ﰡ
ولما كان لا يظهر إلا لمن له قابلية ذلك، وأدمن اللزوم ذلاً للأعتاب، والقرع خضوعاً وحباً للأبواب، قال معلقاً ب " فصلت " أو " تنزيل " أو " الرحمن الرحيم " :﴿ لقوم ﴾ أي ناس فيهم قوة الإدراك لما يحاولونه ﴿ يعلمون * ﴾ أي فيهم قابلية العلم وتجدد الفهم بما فيهم من سلامة الطبع وسلاسة الانقياد لبراهين العقل والسمع وحدة الأذهان وفصاحة اللسان وصحة الأفكار وبعد الأغوار، وفي هذا تبكيت لهم في كونهم لا ينظرون محاسنه فيهتدوا بها كما يعتنون بالنظر في القصائد حتى يقضوا لبعضها على بعض حتى أنهم ليعلقون بعضها على الكعبة المشرفة تشريفاً له، وفيه حث لهم - وهم أولو العزائم الكبار - على العلم بع ليغتنوا عن سؤال اليهود، وفيه بشرى بأنه تعالى يهب العرب بعد هذا الجهل علماً كثيراً، وعن هذا الكفر إيماناً عظيماً كبيراً، وفي الآية إشارة إلى ذم المقترحين المشار إليهم آخر التي قبلها بأنهم قد أتاهم ما أغناهم عنه من آيات هذا الكتاب الذي عجزوا عن مباراته، ومناظرته ومجاراته وذلك في غاية الغرابة، لأنه كلام من جنس كلامهم في كونه عربياً، وقد خالف كلامهم في تخطيه من ذرى البلاغة إلى فنن تضاءلت عنها أشعارهم، وتقاصرت دونها خطبهم وأسجاعهم، مع كونه ليس شعراً ولا سجعاً أصلاً ولا هو من أنواع نثرهم، ولا من ضروب خطبهم، فعجزوا عن الإتيان بشيء من مثله في مر الأحقاب وكر الدهور والأعصار، وكفى بذلك معجزة شديدة الغرابة لمن ينيب.
وقال الإمام أبو جعفر ابن الزبير : لما تضمنت سورة غافر بيان حال المعاندين وجاحدي الآيات، وأن ذلك ثمرة تكذيبهم وجدلهم، وكان بناء السورة على هذا الغرض بدليل افتتاحها وختمها، ألا ترى قوله تعالى﴿ ما يجادل في آيات الله إلا الذين كفروا ﴾[ غافر : ٤ ] وتأنيس نبيه عليه أفضل الصلاة والسلام بقوله﴿ فلا يغررك تقلبهم في البلاد ﴾[ غافر : ٤ ] فقد تقدم ذلك من غيرهم فأعقبهم سوء العاقبة والأخذ الوبيل ﴿ كذبت قبلهم قوم نوح والأحزاب من بعدهم وهمت كل أمة برسولهم ليأخذوه ﴾ فعصمتهم واقية
﴿ أنا لننصر رسلنا ﴾[ غافر : ٥١ ] وقال تعالى :﴿ وجادلوا بالباطل ليدحضوا به الحق فأخذتهم فكيف كان عقاب ﴾[ غافر : ٥ ] أي رأيت ما حل بهم وقد بلغك خبرهم، فهلا اعتبر هؤلاء بهم﴿ أو لم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم كانوا هم أشد منهم قوة وءاثاراً في الأرض فأخذهم الله بذنوبهم وما كان لهم من الله من واق ﴾[ غافر : ٢١ ] وإنما أخذهم بتكذيبهم الآيات ﴿ ذلك بأنهم كانت تأتيهم رسلهم بالبينات فكفروا فأخذهم الله ﴾ ثم ذكر تعالى من حزب المكذبين فرعون وهامان وقارون، وبسط القصة تنبيهاً على سوء عاقبة من عاند وجادل بالباطل وكذب الآيات، ثم قال تعالى بعد آيات ﴿ إن الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان أتاهم إن في صدورهم إلا كبر ما هم ببالغيه ﴾ إذ الحول والقوة ليست لهم فاستعذ بالله }[ الأعراف : ٢٠٠ ] من شرهم، فخلق غيرهم لو استبصروا أعظم من خلقهم﴿ لخلق السماوات والأرض أكبر من خلق الناس ﴾[ غافر : ٥٧ ] وهم غير آمنين من الأخذ من كلا الخلقين﴿ إن نشأ نخسف بهم الأرض أو نسقط عليهم كسفاً من السماء ﴾[ سبأ : ٩ ] ثم قال تعالى بعد هذا ﴿ ألم تر إلى الذين يجادلون في آيات الله أنّى يصرفون ﴾ إن أمرهم لعجيب في صرفهم عن استيضاح الآيات بعد بيانها، ثم ذكر تعالى سوء حالهم في العذاب الأخروي وواهي اعتذارهم بقولهم﴿ ضلوا عنا بل لمن نكن ندعو من قبل شيئاً ﴾[ غافر : ٧٤ ] ثم صبر تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم بقوله :﴿ فاصبر إن وعد الله حق ﴾[ الروم : ٦٠ ] ثم أعاد تنبيههم فقال تعالى :﴿ أفلم يسيروا في الأرض ﴾ إلى ختم السورة، ولم يقع من هذا التنبيه الذي دارت عليه آي هذه السورة في سورة الزمر شيء ولا من تكرار التحذير من تكذيب الآيات، فلما بنيت على هذا الغرض أعقبت بذكر الآية العظيمة التي تحديت بها العرب، وقامت بها حجة الله سبحانه على الخلق، وكان قيل لهم : احذروا ما قدم لكم، فقد جاءكم محمد صلى الله عليه وسلم بأوضح آية وأعظم برهان ﴿ تنزيل من الرحمن الرحيم كتاب فصلت آياته قرآناً عربياً لقوم يعلمون بشيراً ونذيراً ﴾ وتضمنت هذه السورة العظيمة من بيان عظيم الكتاب وجلالة قدره وكبير الرحمة به ما لا يوجد في غيرها من أقرانها كما أنها في الفصاحة تبهر العقول بأول وهلة، فلا يمكن العربي الفصيح في شاهد برهان أدنى توقف، ولا يجول في وهمه إلى معارضة بعض آيها أدنى تشوف، وأنه لكتاب عزيز ﴿ لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد ﴾ ﴿ ولو جعلناه قرآناً أعجمياً لقالوا لولا فصلت آياته أعجمي وعربي ﴾ فوبخهم سبحانه وتعالى وأدحض حجتهم وأرغم باطلهم وبكَّت دعاويهم ثم قال ﴿ قل هو للذين آمنوا هدى وشفاء والذين لا يؤمنون في اذانهم وقر وهو عليهم عمى أولئك ينادون من مكان بعيد ﴾ ﴿ إنما يستجيب الذين يسمعون ﴾ وقرعهم تعالى في ركيك جوابهم عن واضح حجته بقولهم ﴿ قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه وفي آذاننا وقر ﴾ وقولهم ﴿ لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه ﴾ وهذه شهادة منهم على أنفسهم بالانقطاع عن معارضته، وتسجيلهم بقوة عارضته، ثم فضحهم بقوله ﴿ قل أرأيتم إن كان من عند الله ثم كفرتم به ﴾ - الآية، وتحملت السورة مع هذا بيان هلاك من عاند وكذب ممن كان قبلهم وأشد قوة منهم، وهم الذين قدم ذكرهم مجملاً في سورة غافر في آيتي ﴿ أو لم يسيروا في الأرض ﴾ ﴿ أفلم يسيروا ﴾ فقال تعالى مفصلاً لبعض ذلك الإجمال ﴿ فإن أعرضوا فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود ﴾ ثم قال ﴿ فأما عاد فاستكبروا في الأرض بغير الحق وقالوا من أشد منا قوة ﴾ ثم قال تعالى ﴿ فأرسلنا عليهم ريحاً صرصراً ﴾ الآية، ثم قال ﴿ وأما ثمود ﴾ فبين تعالى حالهم وأخذهم، فاعتضد التحام السورتين، واتصال المقصدين - والله أعلم - انتهى.
