تفسير سورة الكهف

زاد المسير
تفسير سورة سورة الكهف من كتاب زاد المسير في علم التفسير المعروف بـزاد المسير .
لمؤلفه ابن الجوزي . المتوفي سنة 597 هـ
سورة الكهف

فصل في نزولها


روى أبو صالح عن ابن عباس أن سورة ( الْكَهْفِ ) مكية، وكذلك قال الحسن، ومجاهد، وقتادة. وهذا إجماع المفسرين من غير خلاف نعلمه، إلا أنه قد روي عن ابن عباس، وقتادة أن منها آية مدنية، وهي قوله :﴿ وَاصْبِرْ نَفْسَكَ ﴾ [ الكهف : ٢٨ ]. وقال مقاتل : من أولها إلى قوله تعالى :﴿ صَعِيداً جُرُزاً ﴾ [ الكهف : ٨ ] مدني، وقوله تعالى :﴿ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ ﴾ [ الكهف : ١٠٧، ١٠٨ ] الآيتان مدنية، وباقيها مكي. وروى أبو الدرداء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال :" من حفظ عشر آيات من أول الْكَهْفِ ثم أدرك الدجال لم يضره، ومن حفظ خواتيم سورة الْكَهْفِ كانت له نورا يوم القيامة ".

سورة الكهف

فصل في نزولها:


روى أبو صالح عن ابن عباس أن سورة الكهف مكّيّة، وكذلك قال الحسن، ومجاهد وقتادة. وهذا إجماع المفسرين من غير خلاف نعلمه، إلّا أنه قد روي عن ابن عباس، وقتادة أنّ فيها آية مدنيّة وهي قوله: وَاصْبِرْ نَفْسَكَ»
. وقال مقاتل: من أوّلها إلى قوله تعالى: صَعِيداً جُرُزاً «٢» مدنيّ، وقوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ «٣» الآيتان مدنيّة، وباقيها مكيّ.
(٩٢٨) وروى أبو الدّرداء عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم أنه قال: «من حفظ عشر آيات من أوّل سورة الكهف ثم أدرك الدّجّال لم يضرّه، ومن حفظ خواتيم سورة الكهف كانت له نورا يوم القيامة».

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

[سورة الكهف (١٨) : الآيات ١ الى ٦]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً (١) قَيِّماً لِيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً حَسَناً (٢) ماكِثِينَ فِيهِ أَبَداً (٣) وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً (٤)
ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلا لِآبائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلاَّ كَذِباً (٥) فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً (٦)
قوله تعالى: الْحَمْدُ لِلَّهِ قد شرحناه في أوّل «الفاتحة». والمراد بعبده ها هنا: محمّد صلى الله عليه وسلّم، وبالكتاب: القرآن، تمدَّح بانزاله، لأنه إِنعام على الرسول خاصة، وعلى الناس عامَّة. قال العلماء باللغة والتفسير: في هذه الآية تقديم وتأخير، تقديرها: أنزل على عبده الكتاب قَيِّماً أي: مستقيماً عدلاً.
وقرأ أبو رجاء، وأبو المتوكل، وأبو الجوزاء، وابن يعمر، والنخعي، والأعمش: «قِيَماً» بكسر القاف، وفتح الياء، وقد فسرناه في الأنعام «٤».
صحيح. أخرجه أبو عبيد في «فضائل القرآن» ٧/ ٣٨/ ١٣٢ من حديث أبي الدرداء، وإسناده على شرط مسلم.
وأخرج مسلم ٨٠٩ وأبو داود ٤٣٢٣ والنسائي في «اليوم والليلة» ٩٥١ وأحمد ٦/ ٤٤٩ وابن حبان ٧٨٥ و ٧٨٦ من حديث أبي الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلّم قال: «من حفظ عشر آيات من أول سورة الكهف عصم من فتنة الدجّال». وانظر «تفسير الشوكاني» ١٤٧٩ بتخريجنا.
__________
(١) سورة الكهف: ٢٨.
(٢) سورة الكهف: ٨.
(٣) سورة الكهف: ١٠٧ و ١٠٨.
(٤) سورة الأنعام: ١٦١.
63
قوله تعالى: وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً أي: لم يجعل فيه اختلافا، وقد سبق بيان العوج في سورة آل عمران «١». قوله تعالى: لِيُنْذِرَ بَأْساً أي: عذاباً شديداً، مِنْ لَدُنْهُ أي: من عنده، ومن قِبَلِه، والمعنى: لينذر الكافرين وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ أي: بأن لهم أَجْراً حَسَناً وهو الجنة. ماكِثِينَ أي:
مقيمين، وهو منصوب على الحال. وَيُنْذِرَ بعذاب الله الَّذِينَ قالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً وهم اليهود حين قالوا: عزيرٌ ابن الله، والنصارى حين قالوا: المسيح ابن الله، والمشركون حين قالوا: الملائكة بنات الله، ما لَهُمْ بِهِ أي: بذلك القول مِنْ عِلْمٍ لأنهم قالوا افتراء على الله، وَلا لِآبائِهِمْ الذين قالوا ذلك، كَبُرَتْ أي: عَظُمَتْ كَلِمَةً الجمهور على النصب. وقرأ ابن مسعود، والحسن، ومجاهد، وأبو رزين، وأبو رجاء، ويحيى بن يعمر، وابن محيصن، وابن أبي عبلة: «كلمةٌ» بالرفع.
قال الفراء: من نصب، أضمر: كُبْرتْ تلك الكلمةُ كلمةً، ومن رفع، لم يضمر شيئاً، كما تقول: عَظُم قولك. وقال الزجاج: من نصب، فالمعنى: كبرت مقالتهم: اتخذ الله ولداً كلمة، و «كلمةً» منصوب على التمييز. ومن رفع، فالمعنى: عظمت كلمة هي قولهم: اتخذ الله ولداً.
قوله تعالى: تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ أي: إِنها قول بالفم لا صحة لها، ولا دليل عليها، إِنْ يَقُولُونَ أي: ما يقولون إِلَّا كَذِباً ثم «٢» عاتبه على حُزْنِهِ لفوت ما كان يرجو من إِسلامهم، فقال:
فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ وقرأ سعيد بن جبير، وأبو الجوزاء، وقتادة: «باخعُ نفسِك» بكسر السين، على الإِضافة. قال المفسرون واللغويون: فلعلك مهلك نفسك، وقاتل نفسك، وأنشد أبو عبيدة لذي الرمَّة:
ألا أيُّهَذَا الباخِعُ الوجْد نَفْسَهُ لِشَيْءٍ نَحَتْهُ عَنْ يَدَيْهِ المقَادِرُ
أي: نحَّتْه. فإن قيل: كيف قال: فَلَعَلَّكَ والغالب عليها الشك، والله عالم بالأشياء قبل كونها؟ فالجواب: أنها ليست بشكّ، إِنما هي مقدَّرة تقدير الاستفهام الذي يعنى به التقرير، فالمعنى:
هل أنت قاتل نفسك؟! لا ينبغي أن يطول أساك على إِعراضهم، فإن من حَكَمْنَا عليه بالشِّقْوَةِ لا تجدي عليه الحسرة ذكره ابن الأنباري. قوله تعالى: عَلى آثارِهِمْ أي: من بعد تولِّيهم عنك إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ يعني القرآن أَسَفاً وفيه أربعة أقوال: أحدها: حَزَناً، قاله ابن عباس، وابن قتيبة.
والثاني: جَزَعاً، قاله مجاهد. والثالث: غَضَباً، قاله قتادة. والرابع: نَدَماً، قاله السدي. وقال أبو عبيدة: نَدَماً وتَلهُّفاً وأَسىً. قال الزجاج: الأسف: المبالغة في الحزن، أو الغضب، يقال: قد أسف الرجل، فهو أَسيف، قال الشاعر:
أَرَى رَجُلاً مِنْهُمْ أَسِيفاً كأنّما يضمّ إلى كشحيه كفّا مخضبا «٣»
(١) سورة آل عمران: ٩٩.
(٢) قال ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» ٣/ ٩٣: يقول تعالى مسليا رسوله صلى الله عليه وسلّم في حزنه على المشركين، لتركهم الإيمان وبعدهم عنه، كما قال تعالى: فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ وقال: لَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ. ولهذا قال فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً أي: لم يؤمنوا بالقرآن، يقول: لا تهلك نفسك أسفا، أي لا تأسف عليهم، بل أبلغهم رسالة الله، فمن اهتدى فلنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها.
(٣) البيت للأعشى الكبير ميمون بن قيس كما في «ديوانه» : ١١٥ و «اللسان» مادة- أسف- يقول: كأن يده قطعت فاختضبت بدمها، والأسف هو الغضبان وقد يكون الأسيف: الغضبان مع الحزن.
64
وهذه الآية يشير بها إِلى نهي رسول الله صلى الله عليه وسلّم عن كثرة الحرص على إيمان قومه لئلا يؤدّي ذلك إلى هلاك نفسه بالأسف.
[سورة الكهف (١٨) : الآيات ٧ الى ٨]
إِنَّا جَعَلْنا ما عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَها لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً (٧) وَإِنَّا لَجاعِلُونَ ما عَلَيْها صَعِيداً جُرُزاً (٨)
قوله تعالى: إِنَّا جَعَلْنا ما عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَها فيه أربعة أقوال: أحدها: أنهم الرجال، رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس. والثاني: العلماء، رواه مجاهد عن ابن عباس. فعلى هذين القولين تكون «ما» في موضع «مَنْ» لأنها في موضع إِبهام، قاله ابن الانباري. والثالث: أنَّه ما عليها من شيء، قاله مجاهد. والرابع: النبات والشجر، قاله مقاتل. وقول مجاهد أعمُّ، يدخل فيه النبات، والماء، والمعادن، وغير ذلك.
فإن قيل: قد نرى بعض ما على الأرض سَمِجاً وليس بزينة. فالجواب: أنا إِن قلنا: إِن المراد به شيء مخصوص، فالمعنى: إِنا جعلنا بعض ما على الأرض زينةً لها، فخرج مخرج العموم، ومعناه الخصوص. فإن قلنا: هم الرجال أو العلماء، فلعبادتهم أو لدلالتهم على خالقهم. وإِن قلنا: النبات والشجر، فلأنه زينة لها تجري مجرى الكسوة والحلية. وإِن قلنا: إِنه عامّ في كل ما عليها، فلكونه دالاًّ على خالقه، فكأنَّه زينة الأرض من هذه الجهة.
قوله تعالى: لِنَبْلُوَهُمْ أي: لنختبر الخلق، والمعنى: لنعاملهم معاملة المبتلى. قال ابن الأنباري: من قال إِن ما على الأرض يعني به النبات، قال: الهاء والميم ترجع إِلى سكان الأرض المشاهِدين للزينة، ومن قال: «ما على الأرض» الرجال، ردَّ الهاء والميم على «ما على» لأنها بتأويل الجميع، ومعنى الآية: لنبلوهم فنرى أيُّهم أحسن عملاً، هذا، أم هذا. قال الحسن: أيُّهم أزهد في الدنيا. وقد ذكرنا في هذه الآية أربعة أقوال في سورة هود «١». ثم أعلم الخلقَ أنه يفني جميع ذلك، فقال تعالى: وَإِنَّا لَجاعِلُونَ ما عَلَيْها صَعِيداً قال الزجاج: الصعيد: الطريق الذي لا نبات فيه. وقال ابن الأنباري: قال اللغويون: الصعيد: التراب، ووجه الأرض. فأما الجُرُز، فقال الفرّاء: أهل الحجاز يقولون: أرض «جرز»، وأسد تقول: «جَرَز» وجُرُز، وتميم تقول: أرض «جُرْز» وجَرْز بالتخفيف، وقال أبو عبيدة: الصعيد الجُرُز: الغليظ الذي لا يُنْبِتُ شيئاً. ويقال للسَّنَةِ المُجْدِبة: جُرُز، «وسِنُون أجراز» لجدوبتها، وقلَّة مطرها، وأنشد:
قَدْ جَرّفَتْهُنَّ السِّنُون الأجْرَازْ «٢»
وقال الزجاج: الجرز: الأرض التي لا ينبت فيها شيء، كأنها تأكل النبت أكلاً. وقال ابن الأنباري: قال اللغويون: الجرز: الأرض التي لا يبقى بها نبات، تحرق كل نبات يكون بها. قال المفسرون: وهذا يكون يوم القيامة، يجعل الله الأرض مستويةً لا نبات فيها ولا ماء.
(١) سورة هود: ٧. [.....]
(٢) هو في «اللسان» : مادة جرز و «مجاز القرآن» ١/ ٣٩٤ والطبري ٨/ ١٧٩ بلا نسبة.

[سورة الكهف (١٨) : الآيات ٩ الى ١٢]

أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كانُوا مِنْ آياتِنا عَجَباً (٩) إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقالُوا رَبَّنا آتِنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنا مِنْ أَمْرِنا رَشَداً (١٠) فَضَرَبْنا عَلَى آذانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَداً (١١) ثُمَّ بَعَثْناهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصى لِما لَبِثُوا أَمَداً (١٢)
قوله تعالى: أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ نزلت على سبب قد ذكرناه عند قوله تعالى: وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ «١» قال ابن قتيبة: ومعنى «أم حسبت» : أحسبت. فأما «الكهف» فقال المفسرون: هو المغارة في الجبل، إِلا أنه واسع، فاذا صغر، فهو غار. قال ابن الأنباري: قال اللغويون: الكهف بمنزلة الغار في الجبل.
فأما الرقيم، ففيه ستة أقوال «٢» : أحدها: أنه لوح من رصاص كانت فيه أسماء الفتية مكتوبة ليعلم من اطّلَع عليهم يوماً من الدهر ما قصتهم، قاله أبو صالح عن ابن عباس، وبه قال وهب بن منبِّه، وسعيد بن جبير في رواية. وقال السدي: الرقيم: صخرة كُتب فيها أسماء الفتية، وجُعلت في سُور المدينة. وقال مقاتل: الرقيم: كتاب كتبه رجلان صالحان، وكانا يكتمان إِيمانَهما من الملك الذي فرَّ منه الفتية، كتبا أمر الفتية في لوح من رصاص، ثم جعلاه في تابوت من نحاس، ثم جعلاه في البناء الذي سَدُّوا به باب الكهف، فقالا: لعل الله أن يُطْلِعَ على هؤلاء الفتية أحداً فيعلمون أمرهم إِذا قرءوا الكتاب. وقال الفراء: كُتب في اللوح أسماؤهم، وأنسابهم، ودينهم، وممن كانوا، قال أبو عبيدة، وابن قتيبة: الرقيم: الكتاب، وهو فعيل بمعنى مفعول، ومنه: كتاب مرقوم، أي: مكتوب. والثاني: أنه اسم القرية التي خرجوا منها، قاله كعب. والثالث: اسم الجبل، قاله الحسن، وعطية. والرابع: أن الرقيم: الدواة، بلسان الروم، قاله عكرمة ومجاهد في رواية. والخامس: اسم الكلب، قاله سعيد بن جبير. والسادس: اسم الوادي الذي فيه الكهف، قاله قتادة: والضحاك.
قوله تعالى: كانُوا مِنْ آياتِنا عَجَباً قال المفسرون: ومعنى الكلام: أحسبتَ أنهم كانوا أعجبَ آياتنا؟! قد كان في آياتنا ما هو أعجب منهم، فإن خلق السموات والأرض وما بينهما أعجب من قصتهم. وقال ابن عباس: الذي آتيتك من الكتاب والسنَّة والعلم، أفضل من شأنهم.
قوله تعالى: إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ قال الزجاج: معنى: أوَوْا إِليه: صاروا إِليه، وجعلوه مأواهم.
والفتية: جمع فتى، مثل غُلام وغِلمة، وصبي وصبية. و «فِعلة» من أسماء الجمع، وليس ببناء يقاس عليه لا يجوز غُراب وَغِرْبة، ولا غنيّ وغنية، قال بعض المفسرين: الفتية: بمعنى الشبان. وقد ذكرنا عن القتيبي أن الفتى: بمعنى الكامل من الرجال، وبيَّنَّاه في قوله تعالى: مِنْ فَتَياتِكُمُ الْمُؤْمِناتِ «٣».
قوله تعالى: فَقالُوا رَبَّنا آتِنا مِنْ لَدُنْكَ أي: من عندك رَحْمَةً أي: رزقا وَهَيِّئْ لَنا أي: أصلح لنا
(١) سورة الإسراء: ٨٥.
(٢) قال الطبري رحمه الله في «تفسيره» ٨/ ١٨٢: وأولى هذه الأقوال بالصواب في الرقيم أن يكون معنيا به: لوح، أو حجر أو شيء كتب فيه كتاب.
ووافقه ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» ٣/ ٩٥ بقوله: وهذا هو الظاهر من الآية، وهو اختيار ابن جرير.
(٣) سورة النساء: ٢٥.
66
مِنْ أَمْرِنا رَشَداً أي: أرشدنا إِلى ما يقرّبنا منك. والمعنى: هيّئ لنا من أمرنا ما نصيب به الرشد.
والرّشد والرّشد، والرّشاد: نقيض الضّلالة.
