تفسير سورة سورة الشورى من كتاب التفسير المظهري
.
لمؤلفه
المظهري
.
المتوفي سنة 1216 هـ
سورة الشورى
آياتها ثلاث و خمسون و هي مكية
ﰡ
﴿ حم ١عسق ٢ ﴾ قال البغوي سئل الحسن بن الفضل لم قطع حم عسق و لم يقطع كهيعص فقال لأنها سورة من سور أوائلها حم فجرت مجرى نظائرها، و لأن حم مبتدأ و عسق خبره و لأنهما عدا آيتين و أخواتها مثل ﴿ كهياعص ﴾ و المص عدت آية واحدة، و قيل أهل التأويل لم يختلف في كهيعص و أخواتها أنها حروف للتهجي لا غير و اختلفوا في ﴿ حم { ١ ﴾ } و أخرجها بعضهم من حيز الحروف و جعلها فعلا معناه حم أي قضى ما هو كائن، و روى عكرمة عن ابن عباس إنه قال : ح حلمه و مجده ع علمه س سناؤه ق قدرته أقسم الله بها، و قال شهر بن حوشب و عطاء بن أبي رباح : ح حرف يعز فيها الذليل و يزل فيها العزيز من فرس م ملك يتحول من قوم إلى قوم آخر عدو لقريش يقصدهم س سيء بكدر فيهم ق قدرة الله النافذة في خلقه، وروى عن ابن عباس أنه قال ليس من نبي صاحب كتاب إلا و قد أوحيت إليه ﴿ حم { ١ ﴾ عسق ﴿ ٢ ﴾ } حيث قال الله تعالى :﴿ كذلك يوحي إليك وإلى الّذين من قبلك اللّه العزيز الحكيم ﴾
﴿ كذلك يوحى إليك و إلى الذين من قبلك الله العزيز ﴾ الغالب لقهره ﴿ الحكيم ﴾ المصيب في حكمه أي مثل ما في هذه السورة من المعاني أو إيحاء مثل إيحائها أوحى الله إليك و إلى الرسل من قبلك، ذكر بلفظ المضارع على حكاية الحال الماضية للدلالة على استمرار الوحي و أن إيحاء مثله عادته تعالى، قرأ الجمهور يوحى بكسر الحاء على المضارع المبني للفاعل و الله فاعله و قرأ ابن كثير بفتح الحاء على البناء للمفعول على أن كذلك مرفوع على الابتداء أي مثل ذلك و يوحى خبره المسند إلى ضميره أو كذلك منصوب على المصدر ويوحى مسند إلى إليك و الله مرفوع على أنه فاعل لفعل محذوف دل عليه السؤال المقدر يعني من يوحي إليه فقال الله كما في قول الشاعر :
ليبك يزيد ضارع لخصومه ***
على البناء للمفعول، و العزيز الحكيم صفتان له مقررتان لعلو شأن الموحي به أو الله مبتدأ و العزيز و ما بعد أخبار أو العزيز الحكيم صفتان
و كذا قوله ﴿ له ما في السماوات و ما في الأرض ﴾ صفة بتقدير الذي أو حال ﴿ و هو العلي ﴾ على خلقه ﴿ العظيم ﴾ حال آخر أو تذييل و هو على الوجوه الآخر جملتان مستأنفتان مقررتان لعزته و حكمته.
﴿ تكاد ﴾ قرأ نافع و الكسائي بالياء التحتانية لأن الفاعل مؤنث غير حقيقي و الباقون بالتاء الفوقانية لتأنيث ﴿ السماوات يتفطرن ﴾ أي يتشققن من عظمة الله تعالى و علو شأنه يدل عليه ذكره بعد قوله :﴿ العلي العظيم ﴾ وقيل يتفطرن من قول المشركين اتخذ الله ولدا نظيره في سورة مريم ﴿ لقد جئتم شيئا إدا ٨٩ تكاد السماوات يتفطرن ﴾ و قيل يتشققن من كثرة الملائكة قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : أطت السماء و حقها أن تأط و الذي نفس محمد بيده ما فيها موضع شبر إلا فيه جبهة ملك ساجد يسبح الله بحمده " رواه ابن مردويه عن أنس و رواه البغوي بلفظ " ما فيها موضع قدم إلا و عليه ملك قائم أو راكع أو ساجد " قرأ البصريان و أبو بكر ينفطرن من الإنفطار ﴿ من فوقهن ﴾ أي يبتدئ الانفطار من جهتهن الفوقانية و تخصيصها على الأول لأنه أعظم الآيات و أدلها على علو شأنه و على الثاني ليدل على أنه الانفطار من تحتهن بالطريق الأولى و على الثالث لازدحام الملائكة على الفوق، و قيل الضمير للأرض فإن المراد بها الجنس و هذا على الثاني ﴿ و الملائكة يسبحون ﴾ أي ينزهون عما يقول الظالمون من نسبة الولد و كل ما لا يليق بشأنه خضوعا لما يرون من عظمة الله سبحانه ملابسين ﴿ بحمد ربهم ﴾ أداء لشكر نعمائه ﴿ و يستغفرون لمن في الأرض ﴾ من المؤمنين أداء لحق المشاركة في الإيمان و الجملة حال ﴿ ألا إن الله هو الغفور ﴾ لأوليائه ﴿ الرحيم ﴾ بهم
﴿ والذين اتخذوا من دونه أولياء ﴾ شركاء و أندادا ﴿ الله حفيظ عليهم ﴾ رقيب على أحوالهم و أعمالهم يحصى عليهم فيجازيهم بها ﴿ و ما أنت عليهم ﴾ يا محمد ﴿ بوكيل ﴾ بموكل بهم تحصل المطلوب منهم أو موكول إليك أمرهم.
﴿ وكذلك أوحينا إليك ﴾ الإشارة إلى مصدر يوحى و قوله ﴿ قرآنا عربيا ﴾ منصوب على المفعولية أو هو إشارة إلى معنى الآية المتقدمة فإنه مكرر في القرآن في مواضع فيكون الكاف مفعولا به و قوله قرآنا عربيا حالا منه ﴿ لتنذر أم القرى ﴾ أي أهلها و هي مكة فإن أكثر قرى العرب خرجت منها ﴿ و من حولها ﴾ أي العرب لينصروه في إعلاء كلمة الله أو قرى الأرض كلها مشرقها و مغربها و جنوبها و شمالها قال رسول الله صلى الله عليه و سلم :" فضلت على الأنبياء بخمس بعثت إلى الناس كافة و ذخرت شفاعتي لأمتي و نصرت بالرعب شهرا أمامي و شهرا خلفي و جعلت لي الأرض مسجدا و طهورا و أحلت لي الغنائم و لم يحل لأحد قبلي " رواه الطبراني بسند صحيح عن السائب بن يزيد.
وروى مسلم في الصحيح و الترمذي عن أبي هريرة قوله صلى الله عليه و سلم " فضلت على الأنبياء بست أعطيت جوامع الكلم و نصرت بالرعب و أحلت لي الغنائم و جعلت لي الأرض طهورا و مسجدا و أرسلت إلى الخلق كافة و ختم بي النبيون " ﴿ و تنذر يوم الجمع ﴾ أي لتنذرهم بيوم القيامة الذي يجمع فيه الأولون و الآخرون حذف ثاني مفعولي تنذر الأول و أول مفعولي الثاني للتهويل و التعميم ﴿ لا ريب فيه ﴾ اعتراض لا محل له من الإعراب ﴿ فريق في الجنة و فريق في السعير ﴾ تقديره ﴿ فريق منهم في الجنة و فريق منهم في السعير ﴾ و ضمير منهم للمجموعين لدلالة الجمع عليه و الجملتان منصوبتان على الحال منهم أي و ينذرهم يوم يجمعون كائنين متفرقين في داري الثواب و العقاب أو مستأنفتان، عن عبد الله بن عمرو قال خرج علينا رسول الله صلى الله عليه و سلم ذات يوم قابض على كفيه و معه كتابان قال أتدرون ما هذان الكتابان ؟ قلنا لا يا رسول الله فقال للذي في يده اليمنى هذا كتاب من رب العالمين بأسماء أهل الجنة و أسماء آبائهم و عشائرهم و عدتهم قبل أن يستقروا في الأصلاب و قبل أن يستقروا نطفا في الأرحام إذ هم في الطينة منجدلون فليس بزائد منهم و لا ناقص منهم من الله عليهم إلى يوم القيامة، ثم قال للذي في يساره هذا كتاب من رب العالمين بأسماء أهل النار و أسماء آبائهم و عشائرهم و عدتهم قبل أن يستقروا في الأصلاب و قبل أن يستقروا نطفا في الأرحام إذ هم في الطينة منجدلون فليس بزائد فيهم و لا ناقص منهم من الله عليهم إلى يوم القيامة، فقال عبد الله بن عمرو ففيم العمل إذا ؟ فقال اعملوا و سددوا و قاربوا فإن صاحب الجنة يختم له بعمل أهل الجنة و إن عمل أي عمل و إن صاحب أهل النار يختم له بعمل أهل النار و إن عمل أي عمل، ثم قال فريق في الجنة و فريق في السعير عدل من الله عز وجل " رواه البغوي و كذا روى الترمذي.