ولما كانت عادتهم دوام الاحتياط في كل بشارة ونذارة بأمر دنيوي، سبب عن هذا مخالفتهم لعادتهم في ترك الحزم بالجزم بالإعراض فقال :﴿ فأعرض أكثرهم ﴾ أي عن تجويز شيء من بشائره أو نذائره ﴿ فهم ﴾ لذلك ﴿ لا يسمعون * ﴾ أي يفعلون فعل من لا يسمع فهم لا يقبلون شيئاً مما دعا إليه وحث عليه.
ولما قطع حجتهم وأزال علتهم، سبب عن ذلك قوله :﴿ فاستقيموا ﴾ أي اطلبوا واقصدوا وأوجدوا القوام متوجهين وإن كان في غاية البعد عنكم ﴿ إليه ﴾ غير معرجين أصلاً على نوع شرك بشفيع ولا غيره. ولما كان أعظم المراد من الوحي العلم والعمل، وكان رأس العلم التوحيد فعرفه وأمر بالاستقامة فيه، أتبعه رأس العمل وهو ما أنبأ عن الاعتراف بالعجز مع الاجتهاد فقال :﴿ واستغفروه ﴾ أي اطلبوا منه غفران ذنوبكم، وهو محوها عيناً وأثراً حتى لا تعاقبوا عليها ولا تعاتبوا بالندم عليها، والإقلاع عنها حالاً ومآلاً. ولما أمر بالخير، رغب فيه ووهب من ضده، فكان التقدير للترغيب : فالفلاح والفوز لمن فعل ذلك، فعطف عليه ما السياق له فقال :﴿ وويل ﴾ أي سوأة وهلاك ﴿ للمشركين * ﴾.
ولما كان مما تضمنه إشراكهم وإنكارهم البعث أنهم أداهم شحهم إلى استغراقهم في الدنيا والإقبال بكلياتهم على لذاتها، فأنكروا الآخرة، فصار محط حالهم أنهم أثبتوا لمن لا فعل له أصلاً فعلاً لا يمكنه تعاطيه بوجه، ونفوا عن الفاعل المختار الذي هم لأفعاله الهائلة في كل وقت يشاهدون، وإليه في منافعهم ومضارهم يقصدون، ما أثبت لنفسه من فعله، فقال مؤكداً تنبيهاً على أن إنكارهم هذا مما لا يكاد يصدق :﴿ وهم بالآخرة ﴾ أي الحياة التي بعد هذه ولا بعد لها ﴿ هم ﴾ أي بخاصة من بين أهل الملل ﴿ كافرون * ﴾ فاختصموا بإنكار شيء لم يوافقهم عليه أحد في حق من يشاهدون في كل وقت من أفعاله أكثر من ذلك، وأثبتوا لمن لم يشاهدوا له فعلاً قط ما لا يمكنه فعله أصلاً، وهم يدعون العقول الصحيحة والآراء المتينة ورضوا لأنفسهم بالدناءة في منع الزكاة وحكموا بأعظم منها على الله وهم يدعون مكارم الأخلاق ومعالي الهمم، فأقبح بهذه عقولاً وأسفل بها همماً فقد تضمنت الآية أن الويل لمن اتصف بصفات ثلاث : الشرك الذي هو ضد التعظيم لأمر الله، والامتناع من الزكاة الذي هو ضد الشفقة على خلق الله وإنكار القيامة المؤدي إلى الاستغراق فيما أبغض الله من طلب الدنيا ولذاتها وهو من الاستهانة بأمر الله، قال الأصبهاني : وتمام الكلام في أنه لا زيادة على هذه المراتب الثلاثة أن الإنسان له ثلاثة أيام : أمس واليوم والغد، فمعرفة أنه كيف كانت أحواله بالأمس في الأزل هو بمعرفة الخالق لهذا العالم، ومعرفة كيف ينبغي وقوع الأحوال في اليوم الحاضر هو بالإحسان إلى أهل العلم بقدر الطاقة، ومعرفة الأحوال في اليوم المستقبل بالإقرار بالبعث والقيامة، فإذا كان الإنسان على ضد الحق في هذه المراتب الثلاثة كان في نهاية الجهل والضلال.
ولما بكتهم على قبيح معتقدهم، عظم ذلك بتعظيم شأنه سبحانه فقال :﴿ ذلك ﴾ أي الإله العظيم ﴿ رب العالمين * ﴾ أي موجدهم ومربيهم، وذلك يدل قطعاً على جميع ما له من صفات الكمال.
ولما كان لفظ ﴿ سواء ﴾ الذي هو بمعنى العدل الذي لا يزيد عن النصف ولا ينقص يطلب اثنين، تقول : سواء زيد وعمرو ﴿ إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ﴾ قال تعالى مزيلاً لما أوهمه قوله :﴿ أربعة أيام ﴾ من أنها للأقوات والبركة ليكون مع يومين من الأرض ستة، ناصباً على المصدر :﴿ سواء ﴾ أي التوزيع إلى يومين ويومين على السواء ﴿ للسائلين * ﴾ أي لمن سأل أو كان بحيث يسأل ويشتد بحثه بسؤال أو نظر عن التوفيق بين ظاهر هذه الآية وبين غيرها، ولا يتأتى السواء إلا بين يومين ويومين لا بين يومين وأربعة، لا يزيد أحد الشقين من اليومين على اليومين الآخرين ذرة بعلم محيط وقدرة شاملة، وليس ذلك كأيام الدنيا لا بد في كل يوم منها من زيادة عن الذي قبله أو نقص، ومجموع الأربعة كأربعة من أيام الدنيا لا تزيد عليها ولا تنقص، وقراءة يعقوب بجر " سواء " معينة لأن تكون نعتاً ل " أربعة " وقراءة أبي جعفر بالرفع خبر لمبتدأ محذوف، وعن خلقها وتتميمها في أربعة أيام كانت فصولها أربعة، قال ابن برجان : ألا ترى الأمرينزل إلى السماء أولاً في إنزال الماء فيخلقه فيما هنالك ثم ينزله إلى الأرض والنبات والحيوان عن الماء الذي ينزل من السماء إلى الأرض بمنزلة النسل بين الذكر والأنثى وبمنزلة تسخير السماء والأرض وما بينهما لما وجدنا له فافهم - أمر قويم وحكمة شائعة آية ذلك قضاؤه بركات الأرض في أربعة أيام بواسطة ما قدر في السماء من أمر وهي الأربعة الفصول من السنة. الشتاء والربيع والصيف والخريف، فهذه الأيام معلومة بالمشاهدة، فيهن يتم زرع الأرض وبركات الدنيا وجميع ما يخرجه منها من فؤائد وعجائب، قال : وقوله " للسائلين " تعجيب وإغراب وتعظيم للمراد المعنى بالخطاب، وقد يكون معنى السواء زائداً إلى ما تقدم أن بهذه الأربعة الأيام استوت السنة مطالعها ومغاربها وقربها وبعدها وارتفاعها ونزولها في شمالي بروجها وجنوبيها باحكام ذلك كله وتوابعه - انتهى.
