السورة التي تذكر فيها الأنعام
بسم الله الرحمان الرحيم
باسمه استنارت القلوب واستقلت، وباسمه زالت الكروب واضمحلت، وبرحمته عرفت الأرواح وارتاحت، وبا (. . . ) انخنست العقول فطاحت.
ﰡ
بدأ الله - سبحانه - بالثناء على نفسه، فحمد نفسه بثنائه الأزليّ وأخبر عن سنائه الصمدي، وعلائه الأحدي فقال :﴿ الحمد لله ﴾.
وقوله عز وجل :﴿ الَّذِي خَلَقَ السَّمَواتِ وَالأَرْضَ ﴾ :" فالذي " إشارة و ﴿ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ ﴾ عبارة. استقلت الأسرارُ بسماع " الذي " لتحققها بوجوده، ودوامها لشهوده، واحتاجت القلوب عند سماع " الذي " إلى سماع الصلة لأن " الذي " من الأسماء الموصولة بكوْنِ القلوب تحت ستر الغيب فقال :﴿ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ ﴾.
قوله جلّ ذكره :﴿ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ ﴾.
خَلَقَ ظلمةَ الليل وضياءَ النهار، ووحشةَ الكفر والشِرْك، ونور العرفان والاستبصار.
ويقال جَعَلَ الظلماتِ نصيبَ قوم لا لجُرْمٍ سَلَفَ، والنورَ نصيبَ قومٍ لا لاستحقاقٍ سبق، ولكنه حُكْمٌ به جرى قضاؤه.
ويقال جعل ظلماتِ العصيان محنةَ قومٍ، ونور العرفان نزهةَ قوم.
أثبت الأصل من الطين وأدعها عجائب ( السير ) وأظهر عليها ما لم يظهر على مخلوق، فالعِبْرَةُ بالوَصْلِ لا بالأصل ؛ فالوَصْلُ قُرْبَةٌ وَالأصل تُرْبةٌ، الأصل من حيث النَّطفة والقطرة، والوصل من حيث القربة والنَّصرة.
قوله ﴿ ثُمَّ قَضَى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُّسَمًّى عِندَهُ ﴾ : جعل للامتحان أجلاً، ثم جعل للامتنان أجلاً، فَأَجَلُ الامتحان في الدنيا، وأَجَلُ الامتنان في العُقْبى.
ويقال ضَرَبَ للطلب أجلاً وهو وقت المهلة، ثم عقبه بأجل بعده وهو وقت الوصلة ؛ فالمهلة لها مدًى ومنتهى، والوصلة بلا مدًى ولا منتهى ؛ فوقتُ الوجودِ له ابتداء وهو حين تطلع شموس التوحيد ثم يتسرمد فلا غروب لها بعد الطلوع.
وهو الذي هو معبودُ مَنْ في السماء، مقصود مَنْ في الأرض، وهو الموجود قبل كل سماءٍ وفضاء، وظلام وضياء، وشمس وقمر، وعين وأثر، وغيْر وغَبَر.
أي لا يزيدهم كشفاً ولطفاً إلا قابلوهُ جحداً وكفراً، ولا يُولِيهم إقبالاً إلا قابلوه بإعراض، ولا يلقاهم بَسْطًا إلاَّ (. . . . ) بانقباض.
إنهم أصَرُّوا على الخلافِ مستكبرين، وعن قريب يقاسون وبالَ أمرهم، ويذوقون غِبَّ جُحْدِهم
يعني مَنْ تَقَدَّمَهُم كانوا أشدَّ تمكناً في إمهالنا، وأكثرَ نصيباً - في الظاهر - من أقوالنا ؛ سهَّلنا لهم أسبابَ المعاش، ووسَّعنا عليهم أبواب الانتعاش، فحين وَطَّنُوا على كواذب المنى قلوبَهم، وأدركوا من الدنيا محبوبهم ومطلوبَهم فتحنا عليهم من مكامن التقدير، وأبرزنا لهم من غوامض الأمور ما فزعوا عليه من النَّدّم، وذاقوا دونه طعم الألم. ثم أنشأنا من بعدهم قرناً آخرين، وأورثناهم مساكنهم، وأسكناهم أماكنهم، فلمَّا انخرطوا - في الغيّ - عن سلكهم، ألحقناهم في الإهلاك بهم، سُنَّةً منا في الانتقام قضيناها على أعدائنا، وعادةً في الإكرام أجريناها لأوليائنا.
يُخْبِرُ عن كمالِ قدرته في إبداء ما يريده بعد ما قَضَى لهم الضلالَ، فلو أشهدهم كُلَّ دليل، وأوْضَحَ لهم كل سبيل ما ازدادوا إلاّ تمادياً في الضلال والنفرة، وانهماكاً في الجهل والغيّ.
بيَّنَ أَنَّ العبرة بالقسمة دون الاعتبار بالحجة، وما يغني السراج عند مَنْ فَقَدَ البصر ؟ كذلك ما تغني الحجَجُ عند مَنْ عدم عناية الأزل ؟
مَنْ لم يُقَدِّسْ سِرَّه لَبَّسَ عليه أَمْرَه.
أي سَبَقَكَ - يا محمد - مَنْ كُذِّب به كما كُذِّبْتَ، فحقَّ لهم نصرنا، فانتقمنا ممن ناؤوهم، فعاد إليهم وبالُ كيدهم.
قُلْ دوخوا في الأرضِ، وسيحوا في سيركم فيها من الطول والعَرْضِ، ثم انظروا هل أفْلَتَ من حكمنا أحدٌ، وهل وجد من دونَ أمرنا مُلْتَحداً ؟
سَلْهُم هل في الدار ديار ؟ وهل للكوْنِ - في التحقيق - عند الحق مقدار ؟ فإنْ بقوا عن جوابٍ يَشْفِي، فَقُلْ : الله في الربوبية يكفي.
قوله :﴿ كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ ﴾ : أخبرَ وحَكَمَ وأرادَ على حسب ما عَلِمَ، فَمَنْ تَعلَّقَ بنجاته عِلْمُه سَبَقَ بدرجاته حُكْمُه، ومَنْ عَلِمَهُ في آزاله أنه يَشْقَى فبقدر شقائه في البلاء يبقى.
الحادثاتُ للهِ مِلْكاً، وباللهِ ظهوراً، ومِنْ اللهِ بدءاً، وإلى اللهِ رجوعاً. وهو ﴿ السَّمِيعُ ﴾ لأنين المشتاقين، ﴿ العَلِيمُ ﴾ بحنين الواجدين.
أَبَعْدَ ما أكرمني بجميل ولايته أتولى غيره ؟ وبعد ما وَقَعَ عليَّ ضياءُ عنايته أنظرُ في الدارين إلى أحد ؟ إنَّ هذا محالٌ في الظنِّ والتقدير.
قوله جلّ ذكره :﴿ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلاَ يُطْعَمُ ﴾.
له نعتُ الكَرَمِ فلذلك يُطْعِمُ، وله حقُّ القِدَمِ فلذلك لا يُطْعَمْ.
أي إنِّي بعجزي متحقق، ومن عذاب ربي مُشْفِق، وبمتابعة أمره مُتَخَلِّقٌ.
من أدركه سابقُ عنايته صَرَفَ عنه لاحِقَ عقوبته
إنَّه مَنْ ينجيك من البلاء، ومن يُلقيك في العناء. وإذ المتفرِّد بالإبلاغ واحد فالأغيارُ كلُّهم أفعاله ؛ وإن الإيجاد لا يَصْلُحُ من الأفعال.
عَلَتْ رُتبةُ الأحدية صفةَ البشرية، فهذا لم يزل لم يكن فحصل. ومتى يكون بقاء للحدثان مع وضوح سلطان التوحيد ؟.
غلَبَتْ شهادة الحق - سبحانه - كلَّ شهادة، فهم إذا أقبلوا يشهدون فلا تحيط بحقائِقِ الشيء علومُهم، والحقُّ - سبحانه - هو الذي لا يخفى عليه شيءٌ، ثم أخبره - صلى الله عليه وسلم أنه مبعوثٌ إلى الكافة ومَنْ سيوجد إلى يوم القيامة.
أحاط علمُهم بصدقِ المصطفى - صلى الله عليه وسلم - في نُبوَّتِه، ولكن أدركتهم الشقاوة الأزلية فعقدت ألسنتهم عن الإقرار به ؛ فجحدوه جهراً، وعلموا صِدْقَه سِرًّا.
شؤم الخذلان بلغ بالنكاية فيهم ما جرَّهم إلى الإصرار على الكذب على الله تعالى، ثم لم يستحيوا من اطلاعه، ولم يخشوا من عذابه.
يجمعهم ليوم الحشر والنشر، لكنه يفرقهم في الحكم والأمر، فالبعث يجمعهم ولكن الحكم يفرقهم.
هذا الذي أخبر عنهم غايةُ التمرد ؛ حيث جحدوا ما كَذبُوا فيه وأقسموا عليه، ولو كان لهم بالله عِلمٌ بأنه يعلم سِرَّهم ونجواهم، ولا يخفى عليه شيءٌ من أُولاَهم وعُقباهم، لكن الجهل الغالب عليهم استنطقهم بما فيه فضائحهم.
هذه كلمة تعجب ؛ يعني إنَّ قصتهم منها ما هو محلُّ التعجب لأمثالكم.
بيَّنَ أن السمعَ - في الحقيقة - سمعُ القبول، وذلك عن عين اليقين يصدر، فأما سَمْعُ الظاهر فلا عِبْرَةَ به.
ويقال مَنْ ابتلاه الحقُّ بقلبٍ مطبق، ووضع فوق بصيرته غطاءَ التلبيس لم يزدْه ذلك إلا نفرة على نفرة.
قوله جلّ ذكره :﴿ وَإِن يَرَوا كُلَّ آيةٍ لاَّ يُؤْمِنُوا بِهَا حَتَّى إِذَا جَاءُوكَ يُجَادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلاَّ أسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ ﴾.
يعني مَنْ أَقصَته القسمة الأزلية لم تنعشه الحيلة الأبدية.
في هذه الآية إشارة صعبة ( لمن ) يدعو إلى الحق جهراً ثم لا يأتي بذلك سراً.
ويقال خالَفَتْ أحوالُهم قضايا أقوالهم، وجرى إجرامُهم مجرى مَنْ ألقوا حِبالَهم على غاربهم، وكذلك من أبعده عن القسمة لم يقربه فعلُه.