تلخيص قصة أصحاب الكهف
اختلف العلماء في بُدُوِّ أمرهم، وسبب مصيرهم إِلى الكهف، على ثلاثة أقوال: أحدها: أنهم هربوا ليلاً من ملكهم حين دعاهم إِلى عبادة الأصنام، فمروا براعٍ له كلب، فتبعهم على دينهم، فأوَوا إِلى الكهف يتعبَّدون، ورجل منهم يبتاع لهم أرزاقهم من المدينة، إِلى أن جاءهم يوماً فأخبرهم أنهم قد ذُكِروا، فبَكوا وتعَّوذوا بالله تعالى من الفتنة، فضرب الله تعالى على آذانهم، وأمر الملك فسدَّ عليهم الكهف، وهو يظنهم أيقاظاً، وقد توفَّى الله أرواحهم وفاة النَّوم، وكلبُهم قد غشيه ما غشيهم. ثم إِن رجلين مؤمنَيْن يكتمان إِيمانهما كتبا أسماءهم وأنسابهم وخبرهم في لوح من رصاص، وجعلاه في تابوت من نحاس في البنيان، وقالا: لعل الله يُطْلع عليهم قوماً مؤمنين، فيعلمون خبرهم، هذا قول ابن عباس. وقال عبيد بن عمير: فَقَدهم قومهم فطلبوهم، فعمَّى الله عليهم أمرهم، فكتبوا أسماءهم وأنسابهم في لوح: فلان وفلان أبناء ملوكنا فَقَدْنَاهم في شهر كذا، في سنة كذا، في مملكة فلان، ووضعوا اللوح في خزانة الملك، وقالوا: لَيَكُونَنَّ لهذا شأن. والثاني: أن أحد الحواريِّين جاء إِلى مدينة أصحاب الكهف، فأراد أن يدخلها، فقيل له: إِن على بابها صنماً لا يدخلها أحد إِلا سجد له، فكره أن يدخلها، فأتى حمَّاماً قريباً من المدينة، فكان يعمل فيه بالأجْر، وعلقه فتية من أهل المدينة، فجعل يخبرهم عن خبر السماء والأرض، وخبر الآخرة، فآمنوا به وصدَّقوه، حتى جاء ابن الملك يوماً بامرأة، فدخل معها الحمَّام، فأنكر عليه الحواريُّ ذلك، فسبَّه ودخل، فمات وماتت المرأة في الحمام، فأتى الملك، فقيل له: إِن صاحب الحمام قتل ابنك، فالْتُمِس فهرب، فقال: من كان يصحبه؟ فسُمي له الفتيةُ، فالْتُمِسوا فخرجوا من المدينة، فمروا على صاحب لهم في زرع، وهو على مثل أمرهم، فانطلق معهم ومعه كلب حتى آواهم الليل إلى الكهف، فدخلوه فقالوا: نبيت ها هنا، ثم نصبح إِن شاء الله فتَرَون رأيكم، فضرب الله على آذانهم فناموا وخرج الملك، وأصحابه يتبعونهم، فوجدوهم قد دخلوا الكهف، فكلما أراد رجل أن يدخل الكهف أُرعب، فقال قائل للملك: أليس قلتَ: إِن قدرتُ عليهم قتلتُهم؟ قال: بلى، قال: فابن عليهم باب الكهف حتى يموتوا جوعاً وعطشاً، ففعل، هذا قول وهب بن منبِّه. والثالث: أنهم كانوا أبناء عظماء المدينة وأشرافهم، خرجوا فاجتمعوا وراء المدينة على غير ميعاد، فقال رجل منهم: هو أسنهم: إِني لأجد في نفسي شيئاً ما أظن أحداً يجده، فقالوا: ما تجد؟ قال: أجد في نفسي أن ربي ربُّ السموات والأرض، فقاموا جميعاً فقالوا: ربُّنا ربُّ السموات والأرض. فأجمعوا أن يدخلوا الكهف، فدخلوا، فلبثوا ما شاء الله، هذا قول مجاهد. وقال قتادة:
كانوا أبناء ملوك الروم، فتفرَّدوا بدينهم في الكهف، فضرب الله على آذانهم.

فصل:


فأما سبب بعث أصحاب الكهف من نومهم، فقال عكرمة: جاءت أمّةٌ مسلمةٌ، وكان ملكهم مسلماً، فاختلفوا في الروح والجسد، فقال قائل: يُبعث الروح والجسد. وقال قائل: يبعث الروح وحده، والجسد تأكله الأرض فلا يكون شيئاً، فشق اختلافهم على الملك، فانطلق فلبس المسوخ، وقعد على الرماد، ودعا الله أن يبعث لهم آية تبين لهم، فبعث الله أصحاب الكهف. قال
67
وهب بن منبه: جاء راعٍ قد أدركه المطر إِلى الكهف، فقال: لو فتحت هذا الكهف، وأدخلته غنمي من المطر، فلم يزل يعالجه حتى فتحه، ورد الله إِليهم أرواحهم حين أصبحوا من الغد. وقال ابن السائب:
احتاج صاحب الأرض التي فيها الكهف أن يبني حظيرة لغنمه، فهدم ذلك السدَّ، فبنى به، فانفتح باب الكهف. وقال ابن إِسحاق: ألقى الله في نفس رجل من أهل البلد أن يهدم ذلك البنيان فيبني به حظيرة لغنمه، فاستأجر عاملين ينزعان تلك الحجارة، فنزعاها، وفتحا باب الكهف، فجلسوا فرحين، فسلَّم بعضهم على بعض لا يرون في وجوههم ولا أجسادهم شيئا يكرهونه، إنما هم كهيئتهم حين رقدوا وهم يرون أن ملكهم في طلبهم، فصلّوا، وقالوا ليمليخا صاحب نفقتهم: انطلق فاستمع، ما نُذكَر به، وابتغ لنا طعاماً، فوضع ثيابه، وأخذ الثياب التي كان يتنكر فيها، وخرج فرأى الحجارة قد نزعت عن باب الكهف، فعجب، ثم مَرَّ مستخفياً متخوِّفاً أن يراه أحد فيذهب به إِلى الملك، فلما رأى باب المدينة رأى عليه علامة تكون لأهل الإيمان، فعجب، فخيّل إِليه أنها ليست بالمدينة التي يعرف، ورأى ناساً لا يعرفهم، فجعل يتعجب ويقول: لعلِّي نائم فلما دخلها رأى قوماً يحلفون باسم عيسى، فقام مسنداً ظهره إِلى جدار، وقال في نفسه: والله ما أدري ما هذا، عشية أمس لم يكن على وجه الأرض من يذكر عيسى إِلا قُتل، واليوم أسمعهم يذكرونه، لعل هذه ليست المدينة التي أعرف، والله ما أعرف مدينة قرب مدينتنا فقام كالحيران، وأخرج ورقا فأعطاه رجلا فقال: بعني طعاماً، فنظر الرجل إِلى نقشه فعجب، ثم ألقاه إِلى آخر، فجعلوا يتطارحونه بينهم، ويتعجبون، ويتشاورون، وقالوا: إِن هذا قد أصاب كنزاً، فَفَرق منهم، وظنَّهم قد عرفوه، فقال: أمسكوا طعامكم فلا حاجة بي إِليه، فقالوا له: من أنت يا فتى؟ والله لقد وجدتَ كنزاً وأنت تريد أن تخفيه، شاركنا فيه وإِلا أتينا بك إِلى السلطان فيقتلك.
فلم يدر ما يقول، فطرحوا كساءه في عنقه وهو يبكي ويقول: فُرِّقَ بيني وبين إِخوتي يا ليتهم يعلمون ما لقيتُ. فأتَوا به إلى رجلين كانا يديران أمر المدينة، فقالا: أين الكنز الذي وجدتَ؟ قال: ما وجدتُ كنزاً، ولكن هذه وَرِق آبائي، ونقش هذه المدينة وضربها، ولكن والله ما أدري ما شأني، ولا ما أقول لكم. قال مجاهد: كان وَرِق أصحاب الكهف مثل أخفاف الإِبل، فقالوا: من أنت، وما اسم أبيك؟
فأخبرهم، فلم يجدوا من يعرفه، فقال له أحدهما: أتظن أنك تسخر مِنّا وخزائن هذه البلدة بأيدينا، وليس عندنا من هذا الضرب درهم ولا دينار؟! إني سآمر بك فتعذَّب عذاباً شديداً، ثم أوثقك حتى تعترف بهذا الكنز، فقال يمليخا: أنبئوني عن شيء أسالكم عنه، فإن فعلتم صَدَقتكم، قالوا: سل، قال: ما فعل الملك دقيانوس؟ قالوا: لا نعرف اليوم على وجه الأرض مَلِكاً يسمى دقيانوس، وإِنما هذا ملك كان منذ زمان طويل، وهلكت بعده قرون كثيرة، فقال: والله ما يصدِّقني أحد بما أقوله، لقد كُنّا فتيةً، وأكرهنا الملكُ على عبادة الأوثان والذبح للطواغيت فهربنا منه عشية أمسِ فنمنا، فلما انتبهنا خرجتُ أشتري لأصحابي طعاماً، فإذا أنا كما ترون، فانطلقوا معي إِلى الكهف أُريكم أصحابي.
فانطلقوا معه وسائر أهل المدينة، وكان أصحابه قد ظنوا لإِبطائه عليهم أنه قد أُخذ، فبينما هم يتخوّفون ذلك، إِذ سمعوا الأصوات وجلبة الخيل، فظنوا أنهم رُسُل دقيانوس، فقاموا إِلى الصلاة، وسلَّم بعضهم على بعض، فسبق يمليخا إِليهم وهو يبكي، فبكَوا معه، وسألوه عن شأنه، فأخبرهم خبره، وقصّ عليهم النبأَ كلَّه، فعرفوا أنهم كانوا نياماً بأمر الله تعالى، وإنما أوقظوا ليكونوا آية للناس، وتصديقا للبعث، ونظر الناس إلى المسطور الذي فيه أسماؤهم وقصتهم، فعجبوا، وأرسلوا إِلى ملكهم فجاء،
68
واعتنق القومَ، وبكى، فقالوا له: نستودعك الله ونقرأ عليك السلام، حفظك الله، وحفظ ملكك. فبينا الملك قائم رجعوا إِلى مضاجعهم، وتوفَّى الله عزَّ وجلَّ أنفسهم، فأمر الملك أن يُجعل لكل واحد منهم تابوت من ذهب، فلما أَمْسَواْ رآهم في المنام، فقالوا: إِنا لم نُخلَق من ذهب وفضة، ولكن خُلقنا من تراب، فاتركنا كما كُنّا في الكهف على التّراب حتى يبعثنا الله عزّ وجلّ منه، وحجبهم الله عزّ وجلّ حين خرجوا من عندهم بالرُّعْب، فلم يقدر أحد أن يدخل عليهم، وأمر المَلِك فجُعِل على باب الكهف مسجدٌ يصلَّى فيه، وجعل لهم عيداً عظيماً يؤتَى كلَّ سنة، وقيل: إِنه لما جاء يمليخا ومعه الناس، قال:
دعوني أدخل على أصحابي فأبشِّرهم، فانهم إِن رأَوْكم معي أرعبتموهم، فدخل فبشّرهم، وقبض الله روحه وأرواحهم، فدخل الناس، فإذا أجساد لا ينكرون منها شيئاً، غير أنها لا أرواح فيها، فقال الملك: هذه آيةٌ بعثها الله لكم.
قوله تعالى: فَضَرَبْنا عَلَى آذانِهِمْ قال الزجاج: المعنى: أنمناهم ومنعناهم السمع، لأن النائم إِذا سمع انتبه. وعَدَداً منصوب على ضربين: أحدهما: على المصدر، المعنى: تُعَدُّ عدداً.
والثاني: أن يكون نعتاً للسنين، المعنى: سنين ذات عدد، والفائدة في ذِكْر العدد في الشيء المعدود، توكيد كثرة الشيء، لأنه إِذا قَلَّ فُهِم مقداره، وإِذا كَثُر احتيج إِلى أن يُعَدَّ العدد الكثير. ثُمَّ بَعَثْناهُمْ من نومهم، يقال لكُلِّ مَنْ خرج من الموت إِلى الحياة، أو من النوم إِلى الانتباه: مبعوث، لأنه قد زال عنه ما كان يحبسه عن التصرِّف والانبعاث. وقيل: معنى سِنِينَ عَدَداً: أنه لم يكن فيها شهور ولا أيام، إِنما هي كاملة، ذكره الماوردي. قوله تعالى: لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ قال المفسرون: أي: لنرى. وقال بعضهم: المعنى: لتعلموا أنتم أيّ الحزبين. وقرأ أبو الجوزاء، وأبو عمران، والنخعي: «ليُعلَم» بضم الياء، على ما لم يُسمَّ فاعله ويعني بالحزبين: المؤمنين والكافرين من قوم أصحاب الكهف. أَحْصى لِما لَبِثُوا أي: لنعلم أهؤلاء أحصى للأمد أو هؤلاء، فكأنه وقع بينهم تنازع في مدة لبثهم في الكهف بعد خروجهم من بينهم، فبعثهم الله ليبين ذلك ويظهر. قال قتادة: لم يكن للفريقين عِلم بلبثهم، لا لمؤمنيهم، ولا لكافريهم، قال مقاتل: لما بُعثوا زال الشك وعُرفت حقيقة اللبث. وقال القاضي أبو يعلى: معنى الكلام: بعثناهم ليظهر المعلوم في اختلاف الحزبين في مدة لبثهم، لما في ذلك من العبرة.
[سورة الكهف (١٨) : الآيات ١٣ الى ١٥]
نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْناهُمْ هُدىً (١٣) وَرَبَطْنا عَلى قُلُوبِهِمْ إِذْ قامُوا فَقالُوا رَبُّنا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَا مِنْ دُونِهِ إِلهاً لَقَدْ قُلْنا إِذاً شَطَطاً (١٤) هؤُلاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْلا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً (١٥)
قوله تعالى: نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ أي: خبر الفتية بِالْحَقِّ أي: بالصدق.
قوله تعالى: وَزِدْناهُمْ هُدىً أي: ثبَّتناهم على الإِيمان، وَرَبَطْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أي: ألهمناها الصبر إِذْ قامُوا بين يدي ملكهم دقيانوس فَقالُوا رَبُّنا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وذلك أنه كان يدعو الناس إِلى عبادة الأصنام، فعصم الله هؤلاء حتى عصَواْ ملِكهم. وقال الحسن: قاموا في قومهم
فدعَوْهم إِلى التوحيد. وقيل: هذا قولهم بينهم لما اجتمعوا خارج المدينة على ما ذكرنا في أول القصة.
فأما الشطط، فهو الجَوْر. قال الزّجّاج: يقال: شطّ الرجل، وأشطّ: إذ جار. ثم قال الفتية: هؤُلاءِ قَوْمُنَا يعنون الذين كانوا في زمن دقيانوس اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً أي: عبدوا الأصنام لَوْلا أي: هلاّ يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ أي: على عبادة الأصنام بِسُلْطانٍ بَيِّنٍ أي: بِحُجَّةٍ وإِنما قال: عليهم والأصنام مؤنَّثة، لأن الكفار نحلوها العقل والتمييز، فجرت مجرى المذكَّرين من الناس.
قوله تعالى: فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً فزعم أنّ له شريكا؟!
[سورة الكهف (١٨) : الآيات ١٦ الى ١٧]
وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَما يَعْبُدُونَ إِلاَّ اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرفَقاً (١٦) وَتَرَى الشَّمْسَ إِذا طَلَعَتْ تَتَزاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذاتَ الْيَمِينِ وَإِذا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذاتَ الشِّمالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ ذلِكَ مِنْ آياتِ اللَّهِ مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِداً (١٧)
قوله تعالى: وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ قال ابن عباس: هذا قول يمليخا، وهو رئيس أصحاب الكهف، قال لهم: وإِذ اعتزلتموهم، أي: فارقتموهم، يريد: عبدة الأصنام، وَما يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فيه قولان:
أحدهما: واعتزلتم ما يعبدون، إِلا الله، فإن القوم كانوا يعبدون الله ويعبدون معه آلهة، فاعتزل الفتية عبادة الآلهة، ولم يعتزلوا عبادة الله، هذا قول عطاءٍ الخراساني، والفراء. والثاني: وما يعبدون غير الله قال قتادة: هي في مصحف، عبد الله: «وما يعبدون من دون الله»، وهذا تفسيرها. قوله تعالى:
فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ أي: اجعلوه مأواكم، يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ أي: يبسط عليكم من رزقه، وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرفَقاً قرأ ابن كثير، وابن عامر، وعاصم، وحمزة، والكسائي: «مِرفَقا» بكسر الميم، وفتح الفاء، وقرأ نافع، وابن عامر: «مَرفِقا» بفتح الميم وكسر الفاء، قال الفراء: أهل الحجاز يقولون: «مَرفِقاً» بفتح الميم وكسر الفاء في كل مرفق ارتفقت به، ويكسرون مِرفق الإِنسان، والعرب قد يكسرون الميم منهما جميعاً. قال ابن الأنباري: معنى الآية: ويهيّئ لكم من أمركم الصَّعب مرفقاً، قال الشاعر:
فليتَ لنا مِنْ ماءِ زَمْزَمَ شَربَةً مُبرّدةً باتت على طَهَيانِ «١»
معناه: فلَيت لنا بدلاً من ماء زمزم. قال ابن عباس: «ويهيّئ لكم» : يسهِّلْ عليكم ما تخافون من الملِك وظلمه ويأتِكم باليُسر والرِّفق واللُّطف.
قوله تعالى: وَتَرَى الشَّمْسَ إِذا طَلَعَتْ المعنى: لو رأيتَها لرأيت ما وصفنا. تَتَزاوَرُ قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو: «تَزَّاوَرُ» بتشديد الزاي. وقرأ عاصم، وحمزة، والكسائي: «تَزَاور» خفيفة.
