا خطاب للسائرين بدليل تعقيبه بقوله :﴿ وإلى الله المصير ﴾ أي : إليه ينتهي السير وإليه يكون الوصال، ثم شدد عليهم في المراقبة فقال :﴿ إن تُخفوا ما في صدوركم ﴾ من الميل أو الركون إلى الغير أو الوقوف عن السير، ﴿ أو تبدوه يعلمه الله ﴾ ؛ فينقص عنكم المدد بقدر ذلك الميل، يظهر ذلك يوم الدخول إلى بلاد المشاهدة، ﴿ يوم تجد كل نفس ﴾ ما قدمت من المجاهدة، فبقدر المجاهدة تكون المشاهدة. ثم خاطب الواصلين فقال :﴿ ويحذركم الله نفسه ﴾ من أن تشهدوا معه سواه، فلو كُلّف الواصل أن يشهد غيره لم يستطع، إذ لا غير معه حتى يشهده. ويدل على أن الخطاب هنا للواصلين تعقيبه بالمودة والرأفة، اللائقة بالواصلين المحبوبين العارفين الكاملين. خرطنا الله في سلكهم بمنِّه وكرمه.
﴿ قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴾ * ﴿ قُلْ أَطِيعُواْ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْكَافِرِينَ ﴾
قلت : قد تقدم الكلام على حقيقة المحبة عند قوله :﴿ يحبونهم كحب الله ﴾. وقال البيضاوي هنا : المحبة ميلُ النفس إلى الشيء لإدراك كمال فيه، بحيث يحملها - أي الميل - إلى ما يقربها إليه، والعبد إذا علم أن الكمال الحقيقي ليس إلا لله، وأن ما يراه كمالاً من نفسه أو غيره فهو من الله وبالله وإلى الله، لم يكن حبه إلا لله وفي الله، وذلك يقتضي إرادة طاعته، فلذلك فُسرت المحبة بإرادة الطاعة، وجعلت مستلزمة لاتباع الرسول في عبادته، والحرص على مطاوعته. ه.
يقول الحقّ جلّ جلاله :﴿ قل ﴾ يا محمد لمن يدّعي أنه يحب الله ولا يتبع رسوله :﴿ إن كنتم تحبون الله ﴾ كما زعمتم، ﴿ فاتبعوني ﴾ في أقوالي وأفعالي وأحوالي، ﴿ يحببكم الله ﴾ أي : يرضى عنكم ويقربكم إليه، ﴿ ويغفر لكم ذنوبكم ﴾ أي : يكشف الحجاب عن قلوبكم بغفران الذنوب ومحو العيوب، فيقربكم من جناب عزه، ويبوئكم في جِوار قدسه، ﴿ والله غفور رحيم ﴾ لمن تحبب إليه بطاعته واتباع رسوله.
فالرسول - عليه الصلاة والسلام - حجاب الحضرة وبَوَّابُها، فمن أتى من بابه ؛ بمحبته واتباعه، دخل الحضرة، وسكن فيها، ومن تنكب عنها طُرِد وأُبعد، وفي ذلك يقول القائل :
وأنتَ بابُ الله، أيُّ امرِئ | وَافَاه مِنح غَيْرِكَ لاَ يدْخُلُ |
وقال في المباحث :
تَبِعَه العالِمُ في الأقــوال | والعابدُ الزاهدُ في الأفْعَالِ |
وفيهما الصُّوفيُّ في السِّباق | لكنَّه قد زاد في الأخْلاَقِ |
تَعْصِي الإلَه وَأَنْتَ تُظْهِرُ حُبَّهُ | هـذَا محَالٌ في الْقِيَاسِ بَدِيعُ |
لَوْ كانَ حُبُّكَ صَادِقاً لأَطَعْتَهُ | إنَّ الْمُحِبَّ لِمَنْ يُحِبُّ مُطِيعُ |
﴿ قل أطيعوا الله ﴾ فيما يأمركم به وينهاكم عنه، ﴿ والرسول ﴾ فيما يَسُنه لكم ويرغبكم فيه، ﴿ فإن تولوا ﴾ وأعرَضوا عنه، فقد تعرضوا لمقت الله وغضبه بكفرهم به ؛ ﴿ فإن الله لا يحب الكافرين ﴾ أي : لا يرضى عنهم ولا يقبل عليهم، وإنما لم يقل : لا يحبهم ؛ لقصد العموم، والدلالة على أن التولي عن الرسول كفر، وأنه بريء من محبة الله، وأن محبته مخصوصة بالمؤمنين.
رُوِيَ أن نصارى نجران قالوا : إنما نعظم المسيح ونعبده، حباً لله وتعظيماً لله. فقال تعالى :﴿ قل ﴾ يا محمد :﴿ إن كنتم تحبون الله ﴾ تعالى
﴿ فاتبعوني ﴾. . . الآية. ولما نزلت الآية قال عبد الله بن أُبَيّ لأصحابه : إن محمداً يجعل طاعته كطاعة الله، ويأمرنا أن نحبه كما أحبت النصارى عيسى، فنزل قوله تعالى :﴿ قل أطيعوا الله والرسول ﴾ الآية. وقال - عليه الصلاة والسلام - :" مَنْ أَطَاعَنِي فَقَدْ أَطَاعَ الله، ومن أَطَاعَ الإمامَ فَقدْ أطَاعَنِي، وَمَنْ عَصَانِي فَقَدْ عَصَى الله وَمَنْ عصَى الإمامَ فَقَدْ عَصَانِي ".
فالرسول - عليه الصلاة والسلام - حجاب الحضرة وبَوَّابُها، فمن أتى من بابه ؛ بمحبته واتباعه، دخل الحضرة، وسكن فيها، ومن تنكب عنها طُرِد وأُبعد، وفي ذلك يقول القائل :
وأنتَ بابُ الله، أيُّ امرِئ | وَافَاه مِنح غَيْرِكَ لاَ يدْخُلُ |
وقال في المباحث :
تَبِعَه العالِمُ في الأقــوال | والعابدُ الزاهدُ في الأفْعَالِ |
وفيهما الصُّوفيُّ في السِّباق | لكنَّه قد زاد في الأخْلاَقِ |
تَعْصِي الإلَه وَأَنْتَ تُظْهِرُ حُبَّهُ | هـذَا محَالٌ في الْقِيَاسِ بَدِيعُ |
لَوْ كانَ حُبُّكَ صَادِقاً لأَطَعْتَهُ | إنَّ الْمُحِبَّ لِمَنْ يُحِبُّ مُطِيعُ |
﴿ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى ءَادَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ ﴾ * ﴿ ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴾ * ﴿ إِذْ قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّراً فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ﴾ * ﴿ فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَآ أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وِإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ ﴾ * ﴿ فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنبَتَهَا نَبَاتاً حَسَناً وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقاً قَالَ يا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ إِنَّ اللًّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ ﴾
يقول الحقّ جلّ جلاله :﴿ إن الله اصطفى آدم ﴾ ؛ بالخلافة والرسالة، ﴿ ونوحاً ﴾ ؛ بالرسالة والنِّذَارة، ﴿ وآل إبراهيم ﴾ ؛ بالنبوة والرسالة، وهم : إسحاق، ويعقوب والأسباط، وإسماعيل، وولده سيد ولد آدم نبينا محمد صلى الله عليه وسلم بالنبوة والرسالة والمحبة الجامعة. ﴿ وآل عمران ﴾، وهم موسى وهارون - عليهما السلام - وهو عمران بن يصهر بن فاهث بن لاوى بن يعقوب، أو المراد بعمران : عمران بن أشهم بن أموي، من ولد سليمان عليه السلام، وهو والد مريم أم عيسى عليه السلام، وقيل : المراد عمران بن ماثان، أحد أجداد عمران والد مريم. وإنما خصّ هؤلاء ؛ لأن الأنبياء كلهم من نَسْلهم. وقيل : أراد إبراهيم وعمران أنفسهما. " وآل " مقحمة، كقوله :﴿ وَبَقِيَّةٌ مِّمَّا تَرَكَ ءَالُ مُوسَى وَءَالُ هَارُونَ ﴾ [ البَقَرَة : ٢٤٨ ] أي : موسى وهارون، فقد فضل الحقّ - جلّ جلاله - هؤلاء الأنبياء بالخصائص الجسمانية والروحانية ﴿ على العالمين ﴾ أي : كلاً على عَالَمِي زمانه، وبه استدلّ على فضلهم على الملائكة. حال كونهم ﴿ ذرية بعضها من بعض ﴾.
الإشارة :﴿ إن الله اصطفى آدم ونوحاً وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين ﴾، إنما اصطفى الحق تعالى هؤلاء الرسل ؛ لكونهم قد أظهروا الدين بعد انطماس أنواره، وجددوه بعد خمود أسراره، هم أئمة الهدى ومقتبس أنوار الاقتداء، فكل من كان على قدمهم من هذه الأمة المحمدية، بحيث يجدد للناس دينهم، ويُبين للناس معالم الطريق وطريق السلوك إلى عين التحقيق، فهو ممن اصطفاه الله على عالمي زمانه.
وفي الحديث :" إنَّ الله يَبْعَثُ عَلَى رَأسِ كُلِّ مِائَةِ سَنَةٍ مَنْ يُجَدِّدُ لهذه الأمة دِينَهَا ". قال الحريري :( مات الحسن البصري عشية جمعة - أي : بعد زوالها - فلما صلّى الناس الجمعة حملوه، فلم يترك الناس صلاة العصر في مسجد الجماعة بالبصرة منذ كان الإسلام، إلا يوم مات الحسن، واتبع الناس جنازته، فلم يحضر أحد في المسجد صلاة العصر، قال : وسمعت منادياً ينادي :﴿ إن الله اصطفى آدم ونوحاً وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين ﴾، واصطفى الحسن على أهل زمانه. قلت : والحسن البصري هو الذي أظهر علم التصوّف، وتكلم فيه وهذبه. قال في القوت : وهو إمامنا في هذا العلم - يعني علم التصوف.
حال كونهم ﴿ ذرية ﴾ متشعبة ﴿ بعضها من ﴾ ولد ﴿ بعض ﴾ في النسب والدين، ﴿ والله سميع ﴾ لأقوال العباد وأعمالهم، ﴿ عليم ﴾ بسرائرهم وعلانيتهم، فيصطفي من صفا قوله وعمله، وخلص سره، للرسالة والنبوة.
ثم تخلًّص لذكر نشأة مريم، توطئة لذكر ولدها، فقال : واذكر ﴿ إذ قالت امرأة عمران ﴾ وهي حنة بنت فاقوذا، جدة عيسى عليه السلام :﴿ ربِّ إني نذرت لك ما في بطني محرراً ﴾ لخدمة بيت المقدس، لا أشغله بشيء، أو مخلصاً للعبادة، ﴿ فتقبل مني إنك أنت السميع العليم ﴾، وكان المحرر عندهم، إذا حُرر، جُعل في الكنيسة يقوم عليها وينكسها، ولا يبرح منها حتى يبلغ الحلم، ثم يُخَيَّر، فإن أحبَّ أقام أو ذهب حيث شاء، ولم يكن يحرر إلا الغلمان ؛ لأن الجارية لا تصلح للخدمة ؛ لما يصيبها من الحيض، فحررت أمُّ مريمَ حمْلَها تَدْرِ ما هو.
فَلاَ عَمَلٌ مِنِّي إليه اكْتَسَبْتُه | سِوَى مَحْضِ فَضْلٍ، لا بشيءٍ يُعلَّلُ |
وقصة ذلك : أن زكريا وعمران تزوجا أختين، فتزوج زكريا أشياعَ بنت فاقوذا، وتزوج عمران حنة بنت فاقوذا، فكان عيسى ويحيى ابني الخالة، وكانت حنة عاقراً لا تلد، فبينما هي في ظل شجرة، بصُرت بطائر يطعم فرخاً. فتحركت لذلك نفسها للولد فدعت الله تعالى، وقالت : اللهم لك علي، إن رزقتني ولداً، أن أتصدق به على بيت المقدس، يكون من سدنته وخدمه، فحملت بمريم، فهلك عمران، وحنة حامل بمريم، ﴿ فلما وضعتها ﴾ أي : النذيرة، أو ما في بطنها، قالت :﴿ ربِّ إني وضعتها أنثى ﴾، قالت ذلك تحسّراً وتحزناً إلى ربها، لأنها كانت ترجو أن تلد ذكراً يصلح للخدمة، ولذلك نذرته.
قال تعالى :﴿ والله أعلم بما وضعت ﴾، تعظيماً لموضوعها وتنويهاً بشأنها، أو من كلامها - على قراءة التكلم - تسلية لنفسها، أي : ولعل لله فيه سرّاً، قال تعالى :﴿ وليس الذكر كالأنثى ﴾ أي : وليس الذكر الذي طلبت كالأنثى التي وهبت، أو من كلامها، أي : وليس الذكر والأنثى سيان فما نذرتُ. ثم قالت :﴿ وإني سميتها مريم ﴾ راجية أن يطابق اسمُها فعلها، فإن مريم في نعتهم في العابدة الخادمة، وكانت مريم أجمل النساء في وقتها وأفضلهن، وفي الحديث عنه صلى الله عليه وسلم :" حَسْبُكَ من نساءِ العالمين أربع : مريم بنت عمران، وآسية امرأة فرعون، وخديجة بنت خويلد، وفاطمة بنت محمد صلى الله عليه وسلم ".
ثم قالت حنة أم مريم :﴿ وإني أعيذها بك ﴾ أي : أحصنها بك ﴿ وذريتها من الشيطان الرجيم ﴾ أي : المرجوم بالشهب، أو المطرود، وفي الحديث :" مَا مِنْ مَوْلُودٍ يُولَدُ إلاَّ والشَّيْطَانُ يَمَسُّهُ حِينَ يُولَد فَيَسْتَهِلُّ مِنْ مَسِّهِ، إلاَّ مَرْيَمَ وابْنهَا "، ومعناه : أن الشيطان يطمع في إغواء كل مولود، بحيث يتأثر به، إلا مريم وابنها لمكان الاستعاذة، قلت : وكذا الأنبياء كلهم، لا يمسهم لمكان العصمة. والله أعلم.
فَلاَ عَمَلٌ مِنِّي إليه اكْتَسَبْتُه | سِوَى مَحْضِ فَضْلٍ، لا بشيءٍ يُعلَّلُ |
﴿ وأنبتها ﴾ الله ﴿ نباتاً حسناً ﴾ أي : رباها تربية حسنة، فكانت تشب في اليوم ما يشب المولود في العام، ﴿ وكفلها زكريا ﴾ أي : ضمها إليه وقام بأمرها. وقرأ عاصم - في رواية ابن عياش - بشدِّ الفاء، أي : وكفَّلها اللّهُ زكريا، أي : جعله كافلاً لها وحاضناً. رُوِيَ : أنه لما ضمها إليه بنى لها بيتاً، واسترضع لها، فلما بلغت، بنى لها محراباً في المسجد، وجعل بابه في وسطه لا يرقى إليها إلا بسلم، ولا يصعد إليها غيره، وكان يأتيها بطعامها وشرابها كل يوم، وكان إذا خرج أغلق عليها سبعة أبواب.
﴿ كلما دخل عليها زكريا المحراب ﴾ ؛ ليأتيها بطعامها، ﴿ وجد عندها رزقاً ﴾ أي : فاكهة في غير حينها، يجد فاكهة الشتاء في الصيف، وبالعكس، ﴿ قال يا مريم أنى لك هذا ﴾ أي : من أين لك هذا الرزق الآتي في غير أوانه، والأبواب مغلقة عليك ؟ ﴿ قالت هو من عند الله ﴾ فلا يُستبعد، قيل : تكلمت صغيرة، وقيل : لم ترضع ثدياً قط، خلاف ما تقدم، وكان رزقها ينزل عليها من الجنة.
ثم قالت :﴿ إن الله يرزق من يشاء بغير حساب ﴾ أي : بغير تقدير، أو بغير استحقاق تفضلاً منه، وقوله :﴿ كلما ﴾ : يقتضي التكرار، وفيه إشارة إلى أن زكريا لم يَذَرْ تَعهُّدهَا، ولم يعتمد على ما كان يجد عندها، بل كان يتفقد حالها كل وقت، لأن الكرامات للأولياء ليس مما يجب أن تدوم قطعاً، بل يجوز أن يظهر ذلك عليهم دائماً وألا يظهر، فما كان زكريا معتمداً على ذلك، فيترك تفقد حالها، ثم كان يجدد السؤال بقوله :
﴿ يا مريم أنى لك هذا ﴾، لجواز أن يكون الذي هو اليوم لا على الوجه الذي كان بالأمس، فإنه لا واجب على الله - سبحانه - قاله القشيري.
رَوى جابر بنُ عبد الله أن النبيّ صلى الله عليه وسلم أقام أياماً لم يطعم الطعام، فقام في منازل أزواجه، فلم يُصِبْ عندهم شيئاً، فأتى فاطمة فقال :" يا بُنيةُ، هل عندك شيء ؟ " فقالت : لا والله، بأبي أنت وأمي، فلما خرج النبيّ صلى الله عليه وسلم، بعثت إليها جارتُها برَغِيفَيْن وبِضْعَة لَحْم، فبعثت حَسَناً وحُسَيْناً إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، فجاء، فكشفت له الجفنة، فإذا الجفنة مملوءة خُبْزاً ولَحْماً، فَبُهِتَتْ، وعرفت أنَّهَا بَرَكَةٌ مِن اللهِ تعالى، فقال النبي صلى الله عليه وسلم :" من أين لك هذا يا بُنَيْةُ ؟ " قالت :﴿ من عند الله إن الله يرزق من يشاء بغير حساب ﴾، فحمد الله تعالى، وقال :" الحمْدُ للّهِ الَّذِي جَعلَك شَبِيهَةً بسَيِّدَةِ بَنِي إسْرَائِيل، فإنها كانت إذا رزقها الله شيئاً قالت :﴿ هو من عند الله إن الله يرزق من يشاء بغير حساب ﴾ ثم بعث النبيّ صلى الله عليه وسلم إلى عَليٍّ رضي الله عنه. ثم أكل أهلُ البيت كلهم، وجميع أزواج النبيّ صلى الله عليه وسلم، وبقيت الجَفْنة كما هي، فأَوْسَعَتْ علَى الجيران، وجعل الله فيها بركة وخيراً. انتهى.
فَلاَ عَمَلٌ مِنِّي إليه اكْتَسَبْتُه | سِوَى مَحْضِ فَضْلٍ، لا بشيءٍ يُعلَّلُ |
﴿ هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَآءِ ﴾ * ﴿ فَنَادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِّنَ اللَّهِ وَسَيِّداً وَحَصُوراً وَنَبِيّاً مِّنَ الصَّالِحِينَ ﴾ * ﴿ قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلاَمٌ وَقَدْ بَلَغَنِي الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ قَالَ كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَآءُ ﴾ * ﴿ قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِّي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ إِلاَّ رَمْزاً وَاذْكُر رَّبَّكَ كَثِيراً وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالإِبْكَارِ ﴾
قلت :﴿ هنالك ﴾ : اسم إِشارة للبعيد، والكاف : حرف خطاب، يطابق المخاطب في التذكير والتأنيث والإفراد والجمع في الغالب. والمحراب : مفعال، من الحرب، وهو الموضع المعد للعبادة، كالمسجد ونحوه، سمي به، لأنه محل محاربة الشيطان.
يقول الحقّ جلّ جلاله : مخبراً عن زكريا عليه السلام :﴿ هنالك ﴾ أي : في ذلك الوقت الذي رأى من الخوارق عند مريم، ﴿ دعا زكريا ربه ﴾، فدخل المحراب، وغلق الأبواب، وقال في مناجاته :﴿ ربّ هب لي من لدنك ذرية طيبة ﴾، كما وهبتها لحنَّة العجوز العاقر، ﴿ إنك سميع الدعاء ﴾ أي : مجيبه فاسمع دعائي يا مجيب.
وقال بعض الشعراء :
وَالمَرْءُ في مِيزانِه أتْباعُهُ | فاقْدرْ إِذَنُ قَدْرَ النبيّ مُحمَّد |
﴿ فنادته الملائكة ﴾، وهو جبريل، لأنه رئيس الملائكة، والعرب تنادي الرئيس بلفظ الجميع ؛ إذ لا يخلو من أصحاب، ﴿ وهو قائم يصلي في المحراب ﴾ رُوِيَ : أنه كان قائماً يصلّي في محرابه، فدخل عليه شاب، عليه ثياب بيض، ففزع منه، فناداه، وقال له :﴿ إن الله يبشرك بيحيى ﴾، سمي به ؛ لأن الله تعالى أحيا به عقم أمه، أو لأن الله تعالى أحيا قلبه بمعرفته، فلم يهم بمعصية قط، أو لأنه استشهد، والشهداء أحياء.
﴿ مصدقاً بكلمة من الله ﴾ وهو عيسى، لأنه كان بكلمة : كُنْ، من غير سبب عادي، و﴿ سيداً ﴾ أي : يسود قومه ويفُوقهم، و﴿ حصوراً ﴾، أي : مبالغاً في حبس النفس عن الشهوات والملاهي. رُوِيَ أنه مرَّ في صباه على صبيان، فدعوه إلى اللعب، فقال : ما للعب خلقت، أو عِنِّيناً، رُوِيَ :
" أنه كان له ذَكَرٌ كالقذاة " رواه ابن عباس. وقال في الأساس :( رجل حصور : لا يرغب في النساء ). قيل : كان ذلك فضيلة في تلك الشريعة، بخلاف شريعة نبينا محمد صلى الله عليه وفي الورتجبي : الحصور : الذي يملك ولا يُملك. وقال القشيري :﴿ حصوراً ﴾ : أي : مُعْتَقاً من الشهوات، مَكْفِيّاً أحكام البشرية، مع كونه من جملة البشر، ﴿ ونبيّاً من الصالحين ﴾ الذين صلحوا للنبوة وتأهلوا للحضرة.
وقال بعض الشعراء :
وَالمَرْءُ في مِيزانِه أتْباعُهُ | فاقْدرْ إِذَنُ قَدْرَ النبيّ مُحمَّد |
قال له جبريل :﴿ كذلك الله يفعل ما يشاء ﴾ من العجائب والخوارق، فيخلق الولد من العاقر والشيخ الفاني، أو الأمر كذلك، أي : كما أخبرتك، ثم استأنف :﴿ الله يفعل ما يشاء ﴾.
وقال بعض الشعراء :
وَالمَرْءُ في مِيزانِه أتْباعُهُ | فاقْدرْ إِذَنُ قَدْرَ النبيّ مُحمَّد |
وقال بعض الشعراء :
وَالمَرْءُ في مِيزانِه أتْباعُهُ | فاقْدرْ إِذَنُ قَدْرَ النبيّ مُحمَّد |
﴿ وَإِذْ قَالَتِ الْمَلاَئِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَآءِ الْعَالَمِينَ ﴾ * ﴿ يا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ ﴾
يقول الحقّ جلّ جلاله : واذكر ﴿ إذ قالت الملائكة ﴾ أي : جبريل، أو جماعة، كلمتها شفاهاً ؛ كرامةً لها. وفيه إثبات كرامة الأولياء، وليست نبية ؛ للإجماع على أنه تعالى لم يستنبئ امرأة ؛ لقوله :﴿ وَمَآ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِي إِلَيْهِمْ ﴾ [ الأنبيَاء : ٧ ] فقالوا لها :﴿ يا مريم إن الله اصطفاك ﴾ لخدمة بيته، ولم يقبل قبلك أنثى قط، وفرغك لعبادته، وأغناك برزقه عن رزق غيره، ﴿ وطهرك ﴾ من الأخلاق الذميمة، ومما يستقذر من النساء، ﴿ واصطفاك ﴾ ثانياً بهدايته لك، وتخصيصك بتكليم الملائكة، وبالبشارة بالولد من غير أب، فقد اصطفاك ﴿ على نساء العالمين ﴾.
وفي الحديث عنه صلى الله عليه وسلم :" كَمُلَ مِنَ الرِّجَالِ كَثِيرٌ ولَمْ يَكْمُلْ مِنَ النِّسَاءِ إلا مَرْيَمَ ابنةَ عِمْرَانَ، وآسِيَةَ بنت مزاحِم وخديجة بنت خويلد ". . . الحديث. قال ابن عزيز : أي : عالمي دهرها، كما فُضِّلَتْ خديجة وفاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم على نساء أمة محمد صلى الله عليه وسلم، بل قال أبو عمر : فاطمة فُضلت على جميع النساء، وهو واضح، لحديث : سيدة نساء أهل الجنة، لكن جاء في حديث آخر استثناء مريم. فالله أعلم.
وفي الاستيعاب : عن عمران بن حصين : أن النبيّ صلى الله عليه وسلم عاد فاطمة، وهي مريضة، فقال :" كيف تجدك يا بُنَيَّةُ ؟ " فقالت له : إني لوجعة، وإنه ليزيدني أني مالي طعام آكله، فقال :" يا بُنَيِّةُ، أما ترضين أنك سيدة نساء العالمين "، فقالت : يا أبت، فأين مريم بنت عمران ؟ قال :
" تلك سيدةُ نساءِ عالمها، وأنت سيدة عالمك، والله لقد زوجتك سيّداً في الدنيا والآخرة " ه. من المحشي.
يقول الحقّ جلّ جلاله : لحبيبه صلى الله عليه وسلم :﴿ ذلك ﴾ القصص الذي أطلعتك عليه، هو ﴿ من ﴾ أخبار ﴿ الغيب ﴾ الذي لم يكن لك به شعور، وما عرفته إلا بوحينا وإعلامنا، فلا يشك في نبوتك إلا مطموس أعمى، ﴿ و ﴾ أيضاً :﴿ ما كنت لديهم ﴾ أي : عندهم، حين كانوا ﴿ يلقون أقلامهم ﴾ لما اقترعوا، ﴿ أيهم يكفل مريم، وما كنت لديهم إذ يختصمون ﴾ في كفالتها، فتخبرهم عما شهدت، بل لم يكن شيء من ذلك، فتعين أن يكون وحياً حقيقيّاً، لأنه عليه الصلاة والسلام - كان أمياً لم يطالع شيئاً من كتب الأخبار، ولا جلس إلى من طالعهم من الأحبار، بإجماع الخاص والعام. والله تعالى أعلم.
الإشارة : اعلم أن الوحي على أربعة أقسام : وحي منام، ووحي إلهام، ووحي أحكام، ووحي إعلام، وشاركت الأولياءُ الأنبياءَ في ثلاثة : الإلهام والمنام والإعلام، إن كان بغير الملَك، ومعنى وحي إعلام : هو إطلاع الله النبيّ على أمور مغيبة، فإن كان بواسطة الملك، فهو مختص بالأنبياء، كما اختصت بوحي الأحكام، وأما إن كان بالإلهام أو بالمنام أو بالفهم عن الله، فيكون أيضاً للأولياء، إذ الروح إذا اتصفت وتطهرت من دنس الحس أطلعها الله على غيبه في الجملة، وأما التفصيل فلا يعلمه إلا علاّم الغيوب، والله أعلم.
﴿ إِذْ قَالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهاً فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ ﴾ * ﴿ وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَمِنَ الصَّالِحِينَ ﴾ * ﴿ قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكَ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ إِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ﴾ * ﴿ وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ ﴾ * ﴿ وَرَسُولاً إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ أَنِي أَخْلُقُ لَكُمْ مِّنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئ الأَكْمَهَ والأَبْرَصَ وَأُحْييِ الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذالِكَ لآيَةً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ﴾ * ﴿ وَمُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلأُحِلَّ لَكُم بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ فَاتَّقُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُونِ ﴾ * ﴿ إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ ﴾
قلت :﴿ إذ قالت ﴾ : بدل من ﴿ وإذ قالت ﴾ الأولى، ويبعد إبدالها من ﴿ إذ يختصمون ﴾، و﴿ المسيح ﴾ وما بعده : إخبار عن اسمه، أو ﴿ عيسى ﴾ : خبر عن مضمر، و﴿ ابن مريم ﴾ : صفته، و﴿ المسيح ﴾ : فعيل بمعنى مفعول، لأنه مُسِحَ من الأقذار، أي : طهر منها، أو مسح بالبركة، أو كان مسيح القدم، لا أخمص له، أو مسحه جبريل بجناحه من الشيطان. أو بمعنى فاعل ؛ لأنه كان يمسح المرضى فيبرؤون، أو يمسح عين الأعمى فيبصر، أو لأنه كان يسيح في الأرض ولا يقيم في مكان ؛ فتكون الميم زائدة.
وأما المسيح الدجّال فإنه ممسوح إحدى العينين، أو لأنه يطوف الأرض ويمسحها، إلا مكة والمدينة، والحاصل : أن عيسى مسيح الخير، والدجال مسيح الشر، ولذلك قيل : إن المسيح يقتل المسيح. و﴿ وجيهاً ﴾ : حال من كلمة ؛ لتخصيصه بالصفة.
يقول الحقّ جلّ جلاله :﴿ و ﴾ اذكر أيضاً ﴿ إذ قالت الملائكة ﴾ في بشارتهم لمريم :﴿ يا مريم إن الله يبشرك بكلمة منه ﴾، أي : بولد يتكوَّن بكلمة من الله ؛ كن فيكون، وقيل : إنما سمى كلمة ؛ لكونه مظهراً لكلمة التكوين، متحققاً ومتصرفاً بها. ولذلك كان يظهر عليه خوارق الأقدار أكثر من غيره من الأنبياء، ﴿ اسمه المسيح ﴾، واسمه ﴿ عيسى ابن مريم ﴾، وإنما قال :﴿ ابن مريم ﴾ والخطاب لها، تنبيهاً على أنه يولد من غير أب ؛ إذ الأولاد إنما تنسب لآبائها إلا إذا فقد الأب. ثم وصف الولد بقوله :﴿ وجيهاً في الدنيا والآخرة ﴾ أي : شريفاً في الدنيا بالنبوة والرسالة، وفي الآخرة بالشفاعة لمن تبعه. ويكون ﴿ من المقربين ﴾ إلى الله تعالى في الدارين.
قال صلى الله عليه وسلم :" من انقطع إلى اللّهِ كَفَاه الله كلَّ مُؤْنة، ورَزقه من حيثُ لا يحتسِبُ، ومن انقطعَ إلى الدنيا وكَلَه الله تعالى إليها ".
وقال بعضهم : صِدْقُ المجاهدة : الانقطاع إليه من كل شيء سواه. فالانقطاع إلى الله في الصغر يخدم على الإنسان في حال الكبر، ومعاصي الصغر تجر الوبال إلى الكبر، فكما أن عيسى عليه الصلاة والسلام كان يبرئ الأكمه والأبرص بإذن الله، كذلك من انقطع بكُلِّيته إلى الله أبرأ القلوبَ السقيمة بإذن الله، وأحيا موتى القلوب بذكر الله، وأخبر بالغيوب وما تدخره ضمائر القلوب، يدل على طاعة الله، ويدعو بحاله ومقاله إلى الله، يهدي الناس إلى الصراط المستقيم، ويوصل من اتبعه إلى حضرة النعيم. وبالله التوفيق، وهو الهادي إلى سواء الطريق.
﴿ ويكلم الناس ﴾ طفلاً ﴿ في المهد ﴾ على وجه خَرْق العادة في تبرئة أمه، ﴿ وكهلاً ﴾ إذا كمل عقله قبل أن يرفع، أو بعد الرفع والنزول، لأن الكهولة بعد الأربعين، والتحقيق : أنه بشرها بنبوة عيسى وكلامه في المهد، معجزةً، وفي الكهولة دعوة قبل الرفع وبعده، وما قاربَ يُعطي حكمه، وحال كونه ﴿ من الصالحين ﴾ لحضرة رب العالمين.
قال صلى الله عليه وسلم :" من انقطع إلى اللّهِ كَفَاه الله كلَّ مُؤْنة، ورَزقه من حيثُ لا يحتسِبُ، ومن انقطعَ إلى الدنيا وكَلَه الله تعالى إليها ".
وقال بعضهم : صِدْقُ المجاهدة : الانقطاع إليه من كل شيء سواه. فالانقطاع إلى الله في الصغر يخدم على الإنسان في حال الكبر، ومعاصي الصغر تجر الوبال إلى الكبر، فكما أن عيسى عليه الصلاة والسلام كان يبرئ الأكمه والأبرص بإذن الله، كذلك من انقطع بكُلِّيته إلى الله أبرأ القلوبَ السقيمة بإذن الله، وأحيا موتى القلوب بذكر الله، وأخبر بالغيوب وما تدخره ضمائر القلوب، يدل على طاعة الله، ويدعو بحاله ومقاله إلى الله، يهدي الناس إلى الصراط المستقيم، ويوصل من اتبعه إلى حضرة النعيم. وبالله التوفيق، وهو الهادي إلى سواء الطريق.
قال صلى الله عليه وسلم :" من انقطع إلى اللّهِ كَفَاه الله كلَّ مُؤْنة، ورَزقه من حيثُ لا يحتسِبُ، ومن انقطعَ إلى الدنيا وكَلَه الله تعالى إليها ".
وقال بعضهم : صِدْقُ المجاهدة : الانقطاع إليه من كل شيء سواه. فالانقطاع إلى الله في الصغر يخدم على الإنسان في حال الكبر، ومعاصي الصغر تجر الوبال إلى الكبر، فكما أن عيسى عليه الصلاة والسلام كان يبرئ الأكمه والأبرص بإذن الله، كذلك من انقطع بكُلِّيته إلى الله أبرأ القلوبَ السقيمة بإذن الله، وأحيا موتى القلوب بذكر الله، وأخبر بالغيوب وما تدخره ضمائر القلوب، يدل على طاعة الله، ويدعو بحاله ومقاله إلى الله، يهدي الناس إلى الصراط المستقيم، ويوصل من اتبعه إلى حضرة النعيم. وبالله التوفيق، وهو الهادي إلى سواء الطريق.
قال صلى الله عليه وسلم :" من انقطع إلى اللّهِ كَفَاه الله كلَّ مُؤْنة، ورَزقه من حيثُ لا يحتسِبُ، ومن انقطعَ إلى الدنيا وكَلَه الله تعالى إليها ".
وقال بعضهم : صِدْقُ المجاهدة : الانقطاع إليه من كل شيء سواه. فالانقطاع إلى الله في الصغر يخدم على الإنسان في حال الكبر، ومعاصي الصغر تجر الوبال إلى الكبر، فكما أن عيسى عليه الصلاة والسلام كان يبرئ الأكمه والأبرص بإذن الله، كذلك من انقطع بكُلِّيته إلى الله أبرأ القلوبَ السقيمة بإذن الله، وأحيا موتى القلوب بذكر الله، وأخبر بالغيوب وما تدخره ضمائر القلوب، يدل على طاعة الله، ويدعو بحاله ومقاله إلى الله، يهدي الناس إلى الصراط المستقيم، ويوصل من اتبعه إلى حضرة النعيم. وبالله التوفيق، وهو الهادي إلى سواء الطريق.
﴿ و ﴾ يجعله ﴿ رسولاً إلى بني إسرائيل ﴾. وكان أول رسل بني إسرائيل يوسف، وآخرهم عيسى - عليهما السلام -، وقال : عليه الصلاة والسلام :" بُعثْتُ على إِثْرِ ثمانية آلاف نبيّ، أربعة آلاف من بني إسرائيل ". فإذا بعث إليهم قال :﴿ أني قد جئتكم بآية من ربكم ﴾ أي : بأني قد جئتكم بآية من ربكم، قالوا : وما هي ؟ قال :﴿ أني أخلق لكم من الطين كهيئة الطير ﴾ ؛ كصورته، ﴿ فأنفخ فيه فيكون طيراً بإذن الله ﴾، وكان يخلق لهم صورة الخفاش، لأنها أكمل الطير ؛ لأن لها ثدياً وأسناناً وتحيض وتطير، فيكون أبلغ في المعجزة، وكان يطير ما دام الناس ينظرون إليه، فإذا غاب عنهم سقط ميتاً ؛ ليتميز فعل الحق من فعل الخلق.
ثم قال لهم : ولي معجزة أخرى ؛ أني ﴿ أبرئ الأكمه ﴾ الذي ولد أعمى، فأحرى غيره ﴿ والأبرص ﴾ الذي فيه وضح١. وخصهما ؛ لأنهما عاهتان معضلتان. وكان الغالب في زمن عيسى الطب، فأراهم المعجزة من جنس ذلك. رُوِي : أنه ربما اجتمع عليه من المرضى في اليوم الواحد ألوف، من أطاف منهم البلوغ أتاه٢، ومن لم يطق أتاه عيسى عليه السلام، وإنما كان يداويهم بالدعاء على شرط الإسلام.
﴿ وأحيي الموتى بإذن الله ﴾ لا بقدرتي دفعاً لتوهم الألوهية، فإن الإحياء ليس من طوق البشر. رُوِيَ أنه أحيا أربعة أنفس :( العازر )، وكان صديقاً له، فأرسلت أخته إلى عيسى أن أخاك العازر يموت، فأتاه من مسيرة ثلاثة أيام فوجده مات، فقال لأخته : انطلقي بنا إلى قبره، وهو في صخرة مطبقة، فدعا الله تعالى، فقام العازر يقطر ودكه٣، فعاش وولده له. و( ابن العجوز )، مُر بجنازته على عيسى عليه السلام فدعا الله تعالى، فجلس على سريره، ونزل عن أعناق الرجال، ولبس ثيابه، وحمل سريره على عنقه، ورجع إلى أهله، وبقي حتى وُلد له. و( ابنة العاشر )، كان يأخذ العشور، قيل له : أتحييها، وقد ماتت أمس ؟ فدعا الله تعالى، فعاشت وولد لها. و( سام بن نوح )، دعا باسم الله الأعظم، فخرج من قبره، وقد شاب نصف رأسه، فقال : أقامت الساعة ؟ قال : لا، لكني دعوت الله فأحياك، ما لي أرى الشيب في رأسك، ولم يكن في زمانك ؟ قال : سمعت الصيحة، فظننت أن الساعة قامت فشبت من هولها. قيل : كان يحيي الموتى ب ﴿ يا حي يا قيوم ﴾.
﴿ وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم ﴾، لما أبرأ الأكمه والأبرص قالوا : هذا سحر، أخبرنا بما نأكل وما ندخر ؟ فكان يُخبر الرجل بما يأكل في غدائه وعشائه. ورُوِيَ أنه لما كان في المكتب، كان يحدث الغلمان بما يصنع لهم آباؤهم من الطعام، فيقول للغلام : انطلق. . . غداء أهلك كذا وكذا، فيقول أهله : من أخبرك بهذا ؟ قال : عيسى، فحبسوا صبيانهم عنه، وقالوا : لا تلعبوا مع هذا الساحر، فجمعوهم في بيت، فجاء عيسى يطلبهم، فقالوا : ليسوا هاهنا، قال : ماذا في البيت ؟ قالوا : خنازير، قال عيسى : كذلك يكونون، ففتحوا الباب، فإذا هم خنازير، فهموا بقتله، فهربت به أمه إلى مصر. قاله السُّدي.
ثم قال لهم :﴿ إن في ذلك لآية لكم إن كنتم مؤمنين ﴾، فإن غير المؤمنين لا ينتفع بالمعجزات لعناده.
قال صلى الله عليه وسلم :" من انقطع إلى اللّهِ كَفَاه الله كلَّ مُؤْنة، ورَزقه من حيثُ لا يحتسِبُ، ومن انقطعَ إلى الدنيا وكَلَه الله تعالى إليها ".
وقال بعضهم : صِدْقُ المجاهدة : الانقطاع إليه من كل شيء سواه. فالانقطاع إلى الله في الصغر يخدم على الإنسان في حال الكبر، ومعاصي الصغر تجر الوبال إلى الكبر، فكما أن عيسى عليه الصلاة والسلام كان يبرئ الأكمه والأبرص بإذن الله، كذلك من انقطع بكُلِّيته إلى الله أبرأ القلوبَ السقيمة بإذن الله، وأحيا موتى القلوب بذكر الله، وأخبر بالغيوب وما تدخره ضمائر القلوب، يدل على طاعة الله، ويدعو بحاله ومقاله إلى الله، يهدي الناس إلى الصراط المستقيم، ويوصل من اتبعه إلى حضرة النعيم. وبالله التوفيق، وهو الهادي إلى سواء الطريق.
٢ من أطاق منهم البلوغ أتاه: أي بلوغ المريض المكان الذي فيه عيسى عليه السلام..
٣ الودك: دسم اللحم ودهنه..
﴿ ومصدقاً لما بين يدي من التوراة ﴾ أي : وجئتكم مصدقاً للتوراة، وشاهداً على صحتها، ﴿ ولأُحلَّ لكم بعض الذي حُرم عليكم ﴾ في شريعة موسى عليه السلام كالشحوم والثروب١ ولحم الإبل والعمل في السبت. وهذا يدل على أنه ناسخ للتوراة، ولا يخل بكونه مصدقاً له، كما لا يخل نسخ القرآن بعضه لبعض بصحته. فإن النسخ في الحقيقة : بيان لانتهاء العمل بذلك الحكم. ثم قال لهم :﴿ و ﴾ قد ﴿ جئتكم بآية ﴾ واضحة ﴿ من ربكم ﴾، قد شاهدتموها بأعينكم، فما بقي إلا عنادكم، ﴿ فاتقوا الله وأطيعون ﴾.
قال صلى الله عليه وسلم :" من انقطع إلى اللّهِ كَفَاه الله كلَّ مُؤْنة، ورَزقه من حيثُ لا يحتسِبُ، ومن انقطعَ إلى الدنيا وكَلَه الله تعالى إليها ".
وقال بعضهم : صِدْقُ المجاهدة : الانقطاع إليه من كل شيء سواه. فالانقطاع إلى الله في الصغر يخدم على الإنسان في حال الكبر، ومعاصي الصغر تجر الوبال إلى الكبر، فكما أن عيسى عليه الصلاة والسلام كان يبرئ الأكمه والأبرص بإذن الله، كذلك من انقطع بكُلِّيته إلى الله أبرأ القلوبَ السقيمة بإذن الله، وأحيا موتى القلوب بذكر الله، وأخبر بالغيوب وما تدخره ضمائر القلوب، يدل على طاعة الله، ويدعو بحاله ومقاله إلى الله، يهدي الناس إلى الصراط المستقيم، ويوصل من اتبعه إلى حضرة النعيم. وبالله التوفيق، وهو الهادي إلى سواء الطريق.
قال صلى الله عليه وسلم :" من انقطع إلى اللّهِ كَفَاه الله كلَّ مُؤْنة، ورَزقه من حيثُ لا يحتسِبُ، ومن انقطعَ إلى الدنيا وكَلَه الله تعالى إليها ".
وقال بعضهم : صِدْقُ المجاهدة : الانقطاع إليه من كل شيء سواه. فالانقطاع إلى الله في الصغر يخدم على الإنسان في حال الكبر، ومعاصي الصغر تجر الوبال إلى الكبر، فكما أن عيسى عليه الصلاة والسلام كان يبرئ الأكمه والأبرص بإذن الله، كذلك من انقطع بكُلِّيته إلى الله أبرأ القلوبَ السقيمة بإذن الله، وأحيا موتى القلوب بذكر الله، وأخبر بالغيوب وما تدخره ضمائر القلوب، يدل على طاعة الله، ويدعو بحاله ومقاله إلى الله، يهدي الناس إلى الصراط المستقيم، ويوصل من اتبعه إلى حضرة النعيم. وبالله التوفيق، وهو الهادي إلى سواء الطريق.
﴿ فَلَمَّآ أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ ﴾ * ﴿ رَبَّنَآ آمَنَّا بِمَآ أَنزَلَتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ ﴾ * ﴿ وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ ﴾
قلت :﴿ من أنصاري إلى الله ﴾ : الجار يتعلق بحال محذوفة، أي : ذاهباً إلى الله إلى نَصْر دينه، أو مُضيفاً نفسه إلى الله، أو ملتجئاً إلى الله، أو يتعلق ب ﴿ أنصاري ﴾ ؛ مضمِّناً معنى الإضافة، أي : من يضيف نفسه إلى الله في نصره. وحواري الرجل : خاصته، الذين يستعين بهم في نوائبه، وفي الحديث عنه - عليه الصلاة والسلام- :" لكلِّ نبي حَوَاري، وحَوارِيي، الزُّبَيْر ". وحواريو عيسى : أصحابه الذين نصروه، وسموا بذلك لخلوص نيتهم ونقاء سريرتهم. والحَوَرُ : البياض الخالص، وكل شيء بيَّضته فقد حوَّرْته، ويقال للبيضاء من النساء : حوارية. وقيل : كان الحواريون قًصَّارين١، يُحَوِّرُون الثياب، أي : يبيضونها، وقيل : كانوا ملوكاً يلبسون البياض.