يعني حين ينجز للعبد ما وعده له من القربة يشغل من شاء بنوعٍ من العلة حتى لا يطلع أحد على محل الأسرار.
غداً يوم تنتهك الأستار، وتظهر الأسرار - فكم من مُجَلَّل بثوب تقواه، ويَحْكُم له معارفُه بأنه زاهدٌ في دنياه، راغب في عقباه، محبٌ لمولاه، مُفَارِقٌ لهواه، فَيُكْشَفُ الأمر عن خلاف ما فهموه، ويفتضح عندهم بغير ما ظنوه.
وكم من متهتك ستر بما أظهر عليه ! ظنَّ الكلُّ أنه خليع العذار هيِّن الأعلال، مشوش الأسرار، فظهر لذوي البصائر جوهره، وبدت عن خفايا الستر حقيقته.
ثم قال :﴿ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ ﴾ أخبر عما علم أنه لا يكون أنه لو كان كيف كان يكون ؛ فقال لو رُدَّ أهل العقوبة إلى دنياهم لعادوا إلى جحدهم وإنكارهم، وكذلك لو رُدَّ أهل الصفاء والوفاء إلى دنياهم لعادوا إلى حسن أعمالهم.
يا حسرة عليهم من موقف الخجل، محل مقاساة الوَجَل، وتذكر تقصير العمل !
فهم واقفون على أقدام الحسرة، يقرعون أسنان الندز حين لا ندم ينفعهم، ولا شكوى تُسْمَعُ منهم، ولا رحمة تنزل عليهم.
وحين يقول لهم : أليس هذا بالحق ؟ يُقِرُّونَ كارهين، ويصرخون بالتبري عن كل غَيْر.
خسران وأي خسران ! لم يخسروا مالاً، و لا مقاماً ولا حالاً، و لكن كما قيل :
لعمري لئن أنزفتُ دمعي فإنه | لفرقِه مَنْ أفنيتُ في ذكره عمري |
المصيبة لهم والحسرة على غيرهم، ومَنْ لم يَعْرِفْ جَلالَ قدره متى تأسَّف على ما يفوته من حديثه وأمره ؟ !
وقوله :﴿ وَمَا الحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ لَعِبٌ وَلَهْوٌ ﴾ : ما كان للنفس فيه حظ ونصيب اليوم فهو من الدنيا، وما كان من الدنيا فإنه - لا محالة - يُلهيك عن مولاك، وما يشغلك عن الحق ركونُه فغيرُ مباركٍ قُرْبُه.
هذه تعزية للرسول - صلى الله عليه وسلم - وتسلية. أي قد نعلم ما قالوا فيك وهم إنما قالوا ذلك بسَببِنَا ولأَجْلِنا. ولقد كُنْتَ عظيمَ الجاه فيهم قبل أن أوقعنا عليكَ هذا الرقم ؛ وكانوا يسمونك محمداً الأمين، فإنْ أصابَكَ ما يصيبك فَلأَجْلِ حديثنا، وغيرُ ضائعٍ لك هذا عندنا، وحالُكَ فينا كما قيل :
أشاعوا لنا في الحيِّ أشنع قصةٍ | وكانوا لنا سِلْما فصاروا لنا حَربا |
يعني إنَّ مَنْ سَلَكَ سبيلَنا صبر على ما أصابه من حديثنا، فلا خَسِرَتْ فينا صفقتُه، ولا خَفِيَتْ علينا حالتُه، وما قَابَلَ حُكْمَنَا مَنْ عَرَفَنَا إلا بالمُهج، وما حملوا ما لقوا فينا إلا على الحدق :
إنَّ الأُلى ماتوا على دين الهوى | وجدوا المنيةَ منهلاً معسولا |
لفرط شفقته - صلى الله عليه وسلم - استقصى في التماس الرحمة من الله لهم، وحمل على قلبه العزيز بسبب ما عَلِمَ من سوء أحوالهم ما أثَّر فيه من فنون الأحزان. فعرَّفه أنهم مُبْعَدُون عن التقريب، منكوبون بسالف القسمة.
ولو أراد الحقُّ - سبحانه - لخَفَّفَ عنهم، ولو شاء أن يهديَهم لكان لهم مقيل في الصدور، ومثوى على النشاط، ولكن مَنْ كبَسَتْهُ العِزَّةُ لم تُنْعِشْه الحيلة.
مَنْ فقد الاستماع في سرائره، عَدِمَ توفيقَ الاتِّباعِ بظاهره، والاختيارُ السابقُ في معلومه - سبحانه – غالبٌ.
استزادوا من المعجزات وقد حصل من ذلك ما يذبح العذر، ولم يعلموا أن الله المانع لهم فلولا ما (. . . ) من بصائرهم لما تواهموا من عدم دلائلهم.
يعني تساوت المخلوقات، وتماثلت المصنوعات في الحاجة إلى المُنْشِئ : في حال الإبداع ثم في حال البقاء، وكذلك جميع الصفات النفسية والنعوت الذاتية توقفت عن الإيجاد والاختيار، فما من شيء من عينٍ وأثر، ورسم وطلل. . إلا وهو على وحدانيته شاهِدٌ، وعلى كون أنه مخلوق. . دليلٌ ظاهرٌ.
الذين فاتتهم العناية الأزلية سَدَّ الحرمانُ أسماعَهم، وغَشَّى الخِذلان أبصارَهم. والإرادة لا تُعارَض، والمشيئةُ لا تَزَاحَم، والحقُّ - سبحانه - في جميع الأحوالِ غالبٌ.
إذا مَسَّكم الضُرُّ، ونَابَكُم أمرٌ فمِمَّنْ ترومون كَشْفَه ؟ ومَنْ الذي تؤملون لُطْفَه ؟ أمخلوقاً شرقياً أم شخصاً غربياً ؟ أم مَلَكاً سماوياً أم عبداً أرضياً ؟
ثم قال :
﴿ بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ ﴾ : أي إنكم - إنْ تذللتم بنفوسكم أو فكرتم طويلاً بقلوبكم - لن تجدوا من دونه أحداً، ولا عن حكمه مُلْتَحَداً، فتعودون إليه في استكشاف الضر، واستلطاف الخير والبرِّ، كما قيل :
ويرجعني إليك - وإن تناءتْ | دياري عنكَ - معرفةُ الرجال |
وقد تركناكَ للذي تريد | فعسى إِنْ خَبَرْتَه أَنْ تعودا |
فإذا جرَّبْتَ الكُل، وذُقْتَ الحُلْوَ والمُرَّ، أفضى بك الضُرُّ إلى بابه، فإذا رجعت بنعت الانكسار، وشواهد الذل والاضطرار، فإنه يفعل ما يريد : إِنْ شاء أتاح اليُسْر وأزال العُسر، وإن شاء ضاعف الضُر وعوَّض الأجر، وإنْ شاء ترك الحال على ما ( قبل ) السؤال والابتهال.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٤٠:إذا مَسَّكم الضُرُّ، ونَابَكُم أمرٌ فمِمَّنْ ترومون كَشْفَه ؟ ومَنْ الذي تؤملون لُطْفَه ؟ أمخلوقاً شرقياً أم شخصاً غربياً ؟ أم مَلَكاً سماوياً أم عبداً أرضياً ؟
ثم قال :﴿ بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ ﴾ : أي إنكم - إنْ تذللتم بنفوسكم أو فكرتم طويلاً بقلوبكم - لن تجدوا من دونه أحداً، ولا عن حكمه مُلْتَحَداً، فتعودون إليه في استكشاف الضر، واستلطاف الخير والبرِّ، كما قيل :ويرجعني إليك - وإن تناءتْ | دياري عنكَ - معرفةُ الرجال |
وقد تركناكَ للذي تريد | فعسى إِنْ خَبَرْتَه أَنْ تعودا |
فإذا جرَّبْتَ الكُل، وذُقْتَ الحُلْوَ والمُرَّ، أفضى بك الضُرُّ إلى بابه، فإذا رجعت بنعت الانكسار، وشواهد الذل والاضطرار، فإنه يفعل ما يريد : إِنْ شاء أتاح اليُسْر وأزال العُسر، وإن شاء ضاعف الضُر وعوَّض الأجر، وإنْ شاء ترك الحال على ما ( قبل ) السؤال والابتهال.
يخبر عن سالف سنته في أبداء الأمم وما أوجب لمن أطاعه منهم من النعم والكرم، وما أحلَّ بمن خالفه من الألم وفنون النِّقَم.
يعني أنهم لما أَظَلَّهُم البلاء، فلو رجعوا بجميل التضرع وحسن الابتهال والتملق لكشفنا عنهم المحن، ولأتحنا لهم المنن، ولكن صدَّهم الخذلان عن العقبى فأصروا على تمردهم، فَقَسَتْ قلوبُهم وتضاعفت أسباب شقوتهم.
قوله تعالى :﴿ فَلمّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ ﴾ يخبر عن خَفِيَ مكره بهم، وكيف أنه استدرجهم، ثم أذاقهم وبالَ أمرهم فقال : لما طالتْ عن الحضرة غيبتُهم، ولم تنجحْ مواعظُنا فيهم سَهَّلْنَا لهم أسبابَ العوافي وصببنا عليهم عزالي النِّعم، وفتحنا لهم أبواب الرفاهية، فلما استمكن الرجاءُ من قلوبهم أخذناهم بغتةً وعذبنَاهم فجأة، وأذقناهم حسرةً فإذا هم من الرحمة قانطون، ولِمَا خامر قلوبَهم - من أسباب الوحشة عن الاستراحة بدوام المناجاة - آيسون.
فلم يلبثوا إلا يسيراً حتى لم يبقَ منهم عين ولا أثر، ولم يَرِدْ حديث منهم أو خبر، والله - سبحانه وتعالى - بنعت العِزِّ واستحقاق الجلال لا عن فَقْدِهم له استيحاش، ولا بوجودهم استرواح أَو استبشار.
عَرَّفهم محلَّ عجزهم، وحقيقة حاجتهم إلى القدرة القديمة لدوام فقرهم.