ولما جعلهما موضع المخاطبة للتي هي للعقلاء والتكلم، قال جامعاً لهما باعتبار أفرادهما وما فيهما جمع من يعقل :﴿ طائعين * ﴾ أي في كل ما رسمته فينا لا نحمل من ذلك شيئاً بل نبذله على ما أمرت به لا نغير ولا نبدل، وذلك هو بذلهما للأمانة، وعدم حملها، وجمع الأمر لهما في الإخبار لا يدل على جمعه في الزمان، بل قد يكون القول لهما متعاقباً
ولما عم، خص ما للتي تلينا إشارة إلى تشريفنا، فقال صارفاً القول إلى مظهر العظمة تنبيهاً على ما في هذه الآية من العظم :﴿ وزينّا ﴾ أي بما لنا من العظمة ﴿ السماء الدنيا ﴾ أي القربى إليكم لأجلكم ﴿ بمصابيح ﴾ من زواهر النجوم، وشفوفها عنها لا ينافي أن تكون في غيرها مما هو أعلى منها، ودل السياق على أن المراد : زينة ﴿ و ﴾ حفظناها بها ﴿ حفظاً ﴾ من الشياطين، فالآية من الاحتباك : حذف فعل الحفظ بدلالة المصدر، ومصدر الزينة بما دل عليه من فعلها.
ولما كان هذا أمراً باهراً، نبه على عظمته بقوله صارفاً الخطاب إلى صفتي العز والعلم إعلاماً بأنهما أساس العظمة ومدارها :﴿ ذلك ﴾ أي الأمر الرفيع والشأن البديع ﴿ تقدير العزيز ﴾ الذي لا يغلبه شيء وهو يغلب كل شيء ﴿ العليم * ﴾ المحيط علماً بكل شيء وكما قدر سبحانه ذلك بعزته وعلمه قضى أنه لا يفيد العز الدائم إلا ما شرعه من العلم، وفي ختمه بالوصفين بشارة للأمة التي خوطبت بهما أنه يوتيها من عزه وعلمه لا سيما بالهبة وما شاكلها من الطبائع وغيرها ما لم يؤت أمة من الأمم قبلها، وسر خلقه سبحانه العالم في مدة ولم يكن قي لمحة وجعلها ستة لا أقل ولا أكثر أنه لو خلقه في لمحة لكان ذلك شبهة لمن يقول : إنه فاعل بالذات لا بالاختيار، فاقتضى الحال عدداً، ثم اقتضى الحال أن يكون ستة لأنها أول عدد يدل على الكمال لأنها عدد تام كسورها لا تزيد عنها ولا تنقص، فآذن ذلك بأن للفاعل نعوت الكمال وأوصاف التمام والتعال، ولم يخلقه فيما دون ذلك من العدد لأنه ناقص، وخلق الأرض في يومين لأن الاثنين عدد يدل على الفردانية فهو قائد للعبيد إلى التوحد، وجعل اليومين مكررين باعتبار الذات والمنافع إيذاناً بما يقع فيها من المعصية بالشرك الذي هو تثنية وإفك، ولم يكرر في السماء لأن آياتها أدل على التوحيد ولم يحصل من أهلها ما يدل على الوعيد، وليكون إيجادها في أقل من مدة الأرض - مع أنها أكبر جرماً وأعجب صنعاً وأتقن جسماً - أدل على الفعل بالاختيار بعجائب الحكم وغرائب الأسرار الكبار.
ولما كان التخويف بما تسهل مشاهدة مثله أوقع في النفس قال: ﴿مثل صاعقة عاد وثمود *﴾ أي الذين تنظرون ديارهم وتستعظمون آثارهم، وعلل إيقاع ذلك بهم بقوله: ﴿إذا﴾ ويجوز أن يكون ظرفاً لصاعقة وظرفيته لا تنافي عليته أي حين ﴿جاءتهم الرسل﴾ لأن الزمان الطويل يجوز نسبة ما وقع في جزء منه إليه، ولما كانت الرسل إنما أتت بالفعل في بعض الزمان أدخل الجار فقال: ﴿من بين أيديهم﴾ أي من قبلهم لأن النذير الأول نذير لكل من أتى بعده بأنه إن واقع ما واقعه أتاه ما عذب به ﴿ومن خلفهم﴾ وهم من أتى إليهم لأنهم
ولما كان التقدير أن يقال إنكاراً عليهم: ألم يروا أن الله لو شاء لجعلهم كغيرهم، عطف عليه قوله: ﴿أو لم يروا﴾ أي يعلموا علماً كما هو كالمشاهدة لأنه غريزة في الفطرة الأولى فهو علم ضروري ﴿أنّ الله﴾ أي المحيط بكل شيء قدرة وعلماً ﴿الذي خلقهم﴾ ولم يكونوا شيئاً ﴿هو أشد منهم قوة﴾ ومن علم أن غيره أقوى منه وكان عاقلاً
ولما بين أنهم أوجدوا الكبر، عطف عليه من غرائزهم ما هو أصل لكل سوء، فقال مبيناً قرط جهلهم باجترائهم على العظمة التي شأنها قصم الظالم وأخذ الآثم: ﴿وكانوا﴾ أي طبعاً لهم ﴿بآياتنا﴾ على ما لها من العظمة بنسبتها إلينا ﴿يجحدون *﴾ أي ينكرون إنكاراً يضمحل عنده كل إنكار عناداً مع علمهم بأنها من عندنا ﴿فأرسلنا﴾ بسبب ذلك على ما لنا من العظمة، ودل على صغارهم وحقارتهم بأداة الاستعلاء فقال: ﴿عليهم﴾ وزاد في تحقيرهم بأن أخبر أنه أهلكهم لأجل ما تعززوا به من قوة أبدانهم ووثاقة خلقهم بما هو من ألطف الأشياء جسماً وهو الهواء فقال: ﴿ريحاً﴾ أي عظيمة ﴿صرصراً﴾ أي شديدة البرد والصوت والعصوف حتى كانت تجمد البدن ببردها فتكون كأنها تصره - أي تجمعه - في موضع واحد فتمنعه التصرف بقوته، وتقطع القلب بصوتها، فتقهر شجاعته، وتحرق بشدة بردها كل ما مرت عليه.
ولما تقدم في هذا السياق استكبارهم على الوجه المذكور وادعاؤهم
ولما انتفت مدافعتهم عن أنفسهم، نفى دفع غيرهم فقال: ﴿وهم﴾ أي أصابهم هذا العذاب وسيصيبهم عذاب الآخرة والحال أنهم ﴿لا يُنصرون *﴾ أي لا يوجد ولا يتجدد لهم نصر أبداً بوجه من الوجوه.
ولما أتم الخبر عن الكافرين من الفريقين، أتبعه الخبر عن مؤمنيهم بشارة لمن اتبع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ونذارة لمن صد عنه فقال: ﴿ونجينا﴾ أي تنجية عظيمة ﴿الذين آمنوا﴾ أي أوجدوا هذا الوصف ولو على أدنى وجوهه من الفريقين ﴿وكانوا﴾ أي كوناً عظيماً ﴿يتقون *﴾ أي يتجدد لهم هذا الوصف في كل حركة وسكون فلا يقدمون على شيء بلا دليل.