يقول الحقّ جلّ جلاله :﴿ فلما أحس عيسى ﴾ من بني إسرائيل ﴿ الكفر ﴾، وتحققه تَحَقُّقَ ما يدرك بالحواس، بعدما بُعث إليهم، وأرادوا قتله، فرَّ منهم واستنصر عليهم، و﴿ قال من أنصاري ﴾ ملجئاً ﴿ إلى الله ﴾، أو ذاهباً إلى نصر دينه، ﴿ قال الحواريون نحن أنصار الله ﴾ أي : أنصار دينه،
﴿ آمنا بالله واشهد ﴾ علينا بأننا ﴿ مسلمون ﴾ ؛ لتشهد لنا يوم القيامة، حين يشهد الرسل لقومهم.
قال عطاء : سَلَمَتْ مريمُ عيسى إلى أعمال شتى، وآخر ما دفعته إلى الحواريين، وكانوا قصَّارين وصباغين، فأراد مُعلّم عيسى السفر، فقال لعيسى : عندي ثياب كثيرة مختلفة الألوان، وقد علمتك الحرفة فاصبغها، فطبخ جُبّاً، واحداً، وأدخل فيه جميع الثياب، وقال لها : كوني على ما أريد، فقدم الحواريُ، والثياب كلها في الجب، فلما رآها قال : قد أفسدتها، فأخرج عيسى ثوباً أصفر، وأحمر، وأخضر، إلى غير ذلك، فعجب الحواري، وعلم أنَّ ذلك من الله تعالى، ودعا الناس إليه، وآمنوا به، ونصروه، فهم الحواريون.
﴿ ومكر الله ﴾ بهم، أي : استدرجهم حتى قتلوا صاحبهم، ورُفع عيسى عليه السلام، فالمكر في الأصل : هو حيلة يجلب بها غيره إلى مضرة. ولا تُسند إلى الله إلا على حسب المقابلة والازدواج : كقوله :﴿ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ ﴾ النِّساء : ١٤٢ ]، وقوله :﴿ اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ ﴾ [ البقرة : ١٥ ]، ﴿ والله خير الماكرين ﴾. أي : أشدهم مكراً، وأقواهم على إيصال الضرر من حيث لا يحتسب، أو أفضل المجازين بالعقوبة ؛ لأنه لا أحد أقدر على ذلك منه.
تنبيه : قيل للجنيد رضي الله عنه : كيف رَضِيَ المكرَ لنفسه، وقد عابه على غيره ؟ قال : لا أدري، ولكن أنشدني فلان للطبرانية :
فديتُك قد جُبِلْتُ على هواكَ | ونفْسِي ما تَحِنُّ إلى سِوَاكَ |
أُحِبّك، لا بِبَعْضِي بل بكُلِّي | وإن لم يُبْقِ حُبُّكَ لي حِرَاكَا |
وَيَقْبُحُ مِنْ سِوَاكَ الْفِعْلُ عِنْدي | وتَفْعَلُهُ فَيَحْسُنُ مِنْكَ ذَاكَ |
قلت : وجه الشاهد في قوله :( وتفعله فيحسن منك ذاك )، ومضمن جوابه : أن فعل الله كله حسن في غاية الإتقان، لا عيب فيه ولا نقصان، كما قال صاحب العينية :
وَكلُّ قبِيح إنْ نَسَبْتَ لِحُسْنِهِ | أَتَتْكَ مَعَانِي الْحُسْنِ فِيهِ تُسَارعُ |
يُكَمِّلُ نُقصَانَ الْقَبِيحِ جَمَالُهُ | فَما ثَمَّ نُقْصَانٌ وَلاَ ثَمَّ بَاشِعُ |
﴿ إِذْ قَالَ اللَّهُ يا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ ﴾ * ﴿ فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُواْ فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيداً فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِّن نَّاصِرِينَ ﴾ *
﴿ وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ ﴾ * ﴿ ذالِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ ﴾
قلت :﴿ إذ قال ﴾ : ظرف لمقدر، أي : اذكر، أو وقع ذلك إذ قال، أو لمكروا، و﴿ متوفيك ﴾ أي : رافعك إليَّ وافياً تاماً، من قولهم : توفيت كذا واستوفيته : قبضته وافياً تامّاً، أو مميتك عن الشهوات العائقة عن العروج إلى عالم الملكوت، أو منيمك ؛ بدليل قوله تعالى :﴿ وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُم بِاللَّيْلِ ﴾ [ الأنعَام : ٦٠ ]، رُوِيَ أنه رُفع نائماً، والإجماع على أنه لم يمت، قال تعالى :﴿ وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم ﴾.
يقول الحقّ جلّ جلاله : اذكر ﴿ إذ قال الله ﴾ لعيسى عليه السلام لما أراد رفعه :﴿ يا عيسى إني متوفيك ﴾، أي : قابضك إليّ ببدنك تامّاً، ﴿ ورافعك إليَّ ﴾ أي : إلى محل كرامتي ومقر ملائكتي، ﴿ ومطهرك من الذين كفروا ﴾ أي : من مخالطة دنس كفرهم، ﴿ وجاعل الذين اتبعوك ﴾ ؛ ممن صدق بنبوتك من النصارى والمسلمين، وقال قتادة والشعبي والربيع : هم أهل الإسلام. ه. فوالله ما اتبعه من ادعاه ربا، فمن تبع دينه حقّاً جعل
﴿ فوق الذين كفروا ﴾ به من اليهود ﴿ إلى يوم القيامة ﴾ ؛ يغلبونهم بالحجة والسيف. وقد حقق الله فيهم هذا الأمر، فإن اليهود لم ترفع لهم راية قط، ولم يتفق لهم ملك ولا دولة إلى زمننا هذا١.
ثم قال تعالى :﴿ ثم إليَّ مرجعكم ﴾ بالبعث، ﴿ فأحكم بينكم فيما كنتم فيه تختلفون ﴾ من أمر الدين وأمر عيسى.
وقال القشيري : الإشارة فيه : إني متوفيك عنك وقابضك منك، ورافعك عن نعوت البشرية، ومطهرك عن إرادتك بالكلية، حتى تكون مصدقاً لنا بنا، ولا يكون لك من اختيارك شيء، وتكون إسبال التولي عليك قائماً، وبهذا الوصف كان يظهر على يده إحياء الموتى، وما كانت تلك الأحداث حاصلة إلا بالقدرة عليه. هـ. وقال الورتجبي : متوفيك عن رسم الحدوثية، ورافعك إليَّ بنعت الربوبية، ومطهرك عن شوائب البشرية. هـ.
وقال القشيري : الإشارة فيه : إني متوفيك عنك وقابضك منك، ورافعك عن نعوت البشرية، ومطهرك عن إرادتك بالكلية، حتى تكون مصدقاً لنا بنا، ولا يكون لك من اختيارك شيء، وتكون إسبال التولي عليك قائماً، وبهذا الوصف كان يظهر على يده إحياء الموتى، وما كانت تلك الأحداث حاصلة إلا بالقدرة عليه. هـ. وقال الورتجبي : متوفيك عن رسم الحدوثية، ورافعك إليَّ بنعت الربوبية، ومطهرك عن شوائب البشرية. هـ.
وقال القشيري : الإشارة فيه : إني متوفيك عنك وقابضك منك، ورافعك عن نعوت البشرية، ومطهرك عن إرادتك بالكلية، حتى تكون مصدقاً لنا بنا، ولا يكون لك من اختيارك شيء، وتكون إسبال التولي عليك قائماً، وبهذا الوصف كان يظهر على يده إحياء الموتى، وما كانت تلك الأحداث حاصلة إلا بالقدرة عليه. هـ. وقال الورتجبي : متوفيك عن رسم الحدوثية، ورافعك إليَّ بنعت الربوبية، ومطهرك عن شوائب البشرية. هـ.
﴿ ذلك ﴾ الذي ذكرت لك من نبأ عيسى ومريم ومن ذكر قبلهما، ﴿ نتلوه عليك من الآيات ﴾ أي : العلامات الدالة على صدقك، لأنها أخبار عن أمور لم تشاهدها ولم تقرأها في كتاب، بل هي من ﴿ الذكر الحكيم ﴾، وهو القرآن المبين.
وقال القشيري : الإشارة فيه : إني متوفيك عنك وقابضك منك، ورافعك عن نعوت البشرية، ومطهرك عن إرادتك بالكلية، حتى تكون مصدقاً لنا بنا، ولا يكون لك من اختيارك شيء، وتكون إسبال التولي عليك قائماً، وبهذا الوصف كان يظهر على يده إحياء الموتى، وما كانت تلك الأحداث حاصلة إلا بالقدرة عليه. هـ. وقال الورتجبي : متوفيك عن رسم الحدوثية، ورافعك إليَّ بنعت الربوبية، ومطهرك عن شوائب البشرية. هـ.
﴿ إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللَّهِ كَمَثَلِ ءَادَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ ﴾ * ﴿ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُنْ مِّن الْمُمْتَرِينَ ﴾
يقول الحقّ جلّ جلاله :﴿ إن مثل عيسى عند الله ﴾ أي : إن شأنه الغريب في كونه وجد من غير أب ﴿ كمثل آدم ﴾. ثم فسر شأن آدم فقال :
﴿ خلقه من تراب ﴾ أي : خلق قالبه من تراب، ﴿ ثم ﴾ نفخ فيه الروح، و﴿ قال له كن فيكون ﴾ أي : فكان، فشأنه أغرب من شأن عيسى، لأنه وجد من غير أب ولا أم، بخلاف عيسى عليه السلام، فلا يستغرب حاله ويتغالى فيه إلا من طبع الله على قلبه، فاستعجز القدرة الإلهية،
﴿ وكان الله على كل شيء مقتدراً ﴾.
وتأمل قضية السيد عيسى عليه السلام لمَّا لم ينشأ من نطفة أمشاجية، كيف غلبت روحانيته، حيث لم تجد ما يجذبها إلى الحضيض الطيني، فلم يلتفت إلى هذا العالم الظلماني أصلاً، وكذلك الأنبياء حيث طهروا من بقاياها في الأصالة، والأولياء حيث طهروها بالمجاهدة، كيف صارت أرواحهم لا تشتاق إلا إلى الأذكار والعلوم والأسرار، فانية في محبة الواحد القهار، حتى لحقت بوطنها، ورجعت إلى أصلها، محل المشاهدة والمكالمة والمناجاة والمساررة، هذا هو الحق من ربك فلا تكن من الممترين في إدراك الروح هذا المقام، إن لم يغلب عليها عالم الصلْصَال. والله - تعالى - أعلم.
وسبب نزول الآية : أنَّ وفد نجران قالوا للنبيّ صلى الله عليه وسلم : مالك تشتم صاحبنا، فتقول : إنه عبد ؟ قال : أجل، هو عبد الله ورسوله، وكلمته ألقاها إلى مريم العذراء البتول، فغضبوا، وقالوا : هل رأيت إنساناً قط من غير أب ؟ فإن كنت صادقاً فأرنا مثله. فنزلت :﴿ إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم ﴾. أي : فهو أعجب من عيسى، لكونه بلا واسطة أصلاً. رُوِيَ أن مريم حملت بعيسى وهي بنت ثلاث عشرة سنة، وأوحى الله إليه على رأس ثلاثين سنة، ورفعه إليه من بيت المقدس ليلة القدر، وهو ابن ثلاث وثلاثين سنة، وعاشت أمه بعد رفعه ست سنين.
قال عليه الصلاة والسلام :" أنا أولى الناس بعيسى ابن مريم ؛ لأنه لم يكن بيني وبينه نبيّ، فإنه نازل بأمتي وخليفتي فيهم، فإذا رأيتموه فاعرفوه، فإنه رجل مربوع إلى الحمرة والبياض، سبط الشعر، كأن شعره يقطر، وإن لم يصبه بلل، يدق الصليب، ويقتل الخنزير، ويفيض المال، وليسلكن الروحاء حاجّاً أو معتمراً، أو ليَثْنِينَّهما جميعاً، ويقاتل الناس على الإسلام، حتى يُهلك الله في زمانه الملل كلها، ويهلك الله في زمانه مسيح الضلالة، الكذاب الدجال، وتقع في الأرض الأمنة، حتى ترتفع الأسد مع الإبل، والنمر مع البقر، والذئاب مع الغنم، ويلعب الغلمان بالحيات، ويلبث في الأرض أربعين سنة، ثم يتزوج ويولد له ثم يتوفى، ويصلي المسلمون عليه ". ويدفنونه في حجرة النبي صلى الله عليه وسلم.
وتأمل قضية السيد عيسى عليه السلام لمَّا لم ينشأ من نطفة أمشاجية، كيف غلبت روحانيته، حيث لم تجد ما يجذبها إلى الحضيض الطيني، فلم يلتفت إلى هذا العالم الظلماني أصلاً، وكذلك الأنبياء حيث طهروا من بقاياها في الأصالة، والأولياء حيث طهروها بالمجاهدة، كيف صارت أرواحهم لا تشتاق إلا إلى الأذكار والعلوم والأسرار، فانية في محبة الواحد القهار، حتى لحقت بوطنها، ورجعت إلى أصلها، محل المشاهدة والمكالمة والمناجاة والمساررة، هذا هو الحق من ربك فلا تكن من الممترين في إدراك الروح هذا المقام، إن لم يغلب عليها عالم الصلْصَال. والله - تعالى - أعلم.
﴿ فَمَنْ حَآجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَآءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَآءَكُمْ وَنِسَآءَنَا وَنِسَآءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ ﴾ * ﴿ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلاَّ اللَّهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴾ * ﴿ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ ﴾
قلت :﴿ أصل ﴾ ﴿ تعالوا ﴾ : تَعالَيُوا، على وزن تفاعلوا، من العلو، فقلبت الياء ألفاً ؛ لتحركها، ثم حذفت، ومن قرأ بالضم نقل، وأصل معناها : ارتفع، ثم أطلق على الأمر بالمجيء. والابتهال : التضرّع والمبالغة في الدعاء.
يقول الحقّ جلّ جلاله :﴿ فمن ﴾ خاصمك يا محمد في شأن عيسى عليه السلام، وكان الذي خاصم في ذلك السيد والعاقب، لما قدموا مع نصارى نجران على النبيّ صلى الله عليه وسلم، قال لهما النبيّ صلى الله عليه وسلم :" أسلما "، قالا : قد أسلمنا قبلك، قال :" كذبتما، يمنعكما من الإسلام دعاؤكما عيسى لله ولداً، وعبادتكما الصليب، وأكلكما الخنزير "، قالا : إن لم يكن عيسى ولداً لله فمن أبوه ؟ فقال لهما النبيّ صلى الله عليه وسلم : ألستم تعلمون أنه لا يكون ولد إلا وهو يشبه أباه ؟ قالوا : بلى، قال : ألستم تعلمون أن ربنا حي لا يموت، وأن عيسى يأتي عليه الفناء ؟ قالوا : بلى، قال : ألستم تعلمون أن ربنا قيِّم كل شيء، ويحفظه، ويرزقه ؟ قالوا : بلى، قال : فهل ملك عيسى شيئاً من ذلك ؟ فقالوا : لا. قال : ألستم تعلمون أن الله لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء ؟ قالوا : بلى، قال : فهل يعلم عيسى من ذلك إلا ما عُلِّم ؟ قالوا : لا. قال : فإن ربنا صوَّر عيسى في الرحم كيف شاء، وربنا لا يأكل ولا يشرب ولا يُحدث، قالوا : بلى. قال : ألستم تعلمون أن عيسى حملته أمه كما تحمل المرأة ثم وضعته كما تضع المرأة ولدها، ثم غُذِّي كما يُغَذّى الصبي، ثم كان يطعم ويشرب ويحدث ؟ قالوا : بلى. قال : كيف يكون هذا كما زعمتم ؟ فسكتوا. . . فأنزل فيهم السورة إلى هنا.
فقال الحقّ لنبيه - عليه الصلاة والسلام - :﴿ فمن حاجّك فيه ﴾ أي : في عيسى من النصارى، ﴿ من بعد ما جاءك من العلم ﴾ بعبوديته، ﴿ فقل ﴾ لهم :﴿ تعالوا ﴾ نَتَلاَعَنُ، أي : نلعن الكاذبَ منا ؛ ﴿ ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم ﴾ أي : يدعو كل واحد منا نفسه وأعزّة أهله وألصقهم بقلبه إلى المباهلة، وإنما قدَّمهم على النفس ؛ لأن الرجل يخاطر بنفسه دونهم، فكان تقديمهم أبلغ في الابتهال، ﴿ ثم نبتهل ﴾، أي نجهد في الدعاء على الكاذب، ﴿ فنجعل لعنة الله على الكاذبين ﴾.
فلما قرأ النبيّ صلى الله عليه وسلم هذه الآية على وفد نجران، ودعاهم إلى المباهلة، قالوا : حتى نرجع وننظر في أمرنا، فقالوا للعاقب - وكان ذا رأيهم - : ما ترى ؟ فقال : والله لقد عرفتم يا معشر النصارى أن محمداً نبيّ مرسل، ولقد جاءكم بالفَصْل من أمر صاحبكم، والله ما لاعن قومٌ قط نبيّاً فعاش كبيرُهم، ولا نبت صغيرُهم، ولئن فعلتم ذلك لتهلكن، فوادِعُوا الرَّجُلَ : وانصرفوا، فأتوه وهو محتضنٌ الحسن آخذ بيد الحسين، وفاطمةُ تمشي خلفه، وعَلِيّ خلفها، وهو يقول لهم :" إِذَا دَعَوْتُ فَأمِّنُوا "، فقال الأسقُف : يا معشر النصارى، إني لأرى وجُوهاً لو سألوا الله أن يُزيل جبلاً من مكانه لأزاله، فلا تتباهلوا فتهلكوا جميعاً إلى يوم القيامة. فقالوا : يا أبا القاسم، نرى ألا نلاعنك، فقال النبيّ صلى لله عليه وسلم : أسْلِمُوا يَكُنْ لكم ما للمسلمين وعليكم ما عليهم، فأَبَوا، فقال : إني أُنابذكم، فقالوا : ما لنا بحرب العرب طاقة، ولكنا نصالحك على ألا تغزونا ولا تَرُدَّنا عن ديننا، على أن نؤدي إليك في كل عام ألفَيْ حلة، ألفاً في صَفَر، وألفاً في رجب، وثلاثين درعاً من حديد. فصالحهم النبيّ صلى الله عليه وسلم على ذلك، فقال النبيّ :" والذي نفسي بيده لو تلاعنوا لمُسِخُوا قِرَدَة، وخَنَازِيرَ، ولأضْرَمَ عَلَيْهِمْ الوَادِي نَاراً ولاستأصَل اللّهُ نَجْرَان وأهْلَهُ، ولَمَا حَالَ الحَوْلُ على النَّصَارى كُلِّهِْ حَتى هَلكوا ".
﴿ قُلْ يا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلِمَةٍ سَوَآءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللَّهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ ﴾
قلت :﴿ سواء ﴾ : مصدر، نعت للكلمة، والمصادر لا تثنى ولا تجمع ولا تؤنث، فإذا فتحت السين مددت، وإذا ضمت أو كسرت قصرت، كقوله :﴿ مكاناً سوى ﴾ أي : مستوٍ. وسواء كل شيء : وسطه، قال تعالى :﴿ فَرَءاهُ فِي سَوَآءِ الْجَحِيمِ ﴾ [ الصَّافات : ٥٥ ]، أي : وسطه.
يقول الحقّ جلّ جلاله :﴿ قل ﴾ يا محمد :﴿ يا أهل الكتاب ﴾ اليهود والنصارى، ﴿ تعالوا ﴾ : هلموا ﴿ إلى كلمة سواء ﴾ أي : عدل مستوية، ﴿ بيننا وبينكم ﴾ ؛ لا يختلف فيها الرسل والكتب والأمم، هي ﴿ ألا نعبد إلا الله ﴾ أي : نوحده بالعبادة، ونقر له بالوحدانية، ﴿ ولا نشرك به شيئاً ﴾ أي : لا نجعل غيره شريكاً له في استحقاق العبادة، ﴿ ولا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله ﴾ أي : لا نقول عزير ابن الله، ولا المسيح ابن الله، ولا نطيع الأحبار فيما أحدثوا من التحريم والتحليل، لأنهم بشر مثلنا.
ولمّا نزل قوله تعالى :﴿ اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللَّهِ. . . ﴾ [ التّوبَة : ٣١ ] قال عدي بن حاتم : ما كُنَّا نعبدهم يا رسول الله، قال :" أَلّيْس كانُوا يُحِلُّون لَكُمْ ويُحرِّمون، فتأخُذُون بقَوْلِهم ؟ قال : بلى، قال : هُوَ ذَاكَ " ﴿ فإن تولوا ﴾ وأعرضوا عن التوحيد ﴿ فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون ﴾، فقد لزمتكم الحجة، فاعترفوا بأنا مسلمون دونكم، وأنتم كافرون بما نطقت به الكتبُ وتواطأت عليه الرسل.
تنبيه : انظر ما في هذه الآية من المبالغة وحسن التدرج في الاحتجاج، بيّن أولاً أحوال عيسى وما تطاور عليه من الأطوار المنافية للألوهية، ثم ذكر ما يحل عقدتهم ويزيح شبهتهم، فلما رأى عنادهم ولجاجهم دعاهم إلى المباهلة بنوع من الإعجاز، ثم لمّا أعرضوا عنها وانقادوا بعض الانقياد، عاد عليهم بالإرشاد، وسلك طريقاً أسهل وألزم، بأن دعاهم إلى ما وافق عليه عيسى وسائر الأنبياء والكتب، ثم لمّا لم يُجْدِ ذلك فيهم شيئاً، وعلم أن الآيات والنذر لا تغني عنهم شيئاً أعرض عنهم، وقال :﴿ قولوا اشهدوا بأنا مسلمون ﴾. قاله البيضاوي.
الإشارة : الطرق كثيرة والمقصد واحد، وهو التوحيد الخاص، أعني مقام الفناء والبقاء. فالداعُون إلى الله كلهم متفقون على الدعوة إلى هذا المقصد، فكل طريق لا توصل إلى هذا المقصد لا عبرة بها، وكل داع لا يُبلغ إلى هذا الجمال فهو دجال، فإنْ رضي بتعظيم الناس، ولم يَبْنِ طريقه على الأساس، فليس لصاحبه إلا الإفلاس، وكل مَن أطاع المخلوق في معصية الله فقد اتخذه ربّاً من دون الله، وكل مَن تولى عن طريق الإرشاد فقد استوجب لنفسه من الطرد والبعاد، فيقول له الواصلون أو السائرون :﴿ فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون ﴾. وبالله التوفيق، وهو الهادي إلى سواء الطريق.
﴿ يا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَآجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَآ أُنزِلَتِ التَّورَاةُ وَالإنْجِيلُ إِلاَّ مِن بَعْدِهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ ﴾ * ﴿ هاأَنْتُمْ هَؤُلاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُم بِهِ عِلمٌ فَلِمَ تُحَآجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ ﴾ * ﴿ مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيّاً وَلاَ نَصْرَانِيّاً وَلَكِن كَانَ حَنِيفاً مُّسْلِماً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ﴾ * ﴿ إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ ﴾
يقول الحقّ جلّ جلاله :﴿ يا أهل الكتاب لم تُحاجون في إبراهيم ﴾، ويدعي كل فريق أنه كان على دينه، ﴿ وما أنزلت التوراة والإنجيل إلا من بعده ﴾، فكيف يكون يهوديّاً، ودينكم إنما حدث بعد إبراهيم بألف سنة ؟ ! وكيف يكون نصرانيّاً، ودين النصرانية إنما ظهر بعد إبراهيم بألفي سنة ؟ ! ﴿ أفلا تعقلون ﴾ فتدعون المحال.
﴿ هاأنتم ﴾ يا ﴿ هؤلاء ﴾ الحمقى ﴿ حاججتم فيما لكم به علم ﴾ من أمر محمد - عليه الصلاة والسلام - ونبوته، مما وجدتموه في التوراة والإنجيل، فأنكرتموه عناداً وحسداً، فَلِمَ تجادلون فيما لا علم لكم به، ولا ذكر في كتابكم من شأن إبراهيم ؟ ﴿ والله يعلم ﴾ ما خاصمتم فيه، ﴿ وأنتم لا تعلمون ﴾، بل أنتم جاهلون.
ثم صرّح بتكذيب الفريقين فقال :﴿ ما كان إبراهيم يهوديّاً ولا نصرانيّاً ولكن كان حنيفاً ﴾ مائلاً عن العقائد الزائفة، ﴿ مسلماً ﴾ منقاداً لأحكام ربه. وليس المراد أنه كان على ملة الإسلام، وإلا لكان مشترك الإلزام، لأن دين الإسلام مؤخر أيضاً، فكان إبراهيم إمام الموحدين، ﴿ وما كان من المشركين ﴾ كما عليه اليهود والنصارى والمشركون. ففيه تعريض بهم، ورد لادعائهم أنهم على ملته.
﴿ وَدَّت طَّآئِفَةٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَمَا يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ ﴾ * ﴿ يا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ ﴾ * ﴿ يا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾
قلت :﴿ لو ﴾ : مصدرية، أي : تمنوا إضلالكم.
يقول الحقّ جلّ جلاله : لبعض المسلمين - وهم حذيفة وعمار ومعاذ - دعاهم اليهود إلى دينهم وطمعوا فيهم :﴿ ودت طائفة ﴾ أي : تمنت طائفة ﴿ من أهل الكتاب لو يُضلونكم ﴾ أي : يفتنونكم عن دينكم، ويتلفونكم عن طريق الحق، ﴿ وما يُضلون إلا أنفسهم ﴾ ؛ لأن المسلمين لا يقبلون ذلك منهم، فرجع الضلال عليهم، وعاد وباله إليهم، وتضاعف عذابه عليهم، ﴿ وما يشعرون ﴾ أن وباله راجع إليهم.
﴿ وأنتم تشهدون ﴾ أنها من عند الله، وأنه نبيّ الله، وهو منعوت عندكم في التوراة والإنجيل، والمراد أحبارهم، أو تشهدون أنه نبيّ الله بالمعجزات الواضحات.
﴿ وَقَالَتْ طَّآئِفَةٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُواْ بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُواْ آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ﴾
قال الحسن والسدي : تواطأ اثنا عشر رجلاً من يهود خيبر - يعني من أحبارهم - وقال بعضهم لبعض : ادخلوا في دين محمد أول النهار باللسان لا بالاعتقاد، واكفروا به آخره، وقولوا : نظرنا في كتبنا، وشاورنا علماءنا، فوجدنا محمداً ليس بذلك، وظهر لنا كذبه، وإنما نفعل ذلك حتى نشكك أصحابه. ه. فحذَّر الله المسلمين من قولهم، فقال جلّ جلاله :﴿ وقالت طائفة من أهل الكتاب ﴾ يعني : أحبارهم :﴿ آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا ﴾ وأظهروا الدخول في دينهم، ﴿ وجه النهار واكفروا آخره ﴾ وقولوا : نظرنا في كتبنا، وشاورنا علماءنا، فلم نجد محمداً بالنعت الذي في التوراة، لعل أصحابه يشكون فيه - لعنهم الله وأضلّ سعيهم.
وقيل : نزلت في شأن الكعبة، فإنَّ كعب بن الأشرف ومالك بن الصيف - من اليهود - قالا لأصحابهما : صلّوا معهم إلى الكعبة أول النهار، ثم صلّوا إلى الصخرة آخره، لعلهم يقولون : هم أعلم منا، وقد رجعوا، فيرجعون، ففضحهم الله وأبطل حيلهم الواهية.
الإشارة : ترى كثيراً من الناس يدخلون في طريق القوم، ثم تثقل عليهم أعباؤها، فيخرجون منها ؛ إما لضعفهم عن حملها، أو لكونهم دخلوا مختبرين لها، أو على حرف أو حيلة لغيرهم، فإذا رجع أحد منهم قال الناس : لو كانت صحيحة ما رجع فلان عنها، ويصدون الناس عن الدخول فيها والدوام عليها، وهذه نزعة إسرائيلية، قالوا : آمنوا وجه النهار واكفروا آخره لعلهم يرجعون وقد قال عليه الصلاة والسلام :" لتَسْلُكن سَنَنَ مَنْ قَبْلكم شِبْراً، وذِرَاعاً بذرَاع، حتى لَوْ دَخلُوا جُحْر ضَبٍّ لدخلْتُموه، قالوا : اليَهُود والنًّصَارَى ؟ قال : نعم، فَمنْ إذن ". وبالله التوفيق.
﴿ وَلاَ تُؤْمِنُواْ إِلاَّ لِمَن تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ أَن يُؤْتَى أَحَدٌ مِّثْلَ مَآ أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَآجُّوكُمْ عِندَ رَبِّكُمْ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَآءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ﴾ * ﴿ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَآءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ ﴾
قلت : يحتمل أن يكون قوله :﴿ أن يؤتى ﴾ : مفعولاً ب ﴿ تؤمنوا ﴾، و﴿ قل إن الهدى هدى الله ﴾ : اعترض، واللام في " لمن " صلة، ﴿ أو يحاجوكم ﴾ : عطف على ﴿ يؤتى ﴾، والتقدير : ولا تصدقوا أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم، إلا من كان على دينكم، ولا تصدقوا أن يحاجوكم عند ربكم، بل أنتم تحاجون غيركم. فردَّ الله عليهم ﴿ قل إن الهدى هدى الله ﴾، و﴿ إن الفضل بيد الله ﴾. ويحتمل أن يكون قوله :﴿ أن يؤتى ﴾ مفعولاً لأجله، والعامل فيه محذوف، التقدير : أدبَّرتم ما دبرتم كراهية أن يؤتى أحد ما أوتيتم، ومخافة أن يحاجوكم عند ربكم ؟.
يقول الحقّ جلّ جلاله : حاكياً عن اليهود :﴿ و ﴾ قالوا ﴿ لا تؤمنوا ﴾ أي : لا تقروا أو تصدقوا ﴿ أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم ﴾ من العلم والحكمة وفلق البحر وسائر الفضائل، ﴿ إلا لمن تبع ﴾ دين اليهودية، وكان على ﴿ دينكم ﴾، ولا تؤمنوا أن ﴿ يحاجوكم عند ربكم ﴾ ؛ لأنكم أصح ديناً منهم. قال الحقّ جلّ جلاله :﴿ قل ﴾ لهم :﴿ إن الهدى هدى الله ﴾ يهدي به من يشاء، و﴿ إن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء ﴾.
يقول الحقّ جلّ جلاله : وقالوا : لا تصدقوا ولا تذعنوا ﴿ إلا لمن تبع دينكم ﴾ وكان من جلدتكم، فإن النبوة خاصة بكم. فكذبهم الحق بقوله :
﴿ قل إن الهدى هدى الله ﴾، يخص بها من يشاء من عباده، فكيف تحصرونها فيكم ؟ لأجل ﴿ أن يُؤْتَى أحدٌ مثل ما أوتيتم ﴾ قلتم ما قلتم، ودبرتم ما دبرتم، حسداً وبغياً، ﴿ أو ﴾ خوفاً أن ﴿ يحاجوكم عند ربكم ﴾، يغلبوكم بالحجة لظهور دينهم، ﴿ قل ﴾ يا محمد :﴿ إن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء ﴾ ؛ فلا ينفع في رده حيلة ولا خدع.
أو يقول الحقّ جلّ جلاله للمؤمنين، تثبيتاً لهم وتشجيعاً لقلوبهم : ولا تصدقوا يا معشر المؤمنين أن يعطي أحد مثل ما أوتيتم من الفضل والدين القويم إلا من تبع دينكم الحق، وجاء به من عند الحق، ولا تصدقوا ﴿ أن يحاجوكم ﴾ في دينكم ﴿ عند ربكم ﴾ أو يقدر أحد على ذلك، فإن الهدى هدى الله والفضل بيد الله، ﴿ يؤتيه من يشاء والله واسع ﴾ الفضل والكرم، ﴿ عليم ﴾ بمن يستحق الخصوصية والفضل.
ومن شَهِدَ الحَقِيقَةَ فَلْيَصُنْهَا | وَإِلاَّ سَوْفَ يُقْتلُ بالسَّنَانِ |
كَحَلاَّجِ الْمَحَبَّةِ إِذْ تَبَدَّتْ | لَهُ شَمْسُ الْحَقِيقَةِ بالتَّدَاني |
وقال آخر :
بالسِّرِّ إنْ بَاحُوا تُبَاحُ دِمَاؤُهُمْ | وكَذَا دِماءُ البَائِحينَ تُبَاحُ |
ومن شَهِدَ الحَقِيقَةَ فَلْيَصُنْهَا | وَإِلاَّ سَوْفَ يُقْتلُ بالسَّنَانِ |
كَحَلاَّجِ الْمَحَبَّةِ إِذْ تَبَدَّتْ | لَهُ شَمْسُ الْحَقِيقَةِ بالتَّدَاني |
وقال آخر :
بالسِّرِّ إنْ بَاحُوا تُبَاحُ دِمَاؤُهُمْ | وكَذَا دِماءُ البَائِحينَ تُبَاحُ |
﴿ وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِن تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَّنْ إِن تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لاَّ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلاَّ مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَآئِماً ذالِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ﴾ * ﴿ بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ ﴾
قلت : الباء في ﴿ بقنطار ﴾، بمعنى على، و﴿ يؤده ﴾ : جواب الشرط مجزوم بحذف الياء، ومن قرأ بإسكان الضمير فلأنه أقامه مقام المحذوف، فجزمه عوضاً عنه، وقال الفراء : مذهب بعض العرب : يسكنون الهاء إذا تحرك ما قبلها، يقولون : ضربته ضرباً شديداً.
يقول الحقّ جلّ جلاله :﴿ ومن أهل الكتاب ﴾ من أسلم وآمن فصار من أهل الإيمان ﴿ إن تأمنه ﴾ على ﴿ قنطار ﴾ من المال أو أكثر أداه إليك، ولم يخن منه شيئاً. وفي الحديث :" من ائتمن على أمانة فأداها، ولو شاء لم يؤدها، زوجه الله من الحور العين ما شاء ". ﴿ ومنهم ﴾ من بقي على دينه من أهل الخيانة والخسران، ﴿ إن تأمنه ﴾ على ﴿ دينار ﴾ فأقل ﴿ لم يؤده إليك إلا ما دمت عليه قائماً ﴾ على رأسه، مبالغاً في مطالبته. نزلت في عبد الله بن سلام، استودعه قرشي ألفاً ومائتي أوقية ذهباً، فأداها إليه، وفي فنحاص بن عازوراء اليهودي، استودعه قرشي آخر ديناراً، فجحده. وقيل : في النصارى واليهود، فإن النصارى : الغالب عليهم الأمانة، واليهود الغالب عليهم الخيانة.
وذلك الاستحلال بسبب أنهم ﴿ قالوا ليس علينا في الأميين سبيل ﴾ أي : ليس علينا في شأن من ليسوا أهل كتاب، ولم يكونوا على ديننا، حرج في أخذ مالهم وجحدها، ولا إثم، ﴿ ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون ﴾ أنهم كاذبون ؛ لأنهم استحلوا ظلم من خالفهم، وقالوا : لم يجعل لهم في التوراة حرمة.
وقيل : عَاملَ اليهودُ رجلاً من قريش، فلما أسلموا تقاضوهم، فقالوا : سقط حقكم حيث تركتم دينكم. وقال صلى الله عليه وسلم :" كَذَبَ أَعْدَاءُ اللّهِ، مَا مِنْ شَيءٍ فِي الجاهِلية إلاّ وَهُو تَحْتَ قَدَمَي، إِلاَّ الأمَانَةَ فإِنهَا مُؤداةٌ إلى الْبَر والفَاجِر ".
﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً أُوْلَئِكَ لاَ خَلاَقَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلاَ يَنظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلاَ يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾
يقول الحقّ جلّ جلاله :﴿ إن الذين يشترون بعهد الله ﴾ أي : يستبدلون بالوفاء بعهد الله كالإيمان بالرسول - عليه الصلاة والسلام - الذي أخذ على بني إسرائيل في التوراة وبيان صفته، وأداء الأمانة، فكتموا ذلك واستبدلوا به ﴿ ثمناً قليلاً ﴾ ؛ حطاماً فانياً من الدنيا، كانوا يأخذونه من سفلتهم، فخافوا إن بيَّنوا ذلك زال ذلك عنه، وكذلك الأيمان التي أخذها الله عليهم لئن أدركوا محمداً صلى الله عليه وسلم ليؤمنن به ولينصرنه، فنقضوها، خوفاً من زوال رئاستهم، فاستبدلوا بالوفاء بها ثمناً فانياً، ﴿ أولئك لا خلاق لهم ﴾ أي : لا نصيب لهم، ﴿ في الآخرة، ولا يكلمهم الله ﴾ بما يسرهم، أو بشيء أصلاً، وإنما الملائكة تسألهم، ﴿ ولا تنظر إليهم يوم القيامة ﴾ نظرة رحمة، بل يعرض عنهم، غضباً عليهم وهواناً بهم، ﴿ ولا يزكيهم ﴾ ؛ لا يطهرهم من ذنوبهم، أو لا يُثني عليهم، ﴿ ولهم عذاب أليم ﴾ أي : موجع.
قال عكرمة : نزلت في أبي رافع وكنانة بن أبي الحقيق وحُيي بن أخطب، وغيرهم من رؤساء اليهود، كتموا ما عهد الله إليهم في التوراة في شأن النبيّ صلى الله عليه وسلم من بيان صفته، فكتموا ذلك وكتبوا غيره، وحلفوا أنه من عند الله، لئلا يفوتهم الرشا من أتباعهم.
وقال الكلبي : إن ناساً من علماء اليهود كانوا ذا حظ من علم التوراة، فأصابتهم سنة، فأتوا كعب بن الأشرف يستميرونه، أي : يطلبون منه الميرة - وهو الطعام -، فقال لهم كعب : هل تعلمون أن هذا الرجل رسول في كتابكم ؟ قالوا : نعم، أو ما تعلمه أنت ؟ قال : لا، قالوا : فإنا نشهد أنه عبد الله ورسوله، قال كعب : لقد قدمتم عليَّ، وأنا أريد أن أميركم وأكسوكم، فَحَرَمَكُم الله خيراً كثيراً، قالوا : فإنه شُبه لنا، فرُوَيْداً حتى نلقاه، فانطلقوا، فكتبوا صفة غير صفته، ثم أتوا نبيّ الله - عليه الصلاة والسلام - فكلموه، ثم رجعوا إلى كعب، فقالوا : قد كنا نرى أنه رسول الله، فأتيناه فإذا هو ليس بالنعت الذي نُعت لنا، وأخرجوا الذي كتبوه، ففرح كعب، ومارهم. فنزلت الآية. قلت : انظر الطمع، وما يصنع بصاحبه ! والعياذ بالله.
وقيل : نزلت في رجل أقام سلعته في السوق، وحلف لقد أعطي فيها كذا وكذا، وقيل : نزلت في الأشعث بن قيس، كانت بينه وبين رجل خصومة، فتوجهت اليمين على الرجل، فأراد أن يحلف. والله تعالى أعلم.
الإشارة : قد أخذ الله العهد على الأرواح ألا يعبدوا معه غيره، ولا يميلوا إلى شيء سواه، فكل من مال إلى شيء، أو ركن بالمحبة إلى غير الله، فقد نقض العهد مع الله، فلا نصيب له في مقام المعرفة، ولا تحصل له مشاهدة ولا مكالمة حتى يثوب ويتوجه بكليته إلى مولاه. والله - تعالى أعلم.
﴿ وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللًّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ﴾
يقول الحقّ جلّ جلاله :﴿ وإن من أهل الكتاب لفريقاً ﴾، وهو كعب بن الأشرف، وحيي بن أخطب، ومالك بن الصيف، وأبو ياسر، وشعبة بن عامر، ﴿ يلوون ﴾ أي : يفتلون ﴿ ألسنتهم بالكتاب ﴾ أي : التوراة عند قراءته، فيميلون عن المنزل إلى المُحرف، ﴿ لتحسبوه من الكتاب ﴾ أي : لتظنوا أن ذلك المحرف من التوراة، ﴿ وما هو من الكتاب ويقولون هو من عند الله وما هو من عند الله ويقولون على الله الكذب ﴾ فيما نسبوا إليه،
﴿ وهم يعلمون ﴾ أنه ليس من عند الله.
قال ابن عباس : نزلت في اليهود والنصارى جميعاً، حرفوا التوراة والإنجيل، وألحقوا به ما ليس منه، وأسقطوا منه الدين الحنيف، فبيَّن الله كذبهم، وقيل : في الرجم، حيث كتموا الرجم، وألقى قارئ التوراة يده على آية الرجم، وقرأ ما حولها، فقال له ابنُ سلام : ارفع يديك، فإذا آية الرجم تلوح. والله أعلم.
الإشارة : هذه الآية تنسحب على علماء السوء، الذي يفتون بغير المشهور، لحظ يأخذونه من الدنيا، وعلى قضاة الجور الذين يحكمون بالهوى، ويعتمدون على الأقوال الواهية، ويقولون هو من عند الله، وما هو من عند الله.
وكذلك بعض المنتسبين من الفقراء، يتصنعون إلى العامة، يطمعون فيما في أيديهم من الحطام، فيظهرون لهم علوماً ومعارف وحكماً، يلوون ألسنتهم بها وقلوبهم خاوية من معناها، فظاهر حالهم يُوهم أن ذلك موافق لقلوبهم، وأنهم عاملون بذلك، وباطنهم يكذبهم في ذلك، ﴿ وَاللَّهُ يَهْدِى مَن يَشَآءُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ﴾ [ البَقَرَة : ٢١٣ ].
﴿ مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُؤْتِيهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُواْ عِبَاداً لِّي مِن دُونِ اللَّهِ وَلَكن كُونُواْ رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ ﴾ * ﴿ وَلاَ يَأْمُرَكُمْ أَن تَتَّخِذُواْ الْمَلاَئِكَةَ وَالنَّبِيِّيْنَ أَرْبَاباً أَيَأْمُرُكُم بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُّسْلِمُونَ ﴾
قلت : البشر : اسم جمع لا مفرد له، يطلق على الجماعة والواحد. والرباني : هو الذي يُربي الناس ويؤدبهم ويُهذبهم بالعلم والعمل. وقال ابن عباس :( هو الذي يُربي الناس بصغار العلم قبل كباره )، والنون فيه للمبالغة، كلحياني ورقباني.
يقول الحقّ جلّ جلاله :﴿ ما كان ﴾ ينبغي ﴿ لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحُكْمَ ﴾ أي : الفصل بين العباد، ﴿ والنبوة ﴾ أي : الوحي بالأحكام، ﴿ ثم يقول ﴾ بعد ذلك ﴿ للناس كونوا عباداً لي من دون الله ﴾ أو مع الله، أو يرضى أن يُعبد من دون الله، ﴿ ولكن ﴾ يقول لهم :﴿ كونوا ربانيين ﴾ أي : علماء بالله، فقهاء في دينه، حلماء على الناس، تُربون الناس بالعلم والعمل والهمة والحال، بسبب ﴿ ما كنتم تعلمون ﴾ من كتاب الله ﴿ وبما كنتم تدرسون ﴾ منه، أو ﴿ بما كنتم تُعَلِّمُون ﴾ الناس من الخير بكتاب الله، وما كنتم تدرسونه عليهم. ولما مات ابن عباس - رضي الله عنهما - قال محمد ابن الحنيفة :( مات ربَّاني هذه الأمة ).
بذَبْح النفوس وحط الرؤوس تُصفى الكؤوس ***...
لكنهم يرشدونهم إلى الحضرة، حتى يفنوهم عن شهود الواسطة، فيكون تعظيمهم وحط رأسهم إنما هو لله لا لغيره، وحينئذٍ يكونون ربانيين، علماء بالله مقربين، وكان شيخنا يقول : لا تزوروني على أني شيخكم، ولكن اعرفوا فينا، وافنوا عن رؤية حسناً، حتى يكون التعظيم إنما هو لله ربنا. هـ. فدلالة الأشياخ للفقراء على التعظيم والأدب ليس ذلك مقصوداً لأنفسهم، وحاشاهم من ذلك. ما كان لبشر أن يؤتيه الله الخصوصية ثم يقول للناس كونوا عباداً لي من دون الله، ولكن يقول لهم : كونوا ربانيين عارفين بالله، حتى يكون تعظيمكم إنما هو لله، ولا يأمر أيضاً بالفرق حتى يتخذوا الأشياء أرباباً من دون الله، ولكن يأمر بالجمع حتى يغيبوا عما سوى الله، وكيف يأمرهم بالفرق، وهو إنما يدلهم على الجمع ؟ أيأمرهم بالكفر بعد أن كانوا مسلمين. ولله تعالى أعلم.
﴿ ولا يأمركم ﴾ ذلك البشر الذي خصه الله بالنبوة، ﴿ أن تتخذوا الملائكة والنبيين أرباباً ﴾ من دون الله، ﴿ أيأمركم بالكفر بعد إذ أنتم مسلمون ﴾ أي : منقادون لأحكام الله. قيل : سبب نزول الآية : أن نصارى نجران قالوا : يا محمد ؛ تريد أن نعبدك ونتخذك ربّاً ؟ فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم :" معاذ الله أن نعبد غيرَ الله، أو نَأمُرَ بعبادة غيره ". وقيل : إن رجلاً قال : يا رسول الله : نُسلِّم عليك كما يُسلِّم بعضُنا على بعض، أفلا نسجُد لك ؟ فقال :" لا يَنْبَغِي أن يسجد أحدٌ لأحدٍ من دُونِ اللهِ، ولكنْ أكْرِموا نَبِيَّكُمْ، واعْرِفُوا الحقَّ لأَهْلِه ".