وحذَّرهم فقال : إنْ لم يُدِمْ عليهم نعمة أسماعهم وأبصارهم، ولم يوجِبْ لهم ما ألبسهم من العوافي - بكل وجهٍ في كل لحظة - فمن الذي يهب ما سلبه، أو يضع ما منعه، أو يعيد ما نفاه، أو يَرُدُّ ما أبداه ؟ كلا. . . بل هو الله تعالى.
يقول إِنْ عجَّلَ موعودَه لكم من العقاب أفترون أن غيرَ المستوجِب يُبْتَلى ؟ أو أن المستحِقَّ له يجد من دونه مهرباً ومَنْجَى ؟ إِنَّ هذا محالٌ من الظن.
يعني ليس أمرنا لهم إلا بالتزام ما فيه نجاتهم، ثم بجميل الوعد لهم، ومفارقة ما فيه هلاكهم، ثم بأليم العقوبة في الآجل ما يحل من خلافهم.
فَمَنْ آمن وصدَّق أنجزنا له الوعد، ومَنْ كفر وجحد عارضنا عليه الأمر، وأدخلنا عليه الضُّر.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٤٨:يعني ليس أمرنا لهم إلا بالتزام ما فيه نجاتهم، ثم بجميل الوعد لهم، ومفارقة ما فيه هلاكهم، ثم بأليم العقوبة في الآجل ما يحل من خلافهم.
فَمَنْ آمن وصدَّق أنجزنا له الوعد، ومَنْ كفر وجحد عارضنا عليه الأمر، وأدخلنا عليه الضُّر.
يعني قل لهم إني لا أتخطى خطي، ولا أتعدَّى حدِّي، ولا أُثْبِتُ من ذات نفسي شيئاً، وإنما يقال لي أَبلَّغْتَ ؟ وأقول : أَجَلَ، أَوْصَلْتُ.
ثم قال :﴿ قُلْ هَلْ يَسْتَوِى الأَعْمَى وَالبَصِيرُ ﴾ : هل يتشاكل الضوءُ والظلام ؟ وهل يتماثل الجُحْدُ والتوحيد ؟ كلا. . . لا يكون ذلك.
الإنذارُ إعلامٌ بمواضع الخوف، وإنما خص الخائفين بالإنذار كما خصَّ المتقين بإضافة الهدى إليهم حيث قال :﴿ هُدًى لِلمُتَّقِينَ ﴾ [ البقرة : ٢ ] لأن الانتفاع والاتِّباع بالتقوى، والإنذار اختص بهم.
ويقال : الخوف ها هنا العلم، وإنما يخاف من علم، فأمَّا القلوب التي هي تحت غطاء الجهل فلا تباشرها طوارقُ الخوف.
قوله :﴿ مِّن دُونِهِ مِن وَلِىٍّ وَلاَ شَفِيعٍ ﴾[ السجدة : ٤ ] يعني كما أنه لا ناصر لهم من الأغيار فلا معتمدَ لهم من أفعالهم، ولا مستندَ من أحوالهم، ولا يؤمنون شيئاً سوى صرف العناية وخصائص الرحمة.
هذه وصية له - صلى الله عليه وسلم - في باب الفقراء والمستضعفين، وذلك لما قَصَرُوا لسان المعارضة عن استدفاع ما كانوا بصدده من أمر إخلاء الرسول - صلوات الله عليه وسلامه - مجلسه منهم، وسكنوا متضرعين بقلوبهم بين يدي الله أرادَ أنْ يُبَيِّن له أَثرَ حُسْنِ الابتهال فتولَّى - سبحانه - خصيمتهم.
وقال :
﴿ وَلاَ تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالغَدَاةِ وَالعَشِىِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ﴾ : لا تنظر يا محمد إلى خِرقتهم على ظاهرهم وانظر إلى حرقتهم في سرائرهم.
ويقال كانوا مستورين بحالتهم فشهرهم بأن أظهر قصتهم، ولولا أنه - سبحانه - قال :
﴿ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ﴾ فشهد لهم بالإرادة وإلا فمن يتجاسر أن يقول إن شخصاً مخلوقاً يريد الحق سبحانه ؟
ويقال إذا كانت الإرادة لا تتعلق - في التحقيق - إلا بالحدوث، وحقيقة الصمدية متقدسة عن الاتصاف بالحدثان، فمن المعلوم أن هذه الإرادة ليست بمعنى المشيئة، ولا كاشتقاق أهل اللغة لها.
فيقال تكلم الناس في الإرادة : وأكثر تحقيقها أنها احتياج يحصل في القلوب يسلب القرار من العبد حتى يصل إلى الله ؛ فصاحب الإرادة لا يهدأ ليلاً ولا نهاراً، ولا يجد من دون وصوله إليه - سبحانه - سكوناً ولا قراراً، كما قال قائلهم :
ثم قطعتُ الليلَ في مَهْمَةٍ | لا أسداً أخشى ولا ذيبا |
يغلبني شوقي فأطوي السُّرى | ولم يَزَلْ ذو الشوق مغلوبا |
ويقال تقيَّدت دعوتهم بالغداة والعشيّ لأنها من الأعمال الظاهرة، والأعمالُ الظاهرة مؤقتة، ودامت إرادتهم فاستغرقت جميع أوقاتهم لأنها من الأحوال الباطنة، والأحوال الباطنة مسرمدة غير مؤقتة، فقال :
﴿ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالغَدَاةِ وَالعَشِىِّ ﴾ ثم قال :
﴿ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ﴾ أي مريدين وجهه فهي في موضع الحال.
ويقال أصبحوا ولا سؤال لهم من دنياهم، و لا مطالبة من عقباهم، ولا همَّ سوى حديث مولاهم، فلما تجردوا لله تمحضت عناية الحق لهم، فتولَّى حديثهم وقال : ولا تطردهم - يا محمد - ثم قال : ما عليك من حسابهم من شيء ؛ فالفقير خفيف الظهر لا يكون منه على أحد كثير مؤنة ؛ قال تعالى :
﴿ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيء وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِم مِّن شَيء ﴾ لا تطالب بحسابهم ولا يطالبون بحسابك، بل كلٌّ يتولى الحقُّ - سبحانه - حسابَه ؛ فإِن كان أمره خيراً فهو ملاقيه، وإن كان شراً فهو مقاسيه.
أمَّا الفاضل فَلْيشكرْ، وأمَّا المفضول فليَصْبِرْ.
ويقال سبيل المفضول على لسان المحبة الشكر، ولا يتقاصر شكره عن شكر الفاضل، قال قائلهم في معناه :
أتاني منكِ سبُّكِ لي فَسُبِّي | أليس جَرَى بفيكِ اسمي ؟ فَحَسْبِي |
وقال آخر :وإِنَّ فؤاداً بِعْتُه - لَكَ شاكرٌ | وإِنَّ دَمَاً أجريتُه - لَكَ حامدُ |
أحلَّه محل الأكابر والسَّادة، فإن السلام من شأن الجائي إلا في صفة الأكابر ؛ فإن الجائي أو الآتي يسكت لهيبة المأتي حتى يبتدئ ذلك المقصودُ بالسؤال، فعند ذلك يجيب الآتي.
ويقال إذا قاسوا تعبَ المجيء فأزِلُ عنهم المشقةَ بأن قُلْ :﴿ سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ ﴾.
ويقال السلام هو السلامة أي فَقُلْ لهم سلام عليكم ؛ سَلِمْتُمْ في الحال عن الفُرقة وفي المآل عن الحُرْقة.
قوله جلّ ذكره :﴿ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ ﴾.
إِنْ وَكَلَ بك من كتب عليك الزلة فقد تولَّى بنفسه لك كتابة الرحمة.
ويقال كتب بمعنى حَكَمَ، وإنه ما حكم إلا بما علم.
ويقال كتابته لك أزلية، وكتابته عليك وقتية، والوقتية لا تبْطِلُ الأزلية.
قوله جلّ ذكره :﴿ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنكُمْ سُوءاً بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِن بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴾.
يعني مَنْ تعاطى شيئاً من أعمال الجُهَّال ثم سوَّف في الرجوع والأوبة قابلناه، يعني مَن تعاطى شيئاً بحسن الإمهال وجميل الأفضال، فإذا عاد بتوبة وحسرة أقبلنا عليه بِكُلِّ لطف وقبول.
نزيل الإشكال، ونُفْصِحُ طريق الاستدلال، ونُطْلِعُ شموسَ التوحيد، ونمد أهله بحسن التأييد، ونَسِمُ قلوبَ الأعداء بوسم الخذلان، ونذيقهم شؤمَ الحرمان لئلا يبقى لأحدٍ عذرٌ، ولا في الطريق إشكال.
يعني صرِّح بالاعتراف بجميل ما خصصناكَ به من وجوه العصمة والنعمة، وأخبرهم أنك في كنف الإيواء مُتقلَّب، وفي قبضة ( الصون ) مُصَرَّفٌ ؛ فلا للهوى عليك سلطان، ولا لك من محل التحقيق تباعد أو عن الحضور غيبة.
قلْ إنَّ الله - سبحانه - لم يغادرني في قطر الطلب والتباس التحيَّر، وأغناني عن ( كَدِّ ) الاستدلال، وَروَّحَني بشموس الحقيقة. ولئن بقيتم في ظلمة الالتباس فليس لي قدرة على إزالة ما مُنيتم به من التحير، ونفي ما امتُحِنْتُم به من الجهالة والتردد.
لو قدرتُ على إبداء ما طلبتم من إقامة البراهين لأجبتكم إلى كل ما اقترحتم عليَّ - شفقةً عليكم، لكن المتفرِّد بالحكم لا يُعَارَضُ فيما يريد.
﴿ وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الغَيْبِ ﴾ : المفتاح ما به يرتفع الغَلْقُ، والذي يحصل مقصود كلِّ أحد، وهو قدرة الحق - سبحانه ؛ فإنَّ التأثير لها في الإيجاد، والموصوفُ بقدرةِ الإيجاد هو الله.
ويقال أراد بهذا شمول علمه، أي هو المتفرِّد بالإحاطة بكل معلوم، وقطعاً لا يُسأَل عن شيء، ولا يخفى عليه شيء.
ويقال عندك مفاتح الغيب وعنده مفاتح الغيب فإنْ آمنتَ بغيبه مدَّ الشمس على غيبك.
إنه يتوفَّى الأنفس في حال النوم وفي حال الوفاة، وكما أنه لا يعاقبك بالليل فإنه لا يعذبك - إذا توفَّاك - على ما جرحت بالنهار مع علمه بأفعالك، فبالحريِّ ألا يعذِّبَك عداً - إذا توفَّاك - على ما علمه من قبيح أحوالك.