ولما بين إهانتهم بالوزع، بين غاياتها فقال: ﴿حتى إذا﴾ وأكد
ولما أخبر بهذا الذي يفتت الحجارة لو علقت ساعة ما، أخبر أنه لم يفدهم الرجوع عن طبعهم الجافي وبلادتهم الكثيفة، فقال عاطفاً على ما تقديره: فلم تفدهم هذه الشهادة خجلاً من الله ولا خضوعاً في أنفسهم ولا رجوعاً عن الجدال والعناد كما لم يفدهم ذلك مجرد علم الله
ولما كان هذا محل عجب منهم، وكان متضمناً لجهلهم بظنهم أنه كان لها قدرة على السكوت، وكان سؤالهم عن العلة ليس على حقيقته وإنما المراد به اللوم، أجيب من تشوف إلى الجواب بقوله معبراً لنطقها بصيغة ما يعقل: ﴿قالوا﴾ معتذرين: ﴿أنطقنا﴾ قهراً ﴿الله﴾ الذي له مجامع العز على وجه لم نقدر على التخلف عنه. ولما كان حال الكفار دائماً دائراً بين غباوة وعناد، أقاموا لهم على ذلك دليلين شهوديين فقالوا: ﴿الذي أنطق كل شيء﴾ أي فعلاً أو قوة أو حالاً ومقالاً.
ولما كانت الأشياء كلها متساوية الأقدام في الإنطاق والإخراس وغيرهما من كل ما يمكن بالنسبة إلى قدرته سبحانه، نبهوهم على ذلك بقولهم: ﴿وهو خلقكم أول مرة﴾ والعلم القطعي حاصل عندكم بأنكم كنتم عدماً ثم نطفاً لا تقبل النطق في مجاري العادات بوجه، ثم طوركم في أدوار الأطوار كذلك إلى أن أوصلكم إلى حيز الإدراك، فقسركم
«هل تدرون ممّ أضحك؟ قلنا: الله ورسوله أعلم، قال: من مخاطبة العبد ربه، يقول: يا رب ألم تجرني من الظلم؟ قال: يقول: بلى، اقل: فيقول: فإني لا أجيز إلا شاهداً مني، قال: فيقول: كفى بنفسك اليوم شهيداً وبالكرام الكاتبين شهوداً، قال: فيختم على فيه فيقال لأركانه: انطقي، فتنطق بأعماله، ثم يخلى بينه وبين الكلام فيقول: بعداً لكن وسحقاً فعنكن كنا أناضل».
ولما كان ذكر المعصية وما جرأ عليها يقتضي انتقاصاً يقدح في الإلهية، بين أنه الموجب للغضب فقال: ﴿وذلكم﴾ أي الأمر العظيم في القباحة، ثم بينه بقوله: ﴿ظنكم﴾ أي الفاسد، ووصفه بقوله: ﴿الذي ظننتم بربكم﴾ أي الذي طال إحسانه إليكم من أنه لا يعلم حالكم، ثم أخبر عنه بقوله: ﴿أردناكم﴾ أي تسبب عنه خاصة أنه أهلككم. وأما معاصي الجوارح مع التوحيد والتنزيه فأمرها أسهل، والحاصل أن كل ظن كان غير مأذون فيه من الشارع فهو يردي صاحبه.
ولما كان الصباح محل رجاء الأفراح، فكان شر الأتراح ما كان فيه، قال: ﴿فأصبحتم﴾ أي بسبب أن ما أعطيتموه من النعم لتستنقذوا به أنفسكم من الهلاك كان سبب هلاككم ﴿من الخاسرين *﴾ أي العريقين في الخسارة، المحكوم بخسارتهم في جميع ذلك اليوم، وصوره بأقبح صورة وهو الصباح، فالمعنى أنه إذا صار حالكم حال من أصبح كذلك لم يكن للربح وقت يتدارك فيه بخلاف ما لو وجد ذلك عن المساء فإنه
ولما كان ذلك، تسبب عنه قوله لافتاً القول عن خطابهم إيذاناً بشدة الغضب وإشارة ألى أنهم لما وصلوا إلى ما ذكر من الحال أعيا عليهم المقال، فلم يقدروا على نطق بلسان، ولا إشارة برأس ولا بنان: ﴿فإن يصبروا﴾ أي على ما جوزوا به فليس صبرهم بنافعهم، وهو معنى قوله: ﴿فالنار مثوى﴾ أي منزلاً ﴿لهم وإن يستعتبوا﴾ أي يطلبوا الرضى بزوال العتب وهو المؤاخذة بالذنب ﴿فما هم من المعتبين *﴾ أي المرضيين الذين العتب عليهم ليعفي عنهم ويترك عذابهم.
ولما ذكر وعيدهم في الدنيا والآخرة، أتبعه كفرهم الذي هو سبب الوعيد، وعطفه على ما تقديره: فإنا طبعناهم طبيعة سوء تقتضي أنهم لا ينفكون عما يوجب العتب، فأعرضوا ولم تنفعهم النذرى بصاعقة عاد وثمود، فقال صارفاً القول إلى مظهر العظمة إشارة إلى أن التصرف في القلوب أمر عظيم جداً: ﴿وقيضنا﴾ أي جئنا وأتحنا وبعثنا وسببنا ووكلنا وهيأنا، من القيض الذي هو المثل، وقشر البيضة الأعلى اليابس ﴿لهم قرناء﴾ أي أشخاصاً أمثالهم في الأخلاق والأوصاف
ولما كان التقدير: فلم يدعوا قبيحة حتى ارتكبوها، عطف عليه قوله: ﴿وحق﴾ أي وجب وثبت ﴿عليهم القول﴾ أي بدوام الغضب.
ولما كان هذا مما يوجب شدة أسفه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، خفف منه بقوله: ﴿في﴾ أي كائنين في جملة ﴿أمم﴾ أي
ولما كان بعض من مضى غير مستغرق لجميع الزمان، عبر ب «من» فقال: ﴿من قبلهم﴾ أي في الزمان، وقدم الأقوى لتفهم القدرة عليه القدرة على ما دونه من باب الأولى، فإن الإنس كانوا يعدون أنفسهم دون الجن فيعوذون بهم فقال: ﴿من الجن والأنس﴾ ثم علل حقوق الشقاء عليهم بقوله منبهاً بالتأكيد على أنهم ينكرون أن تكون القبائح موجبة للخسر ﴿إنهم﴾ أي جميع المذكورين منهم وممن قبلهم: ﴿كانوا﴾ أي طبعاً وفعلاً ﴿خاسرين *﴾ فعلى العاقل أن يجتهد في اختيار أصحابه وأخدانه وأحبابه، فإن العاقبة فيهم حسنة جسيمة أو قبيحة وخيمة، روى صاحب الفردوس عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال:
«إذا أراد الله بعبد شراً قيض له قبل موته
ولما أخبر بخسرانهم، دل عليه بما عطف على ما أرشد
﴿لعلكم تغلبون *﴾ أي ليكون حالكم حال من يرجى له أن يغلب ويظفر بمراده في أن يميل إليه أحد، أو يسكت
ولما أبلغ سبحانه في الترهيب من عقابهم، زاد في تعظيمه وفضله لطفاً لمن أراد هدايته من عباده وإقامة الحجة على غيرهم فقال:
ولما كانوا على أعمالهم التي استحقوا بها هذا العذاب مصرين إصراراً يمتنع انفكاكهم عنه، زاد حسناً قوله: ﴿جزاء﴾ أي وفاقاً ﴿بما كانوا﴾ أي جبلة وطبعاً، ورد الكلام إلى مظهر العظمة المقتضي للنكال فقال: ﴿بآياتنا﴾ أي على ما لها من العظمة ﴿يجحدون *﴾ أي ينكرون عناداً من غير مراعاة لعلوها في نفسها ولا علوها بنسبتها إلينا، فلأجل جحودهم كانوا يقدمون على ما لا يرضاه عاقل من اللهو وغيره.