﴿ و لو شاء الله لجعلهم أمة واحدة ﴾ عطف على مضمون فريق في الجنة أي الأمة أي يفترقون فريقين قال ابن عباس على دين واحد، و قال مقاتل على دين الإسلام لقوله تعالى :﴿ و لو شاء الله لجمعهم على الهدى ﴾ ﴿ ولكن يدخل من يشاء في رحمته ﴾ بالهداية إلى دين الإسلام ﴿ والظالمون ﴾ الكافرون ﴿ ما لهم من ولي ولا نصير ﴾ أي لا يدخلهم في رحمته فلا يكون لهم ولي يدفع عنهم العذاب و لا نصير يمنعهم من النار و لعل تغير المقابلة للمبالغة في الوعيد إذ الكلام في الإنذار
﴿ أم اتخدوا ﴾ عطف على الظالمون الآية، أم منقطعة بمعنى بل للإضراب و الهمزة للإنكار يعني الكافرون لم يتخذوا الله و كيلا و نصيرا بل اتخذوا ﴿ من دونه ﴾ كالأصنام و الشياطين ﴿ أولياء ﴾ لا ينبغي ذلك أو المعنى ليس المتخذون أولياء ﴿ فالله هو الولي ﴾ جواب شرط محذوف مثل إن أرادوا أولياء فالله هو الولي يعني هو الحقيق بأن يتخذ وليا﴿ و هو يحيي الموتى ﴾ يجزي كل نفس ما عملت ﴿ و هو على كل شيء قدير ﴾ هذه الجملة في مقام التعليل لقوله هو الولي، و قال ابن عباس فالله وليك وولي من تبعك أي ناصرك و إياهم، و الفاء حينئذ لمجرد العطف لا لجزاء الشرط.
﴿ و ما اختلفتم ﴾ أيها الناس ﴿ فيه من شيء ﴾ من أمر الدين ﴿ فحكمه ﴾ مفوض ﴿ إلى الله ﴾ يحكم يوم القيامة بينهم فيميز المحق من المبطل، و قيل ما اختلفتم فيه تأويل متشابه فارجعوا فيه إلى المحكم من الله ﴿ ذلكم ﴾ الذي يحكم بينكم ﴿ الله ﴾ أي قل لهم يا محمد ذلكم الله ﴿ ربي ﴾ بدل من الله أو عطف بيان ﴿ عليه توكلت ﴾ في رد كيد الأعداء و في الأمور كلها ﴿ و إليه أنيب ﴾ أي ارجع في المعضلات
﴿ فاطر السماوات و الأرض ﴾ مبدعهما، خبر آخر لذلك أو خبر مبتدأ محذوف أو مبتدأ خبره ما بعده ﴿ جعل لكم من أنفسكم ﴾ من جنسكم ﴿ أزواجا ﴾ نساء ﴿ و من الأنعام ﴾ أي جعل للأنعام من الأنعام أزواجا أو جعل لكم من الأنعام أصنافا أو ذكورا أو إناثا، جملة جعل على التقدير الأولين حال بتقدير قد ﴿ يذرؤكم ﴾ أي يكثركم من الذرء و هو البث الضمير للمخاطبين و الأنعام تغليبا ﴿ فيه ﴾ أي في هذا التدبير و هو جعل الناس و الأنعام أزواجا ليكون بينهم توالد و قيل فيه أي في الرحم و قيل في البطن، و قيل في بمعنى الباء أي يذرؤكم به، قيل معناه يكثركم بالتزويج ﴿ ليس كمثله شيء ﴾ المثل زائد و المعنى ليس هو كشيء فأدخل المثل للتأكيد كقوله ﴿ فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به ﴾ و قيل الكاف زائدة و معناه ليس مثله شيء يزاوجه و يناسبه، قال ابن عباس ليس له نظير، و قيل هذا من باب الكناية نظيره قولهم مثلك لا يفعل كذا على قصد المبالغة في نفيه عنه فإنه إذا نفى عمن يناسبه و يسده مسده كان نفيه عنه بالطريق الأولى و إذا كان كناية فلا يقتضي أن يكون له مثل فإن في الكناية لا يشترط تحقق المعنى الحقيقي كما يقال فلان طويل النجاد و إن لم يكن له نجادا أصلا و نظيره قوله تعالى :﴿ بل يداه مبسوطتان ﴾ كناية عن كونه جوادا مع استحالة الجارحة، و قيل معنى مثله صفته أي ليس كصفته صفة شيء ﴿ و هو السميع البصير ﴾ لكل ما يسمع و يبصر و كل سميع و بصير فسمعه و بصره مستعار منه تعالى كأنه ذكرهما لئلا يتوهم أنه لا صفة له كما أنه لا مثل له
﴿ له مقاليد السماوات و الأرض ﴾ أي خزائن الرزق في السماوات و الأرض، قال الكلبي المطر و النبات ﴿ يبسط الرزق لمن يشاء و يقدر ﴾ أي يوسع و يضيق على وفق مشيئته ابتلاء و امتحانا ﴿ إنه بكل شيء عليم ﴾ فيفعل على ما ينبغي.
﴿ شرع لكم ﴾ يا أمة محمد صلى الله عليه و سلم ﴿ من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك ﴾ يا محمد ﴿ وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى ﴾ يعني أن دين الإسلام الذي شرع الله لأمة محمد صلى الله عليه و سلم ليس أمرا مبتدعا بل هو دين الأنبياء كلهم فإن الحق لا يكون إلا واحدا و ماذا بعد الحق إلا الضلال و ما أنكر من أهل الكتاب إلا تعنتا و عنادا، عن ابن مسعود قال : خط لنا رسول الله صلى الله عليه و سلم خطا ثم قال :" هذا سبيل الله " ثم خط خطوطا عن يمينه و شماله و قال هذه سبل على كل سبيل منها شيطان يدعو إليه و قرأ ﴿ و أن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ﴾ الآية، رواه أحمد و النسائي و الدارمي، و ذلك الدين هو الإيمان بالله وحده و بصفاته و بأنبيائه و كتبه و ملائكته و البعث بعد الموت و بكل ما جاء به الأنبياء و الإتيان بما أمر الله به و الانتهاء عما نهى عنه ؟
و هذا أمر جامع للشرائع متفق عليه و النسخ في بعض أحكام العملية لا يستلزم اختلاف الأديان ألا ترى أن النسخ قد يكون في دين نبي واحد فإن النبي صلى الله عليه و سلم صلى إلى بيت المقدس ستة عشر شهرا ثم صلى إلى الكعبة فكما أن هذا لا يقتضي اختلاف الأديان فكذلك الاختلاف في الفروع في شرائع الأنبياء لا يقتضي اختلاف الدين فإما مآل الكل الإتيان بما أمر الله به و الانتهاء عما نهى عنه ﴿ أن أقيموا الدين ﴾ أن مفسرة لأوحينا ووصينا فإن فيها معنى القول أو مصدرية و المصدر منصوب بدل من ما وصى مفعول شرع أو مرفوع خبر مبتدأ محذوف أي هو يعني خذوا ما آتاكم الرسول بلا زيغ و انحراف﴿ و لا تتفرقوا فيه ﴾ بإتباع الآراء و الأهواء أو بالتعصب و العناد فإن افتراق أمة محمد صلى الله عليه و سلم إلى ثلاث و سبعين فرقة إنما نشأ بإتباع الآراء و الأهواء وهو المراد بما ذكرنا من حديث رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه خط خطا و قال هذا سبيل الله و خطوطا و قال :" هذه سبل على كل منها شيطان " و ترك اليهود و النصارى الإيمان بمحمد صلى الله عليه و سلم إنما نشأ من العناد و التعصب و عن علي رضي الله عنه قال لا تتفرقوا فالجماعة رحمة و الفرقة عذاب.
و عن أبي ذر قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم :" من فارق الجماعة شبرا فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه " رواه أحمد و أبو داود، و عن ابن عباس رضي الله عنهما قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم :" يد الله مع الجماعة " رواه الترمذي بسند حسن، و عن معاذ بن جبل قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم :" إن الشيطان ذئب الإنسان كذئب الغنم يأخذ الشاذة و القاصية و الناحية و إياكم و الشعاب و عليكم بالجماعة و العامة " رواه أحمد ﴿ كبر على المشركين ما تدعوهم إليه ﴾ من الدين القويم الناطق بالتوحيد و ترك الأصنام ﴿ الله يجتبي ﴾ أي يصطفي ﴿ إليه ﴾ أي إلى دينه أو إلى ما تدعوهم إليه أو إلى نفسه ﴿ من يشاء ﴾ سواء وجد من المجتبى سعي و إرادة أو لا ﴿ و يهدي إليه من ينيب ﴾ أي يقبل إليه قالت الصوفية من يجتبيه و يجذبه إلى نفسه من غير اختياره فهو مراد الله و هم الأنبياء و الصديقون و من أناب إلى الله فهداه الله فهو المريد و هم أولياء الله الصالحون من عباده.
﴿ و ما تفرقوا ﴾ عطف على شرع، قال ابن عباس يعني أهل الكتاب ﴿ إلا من بعد ما جاءهم العلم ﴾ من الكتب السماوية السابقة بأن دين الأنبياء كلهم واحد و أن الذي أوحى إلى محمد صلى الله عليه و سلم هو الذي جاء به إبراهيم و موسى و عيسى ﴿ بغيا بينهم ﴾ قال عطاء بغيا بينهم على محمد صلى الله عليه و سلم يعني تكبرا و استطالة، قال في القاموس بغى عليه يبغي بغيا علا و ظلم و عدل و استطال ﴿ و لولا كلمة سبقت من ربك ﴾ في تأخير العذاب ﴿ إلى أجل مسمى ﴾ إلى دار الجزاء ﴿ لقضي بينهم ﴾ أي بين من آمن و من كفر في الدنيا باستئصال المبطلين و استيلاء المحقين ﴿ و إن الذين أورثوا الكتاب ﴾ يعني اليهود و النصارى ﴿ من بعدهم ﴾ أي بعد أنبيائهم، و قيل بعد الأمم الخالية، وقيل المراد مشركي مكة الذين أورثوا الكتاب أي القرآن من بعدهم أي بعد أهل الكتاب ﴿ لفي شك منه ﴾ أي من كتابهم لا يعلمونه كما هو و لا يؤمنون به حق الإيمان أو من القرآن ﴿ مريب ﴾ مقلق أو مدخل في الريبة.
