تفسير سورة الأحزاب

مختصر تفسير ابن كثير
تفسير سورة سورة الأحزاب من كتاب تيسير العلي القدير لاختصار تفسير ابن كثير المعروف بـمختصر تفسير ابن كثير .
لمؤلفه محمد نسيب الرفاعي . المتوفي سنة 1412 هـ

قال طلق بن حبيب : التقوى أن تعمل بطاعة الله، على نور من الله، ترجو ثواب الله، وأن تترك معصية الله، على نور من الله، مخافة عذاب الله، وقوله تعالى :﴿ وَلاَ تُطِعِ الكافرين والمنافقين ﴾ أي لا تسمع منهم ولا تستشرهم ﴿ إِنَّ الله كَانَ عَلِيماً حَكِيماً ﴾ أي فهو أحق أن تتبع أوامره وتطيعه، فإنه عليم بعواقب الأمور، حكيم في أقواله وأفعاله، ولهذا قال تعالى :﴿ واتبع مَا يوحى إِلَيْكَ مِن رَبِّكَ ﴾ أي من قرآن وسنّة، ﴿ إِنَّ الله كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً ﴾ أي فلا تخفى عليه خافية، ﴿ وَتَوَكَّلْ على الله ﴾ أي في جميع أمورك أحوالك، ﴿ وكفى بالله وَكِيلاً ﴾ أي وكفى به وكيلاً لمن توكل عليه وأناب إليه.
يقول تعالى موطئاً قبل المقصود المعنوي، أمراً معروفاً حسياً، وهو أنه كما لا يكون للشخص الواحد قلبان في جوفه ولا تصير زوجته التي يظاهر منها بقوله أنت عليَّ كظهر أمي أماً له، كذلك لا يصير الدعيُّ ولداً للرجل إذا تبناه فدعاه ابناً له، فقال :﴿ مَّا جَعَلَ الله لِرَجُلٍ مِّن قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللائي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ ﴾، كقوله عزَّ وجلَّ :﴿ مَّا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلاَّ اللائي وَلَدْنَهُمْ ﴾ [ المجادلة : ٢ ] الآية، وقوله :﴿ وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَآءَكُمْ أَبْنَآءَكُمْ ﴾ هذا هو المقصود بالنفي، فإنها نزلت في شأن ( زيد بن حارثة ) رضي الله عنه مولى النبي ﷺ، كان النبي ﷺ قد تبناه قبل النبوة، فكان يقال له ( زيد بن محمد ) فأراد الله تعالى أن يقطع هذا الإلحاق وهذا النسبة بقوله تعالى :﴿ وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَآءَكُمْ أَبْنَآءَكُمْ ﴾، كما قال تعالى :﴿ مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَآ أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ ولكن رَّسُولَ الله وَخَاتَمَ النبيين ﴾ [ الأحزاب : ٤٠ ]، وقال هاهنا :﴿ ذلكم قَوْلُكُم بِأَفْوَاهِكُمْ ﴾ يعني تبنّيكم لهم قول لا يقتضي أن يكون ابناً حقيقياً فإنه مخلوق من صلب رجل آخر، فما يمكن أن يكون له أبوان، كما لا يمكن أن يكون للبشر الواحد قلبان، ﴿ والله يَقُولُ الحق ﴾ أي العدل، ﴿ وَهُوَ يَهْدِي السبيل ﴾ أي الصراط المستقيم. وقد ذكر غير واحد أن هذه الآية نزلت في رجل من قريش كان يقال له ذو القلبين، وأنه كان يزعم أن له قلبين كل منهما بعقل وافر، فأنزل الله تعالى هذه الآية رداً عليه. وقال عبد الرزاق عن الزهري في قوله :﴿ مَّا جَعَلَ الله لِرَجُلٍ مِّن قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ ﴾، قال : بلغنا أن ذلك كان في ( زيد بن حارثة ) ضرب له مثل، يقول ليس ابن رجل آخر ابنك، وكذا قال مجاهد وقتادة وابن زيد : أنها نزلت في زيد بن حارثة رضي الله عنه، وهذا يوافق ما قدمناه من التفسير والله سبحانه وتعالى أعلم، وقوله عزَّ وجلَّ :﴿ ادعوهم لآبَآئِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِندَ الله ﴾ هذا أمر ناسخ لما كان في ابتداء الإسلام، من جواز ادعاء الأبناء الأجانب، وهم الأدعياء، فأمر تبارك وتعالى برد نسبهم إلى آبائهم في الحقيقة، وأن هذا هو العدل والقسط والبر.
روى البخاري عن عبد الله بن عمر قال : إن زيد بن حارثة رضي الله عنه مولى رسول الله ﷺ ما كنا ندعوه إلاّ زيد بن محمد حتى نزل القرآن :﴿ ادعوهم لآبَآئِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِندَ الله ﴾. وقد كانوا يعاملونهم معاملة الأبناء من كل وجه في الخلوة بالمحارم وغير ذلك، ولهذا لما نسخ هذا الحكم أباح تبارك وتعالى زوجه الدعي، وتزوج رسول الله ﷺ بزينب بن جحش مطلقة زيد بن حارثة رضي الله عنه، وقال عزَّ وجلَّ :
2008
﴿ لِكَيْ لاَ يَكُونَ عَلَى المؤمنين حَرَجٌ في أَزْوَاجِ أَدْعِيَآئِهِمْ إِذَا قَضَوْاْ مِنْهُنَّ وَطَراً ﴾ [ الأحزاب : ٣٧ ]، وقال تبارك وتعالى في آية التحريم :﴿ وَحَلاَئِلُ أَبْنَائِكُمُ الذين مِنْ أَصْلاَبِكُمْ ﴾ [ النساء : ٢٣ ] احترازاً عن زوجة الدعي فإنه ليس من الصلب، فأما دعوة الغير ابناً على سبيل التكريم والتحبيب، فليس مما نهي عنه في هذه الآية، بدليل ما رواه ابن عباس رضي الله عنهما قال :« قدمنا على رسول الله ﷺ أغيلمة بني عبد المطلب على جمرات لنا من جمع، فجعل يلطخ أفخاذنا ويقول :» أبينيّ لا ترموا الجمرة حتى تطلع الشمس « » وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال، قال لي رسول الله ﷺ :« يا بني »، وقوله عزَّ وجلَّ :﴿ فَإِن لَّمْ تعلموا آبَاءَهُمْ فَإِخوَانُكُمْ فِي الدين وَمَوَالِيكُمْ ﴾ أمر تعالى برد أنساب الأدعياء إلى آبائهم إن عرفوا، فإن لم يعرفوا فهم إخوانهم في الدين ومواليهم أي عوضاً عما فاتهم من النسب، ولهذا قال رسول الله ﷺ لعلي رضي الله عنه :« أنت مني وأنا منك » وقال لجعفر رضي الله عنه :« أشبهتَ خَلْقي وخُلُقي »، وقال لزيد رضي الله عنه :« أنت أخونا ومولانا » كما قال تعالى :﴿ فَإِخوَانُكُمْ فِي الدين وَمَوَالِيكُمْ ﴾.
وقد جاء في الحديث :« ليس من رجل ادعى إلى غير أبيه وهو يعلمه إلاّ كفر » ؛ وهذا تشديد وتهديد، ووعيد أكيد، في التبري من النسب المعلوم، ولهذا قال تعالى :﴿ ادعوهم لآبَآئِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِندَ الله فَإِن لَّمْ تعلموا آبَاءَهُمْ فَإِخوَانُكُمْ فِي الدين وَمَوَالِيكُمْ ﴾، ثم قال تعالى :﴿ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَآ أَخْطَأْتُمْ بِهِ ﴾ أي إذا نسبتم بعضهم إلى غير أبيه في الحقيقة خطأ، بعد الاجتهاد واستفراغ الوسع، فإن الله تعالى قد وضع الحرج في الخطأ، ورفع إثمه كما أرشد إليه في قوله تبارك وتعالى :﴿ رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَآ أَوْ أَخْطَأْنَا ﴾ [ البقرة : ٢٨٦ ]، وفي الحديث :« إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإن اجتهد فأخطا فله أجر »، وفي الحديث الآخر :« إن الله تعالى رفع عن أمتي الخطأ والنسيان والأمر الذي يكرهون عليه »، وقال تبارك وتعالى ههنا :﴿ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَآ أَخْطَأْتُمْ بِهِ ولكن مَّا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ الله غَفُوراً رَّحِيماً ﴾ أي إنما الإثم على من تعمد الباطل، كما قال عزَّ وجلَّ :﴿ لاَّ يُؤَاخِذُكُمُ الله باللغو في أَيْمَانِكُمْ ﴾ [ البقرة : ٢٢٥ ] الآية، وروى الإمام أحمد عن عمر رضي الله عنه أنه قال : إن الله تعالى بعث محمداً ﷺ بالحق، وأنزل معه الكتاب، فكان فيما أنزل عليه آية الرجم، فرجم رسول الله ﷺ ورجمنا بعده، ثم قال : قد كنا نقرأ :[ ولا ترغبوا عن آبائكم فإنه كفر بكم إن ترغبوا عن آبائكم ]، وفي الحديث الآخر :« ثلاث في الناس كفر : الطعن في النسب، والنياحة على الميت، والاستسقاء بالنجوم ».
2009
علم الله تعالى شفقة رسول الله ﷺ على أمته ونصحه لهم، فجعله أولى بهم من أنفسهم، وحكمه فيهم مقدمٌ على اختيارهم لأنفسهم، كما قال تعالى :﴿ فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حتى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ في أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيماً ﴾ [ النساء : ٦٥ ]، وفي الصحيح :« والذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من نفسه وماله وولده والناس أجمعين » وفي الصحيح أيضاً « أن عمر رضي الله عنه قال : يا رسول الله، والله لأنت أحب إِليَّ من كل شيء إلاّ من نفسي، فقال ﷺ :» لا يا عمر حتى أكون أحب إليك من نفسك « فقال : يا رسول الله والله لأنت أحب إليَّ من كل شيء حتى من نفسي، فقال ﷺ :» الآن يا عمر « » ؛ ولهذا قال تعالى في هذه الآية :﴿ النبي أولى بالمؤمنين مِنْ أَنْفُسِهِمْ ﴾، وقال البخاري عند هذه الآية الكريمة عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي ﷺ قال :« ما من مؤمن إلاّ وأنا أولى الناس به في الدنيا والآخرة، إقرأوا إن شئتم :﴿ النبي أولى بالمؤمنين مِنْ أَنْفُسِهِمْ ﴾. فأيما مؤمن ترك مالاً فليرثه عصبته من كانوا، وإن ترك ديناً أو ضياعاً فليأتني فأنا مولاه » وقال تعالى :﴿ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ ﴾ أي في الحرمة والاحترام، والتوقير والإكرام والإعظام، ولكن لا تجوز الخلوة بهن ولا ينتشر التحريم إلى بناتهن وأخواتهن بالإجماع.
وقوله تعالى :﴿ وَأُوْلُو الأرحام بَعْضُهُمْ أولى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ الله ﴾ أي في حكم الله ﴿ مِنَ المؤمنين والمهاجرين ﴾ أي القرابات أولى بالتوارث من المهاجرين والأنصار، وهذه ناسخة لما كان قبلها من التوارث بالحلف والمؤاخاة التي كانت بينهم، كما قال ابن عباس وغيره : كان المهاجري يرث الأنصاري دون قراباته وذوي رحمه للأخوة التي آخى بينهما رسول الله ﷺ، عن الزبير بن العوام رضي الله عنه قال : أنزل الله عزَّ وجلَّ فينا خاصة معشر قريش والأنصار :﴿ وَأُوْلُو الأرحام بَعْضُهُمْ أولى بِبَعْضٍ ﴾، وذلك أنا معشر قريش لما قدمنا من المدينة قدمنا ولا أموال لنا، فوجدنا الأنصار نعم الإخوان فواخيناهم ووارثناهم، فآخى أبو بكر رضي الله عنه ( خارجة بن زيد )، وآخى عمر رضي الله عنه فلاناً، وآخى عثمان رضي الله عنه رجلاً من بني زريق ( ابن سعد الزرقي ) ويقول بعض الناس غيره، قال الزبير رضي الله عنه وواخيت أنا ( كعب بن مالك ) فجئته فابتعلته، فوجدت السلاح قد ثقله فيما يرى، فوالله يا بني لو مات يومئذٍ عن الدنيا ما ورثه غيري، حتى أنزل الله تعالى هذه الآية فينا معشر قريش، والأنصار خاصة، فرجعنا إلى مواريثنا. وقوله تعالى :﴿ إِلاَّ أَن تفعلوا إلى أَوْلِيَآئِكُمْ مَّعْرُوفاً ﴾ أي ذهب الميراث وبقي النصر والبر والصلة والإحسان والوصية، وقوله تعالى :﴿ كَانَ ذَلِكَ فِي الكتاب مَسْطُوراً ﴾ أي هذا الحكم، وهو أن أولى الأرحام بعضهم أولى ببعض، حكم من الله مقدر مكتوب في الكتاب الأول الذي لا يبدل ولا يغير، وإن كان تعالى قد شرع خلافه في وقت، لما له في ذلك من الحكمة البالغة وهو يعلم أنه سينسخه إلى ما هو جار في قدره الأزلي وقضائه القدري الشرعي والله أعلم.
يقول تعالى مخبراً عن أولي العزم الخمسة وبقية الأنبياء، أنه أخذ عليهم العهد والميثاق، في إقامة دين الله تعالى وإبلاغ رسالته، والتعاون والتناصر والاتفاق، كما قال تعالى :﴿ وَإِذْ أَخَذَ الله مِيثَاقَ النبيين لَمَآ آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ ﴾ [ آل عمران : ٨١ ] الآية، فهذا العهد والميثاق أخذ عليهم بعد أرسالهم، وكذلك هذا، ونص من بينهم على هؤلاء الخمسة وهم أولو العزم، وقد صرح بذكرهم أيضاً في قوله تعالى :﴿ شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدين مَا وصى بِهِ نُوحاً والذي أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وموسى وعيسى أَنْ أَقِيمُواْ الدين وَلاَ تَتَفَرَّقُواْ فِيهِ ﴾ [ الشورى : ١٣ ] فهذه هي الوصية التي أخذ عليهم الميثاق بها، كما قال تعالى :﴿ وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النبيين مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِن نُّوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وموسى وَعِيسَى ابن مَرْيَمَ ﴾ فبدأ في هذه الآية بالخاتم لشرفه صلوات الله عليه، ثم رتبهم بحسب وجودهم صلوات الله عليهم، وقد قيل : إن المراد بهذا الميثاق الذي أخذ منهم حين أخرجوا في صورة الذر من صلب آدم ﷺ، كما قال أبي بن كعب : ورفع أباهم آدم فنظر إليهم يعني ذريته، وأن فيهم الغني والفقير، وحسن الصورة ودون ذلك فقال : رب لو سويت بين عبادك فقال : إني أحببت أن أشكر، ورأى فيهم الأنبياء مثل السرج عليهم النور وخصوا بميثاق آخر من الرسالة والنبوة وهو الذي يقول الله تعالى :﴿ وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النبيين مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِن نُّوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وموسى وَعِيسَى ابن مَرْيَمَ ﴾ وقال ابن عباس : الميثاق الغليظ العهد، وقوله تعالى :﴿ لِّيَسْأَلَ الصادقين عَن صِدْقِهِمْ ﴾ قال مجاهد : المبلغين المؤدين عن الرسل، وقوله تعالى :﴿ وَأَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ ﴾ أي من أممهم ﴿ عَذَاباً أَلِيماً ﴾ أي موجعاً، فنحن نشهد أن الرسل قد بلغوا رسالات ربهم ونصحوا الأمم، وإن كذبهم من كذبهم من الجهلة والمعاندين، والمارقين والقاسطين.
يقول تعالى مخبراً عن نعمته وفضله وإحسانه، إلى عباده المؤمنين في صرفه أعداءهم وهزمه إياهم، عام تألبوا عليهم وتحزبوا، وذلك عام الخندق، وكان سبب قدوم الأحزاب أن نفراً من أشراف يهود بني النضير، الذين كانوا قد أجلاهم رسول الله ﷺ من المدينة إلى خيبر، منهم ( سلام بن أبي الحقيق ) و ( سلام بن مشكم ) و ( كنانة بن الربيع ) خرجوا إلى مكة، فاجتمعوا بأشراف قريش، وألبوهم على حرب النبي ﷺ، ووعدوهم من أنفسهم النصر والإعانة، فأجابوهم إلى ذلك، ثم خرجوا إلى غطفان فدعوهم فاستجابوا لهم أيضاً، وخرجت قريش في أحابيشها ومن تابعها وقائدهم ( أبو سفيان ) صخر بن حرب، وعلى غطفان عيينة بن حصن بن بدر، والجميع قريب من عشرة آلاف، فلما سمع رسول الله ﷺ بمسيرهم أمر المسلمين بحفر الخندق حول المدينة مما يلي الشرق، وذلك بإشارة سلمان الفارسي رضي الله عنه، فعمل المسلمون فيه واجتهدوا ونقل معهم رسول الله ﷺ التراب و حفر، وجاء المشركون فنزلوا شرقي المدينة قريباً من أحد، ونزلت طائفة منهم في أعالي أرض المدينة، كما قال الله تعالى :﴿ إِذْ جَآءُوكُمْ مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ ﴾، وخرج رسول الله ﷺ ومن معه من المسلمين وهم نحو من ثلاثة آلاف، فأسندوا ظهروهم إلى سلع ووجوههم نحو العدو، والخندق حفير ليس فيه ماء بينهم وبينهم، يحجب الخيالة والرجالة أن تصل إليهم وجعل النساء والذراري في آطام المدينة، وكانت بنو قريظة وهم طائفة من اليهود لهم حصن شرقي المدينة، ولهم عنهد من النبي ﷺ وذمة، وهم قريب من ثمانمائة مقاتل، فذهب إليهم ( حيي بن أخطب ) فلم يزل بهم حتى نقضوا العهد، ومالأوا الأحزاب على رسول الله ﷺ، فعظم الخطب واشتد الأمر، وضاق الحال، كما قال الله تبارك وتعالى :﴿ هُنَالِكَ ابتلي المؤمنون وَزُلْزِلُواْ زِلْزَالاً شَدِيداً ﴾ [ الأحزاب : ١١ ] ومكثوا محاصرين للنبي ﷺ وأصحابه قريباً من شهر، إلاّ أنهم لا يصلون إليهم، ولم يقع بينهم قتال، ثم أرسل الله عزَّ وجلَّ الأحزاب ريحاً شديدة الهبوب قوية حتى لم يبقى لهم خيمة ولا شيء، ولا توقد لهم نار ولا يقر لهم قرار، حتى ارتحلوا خائبين خاسرين، كما قال الله عزَّ وجلَّ :﴿ ياأيها الذين آمَنُواْ اذكروا نِعْمَةَ الله عَلَيْكُمْ إِذْ جَآءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً ﴾ قال مجاهد : وهي الصَّبا : ويؤيده الحديث الشريف :« نصرت بالصَّبا وأهلكت عاد بالدبور ».