وقرأ ابن عامر: «تَزْوَرُّ» مثل: «تَحْمَرُّ». وقرأ أُبيّ بن كعب، وأبو مجلز، وأبو رجاء، والجحدري:
«تَزْوَارُّ» باسكان الزاي، وبألف ممدودة بعد الواو من غير همزة، مشددة الراء. وقرأ ابن مسعود، وأبو المتوكل، وابن السميفع: «تَزْوَئِرُّ» بهمزة قبل الراء، مثل: «تَزْوَعِرُّ». وقرأ أبو الجوزاء، وأبو السّمّال:
(١) البيت للأحول الكندي في «اللسان» - طها- و «البحر المحيط» ٦/ ١٠٣.
«تَزَوَّرُ» بفتح التاء والزاي وتشديد الواو المفتوحة خفيفة الرّاء، مثل: «تكوّر» والمعنى: تميل أو تعدل.
قال الزّجّاج: «تزاور» : تتزاور، فأدغمت التاء في الزاي، و (تقرضهم) أي: تعدل عنهم وتتركهم، وقال ذو الرمة:
إِلى ظُعُنٍ يَقْرِضْنَ أجْوَازَ مُشْرِفٍ شِمالاً وعَنْ أيْمانِهِنَّ الفَوَارِسُ «١»
يقرضن: يتركن. وأصل القرض: القطع والتّفرقة بين الأشياء، ومنه: أقرِضني درهماً، أي: اقطع لي من مالك درهماً. قال المفسرون: كان كهفهم بازاء بنات نعش في أرض الروم، فكانت الشمس تميل عنهم طالعةً وغاربةً لا تدخل عليهم فتؤذيهم بحرِّها وتغير ألوانهم. ثم أخبر أنهم كانوا في متسع من الكهف ينالهم فيه برد الريح، ونسيم الهواء، فقال: وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ قال أبو عبيدة: أي: في مُتَّسَع، والجميع: فَجَوات، وفِجاء، بكسر الفاء. وقال الزجاج: إِنما صَرْفُ الشمس عنهم آيةٌ من الآيات، ولم يرض قول من قال: كان كهفهم بازاء بنات نعش.
قوله تعالى: ذلِكَ مِنْ آياتِ اللَّهِ يشير إِلى ما صنعه بهم من اللطف في هدايتهم، وصرف أذى الشمس عنهم، والرعب الذي ألقى عليهم حتى لم يقدر الملك الظالم ولا غيره على أذاهم. «من آيات الله» أي: من دلائله على قدرته ولطفه. مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ هذا بيان أنه هو الذي تولَّى هداية القوم، ولولا ذلك لم يهتدوا.
[سورة الكهف (١٨) : آية ١٨]
وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقاظاً وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذاتَ الْيَمِينِ وَذاتَ الشِّمالِ وَكَلْبُهُمْ باسِطٌ ذِراعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِراراً وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً (١٨)
قوله تعالى: وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقاظاً أي: لو رأيتَهم لحسِبتَهم أيقاظاً. قال الزجاج: الأيقاظ:
المنتبهون، واحدهم: يقظ، ويقظان، والجميع: أيقاظ والرّقود: النّيام. وقال الفراء: واحد الأيقاظ:
يَقُظ، ويَقِظ. قال ابن السائب: وإِنما يُحسَبون أيقاظاً، لأن أعينهم مفتَّحة وهم نيام. وقيل: لتقلُّبهم يميناً وشمالاً. وذكر بعض أهل العلم: أن وجه الحكمة في فتح أعينهم، أنه لو دام طَبْقها لذابت. قوله تعالى: وَنُقَلِّبُهُمْ وقرأ الحسن وأبو رجاء: «وتَقْلِبُهم» بتاء مفتوحة، وسكون القاف، وتخفيف اللام المكسورة. وقرأ أبو الجوزاء، وعكرمة: «ونَقْلِبُهم» مثلها، إِلا أنه بالنون. ذاتَ الْيَمِينِ أي: على أيْمانهم وعلى شمائلهم. قال ابن عباس: كانوا يُقلَّبون في كل عام مرتين، ستة أشهر على هذا الجنب، وستة أشهر على هذا الجنب، لئلا تأكل الأرض لحومهم. وقال مجاهد: كانوا ثلاثمائة عام على شِقّ واحد، ثم قُلِّبوا تسع سنين.
قوله تعالى: وَكَلْبُهُمْ باسِطٌ ذِراعَيْهِ بِالْوَصِيدِ أخبر أن الكلب كان على مثل حالهم في النوم، وهو في رأي العين منتبه. وفي الوصيد أربعة أقوال «٢» : أحدها: أنه الفِناء فِناء الكهف، رواه ابن أبي
(١) هو في «ديوانه» ٤٠٣ و «مجاز القرآن» ١/ ٣٩٦ ومشرف والفوارس: موضعان بنجد كما في «معجم من استعجم».
(٢) قال الإمام الطبري رحمه الله في «تفسيره» ٨/ ١٩٥: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال: الوصيد:
الباب، أو فناء الباب حيث يغلق الباب، وذلك أن الباب يوصد وإيصاده: إطباقه وإغلاقه من قوله تعالى:
إِنَّها عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ الهمزة: ٨.
طلحة عن ابن عباس، وبه قال سعيد بن جبير، ومجاهد، والضحاك، وقتادة، والفراء. قال الفرّاء:
يقال: الوصيد والأصيد لغتان، مثل الإكاف والوكاف. وأرَّخت الكتاب وورَّخت، ووكدت الأمر وأكَّدت وأهل الحجاز يقولون: الوَصيد، وأهل نجد يقولون: الأَصِيد، وهو: الحظيرة والفِناء.
والثاني: أنه الباب، رواه عكرمة عن ابن عباس، وبه قال السّديّ، قال ابن قتيبة: فيكون المعنى:
وكلبهم باسط ذراعيه بالباب، قال الشاعر:
بِأرْضِ فَضَاءٍ لا يُسَدُّ وَصِيدُها عليَّ ومَعْرُوفي بها غيرُ مُنْكَرِ «١»
والثالث: أنه الصعيد، وهو التراب، رواه العوفي عن ابن عباس، وبه قال سعيد بن جبير، ومجاهد في رواية عنهما. والرابع: أنه عتبة الباب، قاله عطاء. قال ابن قتيبة: وهذا أعجب إليَّ، لأنهم يقولون: أَوصِد بابك، أي: أغلقه، ومنه قوله تعالى: إِنَّها عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ «٢»، أي: مطبقة مغلقة، وأصله أن يلصق الباب بالعتبة، إِذا أغلقته، ومما يوضح هذا أنك إِذا جعلت الكلب بالفِناء، كان خارجاً من الكهف، وإِن جعلته بعتبة الباب، أمكن أن يكون داخل الكهف، والكهفُ وإِن لم يكن له باب وعتبة، فانما أراد أن الكلب بموضع العتبة من البيت، فاستُعير.
قوله تعالى: لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ وقرأ الأعمش وأبو حصين: «لوُ اطّلعت» بضمّ الواو، أي لو أشرفت عليهم لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِراراً رهبة لهم وَلَمُلِئْتَ قرأ عاصم وابن عامر وأبو عمرو وحمزة والكسائي: «ولَمُلِئْتَ» خفيفة مهموزة. وقرأ ابن كثير ونافع: «ولَمُلِّئْتَ» مشددة مهموزة، رُعْباً أي فزعاً وخوفاً، وذلك أن الله تعالى منعهم بالرعب لئلا يدخل إِليهم أحد. وقيل: إِنهم طالت شعورهم وأظفارهم جداً فلذلك كان الرائي لهم لو رآهم هرب مرعوبا، حكاه الزّجّاج.
[سورة الكهف (١٨) : الآيات ١٩ الى ٢٠]
وَكَذلِكَ بَعَثْناهُمْ لِيَتَسائَلُوا بَيْنَهُمْ قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّها أَزْكى طَعاماً فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَداً (١٩) إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذاً أَبَداً (٢٠)
قوله تعالى: وَكَذلِكَ بَعَثْناهُمْ أي: وكما فعلنا بهم ما ذكرنا، بعثناهم من تلك النومة لِيَتَسائَلُوا أي: ليكون بينهم تساؤل وتنازع واختلاف في مدة لبثهم، فيفيد تساؤلهم اعتبار المعتبِرين بحالهم. قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ أي: كم مَرَّ علينا منذ دخلنا هذا الكهف؟ قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ وذلك أنهم دخلوا غُدوةً، وبعثهم الله في آخر النهار، فلذلك قالوا: «يوماً»، فلما رأوا الشمس قالوا: أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ، قالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما لَبِثْتُمْ قال ابن عباس: القائل لهذا يمليخا رئيسهم، ردَّ عِلْم ذلك إِلى الله تعالى. وقال في رواية أخرى: إِنما قاله مكسلمينا، وهو أكبرهم. قال أبو سليمان:
(١) البيت لعبيد بن وهب العبسي، وهو في «غريب القرآن» ٢٦٥ و «تفسير القرطبي» ١٠/ ٣٢٤.
(٢) سورة الهمزة: ٨.
وهذا يوجب أن تكون نفوسهم قد حدَّثتْهم أنهم قد لبثوا أكثر مما ذكروا. وقيل: إِنما قالوا ذلك، لأنهم رأوا أظفارهم وأشعارهم قد طالت جداً.
قوله تعالى: فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ قال ابن الأنباري: إِنما قال: «أحدَكم»، ولم يقل: واحدَكم، لئلا يلتبس البعض بالممدوح المعظَّم، فان العرب تقول: رأيت أحد القوم، ولا يقولون: رأيت واحد القوم، إِلا إِذا أرادوا المعظَّم، فأراد بأحدهم: بعضَهم، ولم يُرِد شريفهم.
قوله تعالى: بِوَرِقِكُمْ قرأ ابن كثير، ونافع، وابن عامر، والكسائي، وحفص عن عاصم:
«بِوَرِقِكُم» الراء مكسورة خفيفة. وقرأ أبو عمرو، وحمزة، وأبو بكر عن عاصم ساكنة الراء. وعن أبي عمرو: «بورقكم» مدغمة يُشِمُّها شيئاً من التثقيل قال الزجاج: تصير كافاً خالصة. قال الفراء: الوَرِق لغة أهل الحجاز، وتميم يقولون: الوَرْق، وبعض العرب يكسرون الواو، فيقولون: الوِرْق. قال ابن قتيبة. الوَرِق: الفضة، دراهم كانت أو غير دراهم، يدلك على ذلك حديث عَرْفَجَة أنه اتخذ أنفاً من وَرِق. قوله تعالى: إِلَى الْمَدِينَةِ يعنون التي خرجوا منها، واسمها دقسوس، ويقال: هي اليوم طرسوس. قوله تعالى: فَلْيَنْظُرْ أَيُّها قال الزجاج: المعنى: أيُّ أهلها أَزْكى طَعاماً، وللمفسرين في معناه ستة أقوال: أحدها: أَحَلُّ ذبيحة، قاله ابن عباس، وعطاء، وذلك أن عامة أهل بلدهم كانوا كفاراً، فكانوا يذبحون للطواغيت، وكان فيهم قوم يُخفون إِيمانهم. والثاني: أَحَلُّ طعاماً، قاله سعيد بن جبير قال الضّحّاك: وكان أكثر أموالهم غصوباً. وقال مجاهد: قالوا لصاحبهم: لا تبتعْ طعاماً فيه ظلم ولا غصب. والثالث: أكثر، قاله عكرمة. والرابع: خير، أي: أجود، قاله قتادة. والخامس: أطيب، قاله ابن السائب، ومقاتل. والسادس: أرخص، قاله يمان بن رئاب. قال ابن قتيبة: وأصل الزكاء: النماء والزيادة.
قوله تعالى: فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ أي: بما تأكلونه. وَلْيَتَلَطَّفْ أي: ليدقِّق النظر فيه، وليحتلْ لئلا يُطَّلَع عليه. وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أي: ولا يُخْبِرَنَّ أحداً بمكانكم. إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا أي: يطَّلعوا ويُشرفوا عليكم، يَرْجُمُوكُمْ وفيه ثلاثة أقوال: أحدها: يقتلوكم، قاله ابن عباس. وقال الزجاج: يقتلوكم بالرجم. والثاني: يرجموكم بأيديهم، استنكاراً لكم، قاله الحسن. والثالث: بألسنتهم شتماً لكم، قاله مجاهد، وابن جريج.
قوله تعالى: أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ أي: يردُّوكم في دينهم، وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذاً أَبَداً أي: إِن رجعتم في دينهم، لم تسعدوا في الدنيا ولا في الآخرة.
[سورة الكهف (١٨) : آية ٢١]
وَكَذلِكَ أَعْثَرْنا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لا رَيْبَ فِيها إِذْ يَتَنازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْياناً رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً (٢١)
قوله تعالى: وَكَذلِكَ أَعْثَرْنا عَلَيْهِمْ أي: وكما أنمناهم وبعثناهم، أطلعنا وأظهرنا عليهم. قال ابن قتيبة: وأصل هذا أن من عَثَر بشيء وهو غافل، نظر إِليه حتى يعرفه، فاستعير العِثار مكان التبيين والظهور، ومنه قول الناس: ما عثرت على فلان بسوءٍ قط، أي: ما ظهرت على ذلك منه. قوله تعالى:
لِيَعْلَمُوا في المشار إِليهم بهذا العلم قولان: أحدهما: أنهم أهل بلدهم حين اختصموا في البعث،
فبعث الله أهل الكهف ليعلموا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ بالبعث والجزاء حَقٌّ وأن القيامة لا شك فيها، هذا قول الأكثرين. والثاني: أنهم أهل الكهف، بعثناهم ليرَوْا بعد علمهم أن وعد الله حق، ذكره الماوردي. قوله تعالى: إِذْ يَتَنازَعُونَ يعني: أهل ذلك الزمان. قال ابن الأنباري: المعنى: إِذ كانوا يتنازعون، ويجوز أن يكون المعنى: إِذ تنازعوا. وفي ما تنازعوا فيه خمسة أقوال: أحدها: أنهم تنازعوا في البنيان، والمسجد. فقال المسلمون: نبني عليهم مسجداً، لأنهم على ديننا وقال المشركون: نبني عليهم بنياناً، لأنهم من أهل سُنَّتنا، قاله ابن عباس. والثاني: أنهم تنازعوا في البعث، فقال المسلمون:
تُبعث الأجساد والأرواح، وقال بعضهم: تُبعث الأرواح دون الأجساد، فأراهم الله تعالى بعث الأرواح والأجساد ببعثه أهل الكهف، قاله عكرمة. والثالث: أنهم تنازعوا ما يصنعون بالفتية، قاله مقاتل.
والرابع: أنهم تنازعوا في قدْر مكثهم. والخامس: تنازعوا في عددهم، ذكرهما الثعلبي. قوله تعالى:
ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْياناً أي: استروهم من الناس بأن تجعلوهم وراء ذلك البنيان. وفي القائلين لَهذا قولان:
أحدهما: أنهم مشركو ذلك الزمان، وقد ذكرناه عن ابن عباس. والثاني: أنهم الذين أسلموا حين رأوا أهل الكهف، قاله ابن السائب. قوله تعالى: قالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلى أَمْرِهِمْ قال ابن قتيبة: يعني المُطاعين والرؤساء، قال المفسرون: وهم الملك وأصحابه المؤمنين اتخذوا عليهم مسجداً. قال سعيد بن جبير:
بنى عليهم الملك بيعة.
[سورة الكهف (١٨) : الآيات ٢٢ الى ٢٤]
سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْماً بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ ما يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ قَلِيلٌ فَلا تُمارِ فِيهِمْ إِلاَّ مِراءً ظاهِراً وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَداً (٢٢) وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً (٢٣) إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذا نَسِيتَ وَقُلْ عَسى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هذا رَشَداً (٢٤)
قوله تعالى: سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ قال الزجاج: ثَلاثَةٌ مرفوع بخبر الابتداء، المعنى: سيقول الذين يتنازعون في أمرهم هم ثلاثةٌ. وفي هؤلاء القائلين قولان:
(٩٢٩) أحدهما: أنهم نصارى نجران، ناظروا رسول الله صلى الله عليه وسلّم في عِدَّة أهل الكهف، فقالت الملكيَّة: هم ثلاثة رابعهم كلبهم، وقالت اليعقوبية: هم خمسة سادسهم كلبهم، وقالت النسطورية: هم سبعة وثامنهم كلبهم، فنزلت هذه الآية: رواه الضحاك عن ابن عباس.
والثاني: أنهم أهل مدينتهم قبل ظهورهم عليهم، ذكره الماوردي.
قوله تعالى: رَجْماً بِالْغَيْبِ أي: ظنّاً غير يقين، قال زهير:
ومَا الحَرْبُ إِلاَّ ما علمْتُمْ وَذُقْتُمُ ومَا هُوَ عَنْهَا بالحَدِيثِ المُرَجَّمِ
فأما دخول الواو في قوله: وَثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ ولم تدخل فيما قبل هذا، ففيه أربعة أقوال:
أحدها: أن دخولها وخروجها واحد، قاله الزجاج. والثاني: أن ظهور الواو في الجملة الثامنة دلالة على
باطل. عزاه المصنف للضحاك عن ابن عباس، والضحاك لم يلق ابن عباس، ثم إن الراوي عن الضحاك على الدوام إنما هو جويبر ذاك المتروك.