ولما تراءى لهم أن الذي أوجب لهم هذا السوء جلودهم
قال الأصبهاني: يحكى عن الخليل أنك إذا قلت: أرني ثوبك - بالكسر فالمعنى بصرنيه، وإذا قلته بالسكون فهو استعطاء، ومعناه أعطني ثوبك، ونظيره اشتهار الإيتاء في معنى الإعطاء، وأصله الإحضار - انتهى. ﴿نجعلهما تحت أقدامنا﴾
ولما ذكر الأعداء وقرناءهم نذارة، أتبعه ذكر الأولياء وأوداءهم بشارة، فقال مبيناً لحالهم القابل للإعراض وثمراته جواباً لمن يسأل عنهم مؤكداً لأجل إنكار المعاندين: ﴿إن الذين﴾ قال أبو حيان: قال ابن عباس رضي الله عنهما: نزلت في الصديق رضي الله عنه وأرضاه. ﴿قالوا﴾ أي قولاً حقيقياً مذعنين به بالجنان وناطقين باللسان تصديقاً لداعي الله في دار الدنيا متذللين حيث ينفع الذل جامعين بين الأسّ الذي هو المعرفة والاعتقاد، والبناء الذي هو العمل الصالح بالقول والفعل على السداد، فإن أصل الكمالات النفسانية يقين مصلح وعمل صالح، تعرف الحق لذاته والخير لتعمل له ورأس المعارف اليقينية ورئيسها معرفة الله، ورأس الأعمال الصالحة الاستقامة على حد الاعتدال من غير ميل إلى طرف إفراط أو تفريط: ﴿ربنا﴾ أي المحسن إلينا ﴿الله﴾ المختص بالجلال والإكرام وحده لا شريك له.
ولما كان السياق للذين استقاموا العام للسابقين وأصحاب اليمين على ما أشير إليه الختم بصفة المغفرة وتقديمها، قيد بالظرف بخلاف ما في يس فقال: ﴿فيها﴾ أي الآخرة ﴿ما تدعون *﴾ أي ما تؤثرون دعاءه وطلبه وتسألونه وتمنونه بشهوة نفوسكم ورغبة قلوبكم.
ولما كان هذا كله بالنسبة إلى ما يعطون شيئاً يسيراً، نبه عليه بقوله: ﴿نزلاً﴾ أي هذا كله يكون لكم كما يقدم إلى الضيف عند قدومه إلى أن يتهيأ ما يضاف به. ولما كان من حوسب عذب، فلا يدخل أحد الجنة إلا بالرحمة، أشار إلى ذلك بقوله: ﴿من﴾ أي كائناً النزل من ﴿غفور﴾ له صفة المحو للذنوب عيناً وأثراً على غاية لا يمكن وصفها ﴿رحيم *﴾ أي بالغ الرحمة بما ترضاه الإلهية، فالحاصل أن المفسد يقيض الله له قرناء السوء من الجن والإنس يزيدونه فساداً والمصلح ييسر الله له أولياء الخير من الإنس والملائكة يعينونه ويحببونه في جميع الخيرات ويبعدونه ويكرهونه في جميع المضرات - والله يتولى الصالحين.
ولما كانت هذه الخصلة أمّا جامعاً لجميع مصالح الدين والدنيا قال منبهاً على عظيم فضلها وبديع نبلها حاثاً على الاستظلال بجميع ظلها مشيراً بالبناء للمفعول إلى أنها هي العمدة المقصودة بالذات على وجه منبه على أنها مخالفة لجبلة الإنسان حثاً على الرغبة في طلبها من
ولما كان التقدير: فإن لقيت ذلك وأعاذك الله من الشيطان فأنت أنت، عطف عليه قوله معبراً بأداة الشك المفهمة لجواز وقوع ذلك في الجملة، مع العلم بأنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ معصوم إشارة إلى رتبة الإنسان من حيث هو إنسان وإلى أن الشيطان يتوهم مع علمه بالعصمة أنه يقدر على ذلك فيعلق أمله به، وكأنه لذلك أكد لأن نزغه له في محل الإنكار ﴿وإمّا﴾ ولما كانت وسوسة الشيطان تبعث على ما
ولما كانت الاستعاذة هنا من الشيطان، وكان نزغه مما يعلم لا مما يرى وكانت صفة السمع نعم ما يرى وما لا يرى، قال مؤكداً لوقوف الجامدين مع الظواهر: ﴿إنه هو﴾ أي وحده ﴿السميع﴾ وختم بقوله: ﴿العليم *﴾ الذي يسمع كل مسموع من استعاذتك وغيرها،
ولما ذكر أنهم جعلوا له أنداداً مع أنه خلق الأرض في يومين، وختم ذلك بأن أحسن الحسن الدعاء إلى الله، وختم الأمر بالدعاء بصفة العلم، أتبعه دلائل التوحيد إعلاماً بأن التوحيد أحسن الحسن يطرد كل شيء، وتنبيهاً على أن الدعوة إلى الله تعالى عبارة عن تنوير الدلائل الدالة على الذات والصفات، وذلك ببيان الأفعال وآثارها وهو العالم بجميع ما فيه من الأجزاء والأبعاض جوهراً وعرضاً، وبدأ بذكر الفلكيات لأنها أدل، فقال عاطفاً على ما تقديره: فمن آياته الناشئة عن شمول علمه المستلزم لشمول قدرته المنتجة لإعادته لمن يريد ونفوذ تصرفه في كل ما يشاء المستلزم لتفرده بالإلهية أنه خلق الخافقين كما مضى في ستة أيام: ﴿ومن آياته﴾ الدالة على وحدانيته:
وفي كل شيء له آية... تدل على أنه الواحد
ولما كانت الظلمة عدماً والنور وجوداً والعدم مقدم قال: ﴿الليل والنهار﴾ أي الدالاّن باختلافهما وهيئتهما على قدرته على
تأمل سطور الكائنات فإنها | من الملك الأعلى إليك رسائل |
وقد خط فيها لو تأملت خطة | إلا كل شيء ما خلا الله باطل |
ولما نهى عن السجود لهما، أمر بالسجود بما يبين استحقاقه لذلك
ولما ظهر أن الكل عبيده، وكان السيد لا يرضى بإشراك عبده عبداً آخر في عبادة سيده قال: ﴿إن كنتم إياه﴾ أي خاصة بغاية الرسوخ ﴿تعبدون *﴾ كما هو صريح قولكم في الدعاء في وقت الشدائد لا سيما في البحر، ومحصل قولكم ﴿ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى﴾ فإن أشركتم به شيئاً بسجود أو غيره فما خصصتموه بالعبادة لأن السجود
ولما كان حال الكفار في الإخلاص مختلفاً في الشدة والرخاء، أشار إلى تقبيح ذلك منهم بتعميم خواصه عليهم الصلاة والسلام بالإخلاص حالتي الإثبات الذي هو حالة بسط في الجملة، والمحو الذي هو حالة قبض كذلك يجددون هذا التنزيه مستمرين عليه في كل وقت فقال: ﴿بالليل والنهار﴾ أي على مر الملوين وكر الجديدين لا يفترون. ولما كان في سياق الفرص لاستكبارهم المقتضي لإنكارهم، أكد بالعاطف والضمير فقال مؤذناً بأن هذا ديدنهم لا ينفكون عنه: ﴿وهم﴾ أي والحال أنهم على هذا الدوام ﴿لا يسئمون *﴾ أي لا يكاد لهم في وقت من الأوقات فتور ولا ملل، فهو غني عن عبادة هؤلاء بل وعن عبادة كل عابد، والحظ الأوفر لمن عنده وأما هو سبحانه فلا يزيده شيئاً ولا ينقصه شيء فدع هؤلاء أن استكبروا وشأنهم، فيعلمون من الخاسر، فالآية
ولما ذكر بعض آيات السماء لشرفها، ولأن بعضها عبد، ومن آثار الإلهية، فذكر دلالتها على وحدانيته اللازم منه إبطال عبادتها، أتبعه بعض آيات الأرض بخلاف ما في يس، فإن السياق هناك للبعث وآيات الأرض أدل فقال: ﴿ومن آياته﴾ أي الدالة على عظم شأنه وعلو سلطانه ﴿أنك ترى الأرض﴾ أي بعضها بحاسة البصر وبعضها بعين البصيرة قياساً على ما أبصرته، لأن الكل بالنسبة إلى القدرة على حد سواء.