وقوله تعالى :﴿ وَجُنُوداً لَّمْ تَرَوْهَا ﴾ هم الملائكة زلزلتهم وألقت في قلوبهم الرغب والخوف، فكان رئيس كل قبيلة يقول : يا بني فلان إليّ فيجتمعون إليه فيقول : النجاء لما ألقى الله عزَّ وجلَّ في قلوبهم من الرغب، روى مسلم في « صحيحه » عن إبراهيم التيمي عن أبيه قال : كنا عند حذيفة بن اليمان رضي الله عنه فقال له رجل :
2012
« لو أدركت رسول الله ﷺ قاتلت معه وأبليت، فقال له حذيفة : أنت كنت تفعل ذلك؟ لقد رأيتنا مع رسول الله ﷺ ليلة الأحزاب في ليلة ذات ريح شديدة وقر، فقال رسول الله ﷺ :» ألا رجل يأتي بخبر القوم يكون معي يوم القيامة « فلم يجبه منّا أحد، ثم الثانية مثله، ثم قال ﷺ :» يا حذيفة قم فأتنا بخبر من القوم « فلم أجد بداً إذ دعاني باسمي أن أقوم فقال :» ائتني بخبر القوم ولا تذعرهم عليّ «، قال فمضيت كأنما أمشي في حمّام حتى أتيتهم، فإذا أبو سفيان يصلي ظهره بالنار، فوضعت سهماً في كيد قوسي وأردت أن أرميه، ثم ذكرت قول رسول الله ﷺ : لا تذعرهم عليّ ولو رميته لأصبته، قال : فرجعت كأنما أمشي في حمّام فأتيت رسول الله ﷺ، ثم أصابني البرد حيثن فرغت وقررت، فأخبرت رسول الله ﷺ وألبسني من فضل عباءة كانت عليه يصلي فيها فلم أزل نائماً حتى الصبح، فما أن أصبحت قال رسول الله ﷺ :» قم يا نومان « ».
وأخرج الحاكم والبيهقي في « الدلائل » عن عبد العزيز ابن أخي حذيفة قال :« ذكر حذيفة رضي الله عنه مشاهدهم مع رسول الله ﷺ، فقال جلساؤه : أما والله لو شهدنا ذلك لكنا فعلنا وفعلنا، فقال حذيفة : لا تمنوا ذلك لقد رأيتنا ليلة الأحزاب ونحن صافون قعوداً وأبو سفيان ومن معه من الأحزاب فوقنا، وقريظة لليهود أسفل منها نخافهم على ذرارينا، وما أتت علينا قط أشد ظلمة ولا أشد ريحاً في أصوات ريحها أمثال الصواعق وهي ظلمة ما يرى أحدنا أصبعه، فجعل المنافقون يستأذنون النبي ﷺ ويقولون : أن بيوتنا عورة وما هي بعورة، فما يستأذنه أحد منهم إلاّ أذن له، ويأذن لهم فيتسللون ونحن ثلثمائة أو نحو ذلك إذا استقبلنا رسول الله ﷺ رجلاً رجلاً، حتى أتى علي وما عليَّ جنة من العدو ولا من البرد إلاّ مرط لامرأتي ما يجاوز ركبتي، قال فأتاني ﷺ، وأنا جاث على ركتبي فقال :: من ذها؟ » فقلت : حذيفة، قال :« حذيفة؟ » فتقاصرت الأرض فقلت : بلى يا رسول الله كراهية أن اقوم فقمت، فقال :« إنه كائن في القوم خبر فأتني بخبر القوم : قال : وأنا من أشد الناس فزعاً وأشدهم قراً قال : فخرجت فقال رسول الله ﷺ :» اللهم احفظه من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله، ومن فوقه ومن تحته «، قال : فوالله ما خلق الله تعالى فزعاً ولا قراً في جوفي إلاّ خرج من جوفي، فما أجد فيه شيئاً، قال : فلما وليت قال ﷺ :» يا حذيفة لا تحدثن في القوم شيئاً حتى تأتيني « قال : فخرجت حتى إذا دنوت من عسكر القوم نظرت في ضوء نار لهم توقد، فإذا رجل أدهم ضخم يقول بيده على النار ويسمح خاصرته ويقول : الرحيل الرحيل ولم أكن أعرف أبا سفيان قبل ذلك، فانتزعت سهماً من كنانتي أبيض الريش، فأضعه في كبد قوسي لأرميه به في ضوء الناء، فذكرت قول رسول الله ﷺ :» لا تحدثن فيهم شيئاً حتى تأتيني «، قال : فأمسكت ورددت سهمي إلى كنانتي ثم إني شجعت نفسي حتى دخلت المعسكر، فإذا أدنى الناس مني بنو عامر يقولون : يا آل عامر الرحيل الرحيل لا مقام لكم، وإذا الريح في عسكرهم ما تجاوز عسكرهم شبراً، فوالله إني لأسم صوت الحجارة في رحالهم وفرشهم الريح تضربهم بها، ثم خرجت نحو النبي ﷺ، فلما انتصفت في الطريق أو نحواً من ذلك، إذا أنا بنحو من عشرين فارساً أو نحو ذلك معتمين فقالوا : أخبر صابحك أن الله تعالى كفاه القوم، فرجعت إلى رسول الله ﷺ وهو مشتمل في شملة يصلي فوالله ما عدا أن رجعت راجعني القر وجعلت أقرقف، فأوما إلي رسول الله ﷺ بيده وهو يصلي، فدنوت منه، فأسبل علي شملة، كان رسول الله ﷺ إذا حزبه أمر صلى، فأخبرته خبر القوم وأخبرته أني تركتهم يرتحلون »
2013
، وأنزل الله تعالى :﴿ ياأيها الذين آمَنُواْ اذكروا نِعْمَةَ الله عَلَيْكُمْ إِذْ جَآءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَّمْ تَرَوْهَا وَكَانَ الله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيراً ﴾ ولأبي داود : وكان رسول الله ﷺ إذا حزبه أمر صلى؛ وقوله تعالى :﴿ إِذْ جَآءُوكُمْ مِّن فَوْقِكُمْ ﴾ أي الأحزاب ﴿ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ ﴾ تقدم عن حذيفة رضي الله عنه أ، هم بنو قريظة، ﴿ وَإِذْ زَاغَتِ الأبصار وَبَلَغَتِ القلوب الحناجر ﴾ أي من شدة الخوف والفزع، ﴿ وَتَظُنُّونَ بالله الظنونا ﴾ ظن بعض من كان مع رسول الله ﷺ أن الدائرة على المؤمنين، وقال محمد بن إسحاق : ظن المؤمنون كل ظن ونجم النفاق، حتى قال ( معتب بن قشير ) كان محمد يعدنا أن نأكل كنوز كسرى وقيصر، وأحدنا لا يقدر على أن يذهب إلى الغائط، وقال الحسن في قوله عزَّ وجلَّ :﴿ وَتَظُنُّونَ بالله الظنونا ﴾ ظنون مختلفة ظن المنافقون أن محمداً ﷺ وأصحابه يستأصلون، وأيقن المؤمنون أن ما وعد الله ورسوله حق وأنه سيظهر على الدين كله ولو كره المشركون، وعن أبي سعيد رضي الله عنه قال، « قلنا يوم الخندق : يا رسول الله هل من شيء نقول، فقد بلغت القلوب الحناجر؟ قال ﷺ :» نعم، قولوا : اللهم اتسر عوراتنا وآمن روعاتنا « » قال : فضرب وجوه أعدائه بالريح، فهزمهم بالريح.
2014
يقول تعالى مخبراً عن ذلك الحال حين نزلت الأحزاب حول المدينة، والمسلمون محصورون في غاية الجهد والضيق، ورسول الله ﷺ بين أظهرهم، أنهم ابتلوا واختبروا وزلزلوا زلزالاً شديداً، فحينئذٍ ظهر النفاق وتكلم الذين في قلوبهم مرض بما في أنفسهم، ﴿ وَإِذْ يَقُولُ المنافقون والذين فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ مَّا وَعَدَنَا الله وَرَسُولُهُ إِلاَّ غُرُوراً ﴾، أما المنافق فنجم نفاقه، والذي في قلبه شبهة تنفس بما يجده من الوسواس في نفسه، لضعف إيمانه وشدة ما هو فيه من ضيق الحال، قال الله تعالى :﴿ وَإِذْ قَالَت طَّآئِفَةٌ مِّنْهُمْ ياأهل يَثْرِبَ ﴾ يعني المدينة كما جاء في الصحيح :« أريت في المنام دار هجرتكم أرض بين حرتين فذهب وَهْلي أنها هجر فإذا هي يثرب » وفي لفظ المدينة، وقوله :﴿ لاَ مُقَامَ لَكُمْ ﴾ أي ههنا يعنون عند النبي ﷺ في مقام المرابطة، ﴿ فارجعوا ﴾ أي إلى بيوتكم ومنازلكم ﴿ وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِّنْهُمُ النبي ﴾، قال بان عباس رضي الله عنهما : هم بنو حارثة، قالوا : بيوتنا نخاف عليها السراق، يعني اعتذروا في الرجوع إلى منازلهم بأنها عورة، أي ليس دونها ما يحجبها من العدو، فهم يخشون عليها منهم، قال الله تعالى :﴿ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ ﴾ أي ليست كما يزعمون ﴿ إِن يُرِيدُونَ إِلاَّ فِرَاراً ﴾ أي هرباً من الزحف.
يخبر تعالى عن هؤلاء الذين ﴿ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِن يُرِيدُونَ إِلاَّ فِرَاراً ﴾ [ الأحزاب : ١٣ ] أنهم لو دخل عليهم الأعداء من كل جانب من جوانب المدينة وقطر من أقطارها، ثم سألوا الفتنة وهي الدخول في الكفر لكفروا سريعاً، وهم لا يحافظون على الإيمان ولا يستمسكون به مع أدنى خوف وفزع، وهذا ذم لهم في غاية الذم، ثم قال تعالى يذكرهم بما كانوا عاهدوا الله من قبل هذا الخوف أن لا يولوا الأدبار ولا يفروا من الزحف :﴿ وَكَانَ عَهْدُ الله مَسْئُولاً ﴾ أي وإن الله سيسألهم عن ذلك العهد لا بد من ذلك، ثم أخبرهم أن فرارهم ذلك لا يؤخر آجالهم ولا يطول أعمارهم، بل ربما كان ذلك سبباً في تعجيل أخذهم غرة، ولهذا قال تعالى :﴿ وَإِذاً لاَّ تُمَتَّعُونَ إِلاَّ قَلِيلاً ﴾ أي بعد هربكم وفراركم، ثم قال تعالى :﴿ قُلْ مَن ذَا الذي يَعْصِمُكُمْ مِّنَ الله ﴾ أي يمنعكم، ﴿ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سواءا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلاَ يَجِدُونَ لَهُمْ مِّن دُونِ الله وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً ﴾ أي ليس لهم ولا لغيرهم من دون الله مجير ولا مغيث.
يخبر تعالى عن إحاطة علمه بالمعوقين لغيرهم من شهود الحرب، والقائلين لإخوانهم أي أصحابهم وعشرائهم وخلطائهم ﴿ هَلُمَّ إِلَيْنَا ﴾ أي إلى ما نحن في من الإقامة من الظلال والثمار وهم مع ذلك ﴿ وَلاَ يَأْتُونَ البأس إِلاَّ قَلِيلاً * أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ ﴾ أي بخلاء بالمودة والشفقة عليكم، وقال السدي ﴿ أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ ﴾ أي في الغنائم، ﴿ فَإِذَا جَآءَ الخوف رَأَيْتَهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كالذي يغشى عَلَيْهِ مِنَ الموت ﴾ أي من شدة خوفه وجزعه، وهكذا خوف هؤلاء الجبناء من القتال ﴿ فَإِذَا ذَهَبَ الخوف سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ ﴾ أي فإذا كان الأمن تكلموا كلاماً فصيحاً عالياً، وادعوا لأنفسهم الشجاعة والنجدة، وهم يكذبون في ذلك، قال ابن عباس :﴿ سَلَقُوكُمْ ﴾ أي استقبلوكم، وقال قتادة : أما عند الغنيمة فأشح قوم وأسوأه مقاسمة أعطونا أعطونا، قد شهدنا معكم، وأما عند البأس فأجبن قوم وأخذله للحق، وهم مع ذلك ﴿ أَشِحَّةً عَلَى الخير ﴾ أي ليس فيهم خير قد جمعوا الجبن والكذب وقلة الخير، فهم كما قال في أمثالهم الشاعر :
أفي السلم أعيار جفاء وغلظة وفي الحرب أمثال النساء العوارك؟
أي في حال المسألة كأنهم الحمر، وفي الحرب كأنهم النساء الحيض، ولهذا قال تعالى :﴿ أولئك لَمْ يُؤْمِنُواْ فَأَحْبَطَ الله أَعْمَالَهُمْ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى الله يَسِيراً ﴾ أي سهلاً هيناً عنده.
وهذا أيضاً من صفاتهم القبيحة في الجبن والخور والخوف، ﴿ يَحْسَبُونَ الأحزاب لَمْ يَذْهَبُواْ ﴾ بل هم قريب منهم وإن لهم عودة إليهم، ﴿ وَإِن يَأْتِ الأحزاب يَوَدُّواْ لَوْ أَنَّهُمْ بَادُونَ فِي الأعراب يَسْأَلُونَ عَنْ أَنبَآئِكُمْ ﴾ أي ويودون إذا جاءت الأحزاب أنهم لا يكونون حاضرين معكم في المدينة، بل في البادية يسألون عن أخباركم وما كان من أمركم مع عدوكم، ﴿ وَلَوْ كَانُواْ فِيكُمْ مَّا قاتلوا إِلاَّ قَلِيلاً ﴾ أي ولو كانوا بين أظهركم لما قاتلوا معكم إلاّ قليلاً، لكثرة جبنهم وذلتهم وضعف يقينهم والله سبحانه وتعالى العالم بهم.
هذه الآيات الكريمة أصل كبير في التأسي برسول الله ﷺ، قي أقواله وأفعاله وأحواله، ولهذا أمر تبارك وتعالى الناس بالتأسي بالنبي ﷺ في صبره ومصابرته ومرابطته ومجاهدته، ولهذا قال تعالى للذين تضجروا وتزلزلوا واضطربوا في أمرهم يوم الأحزاب :﴿ لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ الله أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ ﴾ أي هلا اقتديتم به وتأسيتم بشمائله ﷺ، ولهذا قال تعالى :﴿ لِّمَن كَانَ يَرْجُواْ الله واليوم الآخر وَذَكَرَ الله كَثِيراً ﴾ ثم قال تعالى مخبراً عن عباده المؤمنين، المصدقين بموعود الله لهم، وجعله العاقبة لهم في الدنيا والآخرة، فقال تعالى :﴿ وَلَمَّا رَأَى المؤمنون الأحزاب قَالُواْ هذا مَا وَعَدَنَا الله وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ الله وَرَسُولُهُ ﴾ قال ابن عباس : يعنون قوله تعالى في سورة البقرة :﴿ مَّسَّتْهُمُ البأسآء والضرآء وَزُلْزِلُواْ حتى يَقُولَ الرسول والذين آمَنُواْ مَعَهُ متى نَصْرُ الله ألا إِنَّ نَصْرَ الله قَرِيبٌ ﴾ [ البقرة : ٢١٤ ] أي هذا ما وعدنا الله ورسوله من الابتلاء والاختيار والامتحان الذي يعقبه النصر القريب، ولهذا قال تعالى :﴿ وَصَدَقَ الله وَرَسُولُهُ ﴾، وقوله تعالى :﴿ وَمَا زَادَهُمْ إِلاَّ إِيمَاناً وَتَسْلِيماً ﴾ دليل على زيادة الإيمان وقوته بالنسبة إلى الناس وأحوالهم، ومعنى قوله جلت عظمته :﴿ وَمَا زَادَهُمْ ﴾ أي ذلك الحال والضيق والشدة ﴿ إِلاَّ إِيمَاناً ﴾ بالله، ﴿ وَتَسْلِيماً ﴾ أي انقياداً لأوامره وطاعة لرسوله ﷺ.
لما ذكر تعالى عن المنافقين أنهم نقضوا العهد، وصف المؤمنين بأنهم استمروا على العهد والميثاق، و ﴿ صَدَقُواْ مَا عَاهَدُواْ الله عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَّن قضى نَحْبَهُ ﴾ قال بعضهم : أجله، وقال البخاري : عهده، وهو يرجع إلى الأول ﴿ وَمِنْهُمْ مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُواْ تَبْدِيلاً ﴾ أي وما غيروا عهد الله و لا نقضوه ولا بدلوه. روى البخاري عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : نرى هذه الآيات نزلت في أنس بن النضر رضي الله عنه ﴿ مِّنَ المؤمنين رِجَالٌ صَدَقُواْ مَا عَاهَدُواْ الله عَلَيْهِ ﴾ الآية، وروى الإمام أحمد عن ثابت قال :« قال أنس عمي ( أنس بن النضر ) رضي الله عنه، لم يشهد مع رسول الله ﷺ يوم بدر فشق عليه، وقال : أول مشهد شهده رسول الله ﷺ غبت عنه، لئن أران الله تعالى مشهداً فيما بعد مع رسول الله ﷺ ليرين الله عزَّ وجلَّ ما أصنع، قال : فهاب أن يقول غيرها، فشهد مع رسول الله ﷺ يوم أُحد، فاستقبل سعد بن معاذ رضي الله عنه، فقال له أنس رضي الله عنه : يا أبا عمرو أين، واهاً لريح الجنة إني أجده دون أحد، قال : فقاتلهم حتى قتل رضي الله عنه، قال : فوجد في جسده بضع وثمانون بين ضربة وطعنة ورمية، فقالت أخته عمتي الربيع ابنة النضر : فما عرفت أخي إلاّ ببنانه، قال : فنزلت هذه الآية ﴿ مِّنَ المؤمنين رِجَالٌ صَدَقُواْ مَا عَاهَدُواْ الله عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَّن قضى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُواْ تَبْدِيلاً ﴾ قال : فكانوا يرون أنها نزلت فيه وفي أصحابه رضي الله عنهم ». وعن طلحة رضي الله عنه قال :« لما رجع رسول الله ﷺ من أُجد صعد المنبر، فحمد الله تعالى وأثنى عليه، وعزّى المسلمين بما أصابهم، وأخبرهم بما لهم فيه من الأجر والذخر، ثم قرأ هذه الآية :﴿ مِّنَ المؤمنين رِجَالٌ صَدَقُواْ مَا عَاهَدُواْ الله عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَّن قضى نَحْبَهُ ﴾ الآية كلها، فقام إليه رجل من المسلمين فقال : يا رسول الله من هؤلاء؟ فأقبلتُ وعليَّ ثوبان أخضران حضرميان فقال :» أيها السائل هذا منهم « ».