بذَبْح النفوس وحط الرؤوس تُصفى الكؤوس ***...
لكنهم يرشدونهم إلى الحضرة، حتى يفنوهم عن شهود الواسطة، فيكون تعظيمهم وحط رأسهم إنما هو لله لا لغيره، وحينئذٍ يكونون ربانيين، علماء بالله مقربين، وكان شيخنا يقول : لا تزوروني على أني شيخكم، ولكن اعرفوا فينا، وافنوا عن رؤية حسناً، حتى يكون التعظيم إنما هو لله ربنا. هـ. فدلالة الأشياخ للفقراء على التعظيم والأدب ليس ذلك مقصوداً لأنفسهم، وحاشاهم من ذلك. ما كان لبشر أن يؤتيه الله الخصوصية ثم يقول للناس كونوا عباداً لي من دون الله، ولكن يقول لهم : كونوا ربانيين عارفين بالله، حتى يكون تعظيمكم إنما هو لله، ولا يأمر أيضاً بالفرق حتى يتخذوا الأشياء أرباباً من دون الله، ولكن يأمر بالجمع حتى يغيبوا عما سوى الله، وكيف يأمرهم بالفرق، وهو إنما يدلهم على الجمع ؟ أيأمرهم بالكفر بعد أن كانوا مسلمين. ولله تعالى أعلم.
﴿ وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّيْنَ لَمَآ آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذالِكُمْ إِصْرِي قَالُواْ أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُواْ وَأَنَاْ مَعَكُمْ مِّنَ الشَّاهِدِينَ ﴾ * ﴿ فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذالِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ﴾
قلت : اللام في ﴿ لما ﴾، موطئة للقسم ؛ لأن أخذ الميثاق بمعنى الاستخلاف، و﴿ ما ﴾ : يحتمل الشرطية، و﴿ لتؤمنن ﴾ : جواب القسم، سد مسد الجواب، أي : مهما آتيناكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول الله لتؤمنن به. ويحتمل الموصولية، و﴿ لتؤمنن ﴾ : خبر عنه، وحذف شرط يدل على السياق ؛ أي : للذي آتيناكم من كتاب وحكمة، ثم إذا جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به. ومن قرأ بكسر اللام كان تعليلاً للأمر بالإيمان بالرسول، أي : لأجل الذي خصصتكم به إذا جاءكُمْ رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به، وإذا كان أخذ الله الميثاق على الأنبياء كان على الأتباع أولى، أو استغنى بذكر الأنبياء عن ذكر أتباعهم ؛ لأنهم في حكمهم.
يقول الحقّ جلّ جلاله : واذكر ﴿ إذ أخذنا ﴾ الميثاق على النبيين من لدن آدم عليه السلام إلى عيسى عليه السلام. وقلنا لهم : والله للذي خصصتكم به ﴿ من كتاب وحكمة ﴾، ثم إن ظهر رسول ﴿ مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه ﴾ أنتم وأممكم، أو : لأجل الذي خصصتكم به مما تقدم لئن أدركتم محمداً لتؤمنن به ولتنصرنه. قال سيدنا عليّ - كرّم الله وجهه - :( لم يبعث اللّهُ نبيّاً، آدم ومن بعده، إلا أخذ عليه العهد في محمد، وأمره بأخذ العهد على قومه ليُؤْمنُنَّ به، ولئن بُعث وهم أحياءٌ لينْصُرُنَّه ).
﴿ قال ﴾ الحقّ جلّ جلاله لمن أخذ عليهم العهد :﴿ أأقررتم ﴾ بذلك وقبلتموه، ﴿ وأخذتم على ذلكم إصري ﴾ أي : عهدي وميثاقي ؟ ﴿ قالوا أقررنا ﴾ وقبلنا، ﴿ قال فاشهدوا ﴾ على أنفسكم، أو ليشهدْ بعضكم على بعض بالإقرار، أو فاشهدوا يا ملائكتي عليهم، ﴿ وأنا معكم من الشاهدين ﴾، وفيه توكيد وتحذير عظيم.
﴿ أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ ﴾
قلت :﴿ أفغير ﴾ : مفعول مقدم، و﴿ يبغون ﴾ : معطوف على محذوف، أي : أتتولون فتبغون غير دين الله، وقدم المعمول ؛ لأنه المقصود بالإنكار، و﴿ طوعاً وكرهاً ﴾ : حالان، أي : طائعين أو كارهين.
يقول الحقّ جلّ جلاله : للنصارى واليهود، لمَّا اختصموا إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، وادعوا أن كل واحد على دين إبراهيم، فقال لهم - عليه الصلاة والسلام :" كِلاكما بَرِيءٌ مِنْ دِينه، وأنا على دِينه، فخذوا به "، فغضبوا، وقالوا : والله لا نرضى بحكمك ولا نأخذ بدينك، فقال لهم الحقّ جلّ جلاله - منكراً عليهم - : أفتبغون غير دين الله الذي ارتضاه لخليله وحبيبه، وقد انقاد له تعالى ﴿ من في السماوات والأرض ﴾ طائعين ومكرهين، فأهل السماوات انقادوا طائعين، وأهل الأرض منهم من انقاد طوعاً بالنظر واتباع الحجة أو بغيرها، ومنهم من انقاد كرهاً أو بمعاينة ما يُلجئ إلى الإسلام ؛ كنتق الجبل وإدراك الغرق والإشراف على الموت، أو :" طوعاً " كالملائكة والمؤمنين، فإنهم انقادوا لما يراد منهم طوعاً،
﴿ وكرهاً ﴾ كالكفار فانقادوا لما يراد منهم كرهاً، وكلّ إليه راجعون، لا يخرج عن دائرة حكمه، أو راجعون إليه بالبعث والنشور. والله تعالى أعلم.
الإشارة : اعلم أن الدين الحقيقي هو الانقياد إلى الله في الظاهر والباطن، أما الانقياد إلى الله في الظاهر فيكون بامتثال أمره واجتناب نهيه، وأما الانقياد إلى الله في الباطن فيكون بالرضى بحكمه والاستسلام لقهره. فكل من قصَّر في الانقياد في الظاهر، أو تسخط من الأحكام الجلالية في الباطن، فقد خرج عن كمال الدين، فيقال له : أفغير دين الله تبغون وقد انقاد له ﴿ من في السماوات والأرض طوعاً وكرهاً ﴾، فإما أن تنقاد طوعاً أو ترجع إليه كرها. وفي بعض الآثار يقول الله تبارك وتعالى :" منْ لم يَرْضَ بقضائي ولم يَصْبِرْ على بَلائِي، فليخرجْ من تحت سَمَائي، وليتخذْ ربّاً سِوَاي ".
وسبب تبرّم القلب عن نزول الأحكام القهرية مرضُه وضعف نور يقينه، فكل من استنكف عن صحبة الطبيب، فله من هذا العتاب حظ ونصيب، فالأولياء حجة الله على العلماء، والعلماء حجة الله على العوام، فمن لم يستقم ظاهره عُوتب على تفريطه في صحبة العلماء، ومن لم يستقم باطنه عاتبه الله تعالى على ترك صُحبة الأولياء، أعني العارفين. وبالله التوفيق، وهو الهادي إلى سواء الطريق.
﴿ قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَآ أُنزِلَ عَلَيْنَا وَمَآ أُنزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ ﴾
قلت :﴿ أُنزل ﴾ : يتعدى بإلى ؛ لأنه ينتهي إلى الرسل، ويتعدى بعلى، لأنه يأتي من ناحية العلو والاستعلاء، وفرَّق بعضهُم بين التعبير هنا بعلى وفي البقرة بإلى، فقال : لأن الخطاب هنا للرسول بالخصوص، وقد أنزل عليه الوحي مباشرة، وهناك الخطاب للمسلمين، وإنما أنزل الوحي متوجهاً إليهم بالواسطة، ولم يكن عليهم بالمباشرة. والله تعالى أعلم.
يقول الحقّ جلّ جلاله :﴿ قل ﴾ يا محمد لأهل الكتاب الذين فرقوا في إيمانهم بين الرسل : أما نحن فقد آمنا بالذي ﴿ أنزل علينا وما أنزل ﴾ على جميع الأنبياء والرسل ﴿ لا نفرق بين أحد منهم ﴾ كما فرَّقتم أنتم، فَضَلَلْتُم، ﴿ ونحن له مسلمون ﴾ أي : منقادون لأحكامه الظاهرة والباطنة، أو مخلصون في أعمالنا كلها، وقدَّم المنزل علينا على المنزل على غيرنا، لأنه عيار عليه ومُعَرَّفٌ به. والله تعالى أعلم.
الإشارة : ينبغي للفقير أن يبالغ في تعظيم شيخه، ويسوغ له التعالي في شأنه ما لم يخرجه عن طَوْر البشر، وما لم يؤد ذلك إلى إسقاط حُرمة غيره من الأولياء بالتنقيص أو غيره، فحرمة الأولياء كحرمة الأنبياء، فمن فرّق بينهم حُرِم بركة جميعهم. وبالله التوفيق.
﴿ وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ ﴾ * ﴿ كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْماً كَفَرُواْ بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُواْ أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَآءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ﴾
يقول الحقّ جلّ جلاله : لرجال من الأنصار ارتدوا عن الإسلام ولحقوا بمكة، منهم الحارث بن سويد الأنصاري :﴿ ومن يبتغ ﴾ يطلب ﴿ غير الإسلام ديناً ﴾ يتدين به ﴿ فلن يُقبل منه ﴾ أبداً، ﴿ وهو في الآخرة من الخاسرين ﴾ ؛ لأنه أبطل الفطرة السليمة التي فطر الناس عليها، واستبدلها بالتقليد الرديء، بعد أن عاين سواطع البرهان، وشهدت نفسه بالحق والبيان.
ولذلك وقع التعجب والاستبعاد من هدايته فقال :﴿ كيف يهدي الله قوماً كفروا ﴾ بعد أن آمنوا، ﴿ وشهدوا أن الرسول حق وجاءهم البينات ﴾ أي : المعجزات الواضحات، فإن الحائد عن الحق بعدما وضح، منهمك في الضلال، بعيد عن الرشاد، فقد ظلم نفسه وبخسها، ﴿ والله لا يهدي القوم الظالمين ﴾ الذين ظلموا أنفسهم بالإخلال بالنظر، ووضعوا الكفر موضع الإيمان، ولعل هذا في قوم مخصوصين سبق لهم الشقاء.
﴿ أُوْلَئِكَ جَزَآؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ ﴾ * ﴿ خَالِدِينَ فِيهَا لاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ ﴾
يقول الحقّ جلّ جلاله :﴿ أولئك ﴾ المرتدون عن الإسلام - ﴿ جزاؤهم ﴾ : أن تلعنهم الملائكة والناسُ أجمعون، مؤمنُهم وكافرهم، لأن الكافر يلعنُ من ترك دين الحق، وإن كان لا يشعر بمن هو على الحقّ.
﴿ إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ مِن بَعْدِ ذالِكَ وَأَصْلَحُواْ فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴾
يقول الحقّ جلّ جلاله : إلا مَن تاب من بعد الردة، فأسلم وأصلح ما أفسد، ﴿ فإن الله غفور ﴾ له فيما فعل، ﴿ رحيم ﴾ به حيث تاب.
ولما نزلت الآية حملها إليه رجلٌ من قومه وقرأها عليه، فقال الحارث : إنك والله فيما علمت لصدوق، وإن النبيّ صلى الله عليه وسلم لأصدق منك، وإن الله - تعالى - لأصدق الثلاثة، فرجع الحارث إلى المدينة، فأسلم وحَسُن إسلامُه.
الإشارة : كل مَن ابتغى الخصوصية من غير أهلها، أو ادعاها ولم يأخذْها من معدنها، فلن تُقبل منه، وهو عند القوم من الخاسرين في طريق الخصوص، فكل من لا شيخ له في هذا الشأن فهو لقيط، لا أب له، دَعِيّ، لا نسب له.
والمراد بأهلها : العارفون بالله، أهلُ الفناء والبقاء، أهل الجذب والسلوك، أهل السكر والصحو، الذين شربوا الخمر فسكروا ثم صحوا وتكملوا، فمعدنُ الخصوصية عند هؤلاء، فكل من لم يصحبهم ولم يشرب من خمرتهم، لا يُقتدى به، ولو بلغ من الكرامة ما بلغ، وأخسرُ مَنْ صحب أهل هذه الخمرة، وشهد بأن طريقهم حق، ثم رجع عنها، فهذا مغبون ملعون عند كافة الخلق، أي : مطرود عن شهود الحق، إلا مَن تاب ورجع إلى صحبتهم والأدب معهم، فإن الله غفور رحيم.
﴿ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُواْ كُفْراً لَّن تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الضَّآلُّونَ ﴾
يقول الحقّ جلّ جلاله :﴿ إن الذين ﴾ ارتدوا عن الإيمان ﴿ ثم ازدادوا ﴾ في الكفر، وقالوا : نتربص بمحمد ريب المنون، ﴿ لن تقبل توبتهم ﴾ أي : لا توبة لهم فتقبل، لأنه سبق لهم الشقاء، أو لأنهم لا يتوبون إلا عند الغرغرة، أو ﴿ لن تقبل توبتهم ﴾ ما داموا على كفرهم. ﴿ وأولئك هم الضالون ﴾ المنهمكون في الضلالة.
قيل : نزلت في أصحاب الحارث بن سويد المتقدم، وكانوا أحد عشر رجلاً، لما رجع الحارثُ قالوا : نقيم بمكة على الكفر ما بَدا لنا، فمتى أردنا الرجعة رجعنا، فلما افتتح النبيّ صلى الله عليه وسلم مكة، دخل في الإسلام بعضُهم، فقُبلت توبته، وبقي من بقي على كفره، فنزلت الآية فيهم. وقيل : نزلت في اليهود، كفروا بعيسى بعد إيمانهم بأنبيائهم، ثم ازدادوا كفراً بكفرهم بمحمد صلى الله عليه وسلم، وقيل : نزلت في النصارى كفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم بعد إيمانهم بعيسى، ﴿ ثم ازدادوا كفراً ﴾ بإصرارهم عليه. وقيل : نزلت في الفريقين معاً، كفروا بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم بعد إيمانهم به قبل ظهوره، ﴿ ثم ازدادوا كفراً ﴾ بتمردهم فيه، وتماديهم على المعاصي. والله تعالى أعلم.
الإشارة : اعلم أن من دَخَل طريق التربية، وأخذ في تهذيب نفسه وتطهيرها من المساوئ وأوساخ الحس، ثم غلبته القهرية ورجع عنها، فإن تاب قريباً ورجع إليها سهل عليه الرجوع، ورجى نجحه وقبلت توبته، وإن استمر على رجوعه عنها حتى ألفت نفسه البطالة ؛ لن ترجى توبته وصار من الضالين، فمثله كآنية، فرَّغت منها لبناً أو عسلاً، وعَمَرْتها بالقطران، فإن بادرت بإهراقه منها قريباً سهل غسلها، وإن أمهلتها حتى صبغ فيها عَسُر غسلها، وتعذب زوال رائحته منها. [ فإن مات على رجعته فلا يحشر في الآخرة مع أهل هذه الرفقة، ولو شفع فيه ألف عارف، بل من كمال المكر به أن يلقى شبهه في الآخرة على غيره، حتى يتوهم عارفوه من أهل المعرفة أنه هو، فلا يخطر بباله أنه يشفع فيه ]. قاله القشيري.
قال المحشي : وما ذكره ربما ينظر إلى قضية الخليل مع أبيه، حين يلقاه وعليه القترة، فيريد الشفاعة له، فيمسخ ذيخاً١ متلطخاً٢ - أي : خنزيراً - فينكره، كما في الحديث الصحيح، فتذكر واعتبر. ه. وبالله التوفيق، وهو الهادي إلى سواء الطريق.
٢ متلطخا: أراد بالتلطخ: التلطخ برجيعه، أو بالطين..
﴿ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَمَاتُواْ وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَن يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِم مِّلْءُ الأَرْضِ ذَهَباً وَلَوِ افْتَدَى بِهِ أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُمْ مِّن نَّاصِرِينَ ﴾
قلت :﴿ ذهباً ﴾ : تمييز، و﴿ لو افتدى به ﴾ : محمول على المعنى، كأنه قيل : فلن يقبل من أحدهم فدية، ولو افتدى بملء الأرض ذهباً، أو عطف على محذوف، أي : فلن يقبل من أحدهم ملءُ الأرض ذهباً لو تقرب به في الدنيا، ولو افتدى به من العذاب في الآخرة. قاله البيضاوي.
يقول الحقّ جلّ جلاله :﴿ إن الذين كفروا ﴾، واستمروا على كفرهم حتى ماتوا، ﴿ فلن يقبل ﴾ منهم فدية، ولو افتدوا بملء الأرض ذهباً، بل يحصل لهم الإياس من رحمة الله، ﴿ أولئك لهم عذاب أليم ﴾ ؛ فلا ينفعهم فداء منه ولا شفاعة ولا حميم، ﴿ وما لهم من ناصرين ﴾ ينصروهم من عذاب رب العالمين.
قال النبيّ صلى الله عليه وسلم :" يُجَاءُ بالكَافِر يومَ القيامةِ، فيُقال له : أرأيتَ لو كان لكَ ملءُ الأرض ذهباً - أكنْتَ مفتدِياً به ؟ فيقولُ : نعم، نعم، فيُقال له : قد سُئلْتَ ما هو أيسرُ من ذلك ". يعني : لا إله إلا الله : ثبتنا الله عليها إلى الممات عالمين بها. آمين.
الإشارة : كل من كفر بطريق أهل الخصوصية، وحرم نفسه من دخول الحضرة القدوسية، واستمر على كفرانه إلى الممات، فلا شك أنه يحصل له الندم وقد زلّت به القدم، لأنه مات مصراً على الكبائر وهو لا يشعر، فإذا حشر مع عوام المسلمين، وسَكَن في رَبضِ الجنة مع أهل اليمين، ثم رأى منازل المقربين في أعلى عليين، ندم وتحسر، وقد غلبه القدر، فلو اشترى المُقَام معهم بملء الأرض ذهباً ما نفعه ذلك، فيمكث في غمّ الحجاب وعذاب القطيعة هنالك، مقطوع عن شهود الأحباب على نعت الكشف والبيان، ممنوع عن الشهود والعيان. وبالله التوفيق.
﴿ لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنْفِقُواْ مِن شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ ﴾
قلت : البرّ : كمال الطاعة.
يقول الحقّ جلّ جلاله :﴿ لن تنالوا ﴾ كمال الطاعة والتقرب ﴿ حتى تنفقوا مما تحبون ﴾، أو : لن تنالوا برَّ الله الذي هو الرضى والرضوان، ﴿ حتى تنفقوا ﴾ بعض ما ﴿ تحبون ﴾ من المال وغيره، كبذل الجاه في معاونة الناس، إن صحبه الإخلاص، وكبذل البدن في طاعة الله، وكبذل المهج في سبيل الله. ولمّا نزلت الآية جاء أبو طلحة فقال : يا رسول الله، إن أحب أموالي إِليَّ بَيْرُحاء - وهو بستان كان خلف المسجد النبوي - وهو صدقة لله، أرجو برّها وذخرها، فقال له - عليه الصلاة والسلام - " بَخٍ بَخٍ ؛ ذَلَكَ مَالٌ رَابحٌ - أو رائح - وَإِنِّي أَرَى أَنْ تَجْعَلَهَا في الأَقْرَبينَ ". فقسمها أبو طلحة في أقاربه.
وجاء زيدٌ بنُ حَارِثَةَ بفرسٍ كان يُحبها، فقال : هذه في سبيل الله، فحمل عليها رسولُ الله أسامة ولده، فقال زيد : إنما أردت أن أتصدق بها، فقال - عليه الصلاة والسلام - :" إنَّ اللَّهَ تعالى قَدْ قَبِلَهَا ". فدلّ ذلك على أن الصدقة على الأقارب أفضل. وأعتقت امرأةٌ جارية لا تملك غيرها، كانت تحبها، واشترطت عليها أن تقيم معها، فلما عُتِقَتْ، ذهبت، فقال لها عليه الصلاة والسلام :" دعيها فقد حجَبتك عن النار ".
وأمر عمر بن الخطاب بشراء جارية من سبي العراق، فلما جيء بها، ورآها عمرُ أعجبْته غايةً، فقال : إن الله تعالى يقول :﴿ لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون ﴾، فأعتقها. وذكر ابن عمر هذه الآية، فلم يجد عنده أحبَّ من جارية كانت عنده، يطؤها فأعتقها، وقال : لولا أني لا أعود في شيء جعلته لله لنكحتها. وكان الربيع يعطي للسائل إذا وقف في بابه السكر، فإذا قيل له في ذلك، قال : إن الربيع يحب السكر.
ثم إن الله - تعالى - يقبل الصدقة من المحبوب أو غيره، ولذلك قال :﴿ وما تنفقوا من شيء فإن الله به عليم ﴾ ؛ فيجازيكم بحسبه.
الإشارة : ليس للفقير شيء أحبُّ من نفسه التي بين جنبيه، بل عند جميع الناس، فمن بذل روحه في مرضاة الله نال رضوان الله ومعرفته، وهو غاية البر، فمن أذل نفسه لله أعزه الله، ومن أفقر نفسه لله أغناه الله، ومن تواضع لله رفعه، فبذل النفس لله هو تقديمها لشيخ التربية يفعل بها ما يشاء، فكل ما يشير به إليه بادر إليه بلا تردد، فمن فعل ذلك فقد نال غاية البر، وأنفق غاية ما يُحب، وكل من بذل نفسه بذل غيرها بالأحرى، إذ ليس أعز منها، وفي ذلك يقول ابن الفارض رضي الله عنه :
مَا لِي سِوَى رُوحِي، وباذل نَفْسه | في حُبّ من يَهْوَاهُ ليس بُمُسْرِفِ |
فَلَئِنْ رَضِيتَ بها فقد أسْعَفْتَني | يا خَيْبَةَ الْمَسْعَى إذا لم تُسْعِفِ |
لن تنالوا محبة الله حتى تسخُوا بأنفسكم لله. ه.
﴿ كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلاًّ لِّبَنِيا إِسْرَائِيلَ إِلاَّ مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِن قَبْلِ أَن تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ قُلْ فَأْتُواْ بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ﴾ * ﴿ فَمَنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ مِن بَعْدِ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ﴾ * ﴿ قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُواْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ﴾
قلت :﴿ إسرائيل ﴾ : هو يعقوب عليه السلام.
قول الحقّ جلّ جلاله :﴿ كل الطعام كان ﴾ حلالاً على بني إسرائيل، كما كان حلالاً على الأنبياء كلهم، ﴿ إلا ما حرم إسرائيل ﴾ أي : يعقوب، ﴿ على نفسه ﴾، كلحوم الإبل وألبانها، قيل : كان به عرق النسا، فنذر : إن شفاه الله لم يأكل أحب الطعام إليه، وكان ذلك أحب الطعام إليه. وقيل : فعل ذلك للتداوي بإشارة الأطباء، فترك ذلك بنوه ولم يحرم عليهم في التوراة، وإنما هو شيء حرموه على أنفسهم.
فالطعام كله كان حلالاً على بني إسرائيل وعلى الأنبياء كلهم قبل نزول التوراة، فلما نزلت التوراة حرم الله عليهم أشياء من الطيبات لظلمهم وبغيهم، فإن ادعوا أن لحوم الإبل كانت حراماً على إبراهيم، وأن كل ما حرم عليهم كان حراماً على إبراهيم وعلى الأنبياء قبله، فقل لهم : كذبتم ؛ ﴿ فأتوا بالتوراة فاتلوها ﴾ هل تجدون ذلك فيها ؟ ﴿ إن كنتم صادقين ﴾ في قولكم : إنَّ كل شيء حرم عليكم كان حراماً على إبراهيم، رُوِيَ : أنه - عليه الصلاة والسلام - لما قال لهم ذلك بهتوا، ولم يجسروا أن يأتوا بالتوراة، فتبين افتراؤهم على الله.
وإنما امتنعت العباد والزهَّادُ من تناول الشهوات المباحات خوفاً على أنفسهم أن تجمح بهم إلى تناول أسبابهما، فتعطلهم عن العبادة، وكذلك المريدون السائرون، ينبغي لهم التقلل من تناولها ؛ لئلا يتعلق قلبهم بشيء منها، فتعطلهم عن السير، وأما الواصلون العارفون، فقد تحقق فناؤهم وبقاؤهم، فهم يأخذون بالله من يد الله، كما تقدم.
والحاصل : أن النفس ما دامت لم تُسلم ولم تنقد إلى مشاهدة ربها، وجب جهادها ومخالفتها، فإذا أسلمت وانقادت إلى ربها، وجب الصلح معها وموافقتها فيما يتجلى فيها، والله تعالى أعلم.
وإنما امتنعت العباد والزهَّادُ من تناول الشهوات المباحات خوفاً على أنفسهم أن تجمح بهم إلى تناول أسبابهما، فتعطلهم عن العبادة، وكذلك المريدون السائرون، ينبغي لهم التقلل من تناولها ؛ لئلا يتعلق قلبهم بشيء منها، فتعطلهم عن السير، وأما الواصلون العارفون، فقد تحقق فناؤهم وبقاؤهم، فهم يأخذون بالله من يد الله، كما تقدم.
والحاصل : أن النفس ما دامت لم تُسلم ولم تنقد إلى مشاهدة ربها، وجب جهادها ومخالفتها، فإذا أسلمت وانقادت إلى ربها، وجب الصلح معها وموافقتها فيما يتجلى فيها، والله تعالى أعلم.
قال البيضاوي : فيه إشارة إلى أن اتَّبَاعَهُ - أي : إبراهيم - واجبٌ في التوحيد الصرف والاستقامةِ في الدين، والتجنب عن الإفراط والتفريط، وتعريض بشرك اليهود. ه.
وإنما امتنعت العباد والزهَّادُ من تناول الشهوات المباحات خوفاً على أنفسهم أن تجمح بهم إلى تناول أسبابهما، فتعطلهم عن العبادة، وكذلك المريدون السائرون، ينبغي لهم التقلل من تناولها ؛ لئلا يتعلق قلبهم بشيء منها، فتعطلهم عن السير، وأما الواصلون العارفون، فقد تحقق فناؤهم وبقاؤهم، فهم يأخذون بالله من يد الله، كما تقدم.
والحاصل : أن النفس ما دامت لم تُسلم ولم تنقد إلى مشاهدة ربها، وجب جهادها ومخالفتها، فإذا أسلمت وانقادت إلى ربها، وجب الصلح معها وموافقتها فيما يتجلى فيها، والله تعالى أعلم.
﴿ إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ ﴾ * ﴿ فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً وَللَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ ﴾
قلت :﴿ بكة ﴾ : لغة في مكة، والعرب تعاقب بين الباء والميم، تقول : ضربة لازم ولازب، وأغبَطَتْ عليه الحُمِّى وأغْمَطَتْ، وقيل :﴿ مكة ﴾ بالميم : اسم للبلد كله، وبكة : اسم لموضع البيت، سميت بذلك ؛ لأنها تبك أعناق الجبابرة - أي : تدقها - فما قصدها جبَّار بسوء إلا قصمه الله. و﴿ مباركاً ﴾ : حال من الضمير في المجرور، والعامل فيه الاستقرار، أي : الذي استقر ببكة مباركاً.
يقول الحقّ جلّ جلاله :﴿ إن أول بيت وضع ﴾ في الأرض ﴿ للناس ﴾ للذي استقر بمكة، وبعده بيت المقدس، وبينهما أربعون سنة. بنت الأولَ الملائكة حيالَ البيت المعمور، وأمر اللّهُ مَنْ في الأرض أن يطوفوا به كما يطوف أهل السماء بالبيت المعمور، ثم بُنِيَ الثاني. وقيل : بناهما آدم عليه السلام ثم جدَّد الأول إبراهيمُ. حال كونه ﴿ مباركاً ﴾ ؛ لأنه يتضاعف فيه الحسنات، بكل واحدة مائة ألف، وتكفر فيه السيئات، وتنزل في الرحمات، وتتوارد فيه النفخات.
يَا لاَئِمِي لا تَلُمْني في هواه فَلَوْ | عايَنْتَ منه الذي عاينْتَ لم تَلُمِ |
للنَّاسِ حجٍّ ولي حجٍّ إلى سَكَنِي | تُهْدَى الأضَاحِي، وأُهْدِي مُهْجِتِي ودَمِي |
يطوفُ بالبيت قومٌ لا بجارحةٍ، | بالله طافوا فأغنَاهم عن الحَرَمِ |
قال في الحاشية في قوله :﴿ ومَنْ دَخَلَه كان آمناً ﴾، قيل : وهكذا من دخل في قلب وليٍّ من أوليائه، فإن قلب العارف حرم المراقبات والمشاهدات. هـ. وبالله التوفيق، وهو الهادي إلى سواء الطريق.
وقيل :﴿ الآيات ﴾ : مقام إبراهيم، وأمْنُ من دخله، فعلى هذا يكون :﴿ ومن دخله ﴾، عطفاً على ﴿ مقام ﴾، وعلى الأول : استئنافاً. و﴿ حج البيت ﴾ مبتدأ، و﴿ لله ﴾ : خبر، والفتح لغة الحجاز، والكسر لغة نجد، و﴿ من استطاع ﴾ : بدل من ﴿ الناس ﴾، وقيل : فاعل.
﴿ فيه آيات بينات ﴾ واضحات، منها : الحجر الذي هو ﴿ مقام إبراهيم ﴾، وهو الذي قام عليه حين رفع القواعد من البيت، فكان كلما طال البناء ارتفع به الحجر في الهواء، حتى أكمل البناء، وغرقت فيه قدمه كأنه طين، ومنها : أن الطير لا تعلوه، ومنها : إهلاك أهل الفيل وردُّ الجبابرة عنه، ونبع زمزم لهاجر بهمز جبريل عليه السلام، وحفر عبد المطلب لها بعد دُثُورها، وأن ماءها ينفع لما شُرب له، ﴿ ومن دخله كان آمناً ﴾ من العقاب في الدارين ؛ لدعاء الخليل :﴿ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ ءَامِناً ﴾ [ إبراهيم : ٣٥ ]، فكان في الجاهلية كل من فعل جريمةً، ثم لجأ إليه لا يُهَاج١ ولا يعاقب ما دام به، وأما في الإسلام فإن الحرم لا يمنع من الحدود ولا من القصاص، وقال أبو حنيفة : الحكم باق، وإن من وجب عليه حد أو قصاص فدخل الحرم لا يهاج، ولكن يُضيَّق عليه، فلا يطعم ولا يباع له حتى يخرج.
قال - عليه الصلاة والسلام :" مَنْ مَاتَ في أحد الحرمين بعثه اللّهُ من الآمنين ".
وقال أيضاً :" مَنْ حَجَّ هذَا البَيْتَ - فَلَمْ يَرْفُثْ، وَلَمْ يَفْسُقْ، خَرَجَ من ذَنُوبِه كَيَوْمِ وَلَدتهُ أُمُّه ".
﴿ ولله على الناس حج البيت ﴾ فرض عين على ﴿ من استطاع إليه سبيلاً ﴾ بالقدرة على الوصول بصحة البدن، راجلاً أو راكباً مع الزاد المُبلِّغ، والأمن على النفس والمال والدين. وقيل : الاستطاعة : الزاد والراحة. ﴿ ومن ﴾ تركه، و﴿ كفر ﴾ به، كاليهود والنصارى، وكل من جحده، ﴿ فإن الله غني ﴾ عنه، و﴿ عن ﴾ حجه، وعن جميع ﴿ العالمين ﴾، أو عبر بالكفر عن الترك، تغليظاً كقوله :" مَنْ تَرَكَ الصَّلاةَ فَقَدْ كَفَر " رُوِيَ أنه - عليه الصلاة والسلام - لما نزل صدر الآية - جمع أرباب الملل، فخاطبهم، وقال :" إن الله كتب عليكم الحج فحجوا "، فآمنت به ملة واحدة، وكفرت به خمس ملل، فنزل ﴿ ومن كفر. . . ﴾ الخ.
يَا لاَئِمِي لا تَلُمْني في هواه فَلَوْ | عايَنْتَ منه الذي عاينْتَ لم تَلُمِ |
للنَّاسِ حجٍّ ولي حجٍّ إلى سَكَنِي | تُهْدَى الأضَاحِي، وأُهْدِي مُهْجِتِي ودَمِي |
يطوفُ بالبيت قومٌ لا بجارحةٍ، | بالله طافوا فأغنَاهم عن الحَرَمِ |
قال في الحاشية في قوله :﴿ ومَنْ دَخَلَه كان آمناً ﴾، قيل : وهكذا من دخل في قلب وليٍّ من أوليائه، فإن قلب العارف حرم المراقبات والمشاهدات. هـ. وبالله التوفيق، وهو الهادي إلى سواء الطريق.
﴿ قُلْ يا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ ﴾ * ﴿ قُلْ يا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجاً وَأَنْتُمْ شُهَدَآءُ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ﴾
يقول الحقّ جلّ جلاله :﴿ قل ﴾ يا محمد في عتابك لليهود :﴿ يا أهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله ﴾ السمعية والعقلية الدالة على صدق نبيه صلى الله عليه وسلم فيما يدعوكم إليه من الإسلام ؟ ﴿ والله شهيد على ما تعملون ﴾ مطلع على سرها وجهرها، فيجازيكم عليها، فلا ينفعكم التحريفُ ولا الإسرار.
﴿ يا أهل الكتاب لما تصدون ﴾ عن طريق الله ﴿ من آمن ﴾ بها، وتبع من جاء بها، ﴿ تبغونها عوجاً ﴾ أي : طالبين لها اعوجاجاً، بأن تلبسوا على الناس، وتُوهموا أن فيها عوجاً عن الحق، بزعمكم أن التوراة لا تُنْسخ، وبتغيير صفة الرسول - عليه الصلاة والسلام، أو بأن تحرشوا بين المسلمين ؛ لتختلف كلمتهم، ويختل أمر دينهم، وأنتم شهداء على أنها حق، وأن الصد عنها ضلال، أو : وأنتم عُدول عند أهل ملتكم، يثقون بأقوالكم، ويستشهدونكم في القضايا، ﴿ وما الله بغافل عما تعملون ﴾ ؛ فلا بد أن يجازيكم على أعمالكم، فإنه يمهل ولا يهمل.
كرَّر الخطاب والاستفهام مرتين ؛ مبالغة في التقريع ونفي العذر، وإشعاراً بأن كل واحد من الأمرين مُسْتَقبح في نفسه، مستقل باستجلاب العذاب. ولمَّا كان المنكَر عليهم في الآية الأولى : كفرهم، وهم يجهرون به، ختم بقوله :﴿ والله شهيد على ما تعملون ﴾، ولمَّا كان في هذه الآية : صدهم المؤمنين عن الإسلام، وكانوا يخفونه ويحتالون فيه، قال :﴿ وما الله بغافل عما تعملون ﴾. قاله البيضاوي.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٩٨:ثم رجع الحق تعالى إلى معاتبة أهل الكتاب، فقال :
﴿ قُلْ يا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ ﴾ * ﴿ قُلْ يا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجاً وَأَنْتُمْ شُهَدَآءُ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ﴾
يقول الحقّ جلّ جلاله :﴿ قل ﴾ يا محمد في عتابك لليهود :﴿ يا أهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله ﴾ السمعية والعقلية الدالة على صدق نبيه صلى الله عليه وسلم فيما يدعوكم إليه من الإسلام ؟ ﴿ والله شهيد على ما تعملون ﴾ مطلع على سرها وجهرها، فيجازيكم عليها، فلا ينفعكم التحريفُ ولا الإسرار.
﴿ يا أهل الكتاب لما تصدون ﴾ عن طريق الله ﴿ من آمن ﴾ بها، وتبع من جاء بها، ﴿ تبغونها عوجاً ﴾ أي : طالبين لها اعوجاجاً، بأن تلبسوا على الناس، وتُوهموا أن فيها عوجاً عن الحق، بزعمكم أن التوراة لا تُنْسخ، وبتغيير صفة الرسول - عليه الصلاة والسلام، أو بأن تحرشوا بين المسلمين ؛ لتختلف كلمتهم، ويختل أمر دينهم، وأنتم شهداء على أنها حق، وأن الصد عنها ضلال، أو : وأنتم عُدول عند أهل ملتكم، يثقون بأقوالكم، ويستشهدونكم في القضايا، ﴿ وما الله بغافل عما تعملون ﴾ ؛ فلا بد أن يجازيكم على أعمالكم، فإنه يمهل ولا يهمل.
كرَّر الخطاب والاستفهام مرتين ؛ مبالغة في التقريع ونفي العذر، وإشعاراً بأن كل واحد من الأمرين مُسْتَقبح في نفسه، مستقل باستجلاب العذاب. ولمَّا كان المنكَر عليهم في الآية الأولى : كفرهم، وهم يجهرون به، ختم بقوله :﴿ والله شهيد على ما تعملون ﴾، ولمَّا كان في هذه الآية : صدهم المؤمنين عن الإسلام، وكانوا يخفونه ويحتالون فيه، قال :﴿ وما الله بغافل عما تعملون ﴾. قاله البيضاوي.
الإشارة : كل من جحد وجود الخصوصية عند أهلها، وصد القاصدين للدخول فيها، استحق هذا العتاب بلا شك ولا ارتياب. والله تعالى أعلم.
﴿ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِن تُطِيعُواْ فَرِيقاً مِّنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ يَرُدُّوكُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ ﴾ * ﴿ وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَن يَعْتَصِم بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ﴾ * ﴿ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُّسْلِمُونَ ﴾
يقول الحقّ جلّ جلاله :﴿ يا أيها الذين آمنوا ﴾، الخطاب عامٌ، والمراد : نفر من الأوس والخزرج، ﴿ إن تُطيعوا فريقاً من الذين أوتوا الكتاب ﴾، وهو شاسُ بن قيس اليهودي، كان شيخاً كبيراً، وكان عظيمَ الكفر شديد الضغن على المسلمين، مرَّ بنفر من الأوس والخزرج، جلوساً يتحدثون، وكان بينهما عداوة في الجاهلية، فغاظه تآلفهم واجتماعهم، وقال : قد اجتمع ملأ بني قَيْلَة بهذه البلاد، فما لنا معهم قرار، فأمر شاباً من اليهود أن يجلس بينهم ويُذكِّرهم يوم بعاث - وهو يوم حرب كان بينهم في الجاهلية - ويُنشدهم بعض ما قيل فيه، وكان الظفرُ في ذلك اليوم للأوس، ففعل، وتنازع القوم وتفاخروا وتغاضبوا، وقالوا : السلاحَ السلاحَ، واجتمع من القبيلتين خلق عظيم، فتوجه إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فقال :" أبدعْوَى الجَاهِليةِ وأنا بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ، بعدَ إذ أكْرَمَكْم اللّهُ بالإسْلام، وقَطَعَ به عَنْكُم أمْرَ الجَاهِلِية، وألْفَ بَينكُم ؟ " فعلموا أنها نزغة ٌ من الشيطان وكيدٌ من عدوهم، فَأَلَقَوا السِّلاحَ، واستغفروا وعانق بعضهم بعضاً، وانصرفوا مع الرسول - صلوات الله عليه وسلامه - فنزلت الآية.
﴿ يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا فريقاً ﴾ من اليهود ﴿ يردوكم بعد إيمانكم كافرين ﴾ ؛ يُبيح بعضكم دماء بعض، كما كنتم في الجاهلية.
ثم خاطب أهل الإحسان فقال :﴿ يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ﴾ بأن تغيبوا عما سواه، ولا تموتن إلا وأنتم منقادون لأحكام الربوبية، قائمون بوظائف العبودية. فهذه الآية خطاب لأهل الإحسان، و﴿ فَاْتَّقُواْ اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ ﴾ [ التغابن : ١٦ ] : خطاب لأهل الإسلام والإيمان، أو هذه لأهل التجريد، والثانية لأهل الأسباب، أو لأهل الباطن، والثانية لأهل الظاهر، فلكل آية أهل ومحل، فلا نسخ ولا تعارض. وقال الشيخ أبو العباس رضي الله عنه : من أراد الجمع بين الآيتين فليتق الله حق تقاته بباطنه، وليتق الله ما استطاع بظاهره. هـ. وبالله التوفيق.
ثم خاطب أهل الإحسان فقال :﴿ يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ﴾ بأن تغيبوا عما سواه، ولا تموتن إلا وأنتم منقادون لأحكام الربوبية، قائمون بوظائف العبودية. فهذه الآية خطاب لأهل الإحسان، و﴿ فَاْتَّقُواْ اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ ﴾ [ التغابن : ١٦ ] : خطاب لأهل الإسلام والإيمان، أو هذه لأهل التجريد، والثانية لأهل الأسباب، أو لأهل الباطن، والثانية لأهل الظاهر، فلكل آية أهل ومحل، فلا نسخ ولا تعارض. وقال الشيخ أبو العباس رضي الله عنه : من أراد الجمع بين الآيتين فليتق الله حق تقاته بباطنه، وليتق الله ما استطاع بظاهره. هـ. وبالله التوفيق.
قال البيضاوي : وقيل : معنى ﴿ حق تقاته ﴾ : أن يُنزه الطاعة عن الالتفات إليها، وعن توقع المجازاة عليها، وفي هذا الأمر تأكيدٌ للنهي عن طاعة أهل الكتاب، ﴿ ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون ﴾ أي : لا تكونوا على حالةٍ سوى الإسلام، إلى أن يدرككم الموت. ه. أماتنا الله على حسن الختام، مع السلامة والعافية على الدوام.
ثم خاطب أهل الإحسان فقال :﴿ يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ﴾ بأن تغيبوا عما سواه، ولا تموتن إلا وأنتم منقادون لأحكام الربوبية، قائمون بوظائف العبودية. فهذه الآية خطاب لأهل الإحسان، و﴿ فَاْتَّقُواْ اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ ﴾ [ التغابن : ١٦ ] : خطاب لأهل الإسلام والإيمان، أو هذه لأهل التجريد، والثانية لأهل الأسباب، أو لأهل الباطن، والثانية لأهل الظاهر، فلكل آية أهل ومحل، فلا نسخ ولا تعارض. وقال الشيخ أبو العباس رضي الله عنه : من أراد الجمع بين الآيتين فليتق الله حق تقاته بباطنه، وليتق الله ما استطاع بظاهره. هـ. وبالله التوفيق.
﴿ وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَآءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُمْ مِّنْهَا كَذالِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ﴾
قلت : أصل الحبل في اللغة : السبب المُوصِّل إلى البغية، سمى به الإيمان أو القرآن ؛ لأنه يُوصل إلى السعادة السرمدية، و﴿ شفا حفرة ﴾، وأصله :( شفو )، فقلبت ألفاً في المذكر، وحذفت في المؤنث، فقالوا : شفة.
يقول الحقّ جلّ جلاله :﴿ واعتصموا ﴾ أي : تمسكوا يا معشر المسلمين ﴿ بحبل الله ﴾ أي : الإيمان، أو كتاب الله، لقوله عليه الصلاة والسلام :" إنَّ هذا القرآن هو حَبْلُ الله المّتِين، وهو النورُ المُبِينُ، والشِّفَاءُ النافِعُ، عِصْمَةٌ لِمَنْ تَمَسَّكَ به. . . ". الحديث. حال كونكم ﴿ جميعاً ﴾ أي : مجتمعين عليه، ﴿ ولا تفرقوا ﴾ تفرقكم الجاهلي، أو لا تفرقوا عن الحق بوقوع الاختلاف بينكم كأهل الكتاب. قال عليه الصلاة والسلام :" إنَّ بَني إسْرائيلَ افتَرقَتْ على إحْدى وسَبْعِينَ فِرْقةً، وإنَّ أُمَّتِي سَتَفْتَرِقُ على ثِنتَيْنِ وسَبْعِينَ فِرْقَةً، كُلّها في النَّارِ إلا واحِدَةً، فقيل : يا رسول الله، ما هذه الواحدة ؟ فقبض يده وقال : الجَمَاعَةُ، ثمَّ قرأ :﴿ وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا ﴾ ".
﴿ واذكروا نعمت الله عليكم ﴾، التي من جملتها الهداية للإسلام المؤدِّي إلى التآلف وزوال الغِلِّ، ﴿ إذ كنتم أعداء ﴾ في الجاهلية، يقتل بعضُكم بعضاً، ﴿ فألّف بين قلوبكم ﴾ بالإسلام، ﴿ فأصبحتم بنعمته إخواناً ﴾ متحابين مجتمعين على الأخوة في الله. قال عليه الصلاة والسلام :" لا تَحَاسَدُوا، ولا تَبَاغَضُوا، ولا تَدَابَرُوا، وكُونُوا عبادَ الله إخْواناً، المسلمُ أَخُوا المسلمُ لا يَظْلِمُه ولا يَخْذُلُه ". الحديث. رُوي أن الأوس والخزرج كانوا أخَوَيْن لأبوين، فوقع بين أولادهما العداوة، وتطاولت الحرب بينهما مائة وعشرين سنة، حتى أطفأها الله بالإسلام، وألف بينهم برسول الله عليه الصلاة والسلام - فنزلت فيهم هذه الآية.