فوق عباده بالقهر والرفعة، وفوقهم بالقدرة على أن يُعَذِّبهم من فوقهم بإنزال العقوبة عليهم والسخطة.
ردَّهم إلى نفسه. وما غابوا عن القبضة.
تذكير النعمة يوجب الزيادة في المحبة، فإنه إذا عرف جميلاً أسداه تمكَّن من قلبه الحبُّ.
المتفرِّدُ بالقدرة على إيجادكم اللهُ، والذي هو ( الخَلَفَ ) عما يفوتكم اللهُ، والذي حكَمَ بنجاتكم اللهُ، والذي يأخذ بأيديكم كلما عَثرْتم اللهُ.
إذا أراد الله هلاك قومٍ أمر البلاء حتى يحيط بهم سرادقه كما يحيط بالكفار غداً إذا أدركتهم العقوبة، وخرج بعضهم على بعض ؛ حتى يتبرأ التابع من المتبوع، والمتبوع من التابع.
قوله جلّ ذكره :﴿ وَيُذِيقَ بَعْضَكُم بأْسَ بَعْضٍ انظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ ﴾.
لا طعمَ أردأ للإنسان من طعم الإنسان : إن شِئْتَ من الولاية والمحبة، وإن شئت في العداوة والبغضة ؛ فَمَنْ مُنِي بالبغضة مع أشكاله تنغَّصَ عليه عَيْشُه في الدنيا، ومَنْ مُنِيَ بمحبة أمثاله تكدَّر عليه حالُه مع المولى، ومن صانَه عن الخلق فهو المحفوظ ( المعاني ).
يعني قل لهم إنما علي تبليغ الرسالة، فأمَّا تحقيق الوصلة بالوجود والحال فَمِنْ خصائص القدرة وأحكام المشيئة الأزلية.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٦٦:يعني قل لهم إنما علي تبليغ الرسالة، فأمَّا تحقيق الوصلة بالوجود والحال فَمِنْ خصائص القدرة وأحكام المشيئة الأزلية.
لا توافقهم في الحالة، ولا ترد عليهم ببسط القالة. ذَرْهُم ووحشتَهم بِحُسْنِ الإعراض عنهم، والبعد عن الإصغاء إلى تهاويشهم بحُسْنِ الانقباض.
قوله جلّ ذكره :﴿ وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلاَ تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ القَوْمِ الظَّالِمِينَ ﴾.
أي إنْ بَدَرَ منك تغافلٌ فتداركْتَه بحسن التذكر وجميل التَّنَبُّه، فاجتهِدْ ألا ( تزل ) في تلك الغلطة قدمُك ثانيةً لئلا تقاسي أليمَ العقوبة مِنّا.
أي من كان نقيَّ ( الثوب ) عن ارتكاب الإجرام يُعْزَل يوم نشره عن ملاقاة تلك الآلام.
أي كِلْهم وما اختاروه فإِنَّا أَعْتَدْنَا لهم ( من خفيِّ المكر ما إذا أحللناه بهم كسرنا عليهم ) خُمار الوهم والغِلظة.
أي كان الكفار يدعون المسلمين إلى الرجوع عن الدين والعوْد إلى الشِرْك، فقال لهم الله : قل لهم - يا محمد - : أَنُؤْثِرُ الضلالَ على الهدى بعد طلوع شمس البرهان ؟
ونَدَعُ الطريقة المُثْلى بعد ظهور البيان ؟ ونترك عِقوةَ الجَنَّةِ وقد نزلناها ؟ ونطلب الجحيم مثوًى بعد ما كُفِيناها ؟ إنَّ هذا بعيدٌ من المعقول، محالٌ من الظنون.
وكيف يساعد أتباعُ الشيطانِ مَنْ وَجَدَ الخلاصَ من صحبتهم، وأبصر الغيَّ من صفتهم ؟
أي أَمَرَنا بملازمة محل المناجاة لأن اللسان إِنْ تعوَّد نجوى السلطان متى ينطق ( بمكالمه ) الأخَسِّ ؟ !
يعني أنه لا يعترض على قدرته - سبحانه - حدوث مقصود، ولا يتقاصر حكمه عن تصريف موجود.
الأصل متَّهَمٌ في الجحود، والنَّسْلُ متَّصِفٌ بالتوحيد، والحقُّ - سبحانه - يفعل ما يريد.
لاطَفه بسابق العناية، ثم كاشفه بِلاحِق الهداية فأراه من دلالات توحيده ما لم يبق في قضاء سِرِّه شظية من غبار العيب، فلمَّا صحا من غيم التجوز سما سِرُّه فقال بنفي الأغيار جملةً، وتبرَّأ عن الجميع ولم يغادر منها تهمة.
يعني أحاطت به ( سجوف ) الطلب، ولم يتجل له بعد صباح الوجود، فطلع نجم العقول فشاهد الحق بسره بنور البرهان، فقال : هذا ربي ثم يزيد في ضيائه فطلع له قمر العلم فطالعه بشرط البيان، فقال :﴿ هَذَا رَبِّى ﴾.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٧٦:يعني أحاطت به ( سجوف ) الطلب، ولم يتجل له بعد صباح الوجود، فطلع نجم العقول فشاهد الحق بسره بنور البرهان، فقال : هذا ربي ثم يزيد في ضيائه فطلع له قمر العلم فطالعه بشرط البيان، فقال :﴿ هَذَا رَبِّى ﴾.
ثم أسفر الصبح ومتع النهار فطلعت شموس العرفان من برج شرفها فلم يبقَ للطلب مكان، ولا للتجويز حكم، ولا للتهمة قرار فقال :﴿ يَا قَوْمِ إِنِّى بَرِئٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ ﴾ إذ ليس بعد العيان ريب، ولا عَقِبَ الظهور ستر.
ويقال قوله - عند شهود الكواكب والشمس والقمر - ﴿ هَذَا رَبِّى ﴾ إنه كان يلاحظ الآثار والأغيار بالله، ثم كان يرى الأشياء لله ومن الله، ثم طالع الأغيار محواً في الله.
أفردتُ قصدي لله، وطهَّرت عقدي عن غير الله، وحفظت عهدي في الله لله، وخلصت وجدي بالله، فإني لله وبالله، بل محو في الله والله لله.
يعني قال لهم أترومون سَتْرَ الشموسِ بإسبال أكمامكم عليها أو تريدون أن تجروا ذيولكم وأن تُسْدِلوا سجوفَكم على ضياء النهار وقد تعالى سلطانُه وتوالى بيانُه ؟
يعني وأي خوفٍ يقع على قلبي ظِله ولم أُلِمْ بِشِرْكٍ ولم أَجْنَحْ قطُّ إلى جحد ؟ وأنتم ما شممتم رائحة التوحيد في طول عمركم، ولا ذقتم طعم الإيمان في سالف دهركم ! ثم بسوء ظنِّكم تجاسرتم وما ارعويتم، وخسرتم وما باليتم. فأيُّنَا أَوْلى أن يُعْلِن بسرِّه ما هو بصدده من سوءِ مَكْرِه وعاقبةِ أَمْرِه ؟
أي الذين أشاروا إلى الله ثم لم يرجعوا إلى غير الله ؛ فإن من قال " الله " ثم رجع بالتفضيل - عند حاجاته أو مطالباته أو شيءٍ من حالاته إلى غير الله فخِصْمُه - في الدنيا والعقبى - اللهُ.
والظلمُ - في التحقيق - وضعُ الشيء في غير موضعه، وأصعبه حسبان أن من الحدثان ما لم يكن وكان ؛ فإِنَّ المنشئَ اللهُ، والمُجْرِىَ اللهُ، ولا إله إلا الله، وسقط ما سوى الله.
أشار إلى ترقِّيه من شهود آياته إلى إثبات ذاته، وذلك ترتيب أهل السلوك في وصولهم إلى الله، فالتحقق بالآيات التي هي أفعاله ومراعاة ذلك وهي الأولى ؛ ثم إثبات صفاته وهي الثانية، ثم التحقق بوجوده وذاته وهو غاية الوصول، فبرسومه يعرف العبد نعوته، وبنعوته يعرف ثبوته.
ذَكَرَ عظيم المِنَّة على كَافَّتِهم - صلوات الله عليهم، وبَيَّنَ أنه لولا تخصيصه إياهم بالتعريف، وتفضيله لهم على سواهم بغاية التشريف، وإلا لم يكن لهم استيجاب ولا استحقاق.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٨٤:ذَكَرَ عظيم المِنَّة على كَافَّتِهم - صلوات الله عليهم، وبَيَّنَ أنه لولا تخصيصه إياهم بالتعريف، وتفضيله لهم على سواهم بغاية التشريف، وإلا لم يكن لهم استيجاب ولا استحقاق.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٨٤:ذَكَرَ عظيم المِنَّة على كَافَّتِهم - صلوات الله عليهم، وبَيَّنَ أنه لولا تخصيصه إياهم بالتعريف، وتفضيله لهم على سواهم بغاية التشريف، وإلا لم يكن لهم استيجاب ولا استحقاق.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٨٤:ذَكَرَ عظيم المِنَّة على كَافَّتِهم - صلوات الله عليهم، وبَيَّنَ أنه لولا تخصيصه إياهم بالتعريف، وتفضيله لهم على سواهم بغاية التشريف، وإلا لم يكن لهم استيجاب ولا استحقاق.
ثم قال :﴿ ذَلِكَ هُدَى اللهِ. . . . . يَعْمَلُونَ ﴾ يعني لو لاحظوا غيراً، أَو شاهدوا - من دوننا - شيئاً، أو نسبوا شظية من الحدثان - إلى غير قدرتنا - في الظهور لتلاشى ما أسلفوه من عرفانهم وإحسانهم، فإن الله - سبحانه - لا يغفر الشِرْكَ بحالٍ، وإن كان ( يغفر ) ما دونه لِمنْ أراد.
يعني إِنْ أعرض قومُك - يا محمد - فليس كلُّ من (. . . . ) على الجحود أظهرناهم، بل كثير من عبادنا نزَّهنا - عن الجحود - قلوبَهم، وعَجَنَّا بماء السعادة طينتهم وهم لا يحيدون عن التوحيد لحظةً، ولا يزيغون عن التحصيل شمَّة.