ولما كان السياق للوحدانية، عبر بما هو أقرب إلى حال العابد بخلاف ما مضى في الحج فقال: ﴿خاشعة﴾ أي يابسة لا نبات فيها فهي بصورة الذليل الذي لا منعة عنده لأنه لا مانع من المشي فيها لكونها متطأمنة بعد الساتر لوجهها بخلاف ما إذا كانت مهتزة رابية متزخرفة تختال بالنبات.
ولما كان هذا دليلاً مشاهداً على القدرة على إيجاد المعدوم، وإعادة البالي المحطوم، أنتج ولا بد قوله مؤكداً لأجل ما هم فيه من الإنكار صارفاً القول عن مظهر العظمة إلى ما ينبه على القدرة على البعث ولا بد:
ولما بين أن الدعوة إلى الله أعظم المناصب، وأشرف المراتب، وبين أنها إنما تحصل ببيان دلائل التوحيد التي من اعظمها البعث، وبينه إلى أن كان بهذا الحد من الوضوح، كان مجز التهديد من أعرض عن قبوله: فقال في عبارة عامة له ولغيره، مؤكداً تنبيهاً على أن فعلهم فعل من يظن أنه سبحانه لا يطلع على أعماله: ﴿إن الذين يلحدون *﴾ أي يميلون بصرف المعاني عن القصد وسنن العدل بنحو قولهم ﴿ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى﴾، أو يماحلون باللغو بالمكاء والتصدية وغير ذلك من أنواع اللغط وكل ما يشمله معنى الميل عما تصح إرادته.
ولما كان الاجتراء على الإلحاد قادحاً في الاعتراف بالعظمة، أعاد مظهرها فقال: ﴿في آياتنا﴾ على ما لها من العظمة الدالة على ما لنا
ولما كان الإلحاد سبباً لإلقاء صاحبه في النار، وكان التقدير: ونحن نحلم عن العصاة فمن رجع إلينا أمن كل مخوف، ومن أعرض إلى الممات ألقيناه في النار، سبب عنه قوله تعالى: ﴿أفمن يلقى في النار﴾ أي على وجهه بأيسر أمر بسبب إلحاده في الآيات وإعراضه عن الدلالات الواضحات، فيكون خائفاً يوم القيامة لما يرى من مقدمات ذلك حتى يدهمه ما خاف منه ﴿خير أم من يأتي﴾ إلينا ﴿آمناً يوم القيامة﴾ حين نجمع عبادنا للعرض علينا للحكم بينهم بالعدل فيدخل الجنة دار السلام فيدوم أمنه، والآية من الاحتباك: ذكر الإلقاء في النار أولاً دليلاً على دخول الجنة ثانياً، والأمن ثانياً دليلاً على الخوف أولاً، وسره أنه ذكر المقصود بالذات، وهو ما وقع الخوف لأجله أولاً، والأمن الذي هو العيش في الحقيقة ثانياً.
ولما جعل إليهم الاختيار في العمل تهديداً، أتبعه الإخبار بما لمن خالفه، فقال مؤكداً لإنكارهم مضامين ما دخل عليه التأكيد: ﴿إن الذين كفروا﴾ أي ستروا مرائي العقول الدالة على الحق مكذبين
أرى الجوزاء تكبر أن تصادا | فعاند من تطيق له عنادا |
ولما وصف الذكر بأنه لا يصح ولا يتصور أن يلحقه نقص، فبطل قولهم ﴿لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه﴾ ونحوه مما مضى وحصل الأمن منه، أتبعه التسلية مما يلحق به من الغم ليقع الصبر على جميع أقوالهم فقال: ﴿ما يقال لك﴾ أي يبرز إلى الوجود قوله سواء كان في ماضي الزمان أو حاضره آو آتيه من شيء من الكفار أو غيرهم يحصل به ضيق صدر أو تشويش فكر من قولهم ﴿قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه﴾ إلى آخره. وغير ذلك مما تقدم أنهم قالوه له
ولما رغبهم باتصافه بالمغفرة، رهبهم باتصافه بالانتقام، وأكد باعادة «ذو» والواو فقال: ﴿وذو عقاب﴾ والختم بما رويه الميم مع تقديم الاسم الميمي في التي قبلها دال للأشعري الذي قال بأن الفواصل غير مراعية في الكتاب العزيز، وإنما المعول عليه المعاني لا غير، والمعنى هنا على إيلام من كانوا يؤلمون أولياءه باللغو عند
ولما افتتحت السورة بأنه أنزل على أحسن الوجوه وأجملها وأعلاها وأبينها وأكملها من التفصيل، والجمع والبيان بهذا اللسان العظيم الشأن، فقالوا فيه ما وقعت هذه التسلية لأجله من قولهم ﴿فلوبنا في أكنة﴾ إلى آخره، وكان ربما قال قائل؛ لو كان بلسان غير العرب، وأعطى هذا النبي فهمه والقدرة وعلى تبيينه لكان أقوى في الإعجاز وأجدر بالاتباع، أخبر أن الأمر ليس كذلك، لأنهم لم يقولوا: هذا الشك حصل لهم في أمره، بل عناداً، والمعاند لا يرده شيء، فقال على سبيل التأكيد، معلماً بأن الأمر على غير ما ظنه هذا الظان، وقال الأصبهاني: إنه جواب عن قولهم ﴿وقالوا قلوبنا في أكنه﴾. والأحسن عندي
ولما تبين بشاهد الوجود أنهم قالوا في العربي الصرف وبشهادة
ولما كان من الجائز أن يقولوا: نعم، ذلك مطلوبنا، وكان نزولاً من الرتبة العليا إلى ما دونها مع أنه لا يجيب إلى المقترحات إلا مريد للعذاب، او عاجز عن إنفاذ ما نريد، بين أن مراده نافذ من غير هذا فقال: ﴿قل هو﴾ أي هذا القرآن على ما هو عليه من العلو الذي لا يمكن أن يكون شيء يناظره ﴿للذين آمنوا﴾ أي أردنا وقوع الإيمان منهم ﴿هدى﴾ بيان لكل مطلوب ﴿وشفاء﴾ لما في صدروهم من داء الكفر والهواء والإفك فآذانهم به سميعة وقلوبهم له واعية وهو لهم بصائر قال القشيري فهو شفاء للعلماء حيث استراحوا عن كد الفكرة وتحير الخواطر وشفاء لضيق صدور المريدين بما فيه من التنعيم بقراءته والتلذذ بالتفكر فيه، ولقلوب المحبين من لواعج
ولما كان التقدير: فلقد آتيناك الكتاب على هذه الصفة من العظمة، فاختلفت فيه أمتك على ما أعلمناك به أول البقرة من انقسام الناس فعاقبنا الذين تكبروا عليه أن ختمنا على مشاعرهم، عطف عليه مسلياً قوله مؤكداً لمن يقول من أهل الكتاب إضلالاً: لو كان نبياً ما اختلف الناس عليه ونحو ذلك مما يلبس به: ﴿ولقد آتينا﴾ أي على ما لنا من العظمة ﴿موسى الكتاب﴾ أي الجامع لما فيه هداهم ﴿فاختلف﴾ أي وقع الاختلاف ﴿فيه﴾ أي من أمته كما وقع في هذا الكتاب لأن الله تعالى خلق الخلق للاختلاف مع ما ركب فيهم من العقول الداعية إلى الإنفاق ﴿ولولا كلمة﴾ أي إرادة ﴿سبقت﴾ في الأزل، ولفت القول إلى صفة الإحسان ترضية بالقدر