﴿ فلذلك ﴾ أي للتفرق من أهل الكتاب ﴿ فادع ﴾ الفاء في جواب أما المحذوف تقديره أما أنت فادع الناس إلى إقامة الدين و عدم التفرق و إتباع ما أوتيت ﴿ و استقم ﴾ أنت عليه ﴿ كما أمرت و لا تتبع أهواءهم ﴾ الزائفة ﴿ و قل آمنت بما أنزل الله من كتاب ﴾ أي بجميع الكتب المنزلة لا كما قالت اليهود و النصارى ﴿ نؤمن ببعض و نكفر ببعض و يريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلا ﴾ ﴿ و أمرت ﴾ بالعدل ﴿ لأعدل بينكم ﴾ في تبليغ الشرائع و الحكم بين المتخاصمين الأول إشارة إلى كمال القوة النظرية و هذا إشارة إلى كمال القوة العملية ﴿ الله ربنا و ربكم ﴾ خالق الكل و متولي أمورهم ﴿ لنا أعمالنا و لكم أعمالكم ﴾ كل يجزي على حسب عمله ﴿ لا حجة ﴾ أي لا خصومة ﴿ بيننا و بينكم ﴾ لأن أعمالكم لا يضرنا و أعمالنا لا يضركم إنما ندعوكم إلى الإسلام نصحا لكم فلا وجه للخصومة و العداوة كان نزول هذه الآية في مكة قبل الأمر بالقتال و المعاداة فنسختها آية القتال، و قوله تعالى :﴿ يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي و عدوكم أولياء ﴾ إلى قوله :﴿ بدا بيننا و بينكم العداوة و البغضاء أبدا حتى تؤمنوا بالله وحده ﴾ ﴿ و الله يجمع بيننا ﴾ يوم القيامة فيحكم بيننا ﴿ و إليه المصير ﴾.
أخرج ابن المنذر عن عكرمة قال لما نزلت ﴿ إذا جاء نصر الله و الفتح و رأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا ﴾ قال المشركون بمكة لمن كان بين أظهرهم من المؤمنين قد دخل الناس في دين الله أفواجا فأخرجوا من بين أظهرنا، فعلى كم يقيمون بين أظهرنا فنزلت ﴿ و الذين يحاجون في الله ﴾ أي في دينه، و أخرج عبد الرزاق أنه قال قتادة هم اليهود و النصارى قالوا كتابنا قبل كتابكم و نبينا قبل نبيكم فنحن خير منكم فهذه خصومتهم ﴿ من بعدما استجيب له ﴾ أي بعدما استجاب الناس دعوته فأسلموا و دخلوا في دينه لظهور معجزته و حسن دعوته ﴿ حجتهم داحضة عند ربهم ﴾ أي خصومتهم باطلة زائلة أو المعنى ما يزعمونه حجة في الحقيقة شبهة باطلة ﴿ و عليهم غضب ﴾ من الله لمعاندتهم ﴿ و لهم عذاب شديد ﴾ على كفرهم.
﴿ الله الذي أنزل الكتاب ﴾ أي جنس الكتب ﴿ بالحق ﴾ أي متلبسا به بعيدا من الباطل و بما يحق به إنزاله من العقائد الحقة و الأحكام ﴿ والميزان ﴾ قال قتادة و مجاهد و مقاتل بالعدل سمى العدل ميزانا لأن الميزان آلة الإنصاف و التسوية، و قال ابن عباس أمر الله تعالى بالإيفاء و نهى عن البخس، و قيل المراد به الشرع فإنه توازن به الحقوق و تسوى بين الناس ﴿ و ما يدريك لعل الساعة قريب ﴾ قال الكسائي أي قريب إتيانها فاتبع الكتاب و أعمل بالشرع وواظب على العدل قبل أن نفاجئك الساعة يوزن حينئذ أعمالك و يوفى جزاؤك، و قيل تذكير القريب كأنه بمعنى ذات قرب أو لأن الساعة بمعنى البعث و جملة لعل الساعة قريب سد مسد المفعولين ليدريك و لعل علق الفعل عن العمل.
قال مقاتل ذكر النبي صلى الله عليه و سلم الساعة و عنده قوم من المشركين فقالوا تكذيبا متى الساعة فأنزل الله تعالى :﴿ يستعجل بها الذين لا يؤمنون بها ﴾ استهزاء وظنا أنها غير آتية ﴿ و الذين آمنوا مشفقون منها ﴾ أي خائفون منها لاحتمال العذاب ﴿ و يعلمون أنها الحق ﴾ الكائن لا محالة ﴿ ألا إن الذين يمارون في الساعة ﴾ أي يجادلون فيها و يشكون في إتيانها، في القاموس المرية بالكسر و الضم الشك و الجدل و ما رآه مماراة شك، و أصل ذلك من مرنت الناقة إذا مسحت ضرعها بشدة للحلب لأن كلا من المتجادلين يستخرج ما عند صاحبه بكلام فيه شدة ﴿ لفي ضلال بعيد ﴾ عن الحق فإن البعث أشبه الغائبات بالمحسوسات فمن لم يهتد إلى تجويزه مع كمال قدرة الله بعد دلالة الكتاب و السنة عليه و شهادة العقل على دار الجزاء فهو أبعد من الاهتداء إلى ما وراءه
﴿ الله لطيف بعباده ﴾ قال ابن عباس حفي بهم، قال عكرمة بار بهم، قال السدي رفيق، و قال مقاتل لطيف بالبر و الفاجر حيث لم يهلكهم جزاء لمعاصيهم، و قيل لطيف في إيصال المنافع و صرف البلاء من وجه بلطف إدراكه، قيل لطيف بالغوامض علمه و عظيم عن الجرائم حلمه و ينشر المناقب و يستر العيوب و يعطي العبد فوق الكفاية و يكلفه بالطاعة دون الطاقة ﴿ يرزق من يشاء ﴾ و ما يشاء فيختص كلا من عباده بنوع من البر على ما اقتضته حكمته و كل من يرزق من مؤمن و كافر و ذات روح فهو ممن يشاء الله أن يرزقه، قال جعفر بن محمد عليهما السلام اللطيف في الرزق من وجهين أحداهما أنه جعل رزقك من الطيبات و الثاني أنه لم يدفعه إليك بمرة واحدة ﴿ و هو القوي ﴾ الباهر قدرته ﴿ العزيز ﴾ المنيع الذي لا يغلب و الجملة حال أو تذليل.
﴿ من كان يريد حرث الآخرة ﴾ الحرث في الأصل إلقاء البذر في الأرض و يقال للزرع الحاصل منه، و في القاموس الحرث الكسب و جمع المال و الزرع و المراد هاهنا ثواب الآخرة شبهه بالزرع من أنه ثمرة للعمل في الدنيا و لذلك قيل الدنيا مزرعة الآخرة أو شبهه بالكسب أي ما حصل منه فإنه يحصل بما يكسب في الدنيا ﴿ نزد له في حرثه ﴾ أي في كسبه و زرعه فنعطيه بالواحد عشرا إلى سبع مائة ﴿ كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة ﴾ ﴿ و من كان يريد حرث الدنيا ﴾ أي يريد بعمله نصيبا من الدنيا ﴿ نؤته منها ﴾ شيئا على ما قسمنا له ﴿ و ما له في الآخرة من نصيب ﴾ عطف على نؤته عن عمر بن الخطاب قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم :" إنما الأعمال بالنيات و إنما لكل امرئ ما نوى فمن كانت هجرته إلى الله و رسوله فهجرته إلى الله و رسوله و من كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها فهجرته إلى ما هاجر إليه " متفق عليه، و عن أبي بن كعب قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم :" بشر هذه الأمة بالسناء و الرفعة و النصر و التمكين في الأرض فمن عمل منهم عمل الآخرة للدنيا لم يكن له في الآخرة نصيب " رواه البغوي.