ثم قال لهم :﴿ وكنتم على شفا حفرة من النار ﴾ أي : مُشرفين على نار جهنم، إذ لو أدرككم الموت لوقعتم في النار، ﴿ فأنقذكم ﴾ الله ﴿ منها ﴾ برسوله - عليه الصلاة والسلام - : رُوِيَ أن أعرابيّاً سمع ابن عباس يقرأ هذه الآية، فقال الأعرابي : والله ما أنقذهم منها وهو يريد أن يوقعهم فيها، فقال ابن عباس رضي الله عنه خذوها من غير فقيه. ه. ﴿ كذلك يبين الله لكم آياته ﴾ أي : مثل هذا النبيين ﴿ يبين الله لكم آياته لعلكم تهتدون ﴾ إلى الخير، وتزيدون ثباتاً فيه.
الإشارة : المذاهب كلها وقع فيها الاختلاف والتفرق في الأصول والفروع، إلا مذاهب الصوفية فكلها متفقة بداية ونهاية، إذ بدايتهم مجاهدة، ونهايتهم مشاهدة، وإلى ذلك أشار في المباحث، حث قال :
مذاهبُ الناسِ على اخْتلاف | ومَذْهَبُ القَوْمِ على ائْتِلاَف |
﴿ وَلْتَكُن مِّنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾
قلت :( مِنْ ) : للتبعيض ؛ لأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من فُروض الكفاية ؛ إذ لا يصلح له كُلُّ أحد، أو للبيان، أي ؛ كونوا أمة تأمرون بالمعروف، كقوله :﴿ كُنتُمْ خَيْرُ أُمَةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرونَ بِالْمَعْرُوفِ ﴾ [ آل عِمرَان : ١١٠ ] الخ، و﴿ يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ﴾ عطف على الخبر، من عطف الخاص على العام ؛ للإيذان بفضله.
يقول الحقّ جلّ جلاله :﴿ ولتكن منكم ﴾ يا أمة محمد صلى الله عليه وسلم ﴿ أمة ﴾ أي : طائفةً ﴿ يدعون إلى الخير ﴾، وهو كل ما فيه صلاحٌ ديني، أو دنيوي إذ كان يؤول إلى الديني، أو صلاح قلبي أو روحاني، ﴿ ويأمرون بالمعروف ﴾ وهو ما يستحسنه الطبع ويرتضيه الشرع، ﴿ وينهون عن المنكر ﴾ وهو كل ما ينكره الطبعُ السليم والشرع المستقيم، فمن فعل ذلك فأولئك ﴿ هم المفلحون ﴾ المخصوصون بكمال الفلاح.
رُوِيَ عنه عليه الصلاة والسلام : أنه سئل مَنْ خير الناس ؟ فقال :" آمرُهم بالمعروف، وأنهاهم عن المنكر، وأتقاهم الله، وأوصلهم للرحم ". وقال أيضاً :" مَنْ أمَرَ بالمَعْروفِ ونَهَى عَنِ المُنْكَرِ كان خَلِيفَةَ اللّهِ في أرْضِهِ وخَلِيفَةَ رَسُولِه وخَلِيفَةَ كِتَابِه. وقال عليّ رضي الله عنه :( أفضل الجهاد : الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وشنئان الفاسقين - أي بغضهم - فمن أمر بالمعروف شدَّ ظهرَ المؤمن، ومن نهى عن المنكر أرْغَمَ أنف المنافق، ومن شَنَأَ الفاسقين وغَضب لله غَضبَ الله له ). وقال أبو الدرداء :( لتأمُرُن بالمعروف، ولتنهون عن المنكر، أو ليُسلطن الله عليكم سلطاناً ظالماً، لا يُجِلُّ كبيركم، ولا يرحم صغيركم، ويدعو عليه خيارُكم فلا يستجاب لهم، ويَسْتنصِرون فلا يُنصرون، ويستغفرون فلا يغفر لهم ). وقال حذيفة :( يأتي على الناس زمان لأن تكون فيه جيفة حمار، أحب إليهم من مؤمنٍ يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ).
وللمتصدِّي له شروط : العلم بالأحكام، ومراتب الاحْتِسَاب وكيفية إقامتها، والتمكن من القيام بها، ولذلك خاطب الحق تعالى الجميع، وطلب فعل بعضهم، إذ لا يصلح للقيام به إلا البعض، كما هو شأن فرض الكفاية، إذ هو واجب على الكل، بحيث لو تركوه لعوقبوا جميعاً، لكنه يسقط بفعل البعض.
والأمر بالمعروف يكون واجباً ومندوباً، على حسب ما يأمر به، والنهي عن المنكر واجب كله ؛ لأن جميع ما أنكره الشرع حرام. وأما المكروه فليس بمنكر، فيستحب الإرشاد إلى تركه. والأظهر أن العاصي يجب أن ينهى عما يرتكبه هو ؛ لأنه يجب عليه تركه، فلا يسقط بترك أحدهما وجوب الآخر. وقد قال عليه الصلاة والسلام :" مُرُوا بالمَعْرُوفِ وإن لَمْ تَعمَلُوا بِكُلِّهِ، وانْهَوْا عَنِ المُنْكَرِ وإنْ لم تَنْتَهُوا عنه كُلهُ ".
الإشارة :﴿ ولتكن منكم أمة ﴾ أي : طائفة ينهض حالهم ويدلُّ على الله مقالهم، يدعون إلى الخير العظيم، وهو شهود ذات السميع العليم، ويأمرون بالمعروف بالهمة العلية، وينهون عن المنكر بالحال القوية، فكلُّ من رآهم بالصفا ائتمر وانتهى، وكل من صحبهم بالوفاء أخذ حظه من الغنى بالمكيال الأوفى، إن لله رجالاً من نظر إليهم سعد سعادة لا يشقى بعدها أبداً، فهؤلاء يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر بالحال دون المقال.
يُحكى أن بعض الشيوخ مرَّ مع أصحابه بقوم يشربون الخمر تحت شجرة فأراد أصحابه أن يُغيروا عليهم، فقال لهم : إن كنتم رجالاً فَغِيرُوا عليهم بحالكم دون مقالكم، فتوجهوا إلى الله بهممهم، فإذا القوم قد كسروا الأواني، وجاءوا إلى الشيخ تائبين. وكذلك قضية معروف الكرخي مع أصحاب السفينة، الذي كانوا مشتغلين باللهو واللعب، فقال له أصحابه : ادع عليهم، فقال : اللهم كما فرَّحتَهم في الدنيا ففرِّحْهُم في الآخرة، فتابوا على يده جميعاً. وبالله التوفيق، وهو الهادي إلى سواء الطريق.
﴿ وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَآءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ﴾ * ﴿ يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكْفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُواْ الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ ﴾ * ﴿ وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴾ * ﴿ تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِّلْعَالَمِينَ ﴾ * ﴿ وَللَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ ﴾
يقول الحقّ جلّ جلاله :﴿ ولا تكونوا ﴾ كاليهود والنصارى الذين ﴿ تفرقوا ﴾ في التوحيد والتنزيه، ﴿ واختلفوا ﴾ في أحوال الآخرة. قال عليه الصلاة والسلام :" افْتَرقَتِ اليَهُودُ على إِحْدَى وسَبْعِين فرقَةً، وافْتَرقَت النَّصارَى عَلَى ثَنْتَيْنِ وسَبْعِين فِرقَةٌ، وستفترق أمتي على ثلاثٍ وسَبْعِينَ فِرْقةً، كلُّها في النَّارِ إلا وَاحِدةً. قيل : ومَنْ تلك الواحدة ؟ قال : ما أَنَا وأَصْحابِي عَلَيْه ". وهذا الحديث أصح مما تقدم، والصحابة يروْوُن الحديث بالمعنى، فلعلَّ الأول نسي بعض الحديث. والله أعلم.
ثم إن النهي مخصوص بالتفرق في الأصول دون الفروع، لقوله عليه الصلاة والسلام :" اخْتلاَفُ أُمَّتِي رَحْمَةٌ "، ولقوله :" من اجْتَهَدَ وأصَابَ فله أجْرَانِ، ومن اجْتَهدَ وأخطَأَ فَلَهُ أجْرٌ وَاحد ".
ثم إن أهل الكتاب تفرقوا ﴿ من بعد ما جاءهم البينات ﴾ أي : الآيات والحجج المبينة للحق الموجبة للاتفاق عليه، ﴿ وأولئك لهم عذاب عظيم ﴾، يستقر لهم هذا العذاب.
﴿ يوم تبيض وجوه ﴾ المؤمنين المتقين على التوحيد، ﴿ وتسود وجوه ﴾ الكافرين المتفرقين فيه، أو تبيض وجوه المخلصين وتسود وجوه المنافقين، أو تبيض وجوه أهل السنة وتسود وجوه أهل البدعة. وبياض الوجوه وسوادها كِنَايتَان عن ظهور بهجة السرور وكآبة الخوف فيه، وقيل : يُوسَم أهل الحق ببياض الوجوه والصحيفة وإشراق البشرة وسعي النور بين يديه وبيمينه، وأهل الباطل بأضداد ذلك. ﴿ فأما الذين اسودت وجوههم ﴾ فيقال لهم يومئذ :﴿ أكفرتم ﴾ بمحمد - عليه الصلاة والسلام - بعد ظهوره، ﴿ بعد إيمانكم ﴾ به قبل ظهوره، وهم اليهود أو أهل الردة، آمنوا في حياته صلى الله عليه وسلم وكفروا بعد موته. أو جميع الكفار، آمنوا في عالم الذر وأقروا على أنفسهم، ثم كفروا في عالم الشهادة. ويقال لهم أيضاً :﴿ ذوقوا العذاب ﴾ بسبب ما كنتم ﴿ تكفرون ﴾.
﴿ كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ. . . ﴾
قلت :﴿ كان ﴾ : على بابها من الدلالة على المُضِيِّ، أي : كنتم في اللوح المحفوظ، أو في علم الله، أو فيما بين الأمم المتقدمة، أو : صلة، أي : أنتم خير أمة، و﴿ للناس ﴾ : يتعلق بأخرجت، أو بكنتم، أي : كنتم خير الناس للناس.
يقول الحقّ جلّ جلاله : لأمة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم :﴿ كنتم ﴾ في سابق علمي ﴿ خير أمة ﴾ ظهرت ﴿ للناس ﴾ تجيئون بهم إلى الجنة بالسلاسل. ثم بيَّن وجه فضلهم فقال :﴿ تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله ﴾ وبجميع ما يجب الإيمان به.
وقد ورد في مدح هذه الأمة المحمدية أحاديث، منها قوله صلى الله عليه وسلم :" حُرِّمتْ الجنةُ على الأنبياء حتى أدخلها أنا، وحُرّمتْ الجنة على الأُمَمِ حتى تدخلها أمتي ". ومنها قوله صلى الله عليه وسلم :" أمتي أمةٌ مَرْحُومَةٌ، إذَا كَانَ يَوْمُ القِيامةِ أَعطى الله كُلَّ رَجُلٍ مِن هذه الأمة رجُلاً فيقال : هذَا فِدَاؤُكَ مِنَ النَّارِ ".
وعن أنس قال :" خرجت مع النبيّ صلى الله عليه وسلم، فإذا صوت يجيء من شِعْبِ، فقال : يا أنس : قُمْ فانظرْ ما هذا الصوت، فانطلقت فإذا برجلٍ يُصلّي إلى شجرة، ويقول : اللهم اجعلني من أمة محمد صلى الله عليه وسلم، الأمة المرحومة، المغفور لها، المستجاب لها، المتاب عليها، فأتيتُ النبيّ صلى الله عليه وسلم، فأخبرته، فقال : انطلق، فقل له : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرئك السلام، ويقول لك : من أنت ؟ فأتيت، فأعلمته ما قال النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال : اقرأ مني السلام على رسول الله صلى لله عليه وسلم، وقل له : أخوك الخضر يقول لك : ادع الله أن يجعلني من أمتك المرحومة المغفور لها ". وقيل لعيسى ابن مريم : هل بعد هذه الأمة أمة ؟ قال : نعم، أمة أحمد. قيل : وما أمة أحمد ؟ قال : علماء، حكماء، أبرار أتقياء، كأنهم من الفقه أنبياء، يرضون باليسير من الرزق، ويرضى الله عنهم باليسير من العمل، يدخلهم الجنة بشهادة أن لا إله إلا الله. ه.
وليس أولها أولى بالمدح من آخرها، لقوله صلى الله عليه وسلم :" أُمتي كالمَطَرِ، لا يُدْرَى أولهُ خيرٌ أو آخرُه " ؟ وفي خبر آخر عنه صلى الله عليه وسلم قال :" اشتقْتُ إلى إخواني، فقال أصحابُه : نحن إخوانُك يا رسول الله، فقال أنتم أصْحَابي، إخْواني : ناس يأتُون بعدي، يُؤمنون بي ولم يَرَوْنِي، يَوَدُّ أحدُهم لو يَرَاني بجميع ما يَمْلِكُ. يَعْدِلُ عملُ أحدهم سبعين منكم. قالوا : مِنْهم يا رسول الله ؟ قال : منكم. قالوا : ولِمَ ذلك يا رسول الله ؟ قال : لأنكم وَجَدْتُم على الخير أعْواناً، وهم لا يَجِدُوا عليه أعواناً ". أو كما قال - عليه الصلاة والسلام -.
قلت : التفضيل باعتبار أجور الأعمال، وأما باعتبار اليقين والمعرفة، فالصحابة أفضل الخلق بعد الأنبياء - عليهم السلام - ويدل على هذا قوله - عليه الصلاة والسلام - " يعدل عمل أحدهم "، ولم يقل إيمان أحدهم. والله تعالى أعلم.
يقول الحقّ جلّ جلاله :﴿ ولو آمن أهل الكتاب ﴾ إيماناً كائنا كإيمانكم، ﴿ لكان خيراً لهم ﴾ مما هم عليه. وليس أهل الكتاب سواء، بل ﴿ منهم المؤمنون ﴾ كعبد الله بن سلام وأصحابه، ﴿ وأكثرهم الفاسقون ﴾ المتمردون في الكفر والفسوق، فلا يهولكم أمرهم، فإنهم ﴿ لن يضروكم ﴾.
الإشارة : كنتم يا معشر الصوفية خير أمة أخرجت للناس، تأمرون بالجمع على الله والغيبة عما سواه، وتنهونَ عن كلِّ ما يُبعد عن الله ويفرق العبدَ عن مولاه، وتؤمنون بالله وبما وعد به الله، إيمان الشهود والعيان، الذي هو مقام الإحسان. قال القشيري في رسالته :( قد جعل الله هذه الطائفة صفوة أوليائه، وفضَّلهم على الكافة من عباده بعد رسله وأنبيائه ).
وقال الجنيد رضي الله عنه : لو نعلم أن تحت أديمِ السماء أشرف من هذا العلم الذي نتكلم فيه مع أصحابنا، لسعيت إليه ولو حبواً. ه. وكان كثيراً ما ينشد :
عِلْمُ التصوفِ عِلمٌ ليس يَعْرِفُهُ | إلاَّ أَخْو فِطْنَةِ بِالحقِّ معروفُ |
وليسَ يُبْصِرهُ مَنْ ليس يَشْهدهُ | وكيفَ يَشْهَدُ ضوءَ الشمس مكفوفُ |
حُجَّةُ من يُرَجِّعُ الصُوفية | على سواهم حُجَّةٌ قويَّه |
هُمْ أَتْبَعُ النَّاسِ لخيرِ النَّاس | مِنْ سَائِرِ الأَنَامِ والأُنَاس |
ثُمَّ بِشَيْئَيْنِ تقومُ الحُجَّه | أنَّهمْ قَطْعاً على المَحَجَّه١ |
وَمَا أَتَوْا فيه بخَرْقِ الْعَادَه | إذْ لمْ تَكُنْ لِمَنْ سِوَاهُم عَادَه |
قَدْ رَفَضُوا الآثَامَ والعُيوب | وطَهَّرُوا الأبدَانَ والقُلُوب |
وَبَلَغُوا حقيقَةَ الإيمَان | وانْتَهَجُوا منَاهِجَ الإحْسَان |
﴿. . . وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ مِّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ * لَن يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى وَإِن يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الأَدُبَارَ ثُمَّ لاَ يُنصَرُونَ ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُواْ إِلاَّ بِحَبْلٍ مِّنْ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِّنَ النَّاسِ وَبَآءُوا بِغَضَبٍ مِّنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذالِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُواْ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الأَنْبِيَآءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذالِكَ بِمَا عَصَوْاْ وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ ﴾
قلت : وقد هددونا بالضرب والرفع إلى السلطان والجلاء إلى برِّ النصارى، فلم يقدروا على شيء من ذلك، وقد وقع ذلك لبعض الصوفية زيادةً في شرفهم وعزّهم، فالمنكر على الصوفية لا يزال في هَمٍّ وغمٍّ وذُلٍّ ومسكنة، لخراب باطنه من نور اليقين. فإنَّ الانتقاد على الأولياء جناية واعتقادهم عناية، فإن استمر على أذاهم كان عاقبته سوء الخاتمة، فيبوء بغضب من الله سبب اعتدائه على أولياء الله، " ومن آذى لي وليّاً فقد أذن بالحرب "، رزقنا الله الأدب معهم، وأماتنا على محبتهم، آمين.
وهذه الآية من المُغيبات التي وافقها الواقع، إذ كان كذلك في بني قريظة والنضير وبني قينقاع وخيبر، فلم تُرْفع لهم راية أبداً، بل ﴿ ضُربت عليهم الذلة ﴾ والخزي والهوان، أي : أحاطت بهم إحاطة البيت المضروب على أهله، أو لزمتهم لزوم الدرهم المضروب لضربه، فلا تنفك عنهم ﴿ أيم ما ثقفوا ﴾ ووُجدوا، فلا يأمنون ﴿ إلا بحبل من الله ﴾ أي : بسبب عهد من الله، وهو عقد الذمة التي أمر الله بها، إذا أدوا الجزية للمسلمين، فلهم حرمة بسبب هذا العقد، فلا يجوز التعرض لهم في مال ولا دم ولا أهل، ﴿ وحبل من الناس ﴾، وهو عقد الذمة التي يعقدها مع الكفار إذا كانوا تحت ذمتهم. والحاصل أن الذلة لازمة لهم فلا يأمنون إلا تحت الذمة، إما من المسلمين وإما من الكفار. ﴿ وباءوا بغضب من الله ﴾ أي : انقلبوا به مستحقين له، ﴿ وضربت عليهم المسكنة ﴾ أي : أحاطت بهم، فاليهود في الغالب فقراء مساكين، لأن قلوبهم خاوية من اليقين، فالفقر والجزع لازم لهم، ولو ملكوا الدنيا بأجمعها.
﴿ ذلك ﴾ الذل والمسكنة والبواء بالغضب بسبب أنهم ﴿ كانوا يكفرون بآيات الله ﴾ المنزلة على رسوله، أو الدالة على توحيده، ﴿ ويقتلون الأنبياء بغير حق ﴾ بل ظلماً وعدواناً، ذلك الكفر بسبب عصيانهم واعتدائهم حدود الله، فإن الإصرار على الصغائر يُفضي إلى الكبائر، والإصرار عل الكبائر يؤدي إلى الكفر ؛ لأن المعاصي بريد الكفر، والعياذ بالله.
قلت : وقد هددونا بالضرب والرفع إلى السلطان والجلاء إلى برِّ النصارى، فلم يقدروا على شيء من ذلك، وقد وقع ذلك لبعض الصوفية زيادةً في شرفهم وعزّهم، فالمنكر على الصوفية لا يزال في هَمٍّ وغمٍّ وذُلٍّ ومسكنة، لخراب باطنه من نور اليقين. فإنَّ الانتقاد على الأولياء جناية واعتقادهم عناية، فإن استمر على أذاهم كان عاقبته سوء الخاتمة، فيبوء بغضب من الله سبب اعتدائه على أولياء الله، " ومن آذى لي وليّاً فقد أذن بالحرب "، رزقنا الله الأدب معهم، وأماتنا على محبتهم، آمين.
﴿ لَيْسُواْ سَوَآءً مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَآئِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَآءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ ﴾ * ﴿ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُوْلَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ ﴾ * ﴿ وَمَا يَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَروهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ ﴾
قلت :﴿ قائمة ﴾ أي : مستقيمة، من أقمت العود فقام، أو قائمة بأمر الله. و﴿ آناء الليل ﴾ : ظرف : واحده :﴿ إِنْيٌ ﴾، بكسر الهمزة وسكون النون، كنحى وأنحاء، أو ﴿ إني ﴾، كمعى وأمعاء.
يقول الحقّ جلّ جلاله : ليس أهل الكتاب ﴿ سواء ﴾ في الكفر والعدوان، بل منهم ﴿ أمة ﴾ أي : طائفة ﴿ قائمة ﴾ بالعدل مستقيمة في الدين، أو قائمة بأمر الله، أو قائمة في الصلاة ﴿ يتلون آيات الله ﴾ في تهجدهم ﴿ آناء الليل ﴾ أي : في ساعاته، ﴿ وهم يسجدون ﴾ في صلاتهم، أو في صلاة العشاء، لأن أهل الكتاب لا يصلونها، لِمَا رُوِيَ أنه صلى الله عليه وسلم أخَّرها، ثم خَرَج، فإذا الناسُ يَنْتَظُرونَها، فقال :" أبشروا ؛ فَإِنَّه لَيْسَ مِنْ أَهْل الأَرض أحدٌ يُصَلِّي في هَذِهِ السّاعَةِ غَيْرُكُم ".
ولذلك قال :﴿ وما يفعلوا من خير فلن يُكفروه ﴾ أي : فلن تحرموا ثوابه. ولن تجحدوا جزاءه، بل يشكره لكم ويجزيكم عليه، سَمى الحرمان كفراناً كما سمى العطاء شكراً. ﴿ والله عليهم بالمتقين ﴾ ؛ فلا يخفى عليه مقاماتهم في التقوى، وفيه إشعار بأن التقوى مبدأ الخير وأحسن الأعمال، وأن الفائزين عند الله هم أهل التقوى. رزقنا الله منها الحظ الأوفر بمنِّه. آمين.
﴿ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُمْ مِّنَ اللَّهِ شَيْئاً وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴾
يقول الحقّ جلّ جلاله :﴿ إن الذين كفروا ﴾ وجحدوا ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، ﴿ لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من ﴾ عذاب ﴿ الله شيئاً ﴾ ﴿ وأولئك أصحاب النار ﴾ أي : مُلاَزِمُوها، كَمُلاَزَمَةِ الرجل لصاحبه، ﴿ هم فيها خالدون ﴾.
الإشارة : إن الذين كفروا بالخصوصية عند أهل زمانهم، وفاتهم اقتباس أنوارهم، لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم ولا علومهم مما فاتهم من معرفة الله شيئاً، ماذا وَجَدَ مَنْ فَقَدَ الله ؟ وماذا فقد من وجد الله ؟ ! قال الشاعر :
لِكُلِّ شيء إذا فارقته عِوَضٌ | وليسَ للّهِ إنْ فارقت مِنْ عِوَضِ |
﴿ مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ﴾
قلت : في الكلام حذف، أي : مثل تلف ما ينفقون كمثل إتلاف ربح. . . الخ، و ﴿ الصر ﴾ : البرد الشديد، أو ريح فيها صوت وبرد، أو السموم الحارة.
يقول الحقّ جلّ جلاله : مثل ما يُنفق الكفار، قربة أو مفاخرة وسمعة، أو ما ينفق سفلة اليهود على أحبارهم، أو المنافقون ؛ رياء وخوفاً، ﴿ كمثل ريح ﴾ فيها برد شديد ﴿ أصابت حرث قوم ﴾ أي : زرعهم، فأتلفته وأهلكته، والمراد : تشبيه نفقتهم وأعمالهم في تلفه وضياعه وعدم الانتفاع به، بحرث كفار، ضربته ريح فيها برد فاجتاحته، فأصبح صعيداً زلقاً، ولم تبق فيه منفعة في الدنيا والآخرة، ﴿ وما ظلمهم الله ﴾ بأن ضيع أعمالهم من غير سبب، ولكنهم ظلموا أنفسهم بارتكاب الكفر الذي أحبط أعمالهم.
الإشارة : كل من لم يحقق مقام الإخلاص، ولم يصحب أهل التخليص والاختصاص، لا تنفك أعماله من علل، ولا أحواله من دخل، فأعماله فارغة خفيفة، أقل ريح تقلعها وتسقطها عن درجة الاعتبار، وما زالت العامة تقول : الصحيح يصح، والخاوي يدريه الريح. وبالله التوفيق.
﴿ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّواْ مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَآءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ ﴾ * ﴿ هَآأَنْتُمْ أُوْلاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلاَ يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُواْ آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ عَضُّواْ عَلَيْكُمُ الأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُواْ بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ﴾ * ﴿ إِن تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُواْ بِهَا وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ ﴾
قلت : بطانة الرجل : خواصه الذين يطلعهم على باطنه وسره، وسميت بطانة ؛ تشبيهاً لها بالثوب الذي يلي بطنه كالشعار. قال عليه الصلاة والسلام :" الأَنْصَارَ شِعَارٌ والنَّاسُ دِثَارٌ ". وهي اسم تطلق على المفرد والجمع والمذكر والمؤنث. والألو : التقصير، وأصله : أن يتعدى بالحرف، تقول : لا آلو في نصحك ؛ أي : لا أقصر فيه. ثم عدي إلى مفعولين، كقولهم : لا آلوك نصحاً، على تضمن معنى المنع أو النقص. والخبال : الفساد.
و﴿ ما عنتم ﴾ : مصدرية، والعنت : التعب والمشقة، والأنامل : جمع أنملة - بضم الميم وفتحها -، والضير والضر واحد. ومضارع الأول : يضير، والثاني : يضر، وهو هنا مجزوم، وأصله : يضرُركم، نقلت حركة الراء إلى الضاد، وضمت الراء، إتباعاً لحركة الضاد طلباً للمشاكلة.
يقول الحقّ جلّ جلاله :﴿ يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة ﴾ أي : أصدقاء وأصفياء، تطلعونهم على سركم، وهم ﴿ من دونكم ﴾ ليسوا على دينكم، فإنهم ﴿ لا يألونكم خبالاً ﴾ أي : لا يقصرون جهدَهم في إدخال الفساد بينكم بالتخليط والنميمة وإطلاع الكفار على عورتكم. نزلت في رجال من المسلمين، كانوا يصلون رجالاً من اليهود ؛ لما كان بينهم من القرابة والصداقة، أو في المنافقين ؛ كان يصلهم بعض المسلمين.
ثم وصفهم بأوصاف توجب التنفير منهم فقال :﴿ ودوا ما عنتم ﴾ أي : تمنوا عنتكم وهلاككم وضلالكم، ﴿ قد بدت البغضاء من أفواههم ﴾ أي : ظهرت أمارة العداوة من أفواههم بالوقيعة في المسلمين، أو بإطلاع المشركين على عوراتهم، أو في كلامهم مع المسلمين بالغيظ، لأنهم لا يتمالكون أنفسهم لفرط بغضهم، ﴿ وما تخفي صدورهم ﴾ من العداوة والبغضاء، ﴿ أكبر ﴾ مما أظهروه، لأن ظهوره منهم ليس عن روية واختيار، بل من غلبة غيظ واضطرار. ﴿ قد بيّنَا لكم ﴾ أيها المؤمنون ﴿ الآيات ﴾ الدالة على مجانبة الكافرين ومولاة المؤمنين، ﴿ إن كنتم تعلقون ﴾ ما يُبين لكم.
من أطْلَعَ الناسَ على سره | استحقَّ الكيَّ على جَبْهَتِه |
قال لهم الحقّ جلّ جلاله :﴿ قل ﴾ لهم يا محمد :﴿ موتوا بغيظكم ﴾ ؛ فإنما ضرر غيظكم عليكم، أو دوموا على غيظكم حتى تموتوا عليه، فإن مادة الإسلام لا تزال تنمو حتى تهلكوا، ﴿ إن الله عليم بذات الصدور ﴾ أي : بحقيقة ما في قلوبكم من البغضاء والحَنَقَ١، أو بما في القلوب من خير أو شر. هو من مقول الرسول لهم، أو من كلام الله تعالى، استئناف، أي : لا تعجب من إطلاعي إياك على أسرارهم، فإني عليم بالأخفى من ضمائرهم.
من أطْلَعَ الناسَ على سره | استحقَّ الكيَّ على جَبْهَتِه |
من أطْلَعَ الناسَ على سره | استحقَّ الكيَّ على جَبْهَتِه |
﴿ وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّىءُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴾ * ﴿ إِذْ هَمَّتْ طَّآئِفَتَانِ مِنكُمْ أَن تَفْشَلاَ وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ ﴾
يقول الحقّ جلّ جلاله : واذكر يا محمد حين ﴿ غدوت من أهلك ﴾ من منزل عائشة، الذي نَزَلْتَ فيه بأحد، حين خرجت بها، حال كونك ﴿ تبوئ المؤمنين ﴾ أي : تهيئ لهم، ﴿ مقاعد للقتال ﴾ أي : مواقف وأماكن يقفون فيها للحرب ﴿ والله سميع ﴾ لأقوالكم، ﴿ عليم ﴾ بإخلاصكم.
قال الواقدي : خرج النبيّ صلى الله عليه وسلم من منزل عائشة - رضي الله عنها - ماشياً على رجليه إلى أُحد، فجعل يصف أصحابه للقتال كأنما يقوم بهم القدح١. إن رأى صدراً خارجاً، قال : تأخر. وذلك أن المشركين نزلوا بأحد، يوم الأربعاء، فلما سمع النبيّ صلى الله عليه وسلم بنزولهم استشار أصحابه، ودعا عبد الله بن أُبي بن سلول - ولم يدْعُه قط قبلها - فاستشاره، فقال عبد الله بن أبي وأكثر الأنصار : يا رسول الله ؛ أَقِمْ بالمدينة ولا تخرجْ إليهم، فوالله ما خرجنا منها إلى عدو قط إلا أصاب منا، ولا دخل علينا إلا أصبنا منه، فكيف وأنت فينا ! فدعهم يا رسول الله، فإن أقاموا أقاموا بشر محبس، وإن دخلوا قاتلهم الرجال في وجوههم، ورماهم النساء والصبيان بالحجارة، وإن رجعوا رجعوا خاسئين. فأعجب النبيّ صلى الله عليه وسلم هذا الرأي، وقال بعض أصحابه، يا رسول الله ؛ اخرج بنا إلى هذه الأكْلُب، لا يرون أنا جَبُنَّا عنهم وضعفنا. فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم :" إِنِّي رأيتُ في منامِي بَقَراً تذبح، فأولتها ناساً من أصحابي يُقتلون، ورأيت في ذُبابِ سَيْفي ثلماً٢، فأولتها هزيمةً، ورأيت أني أدخل يدي في درع حصينة، فأولتها المدينة. فإن رأيتُمْ أن تُقيموا بالمدينة وتَدَعُوهُم فافعلوا ". فقال رجال ممن فاتهم بدر، وأكرمهم الله بالشهادة يوم أحد : اخرج بنا إلى أعدائنا، وبالغوا، حتى دخل النبيّ صلى الله عليه وسلم ولبس لأمته٣. فلما رأوه قد لبس سلاحه ندموا، وقالوا : بئس ما صنعنا، نشير على النبيّ صلى الله عليه وسلم والوحي يأتيه، فقاموا واعتذروا إليه. وقالوا : اصنع ما رأيتَ، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم :" لا يَنْبَغِي لنَبِي أَنْ يلبَس لأمَتَهُ فيَضَعَهَا حتَى يُقاتِلَ ".
فخرج بعد صلاة الجمعة، وأصبح بشعب من أُحُد، يوم السبت للنصف من شوال، سنة ثلاث من الهجرة، ونزل في عدوة من الوادي، وجعله ظهره وعسكره إلى أحد، وسوى صفهم كما تقدم، وأمَّرَ عبد الله بن جبير على الرماة، وقال : انضحوا عنا بالنبل، لا يأتونا من خلقنا، فكان من أمر الله ما كان، على ما يأتي.
وخرج مع النبيّ صلى الله عليه وسلم في غزوة أحد زهاء ألف، ووعدهم النصر إن صبروا، فلما بلغوا الشواط - موضع - انخزل ابنُ أُبيّ في ثلاثمائة، وقال : علام نقتل أنفسنا ! فتبعهم أبو جابر السلمي، فقال : أُنشدكم الله في نبيكم وأنفسكم.
فقال ابن أُبيّ : لو نعلم قتالاً لاتبعناكم، وهمت بنو حارثة وبنو سلمة بالانصراف معه، فثبتوا مع النبيّ صلى الله عليه وسلم، فذكرهم نعمته بقوله :﴿ إذ همت طائفتان منكم أن تفشلا والله وليهما ﴾ وناصرهما، حيث عصمهما من اتباع المنافقين، قال جابر :( ما يسرنا أنها لم تنزل، لقوله :﴿ والله وليهما ﴾ ) فبنو سلمة من الخزرج، وبنو حارثة من الأوس، ﴿ وعلى الله فليتوكل المؤمنون ﴾ لا على غيره، إذ لا ناصر غيره.
وبَالَغَوا في الجدِّ حتى مَلَّ أكثرهُم | وعَانَقَ المجْدَ مَنْ وَافَى ومَنْ صَبَرَا |
٢ الثلم: الكسر..
٣ اللأمة: الدرع..
﴿ وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّىءُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴾ * ﴿ إِذْ هَمَّتْ طَّآئِفَتَانِ مِنكُمْ أَن تَفْشَلاَ وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ ﴾
يقول الحقّ جلّ جلاله : واذكر يا محمد حين ﴿ غدوت من أهلك ﴾ من منزل عائشة، الذي نَزَلْتَ فيه بأحد، حين خرجت بها، حال كونك ﴿ تبوئ المؤمنين ﴾ أي : تهيئ لهم، ﴿ مقاعد للقتال ﴾ أي : مواقف وأماكن يقفون فيها للحرب ﴿ والله سميع ﴾ لأقوالكم، ﴿ عليم ﴾ بإخلاصكم.
قال الواقدي : خرج النبيّ صلى الله عليه وسلم من منزل عائشة - رضي الله عنها - ماشياً على رجليه إلى أُحد، فجعل يصف أصحابه للقتال كأنما يقوم بهم القدح١. إن رأى صدراً خارجاً، قال : تأخر. وذلك أن المشركين نزلوا بأحد، يوم الأربعاء، فلما سمع النبيّ صلى الله عليه وسلم بنزولهم استشار أصحابه، ودعا عبد الله بن أُبي بن سلول - ولم يدْعُه قط قبلها - فاستشاره، فقال عبد الله بن أبي وأكثر الأنصار : يا رسول الله ؛ أَقِمْ بالمدينة ولا تخرجْ إليهم، فوالله ما خرجنا منها إلى عدو قط إلا أصاب منا، ولا دخل علينا إلا أصبنا منه، فكيف وأنت فينا ! فدعهم يا رسول الله، فإن أقاموا أقاموا بشر محبس، وإن دخلوا قاتلهم الرجال في وجوههم، ورماهم النساء والصبيان بالحجارة، وإن رجعوا رجعوا خاسئين. فأعجب النبيّ صلى الله عليه وسلم هذا الرأي، وقال بعض أصحابه، يا رسول الله ؛ اخرج بنا إلى هذه الأكْلُب، لا يرون أنا جَبُنَّا عنهم وضعفنا. فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم :" إِنِّي رأيتُ في منامِي بَقَراً تذبح، فأولتها ناساً من أصحابي يُقتلون، ورأيت في ذُبابِ سَيْفي ثلماً٢، فأولتها هزيمةً، ورأيت أني أدخل يدي في درع حصينة، فأولتها المدينة. فإن رأيتُمْ أن تُقيموا بالمدينة وتَدَعُوهُم فافعلوا ". فقال رجال ممن فاتهم بدر، وأكرمهم الله بالشهادة يوم أحد : اخرج بنا إلى أعدائنا، وبالغوا، حتى دخل النبيّ صلى الله عليه وسلم ولبس لأمته٣. فلما رأوه قد لبس سلاحه ندموا، وقالوا : بئس ما صنعنا، نشير على النبيّ صلى الله عليه وسلم والوحي يأتيه، فقاموا واعتذروا إليه. وقالوا : اصنع ما رأيتَ، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم :" لا يَنْبَغِي لنَبِي أَنْ يلبَس لأمَتَهُ فيَضَعَهَا حتَى يُقاتِلَ ".
فخرج بعد صلاة الجمعة، وأصبح بشعب من أُحُد، يوم السبت للنصف من شوال، سنة ثلاث من الهجرة، ونزل في عدوة من الوادي، وجعله ظهره وعسكره إلى أحد، وسوى صفهم كما تقدم، وأمَّرَ عبد الله بن جبير على الرماة، وقال : انضحوا عنا بالنبل، لا يأتونا من خلقنا، فكان من أمر الله ما كان، على ما يأتي.
وخرج مع النبيّ صلى الله عليه وسلم في غزوة أحد زهاء ألف، ووعدهم النصر إن صبروا، فلما بلغوا الشواط - موضع - انخزل ابنُ أُبيّ في ثلاثمائة، وقال : علام نقتل أنفسنا ! فتبعهم أبو جابر السلمي، فقال : أُنشدكم الله في نبيكم وأنفسكم.
فقال ابن أُبيّ : لو نعلم قتالاً لاتبعناكم، وهمت بنو حارثة وبنو سلمة بالانصراف معه، فثبتوا مع النبيّ صلى الله عليه وسلم، فذكرهم نعمته بقوله :﴿ إذ همت طائفتان منكم أن تفشلا والله وليهما ﴾ وناصرهما، حيث عصمهما من اتباع المنافقين، قال جابر :( ما يسرنا أنها لم تنزل، لقوله :﴿ والله وليهما ﴾ ) فبنو سلمة من الخزرج، وبنو حارثة من الأوس، ﴿ وعلى الله فليتوكل المؤمنون ﴾ لا على غيره، إذ لا ناصر غيره.
وبَالَغَوا في الجدِّ حتى مَلَّ أكثرهُم | وعَانَقَ المجْدَ مَنْ وَافَى ومَنْ صَبَرَا |
٢ الثلم: الكسر..
٣ اللأمة: الدرع..
﴿ وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُواْ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴾
قلت :﴿ بدر ﴾ : بئر بين مكة والمدينة، كانت لرجل اسمه بدر، فسميت باسم صاحبها، وقعت فيها الغزوة التي نصر الله فيها رسوله صلى الله عليه وسلم، فسميت الغزوة باسم المكان، وجملة :﴿ وأنتم أذلة ﴾ : حال من الكاف، و﴿ أذلة ﴾ : جمع ذليل، كأعزة، جمع عزيز.
يقول الحقّ جلّ جلاله :﴿ ولقد نصركم الله ﴾ في وقعة بدر ﴿ وأنتم أذلة ﴾ ليس معكم مراكب ولا كثرة سلاح، مع قوة عدوكم بالعُدة والعدد، ﴿ فاتقوا الله ﴾ وأثبتوا مع رسوله، وانتظروا النصر من الله كما عودكم، ﴿ لعلكم ﴾ تكونون شاكرين، لما أنعم به عليكم من العز والنصر، فيزيدكم منه كما وعدكم.
الإشارة : جعل الله سبحانه وتعالى الأِشياء كامنة في أضدادها، فمن أراد العز والنصر فليتحقق بالذل والمسكنة، ومن أراد الغنى فليتحقق بالفقر، ومن أراد الرفعة فليتحقق بالضعة وإسقاط المنزلة، ومن أراد القوة فليتحقق فالضعف، وهكذا :[ تحقق بأوصافك يمدك بأوصافه ]. فاتقوا الله يا معشر المريدين، واطلبوا الأشياء في أضدادها لتظفروا بها، واشكروا الله على ما أولاكم يزدكم من فضله ونواله.
﴿ إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيكُمْ أَن يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاَثَةِ آلاَفٍ مِّنَ الْمَلائِكَةِ مُنزَلِينَ ﴾ * ﴿ بَلَى إِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ وَيَأْتُوكُمْ مِّن فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِّنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ ﴾
قلت :﴿ إذا ﴾ : ظرف لنصركم، إذا قلنا : إن الإمداد يوم بدر فقط، أو بدل من ﴿ إذ غدوت ﴾، إذا قلنا : كان الإمداد يوم أحد بشرط الصبر، فلما لم يصبروا لم يقع. والتسويم : التعليم.
يقول الحقّ جلّ جلاله : ولقد نصركم الله ببدر حين كنت ﴿ تقول للمؤمنين ﴾ حين رأوا كثرة عدوهم وقلة عدتهم وعددهم :﴿ ألن يكفيكم ﴾ في القوة والكثرة، ﴿ أن يمدكم ربكم بثلاثة آلاف من الملائكة مُنزلين ﴾ في السحاب ؟ ﴿ بلى إن تصبروا ﴾.
فإن قلت : ما ذكر في الأنفال إلا ألفاً، هنا خمسة آلاف. فالجواب : أن الله تعالى أمدهم أولاً بألف، ثم صاروا ثلاثة آلاف، ثم صاروا خمسة آلاف. قال ابن عباس : لم تقاتل الملائكة إلا يوم بدر، وفيما سوى ذلك يشهدون القتال معنا، ولا يقاتلون. ه.
﴿ وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلاَّ بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ ﴾ * ﴿ لِيَقْطَعَ طَرَفاً مِّنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنقَلِبُواْ خَآئِبِينَ ﴾ * ﴿ لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ ﴾ * ﴿ وَللَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَن يَشَآءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَآءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴾
يقول الحقّ جلّ جلاله : وما جعل الله ذلك الإمداد إلا بشارة لكم بالنصر، ﴿ ولتطمئن قلوبكم به ﴾ فتثبتوا للقتال، ﴿ وما النصر إلا من عند الله ﴾ فهو قادر على أن ينصركم بلا واسطة، لكن أراد أن يثيبكم وينسب المزية إليكم، حيث قتلهم على أيديكم، فإن الله عزيز لا يغلب، حكيم فيما دبر وأبرم، وإنما نصركم يوم بدر.
قال القشيري : جرَّده - أي : نبيه صلى الله عليه وسلم لما به عرفه عن كُلِّ غيْرٍ وسبب، حيث أخبره أنه ليس له من الأمر شيء، ثم قال : ويقال : أقامه في وقتٍ مقاماً ؛ رمى بقبضة من التراب، فأصابت جميع الوجوه، وقال :﴿ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَ اللَّهَ رَمَى ﴾ [ الأنفال : ١٧ ]، وقال في وقت آخر :﴿ لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيء ﴾ [ آل عِمرَان : ١٢٨ ]. هـ.
يشير إلى أنهما مقامان : نيابة عن الله بالله، ونيابة الله عن عبده، والأول بقاء، والثاني فناء، قاله المحشي. قتل : الأول في مقام البسط، والثاني في مقام القبض، فقد قالوا : إذا بسط فلا فاقة، وإذا قبض فلا طاعة. والله تعالى أعلم.
قال القشيري : جرَّده - أي : نبيه صلى الله عليه وسلم لما به عرفه عن كُلِّ غيْرٍ وسبب، حيث أخبره أنه ليس له من الأمر شيء، ثم قال : ويقال : أقامه في وقتٍ مقاماً ؛ رمى بقبضة من التراب، فأصابت جميع الوجوه، وقال :﴿ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَ اللَّهَ رَمَى ﴾ [ الأنفال : ١٧ ]، وقال في وقت آخر :﴿ لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيء ﴾ [ آل عِمرَان : ١٢٨ ]. هـ.
يشير إلى أنهما مقامان : نيابة عن الله بالله، ونيابة الله عن عبده، والأول بقاء، والثاني فناء، قاله المحشي. قتل : الأول في مقام البسط، والثاني في مقام القبض، فقد قالوا : إذا بسط فلا فاقة، وإذا قبض فلا طاعة. والله تعالى أعلم.
ولما جُرِحَ - عليه الصلاة والسلام - في وجهه، وشُجَّ على قرن حاجبه، وكُسِرَت رباعيته، هَمَّ بالدعاء على الكفار، بل دعا عليهم، فأنزل الله :﴿ ليس لك من الأمر شيء ﴾ ؛ إنما أنت رسول إليهم، مأمور بإنذارهم وجهادهم، وأمرهم بيد مالكم، إن شاء هداهم وإن شاء عذّبهم. وإنما نهاه عن الدعاء عليهم ؛ لعلمه بأن منهم من يُسلم ويجاهد في سبيل الله، وقد كان كذلك ؛ فجُلَّهم أسلموا وجاهدوا، منهم خالد بن الوليد - سيف الله في أرضه.