74
أنها مرادة في الجملتين المتقدمتين، فأعلم بذكرها ها هنا أنها مرادة فيما قبل، وإِنما حذفت تخفيفاً، ذكره أبو نصر في «شرح اللمع». والثالث: أن دخولها يدل على انقطاع القصة، وأن الكلام قد تمَّ، ذكره الزجاج أيضاً، وهو مذهب مقاتل بن سليمان، وإن الواو تدل على تمام الكلام قبلها، واستئناف ما بعدها قال الثعلبي: فهذه واو الحكم والتحقيق، كأن الله تعالى حكى اختلافهم، فتم الكلام عند قوله:
وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ، ثم حكم أن ثامنهم كلبهم. وجاء في بعض التفسير أن المسلمين قالوا عند اختلاف النصارى: هم سبعة، فحقَّق الله قول المسلمين. والرابع: أن العرب تعطف بالواو على السبعة، فيقولون: ستة، سبعة، وثمانية، لأن العقد عندهم سبعة، كقوله: التَّائِبُونَ الْعابِدُونَ... إِلى أن قال في الصفة الثامنة: وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ «١»، وقوله في صفة الجنّة: وَفُتِحَتْ أَبْوابُها وفي صفة النّار: فُتِحَتْ أَبْوابُها «٢»، لأن أبواب النار سبعة، وأبواب الجنة ثمانية، ذكر هذا المعنى أبو إِسحاق الثعلبي.
وقد اختلف العلماء في عددهم على قولين: أحدهما: أنهم كانوا سبعة، قاله ابن عباس. والثاني:
ثمانية، قاله ابن جريج، وابن إِسحاق. وقال ابن الأنباري: وقيل: معنى قوله: وَثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ:
صاحب كلبهم، كما يقال: السخاء حاتم، والشِّعر زهير، أي: السخاء سخاء حاتم، والشِّعر شِعر زهير.
فأمّا أسماؤهم «٣»، فقال هُشَيْم: مكسلمينا، ويمليخا، وطَرينوس، وسَدينوس، وسَرينوس، ونَواسس، ويرانوس، وفي التفسير خلاف في أسمائهم فلم أُطل به.
واختلفوا في كلبهم لمن كان على ثلاثة أقوال: أحدها: أنه كان لراع مَرّوا به فتبعهم الراعي والكلب، قاله ابن عباس. والثاني: أنه كان لهم يتصيدون عليه، قاله عبيد بن عمير. والثالث: أنهم مَرّوا بكلب فتبعهم، فطردوه، فعاد، ففعلوا ذلك به مراراً، فقال لهم الكلب: ما تريدون مني؟! لا تخشوا جانبي أنا أُحِبُّ أحبّاء الله تعالى، فناموا حتى أحرسَكم. قاله كعب الأحبار. وفي اسم كلبهم أربعة أقوال: أحدها: قطمير، قاله أبو صالح عن ابن عباس. والثاني: إن اسمه الرقيم، وقد ذكرناه عن سعيد بن جبير. والثالث: قطمور، قاله عبد الله بن كثير. والرابع: حُمران، قاله شعيب الجبائي «٤».
وفي صفته ثلاثة أقوال: أحدها: أحمر، حكاه الثوري. والثاني: أصفر، حكاه ابن إِسحاق. والثالث:
أحمر الرأس، أسود الظهر، أبيض البطن، أبلق الذنب، ذكره ابن السائب.
قوله تعالى: رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ حرك الياء ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وأسكنها الباقون.
قوله تعالى: ما يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ أي: ما يعلم عددهم إِلا قليل من الناس. قال عطاء يعني بالقليل: هم سبعة، إِن الله عدَّهم حتى انتهى إِلى السبعة.
قوله تعالى: فَلا تُمارِ فِيهِمْ إِلَّا مِراءً ظاهِراً قال ابن عباس، وقتادة: لا تُمارِ أحداً، حسبك ما قصصتُ عليكَ من أمرهم. وقال ابن زيد: لا تُمارِ في عِدَّتهم إِلا مراءً ظاهراً أن تقول لهم: ليس كما
(١) سورة التوبة: ١١٢.
(٢) سورة الزمر: ٧١- ٧٣.
(٣) الوقوف على أسمائهم، والكشف عن صفاتهم وأحوالهم زيادة على ما ذكر القرآن إنما هو مجرد تخمين وكهانة، وليس فيه كبير فائدة.
(٤) قال في «الميزان» ٢/ ٢٧٨: شعيب الجبائي، أخباري متروك، قاله الأزدي، وجبأ من أعمال الجند باليمن.
75
تقولون، ليس كما تعلمون. وقيل: «إِلا مراءً ظاهراً» بحجة واضحة، حكاه الماوردي. والمراء في اللغة: الجدال يقال: مارى يُماري مُماراة ومِراءً، أي: جادَل. قال ابن الأنباري: معنى الآية: لا تجادل إِلا جدال متيقِّنٍ عالِم بحقيقة الخبر، إذ الله تعالى ألقى إليك ما لا يشوبه باطل. وتفسير المراء في اللغة: استخراج غصب المجادل، من قولهم: مَرَيْتُ الشاة: إِذا استخرجت لبنها. قوله تعالى: وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ أي: في أصحاب الكهف، (منهم) قال ابن عباس: يعني: من أهل الكتاب. قال الفراء:
أتاه فريقان من النصارى، نسطوري، ويعقوبي، فسألهم النبي صلى الله عليه وسلّم عن عددهم، فنُهي عن ذلك.
قوله تعالى: وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً (٢٣) إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ.
(٩٣٠) سبب نزولها أن قريشا سألوا النبيّ صلى الله عليه وسلّم عن ذي القرنين، وعن الرُّوح، وعن أصحاب الكهف، فقال: غداً أخبركم بذلك، ولم يقل: إِن شاء الله، فأبطأ عليه جبريل خمسة عشر يوماً لتركه الاستثناء، فشقَّ ذلك عليه، ثم نزلت هذه الآية، قاله أبو صالح عن ابن عباس. ومعنى الكلام: ولا تقولن لشيء إِني فاعل ذلك غداً، إِلا أن تقول: إِن شاء الله، فحذف القول.
قوله تعالى: وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذا نَسِيتَ قال ابن الأنباري: معناه: واذكر ربَّكَ بعد تقضِّي النسيان، كما تقول: اذكر لعبد الله- إِذا صلّى- حاجتك، أي: بعد انقضاء الصلاة.
وللمفسرين في معنى الآية ثلاثة أقوال «١» : أحدها: أن المعنى: إذا نسيت الاستثناء ثم ذكرت،
عزاه المصنف لأبي صالح عن ابن عباس، ورواية أبي صالح هو الكلبي، وهو ممن يضع الحديث، فالخبر من هذا الوجه ليس بشيء. وذكره الواحدي في «الوسيط» ٣/ ١٤٣ نقلا عن المفسرين. وذكره ابن هشام في «السيرة» ١/ ٢٣٥- ٢٣٨- ٢٤٤ عن ابن إسحاق مطوّلا، وهذا معضل، فهو ضعيف. وأخرجه الطبري ٢٢٨٦١ والبيهقي في «الدلائل» ٢/ ٢٦٩- ٢٧١ كلاهما عن ابن إسحاق حدثني رجل من أهل مكة عن سعيد بن جبير عن ابن عباس، فذكره بنحو ما ذكره ابن هشام، وإسناده ضعيف لجهالة شيخ ابن إسحاق وليس فيه سبب نزول هذه الآية. ولبعضه شواهد، وبعضه الآخر غريب.
وأما سؤال قريش النبيّ صلى الله عليه وسلّم فأخرجه الترمذي ٣١٤٠ وأحمد ١/ ٢٥٥ وابن حبان ٩٩ والحاكم ٢/ ٥٣١ والبيهقي في «الدلائل» ٢/ ٢٦٩ وإسناده صحيح على شرط الشيخين. وصححه الحاكم، ووافقه الذهبي، وقال الترمذي: حسن صحيح غريب اه. عن عكرمة عن ابن عباس قال: قالت قريش ليهود: أعطونا شيئا نسأل هذا الرجل، فقالوا: سلوه عن الروح، قال: فسألوه عن الروح، فأنزل الله: وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا قالوا: أوتينا علما كثيرا التوراة، ومن أوتي التوراة فقد أوتي خيرا كثيرا، فأنزلت قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ إلى آخر الآية. لفظ الترمذي. وليس في الحديث سبب نزول هذه الآية. انظر «أحكام القرآن» ١٤٦٠ و ١٤٦١ بتخريجنا.
__________
(١) قال الحافظ ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» ٣/ ١٠٢ في تفسير هذه الآية: هذا إرشاد من الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلّم إلى الأدب فيما إذا عزم على شيء ليفعله في المستقبل أن يردّ ذلك إلى مشيئة الله عز وجل علّام الغيوب.
وقوله: وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذا نَسِيتَ قيل معناه: إذا نسيت الاستثناء، فاستثن عند ذكرك له، وعن ابن عباس في الرجل يحلف؟ قال: له أن يستثني ولو إلى سنة. ومعنى قول ابن عباس إذا نسي أن يقول في حلفه أو كلامه «إن شاء الله» وذكر ولو بعد سنة، ولو بعد الحنث فالسّنة أن يقول ذلك ليكون آتيا بسنّة الاستثناء. ولا يكون ذلك رافعا لحنث اليمين ومسقطا للكفارة، فأما الكفارة فله لازمة بالحنث بكل حال، إلا أن يكون استثناؤه موصولا بالحلف. قاله ابن جرير وهو الصحيح والأليق بحمل كلام ابن عباس عليه، والله أعلم. اه. [.....]
76
فقل: إِن شاء الله، ولو كان بعد يوم أو شهر أو سنة، قاله سعيد بن جبير، والجمهور. والثاني: أن معنى «إِذا نسيتَ» : إِذا غضبتَ، قاله عكرمة، قال ابن الأنباري: وليس ببعيد، لأن الغضب يُنتج النسيان. والثالث: إِذا نسيتَ الشيء فاذكر الله ليذكِّرك إِياه، حكاه الماوردي.

فصل:


وفائدة الاستثناء أن يخرج الحالف من الكذب إِذا لم يفعل ما حلف عليه، كقوله تعالى في قصة موسى: سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ صابِراً «١»، ولم يصبر، فسَلِم من الكذب لوجود الاستثناء في حقه. ولا تختلف الرواية عن أحمد أنه لا يصح الاستثناء في الطلاق والعتاق، وأنه إِذا قال: أنتِ طالق إِن شاء الله، وأنتَ حُرٌّ إِن شاء الله، أن ذلك يقع، وهو قول مالك وقال أبو حنيفة والشافعي: لا يقع شيء من ذلك. وأما اليمين بالله تعالى، فإن الاستثناء فيها يصح، بخلاف الطلاق، وكذلك الاستثناء في كل ما يكفِّر، كالظهار، والنذر، لأن الطلاق والعتاق لفظه لفظ إِيقاع، وإِذا علَّق به المشيئة، علمنا وجودها، لوجود لفظ الإِيقاع من جهته، بخلاف سائر الأيمان، لأنها ليست بموجبات للحكم، وإِنما تتعلق بأفعال مستقبلة. وقد اختُلف في الوقت الذي يصح فيه الاستثناء على ثلاثة أقوال: أحدها: أنه لا يصح الاستثناء إِلا موصولاً بالكلام، وقد روي عن أحمد نحو هذا، وبه قال أكثر الفقهاء. والثاني: أنه يصح ما دام في المجلس قاله الحسن وطاوس، وعن أحمد نحوه. والثالث: أنه لو استثنى بعد سنة، جاز، قاله ابن عباس، ومجاهد، وسعيد بن جبير، وأبو العالية، وقال ابن جرير الطبري: الصواب للإنسان أن يستثني ولو بعد حنثه في يمينه، فيقول: إِن شاء الله، ليخرج بذلك مما ألزمه اللهُ في هذه الآية، فيسقط عنه الحرج، فأما الكفَّارة فلا تسقط عنه بحال، إِلا أن يكون الاستثناء موصولاً بيمينه، ومن قال: له ثُنْياه ولو بعد سنة، أراد سقوطَ الحرج الذي يلزمه بترك الاستثناء دون الكفَّارة.
قوله تعالى: وَقُلْ عَسى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي قرأ نافع، وأبو عمرو: «يهديَني ربِّي» بياء في الوصل دون الوقف. وقرأ ابن كثير بياء في الحالين. وقرأ ابن عامر، وعاصم، وحمزة، والكسائي بغير ياء في الحالين. وفي معنى الكلام قولان: أحدهما: عسى أن يعطيني ربِّي من الآيات والدلالات على النبوَّه ما يكون أقرب في الرّشد وأدلَّ من قصّة أصحاب الكهف، ففعل الله له ذلك، وآتاه من عِلْم غيوب المرسَلين ما هو أوضح في الحُجَّة وأقرب إِلى الرَّشد من خبر أصحاب الكهف هذا قول الزجاج.
والثاني: أنّ قريشا لمّا سألت رسول الله صلى الله عليه وسلّم أن يخبرهم خبر أصحاب الكهف، قال: «غداً أُخبركم» «٢» كما شرحنا في سبب نزول الآية، فقال الله تعالى له: وَقُلْ عَسى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي أي: عسى أن يعرِّفني جواب مسائلكم قبل الوقت الذي حدَّدتُه لكم، ويعجِّل لي من جهته الرشاد، هذا قول ابن الأنباري.
[سورة الكهف (١٨) : الآيات ٢٥ الى ٢٦]
وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعاً (٢٥) قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ ما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً (٢٦)
قوله تعالى: وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وعاصم وابن عامر: «ثلاثمائةٍ سنين» منوَّناً وقرأ حمزة والكسائي: «ثلاثمائةِ سنين» مضافاً غير منوَّن. قال أبو
(١) سورة الكهف: ٦٩.
(٢) انظر الحديث المتقدم ٩٤٩.
علي: العدد المضاف إِلى الآحاد قد جاء مضافاً إِلى الجميع، قال الشاعر:
ومَا زَوَّدُوني غير سحق عمامة وخمسمئ منها قَسِيٌّ وزائفُ
«١» وفي هذا الكلام قولان «٢» : أحدهما: أنه حكاية عما قال الناس في حقهم، وليس بمقدار لبثهم، قاله ابن عباس، واستدل عليه فقال: لو كانوا لبثوا ذلك لما قال: قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما لَبِثُوا وكذلك قال قتادة، هذا قول أهل الكتاب. والثاني: أنه مقدار ما لبثوا، قاله عبيد بن عمير ومجاهد والضحاك وابن زيد والمعنى: لبثوا هذا القدر من يوم دخلوه إِلى أن بعثهم الله وأطلع الخلق عليهم. قوله تعالى:
سِنِينَ قال الفراء وأبو عبيدة والكسائي والزجاج: التقدير: سنين ثلاثمائة. قال ابن قتيبة: المعنى:
أنها لم تكن شهوراً ولا أيّاما، إنما كانت سنين. وقال أبو علي الفارسي: «سنين» بدل من قوله:
«ثلاثمائة». قال الضحاك: نزلت وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ فقالوا: أياماً أو شهوراً أو سنين؟
فنزلت: «سنين» فلذلك قال: «سنين»، ولم يقل: سنة.
قوله تعالى: وَازْدَادُوا تِسْعاً يعني: تسع سنين، فاستغنى عن ذِكْر السنين بما تقدَّم من ذِكْرها. ثم أعلمَ أنه أعلمُ بقدْر مدة لبثهم من أهل الكتاب المختلفين فيها، فقال: قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما لَبِثُوا قال ابن السائب: قالت نصارى نجران: أما الثلاثمائة، فقد عرفناها، وأما التسع، فلا عِلْم لنا بها «٣»، فنزل قوله تعالى: قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما لَبِثُوا وقيل: إِن أهل الكتاب قالوا: إِن للفتية منذ دخلوا الكهف إِلى يومنا هذا ثلاثمائة وتسع سنين، فردّ عليهم ذلك، وقال: قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما لَبِثُوا بعد أن قبض أرواحهم إِلى يومكم هذا، لا يعلم بذلك غيرُ الله. وقيل: إِنما زاد التسع، لأنه تفاوت ما بين السنين الشمسية والسنين القمرية، حكاه الماوردي.
قوله تعالى: أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ فيه قولان: أحدهما: أنه على مذهب التعجب، فالمعنى: ما أسمع الله وأبصره، أي: هو عالم بقصة أصحاب الكهف وغيرهم، هذا قول الزجاج، وذكر أنه إِجماع العلماء. والثاني: أنه في معنى الأمر، فالمعنى: أَبصِر بدين الله وأسمع، أي: أبصر بهدى الله واسمع، فترجع الهاء إِما على الهدى، وإِما على الله عزّ وجلّ، ذكره ابن الأنباري. قوله تعالى: ما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ أي: ليس لأهل السموات والأرض من دون الله من ناصر، وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً ولا يجوز أن يحكم حاكم بغير ما حكم به، وليس لأحد أن يحكم من ذات نفسه فيكون شريكاً لله عزّ وجلّ في حكمه. وقرأ ابن عامر: «ولا تُشرِكْ» جزماً بالتاء، والمعنى: لا تشرك أيها الإِنسان.
[سورة الكهف (١٨) : الآيات ٢٧ الى ٢٨]
وَاتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتابِ رَبِّكَ لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً (٢٧) وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْناكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا وَاتَّبَعَ هَواهُ وَكانَ أَمْرُهُ فُرُطاً (٢٨)
(١) البيت لمزرّد كما في «اللسان» مادة- مأي- سحق. والسّحق: الثوب الخلق البالي. ودرهم قسيّ: رديء.