قال مجاهد في قوله تعالى :﴿ فَمِنْهُمْ مَّن قضى نَحْبَهُ ﴾ يعني عهده ﴿ وَمِنْهُمْ مَّن يَنتَظِرُ ﴾ يوماً فيه القتال فيصدق في اللقاء، وقال الحسن :﴿ فَمِنْهُمْ مَّن قضى نَحْبَهُ ﴾ يعني موته على الصدق والوفاء، ومنهم من ينتظر على مثل ذلك، ومنهم من لم يبدلا تبديلاً، وقال بعضهم : نحبه نذره، وقوله تعالى :﴿ وَمَا بَدَّلُواْ تَبْدِيلاً ﴾ أي ما غيروا عهدهم وبدلوا الوفاء بالغدر، بل استمروا على ما عاهدوا الله عليه وما نقضوه كفعل المنافقين الذين
2020
﴿ عَاهَدُواْ الله مِن قَبْلُ لاَ يُوَلُّونَ الأدبار ﴾ [ الأحزاب : ١٥ ]، وقوله تعالى :﴿ لِّيَجْزِيَ الله الصادقين بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ المنافقين إِن شَآءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ ﴾ أي إنما يختبر عباده بالخوف والزلزال، ليميز الخبيث من الطيب، فيظهر أمر هذا بالفعل وأمر هذا بالفعل، مع أنه تعالى يعلم الشيء قبل كونه، ولكن لا يعذب الخلق بعلمه فيهم. حتى يعملوا بما يعلمه منهم كما قال تعالى :﴿ وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حتى نَعْلَمَ المجاهدين مِنكُمْ والصابرين وَنَبْلُوَاْ أَخْبَارَكُمْ ﴾ [ محمد : ٣١ ]، فهذا علم بالشيء بعد كونه وإن كان السابق حاصلاً به قبل وجوده، وكذا قال الله تعالى :﴿ مَّا كَانَ الله لِيَذَرَ المؤمنين على مَآ أَنْتُمْ عَلَيْهِ حتى يَمِيزَ الخبيث مِنَ الطيب ﴾ [ آل عمران : ١٧٩ ]، ولهذا قال تعالى هاهنا :﴿ لِّيَجْزِيَ الله الصادقين بِصِدْقِهِمْ ﴾ أي يصببرهم على ما عاهدوا الله عليه، وقيامهم به ومحافظتهم عليه ﴿ وَيُعَذِّبَ المنافقين ﴾ وهم الناقضون لعهد الله المخالفون لأوامره، فاستحقوا بذلك عقابه وعذابه، ولما كانت رحمته ورأفته تبارك وتعالى بخلقه هي الغالبة لغضبه قال :﴿ إِنَّ الله كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً ﴾.
2021
يقول تعالى مخبراً عن الأحزاب لما أجلاهم عن المدينة بما أرسل عليهم من الريح والجنود الإلهية، ولولا أن الله جعل رسوله رحمة للعالمين لكانت هذه الريح عليهم أشد من الريح العقيم التي أرسلها على عاد، ولكن قال تعالى :﴿ وَمَا كَانَ الله لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ ﴾ [ الأنفال : ٣٣ ] فلسط عليهم هواء فرّق شملهم، وردهم خائبين خاسرين بغيظهم وحنقهم ﴿ لَمْ يَنَالُواْ خَيْراً ﴾ لا في الدنيا من الظفر والمغنم، ولا في الآخرة بما تحملوه من الآثام في مبارزة الرسول صى الله عليه وسلم بالعداوة وهمهم بقتله، وقوله تبارك وتعالى :﴿ وَكَفَى الله المؤمنين القتال ﴾ أي لم يحتاجوا إلى منازلتهم ومبارزتهم حتى يجلوهم عن بلادهم، بل كفى الله وحده ونصر عبده، وأعز جنده، ولهذا كان رسول الله ﷺ يقول :« لا إله إلاّ الله وحده، صدق وعده، ونصر عبده، وأعز جنده، وهزم الأحزاب وحده فلا شيء بعده »، وفي « الصحيحين » عن عبد الله بن أبي أوفى رضي الله عنه قال :« دعا رسول الله ﷺ على الأحزاب فقال :» اللهم منزل الكتاب، سريع الحساب، اهزم الأحزاب، الله اهزمهم وزلزلهم « » وفي قوله عزَّ وجلَّ :﴿ وَكَفَى الله المؤمنين القتال ﴾، إشارة إلى وضع الحرب بينهم وبين قريش، وهكذا وقع بعدها لم يغزهم المشركون بل غزاهم المسلمون في بلادهم، قال محمد بن إسحاق : لما انصرف أهل الخندق عن الخندق قال رسول الله ﷺ فيما بلغنا :« لن تغزوكم قريش بعد عامكم هذا ولكنكم تغزونهم »، فلم تغز قريش بعد ذلك، وكان رسول الله ﷺ هو يغزوهم بعد ذلك حتى فتح الله تعالى مكة، وقوله تعالى :﴿ وَكَانَ الله قَوِيّاً عَزِيزاً ﴾ أي بحوله وقوته ردّهم خائبين لم ينالوا خيراً، وأعز الله الإسلام وأهله، فله الحمد والمنة.
قد تقدم أن ( بني قريظة ) لما قدمت الأحزاب، ونزلوا على المدينة نقضوا ما كان بينهم وبين رسول الله ﷺ من العهد، وكان ذلك بسفارة ( حيي بن أخطب ) لعنه الله د خل حصنهم، ولم يزل بسيدهم ( كعب بن أسد ) حتى نقض العهد، وقال : له فيما قال : ويحك قد جئتك بعز الدهر، أتيتك بقريش وأحابيشها، وغطفان وأتباعها، ولا يزالون ههنا حتى يستأصلوا محمداً وأصحابه، فقال له كعب : بل والله أتيتني بذل الدهر، فلم يزل يفتل في الذروة والغارب، حتى أجابه، فلما نقضت قريظة وبلغ ذلك رسول الله ﷺ، ساءه وشق عليه وعلى المسلمين جداً، فلما أيده الله تعالى ونصره، وكبت الأعداء وردهم خائبين بأخسر صفقة، ورجع رسول الله ﷺ إلى المدينة مؤيداً منصوراً، ووضع الناس السلاح، « فبينما رسول الله ﷺ يغتسل من وعثاء تلك المرابطة، في بيت أم سلمة رضي الله عنها، إذ تبدى له جبريل عليه الصلاة والسم متعجراً بعامة من إستبرق على بلغة عليها قطيفة من ديباج، فقال : أوضعت السلاح يا رسول الله؟ قال ﷺ :» نعم «، قال : لكن الملائكة لم تضع أسلحتها، وهذا الآن رجوعي من طلب القوم، ثم قال : إن الله تبارك وتعالى يأمرك أن تنهض إلى بني قريظة، فنهض رسول الله ﷺ من فوره، وأمر الناس بالمسير إلى بني قريظة وكانت على أميال من المدينة وذلك بعد صلاة الظهر، وقال ﷺ :» لا يصلين أحد منكم العصر إلاّ في بني قريظة «، فسار الناس فأدركتهم الصلاة في الطريق، فصلى بعضهم في الطريق، وقالوا : لم يرد منا رسول الله ﷺ إلاّ تعجيل المسير، وقال آخرون : لا نصليها إلاّ في بني قريظة، فلم يعنف واحداً من الفريقين، وتبعهم رسول الله ﷺ.
وقد استخلف على المدينة ابن أم مكتوم رضي الله عنه، وأعطى الراية لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه، ثم نازلهم رسول الله ﷺ وحاصرهم خمساً وعشرين ليلة، فلما طال عليهم الحال نزلوا على حكم ( سعد بن معاذ ) سيد الأوس رضي الله عنه، لأنهم كانوا حلفاءهم في الجاهلية، فعند ذلك استدعاه رسول الله ﷺ من المدينة ليحكم فيهم، فلما أقبل وهو راكب على حمار قد وطئوا له عليه جعل الأوس يلوذون به ويقولون : يا سعد إنهم مواليك فأحسن فيهم، ويرققونه عليهم ويعطفونه، وهو ساكت لا يرد عليهم، فلما أكثروا عليه قال رضي الله عنه : لقد آن لسعد أن لا تأخذه في الله لومة لائم، فعرفوا أنه غير مستبقيهم، فلما دنا من الخيمة التي فيها رسول الله ﷺ قال رسول الله ﷺ :»
قوموا إلى سيدكم « فقام إليه المسلمون، فانزلوه إعظاماً وإكراماً واحتراماً له في محل ولايته ليكون أنفذ لحكمه فيهم، فلما جلس قال له رسول الله صلى الله عليه سلم :» إن هؤلاء وأشار إليهم قد نزلوا على حكمك فاحكم فيهم بما شئت « فقال رضي الله عنه : وحكمي نافذ عليهم؟ قال صلى الله وسلم :» نعم «، قال : نعلى من في هذه الخيمة؟ قال :» نعم «، قال : وعلى من هاهنا، وأشار إلى الجانب الذي في رسول الله ﷺ، فقال له رسول الله ﷺ :» نعم «، فقال رضي الله عنه : إني أحكم أن تقتل مقاتلتهم وتسبى ذريتهم وأموالهم، وفقال له رسول الله ﷺ :» لقد حكمت بحكم الله تعالى من فوق سبعة أرقعة «، ثم أمر رسول الله ﷺ بالأخاديد، فخدت في الأرض وجيء بهم مكتفين، فضرب أعناقهم، وكانوا ما بين السبعمائة إلى الثمانمائة، وسبي من لم ينبت منهم مع النساء وأموالهم »
2023
، ولهذا قال تعالى :﴿ وَأَنزَلَ الذين ظَاهَرُوهُم ﴾ أي عاونوا الأحزاب وساعدوهم على حرب رسول الله ﷺ ﴿ مِّنْ أَهْلِ الكتاب ﴾ يعني بني قريظة من اليهود من بعض أسباط بني إسرائيل، كان قد نزل آباءهم الحجاز قديماً طمعاً في اتباع النبي الأمي الذي يجدوه مكتوباً عندهم في التوراة والإِنجيل، ﴿ فَلَمَّا جَآءَهُمْ مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ ﴾ [ البقرة : ٨٩ ] فعليهم لعنة الله، وقوله تعالى :﴿ مِن صَيَاصِيهِمْ ﴾ يعني حصونهم، ﴿ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرعب ﴾ وهو الخوف لأنهم كانوا مالأوا المشركين على حرب النبي ﷺ، وأخافوا المسلمين وراموا قتلهم فانعكس عليهم الحال، ولهذا قال تعالى :﴿ فَرِيقاً تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً ﴾ فالذين قتلوا هم المقاتلة، والأسراء هم الصغار والنساء، ﴿ وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ ﴾ أي جعلها لكم من قتلكم لهم ﴿ وَأَرْضاً لَّمْ تَطَئُوهَا ﴾ قيل : خيبر، وقيل : مكة، وقيل : فارس والروم، قال ابن جرير : يجوز أن يكون الجميع مراداً ﴿ وَكَانَ الله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً ﴾.
2024
هذا أمر من الله تبارك وتعالى لرسول الله ﷺ، بأن يخير نساءه بين أن يفارقهن فيذهبن إلى غيره، ممن يحصل لهن عنده الحياة الدنيا وزينتها، وبين الصبر على ما عنده من ضيق الحال، ولهن عند الله تعالى في ذلك الثواب الجزيل، فاخترن رضي الله عنهن وأرضاهن، الله ورسوله والدار الآخرة، فيجمع الله تعالى لهن بعد ذلك بين خير الدنيا وسعادة الآخرة، روى البخاري « عن عائشة رضي الله عنها زوج النبي ﷺ أن رسول الله ﷺ جاءها حين أمره الله تعالى أن يخبِّر أزواجه، قالت : فبدأ بي رسول الله ﷺ فقال :» إني ذاكر لك أمراً فلا عليك أن لا تستعجلي حتى تستأمري أبويك وقد علم أن أبويَّ لم يكونا يأمراني بفراقه قالت : ثم قال :« إن الله تعالى قال :﴿ ياأيها النبي قُل لأَزْوَاجِكَ ﴾ » إلى تمام الآيتين، فقلت له : ففي أي هذا أستأمر أبويَّ؟ فإني أريد الله ورسوله والدار الآخرة « وروى ابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله عنهما قال، » قالت عائشة رضي الله عنها : أنزلت آية التخيير فبدأ بي أول امرأة من نسائه، فقال ﷺ :« إن ذاكر لك أمراً فلا عليك أن لا تعجلي حتى تستأمري أبويك » قالت وقد علم أن أبوي لم يكونا يأمراني بفراقه قالت ثم قالت :« إن الله تبارك وتعالى قال :﴿ ياأيها النبي قُل لأَزْوَاجِكَ ﴾ الآيتين، قالت عائشة رضي الله عنها فقلت أفي هذا أستأمر أبوي؟ فإني أريد الله ورسوله والدار الآخرة. ثم خير نساءه كلهن، فقلن مثل ما قالت عائشة رضي الله عنهن » «.
وروى الإمام أحمد عن جابر رضي الله عنه قال :»
أقبل أبو بكر رضي الله عنه يستأذن رسول الله ﷺ، والناس ببابه جلوس، والنبي ﷺ جالس فلم يؤذن له، ثم أقبل عمر رضي الله عنه، فاستأذن فلم يؤذن له، ثم أذن لأبي بكر وعمر رضي الله عنهما فدخلا والنبي ﷺ جالس وحوله نساءه، وهو ﷺ ساكت، فقال عمر رضي الله عنه : لأكلمن النبي ﷺ لعله يضحك، فقال عمر رضي الله عنه : يا رسول الله لو رأيت ابنة زيد امرأة عمر سألتني النفقة آنفاً فوجأت عنقها، فضحك النبي ﷺ حتى بدت نواجذه، وقال :« هن حولي يسألنني النفقة »، فقام أبو بكر رضي الله عنه إلى عائشة ليضربها، وقام عمر رضي الله عنه إلى حفصة كلاهما يقولان : تسألان النبي ﷺ ما ليس عنده، فنهاهم رسول الله ﷺ فقلن : والله لا نسأل رسول الله ﷺ بعد هذا المجلس ما ليس عنده «
2025
، قال : وأنزل الله عزَّ وجلَّ الخيار، فبدأ بعائشة رضي الله عنها فقال :« » إني أذكر لك أمراً ما أحسب أن تعجلي فيه حتى تستأمري أبويك « قالت وما هو؟ قال فتلا عليها :﴿ ياأيها النبي قُل لأَزْوَاجِكَ ﴾ الآية. قالت عائشة رضي الله عنها أفيك أستأمر أبوي؟ بل أختار الله تعالى ورسوله، وأسألك أن لا تذكر لامرأة من نسائك ما اخترت، فقال ﷺ :» إن الله تعالى لم يبعثني معنفاً ولكن بعثني معلماً ميسراً، لا تسألني امرأة منهن عما اخترت إلاّ أخبرتها « »، قوله تعالى :﴿ فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً ﴾ أي أعطيكن حقوقكن وأطلق سراحكن، قال عكرمة : وكان تحته يومئذٍ تسع نسوة، خمس من قريش ( عائشة، وحفصة، وأم حبيبة، وسودة، وأم سلمة ) رضي الله عنهن، وكات تحته ﷺ صفية بن حيي النضيرية، وميمونة بن الحارث الهلالية، وزينب بنت جحش الأسدية، وجويرية بنت الحارث المصطلقية رضي الله عنهن وأرضاهن أجمعين.
2026
يقول تعالى واعظاً نساء النبي ﷺ، اللاتي اخترن الله ورسوله والدار الآخرة، بأن من يأت منهم ﴿ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ ﴾ قال ابن عباس : هي النشوز وسوء الخلق، وهذا شرط والشرط لا يقتضي الوقوع، كقوله تعالى :﴿ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ ﴾ [ الزمر : ٦٥ ]، وكقوله :﴿ قُلْ إِن كَانَ للرحمن وَلَدٌ فَأَنَاْ أَوَّلُ العابدين ﴾ [ الزخرف : ٨١ ]، فلما كانت منزلتهن رفيعة ناسب أن يجعل الذنب لو وقع منهن مغلظاً، ولهذا قال تعالى :﴿ مَن يَأْتِ مِنكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا العذاب ضِعْفَيْنِ ﴾ يعني في الدنيا والآخرة، ﴿ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى الله يَسِيراً ﴾ أي سهلاً هنياً؛ ثم ذكر عدله وفضله في قوله :﴿ وَمَن يَقْنُتْ مِنكُنَّ للَّهِ وَرَسُولِهِ ﴾ أي تطع الله ورسوله وتستجب ﴿ نُؤْتِهَآ أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقاً كَرِيماً ﴾ أي في الجنة، فإنهن في منازل رسول الله ﷺ في أعلى عليين، فوق منازل جميع الخلائق، في الوسيلة التي هي أقرب منازل الجنة إلى العرش.
هذه آداب أمر الله تعالى بها نساء النبي ﷺ، بأنهن إذا اتقين الله عزَّ وجلَّ كما أمرهن، فإنه لا يشبهن أحد من النساء ولا يلحقهن في الفضيلة والمنزلة، ثم قال تعالى :﴿ فَلاَ تَخْضَعْنَ بالقول ﴾ قال السدي : يعني بذلك ترقيق الكلام إذا خاطبن الرجال، ولهذا قال تعالى :﴿ فَيَطْمَعَ الذي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ ﴾ أي دغل، ﴿ وَقُلْنَ قَوْلاً مَّعْرُوفاً ﴾ قال ابن زيد : قولاً حسناً جميلاً معروفاً في الخير، ومعنى هذا أنها تخاطب الأجانب بكلام ليس فيه ترخيم، أي لا تخاطب المرأة الأجانب كما تخاطب زوجها، وقوله تعالى :﴿ وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ ﴾ أي إلزمن بيوتكن، فلا تخرجن لغير حاجة، ومن الحوائج الشرعية، الصلاة في المسجد بشرطه، كما قال رسول الله ﷺ :« لا تمنعوا إماء الله مساجد الله وليخرجن وهنَّ تفِلات »، وفي رواية :« وبيوتهن خير لهن » وروى الحافظ البزار عن أنس رضي الله عنه قال :« جئن النساء إلى رسول الله ﷺ فقلن : يا رسول الله ذهب الرجال بالفضل والجهاد في سبيل الله تعالى، فما لنا عمل ندرك به عمل المجاهدين في سبيل الله تعالى؟ فقال رسول الله ﷺ :» من قعدت أو كلمة نحوها منكن في بيتها فإنها تدرك عمل المجاهدين في سبيل الله تعالى « وعن النبي ﷺ قال :» إن المرأة عورة فإذا خرجت استشرفها الشيطان، وأقرب ما تكون بروحة ربها وهي في قعر بيتها «، وفي الحديث :» صلاة المرأة في مخدعها أفضل من صلاتها في بيتها، وصلاتها في بيتها أفضل من صلاتها في حجرتها «، وقوله تعالى :﴿ وَلاَ تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الجاهلية الأولى ﴾ قال مجاهد : كانت المرأة تخرج تمشي بين يدي الرجال فذلك تبرج الجاهلية، وقال قتادة : كانت لهن مشية وتكسر وتغنج فنهى الله تعالى عن ذلك، وقال مقاتل : التبرج أنها تلقي الخمار على رأسها ولا تشده فيواري قلائدها وقرطها وعنقها ويبدوا ذلك كله منها وذلك التبرج، ثم عمت نساء المؤمنين في التبرج.
وقوله تعالى :﴿ وَأَقِمْنَ الصلاة وَآتِينَ الزكاة وَأَطِعْنَ الله وَرَسُولَهُ ﴾ نهاهن أولاً عن الشر ثم أمرهن بالخير من إقامة الصلاة وهي عبادة الله وحده، وإيتاء الزكاة وهي الإحسان إلى المخلوقين، ﴿ وَأَطِعْنَ الله وَرَسُولَهُ ﴾، وهذا من باب عطف العام على الخاص، وقوله تعالى :﴿ إِنَّمَا يُرِيدُ الله لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرجس أَهْلَ البيت وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً ﴾ نص في دخول أزواج النبي ﷺ في أهل البيت ههنا، لأنهن سبب نزول هذه الآية، وسبب النزول داخل فيه قولاً واحداً، روى ابن جرير عن عكرمة أنه كان ينادي في السوق :﴿ إِنَّمَا يُرِيدُ الله لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرجس أَهْلَ البيت وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً ﴾ نزلت في نساء النبي ﷺ خاصة، وليس المراد أنهن المراد فقط دون غيرهن، فقد روى ابن أبي حاتم عن العوام بن حوشب رضي الله عنه عن ابن عم له قال :
2028
« دخلت مع أبي على عائشة رضي الله عنها فسألتها عن علي رضي الله عنه، فقالت رضي الله عنها : تسألني عن رجل كان من أحب الناس إلى رسول الله ﷺ، وكانت تحته ابنته وأحب النا إلي؟ لقد رأيت رسول الله ﷺ دعا علياً وفاطمة وحسناً وحسيناً رضي الله عنهم فألقى عليهم ثوباً فقال :» اللهم هؤلاء أهل بيتي فأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً « قالت : فدنوت منهم فقلت : يا رسول الله وأنا من أهل بيتك؟ فقال ﷺ :» تنحي فإنك على خير « ».