ثم عطف على قوله :﴿ ليقطع طرفاً من الذين كفروا أو يكبتهم ﴾ قوله :﴿ أو يتوب عليهم ﴾ إن أسلموا ﴿ أو يعذبهم ﴾ إن لم يسلموا، ﴿ فإنهم ظالمون ﴾ قد استحقوا العذاب بظلمهم، والأمور كلها بيد الله.
قال القشيري : جرَّده - أي : نبيه صلى الله عليه وسلم لما به عرفه عن كُلِّ غيْرٍ وسبب، حيث أخبره أنه ليس له من الأمر شيء، ثم قال : ويقال : أقامه في وقتٍ مقاماً ؛ رمى بقبضة من التراب، فأصابت جميع الوجوه، وقال :﴿ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَ اللَّهَ رَمَى ﴾ [ الأنفال : ١٧ ]، وقال في وقت آخر :﴿ لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيء ﴾ [ آل عِمرَان : ١٢٨ ]. هـ.
يشير إلى أنهما مقامان : نيابة عن الله بالله، ونيابة الله عن عبده، والأول بقاء، والثاني فناء، قاله المحشي. قتل : الأول في مقام البسط، والثاني في مقام القبض، فقد قالوا : إذا بسط فلا فاقة، وإذا قبض فلا طاعة. والله تعالى أعلم.
قال القشيري : جرَّده - أي : نبيه صلى الله عليه وسلم لما به عرفه عن كُلِّ غيْرٍ وسبب، حيث أخبره أنه ليس له من الأمر شيء، ثم قال : ويقال : أقامه في وقتٍ مقاماً ؛ رمى بقبضة من التراب، فأصابت جميع الوجوه، وقال :﴿ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَ اللَّهَ رَمَى ﴾ [ الأنفال : ١٧ ]، وقال في وقت آخر :﴿ لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيء ﴾ [ آل عِمرَان : ١٢٨ ]. هـ.
يشير إلى أنهما مقامان : نيابة عن الله بالله، ونيابة الله عن عبده، والأول بقاء، والثاني فناء، قاله المحشي. قتل : الأول في مقام البسط، والثاني في مقام القبض، فقد قالوا : إذا بسط فلا فاقة، وإذا قبض فلا طاعة. والله تعالى أعلم.
﴿ يَآ أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ الرِّبَا أَضْعَافاً مُّضَاعَفَةً وَاتَّقُواْ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾ * ﴿ وَاتَّقُواْ النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ ﴾ * ﴿ وَأَطِيعُواْ اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ﴾ * ﴿ وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ ﴾ * ﴿ الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّآءِ وَالضَّرَّآءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ﴾
يقول الحقّ جلّ جلاله :﴿ يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا الربا ﴾ وتزيدوا فيها إذا حلَّ الأجل ﴿ أضعافاً مضاعفة ﴾، ولعل التخصيص بحسب الواقع، إذ كان الرجل يَحُلُّ أجلُ دَيْنِهِ، فيقول للمدين : إما أن تقضي وإما أن تزيد، فلا يزال يؤخره ويزيد في دينه حتى يستغرق مال المدين، فنُهوا عن ذلك. ورغبهم في التقوى التي هي غنى الدارين. فقال :﴿ واتقوا الله ﴾ فيما نهيتكم عنه، ﴿ لعلك تفلحون ﴾ في الدارين.
ولعروة بن الزبير - رضي الله عنه :
لن يبلغَ المجدَ أقوامٌ وإنْ كَرُمُوا، | حتى يُذَلّوا وإن عَزّوا لأقوام |
ويُشتَموا فتَرى الألوانَ مُشرِقةٌ، | لا عَفْوَ ذُلَّ، ولكن عَفْوَ أحلام. |
ليس في كلَّ ساعةٍ وأوان | تَتَهَيَّأ صنائعُ الإحسان |
فإذا أمْكَنَتْ فبادرْ إليها | حذَراً من تعذُّر الإمْكَان |
قال الورتجبي : في الآية إشارة إلى أن النار لم تعد للمؤمنين، ولم تخلق لهم، ولكن خوفهم بها زجراً وعظة، كالأب البار المشفق على ولده يخوفه بالأسد والسيف، وهو لا يضربه بالسيف، ولا يلقيه إلى الأسد، فهذه الآية تلطف وشفقة على عباده. ه.
ولعروة بن الزبير - رضي الله عنه :
لن يبلغَ المجدَ أقوامٌ وإنْ كَرُمُوا، | حتى يُذَلّوا وإن عَزّوا لأقوام |
ويُشتَموا فتَرى الألوانَ مُشرِقةٌ، | لا عَفْوَ ذُلَّ، ولكن عَفْوَ أحلام. |
ليس في كلَّ ساعةٍ وأوان | تَتَهَيَّأ صنائعُ الإحسان |
فإذا أمْكَنَتْ فبادرْ إليها | حذَراً من تعذُّر الإمْكَان |
ولعروة بن الزبير - رضي الله عنه :
لن يبلغَ المجدَ أقوامٌ وإنْ كَرُمُوا، | حتى يُذَلّوا وإن عَزّوا لأقوام |
ويُشتَموا فتَرى الألوانَ مُشرِقةٌ، | لا عَفْوَ ذُلَّ، ولكن عَفْوَ أحلام. |
ليس في كلَّ ساعةٍ وأوان | تَتَهَيَّأ صنائعُ الإحسان |
فإذا أمْكَنَتْ فبادرْ إليها | حذَراً من تعذُّر الإمْكَان |
ولعروة بن الزبير - رضي الله عنه :
لن يبلغَ المجدَ أقوامٌ وإنْ كَرُمُوا، | حتى يُذَلّوا وإن عَزّوا لأقوام |
ويُشتَموا فتَرى الألوانَ مُشرِقةٌ، | لا عَفْوَ ذُلَّ، ولكن عَفْوَ أحلام. |
ليس في كلَّ ساعةٍ وأوان | تَتَهَيَّأ صنائعُ الإحسان |
فإذا أمْكَنَتْ فبادرْ إليها | حذَراً من تعذُّر الإمْكَان |
ثم وصف أهلها من المتقين بأوصاف الكمال، فقال :﴿ الذين ينفقون في السراء والضراء ﴾ أي : في حالتي الرخاء والشدة، وفي الأحوال كلها، كما هي حالة الأسخياء، قال صلى الله عليه وسلم :" الجنَّةُ دَارُ الأسخياءِ ". وقال أيضاً :" السَّخيُّ قريب ٌ مِنَ اللهِ، قَرِيبٌ من الجنَّةِ، قَرِيبٌ منَ النَّاس، بعيدً من النَّارِ، والبَخيلُ بَعيدٌ من الله، بَعِيدٌ مِنَ الجَنَّةِ، بَعِيدٌ، مِنَّ النَّاس، قرِيبٌ مِنَ النَّارِ. ولجَاهِلٌ سَخِيٌ أحبُّ إلى اللهِ مِنَ العالمِ البَخِيل ". وقال أيضاً صلى الله عليه وسلم :" السّخَاء شَجَرةٌ في الجنة، أغصانُها في الدُّنيا، من تعلق بَغُصنٍ من أغْصَانِها قادَته إلى الجنَّةِ، والبخْلُ شَجرةٌ في النَّارِ، أغصَانُها في الدُّنيا، من تعلق ببعض من أغصانها قَادَته إلى النَّارِ ".
﴿ والكاظمين الغيظ ﴾ أي : الكافين عن إمضائه مع القدرة عليه، قال عليه الصلاة والسلام :" مَنْ كَظَمَ غَيْظاً وهُوا يَقْدِرُ على إمْضَائِهِ ؛ مَلأَ اللهُ قَلْبَهُ أمْناً وإِيمَاناً ".
وقال بعض الشعراء١ :
وَإذَا غَضِبْتَ فَكُنْ وَقُوراً كَاظِماً | لِلْغَيْظِ، تُبْصر مَا تَقُولُ وتَسْمَعُ |
فَكَفَى بِهِ شَرَفاً، تَصَبُّرُ سَاعَةٍ | يَرْضَى بِهَا عَنْكَ الإلَهُ ويَرْفَعُ |
﴿ والله يحب المحسنين ﴾ الذين أحسنوا فيما بينهم وبين الله، وفيما بينهم وبين عباد الله، و " أل " : يحتمل أن تكون للجنس، فيعم كل محسن، أو للعهد، فتكون الإشارة إلى من تقدم ذكرهم.
ولعروة بن الزبير - رضي الله عنه :
لن يبلغَ المجدَ أقوامٌ وإنْ كَرُمُوا، | حتى يُذَلّوا وإن عَزّوا لأقوام |
ويُشتَموا فتَرى الألوانَ مُشرِقةٌ، | لا عَفْوَ ذُلَّ، ولكن عَفْوَ أحلام. |
ليس في كلَّ ساعةٍ وأوان | تَتَهَيَّأ صنائعُ الإحسان |
فإذا أمْكَنَتْ فبادرْ إليها | حذَراً من تعذُّر الإمْكَان |
﴿ وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ﴾ * ﴿ أُوْلَئِكَ جَزَآؤُهُمْ مَّغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ ﴾
يقول الحقّ جلّ جلاله :﴿ والذين إذا فعلوا فاحشة ﴾ أي : فعلة بالغة في الفحش والقبح، كالزنى، ﴿ أو ظلموا أنفسهم ﴾ بأي ذنب كان، أو فعلوا كبيرة أو صغيرة، أو الفاحشة : ما يتعدى للغير، وظلم النفس ما يخص، أو الفاحشة بالفعل، وظلم النفس بالقول، ﴿ ذكروا الله ﴾ أي : عاقبه وغضبه وعرضه الأكبر، أو ﴿ ذكروا الله ﴾ في أنفسهم أن الله سائلهم عنه، أو كونه رقيباً عليهم، أو ﴿ ذكروا الله ﴾ باللسان ﴿ فاستغفروا لذنوبهم ﴾ بالندم والتوبة، ﴿ ومن يغفر الذنوب إلا الله ﴾ أي : لا أحد يغفره إلا الله، والمراد : وصفه تعالى بسعة الرحمة وعموم المغفرة، والحث على الاستغفار.
﴿ ولم يصروا على ما فعلوا ﴾ أي : لم يدوموا عليها غير مستغفرين، لقوله صلى الله عليه وسلم :" ما أصَرَّ مَن اسْتَغفَر، ولو عَادَ في اليَوم سَبْعِينَ مَرَةً "، وذلك إذا صحبه الندم، وقال أيضاً :" لا كَبِيرةَ مَعَ الاستغفَار، ولا صَغيرَةَ معَ الإصْرارِ ". قال قتادة : إياكم والإصرار، فإنما هلك المصرون الماضون قِدْماً في معاصي الله تعالى، لم يتوبوا حتى أتاهم. ه. ﴿ وهم يعلمون ﴾ أن الإصرار يضر بهم، أو : وهم يعلمون أن لهم رباً يغفر الذنب ؛ لقوله - عليه الصلاة والسلام- :" مَنْ أَذْنَبَ ذنْباً، وعَلِمَ أَنَّ له ربّاً يَغْفُرِ الذنوب، غَفَرَ له وإِنْ لمْ يسْتَغفر ". وفي الحديث القدسي يقول الله تعالى :" من علم أني ذو قدرة على المغفرة غفرتُ له ولا أبالي ". وفي بعض الكتب المنزلة :" يا ابْنَ آدَمَ، إِنَّكَ ما دَعَوْتني ورَجَوْتني لأغفرن لَكَ على مَا كَانَ منكَ ولا أُبَالِي ". أو :﴿ وهم يعلمون ﴾ أن التوبة تمحق الذنوب.
واعلم أن لمعرفة الشهود والعيان ثمرات ونتائج، حصرها بعضهم في إحدى عشرة خصلة.
الأولى : الحرية، ومعناها أن يكون العارف فرداً لِفَرْدٍ، من غير أن يكون تحت رق شيء من الموجودات، لا من أغراض الدنيا ولا من أغراض الآخرة، فالحرية عبارة عن غاية التصفية والطهارة. قال بعضهم : ليس بحُرٍّ من بقي عليه من تصفية نفسه مقدار فص نواة، المكاتب عبد ما بقي عليه درهم.
الثانية : الوجود، وهو الفوز بحقيقة الأشياء في الأصل، وهو عبارة عن إدراك مقام تضمحل فيه الرسوم، بالاستغراق في الحقيقة الأزلية.
الثالثة : الجمع الأتم، وهو الحال الذي يقضي بقطع الإشارات، والشخوص عن الأمارات والعلامات، بعد صحة التمكين والبراءة من التلوين.
الرابعة : الصحو، وهو عبارة عن تمكين حال المشاهدة، واتصالها، مع برء الروح من لدغات الدَّهَشِ، ولا يكمل الصحو إلا بحياة الروح بوارد الجمع الدائم.
الخامسة : التحقيق، وهو الوصول إلى المعرفة بالله، التي لا تدْركُ بالحواس، لتخليص المشرب من الحق بالحق في الحق، حتى تسقط المشاهدات، وتبطل العبارات، وتفنى الإشارات.
السادسة : البسط، ونعني به : بسط الروح باسترسال شهود المعاني عند سقوط الأواني، وفي ذلك يقول ابن الفارض :
فما سكَنتْ والهمَ يوماً بموضع | كذلك لم يسكُنْ مع النغَم الغَمُّ |
الثامنة : البقاء، والمراد به الخروج عن فناء المشاهدة إلى بقاء المعرفة، من غير أُفُول بُخل بشمس المشاهدة، ولا رجوع إلى شواهد الحس، إنما هو استصحاب الجمع مع استئناس الروح بحلاوة المعاني، فهو كبائِن دانٍ. انظر بقيتها في [ بغية المسالك ]. وبالله التوفيق.
واعلم أن لمعرفة الشهود والعيان ثمرات ونتائج، حصرها بعضهم في إحدى عشرة خصلة.
الأولى : الحرية، ومعناها أن يكون العارف فرداً لِفَرْدٍ، من غير أن يكون تحت رق شيء من الموجودات، لا من أغراض الدنيا ولا من أغراض الآخرة، فالحرية عبارة عن غاية التصفية والطهارة. قال بعضهم : ليس بحُرٍّ من بقي عليه من تصفية نفسه مقدار فص نواة، المكاتب عبد ما بقي عليه درهم.
الثانية : الوجود، وهو الفوز بحقيقة الأشياء في الأصل، وهو عبارة عن إدراك مقام تضمحل فيه الرسوم، بالاستغراق في الحقيقة الأزلية.
الثالثة : الجمع الأتم، وهو الحال الذي يقضي بقطع الإشارات، والشخوص عن الأمارات والعلامات، بعد صحة التمكين والبراءة من التلوين.
الرابعة : الصحو، وهو عبارة عن تمكين حال المشاهدة، واتصالها، مع برء الروح من لدغات الدَّهَشِ، ولا يكمل الصحو إلا بحياة الروح بوارد الجمع الدائم.
الخامسة : التحقيق، وهو الوصول إلى المعرفة بالله، التي لا تدْركُ بالحواس، لتخليص المشرب من الحق بالحق في الحق، حتى تسقط المشاهدات، وتبطل العبارات، وتفنى الإشارات.
السادسة : البسط، ونعني به : بسط الروح باسترسال شهود المعاني عند سقوط الأواني، وفي ذلك يقول ابن الفارض :
فما سكَنتْ والهمَ يوماً بموضع | كذلك لم يسكُنْ مع النغَم الغَمُّ |
الثامنة : البقاء، والمراد به الخروج عن فناء المشاهدة إلى بقاء المعرفة، من غير أُفُول بُخل بشمس المشاهدة، ولا رجوع إلى شواهد الحس، إنما هو استصحاب الجمع مع استئناس الروح بحلاوة المعاني، فهو كبائِن دانٍ. انظر بقيتها في [ بغية المسالك ]. وبالله التوفيق.
﴿ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَانْظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ ﴾ * ﴿ هَذَا بَيَانٌ لِّلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ ﴾ * ﴿ وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُّؤْمِنِينَ ﴾
قلت : السُّدن : الطرق المسلوكة، وقيل : الأمم.
يقول الحقّ جلّ جلاله : قد مضت ﴿ من قبلكم سُننُ ﴾ جرت على الأمم المكذبة لأنبيائها قبلكم، ﴿ ولن تجد لسنة الله تبديلاً ﴾، وهو إمهالي واستدراجي إياهم، حتى يبلغ الكتاب الذي أجل لهم، فإذا بلغهم أهلكتهم، وأدلتُ الأنبياء وأتباعَهم عليهم، فإذا هلكوا بقيت آثارهم دراسة، اعتباراً لمن يأتي بعدهم، ﴿ فسيروا في الأرض ﴾ وتعرفوا أخبارهم، وانظروا ﴿ كيف كان عاقبة المكذبين ﴾ لأنبيائهم قبلكم، فكذلك يكون شأنكم مع مَنْ كذَّبكم.
لا تَحْسَبِ المجد تَمْراً أَنْتَ آكِلُهُ | لَنْ تَبْلُغَ المَجْدَ حَتَّى تَلْعَقَ الصَّبْرَ |
لا تَحْسَبِ المجد تَمْراً أَنْتَ آكِلُهُ | لَنْ تَبْلُغَ المَجْدَ حَتَّى تَلْعَقَ الصَّبْرَ |
لا تَحْسَبِ المجد تَمْراً أَنْتَ آكِلُهُ | لَنْ تَبْلُغَ المَجْدَ حَتَّى تَلْعَقَ الصَّبْرَ |
﴿ إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَآءَ وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ ﴾ * ﴿ وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ ﴾ * ﴿ أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ ﴾ * ﴿ وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِن قَبْلِ أَن تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنظُرُونَ ﴾
قلت : القرح - بالفتح والضم - : الجرح، وقيل : بالفتح : الجرح، وبالضم : ألمه ووجعه. والمداولة : المفاعلة من الدولة، وهي الغلبة، و﴿ الأيام ﴾ : نعت أو خبر، و﴿ نداولها ﴾ : خبر أو حال، و﴿ ليعلم ﴾ : متعلق بمحذوف، أي : وفعل ما فعل من الادالة ليعلم، أو عطف على علة محذوفة، أي : نداولها ليكون كيت وكيت، وليعلم. . . الخ، إيذاناً بأن العلة فيه غير واحدة، وأن ما يصيب المؤمن : فيه من المصالح ما لا يُعلم.
يقول الحقّ جلّ جلاله :﴿ إن يمسسكم ﴾ في غزوة أحد ﴿ قرح ﴾ كقتل أو جرح، ﴿ فقد مس القوم ﴾ من أعدائكم يوم بدر ﴿ قرح مثله ﴾، فإن كان قُتل منكم خمسة وسبعون يوم أحد، فقد قتل منهم يوم بدر سبعون وأسُرَ سبعون : أو :﴿ فقد مسّ القوم ﴾ يوم أحد ﴿ قرح ﴾ مثل ما أصابكم، فإنكم نلتم منهم وهزمتموهم، قبل أن تخالفوا أمر الرسول - عليه الصلاة -، كما نالوا منكم يومئذ. ﴿ وتلك الأيام نداولها بين الناس ﴾ أي : نُصرف دولتها بينهم، فنديل لهؤلاء تارة ولهؤلاء أخرى، كما قال الشاعر١ :
فَيَوْمٌ عَلَيْنَا ويَوْمٌ لنَا، | ويَوْمٌ نُسَاءُ، ويَوْمٌ نُسَرْ |
﴿ وليمحص الله الذين آمنوا ﴾ بطريق الخصوص، أي : يخلصهم من بقايا الحس، سلط عليهم الناس، وليَمحق المنكرين عليهم بما يصيبهم من إذايتهم، فإن المنكر على أهل النسبة كمن يدخل يده في الغيران١، فإذا سلم من الأول والثاني، قال : لا يلحقني منهم شيء، فإذا أدخل يده في غار آخر لدغته حية فأهلكته.
أم حسبتم يا معشر المريدين أن تدخلوا جنة المعارف، ولما يعلم الله الذين جاهدوا نفوسهم، ويعلم الصابرين على إيذاية من آذاهم، ولقد كنتم تمنون موت نفوسكم وتطلبون ما يعينكم على موتها من قبل أن تلقوا الجلال، فقد رأيتموه وعاينتموه وأنتم تنظرون ما أصاب الأولياء غيركم، فما لكم تجزعون منه وتفرون من مواطنه ؟. وكان شيخ شيوخنا رضي الله عنه يقول : العجب كل العجب، ممن يطلب معرفة الله، فإذا تعرف إليه أنكره.
وفي الحِكَم :" إذا فتح الله لك وجهة من التعرف فلا تبال معها، وإن قلَّ عملك، فإنه ما فتحها إلا وهو يريد أن يتعرف إليك فيها، ألم تعلم أن التعرف هو مورده عليك، والأعمال أنت مهديها إليه، وأين ما تهديه إليه مما هو مورده عليك ؟ ". وبالله التوفيق.
﴿ وليمحص الله الذين آمنوا ﴾ بطريق الخصوص، أي : يخلصهم من بقايا الحس، سلط عليهم الناس، وليَمحق المنكرين عليهم بما يصيبهم من إذايتهم، فإن المنكر على أهل النسبة كمن يدخل يده في الغيران١، فإذا سلم من الأول والثاني، قال : لا يلحقني منهم شيء، فإذا أدخل يده في غار آخر لدغته حية فأهلكته.
أم حسبتم يا معشر المريدين أن تدخلوا جنة المعارف، ولما يعلم الله الذين جاهدوا نفوسهم، ويعلم الصابرين على إيذاية من آذاهم، ولقد كنتم تمنون موت نفوسكم وتطلبون ما يعينكم على موتها من قبل أن تلقوا الجلال، فقد رأيتموه وعاينتموه وأنتم تنظرون ما أصاب الأولياء غيركم، فما لكم تجزعون منه وتفرون من مواطنه ؟. وكان شيخ شيوخنا رضي الله عنه يقول : العجب كل العجب، ممن يطلب معرفة الله، فإذا تعرف إليه أنكره.
وفي الحِكَم :" إذا فتح الله لك وجهة من التعرف فلا تبال معها، وإن قلَّ عملك، فإنه ما فتحها إلا وهو يريد أن يتعرف إليك فيها، ألم تعلم أن التعرف هو مورده عليك، والأعمال أنت مهديها إليه، وأين ما تهديه إليه مما هو مورده عليك ؟ ". وبالله التوفيق.
ثم عاتب المسلمين فقال :﴿ أم حسبتم ﴾ أي : ظننتم ﴿ أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ﴾ علم ظهور، ﴿ ويعلم الصابرين ﴾ أي : لا تظنوا أن تدخلوا الجنة كما دخلها مَنْ قُتل منكم، ولم يقع منكم مثل ما وقع لهم من الجهاد والصبر على القتل والجرح ؛ حتى يقع العلم ظاهراً بجهادكم وصبركم.
﴿ وليمحص الله الذين آمنوا ﴾ بطريق الخصوص، أي : يخلصهم من بقايا الحس، سلط عليهم الناس، وليَمحق المنكرين عليهم بما يصيبهم من إذايتهم، فإن المنكر على أهل النسبة كمن يدخل يده في الغيران١، فإذا سلم من الأول والثاني، قال : لا يلحقني منهم شيء، فإذا أدخل يده في غار آخر لدغته حية فأهلكته.
أم حسبتم يا معشر المريدين أن تدخلوا جنة المعارف، ولما يعلم الله الذين جاهدوا نفوسهم، ويعلم الصابرين على إيذاية من آذاهم، ولقد كنتم تمنون موت نفوسكم وتطلبون ما يعينكم على موتها من قبل أن تلقوا الجلال، فقد رأيتموه وعاينتموه وأنتم تنظرون ما أصاب الأولياء غيركم، فما لكم تجزعون منه وتفرون من مواطنه ؟. وكان شيخ شيوخنا رضي الله عنه يقول : العجب كل العجب، ممن يطلب معرفة الله، فإذا تعرف إليه أنكره.
وفي الحِكَم :" إذا فتح الله لك وجهة من التعرف فلا تبال معها، وإن قلَّ عملك، فإنه ما فتحها إلا وهو يريد أن يتعرف إليك فيها، ألم تعلم أن التعرف هو مورده عليك، والأعمال أنت مهديها إليه، وأين ما تهديه إليه مما هو مورده عليك ؟ ". وبالله التوفيق.
﴿ وليمحص الله الذين آمنوا ﴾ بطريق الخصوص، أي : يخلصهم من بقايا الحس، سلط عليهم الناس، وليَمحق المنكرين عليهم بما يصيبهم من إذايتهم، فإن المنكر على أهل النسبة كمن يدخل يده في الغيران١، فإذا سلم من الأول والثاني، قال : لا يلحقني منهم شيء، فإذا أدخل يده في غار آخر لدغته حية فأهلكته.
أم حسبتم يا معشر المريدين أن تدخلوا جنة المعارف، ولما يعلم الله الذين جاهدوا نفوسهم، ويعلم الصابرين على إيذاية من آذاهم، ولقد كنتم تمنون موت نفوسكم وتطلبون ما يعينكم على موتها من قبل أن تلقوا الجلال، فقد رأيتموه وعاينتموه وأنتم تنظرون ما أصاب الأولياء غيركم، فما لكم تجزعون منه وتفرون من مواطنه ؟. وكان شيخ شيوخنا رضي الله عنه يقول : العجب كل العجب، ممن يطلب معرفة الله، فإذا تعرف إليه أنكره.
وفي الحِكَم :" إذا فتح الله لك وجهة من التعرف فلا تبال معها، وإن قلَّ عملك، فإنه ما فتحها إلا وهو يريد أن يتعرف إليك فيها، ألم تعلم أن التعرف هو مورده عليك، والأعمال أنت مهديها إليه، وأين ما تهديه إليه مما هو مورده عليك ؟ ". وبالله التوفيق.
﴿ وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفإِنْ مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ ﴾ * ﴿ وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ الله كِتَاباً مُّؤَجَّلاً وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ ﴾
يقول الحقّ جلّ جلاله :﴿ وما محمد إلا رسول ﴾ يصيبه ما أصابهم، ﴿ قد ﴾ مضت ﴿ من قبله الرسل ﴾، فسيمضي كما مضوا بالموت أو القتل، ﴿ أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ﴾ بعد تقرر شريعته وظهور براهينه، عاتبهم على تقدير أن لو صار منهم انقلاب لو مات صلى الله عليه وسلم أو قتل، أو على صدر من بعض المنافقين وهم ساكتون.
قال أصحاب المغازي : خرج النبيّ صلى الله عليه وسلم حتى نزل بالشعب من أحُد، في سبعمائة رجل، وأمَّر عبدَ الله بنَ جبيرٍ على الرماة، وهم خمسون رجلاً، وقال : انضحوا عنا بالنبل، لا يأتونا من خلفنا، لا تبرحوا مكانكم ؛ كانت لنا أو علينا، فإنا لن نزال غالبين ما ثبتُّم مكانكم، فجاءت قريش، وعلى ميمنتهم خالد بن الوليد، وعلى ميسرتهم عكرمة، ومعهم النساء. ثم انتشب القتال فقال عليه الصلاة والسلام :" مَنْ يأخذ هذا السيف بحقه ؟ " فجاء رجال فمنعهم، حتى جاء أبو دُجانة، فقال : وما حقه يا رسول الله ؟ قال :" تضرب به العدو حتى ينحني "، وكان رجلاً شجاعاً يختال عند الحرب، فأخذه واعتم بعمامة حمراء، وجعل يتبختر بين الصفين، فقال عليه الصلاة والسلام :" إنها لمشيةٌ يبغضها الله إلاّ في هذا الموضع ".
ثم حمل النبيّ صلى الله عليه وسلم على المشركين فهزموهم، قال الزبير :( فرأيت هنداً وصواحبها هارباتٍ مصعدات في الجبل )، فلما نظر الرماة إلى القوم قد انكشفوا، قالوا : الغنيمة الغنيمة فقال لهم بعضهم : لا تتركوا أمر النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال يلتفتوا، وانطلق عامتهم، فلما رأى خالد قلة الرماة، صاح في خيله من المشركين، ثم حمل على أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم من خلفهم، وقتل عبد الله بن جبير، واختلط الناس، فقتل بعضُهم بعضاً، ورمى عبدُ الله بن قمئة الحارثي رسولَ الله صلى الله عليه وسلم بحجر، فكسر أنفه ورباعيته، وشجَّه في وجهه، وكسر البيضة١ على رأسه، فذبَّ عنه مصعبُ بن عمير، وكان صاحب الراية، فقتله ابن قمئة وهو يرى أنه قتل النبيّ صلى الله عليه وسلم، فرجع إلى قومه، وقال : قد قتلت محمداً، وصرخ صارخ : ألا إنَّ محمداً قد مات. وقيل : إنه الشيطان، فانكفأ الناس، وجعل الرسول - عليه الصلاة والسلام - يدعو :" إليَّ عباد الله "، فانحاز إليه ثلاثون من الصحابة، وضموه حتى كشفوا عنه المشركين، وأصيبت يد طلحة بن عبيد الله فيبست، حتى وقَى بها النبيّ صلى الله عليه وسلم، وأصيبت عين قتادة بن النعمان، حتى وقعت على وجنتيه، فردها النبيّ صلى الله عليه وسلم مكانها، فعادت أحسن مما كانت.
وفشا في الناس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مات - فقال بعض المسلمين : ليت ابنُ أُبي يأخذ لنا أماناً من أبي سفيان. وقال بعض المنافقين : لو كان نبيّاً ما قتل، ارجعوا إلى دينكم الأول. فقال أنس بن النضر - عمُّ أنس بن مالك :( إن كان قد قتل محمدٌ فَإِنَّ رب محمد لا يموت، وما تصنعون بالحياة بعده ؟ فقاتلوا على ما قاتل عليه، حتى تموتوا على ما مات عليه ). ثم قال : اللهم إني أعتذر إليك ما صنع هؤلاء - يعني المسلمين - وأبرأ إليك مما صنع هؤلاء - يعني الكفار-، ثم شدّ سيفه وقاتل حتى قُتل، رحمة الله عليه.
فأنزل فيما قال المنافقون :﴿ ومن ينقلب على عقبيه ﴾ بارتداده ﴿ فلن يضر الله شيئاً ﴾ وإنما يضر نفسه، ﴿ وسيجزي الله الشاكرين ﴾ على نعمة الإسلام بالثبات عليه، كأنس وأضرابه.
ودخل بعض العارفين على بعض الفقراء فوجده يبكي، فقال له : ما يبكيك ؟ قال : مات أستاذي، فقال له العارف : ولم جعلت أستاذك يموت ؟ وهلا جعلته حيّاً لا يموت.
فنبهه على نفاذ بصيرته إلى شهود المنعم دون الوقوف مع النعمة، فالشيخ الحقيقي هو الذي يغني صاحبه عنه وعن غيره، بالدلالة على ربه.
﴿ وما كان ﴾ ينبغي ﴿ لنفس أن تموت إلا بإذن الله ﴾ أي : بإرادته ومشيئته، أو بإذنه لملكٍ في قبض روحه، والمعنى : أنَّ لكل نفس أجلاً مسمى في علمه تعالى وقضائه، لا تستأخر عنه ساعة ولا تستقدم، بالتأخر عن القتال ولا بالإقدام عليه، وفيه تشجيعهم على القتال ووعد للرسول بحفظه وتأخر أجله ؛ فإن الله تعالى كتب أجل الموت ﴿ كتاباً مؤجلاً ﴾ ؛ مؤقتاً لا يتقدم ولا يتأخر.
ونزل في الرماة الذين خالفوا المركز للغنيمة :﴿ ومن يرد ثواب الدنيا نؤته منها ومن يرد ثواب الآخرة نؤتها منها ﴾ الجزاء الجليل، ﴿ وسنجزي الشاكرين ﴾ الذين كروا نعم الله، فلم يشغلهم شيء عن الجهاد في سبيل الله، بل كان همهم رضي الله ورسوله دون شيء سواه.
ودخل بعض العارفين على بعض الفقراء فوجده يبكي، فقال له : ما يبكيك ؟ قال : مات أستاذي، فقال له العارف : ولم جعلت أستاذك يموت ؟ وهلا جعلته حيّاً لا يموت.
فنبهه على نفاذ بصيرته إلى شهود المنعم دون الوقوف مع النعمة، فالشيخ الحقيقي هو الذي يغني صاحبه عنه وعن غيره، بالدلالة على ربه.
﴿ وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُواْ لِمَآ أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُواْ وَمَا اسْتَكَانُواْ وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ ﴾ * ﴿ وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ ربَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِيا أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ﴾ * ﴿ فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ﴾
قلت :﴿ كأَيِّن ﴾ : أصله : أيْ، دخلت الكاف عليها وصارت بمعنى ﴿ كم ﴾، وأثبت التنوين نوناً على غير قياس، وقرأ ابن كثير، ﴿ وكائن ﴾، على وزن فاعل، ووجهه : أنه قلب الياء قبل الهمزة فصار : كيَاءٍ، تحركت الياء وانفتح ما قبلها فصار كائن، وهما لغتان، وقد جمع الشاعر بينهما في بيت، فقال :
كَأيّنْ أبَدْنَا مِنْ عَدوٍّ بعِزِّنا | وكَائِنْ أجَرْنا مِنْ ضَعيفٍ وخائِفِ |
يقول الحقّ جلّ جلاله :﴿ وكأين ﴾ ؛ وكم ﴿ من نبي قتل ﴾ في المعركة ومعه جموع كثيرة، أو ربانيون علماء أتقياء، فلم يفشلوا ولم يضعفوا، بل ثبتوا على دينهم وجهاد عدوهم، أو يقول : كثير من الأنبياء قتل معهم ربانيون كثير، أي : ماتوا في الحرب فثبت الباقون، ولم يفتروا ولم يضعفوا عن عدوهم، ويترجح الأول بما صرَخَ به الصارخ يوم أحد : إن محمداً قد مات، فضرب لهم المثل بقوله :﴿ وكأين من نبي قُتل ﴾، ويترجح الثاني بأنه لم يقتل نبيّ قط في المحاربة.
أو :﴿ وكأين من نبيّ قاتل ﴾ أي : جاهد معه ﴿ ربِّيون كثير ﴾، وبعدما قتل نبيهم أو جموعهم ﴿ فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله ﴾ أي : فما فتروا : ولم ينكسر جندهم ؛ لأجل ما أصابهم من قتل نبيهم أو بعضهم، ﴿ وما ضعفوا ﴾ عن جهاد عدوهم ولا عن دينهم، ﴿ وما استكانوا ﴾ أي : خضعوا لعدوهم، من السكون ؛ لأن الخاضع يسكن لعدوه يفعل به ما يريد، فالألف إشباع زائد، أي : فما سكنوا لعدوهم بل صبروا له، ﴿ والله يحب الصابرين ﴾ فينصرهم ويعزهم ويُعظم قدرهم.
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِن تُطِيعُواْ الَّذِينَ كَفَرُواْ يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنقَلِبُواْ خَاسِرِينَ ﴾ * ﴿ بَلِ اللَّهُ مَوْلاَكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ ﴾
يقول الحقّ جلّ جلاله :﴿ يا أيها الذين آمنوا إن تُطيعوا الذين كفروا ﴾ وهم المنافقون، لما قالوا للمسلمين عند الهزيمة : ارجعوا إلى دينكم الأول، ولو كان نبيّاً ما قتل، ﴿ يردوكم على أعقابكم ﴾ راجعين عن إيمانكم، ﴿ فتنقلبوا خاسرين ﴾ مفتونين عن دينكم، فتحبط أعمالكم فتخسروا الدنيا والآخرة.
قلت : وهذا هو السبب في ارتداد من بقي من المسلمين بالأندلس حتى رجعوا نصارى، هم وأولادهم، والعياذ بالله من سوء القضاء.
﴿ سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُواْ الرُّعْبَ بِمَآ أَشْرَكُواْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ ﴾
قلت :﴿ الرعب ﴾ : الخوف، وفيه الضم والسكون، وهكذا كل ثلاثي ساكن الوسط، كالقدس والعسر واليسر، وشبه ذلك، و﴿ بما أشركوا ﴾ : مصدرية.
يقول الحقّ جلّ جلاله : سنقذف ﴿ في قلوب الذين كفروا ﴾ كأبي سفيان وأصحابه، ﴿ الرعب ﴾ والخوف، حتى يرجعوا عنكم بلا سبب، بسبب شركهم بالله ﴿ ما لم ينزل به سلطاناً ﴾ ولا حجة على استحقاق العبادة، ﴿ ومأواهم النار ﴾ أي : هي مقامهم، ﴿ وبئس مثوى الظالمين ﴾ أي : قبح مقامهم. ووضع الظاهر موضع المضمر للتغليظ في العلة.
الإشارة : فيها تسلية للفقراء، فإنَّ كل من هم بإذايتهم ألقى الله في قلبه الرعب، حتى لا يقدر أن يتوصل إليهم بشيء مما أمَّل فيهم، وقد رأيتهم هموا بقتلهم وضربهم وحبسهم، وسعوا في ذلك جهدهم، وعملوا في ذلك بينات على زعمهم، تُوجب قتلهم، فكفاهم الله أمرهم، وألقى الرعب في قلوبهم، فانقلبوا خائبين وماتوا ظالمين، والله ولي المتقين.
﴿ وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِّن بَعْدِ مَآ أَرَاكُمْ مَّا تُحِبُّونَ مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ ﴾
قلت : حسَّه : إذا قتله وأبطل حسه، وجواب ﴿ إذا ﴾ : محذوف، أي : حتى إذا فشلتم وتنازعتم وعصيتم امتحناكم بالهزيمة، والواو لا ترتب، والتقدير : حتى إذا تنازعتم وعصيتم وفشلتم سلبنا النصر عنكم.
يقول الحقّ جلّ جلاله :﴿ ولقد صدقكم الله ﴾ ما وعدكم من النصر لو صبرتم واتقيتم، وذلك حين كنتم ﴿ تحسونهم ﴾ بالسيف، وتقتلونهم حتى انهزموا هاربين، بإذنه تعالى وإرادته، ﴿ حتى إذا فشلتم ﴾ أي : جبنتم وضعف رأيكم وملتم إلى الغنيمة، ﴿ وتنازعتم ﴾ في الثبات مع الرماة حين انهزم المشركون، فقلتم : الغنيمةَ الغنيمةَ، فما وقوفكم هنا ! وقال آخرون : لا تخالفوا أمر الرسول، ثم تركتم المركز، ﴿ وعصيتم الرسول من بعد ما أراكم ما تحبون ﴾ من النصر والغنيمة، امتحناكم حينئذ بالهزيمة.
فمنكم ﴿ من يريد الدنيا ﴾ ليصرفها في الآخرة، وهم الذين خالفوا المركز وذهبوا للغنيمة، ﴿ ومنكم من يريد الآخرة ﴾ صِرفاً، وهم الثابتون مع عبد الله بن جبير، محافظةً على أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، ﴿ ثم صرفكم عنهم ﴾ حين خالفتم أمر الرسول، ﴿ ليبتليكم ﴾ أي : ليختبركم، فيتبين الصابر من الجازع، والمخلص من المنافق، ﴿ ولقد عفا عنكم ﴾ فلم يستأصلكم بعد المعصية والمخالفة، لاستحقاقكم ذلك، أو تجاوز عن ذنبكم وتفضل بالتوبة والمغفرة، ﴿ والله ذو فضل ﴾ عظيم ﴿ على المؤمنين ﴾ ؛ يتفضل عليهم بالمغفرة في الأحوال كلها، سواء أديل عليهم أو لهم، فإن الابتلاء أيضاً رحمة وتطهير. والله تعالى أعلم.
الإشارة : يقول للفقراء الذين استشرفوا على بلاد الخصوصية، ثم فشلوا ورجعوا إلى بلاد العمومية : ولقد صدقكم الله وعده في إدراك الخصوصية لو صبرتم، فإنكم حين كنتم تجاهدون نفوسكم وتحسونها بسيوف المخالفة، لمعت لكم أنوار المشاهدة، حتى إذا فشلتم وتفرقت قلوبكم، وعصيتم شيوخكم قلَّت أمدادكم، وأظلمت قلوبكم، من بعد ما رأيتم ما تحبون من مبادئ المشاهدة، فملتم إلى الدنيا الفانية، فمنكم يا معشر المنتسبين من يريد الدنيا، فصحب العارفين على حرف، وهو الذي رجع وفشل، ومنكم من يريد الآخرة وقطع يأسه من الرجوع إلى الدنيا، وهو الذي ثبت حتى ظفر، ثم صرفكم عن حصبة العارفين، يا من أراد الدنيا من المنتسبين، ليبتليكم، هل صحبتموهم لله أو لغيره، ولقد عفا عنكم وجعلكم من عوام المسلمين، ولم يسلب عنكم الإيمان عقوبة لترك صحبة العارفين. أو لقد عفا عنكم إن رجعتم إلى صحبتهم والأدب معهم، فإن الله ﴿ ذو فضل على المؤمنين ﴾ حيث لم يعاجلهم بالعقوبة. وبالله التوفيق.
وقال الورتجبي : قوله :﴿ منكم من يريد الدنيا ﴾، أي : منكم من وقع في بحر غني القدم، واتصف به بنعت التمكين ورؤية النعم في شكر المنعم، كسليمان عليه السلام. ومنكم من وقع في بحر التنزيه وتقديس الأزلية، فغلب عليه القدس والطهارة، فخرج بنعت الفقر ؛ تجريداً لتوحيده وإفرادِ قدمه من الحدث، كمحمدٍ صلى الله عليه وسلم حيث قال :" الفقر فخري١ ".
﴿ إِذْ تُصْعِدُونَ وَلاَ تَلْوُونَ عَلَى أحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِيا أُخْرَاكُمْ فَأَثَابَكُمْ غَمّاًً بِغَمٍّ لِّكَيْلاَ تَحْزَنُواْ عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلاَ مَآ أَصَابَكُمْ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ﴾
قلت :﴿ إذْ ﴾ : ظرف لعفا، أو اذكر. وأصعد : أبعد في الأرض، وصعد : في الجبل، فالإصعاد : الذهاب في الأرض المستوية، والصعود : الارتقاء في العلو. وقرئ بهما معاً ؛ لأنهما وقعا معاً، فمنهم من فرّ ذاهباً في الأرض، ومنهم من صعد إلى الجبل.
و﴿ لكيلا ﴾ : متعلق بأثابكم.
يقول الحقّ جلّ جلاله : ولقد عفا عنكم حين كنتم ﴿ تُصْعِدُون ﴾ عن نبيه - عليه الصلاة والسلام -، منهزمين عنه، تبعدون عنه، ﴿ ولا تلوون على أحد ﴾ أي : لا يلتفت بعضكم إلى بعض، ولا ينتظر بعضكم بعضاً، ﴿ والرسول ﴾ محمد صلى الله عليه وسلم ﴿ يدعوكم في أخراكم ﴾ أي : في ساقتكم، يقول :" إليَّ عباد الله، أنا رسول الله، من يكرُّ فله الجنة "، وفيه مدح للرسول صلى الله عليه وسلم بالشجاعة والثبات، حيث وقف في آخر المنهزمين، فإن الآخر هو موقف الأبطال، والفرار في حقه صلى الله عليه وسلم محال.
﴿ فأثابكم ﴾ أي : فجازاكم على ذلك الفرار، ﴿ غمّاً ﴾ ؛ وهو ظهور المشركين عليكم وقتل إخوانكم، بسبب غم أوصلتموه للنبيّ صلى الله عليه وسلم بعصيانه والفرار عنه، وقدَّر ذلك ﴿ لكيلا تحزنوا على ما فاتكم ﴾ من الغنيمة، ﴿ ولا ﴾ على ﴿ ما أصابكم ﴾ من الجرح والهزيمة، لأن من استحق العقوبة والأدب لا يحزن على ما فاته ولا على ما أصابه ؛ إذ جريمته تستحق أكثر من ذلك، يرى ما نزل به بعض ما يستحقه، فيهون عليه أمر ما نزل به أو ما فاته من الخير.
أو يقول :﴿ فأثابكم غمّاً ﴾ متصلاً ﴿ بغم ﴾ ؛ فالغم الأول : ما فاتهم من الظفر والغنيمة، والثاني : ما نالهم من القتل والهزيمة، أو الأول : ما أصابهم من القتل والجراح، والثاني : ما سمعوا من الإرجاف بقتل النبيّ صلى الله عليه وسلم، وذلك ليتمرنوا على المحن والشدائد حتى لا يجزعوا من شيء. وبذلك وصفهم كعب بن زهير في لاميته، حيث قال١ :
لاَ يَفْرَحُونَ إِذا نَالَتْ رِماحُهُمْ | وَلَيْسُوا مجازيعاً إذا نِيلُوا |
الإشارة : ما زال الدعاة إلى الله من أهل التربية النبوية يدعون الناس إلى الله، ويعرفونهم بالطريق إلى الله، يبنون لهم الطريق إلى عين التحقيق، والناس يبعدون عنهم ويفرّون منهم، وهم في أخراهم يقولون بلسان الحال أو المقال : يا عباد الله، هلم إلينا نعرفُكم بالله، وندلكم على الله، فلا يلوي إليهم أحد ولا يلتفت إليهم بشر، إلا من سبقت له العناية، وأراد الحق تعالى أن يوصله إلى درجة الولاية، " سبحان من لم يجعل الدليل على أوليائه إلا من حيث الدليل عليه، ولم يوصل إليهم إلا من أراد أن يوصله إليه "، فأثابهم على الفرار غم الحجاب، متصلاً بغم الأسباب، فلا يحزنوا على ما فاتهم من المعرفة ؛ إذ لم يعرفوا قدرها، ولا على ما أصابهم من الغفلة والبطالة، إذ لم يتفطنوا لها ﴿ والله خبير بما تعملون ﴾ يا معشر العباد، من التودد أو العناد. وبالله التوفيق، وهو الهادي إلى سواء الطريق.