أولئك الذين طهَّر اللهُ عن الجحد أسرارَهم، ورَفَعَ على الكافة أقدارَهم، فاقْتَفِ - يا محمد - هداهم، فإنّ مَنْ سلك الجادَّة أَمِن من العناء.
مَنْ توهَّم أَنْ العلومَ تحيط بجلاله فالإحاطة غير سائغة في نعته، كما أنَّ الإدراك غير جائزٍ في وصفه، وكما أن الإشراف مُحالٌ على ذاته.
ثم قال :﴿ قُلْ مَنْ أَنزَلَ الكِتَابَ الَّذِى جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا ﴾ أي سَلْهم عن الأحوال، وخاطِبْهم في معاني أحكام الرسول والأطلال، فَإِنْ بقوا في ظلمة ( الحيرة ) فَقُلْ : الله تعالى، ثم ذَرْهُم. يعني صَرِّح بالإخبار عن التوحيد، ولا يهولنَّك تماديهم في الباطل، فإنَّ تمويهاتِ الباطلِ لا تأثير لها في الحقائق.
كتابُ الأحبابِ عزيزُ الخَطَرِ جليلُ الأَثَرِ، فيه سلوة عند غلبات الوجد، ومن بقي عن الوصول تذلَّل للرسول، وقيل :
وكُتْبُك حولي لا تفارق مضجعي | وفيها شفاءٌ للذي أنا كاتِمُ |
كأني ملحوظٌ من الجِنِّ نظرةً | ومِنْ حواليَّ الرُّقى والتمائمُ |
يعني إن الذين يَنْزِلُون منزلة المُحدَّثين، ولم تُلق إلى أسرارهم خصائصُ الخطاب - فالحقُّ - سبحانه عنهم بريء. والمتَّبعُ بما لم يَسَلْ كلابسِ ثوبي زور، وفي معناه أنشدوا :
إذا اشتبكت دموع في خدود | تبيَّن مَنْ بكى ممن تباكى |
دَخَلْتَ الدنيا بخرقةٍ، وخَرَجْتَ منها بخرقة، أَلاَ وتلك الخرقة أيضاً (. . . . )، وما دخلت إلا بوصف التجرد، ولا خرجتَ إلا بحكم التفرد. ثم الأثقالُ والأوزارُ، والأحمالُ والأوضارُ لا يأتي عليها حَصْرٌ ولا مقدار ؛ فلا ما لكم أغنى عنكم ولا حالكم يَرْفُعُ منكم، ولا لكم شفيعٌ يخاطبنا فيكم ؛ فقد تَقَطَّعَ بَيْنُكم، وتَفرَّق وَصْلُكم، وتبدَّد شملُكم، وتلاشى ظنُّكم، وخانكم - في التحقيق - وسعُكم.
موجِد ما في العالَم من الأعيانِ والآثار والرسوم والأطلال يُسَلِّط العَدَمَ على ما يريد من مصنوعاته، ويحكم بالبقاء لما يريد من مخلوقاته، فلا لحكمه ردٌّ، ولا لحقِّه جحدٌ.
وكما فَلَقَ صبحَ الكون فأشرقَتْ الأنوارُ كذلك فَلَقَ صبحَ القلوبِ فاستنارت به الأسرار، وكما جعل الليل سَكَناً لِتَسْكَنَ فيه النفوس من كدِّ التصرف عن أسباب المَعَاش كذلك جعل الليلَ سَكَناً للأحباب يَسْكَنونَ فيه إلى روح المناجاة إذا هدأت العيونُ من الأغيار.
وجعل الشمس والقمر يجريان بحسبان معلوم على حد معلوم، فالشمس بوصفها مذ خُلِقَت لم تنقص ولم تزِدْ، والقمر لا يبقى ليلةً واحدةً على حالة واحدة فأبداً في الزيادة والنقصان، ولا يزال ينمو حتى يصير بدراً، ثم يتناقص حتى لا يُرى، ثم يأخذ في الظهور، وكذلك دأبُه دائماً إلى أَنْ تُنْقضَ عليه العادة.
كما أن نجوم السماء يُهتدى بها في الفلوات فكذلك نجوم القلوب يهتدى بها في معرفة ربِّ الأرضين والسموات.
ذكَّرهم وصفهم حين خَلَقَهم من آدم عليه السلام. وكما أن للنفوس والأبشار مستقراً ومستودعاً فللأسرار والضمائر مستقر ومستودع، فَمِنْ عَبْدٍ مُسْتَقَرٌّ قلبِه أوطانُ الشهواتِ والمنى، ومن عبدٍ مستقره موقع الزهد والتُّقى، ومن عبدٍ مستقره - حيث لا مسكن ولا مأوى - وراء الورى.
تجانست أجزاءُ الأرض وتوافقت أقطارُ الكون، وتباين النبات في اللون والطَّعم واختلفت الأشياء، ودلَّ كلُّ مخلوقٍ بلسان فصيح، وبيان صريح أنه بنفسه غير مُستَقِل.
سُدَّت بصائرهم فاكتفوا بكل منقوصٍ أن يعبدوه، وتلك عقوبةٌ لأرباب الغفلة عن الله تعالى عُجِّلَتْ.
البديع الذي لا مثل له، أو هو المنشئ لا على مثال، وكلاهما في وصفه مستحق.
والواحد يستحيل له الوَلَدُ لاقتضائه البعضية، والتوحيد ينافيه.
تعرَّف إليهم بآياته، ثم تعرَّف إليهم بصفاته، ثم كاشفهم بحقائق ذاته.
فقوله :﴿ لاَ إلَهَ إلاَّ هُوَ ﴾ تعريف للسادات والأكابر، وقوله :﴿ خَالِقُ كُلِّ شَيء ﴾ تعريف للعوام والأصاغر.
قدَّسَ الصمديةَ عن كل لحوقٍ ودَرَك، فأنَّى بالإدراك ولا حدَّ له ولا طرف ؟ !
﴿ وَهُوَ اللَّطِيفُ ﴾ الذي لا يخفى عليه شيء، ﴿ الخَبِيرُ ﴾ الذي أحاط علمُه بكل معلوم
أوضحَ البيانَ وأَلاَحَ الدليلَ، وأزاحَ العِلَل وأنارَ السبيلَ، ولكن قيل :
وما انتفاعُ أخي الدنيا بمقلته | إذا استوت عنده الأنوارُ والظُّلَمُ |
أوقع الفتنةَ في قلوبهم فَخَنِسَتْ عليهم الأحوال : فَمِنْ شُبْهةٍ دَاخَلْتُهم ومن حَيْرةٍ مَلَكَتْهُم. ومن تحقيق أدركه قوم، وتعريفٍ توقف على آخرين.
العَجَبُ ممن أقرَّ بقصور حاله عن استحقاق المدح ببقائه عن مراده، وكيف يصف معبوده بجواز ألا يرتفع في ملكه مراده ؟ !
يعني خَاطِبْهم بلسان الحجة والتزام الدلائل ونفي الشبهة، ولا تُكلِّمْهم على موجب نوازع النَّفْس والعادة، فَيَحْمِلَهم ذلك على ترك الإجلال لذكر الله.
ويقال لا تطابِقْهُم على قبيح ما يفعلون فيزدادوا جرأة في غيِّهم، فسيكون فِْعلُكَ سبباً وَعِلَّةً لزيادةِ كفرهم وفِسْقهم.
قوله جلّ ذكره :﴿ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِم مَّرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾.
لبَّسْنا عليهم حقائق الأشياء حتى ظنوا القبيحَ جميلاً، ولم يَرَوْا لسوءِ حالتهم تبديلاً، فركنوا إلى الهوى، ولم يميزوا بين العوافي والبَلا.
وعدوا من أنفسهم الإيمان لو شاهدوا البرهان، ولم يعلموا أنهم تحت قهر الحكم، وما يُغْنِي وضوحُ الأدلة لمن لا تساعده سوابقُ الرحمة، ولواحق الحفظ بموجبات القسمة.
العَجَبُ ممن تبْقَى على قلبه شبهةٌ في مسألة القَدَر، والحقُّ - سبحانه - يقول :﴿ وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَم يُؤْمِنُوا بِهِ ﴾، لا بل من حقائق التقليب بقاء إشكال هذا الأمر - مع وضوحه - على قلوب مَنْ هو مِنْ جملة العقلاء، فسبحان مَنْ يُخْفِي هذا الأمر مع وضوحه ! هذا هو قهر القادر وحكم الواحد.
لأن الآيات وإنْ توالت، وشموس البرهان وإنْ تعالَتْ فَمَنْ قَصَمَتْه العِزَّةُ وكَبَسْته القِسمة لم يَزِدْه ذلك إلا حيرة وضلالاً، ولم يستنجز إلا للشقوة حالاً.
كلمَّا كان المحلُّ أعلى كانت البلايا أوفى، والمطالبات أقوى، فلمَّا كانت رتبُ الأنبياء - عليهم - السلام - أشرفَ كانت العداوة معهم أشد وأصعب.
وكلت أسماع الكفار باللغو وقلوبهم بالسوء فَرَضُوا لأنفسهم أخَسَّ الأنصباءَ.
قلْ لهم أترون أني - بعد ظهور البيان ووضوح البرهان - أَذَرُ اليقين، وأوثر التخمين وأفارق الحقَّ، وأقارن الحظ ؟ إن هذا محال من الظن.
تقدَّسَتْ عن التغيير ذاتُه، وتنزهت عن التبديل صفاتُه. والتمام ينفي النقصان. وكلُّ نقصانٍ فمن الحَدَثِ أصلُه، وأَنَّى بالنقص - والقِدَمُ وصفُه ؟
أهلُ الله قليلون عدداً وإن كانوا كثيرين وزناً وخَطَراً، وأمَّا الأعداء ففيهم كثرة. فإنْ لاحظْتَهُم - يا محمد - فَتَنُوكَ، وإنْ صاحبتهم منعوك عن الحق وقلبوكَ.
تقاصرت علومُ الخَلْق عن إدراك غيبه إلا بقدر ما عَرَّفهم من أمره، والذي لا يخفى عليه شيءٌ فهو الواحدُ – سبحانه.
هذا في حكم التفسير مختص بالذبيحة، وفي معنى الإشارة منع الأكل على الغفلة، فإِن من أكل على الغفلة فما دامت تلك القوةُ باقيةً فيه فخواطره إما هواجس النَّفْس أو وساوس الشيطان.