ولما كان لمقصد السورة نظر كبير إلى الرحمة، كرر سبحانه وصف الربوبية فيها كثيراً، فقال عاطفاً على ما تقديره: فما ربك بتارك جزاء أحد أصلا خيراً كان أو شراً: ﴿وما ربك﴾ أي المحسن إليك بإرسالك لتتميم مكارم الأخلاق. ولما كان لا يصح أصلاً ولا يتصور أن ينسب إليه سبحانه ظلم، عبر للدلالة على ذلك بنكرة في سياق النفي دالة على النسبة مقرونة بالجار فقال: ﴿بظلام﴾ أي بذم ظلم ﴿للعبيد *﴾ أي الجنس فلا يتصور أن يقع منه ظلم لأحد أصلاً لأن له الغنى المطلق والحكمة البالغة، وعبر ب «عبيد» دون عباد لأنه موضع إشفاق وإعلام بضعف وعدم قدرة على انتصار وعناد يدل على طاعة وعدم حقارة بل إكرام هذا أغلب الاستعمال، ولعل حكمة التعبير بصيغة المبالغة الإشارة إلى أنه لو ترك الحكم والأخذ للمظلوم من الظالم، لكان بليغ الظلم من جهة ترك الحكمة التي هي وضع الأشياء في أتقن محالها ثم من جهة وضع الشيء وهو العفو عن المسيء وترك الانتصار للمظلوم في غير موضعه، ومن جهة التسوية بين المحسن والمسيء، وذلك أشد في تهديد الظالم لأن الحكيم لا يخالف الحكمة فكيف إذا كانت المخالفة في غاية البعد عنها - هذا مع أن التعبير بها لا يضر
ولما تضمنت الآية السالفة الجزاء على كل جليل وحقير، وقليل وكثير، والبراءة من الظلم، كما قال تعالى ﴿وقضى بينهم بالحق وهم لا يظلمون﴾ ﴿ووفيت كل نفس ما عملت﴾ [آل عمران: ٢٥] ﴿وهو أعلم بما يفعلون﴾ وأشير إلى التوعد بالجزاء في يوم الفصل لأنا نشاهد أكثر الخلق يموت من غير جزاء، وكان من عادتهم السؤال عن علم ذلك اليوم، وكان ترك الجزاء إنما يكون للعجز، والظلم إنما يكون للجهل، لأنه وضع الأشياء في غير محالها فعل الماشي في الظلام، دل على تعاليه عن كل منهما بتمام العلم المستلزم لشمول القدرة على وجه فيه جوابهم عن السؤال عن علم الوقت الذي تقوم فيه الساعة الذي كان سبباً لنزول هذه الآية - كما ذكره ابن الجوزي - بقوله على سبيل التعليل:
ولما كانوا ينازعون في وقوعها فضلاً عن العلم بها، عدها أمراً محققاً مفروغاً منه وذكر ما يدل على شمول علمه لكل حادث في وقته دليلاً على علمه بما يعين وقت الساعة، وذلك على وجه يدل على قدرته عليها وعلى كل مقدور بما لا نزاع لهم فيه من ثمرات النبات والحيوان التي
ولما ثبت بهذا علمه صريحاً وقدرته لزوماً وعجز من سواه وجهله، وتقرر بذلك أمر الساعة من أنه قادر عليها بما أقام من الأدلة، وأنه لا بد من كونها لما وعد به من تكوينها لينصف لمظلوم من ظالمه لأنه حكيم ولا يظلم أحداً وإن كانوا في إيجادها ينازعون، ولم ينكرون قال تعالى مصوراً ما تضمنه ما سبق من جهلهم، ومقرراً بعض أحوال القيامة، عاطفاً على أرشد السياق إلى تقديره من نحو: فهو على كل شيء قدير لأنه على كل شيء شهيد وهم بخلاف ذلك، مقرراً قدرته تصريحاً وعجز ما ادعوا من الشركاء: ﴿ويوم يناديهم﴾ أي المشركين بعد بعثهم من القبور، للفصل بينهم في سائر الأمور فيقول المحسن إليك بأنواع الإحسان الذي منه إنصاف المظلوم من ظالمه على سبيل الأمور فيقول المحسن إليك بأنواع الإحسان الذي منه إنصاف المظلوم من ظالمه على سبيل التوبيخ والتقريع والتنديم: ﴿أين شركائي﴾ أي الذين زعمتم أنهم يشفعون لكم في هذا اليوم ويحمونكم من العقاب واللوم، والعامل
ولما قرر جهلهم، أتبعه عجزهم فقال: ﴿وضل﴾ أي ذهب وشذ وغاب وخفي ﴿عنهم﴾ ولما كانت معبوداتهم إما ممن لا يعقل كالأصنام وإما في عداد ذلك لكونهم لا فعل لهم في الحقيقة، عبر عنهم بأداة ما لا يعقل فقال: ﴿ما كانوا﴾ أي دائماً ﴿يدعون﴾ في كل حين على وجه العادة.
ولما كان دعاؤهم لهم غير مستغرق لزمان القبل، أدخل الجار فقال: ﴿من قبل﴾ فهم لا يرونه فضلاً عن أنهم يجدون نفعه ويلقونه،
ولما دل ذلك على عظيم جهله وغلبة أفكاره الرديئة على عقله، أتبعه تأكيداً لذلك ما يدل على أن حاله بعد هذا اليأس الذي قطع فيه بلزوم الشر وامتناع حصول الخير أنه لو عاودته النعمة بغتة من وجه لا يرجوه، وليس له دليل على ما دوامها وانصرامها لعاد إلى البطر والكبر والأشر، ونسي ما كان فيه من الشدة، فقال مسنداً إلى نفسه الخير بعد أن ذكر الشر، ولم يسنده إليه تعليماً للأدب معبراً بمظهر العظمة
ولما أخبر آخر الآية السالفة عن حاله عند الشر، قدم هنا ضده على صلته اهتماماً به بخلاف ما في سورة هود عليه السلام فقال: ﴿رحمة منا﴾ أي نعمة عظيمة دلت على إكرامه من جهة لا يرجوها، وهو من فائدة التعبير بأداة الشك، ودل بإثبات الجار على انفصالها عن الضر مع قرب زمانها منه ليكون قد جمع مباشرة الأحوال الثلاث: الانتقام والإكرام وما بينهما من الوسط الذي بين حالتي الرضا والسخط، ثم شرع بيان ذلك فقال: ﴿من بعد ضراء﴾ أي محنة وشدة عظيمة ﴿مسته﴾ فطال بروكها عليه؛ وأجاب القسم لتقدمه على الشرط بقوله: ﴿ليقولن﴾ بمجرد ذوق تلك الرحمة على أنها ربما كانت بلاء عظيماً لكونها استدراجاً إلى الهلاك: ﴿هذا﴾ أي الأمر العظيم ﴿لي﴾ أي مختص بي لما لي من الفضل، لا مشاركة لأحد معي فيه مع أنه ثابت لا يتغير انتقالاً من حالة اليأس إلى حالة الأمن والبطر والكبر والأشر على قرب الزمن من ذوق المحن وينسى أنها من فضل الله ليقيدها بشكرها،
ولما كان هذا هو الكفر الصراح لنسيان نعمة المنعم وجعله الإنعام
﴿وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثوراً﴾ [الفرقان: ٢٣] ﴿ولنذيقنهم﴾ بعد إقامة الحجة عليهم بموازين القسط الوافية لمثاقيل الذر ﴿من عذاب غليظ *﴾ لا يدع جهة من أجسامهم ولا قواهم إلا أحاط بها ولا تقوى على دفعه قواهم.