ورى مسلم في « صحيحه » عن يزيد بن حبان قال :« انطلقت أنا وحصين بن سبرة وعمر بن سلمة إلى ( زيد بن أرقم ) رضي الله عنه، فلما جلسنا إليه قال له الحصين : لقد لقيت يا زيداً خيراً كثيراً، رأيت رسول الله ﷺ وسمعت حديثه وغزوت معه وصليت خلفه، لقد لقيت يا زيد خيراً كثيرا، حدثنا يا زيد ما سمعت من رسول الله ﷺ قال : يا ابن أخي والله لقد كبرت سني وقدم عهدي ونسيت بعض الذي كنت أعي من رسول الله ﷺ، فما حدثتكم فاقبلوا وما لا، فلا تكلفوا فيه، ثم قال : قام فينا رسول الله صلىلله عليه وسلم يوماً خطيباً بماء يدعى خماً بين مكة والمدينة، فحمد الله تعالى وأثنى عليه ووعظ وذكر ثم قال :» أما بعد ألا أيها الناس، فإنما أنا بشر يوشك أن يأتيني رسول ربي فأجيب، وأنا تارك فيكم ثقلين، أولهما كتاب الله تعالى فيه الهدى والنور فخذوا بكتاب الله واستسمكوا به « فحث على كتاب الله عزَّ وجلَّ ورغب فيه، ثم قال :» وأهل بيتي أذكركم الله في أهل بيتي أذكركم الله في أهل بيتي « فقال له حصين : ومن أهل بيته يا زيد أليس نساؤه من أهل بيته؟ قال : نساؤه من أهل بيته، ولكن أهل بيته من حرم الصدقة بعده. قال : ومن هم؟ هم آل علي وآل عقيل وآل جعفر وآل عباس رضي الله عنهم، قال : كل هؤلاء حرم الصدقة بعده؟ قال : نعم ». والذي لا يشك فيه من تدبر القرآن أن نساء النبي صلى الله عليه سلم داخلات في قوله تعالى :﴿ إِنَّمَا يُرِيدُ الله لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرجس أَهْلَ البيت وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً ﴾ فإن سياق الكلام معهن، ولهذا قال تعالى بعد هذا كله :﴿ واذكرن مَا يتلى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ الله والحكمة ﴾ أي واعملن بما ينزل الله تبارك وتعالى على رسوله ﷺ في بيوتكن من الكتاب والسنّة، واذكرن هذه النعمة التي خصصتن بها من بين الناس، أن الوحي ينزل في بيوتكن دون سائر الناس، وعائشة الصديقة بنت الصديق رضي الله عنهما أولاهن بهذه النعمة، فإنه لم ينزل على رسول الله ﷺ الوحي في فراش امرأة سواها، كما نص على ذلك صلوات الله وسلامه عليه، فناسب أن تخصص بهذه المزية، وأن تفرد بهذه المرتبة العلية، ولكن إذا كان أزواجه من أهل بيته فقرابته أحق بهذه التسمية كما تقدم في الحديث :
2029
« وأهل بيتي أحق »، وهذا يشبه ما ثبت في « صحيح مسلم » « أن رسول الله ﷺ لما سئل عن المسجد الذي أسس على التقوى من أول يقوم فقال :» هو مسجدي هذا «، فهذا من هذا القبيل، فإن الآية إنما نزلت في مسجد قباء، كما ورد في الأحاديث الأخر، ولكن إذا كان ذاك أُسس على التقوى من أول يوم فمسجد رسول الله ﷺ أولى بتسميته لذلك والله أعلم. وقوله تعالى :﴿ إِنَّ الله كَانَ لَطِيفاً خَبِيراً ﴾ أي بلطفه بكن بلغتن هذه المنزلة، وبخربته تتلى فيها آيات الله والحكمة، فاشكرن الله تعالى على ذلك واحمدنه ﴿ إِنَّ الله كَانَ لَطِيفاً خَبِيراً ﴾ أي ذا لطف بكن إذ جعلكن في البيوت التي تتلى فيها آيات الله والحكمة وهي ( السنة ) خبيراً بكن إذا اختاركن لرسوله أزواجاً؟
2030
عن أم سلمة رضي الله عنها أنها قالت للنبي ﷺ يا نبي الله : ما لي أسمع الرجال يذكرون في القرآن، والنساء لا يذكرون؟ فأنزل الله تعالى :﴿ إِنَّ المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات ﴾.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال، قال النساء للنبي ﷺ ما له يذكر المؤمنين ولا يذكر والمؤمنات؟ فأنزل الله تعالى :﴿ إِنَّ المسلمين والمسلمات ﴾ الآية. وقوله تعالى :﴿ إِنَّ المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات ﴾ دليل على أن الإيمان غير الإسلام وهو أخص منه لقوله تعالى :﴿ قَالَتِ الأعراب آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُواْ ولكن قولوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإيمان فِي قُلُوبِكُمْ ﴾ [ الحجرات : ١٤ ] وفي « الصحيحين » :« لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن » فيسلبه الإيمان ولا يلزم من ذلك كفره بإجمال المسلمين، فدل على أنه أخص منه. وقوله تعالى :﴿ والقانتين والقانتات ﴾ القنوت هو الطاعة في سكون، قال تعالى :﴿ أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَآءَ اليل سَاجِداً وَقَآئِماً ﴾ [ الزمر : ٩ ]، وقال تعالى :﴿ كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ ﴾ [ البقرة : ١١٦، الروم : ٢٦ ] فالإسلام بعده مرتبة يرتقي إليها وهو ﴿ الإيمان ﴾ ثم القنوت ناشىء عنهما ﴿ والصادقين والصادقات ﴾ هذا في الأقوال فإن الصدق خصلة محمودة، وهو علامة على الإيمان كما أن الكذب أمارة على النفاق؛ ومن صدق نجا، « عليكم بالصدق فإن الصدق يهدي إلى البر » الحديث ﴿ والصابرين والصابرات ﴾ هذه سجية الأثبات، وهي الصبر على المصائب، والعلم بأن المقدر كائن لا محالة، وتلقي ذلك بالصبر والثبات وإنما الصبر عند الصدمة الأولى، أي أصعبه في أول وهلة ثم ما بعده أسهل منه وهو صدق السجية وثباتها ﴿ والخاشعين والخاشعات ﴾ الخشوع هو السكون والطمأنينة والتؤدة والوقار والتواضع، والحامل عليه الخوف من الله تعالى ومراقبته كما في الحديث :« اعبد الله كأن تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك » ﴿ والمتصدقين والمتصدقات ﴾ الصدقة هي الإحسان إلى الناس المحاويج الضعفاء الذين لا كسب لهم، وقد ثبت في « الصحيحين » :« سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلاّ ظله فذكر منهم ورجل تصديق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه ». وفي الحديث الآخر :« والصدقة تطفىء الخطيئة كما يطفىء الماء النار » والأحاديث في الحث عليها كثيرة جداً.
﴿ والصائمين والصائمات ﴾ والصوم زكاة البدن، يزكيه ويطهره وينقبه من الأخلاط الرديئة، كما قال سعيد بن جبير : من صام رمضان وثلاثة أيام من كل شهر دخل في قوله تعالى :﴿ والصائمين والصائمات ﴾ ولما كان الصوم من أكبر العون على كسر الشهوة، كما قال رسول الله ﷺ :« يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج، فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء »
2031
ناسب أن يذكره بعده ﴿ والحافظين فُرُوجَهُمْ والحافظات ﴾ أي عن المحارم والمآثم إلاّ عن المباح، كما قال عزَّ وجلَّ :﴿ والذين هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلاَّ على أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ ﴾ [ المؤمنون : ٥-٦ ]، وقوله تعالى :﴿ والذاكرين الله كَثِيراً والذاكرات ﴾، روى ابن أبي حاتم عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال : إن رسول الله ﷺ قال :« إذا أيقظ الرجل امرأته من الليل فصليا ركعتين كانا تلك الليلة من الذاكرين الله كثيراً والذاكرات » وفي الحديث :« ألا أخبركم بخير أعمالكم وأزكاها عند مليككم وأرفعها في درجاتكم، وخير لكم من تعاطي الذهب والفضة، ومن أن تلقوا عدوكم غداً فتضربوا أعناقهم ويضربوا أعناقكم؟ » قالوا : بلى يا رسول الله، قال ﷺ :« ذكر الله عزَّ وجلَّ » «، وروي أن رجلاً سأل النبي ﷺ فقال :» أي المجاهدين أعظم أجراً يا رسول الله؟ قال :ﷺ :« أكثرهم لله تعالى ذكراً »، قال : فأي الصائمين أكثر أجراً؟ قال ﷺ :« أكثر لله عزَّ وجلَّ ذكراً » ثم ذكر الصلاة والزكاة والحج والصدقة، كل ذلك يقول رسول الله ﷺ :« أكثرهم لله ذكراً » فقال أبو بكر لعمر رضي الله عنهما : ذهب الذاكرون بكل خير، فقال رسول الله ﷺ :« أجل » « وقوله تعالى :﴿ أَعَدَّ الله لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً ﴾ خبر عن هؤلاء المذكورين كلهم، أي أن الله تعالى قد أعد لهم أي هيأ لهم ﴿ مَّغْفِرَةً ﴾ منه لذنوبهم ﴿ وَأَجْراً عَظِيماً ﴾ وهو الجنة.
2032
عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : خطب رسول الله ﷺ ( زينب بن جحش ) لزيد بن حارثة رضي الله عنه، فاستنكفت منه، وقالت : أنا خير منه حسباً، وكانت امرأة فيها حدة، فأنزل الله تعالى :﴿ وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ ﴾ الآية كلها، وقال عبد الرحمن بن أسلم :« نزلت في ( أم كلثوم ) بنت عقبة بن أبي معيط رضي الله عنها، وكانت أول من هاجر من النساء يعني بعد صلح الحديبية فوهبت نفسها للنبي ﷺ فقال : قد قبلت، فزوجها زيد بن حارثة رضي الله عنه يعني والله أعلم بعد فراقه زينب، فسخطت هي وأخوها، وقالا : إنما أردنا رسول الله ﷺ، فزوجنا عبده » قال فنزل القرآن :﴿ وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى الله وَرَسُولُهُ أَمْراً ﴾ إلى آخر الآية، وروى الإمام أحمد عن أنس رضي الله عنه قال :« خطب النبي ﷺ ( جليبيب ) امرأة من الأنصار إلى أبيها فقال : حتى أستأمر أمها، فقال ﷺ :» نعم إذا « قال، فانطلق الرجل إلى امرأته، فذكر لها، فقالت : لاها الله إذن ما وجد رسول الله ﷺ إلا جليبياً، وقد منعناها من فلان وفلان، قال : والجارية في سترها تسمع، قال فانطلق الرجل يريد أن يخبر رسول الله ﷺ بذلك، فقالت الجارية : أتريدون أن تردوا على رسول الله ﷺ أمره، إن كان قد رضيه لكم فأنكحوه، قال : فكأنها جلت عن أبويها، وقالا : صدقت، فذهب أبوها إلى رسول الله ﷺ فقال : إن كنت رضيته فقد رضيناه، قال ﷺ :» فإني قد رضيته « »، قال فزوجها، ثم فزع أهل المدينة فركب جليبيب فوجدوه قد قتل، وحوله ناس من المشركين قد قتلهم، قال أنس رضي الله عنه : فلقد رأيتها وإنها لمن أنفق بيت بالمدينة. وذكر الحافظ أبو عمر بن عبد البر في « الاستيعاب » أن الجارية لما قالت في خدرها : أتردون على رسول الله ﷺ أمره؟ نزلت هذه الآية :﴿ وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى الله وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الخيرة مِنْ أَمْرِهِمْ ﴾ وقال ابن جريج عن طاووس قال : إنه سأل ابن عباس عن ركعتين بعد العصر، فنهاه وقرأ ابن عباس رضي الله عنه :﴿ وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى الله وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الخيرة مِنْ أَمْرِهِمْ ﴾ فهذه الآية عامة في جميع الأمور، وذلك أنه إذا حكم الله ورسوله بشيء، فليس لأحد مخالفته ولا اختيار لأحد هنا ولا رأي ولا قول، كما قال تبارك وتعالى :﴿ فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حتى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ في أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيماً ﴾ [ النساء : ٦٥ ]، وفي الحديث :« والذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به »، ولهذا شدد في خلاف ذلك فقال :﴿ وَمَن يَعْصِ الله وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً مُّبِيناً ﴾، كقوله تعالى :﴿ فَلْيَحْذَرِ الذين يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ [ الزمر : ٦٣ ].
يقول تعالى مخبراً عن نبيه ﷺ، أنه قال لمولاه ( زيد بن حارثة ) رضي الله عنه، وهو الذي ﴿ أَنعَمَ الله عَلَيْهِ ﴾ أي بالإسلام ومتابعة الرسول ﷺ ﴿ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ ﴾ أي بالعتق من الرق، وكان سيداً كبير الشأن جليل القدر، حبيباً إلى النبي ﷺ يقال له ( الحب ) ويقال لابنه أسامة ( الحب ابن الحب ) قالت عائشة رضي الله عنها : ما بعثه رسول الله ﷺ في سرية إلا أمّره عليهم، ولو عاش بعده لاستخفله، وكان رسول الله ﷺ قد زوّجه بابنة عمته ( زينب بنت جحش ) الأسدية رضي الله عنها، وأصدقها عشرة دنانير وستين درهماً وخماراً وملحفة ودرعاً؛ فمكث عنده قريباً من سنة أو فوقها، ثم وقع بينهما فجاء زيد يشكوها إلى رسول الله ﷺ، فجعل رسول الله ﷺ يقول له :« أمسك عليك زوجك واتق الله » قال الله تعالى :﴿ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا الله مُبْدِيهِ وَتَخْشَى الناس والله أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ ﴾. روى ابن أبي حاتم عن علي بن زيد بن جدعان قال : سألني علي بن الحسين رضي الله عنهما ما يقول الحسن في قوله تعالى :﴿ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا الله مُبْدِيهِ ﴾، فذكرت له، فقال لا، ولكن الله تعالى أعلم نبيه أنها ستكون من أزواجه قبل أن يتزوجها، فلما أتاه زيد رضي الله عنه ليشكوها إليه قال :« اتق الله وأمسك عليك زوجك » فقال : قد أخبرتك أني مزوجكها وتخفي في نفسك ما الله مبديه.
وروى ابن جرير عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت : لو كتم محمد ﷺ شيئاً مما أوحي إليه من كتاب الله تعالى لكتم ﴿ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا الله مُبْدِيهِ وَتَخْشَى الناس والله أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ ﴾، وقوله تعالى :﴿ فَلَمَّا قضى زَيْدٌ مِّنْهَا وَطَراً زَوَّجْنَاكَهَا ﴾ الوطر : هو الحاجة والأرب، أي لما فزع منها وفارقها زوجناكها، وكان الذي ولي تزويجها منه الله عزَّ وجلَّ، بمعنى أنه أوحى إليه أن يدخل عليها بلا ولي ولا عقد ولا مهر ولا شهود من البشر، عن أنس رضي الله عنه قال :« لما انقضت عدة زينب رضي الله عنها قال رسول الله ﷺ لزيد بن حارثة :» اذهب فاذكرها عليَّ « فانطلق حتى أتاها وهي تخمر عجينها قال : فلما رأيتها عظمت في صدري، حتى ما أستطيع أن أنظر إليها وأقول : إن رسول الله ﷺ ذكرها، فوليتها ظهري ونكصت على عقبي، وقلت : يا زينب أبشري أرسلني رسول الله ﷺ يذكرك، قالت : ما أنا بصانعة شيئا حتى أؤمر ربي عزَّ وجلَّ، فقامت إلى مسجدها، ونزل القرآن، وجاء رسول الله ﷺ، فدخل عليها بغير إذن، ولقد رأيتنا حين دخلت على رسول الله ﷺ وأطعمنا عليها الخبز واللحم، فخرج الناس ويبقى رجال يتحدثون في البيت بعد الطعام، فخرج رسول الله ﷺ واتبعته، فجعل ﷺ يتتبع حجر نسائه يسلم عليهم ويقلن : يا رسول الله كيف وجدت أهلك؟ فما أدري أنا أخبرته أن القوم قد خرجوا أو أخبر، فانطلق حتى دخل البيت فذهبت أدخل معه، فألقى الستر بيني وبينه ونزل الحجاب ووعظ القوم بما وعظوا به ﴿ لاَ تَدْخُلُواْ بُيُوتَ النبي إِلاَّ أَن يُؤْذَنَ لَكُمْ ﴾ [ الأحزاب : ٥٣ ] الآية كلها »
2034
، وقد روى البخاري رحمه الله عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال :« إن زينب بنت جحش رضي الله عنها كانت تفخر على أزواج النبي ﷺ، فتقول : زوجكن أهاليكن، وزوجني الله تعالى من فوق سبع سماوات » وقوله تعالى :﴿ لِكَيْ لاَ يَكُونَ عَلَى المؤمنين حَرَجٌ في أَزْوَاجِ أَدْعِيَآئِهِمْ إِذَا قَضَوْاْ مِنْهُنَّ وَطَراً ﴾ أي إنما أبحنا لك تزويجها وفعلنا ذلك لئلا يبقى حرج على المؤمنين في تزويج مطلقات الأدعياء، وذلك أن رسول الله ﷺ كان قبل النبوة قد تبنّى ( زيد بن حارثة ) رضي الله عنه، فكان يقول له ( زيد بن محمد ) فلما قطع الله تعالى هذه النسبة بقوله تعالى :﴿ وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَآءَكُمْ أَبْنَآءَكُمْ ﴾ [ الأحزاب : ٤ ] زاد ذلك بياناً وتأكيداً بوقوع تزويج رسول الله ﷺ بزينب بنت جحش رضي الله عنها لما طلقها زيد بن حارثة، ولهذا قال تعالى في آية التحريم ﴿ وَحَلاَئِلُ أَبْنَائِكُمُ الذين مِنْ أَصْلاَبِكُمْ ﴾ [ النساء : ٢٣ ] ليحترز من الابن الدعي، فإن ذلك كثيراً فيهم، وقوله تعالى :﴿ وَكَانَ أَمْرُ الله مَفْعُولاً ﴾ أي وكان هذا الأمر الذي وقع قد قدره الله تعالى وحتمه، وهو كائن لا محالة، كانت زينب رضي الله عنه عنها في علم الله ستصير من أزواج النبي صلى الله عليه سلم.
2035
يقول تعالى :﴿ مَّا كَانَ عَلَى النبي مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ الله ﴾ أي فيما أحل له وأمره به من تزويج زينب رضي الله عنها التي طلقها دعيه زيد بن حارثة رضي الله عنه، وقوله تعالى :﴿ سُنَّةَ الله فِي الذين خَلَوْاْ مِن قَبْلُ ﴾ أي هذا حكم الله تعالى في الأنبياء قبله لم يكن ليأمرهم بشيء وعليهم في ذلك حرج، وهذا رد من توهم من المنافقين نقصاً في تزويجه امرأة زيد مولاه ودعيه الذي كان قد تبناه، ﴿ وَكَانَ أَمْرُ الله قَدَراً مَّقْدُوراً ﴾ أي وكان أمره الذي يقدره كائناً لا محالة، وواقعاً لا محيد عنه ولا معدل، فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن.