﴿ أم لهم شركاء ﴾ أم منقطعة بمعنى بل و الهمزة للإنكار يعني بل الهم ما زعموا شركاء لله سبحانه خصص الشركاء بهم لأنهم اتخذوها شركاء ﴿ شرعوا ﴾ أي تلك الشركاء ﴿ لهم من الدين ما لم يأذن به الله ﴾ قال ابن عباس شرعوا دينا غير دين الإسلام يعني الشرك و إنكار البعث و العمل للدنيا و الجملة متصلة بقوله :﴿ شرع لكم من الدين ﴾ و قيل أم متصلة معادلة لجملة محذوفة مصدرة بالهمزة تقديرها أيقبلون ما شرع الله أم يقبلون ما شرع لهم شركاؤهم ﴿ و لولا كلمة الفصل ﴾ أي القضاء السابق بتأخير الجزاء إلى يوم القيامة كما قال :﴿ بل الساعة موعدهم ﴾ ﴿ لقضي بينهم ﴾ أي بين الكافرين و المؤمنين و فرغ من تعذيب من كذبك في الدنيا و الجملة معترضة ﴿ و إن الظالمين ﴾ أي المشركين ﴿ لهم عذاب أليم ﴾ في الآخرة وضع المظهر موضع المضمر لبيان استحقاقهم و التقدير أنهم لهم عذاب أليم لما كانوا ينكرونه
﴿ ترى الظالمين ﴾ أي المشركين يوم القيامة ﴿ مشفقين ﴾ خائفين مفعول ثان لترى أو حال ﴿ مما كسبوا ﴾ أي من جزاء ما كسبوا من الشرك و المعاصي ﴿ و هو ﴾ أي جزاء ما كسبوا ﴿ واقع بهم ﴾ لا محالة أشفقوا أو لم يشفقوا حال مقدرة ﴿ و الذين آمنوا و عملوا الصالحات في روضات الجنات ﴾ أي أطيب بقاعها و أنزهها ﴿ لهم ما يشاءون ﴾ أي ما يشتهونه ثابت لهم ﴿ عند ربهم ذلك ﴾ الذي ذكرت من نعيم الجنة ﴿ هو الفضل الكبير ﴾ الذي يصغر دونه ما لهم في الدنيا
﴿ ذلك ﴾ الثواب ﴿ الذي يبشر ﴾ قرأ ابن كثير و أبو عمرو وحمزة و الكسائي يبشر بالتخفيف من البشرة و الباقون من التفعيل ﴿ الله به عباده الذين آمنوا و عملوا الصالحات ﴾ ﴿ قل ﴾ يا محمد لا ﴿ أسألكم عليه ﴾ أي على ما أتعاطاه من التبليغ و البشارة ﴿ أجرا ﴾ أي نفعا ﴿ إلا المودة في القربى ﴾ جال من المودة أي إلا أن تؤدوني لقرابتي منكم و الجملة معترضة، و روى البخاري في الصحيح بسند عن عبد الملك بن ميسرة قال سمعت طاووسا أنه قال سئل ابن عباس عن المودة في القربى فقال سعيد بن جبير القربى آل محمد، فقال ابن عباس عجلت إن النبي صلى الله عليه و سلم لم يكن بطن من قريش إلا كان له فيهم قرابة، فقال إلا أن تصلوا بيني و بينكم من القرابة
قال البغوي و كذلك روى الشعبي عن ابن عباس قال المودة في القربى يعني أن تحفظوني قرابتي و تودوني و تصلوا رحمي، و إليه ذهب مجاهد و عكرمة و مقاتل و السدي و الضحاك قال عكرمة لا أسألكم على ما أدعوكم أجرا إلا أن تحفظوني و قرابتي بيني و بينكم و ليس كما يقول الكذابون، قال البغوي قال قوم هذه الآية منسوخة وإنما نزلت بمكة وكان المشركون يؤذون رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله هذه الآية فأمرهم بمودة رسول الله صلى الله عليه و سلم و صلة رحمه فلما هاجر إلى المدينة و أواه الأنصار و نصروه أحب الله أن يلحقه بإخوانه من الأنبياء عليهم السلام حيث قالوا ﴿ و ما أسئلكم عليه من أجر إن أجري إلا على رب العالمين { ١٠٩ ﴾ } فأنزل الله ﴿ قل لا أسألكم عليه أجرا ﴾ فهي منسوخة بهذه الآية و بقوله ﴿ قل ما أسألكم عليه من أجر و ما أنا من المتكلفين ﴾ و غيرهم من الآيات و إلى هذا ذهب الضحاك بن مزاحم و الحسين بن الفضل، قال البغوي و هذا قول غير مرضي لأن مودة النبي صلى الله عليه و سلم كف الأذى عنه وكذا مودة أقاربه من فرائض الدين، قلت : لاشك أن مودة رسول الله صلى الله عليه وسلم و أقاربه فريضة محكمة لا يحتمل النسخ لحديث أنس قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم :" لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده و الناس أجمعين " و عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم " ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان من كان الله و رسوله أحب إليه مما سواهما و من أحب عبدا لا يحبه إلا لله و من يكره أن يعود في الكفر بعد أن أنقذه الله منه كما يكره أن يلقى في النار " روى الحديثين الشيخان في الصحيحين و على ذلك انعقد الإجماع، لكن يمكن أن يقال أن المنسوخ إنما هو ما أمر الله تعالى رسوله بسؤاله الأجر و روى ابن نجيح عن مجاهد عن ابن عباس في معنى الآية إلا أن تودوا الله و تتقربوا إليه بطاعته، و هذا قول الحسن قال هو القربى إلى الله يقول إلا التقرب إلى الله و التودد إليه بالطاعة و العمل الصالح، و قال بعضهم معناه إلا أن تودوا قرابتي و عترتي و تحفظوني و هو قول سعيد بن جبير و عمرو بن شعيب، أخرج ابن أبي حاتم و الطبراني و ابن مردويه عن ابن عباس قيل يا رسول الله من قرابتك ؟ هؤلاء قال علي و فاطمة و أبناءهما.
و أستدل الروافض بهذه الآية مع هذا الحديث على حصر الخلافة في علي و بطلان خلافة الخلفاء الثلاثة المرضيين رضي الله عنهم أجمعين، وجه احتجاجهم أنهم قالوا وجب حب علي بهذه الآية مع هذا الحديث و حب غير علي ليس بواجب ووجوب المحبة يستلزم ووجوب الطاعة فهو الإمام لا غير، و قولهم هذا باطل بوجوه : أحدها إن هذا الحديث غير صحيح في إسناده حسين الأشعري شيعي غليظ و هذه الآية مكية و لم يكن لفاطمة حينئذ ولد، و ثانيها إنا نسلم أن حب على و فاطمة و أبناءهما واجب لكن لا نسلم أن حب غيرهم ليس بواجب كيف و قد قال رسول الله صلى الله عليه و سلم :" حب أبي بكر و عمر إيمان و بغضهما كفر " رواه ابن عدي عن انس، و قال رسول الله صلى الله عليه و سلم :" حب أبي بكر و عمر من الإيمان و بغضهما كفر، و حب الأنصار من الإيمان و بغضهم كفر و حب العرب من الإيمان و بغضهم كفر و من سب أصحاب فعليه لعنة الله و من حفظني فيهم فأنا أحفظه يوم القيامة " رواه ابن عساكر عن جابر، و قال رسول الله صلى الله عليه و سلم :" حب الأنصار آية الإيمان و بغض الأنصار آية النفاق " رواه النسائي عن أنس، و قال رسول الله صلى الله عليه و سلم :" حب قريش إيمان و بغضهم كفر و حب العرب إيمان و بغضهم كفر و من أحب العرب فقد أحبني و من أبغض العرب فقد ابغضني " رواه الطبراني في الأوسط عن أنس، و قولهم إن من وجب محبته يكون إماما مفروض الطاعة باطل.
و قيل هذه الآية لوجوب محبته من حرم عليهم الصدقة و هم بنوا هاشم و بنوا المطلب الذين لم يتفرقوا في الجاهلية و لا في الإسلام، و قيل هم آل علي و عقيل و جعفر و عباس و فيهم قوله صلى الله عليه و سلم :" إني تارك فيكم الثقلين كتاب الله و أهل بيتي أذكركم الله في أهل بيتي " عن زيد بن أرقم قال قام رسول الله صلى الله عليه و سلم فينا خطيبا بما يدعى خما بين مكة و المدينة فحمد الله و أثنى عليه ووعظ و ذكر ثم قال :" أما بعد ألا يا أيها الناس إنما أنا بشر يوشك أن يأتيني رسول ربي فأجيب و أنا تارك فيكم الثقلين أولهما كتاب الله فيه الهدى و النور فخذوا بكتاب الله و استمسكوا به فحث على كتاب الله و رغب فيه، ثم قال و أهل بيتي أذكركم الله في أهل بيتي أذكركم الله في أهل بيتي " قال البغوي قيل لزيد بن أرقم من أهل بيته ؟ قال : هم آل علي وآل عقيل و آل عباس فإن قيل كيف أمر رسول الله صلى الله عليه و سلم بسؤال مودته أو مودة أقربائه أجرا على تبليغ الرسالة مع أن التبليغ كان عليه فريضة و لا يجوز طلب الأجر على أداء الفريضة بل على العبادة النافلة أيضا لما ذكرنا في تفسير قوله تعالى :﴿ من كان يريد حرث الدنيا نؤته منها و ما له في الآخرة من نصيب ﴾ قوله صلى الله عليه و سلم " من عمل منهم عمل الآخرة للدنيا لم يك له للآخرة نصيب " قلنا إطلاق الأجر على ما أمر النبي صلى الله عليه و سلم بسؤاله على التبليغ إنما هو على المجاز و المشاكلة فإن الأجر للسائل على الحقيقة ليس إلا ما يكون نافعا له مسؤولا لانتفاعه به و هاهنا ليس كذلك بل إنما سأل النبي صلى الله عليه و سلم أمته مودته و مودة أقربائه و أمره الله سبحانه أن يسأل ذلك لكي ينتفع الناس بمحبته فإن محبة النبي صلى الله عليه و سلم مثمرة لمحبة الله تعالى و قربه وولايته و موجبة لكمال الإيمان، و من هاهنا أقول إن الأولى أن يقال في تأويل الآية لا أسألكم أجرا إلا أن تودوا أقربائي و أهل بيتي و عترتي و ذلك لأنه صلى الله عليه و سلم كان خاتم النبيين لا نبي بعده و إنما انتصب للدعوة إلى الله بعده صلى الله عليه و سلم علماء أمته من أهل الظاهر و الباطن و لذلك أمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه و سلم أن يأمر أمته بمودة أهل بيته لأن عليا رضي الله عنه و الأئمة من أولاده كانوا أقطابا لكمالات الولاية و من أجل ذلك قال رسول الله صلى الله عليه و سلم :" أنا مدينة العلم و علي بابها " رواه البزار و الطبراني عن جابر و له شواهد من حديث ابن عمر و ابن عباس و علي و أخيه و صححه الحاكم، و من أجل ذلك ترى كثيرا من سلاسل المشايخ تنتهي على أئمة أهل البيت و مضى كثير من الأولياء في السادات العظام منهم غوث الثقلين محيي الدين عبد القادر الجيلي الحسني الحسيني و بهاء الدين النقشبندي و السيد السند مودود الجشتي و سيد معين الدين الجشتي و أبو الحسن الشاذلي و غيرهم و من أجل ذلك قال رسول الله صلى الله عليه و سلم :" إني تارك فيكم الثقلين كتاب الله و عترتي ".