﴿ ثُمَّ أَنزَلَ عَلَيْكُمْ مِّن بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُّعَاساً يَغْشَى طَآئِفَةً مِّنْكُمْ وَطَآئِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَل لَّنَا مِنَ الأَمْرِ مِن شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ للَّهِ يُخْفُونَ فِيا أَنْفُسِهِم مَّا لاَ يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ مَّا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُل لَّوْ كُنتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ﴾
قلت :﴿ نعاساً ﴾ : بد لمن ﴿ أمنة ﴾، أو هو المفعول، و﴿ أمنة ﴾ : حال منه، مقدمة، أو مفعول له، أي : أنزل عليكم نعاساً لأجل الأمنة، أو حال من كاف ﴿ عليكم ﴾، أي : أنزل عليكم حال كونكم آمنين. والأمنة : مصدر أمِن، كالعظَمة والغَلَبة.
يقول الحقّ جلّ جلاله :﴿ ثم أنزل عليكم ﴾ أيها المؤمنون ﴿ من بعد الغم ﴾ الذي أصابكم بموت إخوانكم، والإرجاف بقتل نبيكم، الأمن والطمأنينة، حتى أخذكم النعاس وأنتم في الحرب. قال أبو طلحة :( غَشينَا النعاسُ ونحن في المصافّ، حتى كان السيف يسقط من يد أحدنا فيأخذه، ثم يسقط فيأخذه ). وقال الزبير رضي الله عنه. لقد رأيتني حين اشتدّ الخوف، ونحن مع النبيّ صلى الله عليه وسلم، أرسل الله - تعالى - علينا النوم، والله إني لأسمع قول معتب، والنعاس يغشاني، ما أسمعه إلا كالحلُم :﴿ لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا هاهنا ﴾.
ثم إن هذا النعاس إنما ﴿ يغشى طائفة منكم ﴾ وهم المؤمنون، أو : هذه الأمنة إنما تغشى طائفة منكم، وأما المنافقون فقد ﴿ أهمتهم أنفسهم ﴾، أي : أوقعتهم في الهموم والغموم، أو ما يهمهم إلا أنفسهم، يُدبرون خلاصها ونجاتها، فقد طارت قلوبهم من الخوف، فلا يتصور في حقهم النوم، ﴿ يظنون بالله غير الحق ﴾ أي : غير الظن الحق، لأنهم ظنّوا أنه لا ينصر - عليه الصلاة والسلام، وأن أمره مضمحل، أو ظنوا أنه قتل، ظنّاً كظن الجاهلية، أهل الشرك، ﴿ يقولون ﴾ أي : بعضهم لبعض :﴿ هل لنا من الأمر من شيء ﴾ أي : عُزلنا عن تدبر أنفسنا، فلم يبق لنا من الأمر من شيء. قاله ابنُ أُبي، لَما بلغه قتل الخزرج.
﴿ قل ﴾ لهم يا محمد :﴿ إن الأمر كله لله ﴾ ؛ ليس بيد غيره شيء من التدبير والاختيار، حال كون المنافقين ﴿ يخفون في أنفسهم ﴾ من الكفر والنفاق ﴿ ما لا يُبدون لك يقولون لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا ها هنا ﴾ أي : لو كان تدبيراً أو اختياراً ما خرجنا مع محمد حتى نقتل ها هنا ويقتل رؤساؤنا. ﴿ قل ﴾ لهم يا محمد : أخرجتكم القدرة في سلسلة المقادير، رغماً على أنفكم، فلو ﴿ كنتم في بيوتكم ﴾ آمنين ﴿ لبرز الذين كتب عليهم القتل ﴾، ووصل أجلهم ﴿ إلى مضاجعهم ﴾ ومصارعهم، رغماً على أنفهم، فإن الله قدَّر الأمور ودبرها في سابق أزله، لا معقب لحكمه، وإنما فعل ذلك، وأخرجكم إلى المعركة ﴿ ليبتلي الله ما في صدوركم ﴾ أي : يختبر ما فيها من الخير أو الشر، ﴿ وليمحص ما في قلوبكم ﴾ أي : يكشف ما فيها من النفاق أو الإخلاص، فقد ظهر خبث سريرتكم ومرض قلوبكم بالنفاق الذي تمكن فيه، ﴿ والله عليم بذات الصدور ﴾ أي : بخفاياها قبل إظهارها. وفيه وعد ووعيد وتنبيه على أنه غني عن الابتلاء، وإنما فعل ذلك ليُميِّز المؤمنين ويُظهَر حال المنافقين. قاله البيضاوي.
الإشارة : ثم أنزل عليكم أيها الواصلون المتمكنون، أو من تعلق بكم من السائرين، من بعد غم المجاهدة وتعب المراقبة أمنة في قلوبكم بالطمأنينة بشهود الله، وراحة في جوارحكم من تعب الخدمة في السير إلى الله، حتى وصلتم فنمتم في ظل الأمن والأمان، وسكنتم في جوار الكريم المنان.
قال بعض العارفين :( إذا انتقلت المعاملة إلى القلوب استراحت الجوارح )، وهذه الراحة إنما تحصل للعارفين، أو من تعلق بهم من المريدين، وطائفة من غيرهم ؛ وهم المتفقرة الجاهلون، الذين لا شيخ لهم، قد أهمتهم أنفسهم، تارة تصرعهم وتارة يصرعونها، تارة تُشرق عليهم أنوارُ التوجه، فيقوى رجاؤهم في الفتح، وتارة تنقبض عنهم فيظنون بالله غير الحق، ظن الجاهلية، يقولون : هل لنا من الفتح من شيء ؟.
قل لهم :﴿ إن الأمر كله لله ﴾ ؛ يوصل من يشاء ويبعد من يشاء، يُخفون في أنفسهم من العيوب والخواطر الرديئة ما لا يبدون لك، فإذا طال عليهم الفتح، وغلب عليهم الفقر، ندموا على ما فاتهم من التمتع بالدنيا، يقولون : لو كان لنا من الأمر شيء ما قُتلنا ها هنا بالذل والفقر والجوع، قل لهم : ذلك الذي سبق في علم الله، لا محيد لأحد عنه، ليظهر الصادق في الطلب من الكاذب، [ كن صادقاً تجد مرشداً ]، فلو صدقتم في الطلب لأرشدكم إلى من يُوصلكم ويريحكم من التعب. وبالله التوفيق، وهو الهادي إلى سواء الطريق.
﴿ إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْاْ مِنكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُواْ وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ ﴾
يقول الحقّ جلّ جلاله :﴿ إن الذين تولوا منكم ﴾ وانهزموا يوم أحد ؛ ﴿ يوم التقى الجمعان ﴾ جمع المسلمين وجمع الكفار إنما كان السبب في انهزامهم أن الشيطان ﴿ استزلهم ﴾، أي : طلب زللهم فأطاعوه، أي : زين لهم الفرار فأطاعوه، بسبب بعض ﴿ ما كسبوا ﴾ من الإثم، كمخالفة أمر النبيّ صلى الله عليه وسلم، والحرص على الغنيمة، وذنوب اقترفوها قبل الجهاد، فإن المعاصي تجر بعضها بعضاً، كالطاعة، ﴿ ولقد عفا الله عنهم ﴾ فيما فعلوا من الفرار ؛ لتوبتهم واعتذارهم ؛ ﴿ إن الله غفور ﴾ للذنوب، ﴿ حليم ﴾ لا يعاجل بعقوبة المذنب كي يتوب.
الإشارة : إن الذين تولوا منكم يا معشر الفقراء، ورجعوا عن صحبة الشيوخ، حين التقى في قلبهم الخصمان : خصم يرغبهم في الثبوت، وخصم يدلهم على الرجوع، ثم غلب خصم الرجوع فرجعوا، إنما استزلهم الشيطان بسوء أدبهم، فإن تابوا ورجعوا، أقبلوا عليهم، وقَبل الله توبتهم، وعفا عنهم، فإنه سبحانه غفور حليم.
﴿ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ كَفَرُواْ وَقَالُواْ لإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُواْ فِي الأَرْضِ أَوْ كَانُواْ غُزًّى لَّوْ كَانُواْ عِنْدَنَا مَا مَاتُواْ وَمَا قُتِلُواْ لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذالِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ﴾
قلت :﴿ غُزّي ﴾ : جمع غازٍ، كعافٍ وعفى، وإنما وضع ﴿ إذا ﴾ موضع ﴿ إذ ﴾ ؛ لحكاية الحال.
يقول الحقّ جلّ جلاله :﴿ يا أيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين كفروا ﴾ ونافقوا، كعبد الله بن أُبي، وأصحابه، ﴿ وقالوا لإخوانهم ﴾ في النسب، أو في المذهب، أي : قالوا لأجلهم أو في شأنهم، ﴿ إذا ضربوا في الأرض ﴾ أي : سافروا للتجارة أو غيرها فماتوا، ﴿ أو كانوا غُزًّى ﴾ أي : غازين فقتلوا في الغزو :﴿ لو كانوا عندنا ﴾ مُقيمين ﴿ ما ماتوا وما قتلوا ﴾، وإنما نطقوا بذلك ﴿ ليجعل الله ذلك ﴾ القول الناشئ عن الاعتقاد الفاسد ﴿ حسرة في قلوبهم ﴾ بالاغتمام على ما فات، والتحسر على ما لم يأت، ﴿ والله ﴾ هو ﴿ يحيي ويميت ﴾ بلا سبب في الإقامة والسفر، فليس يمنع حذر من قدر، ﴿ والله بما تعملون ﴾، أيها المؤمنون ﴿ بصير ﴾، ففيه تهديد لهم على أن يُماثلوا المنافقين في هذا الاعتقاد الفاسد، ومن قرأ بالياء فهو تهديد لهم. والله تعالى أعلم.
الإشارة : لا ينبغي للأقوياء من أهل اليقين أن يتشبهوا بضعفاء اليقين، كانوا علماء أو صالحين أو طالحين، حيث يقولون لإخوانهم إذا سافروا لأرض مخوفة أو بلد الوباء. لو جلسوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا، وما دَرَوْا أن الله قدَّر الآجال كما قدَّر الأرزاق وجميع الشؤون والأحوال، وعيَّن لها أوقاتاً محدودة في أزله، فكل مقدور يبرز في وقته، " ما من نَفَسٍ تبديه، إلا وله قدر فيك يمضيه "، فما قدَّره في سابق علمه لا بد أن يكون، وما لم يقدره لا يكون، ولا تجلبه حركة ولا سكون. ولله در القائل :
مَا لاَ يُقَدَّرُ لاَ يَكُونُ بِحِيلَةٍ | أَبَداً وَمَا هُوَ كائِنٌ سَيكُونُ |
سَيَكُونُ ما هُوَ كائنٌ في وَقْتِهِ | وَأخُو الجَهَالَةِ مُتْعَبٌ مَحْزُونُ |
يَجْرِي الحَريصُ ولا يَنَالُ بِحرْصِهِ | شَيْئاً ويَحْظَى عَاجِزٌ وَمَهِينٌ |
فَدعَ الهُمُومَ، تَعَرَّ مِنْ أثْوابِهَا، | إنْ كانَ عِنْدَكَ بالْقَضَاءِ يَقِينُ |
هَوِّنْ عَلَيْكَ وَكُنْ بِرَبِّكَ وَاثِقاً | فَأخُو الحَقِيقَةِ شَأنُه التَّهْوِينُ |
فَهَوَّنْ عَلَيْكَ فَإنَّ الأُمُورَ | بكفِّ الإلَهِ مَقَادِيرُهَا |
فَلَيْسَ يَأتِيكَ مَصْرُوفُهَا | ولا عَازِبٌ عَنْكَ مَقْدُورُها |
﴿ وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ ﴾ * ﴿ وَلَئِنْ مُّتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لإِلَى الله تُحْشَرُونَ ﴾
قلت : إذا اجتمع القسم والشرط ذكر جواب الأول وأغنى عن الثاني، فقوله :﴿ لمغفرة ﴾ : جواب القسم، أغنى عن جواب ﴿ إن ﴾، والتقدير : إن قتلتم في سبيل الله غفر الله لكم، ثم سد عنه ﴿ لمغفرة. . . ﴾ الخ.
يقول الحقّ جلّ جلاله : إن السفر والغزو ليس هما مما يجلب الموت أو يقدم الأجل، وعلى تقدير : لو وقع ذلك وحضر أجلكم فيه وقتلتم ﴿ في سبيل الله ﴾ بالسيف، ﴿ أو متم ﴾ حتف أنفكم، لما تنالون من المغفرة والرحمة والروح والريحان ﴿ خير مما تجمعون ﴾ من حطام الدنيا الفانية لو لم تموتوا.
وعلى أي وجه متم أو قتلتم فلا تحشرون إلا إلى الله، لا إلى أحد غيره، فيوفى جزاءكم ويعظم ثوابكم، وأما البقاء في الدنيا فلا مطمع لأحد فيه، سافر أو قعد في بيته، وقدَّم أولاً القتل على الموت وأخره ثانياً ؛ لأن الأول رتب عليه المغفرة والرحمة، وهما في حق من فتل في الجهاد أعظم ممن مات بغيره، فقدمه ؛ اعتناء به، وفي الثاني رتب عليه الحشر، وهو مستوٍ في القتل والموت، فلا مزية فيه للقتل على الموت. والله أعلم.
﴿ فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنْفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ ﴾
قلت :﴿ فبما ﴾ : صلة. والفظ، الجافي، يقال : فظ فظاظةً وفظوظاً، ورجل فظ، وامرأة فظة، والفض - بغير المشالة : التفرق، ويطلق على الكسر، ومنه : لا يفضض الله فاك.
يقول الحقّ جلّ جلاله : فبرحمة من الله ونعمة كنت سهلاً ليناً رفيقاً، فحين عصوا أمرك، وفروا عنك، ألنت لهم جانبك، ورفقت بهم، بل اغتممت من أجلهم مما أصابهم، ﴿ ولو كنت فظّاً ﴾ جافياً سيء الخلق ﴿ غليظ القلب ﴾ قاسيَهُ فأغلظت لهم القول، ﴿ لانفضوا من حولك ﴾ أي : لتفرقوا عنك، ولم يسكنوا إليك، ﴿ فاعف عنهم ﴾ فيما يختص بك، ﴿ واستغفر لهم ﴾ في حق ربك حتى يشفعك فيهم ﴿ وشاورهم في الأمر ﴾ الذي يصح أن يشاور فيه ؛ تطييباً لخاطرهم، ورفعاً لأقدارهم، واستخراجاً وتمهيداً لسنة المشاورة لغيرهم، وخصوصاً الأمراء.
قال عليه الصلاة والسلام :" ما شقى عبد بمشورة، وما سعد باستغناء برأي ". قال أيضاً :" مَا خَابَ من اسْتَخَارَ، وَلاَ نَدِمَ من اسْتَشَارَ ". وقال أيضاً - عليه الصلاة والسلام - " إذَا كَانَ أُمَرَاؤُكُمْ خِيَارَكُمْ، وَأَغْنِيَاؤُكُمْ أَسخيَاءَكُمْ، وأَمرُكُم شُورَى بَيْنَكُم، فَظَهْرُ الأرْض خَيْرٌ لَكُمْ مِنْ بَطْنِهَا. وإذا كَانَ أُمَرَاؤُكُمْ شِرَارَكُمْ وأَغْنِيَاؤُكُمْ بُخَلاءَكُمْ، ولم تكن أموركم شُورَى بَيْنَكُم، فبَطْنُ الأرْضِ خَيرٌ من ظَهْرِهَا ".
﴿ فإذا عزمت ﴾ على شيء بعد الشورى، ﴿ فتوكل على الله ﴾ أي : ثق به وكيلاً، ﴿ إن الله يحب المتوكلين ﴾ فينصرهم ويهديهم إلى ما فيه صلاحهم.
الإشارة : ما اتصف به نبينا - عليه الصلاة والسلام - من السهولة والليونة والرفق بالأمة، اتصفت به ورثته من الأولياء العارفين، والعلماء الراسخين، ليتهيأ لهم الدعوة إلى الله، أو إلى أحكام الله، ولو كانوا فظاظاً غلاظاً لانفض الناس من حولهم، ولم يتهيأ لهم تعريف ولا تعليم، فينبغي لهم أن يعفوا ويصفحوا ويغفروا ويصبروا على جفوة الناس، ويستغفروا لهم، ويشاوروهم في أمورهم، اقتداء برسولهم، فإذا عزموا على إمضاء شيء فليتوكلوا على الله ؛ ﴿ إن الله يحب المتوكلين ﴾.
قال الجنيد - رضي الله عنه - :( التوكل أن تقبل بالكلية على ربك وتعرض عمن دونه ). وقال الثوري : أن تفني تدبيرك في تدبيره، وترضى بالله وكيلاً ومدبراً، قال الله تعالى :﴿ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً ﴾ [ النِّساء : ٨١ ]. وقال ذو النون :( خُلع الأرباب، وقطع الأسباب ) وقال الخواص : قطع الخوف والرجاء مما سوى الله تعالى. وقال العرجي : رد العيش إلى يوم واحد، وإسقاط هم غد. ه. وقال سهل : معرفة معطي أرزاق المخلوقين، ولا يصح لأحد التوكل حتى تكون عنده السماء كالصفر١ والأرض كالحديد، لا ينزل من السماء قطر، ولا يخرج من الأرض نبات، ويعلم أن الله لا ينسى له ما ضمن من رزقه بيه هذين. ه. وقيل : هو اكتفاء العبد الذليل بالرب الجليل، كاكتفاء الخليل بالخليل، حين لم ينظر إلى عناية جبريل. وقيل لبهلول المجنون : متى يكون العبد متوكلاً ؟ قال : إذا كان بالنفس غريباً بين الخلق، وبالقلب قريباً إلى الحق.
وقال النبيّ صلى الله عليه وسلم :" مَنْ سَرَّهُ أنْ يَكُونَ أكْرَم النَّاسِ فَلْيَتقِ الله، ومَنْ سَرَّه أن يكُون أغْنَى النَّاس فليكنِ بما في يد الله أوثق منه بما في يَده ".
قال ابن جزي : التوكل هو الاعتماد على الله في تحصيل المنافع وحفظها بعد حصولها، وفي دفع المضرات ورفعها بعد وقوعها، وهو من أعلى المقامات، لوجهين : أحدهما : قوله :﴿ إن الله يحب المتوكلين ﴾، والآخر : الضمان الذي في قوله :
﴿ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ ﴾ [ الطّلاَق : ٣ ]، وقد يكون واجباً لقوله :﴿ وَعَلَى اللَّهِ كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ﴾ [ المَائدة : ٢٣ ]، فجعله شرطاً في الإيمان، ولظاهر قوله :﴿ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونِ ﴾ [ آل عِمرَان : ١٢٢ ] ؛ فإن الأمر محمول على الوجوب.
واعلم أن الناس في التوكل على ثلاث مراتب :
الأولى : أن يعتمد العبد على ربه، كاعتماد الإنسان على وكيله المأمون عنده، الذي لا يشك في نصيحته له وقيامه بمصالحه. الثانية : أن يكون العبد مع ربه كالطفل مع أمه ؛ لا يعرف سواها ولا يلجأ إِلاَّ إليها. الثالثة : أن يكون العبد مع ربه كالميت بين يدي الغاسل، قد أسلم إليه نفسه بالكلية.
فصاحب الدرجة الأولى عنده حظ من النظر لنفسه، بخلاف صاحب الثانية. وصاحب الثانية له حظ من الاختيار، بخلاف صاحب الثالثة. وهذه الدرجات مبنية على التوحيد الخاص، الذي تكلمتُ عليه في قوله :﴿ وَإِلَهُكُمْ إِلَهُ وَاحِدٌ ﴾ [ البَقَرَة : ١٦٣ ]، فهي تقوى بقوته وتضعف بضعفه.
فإن قيل : هل يشترط في التوكل ترك الأسباب أم لا ؟ فالجواب : أن الأسباب على ثلاثة أقسام :
أحدها : سبب معلوم قطعاً قد أجراه الله، فهذا لا يجوز تركه ؛ كالأكل لرفع الجوع واللباس لرفع البرد.
الثاني : سبب مظنون : كالتجارة وطلب المعاش، وشبه ذلك، فهذا لا يقدح فعله في التوكل، فإن التوكل من أعمال القلوب لا من أعمال البدن، ويجوز تركه لمن قوي عليه.
والثالث : سبب موهوم بعيد، فهذا يقدح فعله في التوكل، قلت : ولعل هذا مثل طلب الكيمياء والكنوز وعلم النار والسحر، وشبه ذلك.
ثم فوق التوكل التفويض، وهو : الاستسلام لأمر الله تعالى بالكلية، فإن المتوكل له مراد واختيار، وهو يطلب مراده في الاعتماد على ربه، وأما المفوض فليس له مراد ولا اختيار، بل أسند الاختيار إلى الله تعالى، فهو أكمل أدباً مع الله. ه. وأصله للغزالي، وسيأتي بقية الكلام عند قوله :﴿ وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذي لاَ يَمُوتُ ﴾ [ الفُرقان : ٥٨ ]. وبالله التوفيق.
﴿ إِن يَنصُرْكُمُ اللَّهُ فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ وَإِن يَخْذُلْكُمْ فَمَن ذَا الَّذِي يَنصُرُكُم مِّنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ ﴾
يقول الحقّ جلّ جلاله :﴿ إن ينصركم الله ﴾ كما نصركم يوم بدر، ﴿ فلا غالب لكم ﴾ من أحد من الناس، ﴿ وإن يخذلكم ﴾ كما خذلكم يوم أحد، ﴿ فمن ﴾ هذا ﴿ الذي ينصركم من بعده ﴾ تعالى، أي : فلا ناصر سواه. وهذا تنبيه على الحث على التوكل، وتحريض على ما يستوجب به النصر، وهو الاعتماد على الله، وتحذير مما يستوجب الخذلان، وهو مخالفة أمره وعصيان رسوله، أو الاعتماد على غيره، ولذلك قال :﴿ وعلى الله فليتوكل المؤمنون ﴾ ؛ لِمَا علموا ألا ناصر سواه.
الإشارة : إن ينصركم الله على مجاهدة النفوس، ودوام السير إلى حضرة القدوس، فلا غالب لكم من النفس، ولا من الناس ولا من الهوى ولا من الشيطان، وإن يخذلكم - والعياذ بالله - فمن ذا الذي ينصركم من بعد خذلانه لكم ؟ فليعتمد المريد في سيره على مولاه، وليستنصر به في قطع حظوظه وهواه، فإنه لا ناصر له سواه. وأنشدوا :
إِذَا كَانَ عُوْنُ اللّهِ لِلمَرْءِ نَاصِراً | تَهَيَّأ لَهُ مِنْ كُلِّ صَعْبِ مُرَادُهُ |
وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَوْنٌ مِن اللّهِ للْفَتَى | فَأَكْثَرُ مَا يَجْنِي عَلَيْهِ اجْتِهَادُهُ |
﴿ وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَن يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ ﴾
قلت : الغلول : السرقة من الغنائم، فمن قرأ بفتح الياء وضم الغين، فمعناه : لا ينبغي له أن يأخذ شيئاً من الغنيمة خفية، والمراد : تبرئة رسوله - عليه الصلاة والسلام - من ذلك. ومن قرأ بضم الياء ففيه وجهان : أحدهما : أن يكون المعنى، ما كان لنبي أن يُخان، أي : أن تخونه أُمّتُه في المغانم، وكذلك الأمراء، وإنما خص النبيَّ صلى الله عليه وسلم بذلك ؛ لبشاعة ذلك مع النبيّ ؛ لأن المعاصي تعظم بحضرته، والثاني : أن يكون المعنى : ما كان لنبي أن يُنسب إلى الخيانة ؛ كقوله :﴿ فَإِنَّهُمْ لاَ يُكّذِّبُونَكَ ﴾ [ الأنعَام : ٣٣ ] أي : لا ينسبونك إلى الكذب.
يقول الحقّ جلّ جلاله :﴿ ما كان ﴾ ينبغي ﴿ لنبيٍّ أن يغل ﴾ ويأخذ شيئاً من الغنيمة خفية ؛ لأن ذلك خيانة والنبوة تنافي ذلك، والمراد : نزاهة الرسول - عليه الصلاة والسلام - عن ذلك، كقوله :﴿ مَا كَانَ لِلَّهِ أَن يَتَّخِذَ مِن وَلَدٍ ﴾ [ مريَم : ٣٥ ]، ودفعُ ما توهمه الرماة، فقد رُوِيَ أنه - عليه الصلاة والسلام - قال لهم لما تركوا المركز :" ألمْ أعْهَد إليكُمْ ألا تَتْركُوا المركَزَ حتَّى يأتيكُمْ أمْري ؟ " قالوا : تَرَكْنا بقية إخْوانِنَا وُقوفاً، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم :" بل ظَننْتُم أنّا نَغُلّ ولا نقْسِمُ لكُمْ ". فنزلت الآية. وقيل إنه - عليه الصلاة والسلام - : بعث طلائع، فغنم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقسم على من معه فقط، فنزلت، فاسترجع ذلك منهم. وقيل : في قطيفة حمراء فُقدت يوم بدر، فقال المنافقون : لَعَلَّ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم أَخَذَهَا، فنزلت.
ثم ذكر وعيد الغلول، فقال :﴿ ومن يَغْلُلْ يأت بما غَلَ يوم القيامة ﴾ أي : يأتي بالذي غله يحمله على رقبته، قال عليه الصلاة والسلام :" لا ألقى أحَدكُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ يَجِيءُ على رَقَبته بَعِيرٌ لَهُ رُغَاء، أوْ بَقَرَةٌ لَهَ خُوَارٌ، أَوْ شَاةٌ تَيْعَرُ١ " ثم قال :" اللهُمَّ هَلْ بَلَّغْتُ ؟ ثلاثاً ". كما في البخاري.
﴿ ثم توفّى كل نفس ﴾ جزاء ﴿ ما كسبت ﴾ تاماً، ﴿ وهم لا يظلمون ﴾ بنقص ثواب مُطيعهم، ولا يزاد على عقاب عاصيهم وكان اللائق بما قبله أن يقول : ثم يوفي ما كسب. لكنه عمم الحكم ؛ ليكون كالبرهان على المقصود والمبالغة فيه، وأنه إذا كان كل كاسب مجزياً بعمله، فالغال مع عظم جرمه بذلك أولى. قاله البيضاوي.
الإشارة : ما قيل في النبيّ - عليه الصلاة والسلام - يقال في ورثته الكرام، كالأولياء والعلماء الأتقياء، فإنهم ورثة الأنبياء، فيُظن بهم أحسن المذاهب، ويلتمس لهم أحسن المخارج، لأن الأولياء دلّوا على معرفة الله، والعلماء دلّوا على أحكام الله، وبذلك جاءت الرسل من عند الله، فلا يظن بهم نقص ولا خلل، ولا غلول ولا دخل، فلهم قسط ونصيب من حرمة الأنبياء، ولاسيما خواص الأولياء، ومن يظن بهم نقصاً أو خللاً، ويغل قلبه على شيء من ذلك، فسيرى وباله يوم تفضح السرائر، ﴿ ثم توفّى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون ﴾، فلحوم الأولياء والعلماء سموم قاتلة، وظن السوء بهم خيانة حاصلة. والله تعالى أعلم.
﴿ أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ كَمَن بَآءَ بِسَخَطٍ مِّنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ﴾ * ﴿ هُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ اللَّهِ واللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ ﴾
يقول الحقّ جلّ جلاله :﴿ أفمن اتبع رضوان الله ﴾ بأن اعتقد في نبيه الكمال، وأطاعه في وصف الجلال والجمال، وهم المؤمنون، حيث نزهوا نبيهم من النقائص، ومَن هَجَسَ في قلبه شيء بادر إلى التوبة، ثم اتصف بكمال الخصائص، هل يكون ﴿ كمن باء ﴾ بغضب ﴿ من الله ﴾ ؟ وهم المنافقون، حيث نافقوا الرسول واتهموه - عليه الصلاة والسلام - بالغلول.
أو يقول :﴿ أفمن اتبع رضوان الله ﴾ بالطاعة والانقياد ﴿ كمن باء بسخط من الله ﴾ بالمعاصي وسوء الاعتقاد ﴿ ومأواه جهنم وبئس المصير ﴾ أي المنقلب، والفرق بين المصير والمرجع : أن المصير يجب أن يخالف الحالة الأولى، ولا كذلك المرجع. قاله البيضاوي.
﴿ لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ ﴾
يقول الحقّ جلّ جلاله :﴿ لقد منّ الله على المؤمنين ﴾ حيث ﴿ بعث فيهم رسولاً من أنفسهم ﴾ أي : من جنسهم، أو من نسبهم، عربيّاً مثلهم، ليفهموا كلامه بسهولة، ويفتخروا به على غيرهم. وتخصيص المؤمنين بالمنة، وإن كانت نعمته عامة ؛ لزيادة انتفاعهم على غيرهم ؛ لشرفهم وذكرهم به، حال كونه ﴿ يتلوا عليهم آياته ﴾ ؛ القرآن بعد أن كانوا جاهلية لا يعرفون الوحي ولا سمعوا به، ﴿ ويزكيهم ﴾ أي : يطهرهم من دنس الذنوب ودرن العيوب، ﴿ ويعلمهم الكتاب ﴾ أي : القرآن، ﴿ والحكمة ﴾ أي : السنة، ﴿ وإن كانوا ﴾ أي : وإنه، أي : الأمر والشأن كانوا ﴿ من قبل ﴾ بعثته ﴿ لفي ضلال مبين ﴾ أي : ظاهر بيِّن.
الإشارة : لقد منّ الله على المتوجهين إليه الطالبين لمعرفته، حيث بعث لهم من يأخذ بأيديهم، ويطوي مسافة البعد عنهم، وهم شيوخ التربية، يتلون عليهم آياته الدالة على كشف الحجاب وفتح الباب، ويزكيهم من دنس العيوب المانعة لعلم الغيوب، ثم يزكيهم من درن الحس إلى مشاهدة القرب والأنس، ويعلمهم الكتاب المشتمل على عين التحقيق، والحكمة المشتملة على التشريع وبيان الطريق، فيجمعون لهم ما بين الحقيقة والشريعة، وقد كانوا قبل ذلك في ضلال مبين عن الجمع بينهما. وهذه المنّة عامة في كل زمان، إذا لا تخلو الأرض من داع يدعو إلى الله، ومن اعتقد قطعه فقد قطع منّة الله، واستعجز قدرة الله، وسد باب الرحمة في وجه عباد الله، والعياذ بالله.
﴿ أَوَ لَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾
قلت : الهمزة - للتفريع، و﴿ لَمَّا ﴾ : ظرف، خافضة لشرطها، منصوبة بجوابها، وهي معطوفة على محذوف، أي : أكان من كان يوم أحد، ولمّا أصابتكم مصيبة، قلتم ما قلتم، و﴿ قد أصبتم ﴾ : جملة حالية.
يقول الحقّ جلّ جلاله : أحين ﴿ أصابتكم مصيبة ﴾ يوم أحد بقتل سبعين منكم، و﴿ قد أصبتم مثليها ﴾ يوم بدر فقتلتم سبعين وأسرتم سبعين، ﴿ قلتم أنَّى هذا ﴾ أي : من أين أصابنا هذا البلاء وقد وعدنا النصر ؟ ﴿ قل ﴾ لهم :﴿ هو من عند أنفسكم ﴾ أي : مما اقترفته أنفسكم من مخالفة المركز، والنصر الموعود كان مشروطاً بالثبات والطاعة، فلما اختل الشرط اختل المشروط، ﴿ إن الله على كل شيء قدير ﴾ ؛ فيقدر على النصر بشرط وبغيره، لكن حكمته اقتضت وجود الأسباب والشروط ؛ لأن هذا العالم قائم بين قدرة وحكمة.
أو :﴿ قل هو من عند أنفسكم ﴾ باختياركم الفداء يوم بدر : رُوِيَ عن عليّ رضي الله عنه قال :( جاء جِبْريل إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم يوم بدر فقال : خيِّرْ أصْحَابَكَ في الأسارى، إن شاءوا القتل، وإن شاءوا الفِدَاء، عَلَى أنْ يُقْتَلَ مِنْهُمْ عاماً مقبلاً مِثْلُهمْ، قالوا : الفِدَاء ويُقْتَلُ مِنَّا ). والله تعالى أعلم.
الإشارة : إذا أصاب المريد شيء من المصائب والبلايا، فلا يستغرب وقوع ذلك به، ولا يتبرم منه، فإنه في دار المصائب والفجائع، " لا تستغرب وقوع الأكدار ما دُمتَ في هذه الدار، فإنما أبرزت ما هو مستحق وصفها وواجب نعتها ". وإذا كان أصابته مصيبة في وقت، فقد أصابته نعمٌ جمة في أوقات عديدة، فليشكر الله على ما أولاه، وليصبر على ما ابتلاه، ليكون صباراً شكوراً.
قال الشيخ أبو الحسن - رضي الله عنه - :( العارف هو الذي عرف إساءاته في إحسان الله إليه، وعرف شدائد الزمان في الألطاف الجارية من الله عليه، فاذكروا آلاء الله لعلكم تفلحون ). وأيضاً : كل ما يصيب المؤمن فمن كسب يده، ويعفو عن كثير.
وإن كان المريد وعد بالحفظ والنصر، فقد يكون ذلك بشروط خفيت عليه، فلم تحقق فيه، فيخلف حفظه لينفذ قدر الله فيه، ﴿ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً مَّقْدُوراً ﴾ [ الأحزاب : ٣٨ ].
﴿ وَمَآ أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ * ﴿ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُواْ وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ قَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُواْ قَالُواْ لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً لاَّتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإِيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ ﴾ * ﴿ الَّذِينَ قَالُواْ لإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُواْ لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِن كُنْتُمْ صَادِقِينَ ﴾
يقول الحقّ جلّ جلاله :﴿ وما أصابكم ﴾ يا معشر المسلمين يوم أحد ﴿ يوم التقى ﴾ جمع المسلمين وجمع الكفار، من القتل والجرح والهزيمة، ﴿ فبإذن الله ﴾ وقضائه، لا راد لإمضائه، ﴿ وليعلم ﴾ علم ظهور في عالم الشهادة ﴿ المؤمنين ﴾ والمنافقين ؛ فيظهر إيمان هؤلاء وكفر هؤلاء، وقد ظهر نفاقهم حيث رجعوا مع عبد الله بن أبي، وكانوا ثلاثمائة.
وذلك أنَّ ابن أُبيّ كان رأيه ألا يخرج المسلمون إلى المشركين، فلما طلب الخروجَ قومٌ من المسلمين، فخرج - عليه الصلاة والسلام - كما تقدم، غضب ابن أُبيّ، وقال : أطاعهم وعصاني. فرجع، ورجع مع أصحابه، فتبعهم أبو جابر عبد الله بن عمرو بن حرام، وقال لهم : ارجعوا ﴿ قاتلوا في سبيل الله أو ادفعوا ﴾، أي : كثروا سواد المسلمين، فقال ابنُ أُبيّ - رأس المنافقين - : ما أرى أن يكون قتالاً، ولو علمنا أن يكون قتال ﴿ لاتبعناكم ﴾، وكنا معكم.
قال تعالى :﴿ هم للكفر يومئذ أقرب منهم للإيمان ﴾ ؛ لظهور الكفر عليهم من كلامهم، فأمارات الكفر عليهم أكثر من أمارات الإيمان، أو : هم لأهل الكفر أقرب نصرة منهم لأهل الإيمان، لأن رجوعهم ومقالتهم تقوية للكفار عليهم وتخذيل للمسلمين، ﴿ يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم ﴾، فهم يظهرون خلاف ما يبطنون، لا تواطئ قلوبهم ألسنتهم بالإيمان، وإضافة القول إلى الأفواه تأكيد وتغليظ، ﴿ والله أعلم ﴾ منكم ﴿ بما تكتمون ﴾ من النفاق ؛ لأنه يعلمه مفصلاً بعلم واجب، وأنتم تعلمونه مجملاً بأمارات.
فإذا قيل للعوام : قاتلوا أنفسكم في سبيل الله لتدخلوا حضرة الله، ادفعوا عن أنفسكم العلائق لتشرق عليكم أنوار الحقائق، قالوا : قد انقطع هذا الطريق واندرست أرباب علم التحقيق، ولو نعلم قتالاً بقي يُوصلنا إلى ربنا، كما زعمتم ؛ لاتبعناكم ودخلنا في طريقكم. هم للكفر يومئذ أقرب للإيمان، حيث تحكموا على القدرة الأزلية، وسدوا باب الرحمة الإلهية، وإنما يقولون ذلك احتجاجاً لنفوسهم، وأبقاء على حظوظهم، وليس ذلك من خالص قلوبهم، يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم.
وإذا نزل بأهل النسبة نكبة أو بلية، قالوا لإخوانهم، الذين دخلوا في طريق القوم، وقد قعدوا هُم مع العوام : لو أطاعونا ولم يدخلوا في هذا الشأن، ما قتلوا أو عذبوا، فقل لهم أيها الفقير : القضاء والقدر يجري على الجميع، فادفعوا عن أنفسكم ما تكرهون، إن كنتم صادقين أن المكاره لا تصيب إلا من توجه لقتال نفسه. والله تعالى أعلم بأسرار كتابه.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ١٦٦:وليتميز الصادق من الكاذب والمخلص من المنافق، كما أشار إلى ذلك بقوله :
﴿ وَمَآ أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ * ﴿ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُواْ وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ قَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُواْ قَالُواْ لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً لاَّتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإِيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ ﴾ * ﴿ الَّذِينَ قَالُواْ لإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُواْ لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِن كُنْتُمْ صَادِقِينَ ﴾
يقول الحقّ جلّ جلاله :﴿ وما أصابكم ﴾ يا معشر المسلمين يوم أحد ﴿ يوم التقى ﴾ جمع المسلمين وجمع الكفار، من القتل والجرح والهزيمة، ﴿ فبإذن الله ﴾ وقضائه، لا راد لإمضائه، ﴿ وليعلم ﴾ علم ظهور في عالم الشهادة ﴿ المؤمنين ﴾ والمنافقين ؛ فيظهر إيمان هؤلاء وكفر هؤلاء، وقد ظهر نفاقهم حيث رجعوا مع عبد الله بن أبي، وكانوا ثلاثمائة.
وذلك أنَّ ابن أُبيّ كان رأيه ألا يخرج المسلمون إلى المشركين، فلما طلب الخروجَ قومٌ من المسلمين، فخرج - عليه الصلاة والسلام - كما تقدم، غضب ابن أُبيّ، وقال : أطاعهم وعصاني. فرجع، ورجع مع أصحابه، فتبعهم أبو جابر عبد الله بن عمرو بن حرام، وقال لهم : ارجعوا ﴿ قاتلوا في سبيل الله أو ادفعوا ﴾، أي : كثروا سواد المسلمين، فقال ابنُ أُبيّ - رأس المنافقين - : ما أرى أن يكون قتالاً، ولو علمنا أن يكون قتال ﴿ لاتبعناكم ﴾، وكنا معكم.
قال تعالى :﴿ هم للكفر يومئذ أقرب منهم للإيمان ﴾ ؛ لظهور الكفر عليهم من كلامهم، فأمارات الكفر عليهم أكثر من أمارات الإيمان، أو : هم لأهل الكفر أقرب نصرة منهم لأهل الإيمان، لأن رجوعهم ومقالتهم تقوية للكفار عليهم وتخذيل للمسلمين، ﴿ يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم ﴾، فهم يظهرون خلاف ما يبطنون، لا تواطئ قلوبهم ألسنتهم بالإيمان، وإضافة القول إلى الأفواه تأكيد وتغليظ، ﴿ والله أعلم ﴾ منكم ﴿ بما تكتمون ﴾ من النفاق ؛ لأنه يعلمه مفصلاً بعلم واجب، وأنتم تعلمونه مجملاً بأمارات.
فإذا قيل للعوام : قاتلوا أنفسكم في سبيل الله لتدخلوا حضرة الله، ادفعوا عن أنفسكم العلائق لتشرق عليكم أنوار الحقائق، قالوا : قد انقطع هذا الطريق واندرست أرباب علم التحقيق، ولو نعلم قتالاً بقي يُوصلنا إلى ربنا، كما زعمتم ؛ لاتبعناكم ودخلنا في طريقكم. هم للكفر يومئذ أقرب للإيمان، حيث تحكموا على القدرة الأزلية، وسدوا باب الرحمة الإلهية، وإنما يقولون ذلك احتجاجاً لنفوسهم، وأبقاء على حظوظهم، وليس ذلك من خالص قلوبهم، يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم.
وإذا نزل بأهل النسبة نكبة أو بلية، قالوا لإخوانهم، الذين دخلوا في طريق القوم، وقد قعدوا هُم مع العوام : لو أطاعونا ولم يدخلوا في هذا الشأن، ما قتلوا أو عذبوا، فقل لهم أيها الفقير : القضاء والقدر يجري على الجميع، فادفعوا عن أنفسكم ما تكرهون، إن كنتم صادقين أن المكاره لا تصيب إلا من توجه لقتال نفسه. والله تعالى أعلم بأسرار كتابه.
وهؤلاء المنافقون هم ﴿ الذين قالوا ﴾ في شأن إخوانهم الذين قُتلوا يوم أحد :﴿ لو أطاعونا ﴾ وجلسوا في ديارهم ﴿ ما قتلوا ﴾، قالوا هذه المقالة وقد قعدوا عن الخروج، ﴿ قل ﴾ لهم يا محمد :﴿ فادْرءوا ﴾ أي : فادفعوا ﴿ عن أنفسكم الموت إن كنتم صادقين ﴾ أنكم تقدرون أن تدفعوا القتل عمن كتب عليه، فادفعوا عن أنفسكم الموت وأسبابه حين يبلغ أجلكم، فإنه أحرى بكم، فالقعود لا يُنجي من الموت إذا وصل الأجل، فإن أسباب الموت كثيرة، فقد يكون القعود سبباً للموت إن بلغ الأجل، وقد يكون الخروج سبباً للنجاة إن لم يبلغ. والله تعالى أعلم.
فإذا قيل للعوام : قاتلوا أنفسكم في سبيل الله لتدخلوا حضرة الله، ادفعوا عن أنفسكم العلائق لتشرق عليكم أنوار الحقائق، قالوا : قد انقطع هذا الطريق واندرست أرباب علم التحقيق، ولو نعلم قتالاً بقي يُوصلنا إلى ربنا، كما زعمتم ؛ لاتبعناكم ودخلنا في طريقكم. هم للكفر يومئذ أقرب للإيمان، حيث تحكموا على القدرة الأزلية، وسدوا باب الرحمة الإلهية، وإنما يقولون ذلك احتجاجاً لنفوسهم، وأبقاء على حظوظهم، وليس ذلك من خالص قلوبهم، يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم.
وإذا نزل بأهل النسبة نكبة أو بلية، قالوا لإخوانهم، الذين دخلوا في طريق القوم، وقد قعدوا هُم مع العوام : لو أطاعونا ولم يدخلوا في هذا الشأن، ما قتلوا أو عذبوا، فقل لهم أيها الفقير : القضاء والقدر يجري على الجميع، فادفعوا عن أنفسكم ما تكرهون، إن كنتم صادقين أن المكاره لا تصيب إلا من توجه لقتال نفسه. والله تعالى أعلم بأسرار كتابه.
﴿ وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ ﴾ * ﴿ فَرِحِينَ بِمَآ آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُواْ بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ ﴾ * ﴿ يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ ﴾
يقول الحقّ جلّ جلاله :﴿ ولا تحسبن ﴾ أيها الرسول، أو أيها السامع، ﴿ الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً بل ﴾ هم ﴿ أحياء ﴾ ؛ لأن الله تعالى جعل أرواحهم في حواصل طير خضر، يسرحون في الجنة حيث شاءوا عند ربهم، بالكرامة والزلفى، يُرزقون من ثمار الجنة ونعيمها، فحالهم حال الأحياء في التمتع بأرزاق الجنة، بخلاف سائر الأموات من المؤمنين ؛ فإنهم لا يتمتعون بالأرزاق حتى يدخلوا الجنة. قاله ابن جزي.
قلت : شهداء الملكوت - وهم العارفون - أعظم قدراً من شهداء السيوف، وراجع ما تقدم في سورة البقرة١.