(٢) قال الطبري رحمه الله ٨/ ٢١١: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال كما قال الله عز ذكره: ولبث أصحاب الكهف في كهفهم رقودا إلى أن بعثهم الله، ليتساءلوا بينهم وإلى أن أعثر عليهم من أعثر ثلاث مائة سنين وتسع سنين ثم قال الله جل ثناؤه لنبيه صلى الله عليه وسلّم: قل يا محمد: الله أعلم بما لبثوا بعد أن قبض الله أرواحهم، من بعد أن بعثهم من رقدتهم إلى يومهم هذا، لا يعلم بذلك غير الله، وغير من أعلمه الله ذلك. وهو اختيار ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» ٣/ ١٠٣.
(٣) عزاه المصنف لابن السائب، وهو الكلبي، وهو ساقط الرواية.
78
قوله تعالى: وَاتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ في هذه التلاوة قولان: أحدهما: أنها بمعنى القراءة. والثاني:
بمعنى الاتِّباع. فيكون المعنى على الأول: اقرأ القرآن، وعلى الثاني: اتَّبِعْه واعمل به. وقد شرحنا في سورة الأنعام معنى لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ «١». قوله تعالى: وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً قال مجاهد، والفراء: مَلجَأً. وقال الزجاج: مَعْدِلاً عن أمره ونهيه. وقال غيرهم: موضعاً تميل إِليه في الالتجاء.
قوله تعالى: وَاصْبِرْ نَفْسَكَ سبب نزولها:
(٩٣١) أنّ المؤلّفة قلوبهم جاءوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم: عيينة بن حصن، والأقرع بن حابس، وذووهم، فقالوا: يا رسول الله: لو أنك جلست في صدر المجلس، ونحَّيت هؤلاء عنّا، - يعنون سليمان وأبا ذَرٍّ وفقراءَ المسلمين، وكانت عليهم جباب الصوف- جلسنا إِليك، وأخذنا عنك، فنزلت هذه الآية إِلى قوله: إِنَّا أَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ ناراً، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلّم يلتمسهم، حتى إِذا أصابهم في مؤخَّر المسجد يذكرون الله، قال: «الحمد لله الذي لم يُمتني حتى أمرني أن أصبر نفسي مع رجال من أمَّتي، معكم المحيا ومعكم الممات». هذا قول سلمان الفارسي.
ومعنى قوله: وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ أي: احبسها معهم على أداء الصلوات بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ. وقد فسّرنا هذه الآية في سورة الأنعام «٢» إِلى قوله تعالى: وَلا تَعْدُ عَيْناكَ عَنْهُمْ أي: لا تصرف بصرك إِلى غيرهم من ذوي الغنى والشرف وكان عليه السلام حريصاً على إِيمان الرؤساء ليؤمن أتباعهم، ولم يكن مريداً لزينة الدنيا قطُّ، فأُمر أن يجعل إِقباله على فقراء المؤمنين. قوله تعالى: وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا سبب نزولها أن أُمية بن خلف الجمحي، دعا رسول الله صلى الله عليه وسلّم إِلى طرد الفقراء عنه، وتقريبِ صناديد أهل مكة، فنزلت هذه الآية «٣»، رواه الضحاك عن ابن عباس.
وفي رواية أخرى عنه أنه قال: هو عيينة وأشباهه. ومعنى «أغفلنا قلبه» : جعلناه غافلا. وقرأ أبو مجلز:
«ومن أغفلَنا» بفتح اللام، ورفع باء القلب. «عن ذكرنا» : أي عن التّوحيد والقرآن والإسلام، وَاتَّبَعَ هَواهُ
باطل. أخرجه الطبري ٢٣٠٢٢ وأبو نعيم ١/ ٣٤٥ والواحدي وفي «أسباب النزول» ٦٠٠ والبيهقي في «الشعب» ١٠٤٩٤ من حديث سلمان الفارسي وإسناده ضعيف جدا، فيه سليمان بن عطاء، قال البخاري:
منكر الحديث. والمتن باطل، فإن السورة مكية، وإسلام سلمان مدني، وكذا عيينة بن حصن وفد في المدينة.
والمرفوع منه لا بأس به. أخرجه الطبري ٢٣٠٢٠ عن قتادة مرسلا فهو ضعيف وأخرجه البيهقي في «الدلائل» ١/ ٣٥١- ٣٥٢ من حديث أبي سعيد الخدري وإسناده ضعيف، فيه العلاء بن بشير، وهو مجهول، ومع ذلك ليس فيه ذكر سلمان وعيينة ولا نزول الآية. عن أبي سعيد الخدري، قال: كنت في عصابة من المهاجرين جالسا معهم، وإن بعضهم يستتر ببعض من العري، وقارئ لنا يقرأ علينا، فكنا نستمع إلى كتاب الله تعالى، فقال النبي صلى الله عليه وسلّم: «الحمد لله الذي جعل من أمتي من أمرت أن أصبر معهم نفسي» كما في «الدلائل».
__________
(١) سورة الأنعام: ١١٥.
(٢) سورة الأنعام: ٥٢.
(٣) ضعيف جدا. أخرجه الواحدي في «أسباب النزول» ٦٠١ من طريق جويبر بن سعيد عن الضحاك عن ابن عباس، وجويبر متروك، والضحاك لم يلق ابن عباس، فالخبر واه بمرة.
79
في الشّرك. وَكانَ أَمْرُهُ فُرُطاً فيه أربعة أقوال «١» : أحدها: أنها أفرط في قوله، لأنه قال: إِنّا رؤوس مضر، وإِن نُسلِم يُسلم الناس بعدنا، قاله أبو صالح عن ابن عباس. والثاني: ضيَاعاً، قاله مجاهد. وقال أبو عبيدة: سَرَفاً وتضييعاً. والثالث: نَدَماً، حكاه ابن قتيبة عن أبي عبيدة. والرابع: كان أمره التفريط، والتفريط: تقديم العجز، قاله الزّجّاج.
[سورة الكهف (١٨) : آية ٢٩]
وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ ناراً أَحاطَ بِهِمْ سُرادِقُها وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغاثُوا بِماءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرابُ وَساءَتْ مُرْتَفَقاً (٢٩)
قوله تعالى: وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ قال الزجاج: المعنى: وقل الذي أتيتكم به، الحقُّ من ربِّكم.
قوله تعالى: فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ فيه ثلاثة أقوال»
: أحدها: فمن شاء الله فليؤمن، روي عن ابن عباس. والثاني: أنه وعيد وإِنذار، وليس بأمر، قاله الزجاج. والثالث: أن معناه: لا تنفعون الله بإيمانكم، ولا تضرُونه بكفركم، قاله الماوردي. وقال بعضهم: هذا إِظهار للغنى، لا إِطلاق في الكفر.
قوله تعالى: إِنَّا أَعْتَدْنا أي: هيَّأنا وأعددنا، وقد شرحناه في قوله: وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً «٣» فأمّا الظالمون، فقال المفسّرون: هم الكافرون. فأمّا السُّرادِق، فقال الزجاج: السُّرادِق: كلُّ ما أحاط بشيء، نحو الشُّقَّة في المِضْرَب، أو الحائط المشتمل على الشيء. وقال ابن قتيبة: السُّرادِق: الحُجرة التي تكون حول الفسطاط. وقرأت على شيخنا أبي منصور اللغوي، قال: السُّرادق فارسي معرَّب، وأصله بالفارسية سَرَادَارْ، وهو الدِّهليز، قال الفرزدق:
تَمَنَّيْتَهُمْ حتى إِذا ما لَقِيتَهم تَركتَ لهم قبلَ الضِّراب السُّرَادِقا «٤»
وفي المراد بهذا السُّرادق قولان: أحدهما: أنه سُرادق من نار، قاله ابن عباس.
(٩٣٢) روى أبو سعيد الخدري عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم أنه قال: «لِسُرادِق النار أربعةُ جُدُرٍ كُثُفٌ، كلُّ جدار منها مسيرة أربعين سنة». وفي رواية أبي صالح عن ابن عباس، قال: السرادق: لسان من النار، يخرج من النار فيحيط بهم حتى يفرغ من حسابهم.
ضعيف. أخرجه الترمذي ٢٥٨٤ والطبري ٢٣٠٣٧ من طريق ابن المبارك به. وأخرجه الحاكم ٤/ ٦٠٠ و ٦٠١ والطبري ٢٣٠٣٨ من طريق عبد الله بن وهب عن عمرو بن الحارث به، وصححه! وسكت عنه الذهبي! مع أنه من رواية دراج عن أبي الهيثم، لكن قال الذهبي في مواضع كثيرة: دراج ذو مناكير. وأخرجه أحمد ٣/ ٢٩ وأبو يعلى ١٣٨٩ والواحدي في «الوسيط» ٣/ ١٤٦ من طريق الحسن بن موسى عن ابن لهيعة عن درّاج به. فالإسناد ضعيف.
__________
(١) قال الطبري رحمه الله ٨/ ٢١٦: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال: معناه: ضياعا وهلاكا من قولهم: أفرط فلان في هذا الأمر إفراطا، إذا أسرف فيه وتجاوز.
(٢) قال الحافظ ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» ٣/ ١٠٥: يقول الله تعالى لرسوله محمد صلى الله عليه وسلّم هذا الذي جئتكم به من ربكم هو الحق الذي لا مرية فيه ولا شك فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ هذا من باب التهديد والوعيد الشديد، ولهذا قال: إِنَّا أَعْتَدْنا أي: أرصدنا لِلظَّالِمِينَ وهم الكافرون بالله ورسوله وكتابه ناراً أَحاطَ بِهِمْ سُرادِقُها أي: سورها.
(٣) سورة يوسف: ٣١.
(٤) كما في «ديوانه» ٢/ ٥٨٦ و «المعرّب» : ٢٠٠.
والثاني: أنه دخان يحيط بالكفار يوم القيامة، وهو الظِّل ذو ثلاث شعب الذي ذكره الله تعالى في المرسلات «١»، قاله ابن قتيبة.
قوله تعالى: وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا أي: مما هم فيه من العذاب وشدة العطش يُغاثُوا بِماءٍ كَالْمُهْلِ وفيه سبعة أقوال: أحدها: أنه ماءٌ غليظٌ كدُرْدِيِّ الزيت، رواه العوفي عن ابن عباس. والثاني: أنه كل شيء أذيب حتى انماع، قاله ابن مسعود، وقال أبو عبيدة، والزجّاج: كل شيء أذبته من نحاس أو رصاص أو نحو ذلك، فهو مُهل. والثالث: قيح ودم أسود كعكر الزيت، قاله مجاهد. والرابع: أنه الفضة والرصاص يذابان، روي عن مجاهد أيضاً. والخامس: أنه الذي قد انتهى حَرُّه، قاله سعيد بن جبير. والسادس: أنه الصَّديد، ذكره ابن الأنباري. قال مُغيث بن سُمي: هذا الماء هو ما يسيل من عَرَق أهل الموقف في الآخرة وبكائهم، وما يجري منهم من دم وقيح، يسيل ذلك إِلى وادٍ في جهنم، فتطبخه جهنم، فيكون أول ما يُغاث به أهل النار. والسابع: أنّه الرّماد الذي ينفذ عن الخُبزة إِذا خرجت من التَّنُّور، حكاه ابن الأنباري.
قوله تعالى: يَشْوِي الْوُجُوهَ قال المفسرون: إِذا قرَّبه إِليه سقطت فروة وجهه فيه «٢». ثم ذمَّه، فقال بئس الشراب وساءت النار مُرْتَفَقاً وفيه خمسة أقوال: أحدها: منزلاً، قاله ابن عباس. والثاني:
مجتمعاً، قاله مجاهد. والثالث: متَّكأً، قاله أبو عبيدة، وأنشد لأبي ذؤيب:
إِني أرِقْت فبِتُّ اللَّيْلَ مُرْتَفِقاً كأنَّ عَيْنِيَ فِيها الصَّابُ مَذْبُوحُ
«٣» وذبحه: انفجاره قال الزّجّاج: «مرتفقا» منصوب على التّمييز. أي متَّكأً على المِرفق.
والرابع: ساءت مجلساً قاله ابن قتيبة. والخامس: ساءت مطلباً للرفق، لأن من طلب رِفقاً من جهتها، عَدِمه، ذكره ابن الأنباري. ومعاني هذه الأقوال تتقارب. وأصل المرفق في اللغة: ما يرتفق به.
[سورة الكهف (١٨) : الآيات ٣٠ الى ٣١]
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً (٣٠) أُولئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِياباً خُضْراً مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَّكِئِينَ فِيها عَلَى الْأَرائِكِ نِعْمَ الثَّوابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقاً (٣١)
قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ «٤» قال الزّجّاج: خبر «إن» ها هنا على ثلاثة
(١) سورة المرسلات: ٣٠.
(٢) حديث ضعيف، وورد مرفوعا من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلّم قال: بِماءٍ كَالْمُهْلِ قال: «كعكر الزيت فإذا قرب إليه سقطت فروة وجهه فيه». أخرجه الترمذي ٢٥٨١ و ٣٣٢٢ والطبري ٢٣٠٣٩ والحاكم ٢/ ٥٠١ وابن حبان ٧٤٧٣ والبيهقي في «البعث» ٥٥٠ من طرق عن أبي سعيد الخدري. وصححه الحاكم، ووافقه الذهبي! مع أن مداره على دراج، وهو ضعيف الحديث، وأخرجه أحمد ٣/ ٧٠- ٧١ وأبو يعلى ٣٧٥ والواحدي ٣/ ١٤٦ من طريق الحسن بن موسى عن ابن لهيعة عن دراج به. [.....]
(٣) البيت في ديوان «الهذليين» ١/ ١٠٤ و «اللسان» - صوب-.
والصّاب: عصارة شجر مرّ، إذا وقعت قطرة في العين كأنها شهاب نار، وربما أضعف البصر.
(٤) قال الحافظ ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» ٣/ ١٠٦: لما ذكر الله تعالى حال الأشقياء ثنّى بذكر السعداء الذين آمنوا بالله وصدّقوا المرسلين فيما جاءوا به، وعملوا بما أمروهم به من الأعمال الصالحة فلهم جَنَّاتُ عَدْنٍ، والعدن: الإقامة. ونعمت الجنّة ثوابا على أعمالهم.
أوجه: أحدها: أن يكون على إِضمار: إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا منهم، ولم يحتج إِلى ذكر «منهم» لأن الله تعالى قد أعلَمنا أنه محبطٌ عملَ غير المؤمنين. والثاني: أن يكون خبر «إِن» : أُولئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ، ويكون قوله: إِنَّا لا نُضِيعُ قد فصل به بين الاسم وخبره، لأنه يحتوي على معنى الكلام الأول، لأن من أحسن عملاً بمنزلة الذين آمنوا. والثالث: أن يكون الخبر: إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا، بمعنى: إِنّا لا نُضيع أجرهم.
قال المفسرون: ومعنى لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا أي: لا نترك أعماله تذهب ضَياعاً، بل نُجازيه عليها بالثواب. فأما الأَساور، فقال الفراء: في الواحد منها ثلاث لغات: إِسوار، وسِوار، وسُوار فمن قال: إِسوار، جمعَه أساور، ومن قال: سِوار أو سُوار، جمعَه أسْوِرة، وقد يجوز أن يكون واحد أَساورة وأَساور: سِوار وقال الزجاج: الأَساور جمع أَسْوِرَة، وأَسْوِرَة جمع سِوَار، يقال:
سوار اليد، بالكسرة، وقد حكي: سُوار. قال المفسرون: لما كانت الملوك تلبَس في الدنيا الأساور في اليد والتّيجان على الرّؤوس، جعل الله تعالى ذلك لأهل الجنة. قال سعيد بن جبير: يُحلَّى كلُّ واحد منهم بثلاثة من الأساور، واحدٍ من فضة، وواحدٍ من ذهب، وواحدٍ من لؤلؤ ويواقيت. فأما «السُّنْدُسُ» و «الإِستبرق»، فقال ابن قتيبة: السُّندس: رقيق الديباج، والإِستبرق ثخينه. وقرأت على شيخنا أبي منصور اللغوي، قال: السندس: رقيق الديباج، لم يختلف أهل اللغة في أنه معرَّب، قال الراجز:
وليلة من الليالي جندس لون حواشيها كلون السندس
والاستبرق: غليظ الديباج، فارسي معرَّب، وأصله إِسْتفْرَهْ. وقال ابن دريد: استروه، ونقل من العجميّة إلى العربية، فلو حُقِّر «إِستبرق»، أو كُسِّر، لكان في التحقير «أُبَيْرِق»، وفي التكسير «أبارق» بحذف السين، والتاء جميعاً. قوله تعالى: مُتَّكِئِينَ فِيها الاتّكاء: التحامل على الشيء. قال أبو عبيدة:
والأرائك: الفُرُش في الحِجَال، ولا تكون الأريكة إِلا بحَجَلة وسرير. وقال ابن قتيبة: الأرائك: السُّرُر في الحِجال، واحدها: أريكة. وقال ثعلب: لا تكون الأريكة إِلا سريراً في قُبَّة عليه شَواره ومتاعه قال ابن قتيبة: الشَّوار، مفتوح الشين، وهو متاع البيت. وقال الزجاج: الأرائك: الفُرُش في الحِجال. قال:
وقيل: إِنها الفُرُش، وقيل إنها الأسِرَّة، وهي على الحقيقة: الفُرُش كانت في حجال لهم.