و قال أكثر علماء التفسير الاستثناء منقطع و الأجر مستعمل في معناه الحقيقي فالمعنى لا أسألكم أجرا قط و لكني أذكركم المودة في القربى و أذكركم قرابتي منكم كما ورد في حديث زيد بن أرقم " أذكركم الله في بيتي " و مما يدل على أن سؤال صلى الله عليه و سلم مودة نفسه و أقربائه كان لينتفع بها أمته قوله تعالى :﴿ و من يقترف حسنة ﴾ أي من يكتب حسنة و المراد بها حب رسول الله صلى الله عليه و سلم و نوابه و إلا فلا مناسبة لهذه الجملة بما سبق لكن اللفظ عام يعم كل حسنة ﴿ نزد له فيها حسنا ﴾ و ذلك أن حب آل رسول الله صلى الله عليه و سلم ﴿ و هم مشايخ الطريقة ﴾ مثمر للمزيد في حب النبي صلى الله عليه و سلم و حبه صلى الله عليه وسلم مثمر للمزيد في حب الله تعالى من هاهنا قالت الصوفية يحصل للصوفي أولا الفناء في الشيخ ثم الفناء في الرسول ثم الفناء في الله تعالى، و الفناء عبارة عن شدة الحب بحيث يذهل نفسه عند ذكر المحبوب حتى لا يرى من نفسه و لا من غيره عنها و لا آثرا ما عدا المحبوب و قيل هذه الآية نزلت في أبي بكر الصديق و مودته للنبي صلى الله عليه و سلم، و قال البخاري في الصحيح عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه قال :﴿ إرقبوا محمدا في أهل بيته " { إن الله غفور ﴾ يغفر ذنوب من يحب رسوله و أولياءه لعل هو المراد بقوله تعالى :﴿ ليغفر لك ما تقدم من ذنبك و ما تأخر ﴾ أي من ذنب أوليائك و أحبائك ﴿ شكور ﴾ على طاعته و محبته.
﴿ أم يقولون ﴾ أم كمقطعة و الجملة متصلة بقوله ﴿ قل لا أسألكم عليه أجرا ﴾ و معنى الهمزة الإنكار و التوبيخ و بل للإضراب عن أداء الأجر يعني أنهم لا يؤدون أجر الرسالة بل أيقولون يعني كفار مكة ﴿ أفترى ﴾ محمد ﴿ على الله كذبا ﴾ بدعوى النبوة أو القرآن ﴿ فإن يشأ الله يختم على قلبك ﴾ جملة معترضة أوردت إستبعادا لله للافتراء عن مثله بالإشعار على أنه لا يجترئ عليه من كان مختوما على قلبه جاهدة بربه فأما من كان ذا بصيرة معرفة بربه فلا و كأنه قال إن يشأ الله وضع كلمة خذلانك يختم على قلبك لتجتري بالافتراء عليه، و قال مجاهد يربط على قلبك بالصبر حتى لا يشق عليك أذاهم و قولهم إنك مفتر، و قال قتادة يعني طبع على قلبك فينسينك القرآن و ما أتاك فأخبرهم أنه لو افترى على الله لفعل به ما أخبر في هذه الآية ﴿ و يمح الله الباطل و يحق الحق بكلماته ﴾ استئناف لنفي الافتراء عما يقوله بأنه لو كان مفتر لمحاه إذ من عادته تعالى محو الباطل و إثبات الحق بوحيه أو بقضائه أو بوعده بمحق باطلهم و إثبات حقه بالقرآن أو بقضائه الذي لا مرد له، قال الكسائي فيه تقديم و تأخير مجازه والله يمحو الباطل و هو في محل الرفع و ليس بمجزوم عطفا على يختم لأن المحو غير معلق بالشرط بل هو وعد مطلق و إنما حذفت الواو في الخط بإتباع اللفظ كما حذفت في قوله تعالى :﴿ و يدع الإنسان ﴾ ﴿ و سندع الزبانية ﴾ و قد فعل ذلك فمحى باطلهم و أعلى كلمة الإسلام، بما أنزل من آياته ﴿ إنه عليم بذات الصدور ﴾.
قال البغوي قال ابن عباس و كذا أخرج عنه الطبراني بسند ضعيف أنه قال لما نزل ﴿ قل لا أسئلكم عليه أجرا إلا المودة في القربى ﴾ وقع في قلوب قوم منها شيء و قالوا هذا يريد أن يحثنا على أقاربه من بعده فنزل جبرئيل فأخبره أنهم اتهموه و أنزل الله هذه الآية فقال القوم يا رسول الله فإنا نشهد أنك صادق فنزل ﴿ و هو الذي يقبل التوبة عن عباده ﴾
قال ابن عباس يريد أولياءه و أهل طاعته يقال قبلت منه الشيء إذا أخذته و جعلته مبدأ قبول و قبلت عنه أي عزلته عنه، قيل التوبة ترك المعاصي نية و فعلا و الإقبال على الطاعة نية و فعلا، و قال سهل بن عبد الله التوبة الانتقال من الأحوال المذمومة إلى الأحوال المحمودة، و ذكر البيضاوي عن علي كرم الله وجهه هو اسم يقع على ستة معان على الماضي من الذنوب الندامة و لتضييع الفرائض الإعادة و رد المظالم و إذابة النفس في الطاعة كما إذبتها في المعصية فإذاقتها مرارة الطاعة كما أذقتها حلوة المعصية و البكاء بدل ضحك ضحكت، و روى البغوي في شرح السنة عن ابن مسعود موقوفا الندم توبة و التائب من الذنب كمن لا ذنب له.
فصل
عن حارث بن سويد قال دخلت على عبد لله أعوده فقال سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول :" لله أفرح بتوبة عبده من رجل ﴿ أظنه قال ﴾ في برية مهلكة معه راحلته عليها طعامه و شرابه فنزل فنام فاستيقظ و قد هلكت راحلته فطاف عليها حتى أدركه العطش قال أرجع إلى حيث كانت راحلتي فأموت عليه فرجع فأغفى فاستيقظ فإذا هي عنده عليها طعامه و شرابه " رواه البغوي، و روى مسلم عن أنس بن مالك قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " الله أشد فرحا بتوبة عبده حين يتوب إليه من أحدكم كان راحلته بأرض فلاة فانقلبت و عليها طعامه و شرابه فايس منها فأتى شجرة فاضطجع في ظلها قد يئس من راحلته فبينما هو كذلك إذ هو بها قائمة عنده فأحذ بخطامها ثم قال من شدة الفرح الله أنت عبدي و أنا ربك أخطأ من شدة الفرح " وروى مسلم عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم :" إن العبد إذا اعترف ثم تاب الله عليه " متفق عليه، و روى مسلم أيضا عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم :" من تاب قبل أن تطلع الشمس من مغربها تاب الله عليه " و روى ابن ماجه و البيهقي عن ابن مسعود قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم :" التائب من الذنب كمن لا ذنب له " .
﴿ و يعفوا عن السيئات ﴾ صغيرها و كبيرها بالتوبة و بلا توبة لمن شاء، روى الشيخان في الصحيحين عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم " قال رجل ﴿ لم يعمل خيرا قط ﴾ لأهله إذا مات فحرقوه ثم اذروا نصفه في البر و نصفه في البحر فوالله لئن قدر الله عليه. . . . . . . ليعذبنه عذابا لا يعذبه أحدا من العالمين فلما مات فعلوا ما أمرهم فأمر الله البحر فجمع ما فيه و أمر البر فجمع ما فيه ثم قال له لم فعلت هذا ؟ قال من خشيتك يا رب و أنت أعلم فغفر له " و روى أحمد عن أبي الدرداء أنه سمع النبي صلى الله عليه و سلم يقول على المنبر- ﴿ لمن خاف مقام ربه جنتان ﴾ قال قلت و إن زنى و إن سرق يا رسول الله ؟ فقال الثانية ﴿ و لمن خاف مقام ربه جنتان ﴾ فقلت الثانية و إن زنى و إن سرق يا رسول الله ؟ فقال الثالثة و لمن خاف مقام ربه جنتان، فقلت الثالثة و إن زنى و إن سرق يا رسول الله ؟ قال و إن رغم أنف أبي الدرداء " ﴿ و يعلم ما تفعلون ﴾ قرأ حمزة و الكسائي و حفص بالتاء الفوقانية قالوا هو خطاب للمشركين و الباقون بالياء التحتانية لأنه بين خبرين عن قوم غيب قبله ﴿ عن عباده ﴾ و بعده و يزيدهم من فضله "
﴿ و يستجيب ﴾ عطف على يقبل ﴿ الذين آمنوا و عملوا الصالحات ﴾ أي يستجيب الله دعاءهم إذا دعوا فحذف اللام كما حذف في و إذا كالوهم، و قال عطاء عن ابن عباس معناه و يثبت الذين آمنوا، قال البيضاوي معنى الاستجابة الإثابة على الطاعة فإنها كدعاء و طلب منه قوله صلى الله عليه و سلم " أفضل الدعاء الحمد لله " أخرجه الترمذي و النسائي و ابن ماجه و ابن حبان من حديث جابر و الله أعلم روي عن إبراهيم بن أدهم إنه قيل له ما بالنا ندعو فلا نجاب ؟ قال لأنه تعالى دعاكم فلم تجيبوه ﴿ و يزيدهم ﴾ أي يعطيهم زائدا على ما سألوه أو استحقوه ﴿ من فضله ﴾ قال أبو صالح عن ابن عباس يشفعهم في إخوانهم ﴿ و يزيدهم من فضله ﴾ في إخوان إخوانهم ﴿ و الكافرون لهم عذاب شديد ﴾ في مقابلة ما للمؤمنين من الثواب و الفضل و الجملة معطوفة على قوله :﴿ و هو الذي يقبل التوبة ﴾.