يمدح تبارك وتعالى :﴿ الذين يُبَلِّغُونَ رِسَالاَتِ الله ﴾ إي إلى خلقه ويؤدونها بأماناتها ﴿ وَيَخْشَوْنَهُ ﴾ أي خافونه ولا يخافون أحداً سواه، فلا تمنعهم سطوة أحد عن إبلاغ رسالات الله تعالى ﴿ وكفى بالله حَسِيباً ﴾ أي وكفى الله ناصراً ومعيناً، وسيد الناس في هذا المقام، بل وفي كل مقام ( محمد ) رسول الله ﷺ، فإنه قام بأداء الرسالة وإبلاغها إلى أهل المشارق والمغارب، ثم ورث مقام البلاغ عنه أمته من بعده، فكان أعلى من قام بها بعده أصحابه رضي الله عنهم، بلغوا عنه كما أمرهم به في جميع أقواله وأفعاله وأحواله، في ليله ونهاره، وحضره وسفره، وسره وعلانيته، فBهم وأرضاهم، ثم ورثه كل خلف عن سلفهم إلى زماننا هذا، فبنورهم يقتدي المهتدون، وعلى منهجهم يسلك الموفقون، قال رسول الله ﷺ :« لا يحقرن أحدكم نفسه أن يرى أمر الله فيه مقال ثم لا يقوله، فيقول الله : ما يمنعك أن تقول منه، فيقول رب خشية الناس فيقول فأنا أحق أن يخشى ». وقوله تعالى :﴿ مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَآ أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ ﴾ نهى أن يقال بعد هذا ( زيد بن محمد ) أي لم يكن أباه وإن كان قد تبناه، فإنه ﷺ لم يعش له ولد ذكر حتى بلغ الحلم، فإنه ﷺ ولد له القاسم والطيب والطاهر من خديجة رضي الله عنها فماتوا صغاراً، وولد له ﷺ إبراهيم من مارية القبطية، فمات أيضاً رضيعاً، وكان له ﷺ من خديجة أربع بنات : زينب ورقية وأم كلثوم وفاطمة رضي الله عنهم أجمعين، فمات في حياته ﷺ ثلاث، وتأخرت فاطمة رضي الله عنها حتى أصيبت به ﷺ ثم ماتت بعده لستة أشهر، وقوله تعالى :﴿ ولكن رَّسُولَ الله وَخَاتَمَ النبيين وَكَانَ الله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً ﴾ فهذه الآية نص في أنه لا نبي بعده، وإذا كان لا نبي بعده فلا رسول بعده بالطريق الأولى والأحرى، لأن مقام الرسالة أخص من مقام النبوة.
وبذلك وردت الأحاديث المتواترة عن رسول الله ﷺ. روى الإمام أحمد عن أبي بن كعب عن النبي ﷺ قال :« مثلي في النبيين كمثل رجل بنى داراً فأحسنها وأكملها وترك فيها موضع لبنة لم يضعها فجعل الناس يطوفون بالبنيان ويعجبون منه ويقولون : لم تم موضع هذه اللبنة؟ فأنا في النبيين موضع تلك اللبنة » حديث آخر : روى الإمام أحمد عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال، قال رسول الله ﷺ :
2037
« » إن الرسالة والنبوة قد انقطعت فلا رسول بعدي ولا نبي « قال فشق ذلك على الناس فقال :» ولكن المبشرات « قالوا : يا رسول الله وما المبشرات؟ قال :» رؤيا الرجل المسلم وهي جزء من أجزاء النبوة « »، حديث آخر : روى أبو داود الطيالسي عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال، قال رسول الله ﷺ :« مثلي ومثل الأنبياء كمثل رجل بنى داراً فأكملها وأحسنها إلا موضع لبنة فكان من دخلها فنظر إليها قال : ما أحسنها إلا موضع هذه اللبنة، فأنا موضع اللبنة ختم بي الأنبياء ﷺ » حديث آخر : قال الإمام أحمد عن أبي هريرة رضي الله عنه قال، قال رسول الله ﷺ :« إن مثلي ومثل الأنبياء من قبلي كمثل رجل ابتنى بيوتاً فأكملها وأحسنها وأجملها إلا موضع لبنة من زاوية من زواياها فجعل الناس يطوفون ويعجبهم البنيان ويقولون ألا وضع هاهنا لبنة فيتم بنيانك قال رسول الله ﷺ فكنت أنا اللبنة » حديث آخر : قال الإمام أحمد عن العرباض بن سارية رضي الله عنه قال، قال لي النبي ﷺ :« إني عند الله لخاتم النبيين وإن آدم لمنجدل في طينته » حديث آخر : عن جبير بن مطعم رضي الله عنه قال :« سمعت رسول الله ﷺ يقول :» إن لي أسماء : أنا محمد وأنا أحمد، وأنا الماحي الذي يمحو الله تعالى به الكفر، وأنا الحاشر الذي يحشر الناس على قدمي، وأنا العاقب الذي ليس بعده نبي « ». فمن رحمة الله تعالى بالعباد إرسال محمد ﷺ إليهم، ثم من تشريفه لهم ختم الأنبياء والمرسلين به، وإكمال الدين الحنيف له، وقد أخبر تبارك وتعالى في كتابه العزيز أنه لا نبي بعده ليعلموا أن كل من ادعى هذا المقام بعده فهو كذاب أفاك دجال، ضال مضل.
2038
يقول تعالى آمراً عباده المؤمنين بكثرة الذكر لربهم تبارك وتعالى، المنعم عليهم بأنواع النعم وصنوف المنن، لما لهم في ذلك من جزيل الثواب، وجميل المآب، روى الإمام أحمد عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال، قال رسول الله ﷺ :« » ألا أنبئكم بخير أعمالكم وأزكاها عند مليككم فتضربوا أعناقهم ويضربوا أعناقكم «؟ قالوا : وما هو يا رسول الله؟ قال ﷺ :» ذكر الله عزَّ وجلَّ « ».
وعن عبد الله بن بشر قال :« جاء أعرابيان إلى رسول الله ﷺ، فقال أحدهما : يا رسول الله أي الناس خير؟ قال ﷺ :» من طال عمره وحسن عمله «، وقال الآخر : يا رسول الله إن شرائع الإسلام قد كثرت علينا فمرني بأمر أتشبث به، قال ﷺ :» لا يزال لسانك رطباً بذكر الله تعالى « » وفي الحديث :« أكثروا ذكر الله تعالى حتى يقولوا مجنون »، وقال رسول الله ﷺ :« ما من قوم جلسوا مجلساً لم يذكروا الله تعالى فيه إلا رأوه حسرة يوم القيامة »، وقال ابن عباس في قوله تعالى :﴿ اذكروا الله ذِكْراً كَثِيراً ﴾ إن الله تعالى لم يفرض على عباده فريضة، إلا جعل لها حداً معلوماً، ثم عذر أهلها في حال العذب غير الذكر، فإن الله تعالى لم يجعل له حداً ينتهي إليه، ولم يعذر أحداً في تركه إلا مغلوباً على تركه فقال :﴿ فاذكروا الله قِيَاماً وَقُعُوداً وعلى جُنُوبِكُمْ ﴾ [ النساء : ١٠٣ ] بالليل والنهار، في البر والبحر، وفي السفر والحضر، والغنى والفقر، والسقم والصحة، والسر والعلانية، وعلى كل حال. وقال عزَّ وجلَّ :﴿ وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً ﴾ فإذا فعلتم ذلك صلى عليكم هو وملائكته، والأحاديث والآيات والآثار في الحث على ذكر الله تعالى كثرة جداً.
وقوله تعالى :﴿ وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً ﴾ أي عند الصباح والمساء، كقوله عزَّ وجلَّ :﴿ فَسُبْحَانَ الله حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ ﴾ [ الروم : ١٧ ]، وقوله تعالى :﴿ هُوَ الذي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلاَئِكَتُهُ ﴾ هذا تهييج إلى الذكر، أي أنه سبحانه يذكركم فاذكروه أنتم، كقوله عزَّ وجلَّ :﴿ فاذكروني أَذْكُرْكُمْ واشكروا لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ ﴾ [ البقرة : ١٥٢ ]، وقال النبي صلى الله عليه سلم :« يقول الله تعالى من ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، ومن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منه » والصلاة من الله تعالى : ثناؤه على العبد عند الملائكة، حكاه البخاري عن أبي العالية، وقال غيره : الصلاة من الله عزَّ وجلَّ : الرحمة، وأما الصلاة من الملائكة فبمعنى الدعاء للناس والاستغفار، كقوله تبارك وتعالى :﴿ الذين يَحْمِلُونَ العرش وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُواْ رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَّحْمَةً وَعِلْماً فاغفر لِلَّذِينَ تَابُواْ واتبعوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الجحيم ﴾
2039
[ غافر : ٧ ]، وقوله تعالى :﴿ لِيُخْرِجَكُمْ مِّنَ الظلمات إِلَى النور ﴾ أي بسبب رحمته بكم وثنائه عليكم ودعاء ملائكته لكم، يخرجكم من ظلمات الجهل والضلال إلى نور الهدى واليقين، ﴿ وَكَانَ بالمؤمنين رَحِيماً ﴾ أي في الدنيا والآخرة، أما في الدنيا فإنه هداهم إلى الحق وبصّرهم الطريق، الذي ضل عنه الدعاة إلى الكفر أو البدعة، وأما رحمته بهم في الآخرة فآمنهم من الفزع الأكبر، وأمر ملائكته يتلقونهم بالبشارة بالفوز بالجنة والنجاة من النار، وما ذاك إلا لمحبته لهم ورأفته بهم. روى الإمام البخاري عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن رسول الله ﷺ رأى امرأة من السبي، قد أخذت صبياً لها، فألصقته إلى صدرها وأرضعته، فقال رسول الله صلى لله عليه وسلم :« » أترون هذه تلقي ولدها في النار وهي تقدر على ذلك «؟ قالوا : لا، قال رسول الله ﷺ :» فوالله، للهُ أرحم بعباده من هذه بولدها « »، وقوله تعالى :﴿ تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلاَمٌ ﴾ أي تحيتهم من الله تعالى يوم يلقونه سلام، أي يوم يسلم عليهم، كما قال عزَّ وجلَّ :﴿ سَلاَمٌ قَوْلاً مِّن رَّبٍّ رَّحِيمٍ ﴾ [ يس : ٥٨ ] وقال قتادة : المراد أنهم يحيي بعضهم بعضاً بالسلام يوم يلقون الله في الدار الآخرة، واختاره ابن جرير. ( قلت ) وقد يستدل بقوله تعالى :﴿ دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللهم وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلاَمٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الحمد للَّهِ رَبِّ العالمين ﴾ [ يونس : ١٠ ]، وقوله تعالى :﴿ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْراً كَرِيماً ﴾ يعني الجنة وما فيها من المآكل والمشارب والملابس والمساكن والمناكح والملاذ والمناظر مما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر.
2040
عن عطاء بن يسار، قال : لقيت عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما فقلت : أخبرني عن صفة رسول الله ﷺ في التوراة، قال : أجل، والله إنه لموصوف في التوراة ببعض صفته في القرآن ﴿ ياأيها النبي إِنَّآ أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً ﴾، وحرزاً للأميين، أنت عبدي ورسولي، سميتك المتوكل، ليس بفظ ولا غليظ ولا سخَّاب في الأسواق، ولا يدفع السيئة بالسيئة، ولكن يعفو ويصفح ويغفر، ولن يقبضه الله حتى يقيم به الملة العوجاء، بأن يقولوا لا إله إلا الله فيفتح بها أعيناً عمياً، وآذاناً صماً، وقلوباً غلفاً. وقال وهب بن منبه : إن الله تعالى أوحى إلى نبي من أنبياء بني إسرائيل يقال له ( شعياء ) أن قم في قومك بني إسرائيل، فإني منطق لسانك بوحي، وأبعث أمياً من الأميين، أبعثه ليس بفظ ولا غليظ ولا سخاب في الأسواق، لو يمر إلى جنب سراج لم يطفئه من سكينته، ولو يمشي على القصب لم يسمع من تحت قدميه، أبعثه مبشراً ونذيراً، لا يقول الخنا، أفتح به أعيناً كمها وآذاناً صماً وقلوباً غلفاً، أسدده لكل أمر جميل، وأهب له كل خلق كريم، وأجعل السكينة لباسه، والبرِّ شعاره، والتقوى ضميره، والحكمة منطقه، والصدق والوفاء طبيعته، والعفو والمعروف خلقه، والحق شريعته، والعدل سيرته، والهدى إمامه، والإسلام ملته، وأحمد اسمه، أهدي به بعد الضلال، وأعلِّم به بعد الجهالة، وأرفع به بعد الخمالة، وأعرف به بعد النكرة، وأكثر به بعد القلة، وأغني به بعد العيلة، وأجمع به بعد الفرقة، وأؤلف به بين أمم متفرقة وقلوب مختلفة، وأهواء متشتتة، وأستنقذ به فئاماً من الناس عظيمة من الهلكة وأجعل أمته خير أمة أخرجت للناس يأمرون المعروف وينهون عن المنكر، موحدين مؤمنين مخلصين، مصدقين لما جاءت به رسلي، ألهمهم التسبيح والتحميد، والثناء والتكبير والتوحيد، في مساجدهم ومجالسهم ومضاجهم ومنقلبهم ومثواهم، يصلون لي قياماً وقعوداً، ويقاتلون في سبيل الله صفوفاً وزحوفاً، ويخرجون من ديارهم ابتغاء مرضاتي ألوفاً، يطهرون الوجوه والأطراف، ويشدون الثياب في الأنصاف، قربانهم دماؤهم، وأناجيلهم في صدورهم، رهبان بالليل، ليوث بالنهار، وأجعل في أهذ بيته وذريته السابقين والصديقين، والشهداء والصالحين، أمته من بعده يهدون بالحق وبه يعدلون، وأعز من نصرهم وأؤيد من دعا لهم، وأجعل دائرة السوء على من مخالفهم، أو بغى عليهم، أو أراد أن ينتزع شيئاً مما في أيديهم، أجعلهم ورثة لنبيهم، والداعية إلى ربهم، يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويوفون بعهدهم، أختم بهم الخير الذي بدأته بأولهم، ذلك فضلي أوتيه من أشاء، وأنا ذو الفضل العظيم.
قال ابن عباس : لما نزلت ﴿ ياأيها النبي إِنَّآ أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً ﴾ وقد كان أمر علياً ومعاذاً رضي الله عنهما أن يسيرا إلى اليمن، فقال :
2041
« انطلقا فبشرا ولا تنفرا، ويسرا ولا تعسرا، إنه قد أنزل عليّ :﴿ ياأيها النبي إِنَّآ أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً ﴾ » فقوله تعالى :﴿ شَاهِداً ﴾ أي لله بالوحدانية، وأنه لا إله غيره وعلى الناس بأعمالهم يوم القيامة، ﴿ وَجِئْنَا بِكَ على هؤلاء شَهِيداً ﴾ [ النساء : ٤١ ]، كقوله :﴿ لِّتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى الناس وَيَكُونَ الرسول عَلَيْكُمْ شَهِيداً ﴾ [ البقرة : ١٤٣ ]، وقوله عزَّ وجلَّ ﴿ وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً ﴾ أي بشيراً للمؤمنين بجزيل الثواب، ونذيراً للكافرين من وبيل العقاب، وقوله جلت عظمته ﴿ وَدَاعِياً إِلَى الله بِإِذْنِهِ ﴾ أي داعياً للخلق إلى عبادة ربهم ﴿ وَسِرَاجاً مُّنِيراً ﴾ أي وأمرك ظاهر فيما جئت به من الحق كالشمس في إشراقهم وإضاءتها لا يجحدها إلا معاند. وقوله جلَّ وعلا :﴿ وَلاَ تُطِعِ الكافرين والمنافقين وَدَعْ أَذَاهُمْ ﴾ أي لا تطعهم وتسمع منهم في الذي يقولونه، ﴿ وَدَعْ أَذَاهُمْ ﴾ أي اصفح وتجاوز عنهم وكل أمرهم إلى الله تعالى، ولهذا قال جلَّ جلاله ﴿ وَتَوَكَّلْ عَلَى الله وكفى بالله وَكِيلاً ﴾.
2042
هذه الآية الكريمة فيها أحكام كثيرة، منها إطلاق النكاح على العقد وحده، وليس في القرآن آية أصرح في ذلك منها، لقوله تبارك وتعالى :﴿ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ ﴾ وفيها دلالة لإباحة طلاق المرأة قبل الدخول بها، وقوله تعالى :﴿ المؤمنات ﴾ خرج مخرج الغالب، إذ لا فرق في الحكم بين المؤمنة والكتابية في ذلك بالاتفاق، وقد استدل ابن عباس وجماعة من السلف بهذه الآية على أن الطلاق لا يقع إلا إذا تقدمه نكاح، لأن الله تعالى قال :﴿ إِذَا نَكَحْتُمُ المؤمنات ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ ﴾ فعقب النكاح وبالطلاق، وهذا مذهب الشافعي وأحمد بن حنبل، وذهب مالك وأبو حنيفة إلى صحة الطلاق قبل النكاح، فيما إذا قال : إن تزوجت فلانة فهي طالق، فعندهما متى تزوجها طلقت منه، فأما الجمهور فاحتجوا على عدم وقوع الطلاق بهذه الآية، قال ابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، قال : إذا قال ( كل امرأة أتزوجها فهي طالق ) ليس بشيء، من أجل أن الله تعالى يقول :﴿ ياأيها الذين آمنوا إِذَا نَكَحْتُمُ المؤمنات ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ ﴾ ألا ترى أن الطلاق بعد النكاح؟ وقد ورد الحديث بذلك عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال، قال رسول الله ﷺ :« لا طلاق لابن آدم فيما لا يملك » وفي رواية :« لا طلاق قبل النكاح » وقوله عزَّ وجلَّ :﴿ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا ﴾ هذا أمر مجمع عليه بين العلماء أن المرأة إذا طلقت قبل الدخول بها لا عدة عليها تذهب فتتزوج في فورها من شاءت، ولا يستثنى من هذا إلا المتوفى عنها زوجها فإنها تعتد منه أربعة أشهر وعشراً وإن لم يكن دخل بها بالإجماع أيضاً، وقوله تعالى :﴿ فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً ﴾ المتعة هاهنا أعم من أن تكون نصف الصداق المسمى أو المتعة الخاصة إن لم يكن قد سمى لها، قال الله تعالى :﴿ وَإِن طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ ﴾ [ البقرة : ٢٣٧ ]، وقال عزَّ وجلَّ :﴿ لاَّ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن طَلَّقْتُمُ النسآء مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُواْ لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الموسع قَدَرُهُ وَعَلَى المقتر قَدَرُهُ مَتَاعاً بالمعروف حَقّاً عَلَى المحسنين ﴾ [ البقرة : ٢٣٦ ]. وفي « صحيح البخاري » عن سهل بن سعد أن رسول الله ﷺ تزوج ( أميمة بن شراحبيل ) فلما أن دخلت عليه ﷺ بسط يده إليها فكأنها كرهت ذلك، فأمر أبا أسيد أن يجهزها ويكسوها ثوبين رازقيين. قال علي بن أبي طلحة : إن كان سمى لها صداقاً فليس لها إلا النصف، وإن لم يكن سمى لها صداقاً أمتعها على قدر عسره ويسره وهو السراح الجميل.