مَوْتُ التَّقِيِّ حَيَاةٌ لا فَنَاءَ لَهَا | قَدْ مَاتَ قَوْمٌ وَهُمْ فِي النَّاسِ أَحْيَاءُ |
وإِنْ خَطَرَتْ يوماً علَى خاطِر امْرِئ | أقَامَتْ به الأفْرَاحُ، وارتَحلَ الهمُّ |
﴿ فرحين بما آتاهم الله من فضله ﴾ من الكرامة والزلفى والنعيم الذي لا يفنى، ﴿ ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم ﴾ أي : بإخوانهم الذي لم يُقتلوا فيلحقوا بهم من بعدهم. وتلك البشارة هي :﴿ ألا خوف عليهم ولا هم يحزنون ﴾، أو من أجل ﴿ ألا خوف عليهم ولا هم يحزنون ﴾.
والحاصل : أنهم يستبشرون بما تبين لهم من الكرامة في الآخرة، وبحال من تركوا من خلفهم من المؤمنين، وهو أنهم إذا ماتوا أو قُتلوا، كانوا أحياء، حياة لا يدركها خوفُ وقوعِ محذور، ولا حزن فوات محبوب. فالآية تدل على أن الإنسان غير الهيكل المحسوس، بل هو جوهر مُدرِك بذاته، لا ينفى بخراب البدن، ولا يتوقف على وجود البدن إدراكه وتألمُه والتذاذه. ويؤيد ذلك قوله تعالى في آل فرعون :
﴿ النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُواً وَعَشِيّاً ﴾ [ غَافِر : ٤٦ ]، وما رَوى ابنُ عباس من أنه صلى الله عليه وسلم قال :" أرْواحُ الشهداء في أجْوافِ طَيْرِ خَضْرٍ، تَرِدُ أنْهارَ الجنّةِ، وتَأكُلُ منْ ثِمارِها، وتَأوِي إلى قَنَادِيلَ مُعلَّقةٍ في ظلِّ العَرشِ " - قال معناه البيضاوي.
مَوْتُ التَّقِيِّ حَيَاةٌ لا فَنَاءَ لَهَا | قَدْ مَاتَ قَوْمٌ وَهُمْ فِي النَّاسِ أَحْيَاءُ |
وإِنْ خَطَرَتْ يوماً علَى خاطِر امْرِئ | أقَامَتْ به الأفْرَاحُ، وارتَحلَ الهمُّ |
ولمّا ذكر استبشارهم بإخوانهم ذكر استبشارهم بما يخصهم فقال :﴿ يستبشرون بنعمة من الله ﴾ ؛ وهو ثواب أعمالهم الجسماني، ﴿ وفضل ﴾ وهو نعيم أرواحهم الروحاني، وهو النظر إلى وجهه الكريم، ويستبشرون أيضاً بكونه تعالى ﴿ لا يضيع أجر المؤمنين ﴾، ماتوا في الجهاد أو على فرشهم، حيث حسنت سريرتهم وكرمت علانيتهم، قال صلى الله عليه وسلم :" إن لله عباداً يصرفهم عن القتل والزلازل والأسقام، يطيل أعمارهم في حسن العمل، ويحسن أرزاقهم، ويحييهم في عافية، ويميتهم في عافية على الفرش، ويعطيهم منازل الشهداء ". قلت : ولعلهم العارفون بالله، جعلنا الله من خواصهم، وسلك بنا مسالكهم. آمين.
مَوْتُ التَّقِيِّ حَيَاةٌ لا فَنَاءَ لَهَا | قَدْ مَاتَ قَوْمٌ وَهُمْ فِي النَّاسِ أَحْيَاءُ |
وإِنْ خَطَرَتْ يوماً علَى خاطِر امْرِئ | أقَامَتْ به الأفْرَاحُ، وارتَحلَ الهمُّ |
﴿ الَّذِينَ اسْتَجَابُواْ للَّهِ وَالرَّسُولِ مِن بَعْدِ مَآ أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُواْ مِنْهُمْ وَاتَّقَواْ أَجْرٌ عَظِيمٌ ﴾
قلت :﴿ الذين ﴾ : مبتدأ، وجملة ﴿ للذين أحسنوا ﴾ : خبر، أو صفة للمؤمنين قبله، أو نصب على المدح.
يقول الحقّ جلّ جلاله :﴿ الذين استجابوا لله والرسول ﴾ فأطاعوه فيما ندبهم إليه من اللحوق بالمشركين، إرهاباً لهم، ﴿ من بعد ما أصابهم القرح ﴾ أي : الجرح، فتحاملوا على أنفسهم حتى ذهبوا مع نبيهم ﴿ للذين أحسنوا منهم ﴾ بأن فعلوا ما أمروا به، ﴿ واتقوا ﴾ الله في مخالفة أمر رسوله، ﴿ أجر عظيم ﴾ يوم يقدمون عليه.
الإشارة : الذين استجابوا لله فيما ندبهم من الوصول إلى حضرته، وللرسول فيما طلبهم به من اتباع سنته، فجعلوا قلوبهم محلاً لحضرته، وجوارحهم متبعة لشريعته، من بعد ما أصابهم في طلب الوصول إلى ذلك قرح وضرب وسجن وإهانة، فصبروا حتى ظفروا بالجمع بين الحقيقة والشريعة، للذين أحسنوا منهم بالثبات على السير إلى الوصول إلى الحق، واتقوا كل ما يردهم إلى شهود الفرق، أجر عظيم وخير جسيم، بالعكوف في الحضرة، والتنعم بالشهود والنظرة.
﴿ الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ ﴾ * ﴿ فَانْقَلَبُواْ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُواءٌ وَاتَّبَعُواْ رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ ﴾ * ﴿ إِنَّمَا ذالِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ ﴾
قلت : الموصول بدل من الموصول قبله، و﴿ يخوف ﴾ : يتعدى إلى مفعولين ؛ للتضعيف، حذف الأول، أي : يخوفكم أوليائه من الكفار، أو حذف الثاني، أي : يخوف أولياءه القاعدين عن الخروج إلى ملاقاة العدو.
وهنا تفسيران : أحدهما : أن يكون من تتمة غزوة أحد، وهو الظاهر، ليتصل الكلام بما بعده، وذلك أن أبا سفيان لما هَمّ بالرجعة ليستأصل المسلمين، لقيه معبد الخزاعي، فقال له : إن محمداً خرج يطلبك في جمع لم أرَ مثله، فدخله الرعب، فلقيه ركب من عبد القيس يريد المدينة بالميرة، فقال لهم : ثبطوا محمداً عن لحوقنا، ولكم حمل بعير من الزبيب، فلما لقوا المسلمين خوفوهم، فقال :﴿ حسبنا الله ونعم الوكيل ﴾، ومضوا حتى بلغوا حمراء الأسد ثم رجعوا، فعلى هذا : يقول الحقّ جلّ جلاله ﴿ الذين قال لهم الناس ﴾.
يقول الحقّ جلّ جلاله :﴿ الذين قال لهم الناس ﴾ وهم ركب عبد قيس حيث قالوا للمسلمين :﴿ إن الناس ﴾ يعني أبا سفيان ومن معه، ﴿ قد جمعوا لكم ﴾ ليرجعوا ليستأصلوكم ﴿ فاخشوهم ﴾ وارجعوا إلى دياركم ﴿ فزادهم ﴾ ذلك ﴿ إيماناً ﴾ ويقيناً وتثبيتاً في الدين، وهذا يدل على أن الإيمان يزيد وينقص، فيزيد بحسب التوجه إلى الله والتفرغ مما سواه، وينقص بحسب التوجه إلى الدنيا وشغبها، ويزيد أيضاً بالطاعة والنظر والاعتبار، وينقص بالمعصية والغفلة والاغترار.
ولما قال لهم الركب ذلك ؛ ليخوفهم، ﴿ قالوا حسبنا الله ﴾ أي : كافينا الله وحده، فلا نخاف غيره، ﴿ ونعم الوكيل ﴾ أي : نعم من يتوكل عليه العبد، وهي كلمة يدفع بها ما يخاف ويكره، وهي الكلمة التي قالها إبراهيم حين ألقي في النار.
واكتفوا بعلم الله ونظره وبرعايته ونصره، فانقلبوا بنعمة الشهود، وفضل الترقي في عظمة الملك الودود، لم يمسسهم في باطنهم سوء ولا نقصان، واستوجبوا من الله الرضى والرضوان، وإنما ذلكم شيطان يردهم عن مقام الشهود والعيان، فلا ينبغي لهم أن يخافوا ومطلبهم مقام الإحسان، الذي تُبْذل في طلبه الأرواح والأبدان. وبالله التوفيق.
واكتفوا بعلم الله ونظره وبرعايته ونصره، فانقلبوا بنعمة الشهود، وفضل الترقي في عظمة الملك الودود، لم يمسسهم في باطنهم سوء ولا نقصان، واستوجبوا من الله الرضى والرضوان، وإنما ذلكم شيطان يردهم عن مقام الشهود والعيان، فلا ينبغي لهم أن يخافوا ومطلبهم مقام الإحسان، الذي تُبْذل في طلبه الأرواح والأبدان. وبالله التوفيق.
وهنا تفسيران : أحدهما : أن يكون من تتمة غزوة أحد، وهو الظاهر، ليتصل الكلام بما بعده، وذلك أن أبا سفيان لما هَمّ بالرجعة ليستأصل المسلمين، لقيه معبد الخزاعي، فقال له : إن محمداً خرج يطلبك في جمع لم أرَ مثله، فدخله الرعب، فلقيه ركب من عبد القيس يريد المدينة بالميرة، فقال لهم : ثبطوا محمداً عن لحوقنا، ولكم حمل بعير من الزبيب، فلما لقوا المسلمين خوفوهم، فقال :﴿ حسبنا الله ونعم الوكيل ﴾، ومضوا حتى بلغوا حمراء الأسد ثم رجعوا، فعلى هذا : يقول الحقّ جلّ جلاله ﴿ الذين قال لهم الناس ﴾.
ثم حذَّرهم الحق تعالى ممن ثبّطهم عن اللحوق بالكافر، وهو ركب عبد القيس، تشبيهاً لهم بالشيطان، فقال :﴿ إنما ذلكم الشيطان ﴾ يخوفكم أولياءه من المشركين، أو ﴿ يخوف أولياءه ﴾ القاعدين من المنافقين ﴿ فلا تخافوهم ﴾ ؛ فإن أمرهم بيدي، ﴿ وخافون إن كنتم مؤمنين ﴾ ؛ فإن الإيمان يقتضي إيثار خوف الله على خوف الناس.
التفسير الثاني : أن يكون الكلام على غزوة بدر الصغرى : وذلك أن أبا سفيان لما انصرف من أُحد نادى : يا محمد، موعدنا بدرٌ لقابل، إن شئت، فقال صلى الله عليه وسلم :" إن شاء الله تعالى "، فلما كان العام القابل، خرج أبو سفيان من أهل مكة، حتى نزل مرّ الظهران، فأنزل الله الرعب في قلبه، وبدا له أن يرجع، فلقي نُعيم بن مسعود الأشجعي معتمراً، فقال له : ائت المدينة وأعلمهم أنّا في جمع كثير، وثبطهم عن الخروج، ولك عندي عشر من الإبل، فأتى المدينة فأخبرهم، فكره أصحابُ النبيّ صلى الله عليه وسلم الخروج، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم :" والذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لأَخْرجَنّ، ولو وَحْدِي ". فرجع الجَبان وتأهب الشجعان، فخرجوا حتى أتوا بدراً الصغرى، ورجع أبو سفيان إلى مكة، فسموا جيش السويق، ووافق المسلمون السوق ببدر، وكانت معهم تجارات فباعوا وربحوا، وانصرف النبيّ صلى الله عليه وسلم إلى المدينة.
فعلى هذا، يقول الحقّ جلّ جلاله :﴿ الذين استجابوا لله والرسول ﴾، يعني : في غزوة بدر الصغرى، لميعاد أبي سفيان، ﴿ من بعد ما أصابهم القرح ﴾ يعني : في غزوة أحد في العام الأول، ﴿ للذين أحسنوا منهم ﴾ بالخروج مع الرسول، ﴿ واتقوا ﴾ الله في مخالفته، ﴿ أجر عظيم الذين قال لهم الناس ﴾ يعني نُعَيْم بن مسعود، وأطلق عليه الناس لأنه من جنسهم، كما يقال : فلان يركب الخيل، وما يركب إلا فرساً. أو : لأنه انضم إليه ناس من المدينة وأذاعوا كلامه. ﴿ إن الناس قد جمعوا لكم ﴾ يعني : أبا سفيان وأهل مكة لما خرج إلى مَرّ الظهران. وقوله :﴿ فانقلبوا بنعمة من الله ﴾ أي : عافية وسلامة، ﴿ وفضل ﴾ ما أصابوا من التجارة، وقوله :﴿ إنما ذلكم الشيطان ﴾ يعني : نعيماً يخوفكم ﴿ أولياءه ﴾ والباقي ظاهر.
واكتفوا بعلم الله ونظره وبرعايته ونصره، فانقلبوا بنعمة الشهود، وفضل الترقي في عظمة الملك الودود، لم يمسسهم في باطنهم سوء ولا نقصان، واستوجبوا من الله الرضى والرضوان، وإنما ذلكم شيطان يردهم عن مقام الشهود والعيان، فلا ينبغي لهم أن يخافوا ومطلبهم مقام الإحسان، الذي تُبْذل في طلبه الأرواح والأبدان. وبالله التوفيق.
﴿ وَلاَ يَحْزُنكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَن يَضُرُّواْ اللَّهَ شَيْئاً يُرِيدُ اللَّهُ أَلاَّ يَجْعَلَ لَهُمْ حَظّاً فِي الآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ﴾ * ﴿ إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُاْ الْكُفْرَ بِالإِيمَانِ لَن يَضُرُّواْ اللَّهَ شَيْئاً وَلهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾
قلت : حَزَنَ يحزُن كبلغ يبلُغ، وأحزن يُحْزِن، كأَكْرم يكرم، لغتان، والأولى أفصح.
يقول الحقّ جلّ جلاله : ولا يهولك شأن ﴿ الذين يسارعون في الكفر ﴾ أي : يبادرون إلى الوقوع فيه، كالمنافقين أو الكفار جميعاً، فلا تخف ضررهم ؛ ﴿ إنهم لن يضروا الله شيئاً ﴾ أي : لن يضروا أولياء الله، وإنما يرجع ضررهم إلى أنفسهم. ﴿ يريد الله ﴾ - بسبب ما أظهر فيهم من المسارعة إلى الكفر - ﴿ ألاَّ يجعل لهم حظّاً في ﴾ ثواب ﴿ الآخرة ﴾ ؛ لِمَا سبق لهم من الشقاء، حتى يموتوا على الكفر. وفي ذكر الإرادة إشعار بأن كفرهم بلغ الغاية، حتى أراد أرحم الراحمين ألاَّ يكون لهم حظ من رحمته. ﴿ ولهم ﴾ مع ذلك ﴿ عذاب عظيم ﴾.
[ النُّور : ١١ ]، وسَمِعتُ شيخنا البوزيدي رضي الله عنه يقول :" كلامُ الناس في الولي كناموسة نفخت على جبل ". أي : لا يلحقهم من ذلك إلا ما يلحق الجبل من نفخ الناموسة، يريد الله ألا يجعل لهم من نصيب القرب شيئاً، ولهم عذاب البعد والنصب، في غم الحجاب وسوء الحساب، لاسيما من تمكن من معرفتهم، ثم استبدل صحبتهم بصحبة العوام، فلا تسأل عن حرمانه التام، والعياذ بالله.
[ النُّور : ١١ ]، وسَمِعتُ شيخنا البوزيدي رضي الله عنه يقول :" كلامُ الناس في الولي كناموسة نفخت على جبل ". أي : لا يلحقهم من ذلك إلا ما يلحق الجبل من نفخ الناموسة، يريد الله ألا يجعل لهم من نصيب القرب شيئاً، ولهم عذاب البعد والنصب، في غم الحجاب وسوء الحساب، لاسيما من تمكن من معرفتهم، ثم استبدل صحبتهم بصحبة العوام، فلا تسأل عن حرمانه التام، والعياذ بالله.
﴿ وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُواْ إِثْمَاً وَلَهْمُ عَذَابٌ مُّهِينٌ ﴾
قلت : من قرأ بالتحتية، فالذين كفروا : فاعل، و﴿ أن ﴾ وما بعدها : سد مسد المفعولين، ومن قرأ بالفوقية فالذين : مفعول أول، و﴿ إنما ﴾ : سد مسد الثاني، و﴿ ما ﴾ : مصدرية، والإملال : الإمهال والتأخير. ومنه :﴿ وَاهْجُرْنِي مَلِيّاً ﴾ [ مريم : ٤٦ ].
يقول الحقّ جلّ جلاله : ولا يظنن الذين كفروا أن إمهالي لهم وإمدادهم بطول الحياة، هو خير لهم، إنما نمهلهم استدراجاً ﴿ ليزدادوا ﴾ إثماً وعقوبة، ﴿ ولهم عذاب مهين ﴾ يهينهم، ويخزيهم يوم يُعز المؤمنين.
الإشارة : إمهال العبد وإطالة عمره، إن كانت أيامه مصروفةً في الطاعة واليقظةِ، وزيادة المعرفة، فإطالتها خير، والبركة في العمر إنما هي بالتوفيق وزيادة المعرفة، وفي الحكم :" من بورك له في عمره أدرك في يسير من الزمان ما لا تدركه العبارة ولا تلحقه الإشارة ". وإن كانت أيام العمر مصروفة في الغفلة والبطالة وزيادة المعصية، فالموت خير منها. وقد سُئل - عليه الصلاة والسلام - أيُّ الناس خَيْرٌ ؟ قال :" مَنْ طَالَ عُمرُه وَحَسُنَ عَمَلُهُ، قيل : فَأَيُّ النّاسِ شر ؟ قال : مَنْ طَالَ عَمُرُهُ وَسَاءَ عَمله ". والله تعالى أعلم.
﴿ مَّا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَآ أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِن رُّسُلِهِ مَن يَشَآءُ فَآمِنُواْ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإِن تُؤْمِنُواْ وَتَتَّقُواْ فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ ﴾
قلت : ماز يميز، وميّز يُمَيِّز، بمعنى واحد، لكن في ميّز معنى التكثير.
يقول الحقّ جلّ جلاله : لعامة المؤمنين والمنافقين :﴿ ما كان الله ﴾ ليترك ﴿ المؤمنين على ما أنتم عليه ﴾ من الاختلاط، لا يعرف مخلصكم من منافقكم، بل لا بد أن يختبركم حتى يتميز المنافق من المخلص، بالوحي أو بالتكاليف الشاقة، التي لا يصبر عليها إلا المخلصون، كبذل الأموال والأنفس في سبيل الله، ليختبر به بواطنكم، ويستدل به على عقائدكم، أو بما ظهر في غزوة أحد من الأقوال والأفعال التي تدل على الإيمان أو النفاق، ﴿ وما كان الله ليُطلعكم على الغيب ﴾ حتى تعرفوا ما في القلوب من كفر أو إيمان، أو تعرفوا : هل تَغْلُبون أو تُغْلَبُون. ﴿ ولكن الله يجتبي ﴾ لرسالته ﴿ من يشاء ﴾، فيوحي إليه ويخبره ببعض المغيبات، أو ينصب له ما يدل عليها، ﴿ فآمنوا بالله ﴾ الذي اختص بعلم الغيب الحقيقي، وآمنوا برسله الذين اختارهم لأسرار الغيوب، لا يعلمون إلا ما علَّمهم.
رُوِيَ أن الكفرة قالوا : إن كان محمد صادقاً فليخبرنا : من يؤمن منا ومن يكفر ؟ فنزلت الآية. وقيل : سببها ما تقدم من قول المنافقين، ووجه المناسبة : هو ما صَدَرَ منهم يوم أُحُد من المقالات التي ميزتهم من المؤمنين. ﴿ وإن تؤمنوا ﴾ إيماناً حقيقياً ﴿ وتتقوا ﴾ النفاق والشرك ﴿ فلكم أجر عظيم ﴾ عند الله.
الإشارة : من سُنّة الله في المتوجهين إليه إذا كثروا، وظهرت فيهم دعوى القوة، أرسل الله عليهم ريح التصفية، فيثبت الصحيح، والخاوي تذروه الريح، وما كان الله ليذرهم على ما هم عليه من غير اختبار، حتى يميز الخبيث من الطيب، أي : مَنْ هِمَّتُه الله ومَنْ هِمَّتُه سواه، وما كان الله ليُطلعكم على الغيب حتى يعلموا من يثبت ممن يرجع، أو يعلموا ما يلحقهم من الجلال والجمال، وإنما ذلك خاص بالرسل عليهم السلام، وقد يُطلع على شيء من ذلك بعض خواص ورثتهم الكرام، فالواجب على المريد أن يُؤمن بالقدر المغيب، ولا يستشرف على الاطلاع عليه ؛ " استشرافُك على ما بطن فيك من العيوب، خير من استشرافك على ما حُجب عنك من الغيوب ". ﴿ وإن تؤمنوا ﴾ بمواقع القضاء والقدر، ﴿ وتتقوا ﴾ القنوط والكدر، ﴿ فلكم أجر عظيم ﴾.
﴿ وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَآ آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَّهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَّهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُواْ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَللَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ﴾
قلت : من قرأ بالخطاب ؛ فالموصول مفعول أول، و﴿ خيراً ﴾ : مفعول ثان، والضمير للفصل، والخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم، ولا بد من حذف مضاف، أي : لا تحسبن بُخلَ الذين يبخلون خيراً لهم، ومن قرأ بالغيب ؛ ف ﴿ الذين ﴾ : فاعل، والمفعول الأول محذوف، لدلالة ﴿ يبخلون ﴾ عليه، لا يحسبن البخلاء بخلهم خيراً لهم، والطوق : ما يدار بالعنق.
يقول الحقّ جلّ جلاله : ولا يظنن ﴿ الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله ﴾ من الأموال، فلم يؤدوا زكاتهم، أن بخلهم خير لهم، ﴿ بل هو شر لهم ﴾ ؛ لاستجلابه العذاب إليهم، ثم بيَّنه بقوله :﴿ سيطوقون ما بخلوا به ﴾ أي : يلزمون وبال ما بخلوا به إلزام الطوق للعنق، وقيل : يطوق به حقيقة، لقوله عليه الصلاة والسلام :" ما من رَجُل لا يؤدي زكاة ماله إلا إذا كان يوم القيامة - مُثِّلَ له شُجَاعاً أقْرع، له زَبِيبتَان، يطوِّقُه، ثم يأخُذُ بِلْهزِمتيه - أي : شدقيه - يقول : أنا كنْزكَ، أنا مَالُكَ، ثم تلا هذه الآية :﴿ ولا يحسبن. . . ﴾ ". وقيل : يجعل يوم القيامة في أعناقهم طوقاً من نار.
والمال الذي بخل به هو لله، وسيرجع لله، ﴿ ولله ميراث السماوات والأرض ﴾ فهو الذي يرث الأرض ومن عليها، فكيف يبخل العبد بمال الله، وهو يعلم أنه يرجع لله، فيموت ويتركه لمن يسعد به ! ولله درّ القائل، حيث قال :
يا جَامِعَ الْمَالِ كَمْ تُضَرُّ به | تَطْمَعُ بالله فِي الخُلُودِ معَهْ |
هَلْ حَمَل المالَ مَيِّتٌ مَعَهْ ؟ | أمَا تَارهُ لِغَيْرِه جَمَعَهْ ؟ ! |
الإشارة : لا يحسبن الذي يبخلون بما أتاهم الله من فضل الرئاسة والجاه، أن يبذلوها في طلب معرفة الله، وبذلها : إسقاطها وإبدالها بالخمول، والذل لله، وإسقاط المنزلة بين عباد الله، فلا يظنون أن بخلهم بذلك خير لهم، بل هو شرٌّ لهم، سيلزمون وبال ما بخلوا به يوم القيامة، حين يرون منازل المقربين كالشمس الضاحية في أعلى عليين، وهم مع عوام أهل اليمين، محجوبون عن شهود رب العالمين، إلا في وقت مخصوص وحين.
فمن بخل بماله حشر مع الفجار، ومن بخل بنفسه وجاهه، وبذل ماله، حشر مع الأبرار، ومن بذلهما معا حشر مع المصطفين الأخيار، ومنتهى الملك لله الواحد القهار، وهو الغني بالإطلاق. فمن وصفه بضد ذلك من أهل البعاد والشقاق.
﴿ لَّقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَآءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُواْ وَقَتْلَهُمُ الأَنبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُواْ عَذَابَ الْحَرِيقِ ﴾ * ﴿ ذالِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ ﴾ * ﴿ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلاَّ نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ قَدْ جَآءَكُمْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ﴾
قلت :﴿ وقتلهم ﴾ : معطوف على ﴿ ما ﴾ المفعولة أو النائبة عن الفاعل، على القراءتين رفعاً ونصباً.
يقول الحقّ جلّ جلاله :﴿ لقد سمع الله قول ﴾ اليهود ﴿ الذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء ﴾ وقائله : فِنْحَاصُ بن عَازُوراء، في جماعة منهم، وذلك أن النبيّ صلى الله عليه وسلم كتب مع أبي بكر إلى يهود بني قينقاع، يدعوهم إلى الإسلام، وإلى إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، وأن يقرضوا الله قرضاً حسناً، فدخل أبو بكر رضي الله عنه مِدْرَاسَهُم١، فوجد خلقاً كثيراً اجتمعوا إلى فنحاص، وهو من علمائهم - ومعه حبر آخر اسمه :( أيشع )، فقال أبو بكر لفنحاص : اتق الله وأسلم، فوالله إنك لتعلم أن محمداً رسول الله، قد جاءكم بالحق من عند الله، فأسلِمْ وصَدِّق، وأقْرِض الله قرضاً حسناً يدخلك الجنة، فقال فنحاص لعنه الله : يا أبا بكر ؛ تزعم أن ربنا يستقرضنا أموالنا، وما يستقرض إلا الفقير من الغني، ولو كان غنيّاً ما استقرض، فلطمه أبو بكر رضي الله عنه وقال : لولا ما بيننا من العهد لضربت عنقك، فشكاه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له : عليه الصلاة والسلام :- " ما حملك على ما فعلت ؟ " فقال : يا رسول الله، إن عدو الله قال قولاً عظيماً، زعم أن الله فقير، وهم أغنياء، فجَحَد ما قال، فنزلت الآية ؛ تكذيباً له.
والمعنى : أن الله سمع مقالتهم الشنيعة، وأنه سيعاقبهم عليها، ولذلك قال :﴿ سنكتب ما قالوا ﴾ أي : سنسطرها عليهم في صحائف أعمالهم، أو سنحفظها في علمنا ولا نهملها، لأنها كلمة عظيمة، فيها الكفر بالله والاستهزاء بكتاب الله وتكذيب لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ولذلك نظمت مع قتلهم الأنبياء، حيث عطفه عليه، وفيه تنبيه على أن قولهم الشنيع ليس هو أول جريمة ارتكبوها، وأن من اجترأ على قتل الأنبياء لم يستبعد أمثال هذا القول منه.
ثم ذكر عقابهم، فقال :﴿ ونقول ﴾ لهم يوم القيامة :﴿ ذوقوا عذاب الحريق ﴾ أي : المُحْرِق، والذوق : يطلق على إدراك المحسوسات كالمطعومات، والمعنويات كما هنا، وذكره هنا ؛ لأن عذابهم مرتب على قولهم الناشئ عن البخل، والتهالك على المال، وغالب حاجة الإنسان إليه، لتحصيل المطاعم، ومعظم بخله للخوف من فقده.
﴿ ذلك ﴾ العذاب بسب ما ﴿ قدمت أيديكم ﴾ من قتل الأنبياء، وقولكم هذا، وسائر معاصيكم، وعبّر بالأيدي ؛ لأن غالب الأعمال بهن، وبأن ﴿ الله ليس بظلام للعبيد ﴾ بل يجازي كلَّ عبد بما كسب من خير أو شر، فأنتم ظلمتم أنفسكم.
ثم إن قوماً منهم، وهو كعب بن الأشرف ومالك بن الصيف وحُيَيْ بن أخطب وفنْحَاص ووهب بن يهوذا، أتوا النبيّ صلى الله عليه وسلم فقالوا : يا محمد ؛ تزعم أن الله بعثك إلينا رسولاً، وإن الله قد عهد إلينا في التوراة، ألاَّ نؤمن لرسول يزعم أنه نبيّ حتى يأتينا بقربان تأكله النار، فإن جئتنا به صدقناك، فأنزل الله فيهم تكذيباً لهم :﴿ الذين قالوا إن الله عهد إلينا ﴾ في التوراة وأوصانا ﴿ ألا نؤمن لرسول حتى يأتينا بقربان ﴾ ؛ كصدقة أو نسيكة، ﴿ تأكله النار ﴾ كما كانت لأنبياء بني إسرائيل.
وذلك أن القرابين والغنائم كانت حراماً على بني إسرائيل، وكانوا إذا قرَّبوا قُرباناً، أو غنموا غنيمة، فتقبل منهم، ولم يُغل من الغنيمة، نزلت نار بيضاء من السماء، فتأكل ذلك القربان أو الغنيمة، فيكون ذلك علامة على القبول، وإذا لم يتقبل بقي على حاله، وهذا من تعنتهم وأباطيلهم، لأن أكل القربان لم يُوجبْ الإيمانَ إلا لكونه معجزة، وسائر المعجزات في ذلك سواء، فلذلك ردَّ عليهم بقوله :﴿ قل قد جاءكم رسل من قبلي بالبينات ﴾ أي : المعجزات الواضحات، ﴿ وبالذي قلتم ﴾ من أكل النار القربان، فكذبتموهم وقتلتموهم كزكريا ويحيى وغيرهما، ﴿ فلم قتلتموهم إن كنتم صادقين ﴾ في دعواكم أنه ما منعكم من الإيمان إلا عدم ظهور هذه المعجزة، فما لكم لم تؤمنوا بمن جاء بها حتى قتلتموه ؟ والله تعالى أعلم.
﴿ فَإِن كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ جَآءُوا بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ ﴾
قلت :﴿ الزبر ﴾ : جمع زبور، بمعنى مزبور، أي : مكتوب، من زبرت، أي : كتبت، وكل كتاب فهو زبور، وقال امرؤ القيس١ :
لِمَنْ طَلَلٌ أبْصَرْتُهُ فَشَجَانِي | كَخَطِّ زَبَورٍ في عَسِيبٍ يَمَانِ |
الإشارة : كما كُذبت الأنبياء كُذبت الأولياء، بعد أن ظهر عليها من العلوم الباهرة والحكم الظاهرة والكرامات الواضحة، وأعظمها المعرفة، وهذه سنة ماضية، ولن تجد لسنة الله تبديلاً.
﴿ كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَما الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ ﴾
قلت :﴿ زحزح ﴾ : بُوعِدَ، والزحزحة : الجذب والإخراج بعجلة.
يقول الحقّ جلّ جلاله : كل نفس منفوسة لا بد أن تذوق حرارة الموت، وتسقى كأس المنون، وإنما توفون جزاء أعمالكم يوم القيامة، يوم قيامكم من القبور، خيراً كان أو شرّاً.
قال البيضاوي : ولفظ التوفية يشعر بأنه قد يكون قبلها بعض الأجور، أي : توفية بعض الأجور، ويؤديه قوله صلى الله عليه وسلم :" القَبْرُ رَوْضَةٌ مِنْ رِيَاضِ الجنةِ، أو حُفْرةٌ مِنْ حُفَرِ النارِ "، ﴿ فمن زحزح ﴾ أي : بُوعد ﴿ عن النار وأدخل الجنة فقد فاز ﴾ بالنجاة ونيل المراد، وعنه صلى الله عليه وسلم :" من أحبَ أن يُزحزَحَ عن النارِ ويُدْخَل الجَنَةَ ؛ فَلتُدرِكْهُ مَنِيَّتُهُ وهو يُؤمنُ باللهِ واليَومِ الآخِرِ، ويَأتِي، إلى النَاسِ ما يُحِبُّ أن يُؤْتى إِليْه ".
﴿ وما الحياة الدنيا ﴾ وزخارفها ولذاتها ﴿ إلا متاع الغرور ﴾ ؛ فإن الغار - وهو المُدلِّس - يظهر ما هو حسن من متاعه، ويخفي ما هو معيب، كذلك الدنيا تبتهج لطالبها، وتُظهر له حلاوتها وشهواتها، حتى تشغله عن ذكر الله وعن طاعته، فيؤثرها على آخرته، ثم يتركها أحوج ما يكون إليها، فينقلبُ نادماً متحسراً، وفي ذلك يقول الشاعر :
ومَنْ يحمد الدنيا لشيء يسره | فسوف للعُسْرِ عن قَرِيبٍ يَلُومُها |
إذا أدبرت كانتْ على المرء حسرةً | وإن أقبلتْ كانت كثيراً هُمُومُها |
﴿ لَتُبْلَوُنَّ فِيا أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ أَذًى كَثِيراً وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ ذالِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ ﴾
قلت : أصل ﴿ تبلونَّ ﴾ : تُبلوون كتُنصرون، ثم قلبت الواو ألفاً، ثم حذفت لالتقاء الساكنين، فصار تبلْونن، ثم أكد بالنون، فاجتمع ثلاث نونات، حذفت نون الرفع فالتقى ساكنان ؛ الواو ونون التوكيد، فحركت الواو بالضمة المجانسة، وهي النائبة عن الفاعل.
يقول الحقّ جلّ جلاله : والله ﴿ لتبلون ﴾ أي : لتختبرن ﴿ في أموالكم ﴾ ؛ بما يصيبها من الآفات، وما كُلفتم به من النفقات، ﴿ وأنفسكم ﴾ ؛ بالقتل والجراحات، والأسر والأمراض وسائر العاهات. ﴿ ولتسمعُن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ﴾ ؛ اليهود ﴿ ومن الذين أشركوا ﴾، كفار مكة، ﴿ أذى كثيراً ﴾ كقولهم : إن الله فقير، وهجاء الرسول - عليه الصلاة والسلام -، والطعن في الدين، وإغراء الكفرة على المسلمين، أو غير ذلك من الأذى، أعْلَمهم بذلك قبل وقوعه، ليتأهبوا للصبر والاحتمال، حتى لا يروعَهم نزولها حين الإنزال. ﴿ وتتقوا ﴾ الله فيما أمركم به، ﴿ فإن ذلك من عزم الأمور ﴾ أي : من معزومات الأمور التي يجب العزم عليها، أو مما عزم الله على فعلها، وأوْجَبه على عباده. والله تعالى أعلم.
الإشارة : كل من دخل في طريق الخصوص بالصدق والعزم على الوصول، لا بد أن يُبتلى ويختبر في ماله ونفسه، ليظهر صدقه في طلبه، ولا بد أن يسمع من الناس أذى كثيراً، فإن صبر ظفر، وإن رجع خسر، وهذه سنة الله في عباده :﴿ وَلَنَبْلَوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَاْ أَخْبَارَكُمْ ﴾ [ محَمَّد : ٣١ ]، قال الورتجبي :﴿ لتبلون في أموالكم ﴾ ؛ بجمعها ومنعها والتقصير في حقوق الله فيها، ﴿ وأنفسكم ﴾ ؛ باتباع شهواتها، وترك رياضتها، وملازمتها أسباب الدنيا، وخلوها من النظر في أمر الميعاد، وقيل :﴿ لتبلون في أموالكم ﴾ ؛ بالاشتغال بها أخذاً وإعطاء. ه.
﴿ وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَآءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْاْ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ ﴾
قلت : الضمير في ﴿ نبذوه ﴾ : يعود على الكتاب، أو الميثاق.
يقول الحقّ جلّ جلاله :﴿ و ﴾ اذكر ﴿ إذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب ﴾ وهم اليهود، أخذ عليهم العهد ليبينن للناس ما في كتابهم من صفة النبيّ صلى الله عليه وسلم ولا يكتمونه، فنبذوا ذلك العهد أو الكتاب ﴿ وراء ظهورهم ﴾ ؛ فكتموا صفته - عليه الصلاة والسلام - خوفاً من زوال رئاستهم، ﴿ واشتروا ﴾ بذلك العهد، أي : استبدلوا به ﴿ ثمناً قليلاً ﴾ من حطام الدنيا، وما كانوا يأخذونه من سفلتهم، ﴿ فبئس ما يشترون ﴾، وهي تجر ذيلها على من كتم علماً سئل عنه، قال عليه الصلاة والسلام :" مَنْ كَتَمَ عِلْماً عَنْ أَهْله ألجِمَ بلِجَامٍ مِنْ نَارٍ ". وعن عليّ رضي الله عنه :( ما أخذ الله على أهل الجهل أن يتعلموا حتى أخذ على أهل العلم أن يُعلِّموا ). وقال محمد بن كعب :( لا يحل للعالم أن يسكت على علمه، ولا الجاهل أن يسكت على جهله ).
الإشارة : أهل العلم إذا تحققوا بوجود الخصوصية عند ولي، وكتموا ذلك حسداً وخوفاً على زوال رئاستهم، دخلوا في وعيد الآية ؛ لأنَّ العوام تابعون لهم، فإذا كتموا أو أنكروا تبعُوهم على ذلك، فيحملون أثقالهم وأثقالاً مع أثقالهم، والله تعالى أعلم.
﴿ لاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَآ أَتَوْاْ وَّيُحِبُّونَ أَن يُحْمَدُواْ بِمَا لَمْ يَفْعَلُواْ فَلاَ تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِّنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ * ﴿ وَللَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾
قلت : من قرأ بالخطاب، فالذين : مفعول أول، والثاني : محذوف، أي : بمفازة من العذاب، أو هو المذكور، و﴿ تحسبنهم ﴾ : تأكيد للفعل الأول، ومن قرأ بالغيب، فالذين : فاعل، والمفعولان : محذوفان، دلَّ عليهما ذكرُهما مع الثاني، أي : لا يحسبوا أنفسهم فائزة. ﴿ فلا تحسبنهم ﴾ : من قرأ بفتح التاء ؛ فالخطاب للرسول - عليه الصلاة والسلام-، والفعل مبني، ومن قرأ بالياء ؛ فالخطاب للذين يفرحون، والفعل معرب، أي : لا يحسبوا أنفسهم بمفازة من العذاب.
يقول الحقّ جلّ جلاله :﴿ لا تحسبن ﴾ يا محمد ﴿ الذين يفرحون بما أتَوا ﴾ أي : بما فعلوا من التدليس وكتمان الحق، ﴿ ويُحبون أن يُحمدوا بما لم يفعلوا ﴾ من الوفاء بالعهد، وإظهار الحق، والإخبار بالصدق، أنهم فائزون من العذاب، فلا تظنهم ﴿ بمفازة من العذاب ﴾، بل ﴿ لهم عذاب أليم ﴾ موجع.
وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه :( أنها نزلت في المنافقين، كانوا إذا خرج النبيّ صلى الله عليه وسلم تخلَّفوا١، وإذا قدم اعتذروا، فإذا قَبِل عذرهم فرحوا، وأحبُّوا أن يُحمدوا بما لم يفعلوا ). وما تقدم في التوطئة هو عن ابن عباس. وقال ابن حجر : ولا مانع من أن يتناول الآية كلَّ من أتى بحسنة وفَرِحَ بها فَرَحَ إعجاب، وأحب أن يحمده الناس ويثنوا عليه بما ليس فيه. والله تعالى أعلم.
﴿ إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ الْلَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأُوْلِي الأَلْبَابِ ﴾
يقول الحقّ جلّ جلاله :﴿ إن في خلق السماوات والأرض ﴾ وإظهارهما للعيان، لَدلائل واضحة على وجود الصانع، وكمال قدرته، وعلمه، لذوي العقول الكاملة الصافية، الخالصة من شوائب الحس والوهم. قال البيضاوي : ولعل الاقتصار على هذه الثلاثة في هذه الآية ؛ لأن مناط الاستدلال هو التغير، وهذه متعرضة لجملة أنواعه، فإنه - أي التغير - إما أن يكون في ذات الشيء، كتغير الليل والنهار، أو جزئه، كتغير الناميات بتبدل صورها، أو لخارج عنها، كتغير الأفلاك بتبدل أوضاعها، وعن النبيّ صلى الله عليه وسلم :" وَيْلٌ لمن قَرَأَهَا ولَمْ يَتَفَكَرْ فِيْهَا ".
الإشارة : الخلق هو الاختراع والإظهار، فإظهار هذه التجليات الأربعة يدل على الحقّ - تعالى - تجلى لعباده بين الضدين، بين النور والظلمة، بين القدرة والحكمة، بين الحس والمعنى، وهكذا خلق من كل زوجين اثنين، ليقع الفرار من إثنينية حسهما إلى فردية معناهما، ففرّوا إلى الله، فالسماوات والنهار نورانيان، والأرض والليل ظلمانيان، ففي ذلك دلالة على وحدة المعاني، فلا تقف مع الأواني، وخُض بحر المعاني، لعلك تراني. وبالله التوفيق.
﴿ الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَآ مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ﴾ * ﴿ رَبَّنَآ إِنَّكَ مَن تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ ﴾ * ﴿ رَّبَّنَآ إِنَّنَآ سَمِعْنَا مُنَادِياً يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُواْ بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الأَبْرَارِ ﴾ * ﴿ رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدتَّنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلاَ تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لاَ تُخْلِفُ الْمِيعَادَ ﴾
يقول الحقّ جلّ جلاله : في وصف أولي الألباب : هم ﴿ الذين يذكرون الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم ﴾، أي : يذكرونه على الدوام، قائمين وقاعدين ومضطجعين، وعنه - صلى الله عليه وسلم - :" منْ أرادَ أن يَرْتَع في رِيَاضِ الجَنة فليُكثْر ذِكرَ الله ". وقيل : يُصلّون على الهيئات الثلاث، حسب الطاقة لقوله عليه الصلاة والسلام لعمران بن حصين، وكان مريضاً :" صَلِّ قائِماً، فإِنْ لَمْ تَسْتَطْع فقاعِداً، فإنْ لَمْ تَسْتَطعْ فقاعِداً، فإنْ لَمْ تَستطِعْ فعلى جَنْبِكَ وتُومئ إيماء ".
﴿ ويتفكرون في خلق السماوات والأرض ﴾ استدلالاً واعتباراً، وهو أفضل العبادات قال صلى الله عليه وسلم :" لا عبادة كالتفكر " ؛ لأن المخصوص بالقلب، والمقصود من الخلق، وعنه صلى الله عليه وسلم :" بينَمَا رجلٌ مُسْتَلقٍ على فِرَاشهِ فَنَظَر إلى السماءِ والنُجومِ، فَقَال : أشْهدُ أن لَكِ خَالِقًَ، اللُهمَّ اغفرْ لي، فَنَظَر اللّهُ إِليه فَغَفر لَهْ ". وهذا دليل واضح على شرف علم الأصول وفضل أهله. قاله البيضاوي. وسيأتي مزيد من كلام على التفكر في الإشارة إن شاء الله.
فلما تفكروا في عجائب المصنوعات، قالوا :﴿ ربنا ما خلقت هذا باطلاً ﴾ أي : عبثاً من غير حكمة، بل خلقته لحكمة بديعة، من جملتها : أن يكون مبدأ لوجود الإنسان، وسبباً لمعاشه، ودليلاً يدله على معرفتك ويحثه على طاعتك، لينال الحياة الأبدية، والسعادة السرمدية في جوارك، ﴿ سبحانك ﴾ تنزيهاً لك من العبث وخلق الباطل، ﴿ فَقِنَا عذابَ النار ﴾ التي استحقها من أعرض عن النظر والاعتبار، وأخلّ بما يقتضيه من أحكام الواحد القهار.
مَا إنْ ذَكَرْتُكَ إلاَّ هَمَّ يَلْعَنُنِي | سِرِّي ورُوحِي وقَلْبي عِنْدَ ذِكرَاكَ |
أمَا تَرَى الحَقَّ قَدْ لاحَتْ شَوَاهِدُهُ | وَوَاصَلَ الكُلَّ مِنْ مَعْنَاهُ مَعْنَاكَ |
قال في الإحياء في كتاب الأوراد : الموحد المستغرق الهم بالواحد الصمد، الذي أصبح وهمومه هم واحد، فلا يحب إلا الله، ولا يخاف إلا منه، ولا يتوقع الرزق من غيره، ولا ينظر في شيء إلا يرى الله فيه، فمن ارتفعت رتبته إلى هذه الدرجة، لم يفتقر إلى ترتيب الأوراد واختلافها، بل ورده بعد المكتوبات ورد واحد، وهو حضور القلب مع الله في كل حال، فلا يخطر بقلبه أمر، ولا يقرع سمعه قارع، ولا يلوح لنظره لائح، إلاَّ كان له فيه عبرة وفكرة ومزيد، فلا محرك ولا مسكن إلا الله. فهؤلاء جميع أحوالهم تصلح أن تكون سبباً لازديادهم، فلا تتميز عندهم عبادة عن عبادة، وهم الذين فرّوا إلى الله كما قال تعالى :﴿ ففرّوا إلى الله ﴾، وتحقق فيهم قوله :﴿ إني ذاهب إلى ربي ﴾، وهذه الدرجة منتهى درجة الصديقين، ولا ينبغي أن يغتر المريد بما يسمعه من ذلك، فيدعيه لنفسه، ويفتر عن وظائف عباداته، فذلك علامته ألا يحس في قلبه وسواساً، ولا يخطر بقلبه معصية، لا يزعجه هواجم الأحوال، ولا يستفزه عظائم الأشغال، وأنى تكون هذه المرتبة !. هـ.