﴿ ولو بسط الله الرزق لعباده ﴾ قال البغوي قال خباب بن الأرث فينا نزلت هذه الآية و ذلك أنا نظرنا إلى بني قريظة و النضير و بني قينقاع فتمنيناها فأنزل الله عز وجل ﴿ و لو بسط الله الرزق لعباده ﴾ ﴿ لبغوا ﴾ أي لتكبروا و أفسدوا ﴿ في الأرض ﴾ بطرا أو لبغى بعضهم على بعض استيلاء و استعلاء، و قال ابن عباس بغيهم طلبهم منزلة بعد منزلة و مركبا بعد مركب و ملبسا بعد ملبس و أصل البغي التجاوز عن الإقتصاد فيما يتجزى كمية و كيفية ﴿ و لكن ينزل ﴾ أرزاقهم ﴿ بقدر ﴾ يقتضيه حكمته ﴿ ما يشاء ﴾ الموصول مفعول لينزل و بقدر حال منه مقدم عليه ﴿ إنه بعباده خبير بصير ﴾ يعلم خفايا حالهم و ما يؤل إليه أمرهم، أخرج الحاكم و صححه عن علي رضي الله عنه قال نزلت هذه الآية في أصحاب الصفة و ذلك أنهم قالوا لو أن لنا فتمنوا الغنى، و أخرج الطبراني عن عمرو بن حريث مثله روى البغوي بسنده عن أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه و سلم عن جبرئيل عن الله تعالى قال يقول الله عز وجل :" من أهان لي وليا فقد بارزني بالمحاربة و إن لأغضب لأوليائي كما يغضب الليث المجرد و ما تقرب إلي عبدي المؤمن بمثل أداء ما افترضت عليه و مازال عبدي المؤمن يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت له سمعا و بصرا و يدا و مؤيدا إن دعاني أجبته و إن سألني أعطيته و ما ترددت في شيء أنا فاعله ترددي في قبض روح عبدي المؤمن يكره الموت و أنا أكره مساءته و لابد له منه، و إن من عبادي المؤمن لمن يسألني الباب من العبادة فأكفه عنه لا يدخله عجب فيفسده ذلك و إن من عبادي المؤمنين لمن لا يصلح إيمانه إلا الغنى و لو افتقرته لأفسده ذلك، و إن من عبادي المؤمنين لا يصلح إيمانه إلا الفقر و لو أغنيته لأفسده ذلك، و إن من عبادي المؤمنين لمن لا يصلح إيمانه إلا الصحة و لو أسقمته لأفسده ذلك، و إن من عبادي المؤمنين لمن لا يصلح إيمانه إلا السقم و لو أصححته لأفسده ذلك، إني أدبر أمر عبادي بعلمي في قلوبهم إني عليم خبير " .
﴿ و هو الذي ينزل ﴾ عطف على قوله ﴿ و هو الذي يقبل التوبة ﴾ و ما ذكر من الشرطية معترضة، قرأ نافع و ابن عامر و عاصم بالتشديد من التفعيل و الباقون بالتخفيف من الأفعال ﴿ الغيث ﴾ أي المطر النافع الذي يغيثهم من الجدب ﴿ من بعد ما قنطوا ﴾ أي يئس الناس من نزوله ﴿ و ينشر رحمته ﴾ أي مطره أو رزقه في السهل و الجبل من النبات و الحيوان ﴿ و هو الولي ﴾ الذي يتولى عباده بإحسانه و ينشر ﴿ الحميد ﴾ المستحق للحمد في نفسه و على إحسانه
﴿ و من آياته ﴾ أي من دلائل وجوده ووحدته و قدرته و صفات كماله ﴿ خلق السماوات و الأرض ﴾ فإنها بذواتها، و صفاتها تدل على وجود صانع قادر حكيم ﴿ وما بث فيهما ﴾ عطف على السماوات أو على الخلق ﴿ من دابة ﴾من حي، على إطلاق اسم المسبب للسبب فحينئذ يشتمل الملائكة و الجن و الشياطين و الإنس و سائر الحيوانات أو المراد مما يدب على الأرض و ما يكون في أحد الشيئين يصدق أنه فيهما في الجملة ﴿ و هو على جمعهم إذا يشاء قدير ﴾ فيجمعهم يوم القيامة.
﴿ و ما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ﴾ أي بسبب معاصيكم و ما شرطية أو موصولة متضمنة لمعنى الشرط و كذلك جيء بالفاء في خبره على قراءة الجمهور، و قرأ نافع و ابن عامر بما كسبته بغير الفاء و كذا هو في مصاحف المدينة و الشام لم يذكر الفاء استغناء بما في الباء من معنى السببية ﴿ ويعفو عن كثير ﴾ عطف على الجملة الإسمية أو معترضة، قال الحسن لما نزلت هذه الآية قال رسول الله صلى الله عليه و سلم :" و الذي نفسي بيده ما من خدش عود و لا عثرة قدم و لا اختلاج عرق إلا بذنب و ما يعفو الله عنه أكثر " و عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم " وصب المؤمن كفارة لخطاياه " رواه الحاكم في المستدرك
و البيهقي، وروى البغوي بسنده عن علي رضي الله عنه قال :" ألا أخبركم بأفضل آية من كتاب الله عز وجل حدثنا بها رسول الله صلى الله عليه و سلم " و ما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم و يعفو عن كثير " وسأفسرها لك يا علي ما أصابكم من مرض أو عقوبة أو بلاء في الدنيا فبما كسبت أيديكم و الله عز وجل أكرم أن يثني عليهم العقوبة في الآخرة وما عفا الله عنه في الدنيا فالله أحكم أن يعود بعد عفوه " رواه أحمد و غيره، قال البيضاوي الآية مخصوصة بالمجرمين فإنما أصاب غيرهم فلأسباب أخر منها تعريضه للأجر العظيم بالصبر عليه، قال البغوي قال عكرمة ما من نكبة أصاب عبدا فما فوقها إلا بذنب لم يكن الله ليغفر له إلا بها أو درجة لم يكن الله ليبلغه إلا بها.
﴿ وما أنتم بمعجزين في الأرض ﴾ فائتين ما قضى عليكم من المصائب حال من مفعول أصابكم أو عطف على جملة ما أصابكم و عطف على هذا قوله ﴿ و ما لكم من دون الله من ولي ﴾ يحرصكم منها ﴿ و لا نصير ﴾ يدفعها عنكم.
﴿ ومن آياته الجوار ﴾ قرأ ابن كثير الجواري بالياء وصلا ووقفا و نافع و أبو عمرو وصلا فقط و الباقون بحذفها في الحالين ﴿ في البحر ﴾ السفن الجارية فيه ﴿ كالأعلام ﴾ أي كالجبال صفة للجوار وكذا الجملة الشرطية التالية على طريقة و لقد أمر على اللئيم يسبني
﴿ إن يشأ يسكن الريح ﴾ التي تجري بها ﴿ فيظللن ﴾ أي يبقين بعد سكونها رواكد أي ثوابت ﴿ على ظهره ﴾ أي ظهر البحر لا تجري ﴿ إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور ﴾ جملة معترضة أي آيات لكل مؤمن لأن من صفة المؤمن الصبر في الشدة و الشكر في الرخاء قال رسول الله صلى الله عليه و سلم :" الإيمان نصفان فنصف في الصبر و نصف في الشكر " رواه البيهقي في شعب الإيمان عن أنس.
﴿ أو يوبقهن ﴾ عطف على فيظللن أي أو إن يشأ يسكن الريح فيوبقهن بدوام السكون أي يهلك أهلهن بإغراقها، و قيل عطف على يسكن الريح و التقدير أو يرسلها عاصفة فيوبقهن ﴿ بما كسبوا ﴾ أي بسبب ما كسب أهلها من المعاصي ﴿ و يعف عن كثير ﴾ أي و ينج ناسا على العفو منهم، جملة معترضة أو معطوفة على ما سبق و التقدير إن يشأ يسكن الريح فيظللن رواكد أو يرسلها عاصفة فيوبقهن أو طيبة فيعف عن كثير، و إنما حذف ما حذف اقتصارا على المقصود
﴿ و يعلم ﴾ قرأ نافع و ابن عامر بالرفع على الاستئناف و الباقون بالنصب عطفا على علة مقدرة لإسكان الريح و الإيباق أي إن يشأ يسكن الريح لينتقم من أهل السفينة و ليعلم ﴿ الذين يجادلون في آياتنا ﴾ بالتكذيب و الإبطال، و قيل هو معطوف على الجزاء و نصب نصب الواقع جوابا للأشياء الستة بتقدير إن عطف المصدر على المصدر يعني إن يشأ الله تعالى إسكان الريح و إهلاك قوم و إنجاء قوم و علم من يجادل في آياتنا بأنه ﴿ ما لهم من محيص ﴾ من العذاب، الجملة سدت مسد المفعولين ليعلم معلق عنها يعلم بحرف النفي أي يعلم الذين يكذبون بالقرآن و لم يعتبروا بآيات الرحمن إذا صاروا إلى الله بعد البعث أن لا مهرب لهم من العذاب أو يعلموا حين يحيط بهم الرياح في البحر إن لا مهرب لهم من الغرق.