[سورة الكهف (١٨) : الآيات ٣٢ الى ٣٦]
وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً رَجُلَيْنِ جَعَلْنا لِأَحَدِهِما جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنابٍ وَحَفَفْناهُما بِنَخْلٍ وَجَعَلْنا بَيْنَهُما زَرْعاً (٣٢) كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَها وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئاً وَفَجَّرْنا خِلالَهُما نَهَراً (٣٣) وَكانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقالَ لِصاحِبِهِ وَهُوَ يُحاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مالاً وَأَعَزُّ نَفَراً (٣٤) وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ قالَ ما أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هذِهِ أَبَداً (٣٥) وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْها مُنْقَلَباً (٣٦)
قوله تعالى: وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ روى عطاء عن ابن عباس، قال: هما ابنا ملك كان في بني إِسرائيل توفِّي وتركهما، فاتخذ أحدهما الجِنان والقصور، وكان الآخر زاهداً في الدنيا، فكان إِذا عمل أخوه شيئاً من زينة الدنيا، أخذ مثل ذلك فقدَّمه لآخرته، حتى نفد ماله، فضربهما الله عزّ وجلّ مثلا
82
للمؤمن والكافر الذي أبطرته النعمة. وروى أبو صالح عن ابن عباس: أن المسلم لما احتاج، تعرَّض لأخيه الكافر، فقال الكافر: أين ما ورثتَ عن أبيك؟ فقال: أنفقتُه في سبيل الله، فقال الكافر: لكنّي ابتعت منه جِناناً وغنماً، وبقراً، والله لا أعطيتك شيئاً أبداً حتى تتبع ديني، ثم أخذ بيد المسلِم فأدخله جِنانه يطوف به فيها، ويرغِّبه في دينه. وقال مقاتل: اسم المؤمن يمليخا، واسم الكافر فرطس، وقيل:
فطرس، وقيل: هذا المَثَل ضُرِبَ لعيينة بن حصن وأصحابه، ولسلمان وأصحابه «١». قوله تعالى:
وَحَفَفْناهُما بِنَخْلٍ الحفّ: الإحاطة بالشيء، ومنه قوله تعالى: حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ «٢» والمعنى:
جعلنا النّخل مطيفا. وقوله تعالى: وَجَعَلْنا بَيْنَهُما زَرْعاً إِعلام أن عمارتهما كاملة.
قوله تعالى: كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَها قال الفرّاء: لم يقل تعالى: آتتا، لأن «كلتا» ثنتان لا تُفرد واحدتُهما، وأصله: «كُلٌّ»، كما تقول للثلاثة: «كُلٌّ»، فكان القضاء أن يكون للثنتين ما كان للجمع، وجاز توحيده على مذهب «كُلّ»، وتأنيثه جائز للتأنيث الذي ظهر في «كلتا»، وكذلك فافعل ب «كلا» و «كلتا» و «كُلّ»، إِذا أضفتَهُنَّ إِلى مَعْرِفة وجاء الفعل بعدهن فوحِّد واجمع، فمن التوحيد قوله تعالى:
وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَرْداً «٣»، ومن الجمع: وَكُلٌّ أَتَوْهُ داخِرِينَ «٤»، والعرب قد تفعل ذلك أيضاً في «أي» فيؤنّثون ويذكِّرون، قال الله تعالى: وَما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ «٥»، ويجوز في الكلام «بأية أرض»، وكذلك فِي أَيِّ صُورَةٍ ما شاءَ رَكَّبَكَ «٦»، ويجوز في الكلام «في أيّة»، قال الشاعر:
بأي بلاءٍ أم بأيَّة نعمةٍ تقدَّم قبلي مسلمٌ والمهلَّب
قال ابن الأنباري: «كلتا» وإِن كان واقعاً في المعنى على اثنتين، فإن لفظه لفظ واحدة مؤنثة، فغلب اللفظ، ولم يستعمل المعنى ثقةً بمعرفة المخاطَب به ومن العرب من يؤثر المعنى على اللفظ، فيقول: «كلتا الجنتين آتتا أُكُلَها»، ويقول آخرون: «كلتا الجنتين آتى أُكُلَه»، لأن «كلتا» تفيد معنى «كُلّ»، قال الشاعر:
وكلتاهما قد خطَّ لي في صَحيفتي فلا الموت أهواه ولا العيش أروح
يعني: وكلُّهما قد خط لي، وقد قالت العرب: كلكم ذاهب، وكلكم ذاهبون. فوحَّدوا لِلَفظ «كُلّ» وجمعوا لتأويلها. وقال الزّجّاج: إنّما لم يقل: «آتتا»، لأن لفظ «كلتا» لفظ واحدة، والمعنى: كل واحدة منهما آتت أكلها وَلَمْ تَظْلِمْ أي: لم تنقص مِنْهُ شَيْئاً وَفَجَّرْنا خِلالَهُما نَهَراً فأعلمَنَا أن شربهما كان من ماء نهر، وهو من أغزر الشرب. وقال الفراء: إِنما قال: «فجَّرنا» بالتشديد، وهو نَهَر واحد، لأن النهر يمتد، فكان التفجُّر فيه كلِّه. قرأ أبو رزين، وأبو مجلز، وأبو العالية، وابن يعمر، وابن أبي عبلة: «وفَجَرْنا» بالتخفيف. وقرأ أبو مجلز، وأبو المتوكل: «خلِلهما». وقرأ أبو العالية، وأبو عمران:
«نهْراً» بسكون الهاء.
قوله تعالى: وَكانَ لَهُ يعني: للأخ الكافر (ثَمَر) قرأ ابن كثير، ونافع، وابن عامر، وحمزة، والكسائي: «وكان له ثُمُر»، «وأُحيط بثُمُره» بضمتين. وقرأ عاصم: «وكان له ثمر»، «وأحيط بثمره»
(١) تقدّم أنه لا يصح في عيينة ولا سلمان، فإن السورة مكية.
(٢) سورة الزمر: ٧٥.
(٣) سورة مريم: ٩٥.
(٤) سورة النمل: ٨٧.
(٥) سورة لقمان: ٣٤.
(٦) سورة الانفطار: ٨.
83
بفتح التاء والميم فيهما. وقرأ أبو عمرو: «ثُمْر» و «بثُمْره» بضمة واحدة وسكون الميم. قال الفراء:
الثَّمَر، بفتح الثاء والميم: المأكول، وبضمها: المال وقال ابن الأنباري: الثَّمر، بالفتح: الجمع الأول، والثُّمُر، بالضم: جمع الثَّمَر، يقال: ثَمَر، وثُمُر، كما يقال: أسَد، وأُسُد، ويصلح أن يكون الثُّمُر جمع الثِّمار، كما يقال: حِمار وحُمُر، وكِتاب وكُتُب، فمن ضَمَّ، قال: الثُّمُر أعم، لأنها تحتمل الثمار المأكولة، والأموال المجموعة. قال أبو علي الفارسي: وقراءة أبي عمرو: «ثُمُر» يجوز أن تكون جمع ثمار، ككتاب، وكُتُب، فتخفف، فيقال: كُتْب، ويجوز أن يكون «ثُمْر» جمع ثَمَرة، كبَدَنة وبُدْن، وخَشَبة، وخُشْب. ويجوز أن يكون (ثُمُر) واحداً، كعُنُق، وطُنُب. وقد ذكر المفسرون في قراءة من ضم ثلاثة أقوال: أحدها: أنه المال الكثير من صنوف الأموال، قاله ابن عباس. والثاني: أنه الذهب، والفضة، قاله مجاهد. والثالث: أنه جمع ثمرة، قال الزجاج: يقال: ثَمَرة، وثِمار، وثمر. فإن قيل: ما الفائدة في ذِكْر الثّمر بعد ذِكْر الجنَّتين، وقد عُلم أن صاحب الجنة لا يخلو من ثمر؟ فعنه ثلاثة أجوبة:
أحدها: أنه لم يكن أصل الأرض ملكاً له، وإِنما كانت له الثمار، قاله ابن عباس. والثاني: أن ذِكْر الثّمر دليل على كثرة ما يملك من الثمار في الجنّتين وغيرهما، ذكره ابن الأنباري. والثالث: قد ذكرنا أن المراد بالثمر الأموال من الأنواع وذكرنا أنها الذهب، والفضّة، وذلك يخالف الثمر المأكول قال أبو علي الفارسي: من قال: هو الذهب، والوَرِق، فإنما قيل لذلك: ثُمُر على التفاؤل، لأن الثمر نماء في ذي الثّمر، وكونه ها هنا بالجنى أشبه بالذّهب والفضة. ويقوي ذلك: وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلى ما أَنْفَقَ فِيها والإِنفاق من الوَرِق، لا من الشجر.
قوله تعالى: فَقالَ يعني الكافر لِصاحِبِهِ المؤمن وَهُوَ يُحاوِرُهُ أي: يراجعه الكلام ويجاوبه. وفيما تحاورا فيه قولان: أحدهما: أنه الإِيمان والكفر. والثاني: طلب الدنيا، وطلب الآخرة. فأما «النفر» فهم الجماعة، ومثلهم: القوم والرهط ولا واحد لهذه الألفاظ من لفظها. وقال ابن فارس اللغوي: النفر: عدة رجال من ثلاثة إِلى العشرة.
وفيمن أراد بنَفَره ثلاثة أقوال: أحدها: عبيده، قاله ابن عباس. والثاني: ولده، قاله مقاتل.
والثالث: عشيرته ورهطه، قاله أبو سليمان.
قوله تعالى: وَدَخَلَ جَنَّتَهُ يعني: الكافر وَهُوَ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ بالكفر وكان قد أخذ بيد أخيه فأدخله معه: قالَ ما أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هذِهِ أَبَداً أنكر فتاء الدنيا، وفَناء جنته، وأنكر البعث والجزاء بقوله تعالى: وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً وهذا شك منه في البعث، ثم قال: وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلى رَبِّي أي: كما تزعُم أنت. قال ابن عباس: يقول إِن كان البعث حقاً لَأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْها قرأ أبو عمرو، وعاصم، وحمزة، والكسائي: «خيراً منها»، وكذلك هي في مصاحف أهل البصرة والكوفة. وقرأ ابن كثير، ونافع، وابن عامر: «خيراً منهما» بزيادة ميم على التّثنية، وكذلك هي في مصاحب أهل مكة والمدينة والشام. قال أبو علي: الإِفراد أولى، لأنه أقرب إِلى الجَنَّة المفردة في قوله: وَدَخَلَ جَنَّتَهُ، والتثنية لا تمتنع، لتقدم ذِكْر الجَنَّتين.
قوله تعالى: مُنْقَلَباً أي: كما أعطاني هذا في الدنيا، سيعطيني في الآخرة أفضل منه.
[سورة الكهف (١٨) : الآيات ٣٧ الى ٤١]
قالَ لَهُ صاحِبُهُ وَهُوَ يُحاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً (٣٧) لكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَداً (٣٨) وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ ما شاءَ اللَّهُ لا قُوَّةَ إِلاَّ بِاللَّهِ إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مالاً وَوَلَداً (٣٩) فَعَسى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْراً مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْها حُسْباناً مِنَ السَّماءِ فَتُصْبِحَ صَعِيداً زَلَقاً (٤٠) أَوْ يُصْبِحَ ماؤُها غَوْراً فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَباً (٤١)
84
قوله تعالى: قالَ لَهُ صاحِبُهُ يعني: المؤمن وَهُوَ يُحاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرابٍ يعني:
خلق أباك آدم ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ يعني: ما أنشئ هو منه، فلما شَكَّ في البعث كان كافراً.
قوله تعالى: لكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي قرأ ابن كثير وأبو عمرو وعاصم وحمزة والكسائي، وقالون عن نافع: لكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي، باسقاط الألف في الوصل، وإِثباتها في الوقف. وقرأ نافع في رواية المُسَيّبي بإثبات الألف وصلاً ووقفاً. وأثبت الألف ابن عامر في الحالين. وقرأ أبو رجاء: «لكنْ» بإسكان النون خفيفة من غير ألف في الحالين. وقرأ ابن يعمر «لكنَّ» بتشديد النون من غير ألف في الحالين. وقرأ الحسن: «لكنْ أنا هو اللهُ ربِّي» باسكان نون «لكنْ» وإِثبات «أنا». قال الفراء: فيها ثلاث لغات: لكنّا، ولكنّ، ولكنَّه بالهاء، أنشدني أبو ثروان:
وترْمينني بالطَّرْف أي أنت مذنب وتَقْلِيَننِي لكنّ إِيّاكِ لاَ أَقْلِي
وقال أبو عبيدة: مجازه: لكن أنا هو الله ربي، ثم حُذفت الألف الأولى، وأُدغمت إِحدى النونين في الأخرى فشدِّدت. قال الزجاج: وهذه الألفُ تُحذف في الوصل، وتُثبت في الوقف، فأما من أثبتها في الوصل كما تثبت في الوقف، فهو على لغة من يقول: أنا قمتُ، فأثبت الألف، قال الشاعر:
أنا سَيْفُ العشيرة فاعرفوني «١» وهذه القراءة جيدة، لأن الهمزة قد حذفت من «أنا»، فصار إِثبات الألف عوضاً من الهمزة.
قوله تعالى: وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ أي: وهلاّ ومعنى الكلام التوبيخ. قال الفراء: ما شاءَ اللَّهُ في موضع رفع، إِن شئت رفعته بإضمار هو، يريد: هو ما شاء الله وإن شئتَ أضمرتَ فيه: ما شاء الله كان وجاز طرح جواب الجزاء، كما جاز في قوله: فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الْأَرْضِ «٢» ليس له جواب، لأنه معروف، قال الزجاج: وقوله: لا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ الاختيار النصب بغير تنوين على النفي، كقوله: لا رَيْبَ فِيها «٣» ويجوز: «لا قوة إِلا بالله» على الرفع بالابتداء، والخبر «بالله» المعنى: لا يقوى أحد في بدنه ولا في ملك يده إِلا الله تعالى، ولا يكون له إِلا ما شاء الله.
قوله تعالى: إِنْ تَرَنِ قرأ ابن كثير: «إِن ترني أنا» و «يؤتيني خيراً» بياء في الوصل والوقف.
وقرأ نافع، وأبو عمرو بياء في الوصل. وقرأ ابن عامر، وعاصم، وحمزة بحذف الياء فيهما وصلاً ووقفاً. أَنَا أَقَلَّ وقرأ ابن أبي عبلة: «أنا أقلّ» برفع اللام. قال الفرّاء: «أنا» ها هنا عماد إِن نصبتَ «أقلَّ»، واسم إِذا رفعت «أقلُّ»، والقراءة بهما جائز.
قوله تعالى: فَعَسى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْراً مِنْ جَنَّتِكَ أي: في الآخرة، وَيُرْسِلَ عَلَيْها حُسْباناً وفيه
(١) هو صدر بيت وعجزه: «حميدا قد تذرّيت السّناما». كما في القرطبي ١٠/ ٣٥١ والطبري ٨/ ٢٢٥.
(٢) سورة الأنعام: ١٣٥.
(٣) سورة الكهف: ٢١.
85
أربعة أقوال: أحدها: أنه العذاب، رواه العوفي عن ابن عباس، وبه قال قتادة، والضحاك، وقال أبو صالح عن ابن عباس: ناراً من السماء. والثاني: قضاءً من الله يقضيه، قاله ابن زيد. والثالث: مراميَ من السماء، واحدها: حسبانة، قاله أبو عبيدة، وابن قتيبة. قال النّضر بن شُمَيل: الحُسبان: سهام يرمي بها الرجل في جوف قصبة تُنزع في القوس، ثم يرمي بعشرين منها دفعة، فعلى هذا القول يكون المعنى: ويرسل عليها مراميَ من عذابه، إِما حجارة أو بَرَداً أو غيرهما مما يشاء من أنواع العذاب.
والرابع: أن الحسبان: الحساب، كقوله: الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبانٍ «١» أي: بحساب، فيكون المعنى:
ويرسل عليها عذابَ حسابِ ما كسبت يداه، هذا قول الزجاج.
قوله تعالى: فَتُصْبِحَ صَعِيداً زَلَقاً (٤٠) أَوْ يُصْبِحَ ماؤُها غَوْراً قال ابن قتيبة: الصعيد: الأملس المستوي، والزَّلَق: الذي تَزِلُّ عنه الأقدام، والغَور: الغائر، فجعل المصدر صفة، يقال: ماءٌ غَوْر، ومياه غَوْرٌ، ولا يثنَّى، ولا يجمع، ولا يؤنَّث، كما يقال: رجلٌ نَوْمٌ، ورجلٌ صَوْمٌ، ورجلٌ فِطْر، ورجالٌ نَوْمُ، ونساءٌ نَوْمٌ، ونساءٌ صَوْمٌ. ويقال للنساء إِذا نُحْنَ: نَوْح، والمعنى: يذهب ماؤها غائراً في الأرض، أي: ذاهبا فيها. فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَباً فلا يبقى له أثر تطلبه به، ولا تناله الأيدي ولا الأَرْشية. وقال ابن الأنباري: «غَوْراً» إِذا غوَّر، فسقط المضاف، وخلفه المضاف إليه، والمراد بالطّلب ها هنا: الوصول، فقام الطلب مقامه لأنه سببه. وقرأ أبو المتوكّل وأبو الجوزاء: «غُؤُورَاً» برفع الغين والواو الأولى جميعاً وواو بعدها.