يقول تعالى مخاطباً نبيه ﷺ، بأنه قد أحل له من النساء أزواجه اللاتي أعطاهن مهورهن وهي الأجور هاهنا كما قاله مجاهد وغير واحد، وقد كان مهره لنسائه اثنتي عشرة أوقية ونصف، فالجميع خمسمائة درهم إلا ( أم حبيبة بنت أبي سفيان ) فإنه أمهرها عنه النجاشي رحمه الله تعالى أربعمائة دينار، وإلا ( صفية بنت حيي ) فإنه اصطفاها من سبي خيبر، ثم أعتقها وجعل عتقها صداقها، وكذلك ( جويرية بنت الحارث ) المصطلقية أدى عنها كتابتها إلى ثابت بن قيس بن شماس وتزوجها رضي الله عنهن أجمعين وقوله تعالى :﴿ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّآ أَفَآءَ الله عَلَيْكَ ﴾ أي وأباح لك التسري مما أخذت من المغانم، وقد ملك صفية وجويرية فأعتقهما وتزوجهما، وملك ريحانة بنت شمعون النضرية، ومارية القبطية أم ابنه إبراهيم عليهما السلام، وكانتا من السراري رضي الله عنهما، وقوله تعالى :﴿ وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالاَتِكَ ﴾ الآية، كان النصارى لا يتزوجون المرأة إلا إذا كان الرجل بينه وبينها سبعة أجداد فصاعداً، واليهود يتزوج أحدهم بنت أخيه وبنت أخته، فجاءت هذه الشريعة الكاملة الطاهرة بهدم إفراد النصارى، فأباح بنت العم والعمة، وبنت الخال والخالة، وحرم ما فرطت فيه اليهود من إباحة بنت الأخ والأخت وهذا شنيع فظيع، روى ابن أبي حاتم عن أم هانىء قالت : خطبني رسول الله ﷺ فاعتذرت إليه فعذرني، ثم أنزل الله تعالى :﴿ إِنَّآ أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللاتي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّآ أَفَآءَ الله عَلَيْكَ وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالاَتِكَ اللاتي هَاجَرْنَ مَعَكَ ﴾ قالت : فلم أكن أحل له، ولم أكن ممن هاجر معه، كنت من الطلقاء، وقال قتادة : المراد من هاجر معه إلى المدينة، وفي رواية عنه ﴿ اللاتي هَاجَرْنَ مَعَكَ ﴾ أي أسلمن، وقوله تعالى :﴿ وامرأة مُّؤْمِنَةً إِن وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النبي أَن يَسْتَنكِحَهَا خَالِصَةً لَّكَ ﴾ أي ويحل لك أيها النبي المرأة المؤمنة، إن وهبت نفسها لك أن تتزوجها بغير مهر إن شئت ذلك، عن سهل بن سعد الساعدي « أن رسول الله ﷺ وسلم جاءته امرأة فقالت : يا رسول الله إني قد وهبت نفسي لك، فقامت قياماً طويلاً، فقام رجل فقال : يا رسول الله زوجنيها إن لم يكن لك بها حاجة، فقال رسول الله ﷺ :» هل عندك من شيء تصدقها إياه «؟ فقال : ما عندي إلا إزاري هذا، فقال رسول الله ﷺ :» إن أعطيتها إزارك جلست لا إزار لك فالتمس شيئاً « فقال : لا أجد شيئاً، فقال :» التمس ولو خاتماً من حديد « فالتمس فلم يجد شيئاً، فقال له النبي ﷺ :» هل معك من القرآن شيء «؟ قال : نعم سورة كذا وسورة كذا السور يسميها فقال له النبي ﷺ :» زوجتكها بما معك من القرآن «.
2044
وعن ثابت قال :« كنت مع أنس جالساً وعنده ابنة له، فقال أنس : جاءت امرأة إلى النبي ﷺ فقالت : يا نبي الله هل لك فيَّ حاجة؟ فقالت انته : ما كان أقل حياءها فقال :» هي خير منك، رغبت في النبي فعرضت عليه نفسها « » وقال ابن أبي حاتم عن عائشة قالت : التي وهبت نفسها للنبي ﷺ خولة بن الحكيم، وعن عروة كنا نتحدث أن خولة بن الحكيم كانت وهبت نفسها لرسول الله ﷺ، وكانت امرأة صالحة، والغرض من هذا أن اللاتي وهبن أنفسهن للنبي ﷺ كثير، كما روى البخاري عن عائشة قالت : كنت أغار من اللاتي وهبن أنفسهن للنبي ﷺ وأقول : أتهب المرأة نفسها؟ فلما أنزل الله تعالى :﴿ تُرْجِي مَن تَشَآءُ مِنْهُنَّ وتؤوي إِلَيْكَ مَن تَشَآءُ وَمَنِ ابتغيت مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكَ ﴾ [ الأحزاب : ٥١ ] قلت : ما أرى ربك إلا يسارع في هواك. وقد قال ابن عباس : لم يكن عند رسول الله ﷺ امرأة وهبت نفسها له، أي أنه لم يقبل واحدة ممن وهبت نفسها له، وإن كان ذلك مباحاً له ومخصوصاً به لأنه مردود إلى مشيئته، كما قال الله تعالى :﴿ إِنْ أَرَادَ النبي أَن يَسْتَنكِحَهَا ﴾ أي إن اختار ذلك. وقوله تعالى :﴿ خَالِصَةً لَّكَ مِن دُونِ المؤمنين ﴾ قال عكرمة : أي لا تحل الموهوبة لغيرك، لو أن امرأة وهبت نفسها لرجل لم تحل له حتى يعطيها شيئاً، أي أنها إذا فرضت المرأة نفسها إلى رجل فإنه متى دخل بها وجب عليه لها مهر مثلها، ولهذا قال قتادة في قوله :﴿ خَالِصَةً لَّكَ مِن دُونِ المؤمنين ﴾ يقول : ليس لامرأة تهب نفسها لرجل بغير ولي ولا مهر إلا للنبي ﷺ، وقوله تعالى :﴿ قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ في أَزْوَاجِهِمْ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ ﴾ أي من حصرهم في أربع نسوة حرائر، وما شاءوا من الإماء، واشتراط الولي والمهر والشهود عليهم، وقد رخصنا لك في ذلك فلم نوجب عليك شيئاً منه ﴿ لِكَيْلاَ يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ وَكَانَ الله غَفُوراً رَّحِيماً ﴾.
2045
﴿ تُرْجِي ﴾ أي تؤخر ﴿ مَن تَشَآءُ مِنْهُنَّ ﴾ أي من الواهبات، ﴿ وتؤوي إِلَيْكَ مَن تَشَآءُ ﴾ أي من شئت رددتها، ومن رددتها فأنت فيها أيضاً بالخيار بعد ذلك إن شئت عدت فيها فأويتها، ولهذا قال :﴿ وَمَنِ ابتغيت مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكَ ﴾، قال الشعبي : كن نساءاً وهبن أنفسهن للنبي ﷺ فدخل ببعضهن وأرجأ بعضهن لم ينكحهن بعده، منهن أم شريك، وقال آخرون : بل المراد بقوله :﴿ تُرْجِي مَن تَشَآءُ مِنْهُنَّ ﴾ الآية، أي من أزواجك لا حرج عليك أن تترك القسم لهن، فتقدم من شئت، وتؤخر من شئت، وتجامع من شئت، وتترك من شئت؛ ومع هذا كان النبي ﷺ يقسم لهن، ولهذا ذهب طائفة من الفقهاء من الشافعية وغيرهم إلى أنه لم يكن القسم واجباً عليه ﷺ، واحتجوا بهذه الآية الكريمة، وروى البخاري « عن عائشة أن رسول الله ﷺ كان يستأذن في اليوم المرأة منا بعد أن نزلت هذه الآية :﴿ تُرْجِي مَن تَشَآءُ مِنْهُنَّ وتؤوي إِلَيْكَ مَن تَشَآءُ وَمَنِ ابتغيت مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكَ ﴾ فقلت لها : ما كنت تقولين؟ فقالت : كنت أقول : إن كان ذلك إليَّ فإني لا أريد يا رسول الله أن أوثر عليك أحداً »، ولهذا قال تعالى :﴿ ذَلِكَ أدنى أَن تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلاَ يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِمَآ آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ ﴾ أي إذا علمن أن الله قد وضع عنك الحرج في القسم، فإن شئت قسمت وإن شئت لم تقسم، لا جناح عليك في أي ذلك فعلت، ثم مع هذا أن تقسم لهن اختياراً منك، لا أنه على سبيل الوجوب، فرحن بذلك واستبشرن واعترفن بمنتك عليهن، في قسمتك وإنصافك لهن وعدلك فيهن، وقوله تعالى :﴿ والله يَعْلَمُ مَا فِي قلُوبِكُمْ ﴾ أي من الميل إلى بعضهن دون بعض مما لا يمكن دفعه، كما روي « عن عائشة قالت : كان رسول الله ﷺ يقسم بين نسائه فيعدل ثم يقول :» اللهم هذا فعلي فيما أملك فلا تلمني فيما تملك ولا أملك « »، زاد أبو داود : يعني القلب ولهذا عقب ذلك بقوله تعالى :﴿ وَكَانَ الله عَلِيماً ﴾ أي بضمائر السرائر، ﴿ حَلِيماً ﴾ أي يحلم ويغفر.
هذه الآية نزلت مجازاة لأزواج النبي ﷺ على حسن صنيعهن، في اختيارهن الله ورسوله والدار الآخرة، لما خيرهن رسول الله ﷺ كما تقدم، فلما اخترن رسول الله ﷺ كان جزاؤهن أن الله تعالى قصره عليهن، وحرّم عليه أن يتزوج بغيرهن أو يستبدل بهن أزواجاً غيرهن، ثم إنه تعالى رفع عنه الحرج في ذلك وأباح له التزوج، ولكن لم يقع منه بعد ذلك تزوج، لتكون المنة لرسول الله ﷺ عليهن، روي « عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت : ما مات رسول ﷺ حتى أحل الله له النساء »، وروى ابن أبي حاتم « عن أم سلمة أنها قالت : لم يمت رسول الله ﷺ حتى أحل له أن يتزوج من النساء ما شاء إلاّ ذات محرم، وذلك قول الله تعالى :﴿ تُرْجِي مَن تَشَآءُ مِنْهُنَّ ﴾ » [ الأحزاب : ٥١ ] فجعلت هذه ناسخة للتي بعدها في التلاوة كآيتي عدة الوفاة في البقرة، الأولى ناسخة للتي بعدها والله أعلم. وقال آخرون : بل معنى الآية ﴿ لاَّ يَحِلُّ لَكَ النسآء مِن بَعْدُ ﴾ أي من بعدما ذكرنا لك من صفة النساء، اللات أحللنا لك من نسائك اللاتي آتيت أجورهن وما ملكت يمينك، وبنات العم والعمات، والخال والخالات، والواهبة، وما سوى ذلك من أصناف النساء فلا يحل لك.
قال ابن جرير عن زياد عن رجل من الأنصار قال، قلت لأبي بن كعب، أرأيت لو أن أزواج النبي ﷺ توفين أما كان له أن يتزوج؟ فقال : وما يمنعه من ذلك؟ قال، قلت : قول الله تعالى :﴿ لاَّ يَحِلُّ لَكَ النسآء مِن بَعْدُ ﴾ فقال : إنما أحل الله له ضرباً من النساء، فقال تعالى :﴿ ياأيها النبي إِنَّآ أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ ﴾ إلى قوله ﴿ إِن وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ ﴾ [ الأحزاب : ٥٠ ] ثم قيل له :﴿ لاَّ يَحِلُّ لَكَ النسآء مِن بَعْدُ ﴾، وروى الترمذي عن ابن عباس قال نهي رسول الله ﷺ عن أصناف النساء إلاّ ما كان من المؤمنات المهاجرات بقوله تعالى :﴿ لاَّ يَحِلُّ لَكَ النسآء مِن بَعْدُ وَلاَ أَن تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلاَّ مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ ﴾، فأحل الله فتياتكم المؤمنات، وامرأة إن وهبت نفسها للنبي، وحرم كل ذات دين غير الإسلام، ثم قال :﴿ وَمَن يَكْفُرْ بالإيمان فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ ﴾ [ المائدة : ٥ ] الآية، وقال تعالى :﴿ ياأيها النبي إِنَّآ أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللاتي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ ﴾ [ الأحزاب : ٥٠ ] إلى قوله ﴿ خَالِصَةً لَّكَ مِن دُونِ المؤمنين ﴾ [ الأحزاب : ٥٠ ] وحرم ما سوى ذلك من أصناف النساء. وقال مجاهد :﴿ لاَّ يَحِلُّ لَكَ النسآء مِن بَعْدُ ﴾ أي من بعد ما سمى لك، لا مسلمة ولا يهودية، ولا نصرانية، ولا كافرة، وقال عكرمة ﴿ لاَّ يَحِلُّ لَكَ النسآء مِن بَعْدُ ﴾، أي التي سمى الله، واختار ابن جرير رحمه الله أن الآية عامة فيمن ذكر من أصناف النساء، وفي النساء اللواتي في عصمته وكن تسعاً، وهذا الذي قاله جيد ولعله مراد كثير ممن حكينا عنه من السلف فإن كثيراً منهم روى عنه هذا وهذا ولا منافاة والله أعلم.
هذه آية الحجاب، وفيها أحكام وآداب شرعية، وهي مما وافق تنزيلها قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه، كما ثبت ذلك في « الصحيحين » عنه أنه قال :« وافقت ربي عزَّ وجلَّ في ثلاث : قلت : يا رسول الله لو اتخذت من مقام إبراهيم مصلى، فأنزل الله تعالى :﴿ واتخذوا مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى ﴾ [ البقرة : ١٢٥ ]، وقلت : يا رسول الله إن نساءك يدخل عليهم البر والفاجر فلو حجبتهن فأنزل الله آية الحجاب، وقلت لأزواج النبي ﷺ، لمَّا تمالأن عليه في الغيرة ﴿ عسى رَبُّهُ إِن طَلَّقَكُنَّ أَن يُبْدِلَهُ أَزْوَاجاً خَيْراً مِّنكُنَّ ﴾ [ التحريم : ٥ ] فنزل كذلك »، وفي رواية لمسلم :« ذكر أسارى بدر » وهي قضية رابعة. وفي البخاري عن أنس بن مالك : قال، قال عمر بن الخطاب : يا رسول الله يدخل عليك البر والفاجر فلو أمرت أمهات المؤمنين بالحجاب، فأنزل الله آية الحجاب، وكان وقت نزولها في صبيحة عرس رسول الله ﷺ بزينب بنت جحش، وكان ذلك في ذي القعدة من السنة الخامسة في قول قتادة والواقدي وغيرهما، قال البخاري « عن أنس بن مالك : لما تزوج رسول الله ﷺ زينب بنت جحش دعا القوم فطعموا ثم جلسوا يتحدثون، فإذا هو يتهيأ للقيام فلم يقوموا، فلما رأى ذلك قام، فلما قام، قام من قام، وقعد ثلاثة نفر، فجاء النبي ﷺ ليدخل، فإذا القوم جلوس، ثم إنهم قاموا فانطلقوا فجئت، فأخبرت النبي ﷺ أنهم قد انطلقوا فجاء حتى دخل، فذهبت أدخل فألقى الحجاب بين وبينه، فأنزل الله تعالى :﴿ ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ تَدْخُلُواْ بُيُوتَ النبي إِلاَّ أَن يُؤْذَنَ لَكُمْ إلى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فادخلوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فانتشروا ﴾ » الآية.
وروى ابن أبي حاتم « عن أنس بن مالك قال : أعرس رسول الله ﷺ ببعض نسائه، فصنعت أم سليم حيساً ثم جعلته في تَوْر، فقالت : اذهب بهذا إلى رسول الله ﷺ وأقرئه منى السلام وأخبره أن هذا منا له قليل، قال أنس : والناس يومئذٍ في جَهْد فجئت به، فقلت : يا رسول الله بَعثَتْ بهذا أم سليم إليك، وهي تقرئك السلام وتقول أخبره أن هذا منا له قليل، فنظر إليه ثم قال :» ضعه « فوضعه في ناحية البيت ثم قال :» اذهب فادع لي فلاناً وفلاناً « فسمى رجالاً كثيراً، وقال :» ومن لقيت من المسلمين «، فدعوت من قال لي ومن لقيت من المسلمين فجئت والبيت والصفة والحجرة ملأى من الناس، فقلت : يا أبا عثمان كم كانوا؟ فقال : كانو زهاء ثلاثمائة، قال أنس : فقال لي رسول الله ﷺ :» جىءْ به « فجئت به إليه فوضع يده عليه ودعا، وقال :» ما شاء الله « ثم قال :» ليتحلق عشرة عشرة وليسموا، وليأكل كل إنسان مما يليه « فجعلوا يسمون ويأكلون حتى أكلوا كلهم، فقال لي رسول الله ﷺ :» ارفعه « قال : فجئت فأخذت التور، فنظرت فيه فما أدري أهو حين وضعت أكثر أم حين أخذت، قال : وتخلف رجال يتحدثون في بيت رسول الله ﷺ وزوج رسول الله ﷺ التي دخل بها معهم مولية وجهها إلى الحائط فأطالوا الحديث، فشقوا على رسول الله ﷺ وكان أشد الناس حياء، ولو أعلموا كان ذلك عليهم عزيزاً، فقام رسول الله ﷺ على حجره وعلى نسائه، فلما رأوه قد جاء ظنوا أنهم قد ثقلوا عليه ابتدروا الباب، فخرجوا، وجاء رسول الله ﷺ حتى أرخى الستر ودخل البيت وأنا في الحجرة فمكث رسول الله ﷺ في بيته يسيراً وأنزل الله عليه القرآن فخرج وهو يتلو هذه الآية :﴿ ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ تَدْخُلُواْ بُيُوتَ النبي ﴾ الآيات، قال أنس : فقرأهن عليَّ قبل الناس فأنا أحدث الناس بهن عهداً ».
2048
فقوله تعالى :﴿ لاَ تَدْخُلُواْ بُيُوتَ النبي ﴾ حظر على المؤمنين أن يدخلوا منازل رسول الله ﷺ بغير إذن، كما كانوا قبل ذلك يصنعون في بيوتهم في الجاهلية وابتداء الإسلام، حتى غار الله لهذه الأمة فأمرهم بذلك، وذلك من إكرامه تعالى هذه الأمة، ثم استثنى من ذلك فقال تعالى :﴿ إِلاَّ أَن يُؤْذَنَ لَكُمْ إلى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ ﴾ أي غير متحينين نضجه واستواءه، أي لا ترقبوا الطعام إذا طبخ حتى إذا قارب الاستواء تعرضتم للدخول، فإن هذا مما يكرهه ويذمه؛ وهذا دليل على تحريم التطفيل وهو الذي تسميه العرب الضيفن، ثم قال تعالى :﴿ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فادخلوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فانتشروا ﴾، عن ابن عمر رضي الله عنهما قال، قال رسول الله ﷺ :« إذا دعا أحدم أخاه فليجب عرساً كان أو غيره »، وفي الصحيح أيضاً عن رسول الله ﷺ :« لو دعيت إلى ذراع لأجبت، ولو أهدي إليّ كراع لقبلت، فإذا فرغتم من الذي دعيتم إليه فخففوا عن أهل المنزل وانتشروا في الأرض » ولهذا قال تعالى :﴿ وَلاَ مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ ﴾ أي كما وقع لأولئك النفر الثلاثة الذي استرسل بهم الحديث، ﴿ إِنَّ ذلكم كَانَ يُؤْذِي النبي فَيَسْتَحْيِي مِنكُمْ ﴾ وقيل : المراد أن دخولكم منزله بغير إذنه كان يشق عليه ويتأذى به، ولكن كان يكره أن ينهاهم عن ذلك، من شدة حيائه عليه السلام، حتى أنزل الله عليه النهي عن ذلك، ولهذا قال تعالى :﴿ والله لاَ يَسْتَحْيِي مِنَ الحق ﴾ أي ولهذا نهاكم عن ذلك وزجركم عنه، ثم قال تعالى :﴿ وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فاسألوهن مِن وَرَآءِ حِجَابٍ ﴾ أي وكما نهيتكم عن الدخول عليهن كذلك لا تنظروا إليهن بالكلية، ولو كان لأحدكم حاجة يريد تناولها منهم فلا ينظر إليهن، ولا يسألهن حاجة إلاّ من وراء حجاب.