ولما بين جهل الإنسان في حالات مخصوصة باليأس عند مس الشر، والأمن عند ذوق النعمة بعد الضر، بين حاله عند النعمة مطلقاً ودعاءه عند الشر وإن كان قانطاً تكريراً لتقلب أحواله وتناقص أقواله وأفعاله تصريفاً لذلك على وجوه شتى ليكون داعياً له إلى عدم الأنفة من الرجوع عن الكفر إلى الإيمان، ومسقطاً عنه خوف الشبه
ولما تقدم حال الإنسان عند مس الشر بغتة، بين حاله عند مسه
ولما كان تعظيم العرض دالاً على عظمة الطول، قال معبراً بما يدل على الملازمة والدوام: ﴿فذو دعاء﴾ أي في كشفه، وربما كان نعمة باطنة وهو لا يشعر ولا يدعو إلا عند المس، وقد كان ينبغي له أن يشرع في الدعاء عند التوقع بل قبله تعرفاً إلى الله تعالى في الرخاء ليعرفه في الشدة وهو خلق شريف لا يعرفه إلا أفراد خصهم الله بلطفه، فدل تركه على عدم شره لما مضى وخفة عقله لما يأتي ومفاجأته للزوم الدعاء عند المس على عدم صبره وتلاشي جلده وقله حيائه ﴿عريض *﴾ أي مديد العرض جداً، وأما طوله فلا تسأل عنه، وهذا كناية عن النهاية في الكثرة.
ولما كان الكفر به على هذا التقدير في غاية البعد، وكان مقصود السورة دائراً على العلم، نبه على ذلك بأداة التراخي مع الدلالة على أن ذلك ما كان منهم إلا بعد تأمل طويل، فكانوا معاندين حتى نزلوا بالصفير والتصفيق من أعلى رتب الكلام إلى أصوات الحيوانات العجم فقال:
ولما كان هذا محزناً للشفوق عليهم لإفهامه لشدة بعدهم عن الرجوع، قال منبهاً على أنه إذا أراد سبحانه قرب ذلك منهم غاية القرب لافتاً القول إلى مظهر العظمة إيذاناً بسهولة ذلك عليه: ﴿سنريهم﴾ أي عن قرب بوعد لا خلف فيه ﴿آياتنا﴾ أي على ما لها من العظمة
ولما كان الإيمان بالغيب هو المعتبر، وكل ما كان أقرب إليه كان أقرب إلى الكمال، وكانت آيات الآفاق أقرب إلى ذلك، بدأ بها، ثم قال: ﴿وفي أنفسهم﴾ أي من فتح مكة وما أصابهم من سني الجوع وقصة أبي بصير ونحو ذلك وتفصل لهم مع ذلك ما في الآدمي نفسه من بدائع الآيات وعجائب الخلق وغرائب الصنعة وما فيه من أمارات الحدوث واختلاف الأوصاف وغير ذلك من الشواهد المطابقة لما تضربه من الأمثال والدلائل المعقولة عند اعتبار الأقوال والأفعال، وبما في بلاد العرب من الآيات المرئية من نفي بعد إسراعهم إليه وإطباقهم عليه وإثبات التوحيد عند جميعهم بعد إبعادهم عنه وقتالهم الداعي إليه، وقد بين سبحانه في هذه من آيات الآفاق في آية
ولما كان التقدير: ولا نزال نواتر ذلك شيئاً في أثر شيء، عطف عليه قوله: ﴿حتى يتبين لهم﴾ غاية البيان بنفسه من غير إعمال فكر ﴿أنه﴾ أي القرآن ﴿الحق﴾ الكامل في الحقية الذي تطابقه الوقائع
ولما كان هذا القول منبهاً على أن في الآفاق والأنفس من الآيات المرئية التي يقرأها أولو الأبصار بالبصائر، ويتأملها بأعين السرائر، أمراً لا يحيط به الوصف، فكان حادياً على تجريد الأفكار للنظر والاعتبار، والوقوف على بعض ما في ذلك من لطائف الأسرار، كان كأنه قيل: ألم يروا بعقولهم ما في ذلك من الأدلة على أن القرآن من عند الله فيكفيهم عن شهادة شيء خارج عن أنفسهم، عطف عليه قوله: ﴿أو لم يكف﴾ وأكد بإدخال الجار، وحقق الفاعل فقال مؤكداً بالباء ومحققاً أنه الفاعل صارفاً القول
ولما لم يبق بعد هذا لمتعنت مقال، ولا شبهة أصلاً لضال، كان موضع المناداة على من استمر على عناده بقوله مؤكداً لادعائهم إنهم على جلية من أمرهم، ﴿ألا إنهم﴾ أي الكفرة ﴿في مرية﴾ أي جحد وجدال وشك وضلال عن العبث ﴿من لقاء﴾ وصرف القول
ولما كانوا مظهرين الشك في القدرة على البعث، قرره إيمانهم معترفون به من قدرته على كل شيء من البعث وغيره فقال: ﴿ألا إنه﴾ أي هذا المحسن إليهم ﴿بكل شيء﴾ أي من الأشياء جملها وتفاصيلها كلياتها وجزئياتها أصولها وفروعها غيبتها وشهادتها ملكها وملكوتها ﴿محيط *﴾ قدرة وعلماً من كثير الأشياء وقليلها كليها وجزئيها، فعما قليل يجمعهم على الحق ويبدلهم بالمرية إذعاناً وبالشك يقيناً وبرهاناً، فرحمته عامة لجميع أهل الوجود وخاصة لمن منَّ عليه الإيمان الموصل إلى راحة الأمان، فكيف يتصور في عقل أن يترك البعث ليوم الفصل الذي هو مدار الحكمة، ومحط إظهار النعمة والنقمة، وقد علم بذلك انطباق آخرها المادح للكتاب المقرر للبعث والحساب على أولها المفصل للقرآن المفيض لقسمي الرحمة: العامة والخاصة لأهل الأكوان، على ما اقتضاه العدل والإحسان، بالبشارة لأهل الإيمان، والنذارة لأهل الطغيان - والله الهادي وعليه التكلان.
﴿ذلك عيسى ابن مريم قول الحق الذي فيه تمترون﴾ [مريم: ٣٤]، وإن الله ربي وربكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم،
﴿هل تعلم له سميا﴾ [مريم: ٦٥] والشورى على مجموع الدين أصولاً وفروعاً) شرع لكم من الدين ما وصى به نوحاً والذي أوحينا إليك (الآية، هذا موافقة البداية، وأما موافقة النهاية فهو أنهما ختمتا بكلمتين: أول كل منهما آخر الأخرى وآخر كل أول الأخرى وإيذاناً بأن السورتين دائرة واحدة محيطة بالدين متصلة لا انفصام لها، وذلك أن آخر مريم أول الشورى وآخر الشورى أو مريم) فإنما يسرناه بلسانك (، الآية) هو كذلك يوحى إليك وإلى الذين من قبلك الله العزيز الحكيم () وكذلك أوحينا إليك روحاً من أمرنا () ما كنت تدري ما الكتاب