قلت : قوله :[ لا يخطر بقلبه معصية ] غير لازم ؛ لأن قلب العارف مرسى للتجليات النورانية والظلمانية لكنها تقل ولا تسكن.
وقال في موضع آخر : وأما عبادة ذوي الألباب فلا تجاوز ذكر الله تعالى والفكر فيه ؛ حُبّاً لجلاله وجماله، وسار الأعمال تكون مؤكدات. قال : والعامل لأجر الجنة ؛ درجته درجة البُلْه، وإنه لينالها بعمله ؛ إذ أكثر أهل الجنة البله. هـ. وقال في كتاب كيمياء السعادة : وقد غلط من ظن أن وظائف الضعفاء كوظائف الأقوياء، حتى قال بعض مشايخ الصوفية : من رآني في الابتداء، قال : صار صديقاً، ومن رآني في الانتهاء، قال : صار زنديقاً، يعني أن الابتداء يقتضي المجاهدة الظاهرة للأعين بكثرة العبادات، وفي الانتهاء يرجع العمل إلى الباطن، فيبقى القلب على الدوام في عين الشهود والحضور، وتفتر ظواهر الأعضاء، فيظن أن ذلك تهاون بالعبادة، وهيهات هيهات ! !، فذلك استغراق لمخ العبادات ولبابها وغايتها، ولكن أعين الخفافيش تكل عن درك نور الشمس.
قال شيخ شيوخنا - سيدي عبد الرحمان العارف - بعد نقل كلام القشيري في هذا المعنى : وما أشار إليه ظاهر في أن أهل القلوب لا يتعاطون كل طاعة. وإنما يتعاطون من الطاعات ما يجمعهم ولا يفرقهم. ولذلك قال الجنيد : أحب للصوفي ألا يقرأ ولا يكتب ؛ لأنه أجمع لهمه، قال : وأحب للمريد ألا يشتغل بالتكسب وطلب الحديث ؛ لئلا يتغير حاله. هـ. قلت : ومن رزقه الله شيخ التربية فما عيَّنه له فهو عين ذكره، يسير به كيفما كان.
هذا ما يتعلق بحال الذكر الذي قدَّمه الله تعالى، وأما التفكر فهو أعظم العبادات وأفضل القربات، هو عبادة العارفين ومنتهى المقربين. وفي الخبر :" تفكرُ سَاعةٍ أفضَل مِنْ عَبَادَةِ سبعينَ سَنة ".
وقال الجنيد رضي الله عنه : أشرف المجالس وأعلاها : الجلوس مع الفكرة في ميدان التوحيد، والتنسم بنسيم المعرفة، والشرب بكأس المحبة من بحر الوداد، والنظر لحسن الظن بالله تعالى. ثم قال : يا لها من مجالس، ما أجلها، ومن شرابٍ ما ألذه، طوبى لمن رزقه. وقال القشيري رضي الله عنه : التفكر نعت كل طالب، وثمرته : الوصول بشرط العلم، فإذا سلم الفكر عن الشوائب ورد صاحبهُ على مناهل التحقيق. هـ.
وسئلت زوجة أبي ذر عن عبادة زوجها، فقالت : كان نهاره أجمع في ناحية يتفكر. وكذلك زوجة أبي بكر قالت : كان ليله أجمع في ناحية يتفكر. وكذا زوجة أبي الدرداء، وكان سيدنا عيسى عليه السلام يقول : طوبى لمن كان قيله ذكراً وصمته تفكراً، ونظره عبرة. وقال الحسن رضي الله عنه : من لم يكن كلامه حكمة فهو لغو، ومن لم يكن سكوته تفكراً فهو سهو، ومن لم يكن نظره اعتباراً فهو لهو. هـ. وقال في الحكم :" ما نفع القلب شيء مثل عزلة يدخل بها ميدان فكرة ". وقال أيضاً :" الفكرة سراج القلب، فإذا ذهبت فلا إضاءة له ". وقال أيضاً :" الفكرة فكرتان ؛ فكرة تصديق وإيمان، وفكرة شهود وعيان، فالأولى لأرباب الاعتبار، والثانية لأرباب الشهود والاستبصار ".
وفكرة الشهود والعيان هي عبادة العارفين، ولا يُحصر ثوابها في ستين ولا في سبعين، بل وقت منها يعدل ألف سنة، كما قال الشاعر :
كَلُّ وَقْتٍ مِنْ حَبِيبِي | قَدْرُهُ كَأَلفِ حَجّه |
هُم الرِّجَالُ وغَبْنٌ أنْ يُقَالَ لِمَنْ | لَمْ يَتَّصِفُ بمَعَاني وَصْفِهِمْ رَجُلُ |
وقوله :﴿ ربنا ما خلقت هذا باطلاً ﴾ بل هو ثابت بإثباتك، مَمْحُوٍّ بأحدية ذاتك، فالباطل محال، وكل ما سواه باطل، كما قرره الرسول - عليه الصلاة والسلام. وقوله :﴿ ربنا إننا سمعنا منادياً ينادي للإيمان أن آمنوا بربكم فآمنا ﴾ أي : كنا في الرعيل الأول من أهل الإيمان، فجعل لنا سبيلاً إلى مقام الإحسان، ﴿ ربنا وآتنا ما وعدتنا ﴾ وهو الوصول إلى العيان. وبالله التوفيق.
مَا إنْ ذَكَرْتُكَ إلاَّ هَمَّ يَلْعَنُنِي | سِرِّي ورُوحِي وقَلْبي عِنْدَ ذِكرَاكَ |
أمَا تَرَى الحَقَّ قَدْ لاحَتْ شَوَاهِدُهُ | وَوَاصَلَ الكُلَّ مِنْ مَعْنَاهُ مَعْنَاكَ |
قال في الإحياء في كتاب الأوراد : الموحد المستغرق الهم بالواحد الصمد، الذي أصبح وهمومه هم واحد، فلا يحب إلا الله، ولا يخاف إلا منه، ولا يتوقع الرزق من غيره، ولا ينظر في شيء إلا يرى الله فيه، فمن ارتفعت رتبته إلى هذه الدرجة، لم يفتقر إلى ترتيب الأوراد واختلافها، بل ورده بعد المكتوبات ورد واحد، وهو حضور القلب مع الله في كل حال، فلا يخطر بقلبه أمر، ولا يقرع سمعه قارع، ولا يلوح لنظره لائح، إلاَّ كان له فيه عبرة وفكرة ومزيد، فلا محرك ولا مسكن إلا الله. فهؤلاء جميع أحوالهم تصلح أن تكون سبباً لازديادهم، فلا تتميز عندهم عبادة عن عبادة، وهم الذين فرّوا إلى الله كما قال تعالى :﴿ ففرّوا إلى الله ﴾، وتحقق فيهم قوله :﴿ إني ذاهب إلى ربي ﴾، وهذه الدرجة منتهى درجة الصديقين، ولا ينبغي أن يغتر المريد بما يسمعه من ذلك، فيدعيه لنفسه، ويفتر عن وظائف عباداته، فذلك علامته ألا يحس في قلبه وسواساً، ولا يخطر بقلبه معصية، لا يزعجه هواجم الأحوال، ولا يستفزه عظائم الأشغال، وأنى تكون هذه المرتبة !. هـ.
قلت : قوله :[ لا يخطر بقلبه معصية ] غير لازم ؛ لأن قلب العارف مرسى للتجليات النورانية والظلمانية لكنها تقل ولا تسكن.
وقال في موضع آخر : وأما عبادة ذوي الألباب فلا تجاوز ذكر الله تعالى والفكر فيه ؛ حُبّاً لجلاله وجماله، وسار الأعمال تكون مؤكدات. قال : والعامل لأجر الجنة ؛ درجته درجة البُلْه، وإنه لينالها بعمله ؛ إذ أكثر أهل الجنة البله. هـ. وقال في كتاب كيمياء السعادة : وقد غلط من ظن أن وظائف الضعفاء كوظائف الأقوياء، حتى قال بعض مشايخ الصوفية : من رآني في الابتداء، قال : صار صديقاً، ومن رآني في الانتهاء، قال : صار زنديقاً، يعني أن الابتداء يقتضي المجاهدة الظاهرة للأعين بكثرة العبادات، وفي الانتهاء يرجع العمل إلى الباطن، فيبقى القلب على الدوام في عين الشهود والحضور، وتفتر ظواهر الأعضاء، فيظن أن ذلك تهاون بالعبادة، وهيهات هيهات ! !، فذلك استغراق لمخ العبادات ولبابها وغايتها، ولكن أعين الخفافيش تكل عن درك نور الشمس.
قال شيخ شيوخنا - سيدي عبد الرحمان العارف - بعد نقل كلام القشيري في هذا المعنى : وما أشار إليه ظاهر في أن أهل القلوب لا يتعاطون كل طاعة. وإنما يتعاطون من الطاعات ما يجمعهم ولا يفرقهم. ولذلك قال الجنيد : أحب للصوفي ألا يقرأ ولا يكتب ؛ لأنه أجمع لهمه، قال : وأحب للمريد ألا يشتغل بالتكسب وطلب الحديث ؛ لئلا يتغير حاله. هـ. قلت : ومن رزقه الله شيخ التربية فما عيَّنه له فهو عين ذكره، يسير به كيفما كان.
هذا ما يتعلق بحال الذكر الذي قدَّمه الله تعالى، وأما التفكر فهو أعظم العبادات وأفضل القربات، هو عبادة العارفين ومنتهى المقربين. وفي الخبر :" تفكرُ سَاعةٍ أفضَل مِنْ عَبَادَةِ سبعينَ سَنة ".
وقال الجنيد رضي الله عنه : أشرف المجالس وأعلاها : الجلوس مع الفكرة في ميدان التوحيد، والتنسم بنسيم المعرفة، والشرب بكأس المحبة من بحر الوداد، والنظر لحسن الظن بالله تعالى. ثم قال : يا لها من مجالس، ما أجلها، ومن شرابٍ ما ألذه، طوبى لمن رزقه. وقال القشيري رضي الله عنه : التفكر نعت كل طالب، وثمرته : الوصول بشرط العلم، فإذا سلم الفكر عن الشوائب ورد صاحبهُ على مناهل التحقيق. هـ.
وسئلت زوجة أبي ذر عن عبادة زوجها، فقالت : كان نهاره أجمع في ناحية يتفكر. وكذلك زوجة أبي بكر قالت : كان ليله أجمع في ناحية يتفكر. وكذا زوجة أبي الدرداء، وكان سيدنا عيسى عليه السلام يقول : طوبى لمن كان قيله ذكراً وصمته تفكراً، ونظره عبرة. وقال الحسن رضي الله عنه : من لم يكن كلامه حكمة فهو لغو، ومن لم يكن سكوته تفكراً فهو سهو، ومن لم يكن نظره اعتباراً فهو لهو. هـ. وقال في الحكم :" ما نفع القلب شيء مثل عزلة يدخل بها ميدان فكرة ". وقال أيضاً :" الفكرة سراج القلب، فإذا ذهبت فلا إضاءة له ". وقال أيضاً :" الفكرة فكرتان ؛ فكرة تصديق وإيمان، وفكرة شهود وعيان، فالأولى لأرباب الاعتبار، والثانية لأرباب الشهود والاستبصار ".
وفكرة الشهود والعيان هي عبادة العارفين، ولا يُحصر ثوابها في ستين ولا في سبعين، بل وقت منها يعدل ألف سنة، كما قال الشاعر :
كَلُّ وَقْتٍ مِنْ حَبِيبِي | قَدْرُهُ كَأَلفِ حَجّه |
هُم الرِّجَالُ وغَبْنٌ أنْ يُقَالَ لِمَنْ | لَمْ يَتَّصِفُ بمَعَاني وَصْفِهِمْ رَجُلُ |
وقوله :﴿ ربنا ما خلقت هذا باطلاً ﴾ بل هو ثابت بإثباتك، مَمْحُوٍّ بأحدية ذاتك، فالباطل محال، وكل ما سواه باطل، كما قرره الرسول - عليه الصلاة والسلام. وقوله :﴿ ربنا إننا سمعنا منادياً ينادي للإيمان أن آمنوا بربكم فآمنا ﴾ أي : كنا في الرعيل الأول من أهل الإيمان، فجعل لنا سبيلاً إلى مقام الإحسان، ﴿ ربنا وآتنا ما وعدتنا ﴾ وهو الوصول إلى العيان. وبالله التوفيق.
مَا إنْ ذَكَرْتُكَ إلاَّ هَمَّ يَلْعَنُنِي | سِرِّي ورُوحِي وقَلْبي عِنْدَ ذِكرَاكَ |
أمَا تَرَى الحَقَّ قَدْ لاحَتْ شَوَاهِدُهُ | وَوَاصَلَ الكُلَّ مِنْ مَعْنَاهُ مَعْنَاكَ |
قال في الإحياء في كتاب الأوراد : الموحد المستغرق الهم بالواحد الصمد، الذي أصبح وهمومه هم واحد، فلا يحب إلا الله، ولا يخاف إلا منه، ولا يتوقع الرزق من غيره، ولا ينظر في شيء إلا يرى الله فيه، فمن ارتفعت رتبته إلى هذه الدرجة، لم يفتقر إلى ترتيب الأوراد واختلافها، بل ورده بعد المكتوبات ورد واحد، وهو حضور القلب مع الله في كل حال، فلا يخطر بقلبه أمر، ولا يقرع سمعه قارع، ولا يلوح لنظره لائح، إلاَّ كان له فيه عبرة وفكرة ومزيد، فلا محرك ولا مسكن إلا الله. فهؤلاء جميع أحوالهم تصلح أن تكون سبباً لازديادهم، فلا تتميز عندهم عبادة عن عبادة، وهم الذين فرّوا إلى الله كما قال تعالى :﴿ ففرّوا إلى الله ﴾، وتحقق فيهم قوله :﴿ إني ذاهب إلى ربي ﴾، وهذه الدرجة منتهى درجة الصديقين، ولا ينبغي أن يغتر المريد بما يسمعه من ذلك، فيدعيه لنفسه، ويفتر عن وظائف عباداته، فذلك علامته ألا يحس في قلبه وسواساً، ولا يخطر بقلبه معصية، لا يزعجه هواجم الأحوال، ولا يستفزه عظائم الأشغال، وأنى تكون هذه المرتبة !. هـ.
قلت : قوله :[ لا يخطر بقلبه معصية ] غير لازم ؛ لأن قلب العارف مرسى للتجليات النورانية والظلمانية لكنها تقل ولا تسكن.
وقال في موضع آخر : وأما عبادة ذوي الألباب فلا تجاوز ذكر الله تعالى والفكر فيه ؛ حُبّاً لجلاله وجماله، وسار الأعمال تكون مؤكدات. قال : والعامل لأجر الجنة ؛ درجته درجة البُلْه، وإنه لينالها بعمله ؛ إذ أكثر أهل الجنة البله. هـ. وقال في كتاب كيمياء السعادة : وقد غلط من ظن أن وظائف الضعفاء كوظائف الأقوياء، حتى قال بعض مشايخ الصوفية : من رآني في الابتداء، قال : صار صديقاً، ومن رآني في الانتهاء، قال : صار زنديقاً، يعني أن الابتداء يقتضي المجاهدة الظاهرة للأعين بكثرة العبادات، وفي الانتهاء يرجع العمل إلى الباطن، فيبقى القلب على الدوام في عين الشهود والحضور، وتفتر ظواهر الأعضاء، فيظن أن ذلك تهاون بالعبادة، وهيهات هيهات ! !، فذلك استغراق لمخ العبادات ولبابها وغايتها، ولكن أعين الخفافيش تكل عن درك نور الشمس.
قال شيخ شيوخنا - سيدي عبد الرحمان العارف - بعد نقل كلام القشيري في هذا المعنى : وما أشار إليه ظاهر في أن أهل القلوب لا يتعاطون كل طاعة. وإنما يتعاطون من الطاعات ما يجمعهم ولا يفرقهم. ولذلك قال الجنيد : أحب للصوفي ألا يقرأ ولا يكتب ؛ لأنه أجمع لهمه، قال : وأحب للمريد ألا يشتغل بالتكسب وطلب الحديث ؛ لئلا يتغير حاله. هـ. قلت : ومن رزقه الله شيخ التربية فما عيَّنه له فهو عين ذكره، يسير به كيفما كان.
هذا ما يتعلق بحال الذكر الذي قدَّمه الله تعالى، وأما التفكر فهو أعظم العبادات وأفضل القربات، هو عبادة العارفين ومنتهى المقربين. وفي الخبر :" تفكرُ سَاعةٍ أفضَل مِنْ عَبَادَةِ سبعينَ سَنة ".
وقال الجنيد رضي الله عنه : أشرف المجالس وأعلاها : الجلوس مع الفكرة في ميدان التوحيد، والتنسم بنسيم المعرفة، والشرب بكأس المحبة من بحر الوداد، والنظر لحسن الظن بالله تعالى. ثم قال : يا لها من مجالس، ما أجلها، ومن شرابٍ ما ألذه، طوبى لمن رزقه. وقال القشيري رضي الله عنه : التفكر نعت كل طالب، وثمرته : الوصول بشرط العلم، فإذا سلم الفكر عن الشوائب ورد صاحبهُ على مناهل التحقيق. هـ.
وسئلت زوجة أبي ذر عن عبادة زوجها، فقالت : كان نهاره أجمع في ناحية يتفكر. وكذلك زوجة أبي بكر قالت : كان ليله أجمع في ناحية يتفكر. وكذا زوجة أبي الدرداء، وكان سيدنا عيسى عليه السلام يقول : طوبى لمن كان قيله ذكراً وصمته تفكراً، ونظره عبرة. وقال الحسن رضي الله عنه : من لم يكن كلامه حكمة فهو لغو، ومن لم يكن سكوته تفكراً فهو سهو، ومن لم يكن نظره اعتباراً فهو لهو. هـ. وقال في الحكم :" ما نفع القلب شيء مثل عزلة يدخل بها ميدان فكرة ". وقال أيضاً :" الفكرة سراج القلب، فإذا ذهبت فلا إضاءة له ". وقال أيضاً :" الفكرة فكرتان ؛ فكرة تصديق وإيمان، وفكرة شهود وعيان، فالأولى لأرباب الاعتبار، والثانية لأرباب الشهود والاستبصار ".
وفكرة الشهود والعيان هي عبادة العارفين، ولا يُحصر ثوابها في ستين ولا في سبعين، بل وقت منها يعدل ألف سنة، كما قال الشاعر :
كَلُّ وَقْتٍ مِنْ حَبِيبِي | قَدْرُهُ كَأَلفِ حَجّه |
هُم الرِّجَالُ وغَبْنٌ أنْ يُقَالَ لِمَنْ | لَمْ يَتَّصِفُ بمَعَاني وَصْفِهِمْ رَجُلُ |
وقوله :﴿ ربنا ما خلقت هذا باطلاً ﴾ بل هو ثابت بإثباتك، مَمْحُوٍّ بأحدية ذاتك، فالباطل محال، وكل ما سواه باطل، كما قرره الرسول - عليه الصلاة والسلام. وقوله :﴿ ربنا إننا سمعنا منادياً ينادي للإيمان أن آمنوا بربكم فآمنا ﴾ أي : كنا في الرعيل الأول من أهل الإيمان، فجعل لنا سبيلاً إلى مقام الإحسان، ﴿ ربنا وآتنا ما وعدتنا ﴾ وهو الوصول إلى العيان. وبالله التوفيق.
﴿ ولا تخزنا يوم القيامة ﴾ أي : لا تُهِنَّا بسبب تقصيرنا، ﴿ إنك لا تخلف الميعاد ﴾ بإثابة المؤمن وإجابة الداعي، أو ميعاد البعث والحساب، وتكرير ﴿ ربنا ﴾ ؛ للمبالغة في الابتهال، والدلالة على استقلال المطالب وعلو شأنها، ففي بعض الآثار :( من حزبه أمر فقال خمس مرات :" ربنا "، أنجاه الله مما يخاف ). قاله البيضاوي.
مَا إنْ ذَكَرْتُكَ إلاَّ هَمَّ يَلْعَنُنِي | سِرِّي ورُوحِي وقَلْبي عِنْدَ ذِكرَاكَ |
أمَا تَرَى الحَقَّ قَدْ لاحَتْ شَوَاهِدُهُ | وَوَاصَلَ الكُلَّ مِنْ مَعْنَاهُ مَعْنَاكَ |
قال في الإحياء في كتاب الأوراد : الموحد المستغرق الهم بالواحد الصمد، الذي أصبح وهمومه هم واحد، فلا يحب إلا الله، ولا يخاف إلا منه، ولا يتوقع الرزق من غيره، ولا ينظر في شيء إلا يرى الله فيه، فمن ارتفعت رتبته إلى هذه الدرجة، لم يفتقر إلى ترتيب الأوراد واختلافها، بل ورده بعد المكتوبات ورد واحد، وهو حضور القلب مع الله في كل حال، فلا يخطر بقلبه أمر، ولا يقرع سمعه قارع، ولا يلوح لنظره لائح، إلاَّ كان له فيه عبرة وفكرة ومزيد، فلا محرك ولا مسكن إلا الله. فهؤلاء جميع أحوالهم تصلح أن تكون سبباً لازديادهم، فلا تتميز عندهم عبادة عن عبادة، وهم الذين فرّوا إلى الله كما قال تعالى :﴿ ففرّوا إلى الله ﴾، وتحقق فيهم قوله :﴿ إني ذاهب إلى ربي ﴾، وهذه الدرجة منتهى درجة الصديقين، ولا ينبغي أن يغتر المريد بما يسمعه من ذلك، فيدعيه لنفسه، ويفتر عن وظائف عباداته، فذلك علامته ألا يحس في قلبه وسواساً، ولا يخطر بقلبه معصية، لا يزعجه هواجم الأحوال، ولا يستفزه عظائم الأشغال، وأنى تكون هذه المرتبة !. هـ.
قلت : قوله :[ لا يخطر بقلبه معصية ] غير لازم ؛ لأن قلب العارف مرسى للتجليات النورانية والظلمانية لكنها تقل ولا تسكن.
وقال في موضع آخر : وأما عبادة ذوي الألباب فلا تجاوز ذكر الله تعالى والفكر فيه ؛ حُبّاً لجلاله وجماله، وسار الأعمال تكون مؤكدات. قال : والعامل لأجر الجنة ؛ درجته درجة البُلْه، وإنه لينالها بعمله ؛ إذ أكثر أهل الجنة البله. هـ. وقال في كتاب كيمياء السعادة : وقد غلط من ظن أن وظائف الضعفاء كوظائف الأقوياء، حتى قال بعض مشايخ الصوفية : من رآني في الابتداء، قال : صار صديقاً، ومن رآني في الانتهاء، قال : صار زنديقاً، يعني أن الابتداء يقتضي المجاهدة الظاهرة للأعين بكثرة العبادات، وفي الانتهاء يرجع العمل إلى الباطن، فيبقى القلب على الدوام في عين الشهود والحضور، وتفتر ظواهر الأعضاء، فيظن أن ذلك تهاون بالعبادة، وهيهات هيهات ! !، فذلك استغراق لمخ العبادات ولبابها وغايتها، ولكن أعين الخفافيش تكل عن درك نور الشمس.
قال شيخ شيوخنا - سيدي عبد الرحمان العارف - بعد نقل كلام القشيري في هذا المعنى : وما أشار إليه ظاهر في أن أهل القلوب لا يتعاطون كل طاعة. وإنما يتعاطون من الطاعات ما يجمعهم ولا يفرقهم. ولذلك قال الجنيد : أحب للصوفي ألا يقرأ ولا يكتب ؛ لأنه أجمع لهمه، قال : وأحب للمريد ألا يشتغل بالتكسب وطلب الحديث ؛ لئلا يتغير حاله. هـ. قلت : ومن رزقه الله شيخ التربية فما عيَّنه له فهو عين ذكره، يسير به كيفما كان.
هذا ما يتعلق بحال الذكر الذي قدَّمه الله تعالى، وأما التفكر فهو أعظم العبادات وأفضل القربات، هو عبادة العارفين ومنتهى المقربين. وفي الخبر :" تفكرُ سَاعةٍ أفضَل مِنْ عَبَادَةِ سبعينَ سَنة ".
وقال الجنيد رضي الله عنه : أشرف المجالس وأعلاها : الجلوس مع الفكرة في ميدان التوحيد، والتنسم بنسيم المعرفة، والشرب بكأس المحبة من بحر الوداد، والنظر لحسن الظن بالله تعالى. ثم قال : يا لها من مجالس، ما أجلها، ومن شرابٍ ما ألذه، طوبى لمن رزقه. وقال القشيري رضي الله عنه : التفكر نعت كل طالب، وثمرته : الوصول بشرط العلم، فإذا سلم الفكر عن الشوائب ورد صاحبهُ على مناهل التحقيق. هـ.
وسئلت زوجة أبي ذر عن عبادة زوجها، فقالت : كان نهاره أجمع في ناحية يتفكر. وكذلك زوجة أبي بكر قالت : كان ليله أجمع في ناحية يتفكر. وكذا زوجة أبي الدرداء، وكان سيدنا عيسى عليه السلام يقول : طوبى لمن كان قيله ذكراً وصمته تفكراً، ونظره عبرة. وقال الحسن رضي الله عنه : من لم يكن كلامه حكمة فهو لغو، ومن لم يكن سكوته تفكراً فهو سهو، ومن لم يكن نظره اعتباراً فهو لهو. هـ. وقال في الحكم :" ما نفع القلب شيء مثل عزلة يدخل بها ميدان فكرة ". وقال أيضاً :" الفكرة سراج القلب، فإذا ذهبت فلا إضاءة له ". وقال أيضاً :" الفكرة فكرتان ؛ فكرة تصديق وإيمان، وفكرة شهود وعيان، فالأولى لأرباب الاعتبار، والثانية لأرباب الشهود والاستبصار ".
وفكرة الشهود والعيان هي عبادة العارفين، ولا يُحصر ثوابها في ستين ولا في سبعين، بل وقت منها يعدل ألف سنة، كما قال الشاعر :
كَلُّ وَقْتٍ مِنْ حَبِيبِي | قَدْرُهُ كَأَلفِ حَجّه |
هُم الرِّجَالُ وغَبْنٌ أنْ يُقَالَ لِمَنْ | لَمْ يَتَّصِفُ بمَعَاني وَصْفِهِمْ رَجُلُ |
وقوله :﴿ ربنا ما خلقت هذا باطلاً ﴾ بل هو ثابت بإثباتك، مَمْحُوٍّ بأحدية ذاتك، فالباطل محال، وكل ما سواه باطل، كما قرره الرسول - عليه الصلاة والسلام. وقوله :﴿ ربنا إننا سمعنا منادياً ينادي للإيمان أن آمنوا بربكم فآمنا ﴾ أي : كنا في الرعيل الأول من أهل الإيمان، فجعل لنا سبيلاً إلى مقام الإحسان، ﴿ ربنا وآتنا ما وعدتنا ﴾ وهو الوصول إلى العيان. وبالله التوفيق.
﴿ فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنْكُمْ مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُواْ وَأُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِمْ وَأُوذُواْ فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُواْ وَقُتِلُواْ لأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ثَوَاباً مِّن عِندِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِندَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ ﴾
قلت :﴿ استجاب ﴾ : أخص من أجاب، لأن استجاب مُستلزم لفعل ما طلب منه، وأجاب يصدق بالوعد، ويتعدى بنفسه وباللام، و﴿ بعضكم من بعض ﴾ : جملة معترضة. قاله البيضاوي فانظره.
يقول الحقّ جلّ جلاله :﴿ فاستجاب لهم ربهم ﴾ فيما طلبوه ؛ لأنه لا يرد السؤال، ولا تخيب لديه الآمال، ولذلك قال :﴿ أني ﴾ أي : بسبب ﴿ أني لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى ﴾ ؛ لأنكم ﴿ بعضكم من بعض ﴾ ؛ لأن الذكر من الأنثى، والأنثى من الذكر، ولأنهما من أصل واحد، ولفرط الاتصال والاتحاد والاتفاق في الدين.
رُوِيَ " أَنَّ أمَّ سَلَمَة قالتْ : يا رَسُولَ اللّهِ، أني أَسْمَعُ الله يَذكُر الرجَالَ في الهِجْرَةِ ولم يَذكُر النساء، فنزلت :﴿ مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى ﴾ [ آل عِمرَان : ١٩٥ ] " الخ.
ثم فصل أعمال العمال، وما أعد لهم من الثواب فقال :﴿ فالذين هاجروا ﴾ دار الشرك، وفارقوا الأوطان والأصحاب والعشائر، ﴿ وأخرجوا من ديارهم وأُوذوا في سبيلي ﴾ بسبب إيمانهم بالله، ﴿ وقاتلوا ﴾ الكفار، و﴿ قُتلوا ﴾ أي : ماتوا في الجهاد. وقرئ بالعكس ؛ لأن الواو لا ترتب، أو قتل بعضهم، وقاتل الباقون ولم يضعفوا، ﴿ لأكفرنّ عنهم سيئاتهم ﴾ أي : لأمحونها، ﴿ ولأدخلنهم جنات تجري من تحتها الأنهار ثواباً من عند الله ﴾ أي : أثيبهم من عند الله تفضلاً وإحساناً، ﴿ والله عنده حسن الثواب ﴾ لا يعجزه شيء.
الإشارة : لما توجهوا إليه بهممهم العلية، وعزائمهم القوية، فقرعوا بابه بدوام ذكره، والتفكر في عظمة ذاته، وجميل إحسانه وبره، وتضرعوا إليه بلسان الذل والانكسار، وحال الخضوع والاضطرار، أجابهم ففتح في وجوههم الباب، وأدخلهم في حضرته مع الأحباب، لأنه يجيب السؤال، ولا يخيب الآمال، بعد أن هاجروا الأوطان، وفارقوا العشائر والإخوان، إلا من يزيد بهم إلى الرحمان، فقاتلوا نفوسهم حتى ماتت فحييت بالوصال، إلى جوار الكبير المتعال، قال الشاعر :
إنْ تُردْ وَصْلنَا فَمَوتكَ شَرْطٌ | لا يَنَالُ الوِصَالَ مَنْ فِيهِ فَضْلَه |
﴿ لاَ يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُواْ فِي الْبِلاَدِ ﴾ * ﴿ مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ ﴾ * ﴿ لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْاْ رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نُزُلاً مِّنْ عِندِ اللَّهِ وَمَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ لِّلأَبْرَارِ ﴾
يقول الحقّ جلّ جلاله :﴿ لا يغرنك ﴾ أيها السامع أو أيها الرسول، والمراد : تثبيته على ما كان عليه، كقوله :﴿ فلا تطع المكذبين ﴾، أي : دم على ما أنت عليه من عدم اغترارك بظاهر ما ترى عليه الكفار من البسط في الدنيا، والتقلب فيها بالتجارات والزراعات، وما هم عليه من الخصب ولين عيش، فإن ذلك ﴿ متاع قليل ﴾ بلغة فانية، ومتعة زائلة، وظلال آفلة، وسحابة حائلة. قال صلى الله عليه وسلم :" ما الدُّنْيا في الآخِرَةِ إلاَّ مِثْلُ ما يَجْعَلُ أَحَدُكُم إصْبَعَهِ في اليَمِّ، فَلْيَنْظُر بِمَ يَرْجِعَ ". فلا بد أن يرحلوا عنها قهراً،
قال أنس رضي الله عنه : دَخلتُ علَى النبيّ صلى الله عليه وسلم وهُو على سَرِير مرفل بالشريط - أي : مضفور به - وتحت رَأسِهِ وسَادَةٌ من أَدَم، حَشْوُهَا لِيفٌ، فدخل عليه عمر، وانحرف النبيّ صلى الله عليه وسلم انحرافة، فرأى عمر أثر الشريط في جَنْبِهِ، فَبكَى، فقال له النبيّ صلى الله عليه وسلم :" ما يُبْكِيكَ يا عمر " ؟ فقال : مَالِيَ لا أبْكِي وكِسْرى وقَيْصَرُ يعيشان فيما يعيشان فيه من الدنيا، وأنت على الحال الذي أرى، فقال له النبيّ صلى الله عليه وسلم :" يا عمر أمَا تَرْضَى أَنْ تَكُونَ لهُم الدُّنيا وَلَنا الآخرَةُ ". رواه البخاري.
وانظر ما أعدّ الله للمتقين الأبرار، الذين صبروا قدر ساعة من نهار، فأفضوا إلى جوار الكريم الغفار في دار القرآن، ﴿ وما عند الله خير للأبرار ﴾، ولاسيما العارفين الكبار. قال الورتجبي : بيِّن الحق - تعالى - رفعة منزل المتقين في الجنان، ثم أبْهم لطائف العناية بقوله :﴿ وما عند الله خير للأبرار ﴾ أي : ما عنده من نعيم المشاهدة، ولطائف القربة، وحلاوة الوصلة، خير مما هم فيه من نعيم الجنة، وأيضاً : صرح في هذه الآية ببيان مراتب الولاية، لأنه ذكر المتقين، والتقوى : تقديس الباطن عن لوث الطبيعة، وتنزيه الأخلاق عن دنس المخالفة، وذلك درجة الأولى من الولاية، والأبرار أهل الاستقامة في المعرفة، وبين أن أهل التقوى في الجنة، والأبرار في الحضرة. هـ.
﴿ لاَ يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُواْ فِي الْبِلاَدِ ﴾ * ﴿ مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ ﴾ * ﴿ لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْاْ رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نُزُلاً مِّنْ عِندِ اللَّهِ وَمَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ لِّلأَبْرَارِ ﴾
يقول الحقّ جلّ جلاله :﴿ لا يغرنك ﴾ أيها السامع أو أيها الرسول، والمراد : تثبيته على ما كان عليه، كقوله :﴿ فلا تطع المكذبين ﴾، أي : دم على ما أنت عليه من عدم اغترارك بظاهر ما ترى عليه الكفار من البسط في الدنيا، والتقلب فيها بالتجارات والزراعات، وما هم عليه من الخصب ولين عيش، فإن ذلك ﴿ متاع قليل ﴾ بلغة فانية، ومتعة زائلة، وظلال آفلة، وسحابة حائلة. قال صلى الله عليه وسلم :" ما الدُّنْيا في الآخِرَةِ إلاَّ مِثْلُ ما يَجْعَلُ أَحَدُكُم إصْبَعَهِ في اليَمِّ، فَلْيَنْظُر بِمَ يَرْجِعَ ". فلا بد أن يرحلوا عنها قهراً،
قال أنس رضي الله عنه : دَخلتُ علَى النبيّ صلى الله عليه وسلم وهُو على سَرِير مرفل بالشريط - أي : مضفور به - وتحت رَأسِهِ وسَادَةٌ من أَدَم، حَشْوُهَا لِيفٌ، فدخل عليه عمر، وانحرف النبيّ صلى الله عليه وسلم انحرافة، فرأى عمر أثر الشريط في جَنْبِهِ، فَبكَى، فقال له النبيّ صلى الله عليه وسلم :" ما يُبْكِيكَ يا عمر " ؟ فقال : مَالِيَ لا أبْكِي وكِسْرى وقَيْصَرُ يعيشان فيما يعيشان فيه من الدنيا، وأنت على الحال الذي أرى، فقال له النبيّ صلى الله عليه وسلم :" يا عمر أمَا تَرْضَى أَنْ تَكُونَ لهُم الدُّنيا وَلَنا الآخرَةُ ". رواه البخاري.
وانظر ما أعدّ الله للمتقين الأبرار، الذين صبروا قدر ساعة من نهار، فأفضوا إلى جوار الكريم الغفار في دار القرآن، ﴿ وما عند الله خير للأبرار ﴾، ولاسيما العارفين الكبار. قال الورتجبي : بيِّن الحق - تعالى - رفعة منزل المتقين في الجنان، ثم أبْهم لطائف العناية بقوله :﴿ وما عند الله خير للأبرار ﴾ أي : ما عنده من نعيم المشاهدة، ولطائف القربة، وحلاوة الوصلة، خير مما هم فيه من نعيم الجنة، وأيضاً : صرح في هذه الآية ببيان مراتب الولاية، لأنه ذكر المتقين، والتقوى : تقديس الباطن عن لوث الطبيعة، وتنزيه الأخلاق عن دنس المخالفة، وذلك درجة الأولى من الولاية، والأبرار أهل الاستقامة في المعرفة، وبين أن أهل التقوى في الجنة، والأبرار في الحضرة. هـ.
﴿ ثم مأواهم ﴾ أي : مصيرهم ﴿ جهنم وبئس المهاد ﴾ ما مهدوا لأنفسهم.
والمعتبر عند الأكياس هو ما أعد الله للمتقين من الناس، قال تعالى :﴿ لكن الذين اتقوا ربهم ﴾ وخافوا عقابه، ﴿ لهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ﴾، هيأ ذلك لهم وأعده ﴿ نزلاً من عند الله ﴾ هذا النزول الذي يقدم للضيف، وأما ما أعد لهم بعد النزول فلا يُعبر عنه لسان، ولذلك قال :﴿ وما عند الله ﴾ من النعيم الذي لا يفنى، جسماني وروحاني، ﴿ خير للأبرار ﴾ مما ينقلب إليه الفجار. قيل : حقيقة البر : هو الذي لا يؤذي الذر.
قال أنس رضي الله عنه : دَخلتُ علَى النبيّ صلى الله عليه وسلم وهُو على سَرِير مرفل بالشريط - أي : مضفور به - وتحت رَأسِهِ وسَادَةٌ من أَدَم، حَشْوُهَا لِيفٌ، فدخل عليه عمر، وانحرف النبيّ صلى الله عليه وسلم انحرافة، فرأى عمر أثر الشريط في جَنْبِهِ، فَبكَى، فقال له النبيّ صلى الله عليه وسلم :" ما يُبْكِيكَ يا عمر " ؟ فقال : مَالِيَ لا أبْكِي وكِسْرى وقَيْصَرُ يعيشان فيما يعيشان فيه من الدنيا، وأنت على الحال الذي أرى، فقال له النبيّ صلى الله عليه وسلم :" يا عمر أمَا تَرْضَى أَنْ تَكُونَ لهُم الدُّنيا وَلَنا الآخرَةُ ". رواه البخاري.
وانظر ما أعدّ الله للمتقين الأبرار، الذين صبروا قدر ساعة من نهار، فأفضوا إلى جوار الكريم الغفار في دار القرآن، ﴿ وما عند الله خير للأبرار ﴾، ولاسيما العارفين الكبار. قال الورتجبي : بيِّن الحق - تعالى - رفعة منزل المتقين في الجنان، ثم أبْهم لطائف العناية بقوله :﴿ وما عند الله خير للأبرار ﴾ أي : ما عنده من نعيم المشاهدة، ولطائف القربة، وحلاوة الوصلة، خير مما هم فيه من نعيم الجنة، وأيضاً : صرح في هذه الآية ببيان مراتب الولاية، لأنه ذكر المتقين، والتقوى : تقديس الباطن عن لوث الطبيعة، وتنزيه الأخلاق عن دنس المخالفة، وذلك درجة الأولى من الولاية، والأبرار أهل الاستقامة في المعرفة، وبين أن أهل التقوى في الجنة، والأبرار في الحضرة. هـ.
﴿ وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَن يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ للَّهِ لاَ يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُوْلئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ ﴾
يقول الحقّ جلّ جلاله :﴿ وإن من أهل الكتاب ﴾ ؛ كعبد الله بن سلام وأصحابه ممن أسلم من اليهود، ﴿ لمن يؤمن بالله ﴾ إيماناً حقيقياً، ﴿ وما أُنزل إليكم ﴾ من القرآن، ﴿ وما أُنزل إليهم ﴾ من التوراة، حال كونهم ﴿ خاشعين لله ﴾ خاضعين مخبتين وافين بالعهد، ﴿ لا يشترون بآيات الله ثمناً قليلاً ﴾، كما فعل المحرفون من أحبار اليهود، ﴿ أولئك لهم أجرهم عند ربهم ﴾ أي : ما وعدوا به من تضعيف أجرهم مرتين، ﴿ إن الله سريع الحساب ﴾ ؛ فيُسرع إلى توفية أجورهم وإكرام منقلبهم ؛ لأن الله عالم بالأعمال وما تستوجبه من النوال، فلا يحتاج إلى تأمل ولا احتياط ؛ لأنه غني عن التأمل والاحتياط.
وقيل : نزلت في النصارى : أربعين من نجران، واثنين وثلاثين من الحبشة، قدموا على النبيّ صلى الله عليه وسلم وأسلموا. وقيل : نزلت في النجاشي، لما نَعَاه جبريل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فخرج - عليه الصلاة والسلام -، وصلّى عليه، فقال المنافقون : انظروا إلى هذا، يصلّي على عِلْجٍ١ نصراني، فنزلت الآية. والله تعالى أعلم.
الإشارة : قد رأينا بعض الفقهاء حصل لهم الإيمان بخصوص أهل زمانهم، فتحققوا بولايتهم، ونالوا شيئاً من محبتهم، لكن لم تساعفهم الأقدار في صحبتهم، فظهرت عليهم آثار أنوارهم، واقتبسوا شيئاً من أسرارهم، فتنوّرت سريرتهم، وكملت شريعتهم، وأظهر عليهم آثار الخشوع، وأخذوا حظّاً من التواضع والخضوع، متخلقين بالقناعة والورع، قد ذهب عن قلبهم ما ابتلى به غيرهم من الجزع والهلع، فلا جرم أن هؤلاء لهم أجرهم مرتين : أجر ما تحملوا من الشريعة لنفع العوام، وأجر ما اكتسبوا من محبة القوم ؛ " المرءُ مَع مَنْ أَحب ". وبالله التوفيق، وهو الهادي إلى سواء الطريق.
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ وَاتَّقُواْ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾
قلت : المرابطة : أن يربط هؤلاء خيولهم، وهؤلاء خيولهم، إرصاداً لمن حاربهم، ثم أُطلق على كل مقيم في ثغر يدفع عمن وراءه، وإن لم يكن له مركب، إذا كان بنية الدفع عن المسلمين كان بأهله أو وحده. المدار على خلوص النية، خلاف ما قاله ابن عطية، وسيأتي صوابه في تفسير المعنى، إن شاء الله.
يقول الحقّ جلّ جلاله :﴿ يا أيها الذين آمنوا اصبروا ﴾ على مشاق الطاعات، وما يصيبكم من الشدائد والأزْمَات، وعلى مجانبة المعاصي والمخالفات، وعلى شكر ما أوليتكم من مواهب العطيات ﴿ وصابروا ﴾ أي : غالبوا الأعداء في مواطن الصبر، والثبوت في مداحض الحرب، ﴿ ورابطوا ﴾ أبدانكم وخيولكم في الثغور لتحفظوا المسلمين من العدو الكفور، كي تفوزوا بعظائم الأجور ؛ قال صلى الله عليه وسلم :" من رَابَط يَوْماً ولَيلَة في سبيل اللّهِ كان كعدل صِيامِ شَهْر وصِيَامه، لا يفطر ولا ينفتل عن صلاته إلا لحاجة، ومن توفي في سبيل الله - أي : مرابطاً في سبيل الله - أجْرَى الله عليه أجره حتى يقضي بين أهلِ الجنَةِ وأهل النَّارِ ". ومما يلحق بالرباط :" أنتظَارُ الصَّلاَةِ بَعْدَ الصَّلاَةِ "، كما في الحديث.
﴿ واتقوا الله ﴾ فيما يأمركم به وينهاكم عنه، ﴿ لعلكم تفلحون ﴾ فلاحاً لا خسران بعده أبداً.
الإشارة :﴿ يا أيها الذين آمنوا ﴾ إيمان أهل الخصوص، ﴿ اصبروا ﴾ على حفظ مراسم الشريعة، ﴿ وصابروا ﴾ على تحصيل أنوار الطريقة، ﴿ ورابطوا ﴾ قلوبكم على شهود أسرار الحقيقة، أو : اصبروا على أداء العبادة، وصابروا على تحقيق العبودية، ورابطوا في تحصيل العبودة - أي : الحرية - أو : اصبروا على تحقيق مقام الإسلام، وصابروا على دوام الإيمان، ورابطوا على العكوف في مقام الإحسان، أو : اصبروا على تخليص الطاعات، وصابروا على رفض الحظوظ والشهوات، ورابطوا أسراركم على أنوار المشاهدات، ﴿ واتقوا الله ﴾ فلا تشهدوا معه سواه، ﴿ لعلكم تفلحون ﴾، بتحقيق معرفة الله. وبالله التوفيق، وهو الهادي إلى سواء الطريق.