[سورة الكهف (١٨) : الآيات ٤٢ الى ٤٤]
وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلى ما أَنْفَقَ فِيها وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها وَيَقُولُ يا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً (٤٢) وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَما كانَ مُنْتَصِراً (٤٣) هُنالِكَ الْوَلايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَواباً وَخَيْرٌ عُقْباً (٤٤)
قوله تعالى: وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ أي: أحاط اللهُ العذابَ بثمره، وقد سبق معنى الثمر. فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ أي: يضرب بيد على يد، وهذا فعل النادم، عَلى ما أَنْفَقَ فِيها أي: في جنّته، و «في» ها هنا بمعنى «على». وَهِيَ خاوِيَةٌ أي: خالية ساقطة عَلى عُرُوشِها والعُروش: السقوف والمعنى: أن حيطانها قائمة والسقوف قد تهدَّمت فصارت في قرارها، فصارت الحيطان كأنها على السقوف. وَيَقُولُ يا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً فأخبر الله تعالى أنه لما سلبه ما أنعم به عليه، وحقق ما أنذره به أخوه في الدنيا، ندم على شِركه حين لا تنفعة الندامة. وقيل: إِنما يقول هذا في القيامة. وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وعاصم: «ولم تكن» بالتاء. وقرأ حمزة، والكسائي، وخلف: «ولم يكن» بالياء. والفئة: الجماعة يَنْصُرُونَهُ أي: يمنعونه من عذاب الله.
قوله تعالى: هُنالِكَ الْوَلايَةُ قرأ ابن كثير، ونافع، وابن عامر، وعاصم: «الوَلاية» بفتح الواو، و «لله الحقِّ» بكسر القاف أيضاً. وقرأ حمزة «الولاية» بكسر الواو، و «الحقِّ» بكسر القاف أيضاً. وقرأ أبو عمرو بفتح واو الولاية، ورفع «الحقُّ»، ووافقه الكسائيُّ في رفع القاف، لكنه كسر «الوِلاية»، قال الزجاج: معنى الولاية في مثل تلك الحال: تبيين نصرة وليِّ الله. وقال غيره: هذا الكلام عائد إِلى ما
(١) سورة الرحمن: ٥.
قبل قصة الرجلين. فأما من فتح واو «الوَلاية» فإنه أراد الموالاة والنصرة، ومن كسر، أراد السلطان والملك على ما شرحنا في آخر الأنفال «١». فعلى قراءة الفتح، في معنى الكلام قولان: أحدهما: أنهم يتوَلَّون الله تعالى في القيامة، ويؤمنون به، ويتبرَّؤون مما كانوا يعبدون، قاله ابن قتيبة. والثاني: هنالك يتولَّى اللهُ أمرَ الخلائق، فينصر المؤمنين ويخذل الكافرين. وعلى قراءة الكسر، يكون المعنى: هنالك السُّلطان لله. قال أبو علي: من كسر قاف «الحقِّ»، جعله من وصف الله عزَّ وجلَّ، ومن رفعه جعله صفة للولاية. فإن قيل: لم نُعتت الولاية وهي مؤنثة بالحقِّ وهو مصدر؟ فعنه جوابان ذكرهما ابن الأنباري: أحدهما: أن تأنيثها ليس حقيقياً، فحُملت على معنى النصر والتقدير: هنالك النصر لله الحقُّ، كما حُملت الصيحة على معنى الصياح في قوله: وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ «٢». والثاني: أن الحقَّ مصدر يستوي في لفظه المذكَّر والمؤنث والاثنان والجمع، فيقال: قولك حق، وكلمتك حق، وأقوالكم حق. ويجوز ارتفاع الحق على المدح للولاية، وعلى المدح لله تعالى بإضمار «هو».
قوله تعالى: هُوَ خَيْرٌ ثَواباً أي: هو أفضل ثواباً ممن يُرجى ثوابه، وهذا على تقدير أنه لو كان غيره يثيب لكان ثوابه أفضل. قوله تعالى: وَخَيْرٌ عُقْباً قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر والكسائي: «عُقُباً» مضمومة القاف. وقرأ عاصم وحمزة: «عُقْباً» ساكنة القاف. قال أبو علي: ما كان على «فُعُل» جاز تخفيفه، كالعُنُق والطُّنُب. قال أبو عبيدة: العُقُب والعُقْب والعُقْبى والعاقبة، بمعنى:
وهي الآخرة، والمعنى عاقبة طاعة الله خير من عاقبة طاعة غيره.
[سورة الكهف (١٨) : آية ٤٥]
وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّياحُ وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِراً (٤٥)
قوله تعالى: وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَياةِ الدُّنْيا أي: في سرعة نفادها وذهابها، وقيل: في تصرُّف أحوالها، إِذ مع كلِّ فرحة تَرْحة، وهذا مفسر في سورة يونس «٣» إِلى قوله: فَأَصْبَحَ هَشِيماً. قال الفراء: الهشيم: كل شيء كان رطباً فيبس. وقال الزجاج: الهشيم: النبات الجافّ. وقال ابن قتيبة:
الهشيم من النبت: المتفتِّت، وأصله من هشمتُ الشيء: إِذا كسرتَه، ومنه سمّي الرجل هاشما.
وتَذْرُوهُ الرِّياحُ تنسفه. وقرأ أُبيّ وابن عباس وابن أبي عبلة: «تُذْرِيْهِ» برفع التاء وكسر الراء بعدها ياء ساكنة وهاء مكسورة. وقرأ ابن مسعود كذلك، إِلا أنه فتح التاء. والمقْتَدِر: مُفْتَعِل، من قَدَرْتُ. قال المفسرون: وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ من الإِنشاء والإِفناء مُقْتَدِراً.
[سورة الكهف (١٨) : آية ٤٦]
الْمالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً وَخَيْرٌ أَمَلاً (٤٦)
قوله تعالى: الْمالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَياةِ الدُّنْيا هذا ردٌّ على المشركين الذين كانوا يفتخرون بالأموال والأولاد، فأخبر الله تعالى أن ذلك مما يُتزيَّن به في الدنيا، لا مما ينفع في الآخرة. قوله تعالى: وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ فيها خمسة أقوال «٤» : أحدها: أنها «سبحان الله، والحمد لله، ولا إِله إِلا
(١) سورة الأنفال: ٧٢.
(٢) سورة هود: ٦٧. [.....]
(٣) سورة يونس: ٢٤.
(٤) قال الطبري رحمه الله ٨/ ٢٣٢: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب كالذي روي عن ابن أبي طلحة عن ابن عباس قال: هن جميع أعمال الخير.
الله، والله أكبر».
(٩٣٣) روى أبو هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم أنه قال: «إِن عجزتم عن الليل، أن تكابدوه، وعن العدوِّ أن تجاهدوه، فلا تعجِزوا عن قول: «سبحان الله، والحمد لله، ولا إِله إِلا الله، والله أكبر، فقولوها، فإنَّهن الباقيات الصالحات»، وهذا قول ابن عباس في رواية عطاء، وبه قال مجاهد، وعطاء، وعكرمة، والضّحّاك. وسئل عثمان بن عفّان عن الباقيات الصالحات، فقال هذه الكلمات، وزاد فيها:
«ولا حول ولا قوَّة إِلا بالله». وقال سعيد بن المسيب، ومحمد بن كعب القرظي مثله سواء.
(٩٣٤) والثاني: أنها «لا إِله إِلا الله، والله أكبر، والحمد لله ولا قوة إِلا بالله» رواه علي بن أبي طالب عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم.
والثالث: الصلوات الخمس، رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس، وبه قال ابن مسعود، ومسروق، وإبراهيم. والرابع: الكلام الطيِّب، رواه العوفي عن ابن عباس. والخامس: هي جميع أعمال الحسنات، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس، وبه قال قتادة، وابن زيد.
قوله تعالى: خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً أي: أفضل جزاءً وَخَيْرٌ أَمَلًا أي: خير مما تؤمِّلون، لأن آمالكم كواذب، وهذا أمل لا يكذب.
[سورة الكهف (١٨) : الآيات ٤٧ الى ٥١]
وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بارِزَةً وَحَشَرْناهُمْ فَلَمْ نُغادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً (٤٧) وَعُرِضُوا عَلى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونا كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِداً (٤٨) وَوُضِعَ الْكِتابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يا وَيْلَتَنا مالِ هذَا الْكِتابِ لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصاها وَوَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً (٤٩) وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ كانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً (٥٠) ما أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَما كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً (٥١)
قوله تعالى: وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبالَ قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وابن عامر: «ويوم تُسَيَّر» بالتاء «الجبالُ» رفعاً. وقرأ نافع، وعاصم، وحمزة، والكسائي: «نُسَيِّرُ» بالنون «الجبالَ» نصباً. وقرأ ابن محيصن: «ويوم تَسِيْرُ» بفتح التاء وكسر السين وتسكين الياء «الجبالُ» بالرفع. قال الزجاج: «ويوم» منصوب على معنى اذكر، ويجوز أن يكون منصوباً على: والباقيات الصالحات خير يومَ تَسِيرُ الجبال.
قال ابن عباس: تُسيَّر الجبال عن وجه الأرض، كما يُسيَّر السحاب في الدنيا، ثم تكسّر فتكون في
حسن. أخرجه النسائي في «اليوم والليلة» ٨٥٤ والطبري ٣١٠٠ والحاكم ١/ ٥٤١ والطبراني في «الصغير» ١/ ١٤٥ وفيه محمد بن عجلان، وهو وإن روى له مسلم، فقد اختلطت عليه أحاديث أبي هريرة.
وحسّنه الشيخ شعيب في «الإحسان» ٨٤٠ وذكره الألباني في «صحيح الجامع» ٣٢١٤ وصححه الحاكم، ووافقه الذهبي، وحسبه أن يكون حسنا. وانظر «تفسير الشوكاني» ١٥٠٦ و «أحكام القرآن» ١٤٦٩ بتخريجنا.
أخرجه ابن مردويه كما في «الدر» ٤/ ٤٠٩ من حديث علي، ولم أقف على إسناده، لكن للحديث شواهد كثيرة، وهي وإن كانت ضعيفة لكن تتأيد بمجموعها، انظر المصادر المتقدمة.
88
الأرض كما خرجت منها. قوله تعالى: وَتَرَى الْأَرْضَ بارِزَةً وقرأ عمرو بن العاص، وابن السّميفع، وأبو العالية: «وترى الأرض» برفع التاء والضاد. وقرأ أبو رجاء العطاردي كذلك، إِلا أنه فتح ضاد «الأرضَ». وفي معنى «بارزة» قولان: أحدهما: ظاهرة فليس عليها شيء من جبل أو شجر أو بناءٍ، قاله الأكثرون. والثاني: بارزاً أهلها من بطنها، قاله الفراء.
قوله تعالى: وَحَشَرْناهُمْ يعني المؤمنين والكافرين فَلَمْ نُغادِرْ قال ابن قتيبة: أي: فلم نُخَلِّف، يقال: غادرتُ كذا: إِذا خلّفته، ومنه سمي الغَدِير، لأنه ماءٌ تُخَلِّفُه السيول. وروى أبان: «فلم تغادر» بالتاء. قوله تعالى: عُرِضُوا عَلى رَبِّكَ صَفًّا
إِن قيل: هذا أمر مستقبل، فكيف عُبِّر عنه بالماضي؟
فالجواب: أن ما قد علم الله وقوعه، يجري مجرى المعاين، كقوله تعالى: وَنادى أَصْحابُ الْجَنَّةِ «١».
وفي معنى قوله: فًّا
أربعة أقوال: أحدها: أنه بمعنى جميعاً، كقوله: ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا «٢» قاله مقاتل. والثاني: أن المعنى: وعُرضوا على ربِّك مصفوفين، هذا مذهب البَصريين. والثالث: أن المعنى: وعُرضوا على ربِّك صفوفاً، فناب الواحد عن الجميع، كقوله: ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا «٣».
والرابع: أنه لم يَغِبْ عن الله منهم أحد، فكانوا كالصف الذي تسهل الإِحاطة بجملته، ذكر هذه الأقوال ابن الأنباري، وقد قيل: إِن كلَّ أمة وزمرة صفٌّ.
قوله تعالى: قَدْ جِئْتُمُونا
، فيه إضمار «فقال لهم». وفي المخاطبين بهذا قولان: أحدهما:
أنهم الكُلّ. والثاني: الكُفار، فيكون اللفظ عامّاً، والمعنى خاصّا. وقوله: ما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ
مفسر في الأنعام «٤». وقوله: لْ زَعَمْتُمْ
خطاب للكفّار خاصّة، والمعنى: زعمتم في الدنيالَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِداً
للبعث، والجزاء.
قوله تعالى: وَوُضِعَ الْكِتابُ فيه ثلاثة أقوال: أحدها: أنه الكتاب الذي سُطِر فيه ما تعمل الخلائق قبل وجودهم، قاله ابن عباس. والثاني: أنه الحساب، قاله ابن السائب. والثالث: كتاب الأعمال، قاله مقاتل. وقال ابن جرير: وُضع كتاب أعمال العباد في أيديهم، فعلى هذا، الكتاب اسم جنس. قوله تعالى: فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ قال مجاهد: هم الكافرون، وذكر بعض أهل العلم أن كل مجرم ذُكر في القرآن، فالمراد به: الكافر. قوله تعالى: مُشْفِقِينَ أي: خائفين مِمَّا فِيهِ من الأعمال السيئة وَيَقُولُونَ يا وَيْلَتَنا هذا قول كل واقع في هَلَكة. وقد شرحنا هذا المعنى في قوله:
يا حَسْرَتَنا «٥».
قوله تعالى: لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصاها هذا على ظاهره في صغير الأمور وكبيرها وقد روى عكرمة عن ابن عباس، قال: الصغيرة: التبسم، والكبيرة: القهقهة، وقد يُتوهَّم أن المراد بذلك صغائر الذنوب وكبائرها، وليس كذلك، إذ ليس الضّحك والتّبسّم، بمجرّدهما من الذنوب، وإِنما المراد أن التبسم من صغار الأفعال، والضحك فعل كبير، وقد روى الضحاك عن ابن عباس، قال:
الصغيرة: التبسم والاستهزاء بالمؤمنين، والكبيرة: القهقهة بذلك فعلى هذا يكون ذنباً من الذنوب لمقصود فاعله، لا لنفسه. ومعنى «أحصاها» : عدَّها وأثبتها، والمعنى: وُجدتْ محصاة. وَوَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِراً
(١) سورة الأعراف: ٤٣.
(٢) سورة طه: ٦٤.
(٣) سورة الحج: ٥.
(٤) سورة الأنعام: ٩٤.
(٥) سورة الأنعام: ٣١.
89
أي: مكتوباً مُثْبَتاً في الكتاب، وقيل: رأوا جزاءه حاضراً. وقال أبو سليمان: الصحيح عند المحققين أن صغائر المؤمنين الذين وُعدوا العفو عنها إِذا اجتنبوا الكبائر، إِنما يعفى عنها في الآخرة بعد أن يراها صاحبها.
قوله تعالى: وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً قال أبو سليمان: لا تنقص حسنات المؤمن، ولا يزاد في سيئات الكافر. وقيل: إِن كان للكافر فِعل خير، كعتق رقبة، وصدقة، خُفِّف عنه به من عذابه، وإِن ظلمه مسلم، أخذ الله من المسلم، فصار الحق لله.
ثم إنّ الله تعالى أمر نبيّه صلى الله عليه وسلّم أن يذكِّر هؤلاء المتكبِّرين عن مجالسة الفقراء قصةَ إِبليس وما أورثه الكِبْر، فقال: وَإِذْ قُلْنا أي: اذكر ذلك.
وفي قوله: كانَ مِنَ الْجِنِّ قولان: أحدهما: أنه من الجن حقيقة، لهذا النص واحتج قائلو هذا بأن له ذريةً- وليس للملائكة ذريةٌ- وأنه كَفَرَ، والملائكة رسل الله، فهم معصومون من الكفر.
والثاني: أنه كان من الملائكة، وإِنما قيل: «من الجن»، لأنه كان من قَبِيلٍ من الملائكة يقال لهم:
الجن، قاله ابن عباس وقد شرحنا هذا في سورة البقرة «١».
قوله تعالى: فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ فيه ثلاثة أقوال: أحدها: خرج عن طاعة ربه، تقول العرب:
فسَقت الرُّطَبة من قشرها: إِذا خرجت منه، قاله الفراء، وابن قتيبة. والثاني: أتاه الفسق لما أُمر فعصى، فكان سبب فسقه عن أمر ربه، قال الزجاج: وهذا مذهب الخليل وسيبويه، وهو الحق عندنا. والثالث:
ففسق عن ردِّ أمر ربِّه، حكاه الزجاج عن قطرب.
قوله تعالى: أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِي أي: توالونهم بالاستجابة لهم؟! قال الحسن، وقتادة: ذريته: أولاده، وهم يتوالدون كما يتوالد بنو آدم. قال مجاهد: ذريته الشياطين، ومن ذريته زَلَنْبُور صاحب راية إِبليس بكل سوق، وثبْر، وهو صاحب المصائب، والأعور صاحب الرياء، ومِسْوَط صاحب الأخبار يأتي بها فيطرحها على أفواه الناس، فلا يوجد لها أصل، وداسم صاحب الإِنسان إِذا دخل بيته ولم يسلِّم ولم يذكر اسم الله، فهو يأكل معه إِذا أكل. قال بعض أهل العلم: إِذا كانت خطيئة الإِنسان في كِبْر فلا تَرْجُه، وإِن كانت في شهوة فارجه، فإن معصية إِبليس كانت بالكِبْر، ومعصية آدم بالشهوة.
قوله تعالى: بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا فيه ثلاثة أقوال: أحدها: بئس الاتخاذ للظالمين بدلاً. والثاني:
بئس الشيطان. والثالث: بئس الشيطان والذرِّيَّة، ذكرهنَّ ابن الأنباري.