﴿ فما أوتيتم من شيء ﴾ في الدنيا ﴿ فمتاع الحياة ﴾ أي فهو متاع الحياة ﴿ الدنيا ﴾ أي تمتعون به مدة حياتكم القريبة الفانية ليس منها زادا للمعاد فأجملوا في طلبها و اقتصروا على ما يكفيكم عما يلهيكم ﴿ و ما عند الله ﴾ من الثواب في دار الجزاء ﴿ خير ﴾ منها كما و كيفا و خالص منفعة بلا شوب مشقة ﴿ و أبقى للذين آمنوا و على ربهم يتوكلون ﴾ روي عن علي رضي الله عنه أنه تصدق أبو بكر بماله كله فلامه جمع فنزلت هذه الآية، ما الأولى موصولة تضمنت معنى الشرط من حيث أن إيتاء ما أوتوا سبب للتمتع بها في الحياة الدنيا فجاءت الفاء في جوابها بخلاف الثانية، و في الآية بيان أن للمؤمن والكافر يستويان في أن الدنيا متاع لهما يتمتعان بها فإذا صاروا إلى الآخرة كان ما عند الله خيرا للمؤمنين
﴿ و الذين يجتنبون كبائر الإثم ﴾ عطف على قوله ﴿ للذين آمنوا ﴾ قرأ حمزة و الكسائي كبير الإثم على الواحد هاهنا و في سورة النجم و الباقون كبائر بالجمع ﴿ و الفواحش ﴾ هي الكبائر و قال السدي هي الزنى، و قال مقاتل ما يوجب الحد و قد ذكرنا الكبائر، في سورة النساء ﴿ و إذا ما غضبوا هم يغفرون ﴾ عطف على يجتنبون و الظرف متعلق بيغفرون و بناء يغفرون على ضميرهم خبرا للدلالة على أنهم أحقاء بالمغفرة حال الغضب و الجملة معطوفة على الصلة و الموصول و إما مجرور عطفا على الذين آمنوا أو منصوب على المدح أو مرفوع
﴿ و الذين استجابوا لربهم ﴾ أي أجابوه إلى ما دعاهم إليه من طاعته ﴿ و أقاموا الصلاة و أمرهم شورى ﴾ مصدر كالفتيا بمعنى التشاور أي يتشاورون ﴿ بينهم ﴾ فيما يبدو لهم و لا يعجلون و لاشك أن المؤمن إذا استشار مؤمنا يشيره بما هو خير له في الدارين يأمره بالمعروف و ينهاه عن المنكر قال رسول الله صلى الله عليه و سلم :" المستشار مؤتمن " رواه مسلم عن أبي هريرة و الترمذي عن أم سلمة و ابن ماجه عن ابن مسعود، و روى الطبراني في الأوسط بسند حسن عن علي رضي الله عنه " المستشار مؤتمن فإذا استشير فليشر بما هو صانع لنفسه " وروى الطبراني في الكبير بسند حسن عن سمرة بن جندب " المستشار مؤتمن إن شاء أضار و إن شاء لم يشر " ﴿ و مما رزقناهم ينفقون ﴾ في سبيل الخير عطف أو حال.
﴿ والذين إذا أصابهم البغي ﴾ أي الظلم و العدوان ﴿ هم ينتصرون ﴾ أي ينتقمون ممن ظلمهم من غير أن يعتدوا، قال ابن زيد جعل الله المؤمنين صنفين صنفا يعفون عن ظالميهم و صنفا ينتقمون منهم و هم الذين ذكروا في هذه الآية، قال إبراهيم في هذه الآية أنهم كانوا يكرهون أن يستذلوا فإذا قدروا عفوا قال عطاءهم المؤمنون الذين أخرجوا من مكة بغيا عليهم يعني من غير حق إلا أن يقولوا ربنا الله و ثم مكنهم الله في الأرض حتى انتصروا ممن ظلمهم، و قال البيضاوي وصفهم بسائر أمهات الفضائل منها كراهة التذلل و هو لا يخالف وصفهم بالغفران فإنه ينبئ عن عجز المغفور والانتصار عن مقاومة الخصم و الحلم عن العاجز محمود عن المتغلب مذموم لأنه أجراء و إغراء على البغي، قلت : الباغي إن كان ظالما متعديا على حق الله تعالى على عامة المؤمنين فالأولى بل الواجب هناك الانتقام و سد باب الفتنة، و إن كان متعديا على نفس أحد فالانتصار و الانتقام و من غير اعتداء له من جائز لكن العفو والإصلاح و دفع السيئة بالحسنة أفضل و الله أعلم.
و لما ذكر الله سبحانه جواز الانتصار منعهم عن التعدي فيه فقال ﴿ وجزاء سيئة سيئة مثلها فمن عفا وأصلح فأجره على الله إنه لا يحب الظالمين ٤٠ ﴾
﴿ و جزاء سيئة سيئة مثلها ﴾ جملة معترضة سمى الجزاء سيئة لتشابهما في الصورة أو لأنه تسوء بمن تنزل به أو لأنه أسوأ من العفو، قال مقاتل يعني القصاص في الجراحات و الدماء، و قال مجاهد و السدي هو جواب القبيح إذا قال أخزاك الله فيقول أخزاك الله و إذا شتم أحد شتمه بمثلها من غير أن يعتدي، و قال سفيان بن عيينة قلت لسفيان الثوري ما قوله عز وجل ﴿ و جزاء سيئة سيئة مثلها ﴾ إن كان يشتمك رجل تشتمه أو يفعل بك فتفعل به فلم أجد عنده شيئا فسألت هشام بن حجيرة عن هذه الآية فقال الجارح إذا جرح يقتص منه و ليس هو أن يشتمك فتشتمه و يؤيد قول هشام قوله صلى الله عليه و سلم " المستبان شيطانان يتهاتران و يتكاذبان " رواه أحمد و البخاري في الأدب بسند صحيح عن عياض بن حمار و قوله صلى الله عليه و سلم " لا يكون اللعانون شهداء و لا شفعاء يوم القيامة " رواه مسلم و أبو داود عن أبي الدرداء، لكن قوله صلى الله عليه و سلم " المتستبان ما قالا فعلى البادي منهما حتى يعتدي المظلوم " رواه أحمد و مسلم و أبو داود عن أبي هريرة يدل على كون البادي أظلم و المجيب له نوع رخصة ﴿ فمن عفا ﴾ عن ظلم صاحبه ﴿ و أصلح ﴾ بينه و بين ظالمه ﴿ فأجره على الله ﴾ أي أن الله يأجره لا محالة، قال البغوي قال الحسن إذا كان يوم القيامة نادى مناد من كان أجره على الله فليقم فلا يقوم إلا من عفا ثم قرأ هذه الآية ﴿ إنه لا يحب الظالمين ﴾ المبتدين بالسب و المتجاوزين على المثل في الانتقام، و قال ابن عباس الذين يبدؤون بالظلم.
﴿ و لمن انتصر بعد ظلمه ﴾ المصدر مضاف إلى المفعول أي بعد ظلم الظالم إياه ﴿ فأولئك ﴾ أي المنتصرين ﴿ ما عليهم من سبيل ﴾ بالمعاينة و المؤاخذة
﴿ إنما السبيل ﴾ بالعقاب في الآخرة و المعاتبة و المؤاخذة في الدنيا ﴿ على الذين يظلمون الناس ﴾ يبدؤونهم بالإضرار و يؤذونهم في أنفسهم أو أموالهم أو أعراضهم بغير حق ﴿ و يبغون في الأرض بغير الحق ﴾ في القاموس بغى يبغي بغيا علا و ظلم و عدا عن الحق و استطال
﴿ أولئك لهم عذاب أليم و لمن صبر ﴾
عطف على من انتصر و بينهما اعتراض أي من صبر على ظلم من ظلم عليه
﴿ أولئك لهم عذاب أليم و لمن صبر ﴾
عطف على من انتصر و بينهما اعتراض أي من صبر على ظلم من ظلم عليه
﴿ و غفر ﴾ الظالم و لم ينتصر مبتدأ حذف خبره أي فهو أفضل الناس و أقيم علته مقامه و هي قوله ﴿ إن ذلك ﴾ الصبر و الغفران ﴿ لمن عزم الأمور ﴾ أي من معزوماته بمعنى المطلوبات شرعا، قال مقاتل يعني من الأمور التي أمر الله و قال الزجاج الصابر يؤتى بصبره الثواب فالرغبة في الثواب أتم عزم.
﴿ ومن يضلل الله فما له من ولي ﴾ أي ناصر يتولاه أي يلي هدايته و يمنعه من عذاب الله ﴿ من بعده ﴾ أي بعد خذلان الله إياهم جملة معترضة ﴿ و ترى الظالمين ﴾ أي المخاطب ﴿ لما رأوا العذاب ﴾ أي حين يرون العذاب ذكر بلفظ الماضي تحقيقا ﴿ يقولون هل إلى مرد من سبيل ﴾ الجملة قائم مقام المفعولين لترى أي تراهم قائلين هذا القول استفهام لفظا و معناه السؤال يسألون الرجعة إلى الدنيا
﴿ و تراهم يعرضون عليها ﴾ أي على النار يدل عليها العذاب ﴿ خاشعين ﴾ أي خائفين متذللين متقاصرين ﴿ من الذل ﴾ أي مما يلحقهم من التذلل ﴿ ينظرون ﴾ حال بعد حال من فاعل يعرضون ﴿ من طرف خفي ﴾ أي يبتدئ نظرهم إلى النار من تحريك لأجفانهم ضعيف كالصبور ينظر إلى السيف بمسارقة النظر خوفا و ذلة في نفسه، و قيل من بمعنى الباء ﴿ وقال الذين آمنوا إن الخاسرين الذين خسروا أنفسهم وأهليهم ﴾ يعني من تبعهم في الكفر بالتعريض للعذاب المخلد و قيل المراد بالأهل الحور فإنهم خسروهن بعدم وصولهم إليهن المعدة لهم في الجنة و لو آمنوا ﴿ يوم القيامة ﴾ ظرف للخسران و القول في الدنيا أو للقول أي يقولون إذا رأوهم على تلك الحال ﴿ ألا إن الظالمين في عذاب مقيم ﴾ دائم تمام كلامهم أو تصديق من الله بهم
﴿ وما كان لهم من أولياء ينصرونهم ﴾ أي يدفعون العذاب عنهم ﴿ من دون الله ﴾ حال من أولياء ﴿ و من يضلل الله فما لهم من سبيل ﴾ إلى الوصول إلى الحق في الدنيا و إلى الجنة في العقبى قد انسد عليه طرق الخير كلها.