يعني أي شيء عليكم لو تركتم الغفلة ؟ وما الذي يضركم لو استدمتم الذكر ؟
وقد تبيَّن لكم الفَرْقُ بين أُنْس الذكر ووحشة الغفلة في الحال والوقت، أَلاَ تعرفوا حكم الثواب والعقاب في المآل.
ظاهر الإثم ما للأغيار عليه اطلاع، وباطن الإثم هو سرٌ بينك وبين الله، لا وقوفَ لمخلوقٍ عليه.
ويقال باطن الإثم خَفِيُّ العقائد و (. . . . ) الألحاظ.
ويقال باطن الإثم ما تمليه عليك نفسك بنوع تأويل.
ويقال باطن الإثم - على لسان أهل المعرفة - الإغماض عَمَّا لَك فيه حظ، ويقال باطن الإثم - على لسان أهل المحبة - دوام التغاضي عن مطالبات الحق ؛ وإنَّ بِناءَ مطالبات الحب على التجني والقهر، قال قائلهم :
إذا قلتُ : ما أذنبتُ ؟ قالت مجيبةً :*** حياتُك ذنبٌ لا يقاس به ذنبُ
ويقال أسبغتُ عليكم النِّعم ظاهراً وباطناً، فذروا الإثم ظاهراً وباطناً، فإنَّ من شرط الشكر ترك استعمال النعمة فيما يكون إثماً ومخالفة.
ما كانت (. . . . ) من الأحوال عاصياً ولربِّه ناسياً فتوقِّيه شرط عند أصحاب (. . . ).
ثم قال :﴿ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ ﴾ فهذا يدل على أنَّ مَنْ توقَّى ذلك اتحدت لله خواطِرُه، وانقطعت عنه خواطر الشيطان. وأصلُ كل قسوةٍ متابعةُ الشهوات، ومَنْ تعوَّد مُتَابَعَتها فليودِّعْ صفوةَ القلب.
الإيمان عند هؤلاء القوم حياةُ القلب بالله. وأهل الغفلة إذْ لَهُمْ الذكر فقد صاروا أحياءً بعد ما كانوا أمواتاً، وأربابُ الذكرِ لو اعتراهم نسيانٌ فقد ماتوا بعد الحياة. والذي هو في أنوار القرب وتحت شعاع العرفان وفي روْح الاستبصار لا يدانيه مَنْ هو في ( أسْرِ ) الظلمات، ولا يساويه مَنْ هو رهين الآفات.
لبَّسنا عليهم حقائق التوحيد، وسوَّلت لهم ظنونهم أن بهم شظية من المحو والإثبات ؛ فانهمكوا ظانين أنهم يَمْكرون، وهم في التحقيق مخادعون، وسيعلمون حين لا ينفعهم علم.
بعد إزاحة العلة، وبيان الحجة، وزوال الشبهة ( فالتعلُّل ) باستزادة البصيرة إعلام عن سوء الأدب، وذلك منهم من التعدي ؛ لمساواة مَنْ جاء بالاستحقاق بمَنْ جاء بنوع من تسويلات النَّفْس يوجب مقاساة الهوان. وملازمةُ الحدود. وتركُ التعدي على الحقِّ قضيةُ التوفيق.
المُسْلِمُ لا يتحرك في باطنه عِرْقٌ للمنازعة مع التقدير، فإن الإسلام يقتضي تسليم الكل بلا استئثار، ومَنْ استثقل شيئاً من التكليف أو بقي منه نَفَسٌ لكراهية شيء فيعدُّ غير مستسلمٍ لحُكْمِه.
ويقال نورٌ في البداية هو نور العقل، ونورٌ في الوسائط هو نور العلم ونور في النهاية هو نور العرفان ؛ فصاحب العقل مع البرهان، وصاحب العلم مع البيان، وصاحب المعرفة حكم العيان.
ويقال مَنْ وَجَدَ أنوار الغيب ظهرت له خفايا الأمور فلا يشكل عليه شيء من ذوات الصدور عند ظهور النور، وقال صلى الله عليه وسلم :" اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله تعالى ".
ويقال أول أثر لأنوار الغيب في العبد يُنَبِّهه إلى نقائص قَدَرِه ومساوئ غيِّه، ثم يشغله عن شهود نفسه مما يلوح لقلبه من شهود ربه، ثم غَلَباتُ الأنوار على سِرِّهِ حتى لا يشهد السرَّ بعد ما كان يشهد ؛ كالنَّاطِر في قُرصِ الشمس تُسْتَهْلَكُ أنوار بصره في شعاع الشمس كذلك تستهلك أنوار البصيرة في حقائق الشهود، فيكون العبد صاحب الوجود دون الشهود ثم بعده خمود العبد بالكلية، وبقاء الأحدية بنعت السرمدية.
قوله جلّ ذكره :﴿ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِى السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللهُ الرّجْسَ عَلَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ ﴾.
وذلك حتى لا يسعى في غير مراد الحق سبحانه، وحدُّ البشرية ضيق القلب، وصاحبه في أسْرِ الحدثان والأعلال، ولا عقوبةَ أشدُّ من عقوبة الغفلة عن الحق.
الصراطُ المستقيمُ إقامة العبودية عند تحقق الربوبية فهو فرق مؤيَّدٌ بجمع، وجمعٌ مقيدٌ بشرع، وإثباتٌ للعرفان بغاية الوسع، ونبو عن المخالفات بغاية الجهد، والتحقق بأنَّ المُجْرِي واحدٌ لا شريك له، ثم تركُ الاعتماد ونفي الاستناد، لا على ( حركاته ) يعتمد، ولا إلى سكناته يستند، ( بل ) ينتظر ما يفتح به التقدير، فإِن زاغَ صاحبُ الاستقامة لحظةً، والتفت يمنةً أو يسرةً سقط سقوطاً لا ينتعش.
قوله جلّ ذكره :﴿ لَهُمْ دَارُ السَّلاَمِ عِندَ رَبِّهِمْ ﴾.
دار السلام أي دار السلامة، ومَنْ كان في رِقِّ شيء من ( الأغراض ) والمخلوقات لم يجد السلامة، وإنما يجد السلامة مَنْ تحرر عن رِقِّ المُكُوِّنَات، والآية تشير إلى أنَّ القومَ في الجنة لكنهم ليسوا في أَسْرِ الجنة، بل تحرروا من رِقِّ كل مُكَوَّن.
ويقال مَنْ لم يُسلِّمْ - اليوم - على نفسه وروحه وكلِّ مالَه من كل كريمة وعظيمة تسليمَ وداعٍ لا يجد - غداً - ذلك الفضْل، فمن أراد أن يُسلِّم عليه ربُّه - غداً - فَلْيُسَلِّمْ على ( الكون ) بجملته، وأولاً على نفسه وروحه.
ويقال دار السلام غداً لمن سَلِمَ - اليوم - لسانُه عن الغيبة، وجَنانه عن الغيبة، وأبشاره وظواهره من الزَّلَّة، وأسراره وضمائره من الغفلة، وعقله من البدعة، ومعاملته من الحرام والشبهة، وأعماله من الرياء والمصانعة، وأحواله من الإعجاب.
ويقال شرفُ قَدْرِ تلك الدار لكونها في محل الكرامة، واختصاصها بِعِنْدية الزُّلفة، وإلا فالأقطار كلها ديار، ولكن قيمة الدار بالجار، قال قائلهم :
إنِّي لأحسد داراً في جِوارِكمُ *** طوبى لمن أضحى لدارك جارا
يا ليت جارَكَ يعطيني من داره شِبراً *** إذاً لأعطيه بِشْبرٍ دارا
ويقال : وإن كانت الدارُ منزهةً عن قبول الجار، وليس القرب منه بتداني الأقطار، فإطلاق هذا اللفظ لقلوب الأحباب مؤنسٌ، بل لو جاز القربُ في وصفه من حيث المسافة لم يكن لهذا كبير أثر، وإنما حياة القلوب بهذا، لأن حقيقته مقدسة عن هذه الصفات ؛ فهو لأَجْلِ قلوب الأحباب يُطْلق هذا ويقع العلماء في كد التأويل، وهذا هو أمارة الحب، قال قائلهم :
أنا من أَجْلِكَ حُمِّلْتُ الأ *** ذى الذي لا أستطيع
قوله جلّ ذكره :﴿ وَهُوَ وَلِيُّهُم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾.
هذا شرف قدر تلك المنازل حيث قال :﴿ وَهُوَ وَلِيُّهُم ﴾ لأنه إذا كان - سبحانه - هو وليَّهم فإنَّ المنازل بأَسرِها طابت كيفما كانت، قال قائلهم :
أهوى هواها لمن قد كان ساكنها *** وليس في الدار لي همٌّ لا وَطَرُ
هو وليُّهم في دنياهم، ووليُّهم في عقباهم، هو وليهم في أولادهم وفي أخراهم، وليهم الذي استولى حديثه على قلوبهم، فلم يَدَعْ فيها لغيره نصيباً ولا سِوىً وليهم الذي هو أَوْلَى بهم منهم وليُّهم الذي آثرهم على أضرابهم وأشكالهم فآثروه في جميع أحوالهم وليهم الذي تطلب رضاهم، وليهم الذي لم ( يَكْلهُم ) إلى هواهم، ولا إلى دنياهم، ولا إلى عقباهم.
وليُّهم الذي بأفضاله يلاطفهم، وبجماله وجلاله يكاشفهم.
وليُّهم الذي اختطفهم عن كل حظ ونصيب، وحال بينهم وبين كل حميم وقريب، فحرَّرهم عن كل موصوف ومطلوب ومحبوب، وليُّهم الذي هو مؤنِس أسرارهم.
مَشَاهِدهُ مُعْتَكِفُ أبصارهم، وحضْرَتهُ مَرْتُع أرواحهم.
وليُّهم الذي ليس لهم سواه، وليهم الذي لا يشهدون إلا إياه، ولا يجدون إلا إياه، لا في بدايتهم يقصدون غيره، ولا في نهايتهم يجدون غيره، ولا في وسائلهم يشهدون غيره.
يعتذرون فلا يسمع، ويحتجون بما لا ينفع، ولقد كانوا من قبل لو أتوا بأقلَّ منه قُبِلَ منهم، لكنْ سبقت القسمة فحقت لهم الشقوة.