2049
﴿ ذلكم أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ ﴾ أي هذا الذي أمرتكم به وشرعته لكم من الحجاب أطهر وأطيب، وقوله تعالى :﴿ وَمَا كَانَ لَكُمْ أَن تؤْذُواْ رَسُولَ الله وَلاَ أَن تنكحوا أَزْوَاجَهُ مِن بَعْدِهِ أَبَداً إِنَّ ذلكم كَانَ عِندَ الله عَظِيماً ﴾ قال ابن عباس : نزلت في رجل همَّ أن يتزوج بعض نساء النبي ﷺ بعده، قال رجل لسفيان : أهي عائشة؟ قال : قد ذكروا ذلك، وقال السدي : إن الذي عزم على ذلك ( طلحة بن عبيد الله ) رضي الله عنه، حتى نزل التنبيه على تحريم ذلك، ولهذا أجمع العلماء قاطبة على أن من توفي عنها رسول الله ﷺ من أزواجه أنه يحرم على غيره تزوجها من بعده، لأنهم أزواجه في الدنيا والآخرة وأمهات المؤمنين كما تقدم، وقد عظم الله تبارك وتعالى ذلك وشدد فيه وتوعد عليه بقوله :﴿ إِنَّ ذلكم كَانَ عِندَ الله عَظِيماً ﴾، ثم قال تعالى :﴿ إِن تُبْدُواْ شَيْئاً أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ الله كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً ﴾ أي مهما تكنه ضمائركم وتنطوي عليه سرائركم، فإن الله يعلمه فإنه لا تخفى عليه خافية ﴿ يَعْلَمُ خَآئِنَةَ الأعين وَمَا تُخْفِي الصدور ﴾ [ غافر : ١٩ ].
2050
لما أمر تبارك وتعالى النساء بالحجاب من الأجانب، بيّن أن هؤلاء الأقارب لا يجب الاحتجاب منهم كما استثناهم في سورة النور عند قوله تعالى :﴿ وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَآئِهِنَّ أَوْ آبَآءِ بُعُولَتِهِنَّ ﴾ [ النور : ٣١ ] الآية، وفيها زيادات على هذه وقد تقدم تفسيرها والكلام عليها بما أغنى عن إعادته هاهنا، وقوله تعالى :﴿ وَلاَ نِسَآئِهِنَّ ﴾ يعني بذلك عدم الاحتجاب من النساء المؤمنات، وقوله تعالى :﴿ وَلاَ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ ﴾ يعني به أرقاءهن من الإناث كما تقدم التنبيه عليه، قال سعيد بن المسيب : إنما يعني به الإماء فقط، وقوله تعالى :﴿ واتقين الله إِنَّ الله كَانَ على كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً ﴾ أي وأخشينه في الخلوة والعلانية، فإنه شهيد على كل شيء، لا تخفى عليه خافية، فراقبن الرقيب.
قال البخاري : قال أبو العالية : صلاة الله تعالى ثناؤه عليه عند الملائكة، وصلاة الملائكة الدعاء، وقال ابن عباس : يصلون يبركون، وقال سفيان الثوري : صلاة الرب الرحمة، وصلاة الملائكة الاستغفار، والمقصود من هذه الآية، أن الله سبحانه وتعالى أخبر عباده بمنزلة عبده ونبيه عنده في الملأ الأعلى، بأنه يثني عليه عند الملائكة المقربين، وأن الملائكة تصلي عليه، ثم أمر تعالى أهل العالم السفلي بالصلاة والتسليم عليه، ليجتمع الثناء عليه من أهل العالمين ( العلوي ) و ( السفلي ) جميعاً، قال ابن عباس : أن بني إسرائيل قالوا لموسى عليه السلام : هل يصلي ربك؟ فناداه ربه عزَّ وجلَّ : يا موسى سألوك هل يصلي ربك فقل نعم، أنا أصلي وملائكتي على أنبيائي ورسلي، فأزل الله عزَّ وجلَّ على نبيه ﷺ :﴿ إِنَّ الله وَمَلاَئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النبي ياأيها الذين آمَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلِّمُواْ تَسْلِيماً ﴾. وقد أخبر سبحانه وتعالى بأنه يصلي على عباده المؤمنين في قوله تعالى :﴿ هُوَ الذي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلاَئِكَتُهُ ﴾ [ الأحزاب : ٤٣ ] الآية، وقال تعالى :﴿ أولئك عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ ﴾ [ البقرة : ١٥٧ ] الآية، وفي الحديث :« إن الله وملائكته يصلون على ميامين الصفوف » وقد جاءت الأحاديث المتواترة عن رسول الله ﷺ بالأمر بالصلاة عليه، ونحن نذكر منه إن شاء الله ما تيسر، روى البخاري عند تفسير هذه الآية عن كعب بن عجرة قال :« قيل يا رسول الله أما السلام عليك فقد عرفناه فكيف الصلاة؟ قال :» قولوا اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد، الله بارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم إن حميد مجيد « »، وروى ابن أبي حاتم عن كعب بن عجرة قال :« لما نزلت ﴿ إِنَّ الله وَمَلاَئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النبي ياأيها الذين آمَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلِّمُواْ تَسْلِيماً ﴾ قال : قلنا يا رسول الله قد علمنا السلام عليك فكيف الصلاة عليك، قال :» قولوا اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إن حميد مجيد «، ومعنى قولهم : أما السلام عليك فقد عرفناه هو الذي في التشهد وفيه : السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته. حديث آخر وروى البخاري » عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال، قلنا : يا رسول الله هذا السلام عليك فكيف نصلي عليك؟ قال :« قولوا اللهم صل على محمد عبدك ورسولك كما صليت على آل إبراهيم وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم » «.
حديث آخر : قال مسلم عن أبي مسعود الأنصاري قال :»
أتانا رسول الله ﷺ ونحن في مجلس سعد بن عبادة فقال له بشير بن سعيد : أمرنا الله أن نصلي عليك يا رسول الله فكيف نصلي عليك؟ قال : فسكت رسول الله ﷺ حتى تمنينا أنه لم يسأله، ثم قال رسول الله ﷺ :« قولوا اللهم صلي على محمد وعلى آل محمد كما صليت على آل إبراهيم، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد، والسلام كما قد علمتم » «.
2052
ومن هنا ذهب الشافعي رحمه الله إلى أنه يجب على المصلي أن يصلي على رسول الله ﷺ في التشهد الأخير، فإن تركه لم تصح صلاته، على أن الجمهور على خلافه وحكوا الإجماع على خلافه وللقول بوجوبه ظواهر الحديث، فلا إجماع في هذه المسألة لا قديماً ولا حديثاً، والله أعلم.
( فضائل الصلاة على النبي ﷺ )
روى أبو عيسى الترمذي عن عبد الله بن مسعود أن رسول الله ﷺ قال :« أولى الناس بي يوم القيامة أكثرهم علي صلاة » حديث آخر : وروى الترمذي عن أبي بن كعب قال :« كان رسول الله ﷺ إذا ذهب ثلثا الليل قام فقال :» يا أيها الناس اذكروا الله اذكروا الله، جاء الراجفة تتبعها الرادفة، جاء الموت بما فيه، جاء الموت بما فيه « قال أبي : قلت يا رسول الله إني أكثر الصلاة عليك فكم أجعل لك من صلاتي؟ قال :» ما شئت « قلت الربع، قال :» ما شئت فإن زدت فهو خير لك « قلت فالنصف قال :» ما شئت فإن زدت فهو خير لك « قلت : فالثلثين، قال :» ما شئت فإن زدت فهو خير لك « قلت : أجعل لك صلاتي كلها، قال :» إذن تُكفى همك ويغفر لك ذنبك « » طريق أخرى : روى الإمام أحمد عن عبد الرحمن بن عوف قال :« قام رسول الله ﷺ فتوجه نحو صدقته فدخل فاستقبل القبلة فخر ساجداً فأطال السجود حتى ظننت أن الله قد قبض نفسه فيها فدنوت منه ثم جلست فرفع رأسه فقال :» من هذا قلت : عبد الرحمن، قال :« ما شأنك؟ » قلت : يا رسول الله سجدت سجدة خشيت أن يكن الله قبض روحك فيها، فقال :« إن جبريل أتاني فبشرني أن الله عزَّ وجلَّ يقول لك من صلى عليك صليت عليه ومن سلم عليك سلمت فسجدت لله عزَّ وجلَّ شكراً » « حديث آخر : قال الإمام أحمد عن عبد الله بن أبي طلحة عن أبيه :» أن رسول الله ﷺ جاء ذات يوم والسرور يرى في وجهه، فقالوا يا رسول الله إنا لنرى السرور في وجهك، فقال :« إنه أتاني الملك فقال : يا محمد أما يرضيك أن ربك عزَّ وجلَّ يقول : إنه لا يصلي عليك أحد من أمتك إلاّ صليت عليه عشراً، ولا يسلم عليك أحد من أمتك إلاّ سلمت عليه عشراً قال : بلى » «
2053
حديث آخر : روى مسلم وأبو داود والترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال، قال رسول الله ﷺ :« من صلى عليَّ واحدة صلى الله عليه بها عشراً » حديث آخر : قال الإمام أحمد بن أبي قيس مولى عمر بن العاص قال :« سمعت عبد الله بن عمرو يقول : من صلى على رسول الله ﷺ صلاة صلى الله عليه وملائكته لها سبعين صلاة، فليقلَّ عبد من ذلك أو ليكثر، وسمعت عبد الله بن عمرو يقول : خرج علينا رسول الله رسول الله ﷺ يوماً كالمودع، فقال :» أنا محمد النبي الأمي قاله ثلاث مرات ولا نبي بعدي، أوتيت فواتح الكلام وخواتمه وجوامعه، وعلمت كم خزنة النار وحملة العرش، وتجوز بي عوفيت وعوفيت أمتي، فاسمعوا وأطيعوا ما دمت فيكم، فإذا ذهب بي فعليكم بكتاب الله أحلوا حلاله وحرموا حرامه « حديث آخر : قال الإمام أحمد عن أنس قال : قال رسول الله ﷺ :» من صلى علي صلاة واحدة صلى الله عليه عشر صلوات وحط عنه عشر خطيئات « حديث آخر : قال الإمام أحمد عن علي بن الحسين عن أبيه أن رسول الله ﷺ قال :» البخيل من ذكرت عنده ثم لم يصل عليّ « حديث آخر : قال إسماعيل القاضي عن أبي ذر رضي الله عنه أن رسول الله ﷺ قال :» إن أبخل الناس من ذكرت عنده فلم يصل عليّ «، وروى عن الحسن البصري أن رسول الله ﷺ قال :» بحسب أمرىء من البخل أن أذكر عنده فلا يصليّ عليّ «.
حديث آخر : قال الترمذي عن أبي هريرة قال، قال رسول الله ﷺ :»
رغم أنف رجل ذكرت عنده فلم يصل عليَّ، ورغم أنف رجل دخل عليه شهر رمضان ثم انسلخ قبل أن يغفر له، ورغم أنف رجل أدرك عنده أبواه الكبر فلم يدخلاه الجنة « وهذا الحديث والذي قبله دليل على وجوب الصلاة على النبي ﷺ كلما ذكر، وهو مذهب طائفة من العلماء منهم الطحاوي والحليمي؛ وذهب أخرون إلى أنه تجب الصلاة عليه في المجلس مرة واحدة، ثم لا تجب في بقية ذلك المجلس، بل تستجب، ويتأيد بالحديث الذي رواه الترمذي عن أبي هريرة عن النبي ﷺ قال :
2054
« ما جلس قوم مجلساً لم يذكروا الله فيه ولم يصلوا على نبيهم إلاّ كان عليهم تِرَةَ يوم القيامة، فإن شاء عذبهم وإن شاء غفر لهم »، وحكي عن بعضهم : أنه إنما تجب الصلاة عليه ﷺ في العمر مرة واحدة امتثالاً لأمر الآية، ثم هي مستحبة في كل حال، وهذا هو الذي نصره القاضي عياض بعدما حكى الإجماع على وجوب الصلاة عليه ﷺ في الجملة.

فصل


وأما الصلاة على غير الأنبياء، فإن كانت على سبيل التبعية كما تقدم في الحديث : اللهم صلي على محمد وآله وأزواجه وذريته، فهذا جائز بالإجماع، وإنما وقع النزاع فيما إذا أفرد غير الأنبياء بالصلاة عليهم، فقال قائلون : يجوز ذلك، واحتجوا بقول الله تعالى :﴿ هُوَ الذي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلاَئِكَتُهُ ﴾ [ الأحزاب : ٤٣ ]، وبقوله :﴿ أولئك عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ ﴾ [ البقرة : ١٥٧ ]، وبقوله :﴿ خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ ﴾ [ التوبة : ١٠٣ ] الآية. وبحديث عبد الله بن أبي أوفى قال :« كان رسول الله صلى اليه عليه سلم إذا أتاه قوم بصدقتهم قال :» اللهم صلِّ عليهم « فأتاه أبي بصدقته فقال :» اللهم صلى على آل أبي أوفى « »، وقال الجمهور من العلماء : لا يجوز إفراد غير الأنبياء بالصلاة، لأن هذا قد صار شعاراً للأنبياء، إذا ذكروا، فلا يلحق بهم غيرهم، فلا يقال : قال أبو بكر صلى الله عليه، أو قال علي صلى الله عليه، وإن كان المعنى صحيحاً، كما لا يقال : قال محمد عزَّ وجلَّ، وإن كان عزيزاً جليلاً، لأن هذا من شعار ذكر الله عزَّ وجلَّ، وحملوا ما ورد في ذلك من الكتاب والسنّة على الدعاء لهم، ولهذا لم يثبت شعاراً لآل أبي أوفى ولا لجابر وامرأته، وهذا مسلك حسن. وأما السلام، فقال الجويني من أصحابنا : هو في معنى الصلاة فلا يستعمل في الغائب ولا يفرد به غير الأنبياء، فقال الجويني من أصحابنا : هو في معنى الصلاة فلا يستعمل في الغائب ولا يفرد به غير الأنبياء، فلا يقال : علي عليه السلام، وسواء في هذا الأحياء والأموات، وأما الحاضر فيخاطب به فيقال : سلام عليك وسلام عليكم أو السلام عليك أو عليكم، وهذا مجمع عليه، انتهى ما ذكره.
( قلت ) : وقد غلب هذا في عبارة كثير من النساخ للكتب أن يفرد علي رضي الله عنه بأن يقال عليه السلام من دون سائر الصحابة أو كرم الله وجهه، هذا وإن كان معناه صحيحاً لكن ينبغي أن يسوى بين الصحابة في ذلك فإن هذا من باب التعظيم والتكريم، فالشيخان وأمير المؤمنين عثمان أولى بذلك منه رضي الله عنهم أجمعين، قال عكرمة عن ابن عباس : لا تصح الصلاة على أحد إلا على النبي ﷺ، ولكن يدعى للمسلمين والمسلمات بالمغفرة، وكتب عمر بن عبد العزيز رحمه الله : أما بعد فإن ناساً من الناس قد التمسوا الدنيا بعمل الآخرة، وإن ناساً من القصاص قد أحدثوا في الصلاة على خلفائهم وأمرائهم عَدْلَ الصلاة على النبي ﷺ، فإذا جاءك كتابي هذا، فمرهم أن تكون صلاتهم على النبيين، ودعاؤهم للمسلمين عامة ويدعوا ما سوى ذلك.
2055
فرع قال النووي : إذا صلى على النبي ﷺ فليجمع بين الصلاة والتسليم، فلا يقتصر على أحدهما فلا يقول : صلى الله عليه فقط، ولا عليه السلام فقط. وهذا الذي قاله منتزع من هذه الآية الكريمة وهي قوله :﴿ ياأيها الذين آمَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلِّمُواْ تَسْلِيماً ﴾ فالأولى أن يقال ﷺ تسليماً.
2056
يقول تعالى متهدداً ومتوعداً من آذاه، بمخالفة أوامره وارتكاب زواجره، وإيذاء رسوله بعيب أو بنقص عياذاً بالله من ذلك قال عكرمة ﴿ إِنَّ الذين يُؤْذُونَ الله وَرَسُولَهُ ﴾ نزلت في المصورين، وفي « الصحيحين » عن أبي هريرة قال، قال رسول الله ﷺ :« يقول الله عزَّ وجلَّ : يؤذيني ابن آدم، يسب الدهر، وأنا الدهر أقلب ليله ونهاره » ومعنى هذا أن الجاهلية كانوا يقولون : يا خيبة الدهر، فعل بنا كذا وكذا، فيسندون أفعال الله تعالى إلى الدهر ويسبونه، وإنما الفاعل لذلك هو الله عزَّ وجلَّ فنهى عن ذلك، وقال ابن عباس في قوله تعالى :﴿ إِنَّ الذين يُؤْذُونَ الله وَرَسُولَهُ ﴾ نزلت في الذين طعنوا على النبي ﷺ في تزويجه صفية بن حيي بن أخطب، والظاهر أن الآية عامة في كل من آذاه بشيء، ومن آذاه فقد آذى الله كما أن من أطاعه فقد أطاع الله، كما قال رسول الله ﷺ :« الله الله في أصحابي لا تتخذوهم غرضاً بعدي، فمن أحبهم فبحبي أحبهم، ومن أبغضهم فببغضي أبغضهم، ومن آذاهم فقد آذاني، ومن آذاني فقد آذى الله، ومن آذى الله يوشك أن يأخذه » وقوله تعالى :﴿ والذين يُؤْذُونَ المؤمنين والمؤمنات بِغَيْرِ مَا اكتسبوا ﴾ أي ينسبون إليهم ما هم برآء منه لم يعملوه ولم يفعلوه ﴿ فَقَدِ احتملوا بُهْتَاناً وَإِثْماً مُّبِيناً ﴾ وهذا هو البهت الكبير أن يحكى أو ينقل عن المؤمنين والمؤمنات ما لم يفعلوه على سبيل العيب والتنقص لهم، ومن أكثر من يدخل في هذا الوعيد الرافضة الذي يتنقصون الصحابة، ويعيبونهم بما قد برأهم الله منه، ويصفونهم بنقيض ما أخبر الله عنهم، فإن الله عزَّ وجلَّ قد أخبر أنه قد رضي عن المهاجرين والأنصار ومدحهم، وهؤلاء الجهلة الأغبياء يسبونهم ويتنقصونهم، ويذكرون عنهم ما لم يكن ولا فعلوه أبداً، فهم في الحقيقة منكسو القلوب، يذمون الممدوحين ويمدحون المذمومين، وقد روى « عن عائشة رضي الله عنها قالت، قال رسول الله ﷺ لأصحابه :» أي الربا أربى عند الله «؟ قالوا : الله ورسوله أعلم، قال :» أربى الربا عند الله استحلال عرض امرىء مسلم « ثم قرأ :﴿ والذين يُؤْذُونَ المؤمنين والمؤمنات بِغَيْرِ مَا اكتسبوا فَقَدِ احتملوا بُهْتَاناً وَإِثْماً مُّبِيناً ﴾ ».