﴿ استجيبوا لربكم ﴾ أي أجيبوا داعي الله محمدا صلى الله عليه و سلم ﴿ من قبل أن يأتي يوم لا مرد له من الله ﴾ أي لا يرده الله بعد ما حكم به و من صلة لمرد و قيل صلة يأتي أي من قبل أن يأتي يوم من الله لا يمكن رده و ذلك يوم الموت أو يوم القيامة ﴿ مالكم من ملجأ ﴾ مفر يلجئون إليه ﴿ يومئذ و مالكم من نكير ﴾ أي إنكار لما اقترفتموه لأنه مدون في صحائف أعمالكم و يشهد عليه ألسنتكم و جوارحكم أو مالكم من منكر بغير ما بكم
﴿ فإن أعرضوا ﴾ عن إجابتك يا محمد ﴿ فما أرسلناك عليهم حفيظا ﴾ حذف جزاء الشرط و أقيم تعليله مقامه تقديره فلا تحزن لأن ﴿ ما أرسلناك عليهم رقيبا مؤاخذا ﴾ على إعراضهم ﴿ إن عليك إلا البلاغ ﴾ و قد بلغت تعليل لقوله :﴿ ما أرسلناك عليهم حفيظا ﴾ ﴿ و إنا إذا أذقنا الإنسان ﴾ أراد به الجنس ﴿ منا رحمة ﴾ أي نعمة في الدنيا، قال ابن عباس يعني الغنى و الصحة ﴿ فرح بها و إن تصبهم سيئة ﴾ من القحط أو الفقر أو المرض ﴿ بما قدمت أيديهم ﴾ أي بسبب معاصيهم التي قدموه و عبر بالأيدي لأن أكثر الأفعال بها ﴿ فإن الإنسان كفور ﴾ بليغ الكفران لما تقدم من نعم الله عليه ينسى و يجحد بأقل شيء من الشدة جميع ما أسلف عليه من النعم و يذكر البلية و يعظمها و لا يتأمل في سببها، و هذا الحكم وإن اختص بالمجرمين جاز إسناده إلى الجنس لغلبتهم واندراجهم فيه و تصدير الشرطية الأولى بإذا و الثانية بأن لأن إذاقة النعمة محققة من حيث أنها عادة الله تعالى يقتضيه رحمته الذاتية بخلاف إصابة البلية و أقيم علة الجزاء مقامه ووضع الظاهر موضع الضمير في الثانية للدلالة على أن هذا الجنس موسوم بكفران النعمة
﴿ لله ملك السماوات و الأرض ﴾ فله التصرف فيها كيف يشاء من إنعام و انتقام، الجملة متصلة بقوله و من آياته الجوار ﴿ يخلق ما يشاء ﴾ تعليل لما سبق و قوله ﴿ يهب لمن يشاء إناثا ﴾ الآية، قيل بيان للخلق يعني يهب لبعض الناس أنثى لا يكون له ولد ذكر، قيل من يمن المرأة تبكيرها بالأنثى قبل الذكر لأن الله تعالى بدأ بالإناث ﴿ و يهب لمن يشاء الذكور ﴾ فلا يكون له أنثى
﴿ أو يزوجهم ذكرانا و إناثا ﴾ فيجمع له بينهما فيولد له الذكور و الإناث ﴿ ويجعل من يشاء عقيما ﴾ فلا يولد له، وقيل الجملة بدل من يخلق بدل البعض ﴿ إنه عليم ﴾ بما يخلق ﴿ قدير ﴾ على ما يشاء فيفعل بحكمته واختياره.
قال البغوي : قالت اليهود للنبي صلى الله عليه و سلم ألا تكلم الله و تنظر إليه إن كنت نبيا كما كلمه موسى و نظر إليه فقال لم ينظر موسى إلى الله عز وجل فأنزل الله تعالى ﴿ و ما كان لبشر ﴾ أي ما صح له ﴿ أن يكلمه الله إلا وحيا ﴾ وحيا وما عطف عليه منصوب على المصدرية لأن من وراء حجاب صفة كلام محذوف والإرسال نوع من الكلام و هو ما كان بتوسط الرسول و جاز أن يكون منصوبا على الحال و يكون المصدر بمعنى المفعول تقديره إلا موحي أو مستمعا من وراء حجاب أو مرسلا و الوحي في اللغة الإشارة السريعة، و المراد هاهنا كلاما خفيا غير مركب من حروف مقطعة متعاقبة يلقيه تعالى في قلب النبي صلى الله عليه و سلم المنام أو اليقظة و يعبر عنه بالإلهام و هو تعم المشافهة به كما روى في حديث المعراج و ما وعد به في حديث الرؤية في الآخرة و المهتف به كما اتفق لموسى على طوى و الطور لكن قوله ﴿ أو من وراء حجاب ﴾ يخصه بالأول فالآية دليل على جواز الرؤية لا على امتناعها، قلت : لكن ما ذكر البغوي في شأن نزول الآية يدل على نفي النظر إلى الله عند الوحي في الدنيا فالمراد بالوحي هاهنا إلقاء كلام بسيط في القلب و بقوله من وراء حجاب كلام مسموع بلا توسط الملك بغير معاينة كما أتفق لموسى في طوى و الطور كذا قال البغوي ﴿ أو يرسل رسولا ﴾ إما جبرئيل أو غيره من الملائكة ﴿ فيوحى ﴾ ذلك الرسول إلى المرسل إليه ﴿ بإذنه ﴾ أي بإذن الله ﴿ ما يشاء ﴾ قرأ الجمهور يرسل فيوحى بالنصب عطفا على وحيا بتقدير أن المصدرية و قرأ نافع بضم اللام و سكون الياء رفعا على الاستئناف فتكلم الله حينئذ ينحصر فيما كان بلا واسطة الملك و يقابله إرساله الملك بكلامه إلى الأنبياء.
عن عائشة رضي الله عنها قالت إن الحارث بن هشام سأل رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : يا رسول الله كيف يأتيك الوحي ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم :" أحيانا يأتيني مثل صلصلة الجرس و هو أشد علي فيفصم عني و قد وعيت عنه ما قال و أحيانا يتمثل لي الملك رجلا فيكلمني فأعي ما يقول، قالت عائشة و لقد رأيته ينزل عليه الوحي في اليوم الشديد البرد فيفصم عنه و إن جبينه ليتفصد عرقا " متفق عليه، وعن عبادة بن الصامت قال كان النبي صلى الله عليه و سلم " إذا نزل عليه الوحي كرب لذلك و تربد وجهه " رواه مسلم، و عن ابن عباس قال :" أقام رسول الله بمكة خمس عشر سنة يسمع الصوت و يرى الضوء سبع سنين و لا يرى شيئا و ثمان سنين يوحى إليه و أقام بالمدينة عشرا و توفي و هو ابن خمس و ستين سنة " متفق عليه، و عن عائشة قالت : أول ما بدئ به رسول الله صلى الله عليه و سلم من الوحي الرؤيا الصادقة في النوم " الحديث متفق عليه، ﴿ إنه علي ﴾ عن صفات المخلوقين ﴿ حكيم ﴾ يفعل ما يقتضيه حكمته فتكلم تارة بغير وسيط و تارة بوسيط.
﴿ وكذلك ﴾ أي إيحاء كإيحائنا إلى سائر الرسل أو كما وصفنا لك ﴿ أوحينا إليك روحا ﴾ أي كتابا و هو القرآن كذا قال الكلبي و مالك بن دينار، و قال السدي سماه روحا لأن القلوب يحيي به كما يحيي الأبدان بالأرواح، و قال الربيع الروح جبرئيل و المعنى أرسلنا إليك جبرئيل و ما قال ابن عباس أنه النبوة و قال الحسن الرحمة فالمراد به أيضا القرآن فإنه أثر النبوة و الرحمة ﴿ من أمرنا ﴾ الذي نوحيه إليك ظرف مستقر لروح أي روحا كائنا من أمرنا ﴿ ما كنت تدري ﴾ قبل الوحي حال من كاف إليك ﴿ ما الكتاب ﴾ سد مسد المفعولين لتدري و حرف الاستفهام علقه عن العمل ﴿ ولا الإيمان ﴾ يعني شرائعه و معاملة التي لا طريق إليه غير السمع فقال محمد بن إسحاق المراد بالإيمان في هذه المقام الصلاة كما في قوله تعالى ﴿ ما كان الله ليضيع إيمانكم ﴾ و هذا التفسير مبني على أن أهل العلم اتفقوا على أن الأنبياء عليهم السلام كانوا ملهمين من الله تعالى بالإيمان بالصانع المتوحد بصفات الكمال المنزه عن النقص و الزوال، و ما قيل إن النبي صلى الله عليه و سلم كان قبل الوحي يعبد الله على دين إبراهيم فشيء لا يصاعده العقل و النقل فإنه صلى الله عليه و سلم كان أميا لم يقرأ الكتاب و لم يكن دين إبراهيم شائعا في قريش كانوا يعبدون الحجارة غير أنه صلى الله عليه و سلم يرغب إلى الخلوة، قلت : و يمكن أن يقال أنه صلى الله عليه و سلم كان مؤمنا كاملا محققا بحقيقة الإيمان لكن لم يدر أن هذه الحالة إيمان و الله أعلم.
﴿ و لكن جعلناه ﴾ و قال ابن عباس يعني الإيمان و قال السدي يعني القرآن ﴿ نورا ﴾ لظلمة الجهل ﴿ نهدي به من نشاء من عبادنا ﴾ أي نوصل به إلى العقيدة الحقة في الدنيا و إلى الجنة و إلى مراتب القرب في الآخرة ﴿ و إنك ﴾ يا محمد ﴿ لتهدي ﴾ الناس كافة ﴿ إلى صراط مستقيم ﴾ و سواه دين الإسلام الموصل إلى الجنان و المراد إلى الجنان و المراد بالهداية هاهنا إراءة الطريق
﴿ صراط الله ﴾ بدل من الأول ﴿ الذي له ما في السماوات وما في الأرض ﴾ ملكا و خلقا ﴿ ألا إلى الله تصير الأمور ﴾ أي أمور الخلائق كلها في الآخرة بارتفاع الوسائط و التعلقات و فيه وعد للمطيعين ووعيد للمجرمين و الله أعلم.