يعني نجمع بين الأشكال، فالأولياء مجموعون يستمتع بعضهم ببعض، والأعداء مجموعون يفرُّ بعضهم من بعض.
عرَّفهم أنه أزاح لهم العِلَلَ من حيث التزام الحجة، لكنه حكم لهم بالشقوة في الأزل، ( فَلبَّسَ ) عليهم المحجة.
متى يصحُّ في وصفة توهم الظلم والمُلكُ مُلكه والخَلْقُ خلقُه ؟
ومتى يقبح منه تصرُّفٌ في شخصٍ بما أراد، والعبد عبده والحكم حكمه ؟
المحسن في روْح الثواب متنعِّم، والمذنب في نوْح العذاب متألم.
الغنيُّ يشير إلى كشفه وذو الرحمة يشير إلى لطفه.
أخبرهم بقوله الغني عن جلاله، وبقوله : ذو الرحمة عن أفضاله ؛ فبجلاله يكاشفهم فيُفْتِيهم، وبأفضاله يلاطفهم فيحييهم.
ويقال سماع غِنَاه يوجِب محوَهم، وسماعه رحمته يوجب صحوهم، فهم في سماع هذه الآية مترددون بين بقاء وبين فناءٍ، وبين إكرام وبين اصطلام، وبين تقريبٍ وبين تذويب، وبين اجتياح وبين ارتياح.
الإشارة من هذه الآية إلى قِصَر الأمل، ومَنْ قصُرَ أملُه حَسُنَ عملُه، وكل ما هو آتٍ فقريبٌ أجَلُه.
هذا غاية الزجر لأنه تهديد وإن كان في صيغة الأمر.
لما بَنَوا قاعدة أمرِهم على موجب الهوى صارت فروعُهم لائقةً بأصولهم ؛ فهو كما قيل :
إذا كان القضاءُ إلى ابن آوى | فتعويل الشهود إلى القرود |
وسوست إليهم شياطينهم بالباطل فقبلت نفوسهم ذلك ؛ إذْ الأشكالُ يتناصرون، فالنَّفْسُ لا تدعو إلا إلى الأجنبية، لأنها مُدَّعيةٌ تتوهم أن منها شيئاً، وأصلُ كلِّ شرْكٍ الدعوى، والشيطان لا يوسوس إلا بالباطل والكفر، فهم أعوانٌ يتناصرون.
ثم قال :﴿ وَلَوْ شَاءَ اللهُ مَا فَعَلُوهُ ﴾ صَرَّح بأن المراد على المشيئة، والاعتبار ( بسابق ) القضية.
أخبر عن أشياء ابتدعوها على ما أرادوا، وأمورٍ شرعوها على الوجه الذي اعتادوا، ثم أضافوا ذلك إلى الحق بغير دليل، وشرعوها بلا حجةٍ من إذن رسول، والإشارة فيه أن من ( نحا نحوهم ) في زيادة شيء في الدين، أو نقصان شيءٍ من شرع المسلمين فمضاهٍ لهم في البطلان، ينخرط في سلكهم في الطغيان.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ١٣٨:أخبر عن أشياء ابتدعوها على ما أرادوا، وأمورٍ شرعوها على الوجه الذي اعتادوا، ثم أضافوا ذلك إلى الحق بغير دليل، وشرعوها بلا حجةٍ من إذن رسول، والإشارة فيه أن من ( نحا نحوهم ) في زيادة شيء في الدين، أو نقصان شيءٍ من شرع المسلمين فمضاهٍ لهم في البطلان، ينخرط في سلكهم في الطغيان.
فسدت عليهم طريقة الثقة بالله فحملتهم خشيةُ الفقر على قتل الأولاد، ولذلك قال أهل التحقيق : من أمارات اليقين وحقائقه كثرة العيال على بساط التوكل.
يعني كما أنشأ في الظاهر جناتٍ وبساتينَ كذلك أنشأ في السِّر جناتٍ وبساتين، ونزهة القلوب أثم من جنات الظاهر ؛ فأزهار القلوب مونِقة، وشموس الأسرار مشقة، وأنهار المعارف زاخرة.
ويقال كما تتشابه الثمار كذلك تتماثل الأحوال، وكما تختلف طعومها وروائحها مع تشاكلها من وجه، فكذلك الأحوال مختلفة القضايا، وإن اشتركت في كونها أحوالاً.
قوله جلّ ذكره :﴿ وَآتُو حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ ﴾.
حَقُّ الواجبِ يومَ الحصاد إقامة الشكر، فأمَّا إخراج البعض فبيانه على لسانه العلم، وشهودُ المِنعم في عين النعمة أتمُّ من الشكر على وجود النعمة.
قوله جلّ ذكره :﴿ وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ المُسْرِفِينَ ﴾.
الإسراف - على لسان العلم - مجاوزة الحد.
وعلى بيان الإشارة فالإسرافُ كلُّ ما أَنْفَقْتَه في حظِّ نَفْسِكَ - ولو كانت سمسمة، وما أنفقته في سبيله - سبحانه - فليس بإسراف، ولو أربى على الآلاف.
قوله جلّ ذكره :﴿ وَمِنَ الأَنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشاً ﴾.
يعني تسخير الحيوانات للإنسان آية مزية في الفضيلة على المخلوقات. وكما سخَّر الأعيان للإنسان كذلك سخر الأزمان في تصريف الحدثان لخواصِّ الإنسان.
قوله جلّ ذكره :﴿ كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ وَلاَ تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مِّنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ المَعْزِ اثْنَيْنِ ﴾ إلى قوله :﴿ إِنَّ اللهَ لاَ يَهْدِى القَوْمِ الظَّالِمِينَ ﴾.
الرزق لا يتخصص بالمأكولات بل هو شائعٌ في جميع ما يحصل به الانتفاع. وينقسم الرزق إلى رزق الظواهر ورزق السرائر، ذلك وجود النعم وهذا شهود الكَرَم بل الخمود في وجود القِدَم.
وللقلب رزق وهو التحقيق من حيث العرفان، وللروح رزق وهو المحبة بصدق التحرر عن الأكوان، وللسِّر رزق وهو الشهود الذي يكون للعبد وهو قرين العيان.
قوله ﴿ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مِّنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ ﴾ الإشارة من ذكر الضأن أن يتأدَّب العبدُ باستدامة السكون والتزام حُسْنِ الخُلُق، فإِنَّ الضانية مستسلمةٌ لمن يلي عليها، فلا بصياحها تُؤذِي ولا ( ب. . . . وها )، يعني كذلك سبيل من وَطُئَ هذا البساط.
وكذلك " في الإبل آيات " منها انقيادها لمن جَرَّ زِمَامَها، واستناختها حيثما تُنَاخ، بلا نزاع ولا اختيار. ومنها ركوبها عند الحَمْل، ومنها صبرها على مقاساة العطش، وذوبانها في السير.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ١٤٢:قوله جلّ ذكره :﴿ وَمِنَ الأَنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشاً ﴾.
يعني تسخير الحيوانات للإنسان آية مزية في الفضيلة على المخلوقات. وكما سخَّر الأعيان للإنسان كذلك سخر الأزمان في تصريف الحدثان لخواصِّ الإنسان.
قوله جلّ ذكره :﴿ كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ وَلاَ تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مِّنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ المَعْزِ اثْنَيْنِ ﴾ إلى قوله :﴿ إِنَّ اللهَ لاَ يَهْدِى القَوْمِ الظَّالِمِينَ ﴾.
الرزق لا يتخصص بالمأكولات بل هو شائعٌ في جميع ما يحصل به الانتفاع. وينقسم الرزق إلى رزق الظواهر ورزق السرائر، ذلك وجود النعم وهذا شهود الكَرَم بل الخمود في وجود القِدَم.
وللقلب رزق وهو التحقيق من حيث العرفان، وللروح رزق وهو المحبة بصدق التحرر عن الأكوان، وللسِّر رزق وهو الشهود الذي يكون للعبد وهو قرين العيان.
بيَّن أَنَّ الشارعَ اللهُ، والمانعَ عن الخلْق هو الله، وما كان من غير الله فضائعٌ باطلٌ عند الله. بيَّن أنه إذا جاء الاضطرارُ زال حكمُ الاختيار.
بيَّن أن ما حرَّم عليهم ضيَّعوه ؛ إذ لمَّا لم يعاقبهم عليه لم يشهدوا مَكْرَه العظيم فيما ابتدعوه من قِبَلِ نفوسهم - فأهملوه ولم يحافظوا عليه، فاستوجبوا عظيم الوِزْر وأليم العجز.
الإشارة منه بيان تخصيص الأولياء بالرحمة وتخصيص الأعداءِ بالطرد واللعنة. والصورة الإنسانية جامعة ولكن القسمة الأزلية فاصلةٌ بينهم.
كذبت إقالتُهم لأنها لم تَصْدُرْ عن تصديق، فَذُمُّوا على جهالتهم وإن كانت (. . . . ) في التحقيق.
صَرَّحَ بان إرادته - سبحانه - لا تتقاصر عن مراد، وليس عليه اعتراض.
أشار إلى أَنَّ مَنْ تجرَّد عن برهانٍ يُصَرِّحه وبيان ( يوضِّحهُ ) فغيرُ مقبول من فاعله.
هذه أشياء عشرة تضمنتها هذه الآية أولها الشِرْك فإنه رأس المحرمات، والذي لا يقبل معه شيءٌ من الطاعات، وينقسم ذلك إلى شِرك جَلِيٍّ وشِرْك خَفِيِّ ؛ فالجَليُّ عبادةُ الأصنامِ، والخفيُّ ملاحظةُ الأنامِ، بعين استحقاق الإعظام.
والثاني من هذه الخصال ترك العقوق، وتوقير الوالدين بحفظ ما يجب من أكيدات الحقوق.
وبعد ذلك قتل الأولاد خشية الإملاق، وإراقة دمائهم بغير استحقاق.
ثم ارتكاب الفواحش ما ظهر منها وما بطن، وما بدا وما استتر، ويدخل في ذلك جميع أقسام الآثام.
ثم قتل النَّفس بغير الحق، وذلك إنما يكون لفقد شفقة الخلق.
ثم مجانبة مال اليتيم والنظر إليه بعين التكريم.