يقول تعالى آمراً رسوله ﷺ أن يأمر النساء المؤمنات خاصة أزواجه وبناته لشرفهن بأن يدنين عليه من جلابيبهن، ليتميزن عن سمات نساء الجاهلية، والجلباب هو الرداء فوق الخمار، وهو بمنزلة الإزار اليوم، قال الجوهري : الجلباب الملحفة، قالت امراة من هذيل يرثي قتيلاً لها :
تمشي النسور إليه وهي لاهية مشي العذارى عليهن الجلابيب
قال ابن عباس : أمر الله نساء المؤمنين إذا خرجن من بيوتهن في حاجة أن يغطين وجوههن من فوق رؤوسن بالجلابيب ويبدين عيناً واحدة، وقال محمد بن سيرين : سألت عبيدة السلماني عن قول الله عزَّ وجلَّ :﴿ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلاَبِيبِهِنَّ ﴾ فغطى وجهه ورأسه وأبرز عينه اليسرى، وقال عكرمة : تغطي ثغرة نحرها بجلبابها تدنيه عليها، عن أم سلمة قالت : لما نزلت هذه الآية ﴿ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلاَبِيبِهِنَّ ﴾ خرج نساء الأنصار كأن على رؤوسهن الغربان من السكينة وعليهن أكسية سود يلبسنها. وسئل الزهري هل على الوليدة خمار، متزوجة أو غير متزوجة؟ قال : عليها الخمار إن كانت متزوجة، وتنهى عن الجلباب، لأنه يكره لهن أن يتشبهن بالحرائر المحصنات، وقد قال الله تعالى :﴿ ياأيها النبي قُل لأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَآءِ المؤمنين يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلاَبِيبِهِنَّ ﴾.
وروي عن سفيان الثوري أنه قال : لا بأس بالنظر إلى زينة أهل الذمة وإنما نهي عن ذلك لخوف الفتنة لا لحرمتهن، واستدل بقوله تعالى :﴿ وَنِسَآءِ المؤمنين ﴾، وقوله :﴿ ذلك أدنى أَن يُعْرَفْنَ فَلاَ يُؤْذَيْنَ ﴾ أي إذا فعلن ذلك عرفن أنهن حرائر، لسن بإماء ولا عواهر، قال السدي : كان ناس من فساق أهل المدينة يخرجون بالليل حين يختلط الظلام إلى طرق المدينة، فيعرضون للنساء وكان مساكن أهل المدينة ضيقة، فإذا كان الليل خرج النساء إلى الطريق يقضين حاجتهن، فكان أولئك الفساق يبتغون ذلك منهم، فإذا رأوا المرأة عليها جلباب قالوا : هذه حرة فكفوا عنها، وإذا رأوا المرأة ليس عليها جلباب قالوا : هذه أمة فوثبوا عليها، وقال مجاهد : يتجببن فيعلم أنهن حرائر فلا يتعرض لهن فاسق بأذى ولا ريبة، وقوله تعالى :﴿ وَكَانَ الله غَفُوراً رَّحِيماً ﴾ أي لما سلف في أيام الجاهلية حيث لم يكن عندهن علم بذلك، ثم قال تعالى متوعداً للمنافقين وهم الذين يظهرون الإيمان ويبطنون الكفر ﴿ والذين فِي قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ ﴾ قال عكرمة وغيره : هم الزناة هاهنا، ﴿ والمرجفون فِي المدينة ﴾ يعني الذين يقولون جاء الأعداء وجاءت الحروب، وهو كذب وافتراء، لئن لم ينتهوا عن ذلك ويرجعوا إلى الحق ﴿ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ﴾ قال ابن عباس : أي لنسلطنك عليهم، وقال قتادة : لنحرشنك إليهم، وقال السدي : لنعلمنك بهم، ﴿ ثُمَّ لاَ يُجَاوِرُونَكَ فِيهَآ ﴾ أي في المدينة ﴿ إِلاَّ قَلِيلاً * مَّلْعُونِينَ ﴾ حال منهم في مدة أقامتهم في المدينة مدة قريبة مطرودين مبعدين ﴿ أَيْنَمَا ثقفوا ﴾ أي وجدوا، ﴿ أُخِذُواْ ﴾ لذلتهم وقلتهم، ﴿ وَقُتِّلُواْ تَقْتِيلاً ﴾. ثم قال تعالى :﴿ سُنَّةَ الله فِي الذين خَلَوْاْ مِن قَبْلُ ﴾ أي هذه سنته في المنافقين إذا تمردوا على نفاقهم وكفرهم، ولم يرجعوا عما هم فيه أن أهل الإيمان يسلطون عليهم ويقهرونهم، ﴿ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ الله تَبْدِيلاً ﴾ أي وسنّة الله في ذلك لا تبدل ولا تغير.
يقول تعالى مخبراً لرسوله صلوات الله وسلامه عليه أنه لا علم له بالساعة، وأرشده أن يرد علمها إلى الله عزَّ وجلَّ، لكن أخبره أنها قريبة بقوله :﴿ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ الساعة تَكُونُ قَرِيباً ﴾، كما قال تعالى :﴿ اقتربت الساعة وانشق القمر ﴾ [ القمر : ١ ]، وقال :﴿ اقترب لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُّعْرِضُونَ ﴾ [ الأنبياء : ١ ]، وقال :﴿ أتى أَمْرُ الله فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ ﴾ [ النحل : ١ ]، ثم قال :﴿ إِنَّ الله لَعَنَ الكافرين ﴾ أي ابعدهم من رحمته ﴿ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيراً ﴾ أي في الدار الآخرة ﴿ خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً ﴾ أي ماكثين مستمرين فلا خروج لهم منها ولا زوال لهم عنها، ﴿ لاَّ يَجِدُونَ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً ﴾ أي ليس لهم مغيث ولا معين ينقذهم مما هم فيه، ثم قال :﴿ يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النار يَقُولُونَ ياليتنآ أَطَعْنَا الله وَأَطَعْنَا الرسولا ﴾ أي يسحبون في النار على وجوههم، وتلوى وجوههم على جهنم، يتمنون أن لو كانوا في الدنيا ممن أطاع الله وأطاع الرسول، كما أخبر الله عنهم بقوله :﴿ وَيَوْمَ يَعَضُّ الظالم على يَدَيْهِ يَقُولُ ياليتني اتخذت مَعَ الرسول سَبِيلاً ﴾ [ الفرقان : ٢٧ ]، وقال تعالى :﴿ رُّبَمَا يَوَدُّ الذين كَفَرُواْ لَوْ كَانُواْ مُسْلِمِينَ ﴾ [ الحجر : ٢ ]، وهكذا أخبر عليهم في حالتهم هذه أنهم يودون أن لو كانوا أطاعوا الله وأطاعوا الرسول في الدنيا، ﴿ وَقَالُواْ رَبَّنَآ إِنَّآ أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَآءَنَا فَأَضَلُّونَا السبيلا ﴾ قال طاووس :﴿ سَادَتَنَا ﴾ يعني الأشراف و ﴿ كُبَرَآءَنَا ﴾ يعني العلماء، أي اتبعنا السادة وهم الأمراء والكبراء من المشيخة، وخالفنا الرسل ﴿ رَبَّنَآ آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ العذاب ﴾ أي بكفرهم وإغوائهم إيانا ﴿ والعنهم لَعْناً كَبِيراً ﴾ قرىء ( كبيراً ) وقرىء ( كثيراً ) وهما متقاربان في المعنى.
أخرج الإمام البخاري عن تفسير هذه الآية عن أبي هريرة قال، قال رسول الله ﷺ :« إن موسى عليه السلام كان رجلاً حيياً ستيراً لا يرى من جلده شيء استحياء منه فآذاه من آذاه من بني إسرائيل، فقالوا : ما يتستر هذا التستر إلا من عيب في جلده إما برص وإما أدرة وإما آفة، وإن الله عزَّ وجلَّ أراد أن يبرئه مما قالوا لموسى عليه السلام، فخلا يوماً وحده، فخلع ثيابه على حجر، ثم اغتسل، فلما فرغ أقبل على ثيابه ليأخذها، وإن الحجر عدا بثوبه، فأخذ موسى عصاه وطلب الحجر، فجعل يقول : ثوبي حجر، ثوبي حجر، حتى انتهى إلى ملأ من بني إسرائيل، فرأوه عرياناً أحسن ما خلق الله عزَّ وجلَّ، وأبرأه مما يقولون : وقام الحجر، فأخذ ثوبه، فلبسه، وطفق بالحجر ضرباً بعصاه، فوالله إن بالحجر لَنَدَباً من أثر ضربه ثلاثاً أو أربعاً أو خمساً قال فذلك قوله تعالى :﴿ ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ تَكُونُواْ كالذين آذَوْاْ موسى فَبرَّأَهُ الله مِمَّا قَالُواْ وَكَانَ عِندَ الله وَجِيهاً ﴾ » وعن ابن عباس في قوله :﴿ لاَ تَكُونُواْ كالذين آذَوْاْ موسى ﴾ قال، قال قومه له : إنك آدر، فخرج ذات يوم يغتسل فوضع ثيابه على صخرة فخرجت الصخرة تشتد بثيابه، وخرج يتبعها عرياناً، حتى انتهت به إلى مجالس بني إسرائيل، قال : فرأوه ليس بآدر فذلك قوله :﴿ فَبرَّأَهُ الله مِمَّا قَالُواْ ﴾، وروى الإمام أحمد، عن عبد الله بن مسعود قال :« قسم رسول الله ﷺ ذات يوم قسماً فقال رجل من الأنصار : إن هذه القسمة ما أريد بها وجه الله، قال، فقلت : يا عدو الله أما لأخبرن رسول الله ﷺ بما قلت، فذكرت ذلك للنبي ﷺ فاحمر وجهه ثم قال :» رحمة الله على موسى، لقد أوذي كثيراً من هذا فصبر « » وقوله تعالى :﴿ وَكَانَ عِندَ الله وَجِيهاً ﴾ أي له وجاهة وجاه عند ربه عزَّ وجلَّ، قال الحسن البصري : كان مستجاب الدعوة عند الله، وقال غيره من السلف : لم يسأل الله شيئاً إلا أعطاه، ولكن منع الرؤية لما يشاء عزَّ وجلَّ، وقال بعضهم : من وجاهته العظيمة عند الله أنه شفع في أخيه هارون أن يرسله الله معه فأجاب الله سؤاله فقال :﴿ وَوَهَبْنَا لَهُ مِن رَّحْمَتِنَآ أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيّاً ﴾ [ مريم : ٥٣ ].
يقول تعالى آمراً عباده المؤمنين بتقواه، وأن يعبدوهن عبادة من كأنه يراه، وأن يقولوا ﴿ قَوْلاً سَدِيداً ﴾ أي مستقيماً لا اعوجاج فيه ولا انحراف، ووعدهم أنهم إذا فعلوا ذلك أثابهم عليه، بأن يصلح لهم أعمالهم أن يوفقهم للأعمال الصالحة، وأن يغفر لهم الذنوب الماضية، ثم قال تعالى :﴿ وَمَن يُطِعِ الله وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً ﴾ وذلك أنه يجار من نار الجحيم، ويصير إلى النعيم المقيم، عن أبي موسى الأشعري قال :« صلى بنا رسول الله ﷺ صلاة الظهر فلما انصرف أومأ إلينا بيده فجلسنا فقال :» إن الله تعالى أمرني أن آمركم أن تتقوا الله وتقولوا قولاً سديداً « ثم أتى النساء فقال :» إن الله أمرني أن آمركن أن تتقين الله وتقلن قولاً سديداً « » وعن ابن عباس موقوفاً : من سره أن يكون أكرم الناس فليتق الله، قال عكرمة : القول السديد لا إله إلا الله، وقال غيره : السديد الصدق، وقال مجاهد : هو السداد، وقال غيره : هو الصواب، والكل حق.
قال ابن عباس : يعني بالأمانة ( الطاعمة ) عرضها عليهم قبل أن يعرضها على آدم فلم يطقنها، فقال لآدم : إني قد عرضت الأمانة على السماوات والأرض والجبال فلم يطقنها، فهل أنت آخذ بما فيها؟ قال : يا رب وما فيها؟ قال : إن أحسنت جزيت، وإن أسأت عوقبت، فأخذها آدم فحملها، فذلك قوله تعالى :﴿ وَحَمَلَهَا الإنسان إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً ﴾ وعنه الأمانة ( الفرائض ) عرضها الله على السماوات والأرض والجبال إن أدوها أثابهم وإن ضيعوها عذهبم فكرهوا ذلك وأشفقوا عليه من غير معصية، ولكن تعظيماً لدين الله أن لا يقوموا بها، ثم عرضها على آدم فقبلها بما فيها، وهو قوله تعالى :﴿ وَحَمَلَهَا الإنسان إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً ﴾ يعني غراً بأمر الله. وهكذا قال مجاهد والضحاك والحسن البصري : إن الأمانة هي الفرائض، وقال آخرون : هي الطاعة، وقال أبي بن كعب من الأمانة أن المرأة اؤتمنت على فرجها، وقال قتادة : الأمانة الدين والفرائض والحدود، وقال زيد بن أسلم : الأمانة ثلاثة الصلاة والصوم والاغتسال من الجنابة؛ وكل هذه الأقوال لا تنافي بينها، وبل هي متفقة وراجعة إلى أنها التكليف وقبول الأوامر والنواهي بشرطها، وهو أنه إن قام بذلك أثيب، وإن تركها عوقب، فقبلها الإنسان على ضعفه وجهله وظلمه، إلا من وفق الله وبالله المستعان. عن الحسن البصري أنه تلا هذه الآية. ﴿ إِنَّا عَرَضْنَا الأمانة عَلَى السماوات والأرض والجبال ﴾ قال : عرضها على السبع الطباق الطرائق التي زينت بالنجوم، وحملة العرش العظيم، فقيل لها : هل تحملين الأمانة وما فيها؟ قالت : وما فيها؟ قال : قيل لها إن أحسنت جزيت، وإن أسأت عوقبت، قالت : لا، ثم عرضها على الأرضين السبع الشداد التي شدت بالأوتاد، وذللت بالمهاد، قال فقيل لها : هل تحملين الأمانة وما فيها؟ قالت : ما فيها؟ قال، قيل لها : إن أحسنت جزيت وإن أسأت عوقبت، قالت : لا. وقال مقاتل بن حيان : إن الله تعالى حين خلق خلقه جمع بين الإنس والجن والسماوات والأرض والجبال، فبدأ بالسماوات فعرض عليهن الأمانة وهي الطاعة، فقال لهن أتحملن هذه الأمانة ولَكْنَّ عليَّ الفَضْلُ والكرامة والثواب في الجنة؟ فقلن : يا رب إنا لا نستطيع هذا الأمر، وليس بنا قوة ولكنا لك مطيعون، ثم عرض الأمانة على الأرضيين فقال لهن : أتحلمن هذه الأمانة وتقبلنها مني وأعطيطن الفضل والكرامة في الدنيا؟ فقلن : لا صبر لنا على هذا يا رب ولا نطيق ولكنا لك سامعون مطيعون لا نعصيك في شء أمرتنا بيه، ثم قرب آدم فقال له : أتحمل هذه الأمانة وترعاها حق رعايتها؟ فقال عند ذلك آدم : ما لي عندك؟ قال : يا آدم إن أحسنت وأطعت ورعيت الأمانة فلك عندي الكرامة والفضل وحسن الثواب في الجنة، وإن عصيت ولم ترعها حق رعايتها وأسأت فإني معذبك ومعاقبك وأنزلك النار، قال : رضيت يا رب، وتحملها فقال الله عزَّ وجلَّ عند ذلك : قد حملتكها فذلك قوله تعالى :﴿ وَحَمَلَهَا الإنسان ﴾.
2062
وروى ابن جرير عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عن النبي ﷺ أنه قال :« القتل في سبيل الله يكفر الذنوب كلها أو قال يكفر كل شيء إلا الأمانة، يؤتى بصاحب الأمانة فيقال له : أدِّ أمانتك فيقول : أنى يا رب وقد ذهبت الدنيا؟ فيقال له : أد أمانتك، فيقول : أنَّى يا رب، وقد ذهبت الدنيا؟ فيقال له : أد أمانتك، فيقول : أنَّى يارب وقد ذهبت الدنيا؟ فيقول : اذهبوا به إلى أمه الهاوية، فيذهب به إلى الهاوية، فيهوي فيها حتى ينتهي إلى قعرها فيجدها هنالك كهيئتها فيحملها فيضعها على عاتقه، فيصعد بها إلى شفير جهنم، حتى إذا رأى أنه قد خرج زلت قدمه فهوى في أثرها أبد الآبدين » قال : والأمانة في الصلاة، والأمانة في الصوم، والأمانة في الوضوء، والأمانة في الحديث، وأشد ذلك الودائع، فلقيت البراء فقلت : ألا تسمع ما يقول أخوك عبد الله؟ فقال : صدق، ومما يتعلق بالأمانة ما روي عن حذيفة رضي الله عنه قال : حدثنا رسول الله ﷺ حديثين قد رأيت أحدهما، وأنا أنتظر الآخر، حدثنا « أن الأمانة نزلت في حذر قلوب الرجال ثم نزل القرآن فعلموا من القرآن وعلموا من السنّة، ثم حدثنا عن رفع الأمانة فقال : ينام الرجل النومة فتقبض الأمانة من قلبه، فيظل أثرها مثل أثر المَجْل كجمر دحرجته على رجلك، تراه مُنْتَبراً، وليس فيه شيء قال : ثم أخذ حصى فدحرجه على رجله قال : فيصبح الناس يتبايعون لا يكاد أحد يؤدي الأمانة، حتى يقال : إن في بني فلان رجلاً أميناً، حتى يقال : للرجل ما أجلده وأظرفه وأعقله وما في قلبه حبة خردل من إيمان، ولقد أتى عليّ زمان، وما أبالي أيكم بايعت إن كان مسلماً ليردنّه عليّ دينه، وإن كان نصرانياً أو يهودياً ليردنه عليّ ساعيه، فأمال اليوم فما كنت أبايع منكم إلا فلاناً وفلاناً ». وروى الإمام أحمد عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أن رسول الله ﷺ قال :« أربع إذا كن فيك فلا عليك ما فاتك من الدنيا، حفظ أمامنة، وصدق حديث، وحسن خليقة، وعفة طِعمة ». وقوله تعالى :﴿ لِّيُعَذِّبَ الله المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات ﴾ أي إنما الإيمان خوفاً بني آدم الأمانة وهي التكاليف ﴿ لِّيُعَذِّبَ الله المنافقين والمنافقات ﴾ وهم الذين يظهرون الإيمان خوفاً من أهله ويبطنون الكفر متابعة لأهله ﴿ والمشركين والمشركات ﴾ وهم الذين ظاهرهم وباطنهم على الشرك بالله ومخالفة رسله، ﴿ وَيَتُوبَ الله عَلَى المؤمنين والمؤمنات ﴾ أي وليرحم المؤمنين من الخلق الذين آمنوا بالله وملائكته وكتبه ورسله العاملين بطاعته، ﴿ وَكَانَ الله غَفُوراً رَّحِيماً ﴾.
2063
Icon