ثم بذل الإنصاف في المعاملات والتوقي من جميع التبعات.
ثم الصدق في القول والعدل في الفعل.
ثم متابعة السبيل بما تشير إليه لوائح الدليل.
فَمَنْ قابل هذه الأوامر بجميل الاعتناق سعد في داريه وحظي بعظائم منزلته.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ١٥١:هذه أشياء عشرة تضمنتها هذه الآية أولها الشِرْك فإنه رأس المحرمات، والذي لا يقبل معه شيءٌ من الطاعات، وينقسم ذلك إلى شِرك جَلِيٍّ وشِرْك خَفِيِّ ؛ فالجَليُّ عبادةُ الأصنامِ، والخفيُّ ملاحظةُ الأنامِ، بعين استحقاق الإعظام.
والثاني من هذه الخصال ترك العقوق، وتوقير الوالدين بحفظ ما يجب من أكيدات الحقوق.
وبعد ذلك قتل الأولاد خشية الإملاق، وإراقة دمائهم بغير استحقاق.
ثم ارتكاب الفواحش ما ظهر منها وما بطن، وما بدا وما استتر، ويدخل في ذلك جميع أقسام الآثام.
ثم قتل النَّفس بغير الحق، وذلك إنما يكون لفقد شفقة الخلق.
ثم مجانبة مال اليتيم والنظر إليه بعين التكريم.
ثم بذل الإنصاف في المعاملات والتوقي من جميع التبعات.
ثم الصدق في القول والعدل في الفعل.
ثم متابعة السبيل بما تشير إليه لوائح الدليل.
فَمَنْ قابل هذه الأوامر بجميل الاعتناق سعد في داريه وحظي بعظائم منزلته.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ١٥١:هذه أشياء عشرة تضمنتها هذه الآية أولها الشِرْك فإنه رأس المحرمات، والذي لا يقبل معه شيءٌ من الطاعات، وينقسم ذلك إلى شِرك جَلِيٍّ وشِرْك خَفِيِّ ؛ فالجَليُّ عبادةُ الأصنامِ، والخفيُّ ملاحظةُ الأنامِ، بعين استحقاق الإعظام.
والثاني من هذه الخصال ترك العقوق، وتوقير الوالدين بحفظ ما يجب من أكيدات الحقوق.
وبعد ذلك قتل الأولاد خشية الإملاق، وإراقة دمائهم بغير استحقاق.
ثم ارتكاب الفواحش ما ظهر منها وما بطن، وما بدا وما استتر، ويدخل في ذلك جميع أقسام الآثام.
ثم قتل النَّفس بغير الحق، وذلك إنما يكون لفقد شفقة الخلق.
ثم مجانبة مال اليتيم والنظر إليه بعين التكريم.
ثم بذل الإنصاف في المعاملات والتوقي من جميع التبعات.
ثم الصدق في القول والعدل في الفعل.
ثم متابعة السبيل بما تشير إليه لوائح الدليل.
فَمَنْ قابل هذه الأوامر بجميل الاعتناق سعد في داريه وحظي بعظائم منزلته.
يهوِّن عليهم مشقة مقاساة التكليف بما ذكر من التعريف بأنَّ الذين كانوا قبلنا كانوا في الضعف والعجز مثلها، ثم صَبرُوا فظَفروا، وأخْلَصُوا فخَلُصُوا.
إنزال الكتاب عليهم تحقيق للإيجاب، وإذا بَقِيَ العبدُ عن سماع الخطاب تسلى بقراءة الكتاب، ومن لم يجدْ في قراءة القرآن كمالَ العيشِ والإِنس فَلأنَّه يقرأ ترسماً لا تحققاً.
أزاح كلَّ عِلَة، وأبدى كل وصلة، فلم يُبْقِ لك تعللا، ولا في آثار الالتجاء إلى العذر موضعاً.
عقوبةُ كلِّ جُرْمٍ مؤجلة، وعقوبة التكذيب معجلة، وهي ما يوجب بقاءهم في أَسْرِ الشك حتى لا يستقر قلبهم على شيء.
أخبر أنه بعدما ( أزاح ) لهم العلل اقترحوا ما ليس لهم، واغتروا بطول السلامة لهم، ثم بيَّن أنه إذا أمضى عقوبة عبدٍ حُكْماً فلا معارِضَ لتقديره، ولا مُناقِضَ لتدبيره.
اتفقوا بأبدانهم وافترقوا بقلوبهم، فكانوا مجتمعين جهراً بجهر ؛ متفرقين - في التحقيق - سِرَّاً بِسِرٍّ.
قوله :﴿ لَّسْتَ مِنْهُمْ فِى شَيء ﴾. لا يجمعك وإياهم، يعني شِقُّكَ شقُّ الحقائق، وشِقُّهم شِقُّ الباطل، ولا اجتماع للضدين.
هذه الحسنات للظاهر : وأمَّا حسنات القلوب فللواحد مائة إلى أضعاف مضاعفة.
ويقال الحسنة من فضله تعالى تَصْدُر، وبلطفه تحصل، فهو يُجْرِي، ثم يَقْبَلُ ويثني، ثم يجازي ويُعطي.
ويقال إحسانه - الذي هو التوفيق - يوجِبُ إحسانك الذي هو الوفاق، وإحسانه - الذي هو خَلق الطاعة - يوجِبُ لك نعت الإحسان الذي هو الطاعة ؛ فالعناءُ منك فِعْلُه والجزاءُ لكَ فَضْلُه.
ويقال إحسان النفوس تَوْفِيَة الخدمة، وإحسان القلوب حفظ الحرمة، وإحسان الأرواح مراعاة آداب الحشمة.
ويقال إحسان الظاهر يوجب إحسانه في السرائر فالذي منك مجاهدتُك، والذي إليك مشاهدتك.
ويقال إحسان الزاهدين ترك الدنيا، وإحسان المريدين رفض الهوى، وإحسان العارفين قطع المنى، وإحسان الموحدين التخلِّي عن الدنيا والعقبى، والاكتفاء بوجود المولى.
ويقال إحسان المبتدئين الصدق في الطلب، وإحسان أصحاب النهاية حفظ الأدب، فشرطُ الطلبِ ألا يبقى ميسورٌ إلاَّ بَذَلْتَه، وشرط الأدب ألا تسمو لك هِمَّةٌ إلى شيءٍ إلا قطعته وتركته.
ويقال للزهاد والعبَّاد، وأصحاب الأوراد وأرباب الاجتهاد جزاءٌ محصور معدود ولأهل المواجيد لقاء غير مقطوع ولا ممنوع.
قوله جلّ ذكره :﴿ وَمَن جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلاَ يُجْزَى إِلاَّ مِثْلَهَا وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ ﴾.
يعني ( يُكالُ ) عليه بالكيل الذي يكيل، ويُوقَفُ حيث يرضى لنفسه بأن يكون له موقفاً.
أرشده إلى الطريق الصحيح. ولا يكون الإرشاد إليه إلا بانسداد الطرق أجمع إلى سواه. ومَنْ وَجَدَ سبيلاً إلى مخلوق عرج في أوطان الحسبان لأن الأغيار ليس لها من الإبداع شظية، ومن سلك إلى مخلوق سبيلاً وأبرم فيهم تأميلاً أو قدَّم عليهم تعويلاً، فقد استشعر تسويلاً، وجُرِّعَ تضليلاً.
و " الصراط المستقيم " ألاَّ ترى من دونه مثبتاً لذرةٍ ولا سنة.
و " الدين القيم " ما لا تمثيلَ فيه ولا تعطيل، ولا نفي للفَرْقِ الذي يشير إلى العبودية، ولا رد للجمع الذي هو شهود الربوبية.
والحنيف المائل إلى الحق، الزائغ عن الباطل، الحائل عن ضد الحقيقة.
مَنْ كوشِفَ بحقائق التوحيد شَهدَ أن القائم عليه والمجري عليه والممسك له والمُنَقَّل إياه من وصفٍ إلى وصف، و (. . . ) عليه فنون الحدثان - واحدٌ لا يشاركه قسيم، وماجِدٌ لا يضارعه نديم.
ويقال مَنْ عَلمَ أنه بالله علم أنه لله، فإذا علم لله لم يَبقَ فيه نصيب لغير الله ؛ فهو مستسلمٌ لحكم الله، لا مُعْتَرِضٌ على تقدير الله، ولا معارِضٌ لاختيار الله، ولا مُعْرِضٌ عن اعتناق أمر الله.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ١٦٢:مَنْ كوشِفَ بحقائق التوحيد شَهدَ أن القائم عليه والمجري عليه والممسك له والمُنَقَّل إياه من وصفٍ إلى وصف، و (... ) عليه فنون الحدثان - واحدٌ لا يشاركه قسيم، وماجِدٌ لا يضارعه نديم.
ويقال مَنْ عَلمَ أنه بالله علم أنه لله، فإذا علم لله لم يَبقَ فيه نصيب لغير الله ؛ فهو مستسلمٌ لحكم الله، لا مُعْتَرِضٌ على تقدير الله، ولا معارِضٌ لاختيار الله، ولا مُعْرِضٌ عن اعتناق أمر الله.
كيف أوثِر عليه بَدَلاً وإني لا أجد عن حكمه حِوَلا، وكيف أقول بغيرٍ أو ضدٍ أو شريك ؟ أو أقول بدونه معبود أو مقصود ؟ وإنْ لاحظتُ يمنةً ما شاهدتُ إلا مُلْكَه، وإنْ طالعتُ يَسْرةً ما عايَنْتُ إلا مُلكَه ! بل إني إنْ نظرتُ يمنةً شهدت يُمْنَه، وإنْ نظرتُ يَسْرةً وجدتُ نحوي يُسْرَه !.
صير التوبة إليكم، وقَصَرَ حكم عصركم عليكم، فأنتم المقصودون اليوم دون من هو سواكم. ثم إنه جعلكم أصنافاً، وخلقكم أخْيافاً فمنْ مُسَخَّرٍ له، مُرَفَّهٍ، مُرَوَّحٍ، يتعب لأَجْله كثيرٌ. ومن مُعَنَّيّ، وذي مشقةٍ أُدِير عليه رأسهُ. وجاء البلاءُ ليختبركم فيما آتاكم، ويمتحنكم فيما أعطاكم. إنَّ حسابه لكم لاحِقٌ، وحكمه فيكم سابق. والله أعلم.