قوله تعالى: ما أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وقرأ أبو جعفر، وشيبة: «ما أشهدناهم» بالنون والألف. وفي المشار إِليهم أربعة أقوال: أحدها: إِبليس وذريته. والثاني: الملائكة. والثالث: جميع الكفار. والرابع: جميع الخلق والمعنى: إِني لم أشاورهم في خلقهن وفي هذا بيان للغَناء عن الأعوان، وإِظهار كمال القدرة. قوله تعالى: وَلا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ أي: ما أشهدت بعضَهم خَلْقَ بعض، ولا استعنت ببعضهم على إِيجاد بعض.
(١) عند الآية: ٣٤.
90
قوله تعالى: وَما كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ يعني: الشياطين عَضُداً أي: أنصاراً وأعواناً. والعَضُد يستعمل كثيراً في معنى العون، لأنه قِوام اليد، قال الزجاج: والاعتضاد: التقوِّي وطلب المعونة، يقال:
اعتضدت بفلان، أي: استعنت به. وفي ما نفى اتخاذهم عضداً فيه قولان: أحدهما: أنه الولايات، فالمعنى: ما كنت الولي المضلِّين، قاله مجاهد. والثاني: أنه خَلْق السموات والأرض، قاله مقاتل.
وقرأ الحسن، والجحدري، وأبو جعفر: «وما كنت» بفتح التاء.
[سورة الكهف (١٨) : الآيات ٥٢ الى ٥٣]
وَيَوْمَ يَقُولُ نادُوا شُرَكائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ مَوْبِقاً (٥٢) وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُواقِعُوها وَلَمْ يَجِدُوا عَنْها مَصْرِفاً (٥٣)
قوله تعالى: وَيَوْمَ يَقُولُ وقرأ حمزة: «نقول» بالنون، يعني: يوم القيامة نادُوا شُرَكائِيَ أضاف الشركاء إِليه على زعمهم، والمراد: نادوهم لدفع العذاب عنكم، أو الشفاعة لكم، الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أي: زعمتموهم شركاء فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ أي: لم يجيبوهم، وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ في المشار إِليهم قولان: أحدهما: أنهم المشركون والشركاء. والثاني: أهل الهدى وأهل الضلالة. وفي معنى مَوْبِقاً ستة أقوال «١» : أحدها: مَهْلِكاً، قاله ابن عباس، وقتادة، والضحاك، وقال ابن قتيبة:
مَهْلِكاً بينهم وبين آلهتهم في جهنم، ومنه يقال: أَوبَقتْه ذنوبه، أي أهلكته، وقال الزجاج: المعنى:
جعلنا بينهم من العذاب ما يوبقهم، أي: يهلكهم، فالمَوْبق: المهلك، يقال: وَبِق، يَيْبَقُ ويابَق، وبَقاً، ووَبَق، يَبِق، وُبُوقاً، فهو وابق وقال الفراء: جعلنا تواصُلهم في الدنيا مَوْبِقاً، أي: مَهْلِكاً لهم في الآخرة، فالبَيْن، على هذا القول بمعنى التواصل، كقوله تعالى: لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ «٢» على قراءة من ضمّ النون. والثاني: أن المَوْبِق: وادٍ عميق يُفرَّق به بين أهل الضلالة وأهل الهدى، قاله عبد الله بن عمرو. والثالث: أنه وادٍ في جهنم، قاله أنس بن مالك ومجاهد. والرابع: أنّ معنى الموبق: العداوة، قاله الحسن. والخامس: أنه المَحْبِس، قاله الربيع بن أنس. والسادس: أنه المَوْعِد، قاله أبو عبيدة.
قال ابن الأنباري: إِن قيل: لم قال: «مَوْبِقاً» ولم يقل: «مُوبِقاً»، بضم الميم، إِذ كان معناه عذاباً مُوبقاً؟ فالجواب: أنه اسم موضوع لمَحْبِس في النار، والأسماء لا تؤخذ بالقياس، فيُعلم أن «مَوْبِقاً» :
مَفْعِل، من أوبقه الله: إذا أهلكه، فتنفتح ميمه كما تنفتح في موعد ومولد ومحتد إذ سمّيت الشخوص بهنَّ.
قوله تعالى: وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ أي: عاينوها وهي تتغيَّظ حنقاً عليهم. والمراد بالمجرمين:
الكفار. فَظَنُّوا أي: أيقنوا أَنَّهُمْ مُواقِعُوها أي: داخلوها. ومعنى المواقعة: ملابسة الشيء بشدَّة وَلَمْ يَجِدُوا عَنْها مَصْرِفاً أي: مَعْدِلاً والمَصْرِف: الموضع الذي يُصْرَف إِليه، وذلك أنها أحاطت بهم من كل جانب، فلم يقدروا على الهرب.
[سورة الكهف (١٨) : الآيات ٥٤ الى ٥٥]
وَلَقَدْ صَرَّفْنا فِي هذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكانَ الْإِنْسانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً (٥٤) وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلاَّ أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ قُبُلاً (٥٥)
(١) قال الطبري رحمه الله في «تفسيره» ٨/ ٢٤٠: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب، القول عن ابن عباس ومن وافقه في تأويل الموبق، أنه المهلك، وذلك أن العرب تقول في كلامها: قد أوبقت فلانا: إذا أهلكته.
(٢) سورة الأنعام: ٩٤.
قوله تعالى: وَلَقَدْ صَرَّفْنا فِي هذَا الْقُرْآنِ قد فسّرناه في سورة بني إِسرائيل «١».
قوله تعالى: وَكانَ الْإِنْسانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا فيمن نزلت قولان: أحدهما: أنه النَّضْر بن الحارث، وكان جِداله في القرآن، قاله ابن عباس. والثاني: أُبيّ بن خلف، وكان جِداله في البعث حين أتى بعظم قد رَمَّ، فقال: أيقدر الله على إِعادة هذا؟! قاله ابن السائب «٢». قال الزجاج: كل ما يعقل من الملائكة والجن يجادل، والإِنسان أكثر هذه الأشياء جدلاً.
قوله تعالى: وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا قال المفسرون: يعني: أهل مكة إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى وهو محمد صلى الله عليه وسلّم، والقرآن، والإِسلام إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ وهو أنهم إِذا لم يؤمنوا عذِّبوا. وفي معنى الكلام ثلاثة أقوال: أحدها: ما منعهم من الإيمان إِلا طلب أن تأتيهم سُنَّة الأولين، قاله الزجاج.
والثاني: وما منع الشيطانُ الناس أن يؤمنوا إِلا لأَن تأتيهم سُنَّة الأولين، أي: منعهم رُشْدَهُم لكي يقع العذاب بهم، ذكره ابن الأنباري. والثالث: ما منعهم إِلا أنِّي قد قدَّرت عليهم العذاب. وهذه الآية فيمن قُتل ببدر وأُحُد من المشركين، قاله الواحدي «٣».
قوله تعالى: أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ ذكر ابن الأنباري في أَوْ ها هنا ثلاثة أقوال: أحدها: أنها بمعنى الواو. والثاني: أنها لوقوع أحد الشيئين، إِذ لا فائدة في بيانه. والثالث: أنها دخلت للتبعيض، أي: أنّ بعضهم يقع به هذا وبعضهم يقع به هذا وهذه الأقوال الثلاثة قد أسلفنا بيانها في قوله تعالى:
أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ. قوله تعالى: قُبُلًا قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وابن عامر: «قِبَلاً» بكسر القاف وفتح الباء. وقرأ عاصم، وحمزة، والكسائي: «قُبُلاً» بضم القاف والباء. وقد بيَّنّا عِلَّة القراءتين في سورة الأنعام «٤». وقرأ أبيّ بن كعب وابن مسْعود. «قَبِيلاً» بوزن فَعِيل. وقرأ أبو الجوزاء، وأبو المتوكل «قَبَلاً» بفتح القاف من غير ياء، قال ابن قتيبة: أراد استئنافاً. فإن قيل: إِذا كان المراد بسُنَّة الأولين العذاب، فما فائدة التكرار بقوله: أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ؟
فالجواب: أن سُنَّة الأولين أفادت عذابا مبهما يمكن أن يتراخى وقته، وتخلّف أنواعه، وإِتيان العذاب قُبُلاً أفاد القتل يوم بدر. قال مقاتل: «سُنَّة الأولين» : عذاب الأمم السالفة، «أو يأتيَهم العذاب قِبَلاً»، أي: عِياناً قتلا بالسيف يوم بدر.
[سورة الكهف (١٨) : الآيات ٥٦ الى ٥٩]
وَما نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَيُجادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْباطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ وَاتَّخَذُوا آياتِي وَما أُنْذِرُوا هُزُواً (٥٦) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْها وَنَسِيَ ما قَدَّمَتْ يَداهُ إِنَّا جَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذاً أَبَداً (٥٧) وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤاخِذُهُمْ بِما كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلاً (٥٨) وَتِلْكَ الْقُرى أَهْلَكْناهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِداً (٥٩)
(١) سورة الإسراء: ٤١.
(٢) باطل. عزاه المصنف لابن السائب، وهو الكلبي، وتقدم أنه يضع الحديث، فخبره باطل، لا شيء، ويأتي شيء من هذا في أواخر سورة يس.
(٣) في «الوسيط» ٣/ ١٥٤.
(٤) سورة الأنعام: ١١١. [.....]
92
قوله تعالى: وَيُجادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْباطِلِ قال ابن عباس: يريد: المستهزئين والمقتسمين وأتباعهم. وجدالُهم بالباطل: أنهم ألزموه أن يأتيَ بالآيات على أهوائهم لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ أي:
ليُبْطِلوا ما جاء به محمّد صلى الله عليه وسلّم وقيل: جدالُهم: قولُهم: أَإِذا كُنَّا عِظاماً وَرُفاتاً «١» أَإِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ «٢»، ونحو ذلك ليبطلوا به ما جاء في القرآن من ذِكْر البعث والجزاء. قال أبو عبيدة: ومعنى «ليُدْحِضوا» : ليُزِيلوا ويذهبوا، يقال: مكان دَحْض، أي: مَزَلٌّ لا يثبت فيه قدم ولا حافر. قوله تعالى:
وَاتَّخَذُوا آياتِي يعني القرآن. وَما أُنْذِرُوا أي: خُوِّفوا به من النار والقيامة هُزُواً أي: مهزوءاً به.
قوله تعالى: وَمَنْ أَظْلَمُ قد شرحنا هذه الكلمة في البقرة «٣» وذُكِّرَ بمعنى: وُعِظ. وآياتُ ربِّه:
القرآن، وإِعراضُه عنها: تهاونُه بها. وَنَسِيَ ما قَدَّمَتْ يَداهُ أي: ما سلف من ذنوبه وقد شرحنا ما بعد هذا في الأنعام «٤» إِلى قوله: وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدى وهو: الإِيمان والقرآن فَلَنْ يَهْتَدُوا هذا إِخبار عن عِلْمه فيهم. قوله تعالى: وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ إِذ لم يعاجلهم بالعقوبة. بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ للبعث والجزاء لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلًا قال الفراء: الموئل: المنجى، وهو الملجأ في المعنى، لأن المنجى ملجأٌ، والعرب تقول: إِنه لَيُوائل إِلى موضعه، أي: يذهب إِلى موضعه، قال الشاعر:
لا واءلت نَفْسُكَ خَلَّيْتَها للعامِرِيّيْن، وَلمْ تُكْلَمِ
يريد: لا نجت نفسك، وأنشد أبو عبيدة للأعشى:
وَقَدْ أُخالِسُ رَبَّ البَيْتِ غَفْلَتَهُ وقَدْ يُحاذِرُ مِنِّي ثمّ ما يئل
أي: ما ينجو. وقال ابن قتيبة: الموئل: الملجِأ. يقال: وأل فلان إِلى كذا: إِذا لجأ.
فإن قيل: ظاهر هذه الآية يقتضي أن تأخير العذاب عن الكفار برحمة الله، ومعلوم أنه لا نصيب لهم في رحمته «٥». فعنه جوابان: أحدهما: أنّ الرّحمة ها هنا بمعنى النعمة، ونعمة الله لا يخلو منها مؤمن ولا كافر. فأما الرحمة التي هي الغفران والرضى، فليس للكافر فيها نصيب. والثاني: أن رحمة الله محظورة على الكفار يوم القيامة، فأما في الدنيا، فإنهم ينالون منها العافية والرزق.
قوله تعالى: وَتِلْكَ الْقُرى يريد: التي قصصنا عليكَ ذِكْرها، والمراد: أهلها، ولذلك قال:
أَهْلَكْناهُمْ والمراد: قوم هود، وصالح، ولوط، وشعيب. قال الفرّاء: وقوله: لَمَّا ظَلَمُوا معناه:
بعد ما ظَلَموا. قوله تعالى: وَجَعَلْنا لِمَهْلِكِهِمْ قرأ الأكثرون بضم الميم وفتح اللام قال الزجاج: وفيه
(١) سورة الإسراء: ٤٩.
(٢) سورة السجدة: ١٠.
(٣) سورة البقرة: ١١٤.
(٤) سورة الأنعام: ٢١.
(٥) قال الحافظ ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» ٣/ ١١٧: وقوله تعالى: وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ أي: ربّك يا محمد غفور ذو رحمة واسعة والآيات في هذا كثيرة، ثم أخبر أنه يحلم ويستر ويغفر وربما هدى بعضهم من الغي إلى الرشاد ومن استمر منهم فله يوم يشيب فيه الوليد، وتضع كل ذات حمل حملها. ولهذا قال: بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلًا.
93
وجهان: أحدهما: أن يكون مصدراً، فيكون المعنى: وجعلنا لإِهلاكهم. والثاني: أن يكون وقتاً، فالمعنى: لوقت هلاكهم. وقرأ أبو بكر عن عاصم بفتح الميم واللام، وهو مصدر مثل الهلاك. وقرأ حفص عن عاصم بفتح الميم وكسر اللام، ومعناه: لوقت إهلاكهم.
[سورة الكهف (١٨) : الآيات ٦٠ الى ٦٥]
وَإِذْ قالَ مُوسى لِفَتاهُ لا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً (٦٠) فَلَمَّا بَلَغا مَجْمَعَ بَيْنِهِما نَسِيا حُوتَهُما فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَباً (٦١) فَلَمَّا جاوَزا قالَ لِفَتاهُ آتِنا غَداءَنا لَقَدْ لَقِينا مِنْ سَفَرِنا هذا نَصَباً (٦٢) قالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَما أَنْسانِيهُ إِلاَّ الشَّيْطانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَباً (٦٣) قالَ ذلِكَ ما كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلى آثارِهِما قَصَصاً (٦٤)
فَوَجَدا عَبْداً مِنْ عِبادِنا آتَيْناهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً (٦٥)
قوله تعالى: وَإِذْ قالَ مُوسى لِفَتاهُ... الآية.
(٩٣٥) سبب خروج موسى عليه السلام في هذا السفر، ما روى ابن عباس عن أُبيّ بن كعب عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال: «إِن موسى قام خطيباً في بني إِسرائيل، فسئل: أي الناس أعلم؟ فقال: أنا، فعتب الله تعالى عليه إِذ لم يَرُدَّ العِلْم إِليه، فأوحى الله إِليه أن لي عبداً بمجمع البحرين هو أعلم منك قال موسى: يا رب فكيف لي به؟ قال: تأخذ معك حوتاً فتجعله في مِكتل، فحيثما فقَدتَ الحوت فهو ثَمَّ.
فانطلق معه فتاه يوشع بن نون، حتى إذا أتيا الصّخرة، وضعا رؤوسهما فناما، واضطرب أي الحوت في المِكْتَل فخرج منه فسقط في البحر، فاتخذ سبيله في البحر سَرَباً، وأمسك الله عن الحوت جِرْيَةَ الماء، فصار عليه مثل الطاق «١»
. فلما استيقظ نسي صاحبُه أن يخبره بالحوت، فانطلقا بقية يومهما وليلتهما، حتى إِذا كان من الغد قال موسى لفتاه: آتنا غداءنا لقد لقينا من سفرنا هذا نَصَباً، قال: ولم يجد موسى النَّصَب حتى جاوز المكان الذي أمره الله به، فقال فتاه: أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنا إِلى قوله: عَجَباً، قال:
فكان للحوت سَرَباً، ولموسى ولفتاه عجباً، فقال موسى: ذلِكَ ما كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلى آثارِهِما قَصَصاً قال: رجعا يقصّان آثارهما حتى انتهيا إِلى الصخرة، فاذا هو مسجَّىً بثوب، فسلَّم عليه موسى، فقال الخضر: وأنّى بأرضك السلام! مَنْ أنت؟ قال: أنا موسى، قال: موسى بني إِسرائيل؟ قال: نعم أتيتك لتعلِّمني مما علِّمت رُشْداً، قال: إِنك لن تستطيع معي صبراً يا موسى، إِني على عِلْم مِنْ عِلْم الله لا تعلمُه علَّمَنِيه، وأنت على عِلْم من عِلْم الله علَّمَكهُ لا أعلمه فقال موسى: ستجدني إِن شاء الله صابرا
صحيح. أخرجه البخاري ١٢٢ و ٣٢٧٨ و ٣٤٠١ و ٤٧٢٧ و ٦٦٧٢ ومسلم ٢٣٨٠ وأبو داود ٤٧٠٧ والترمذي ٣١٤٩ والحميدي ٣٧١ وأحمد ٥/ ١١٧ و ١١٨ وابن حبان ٦٢٢٠ والطبري ٢٣٢٠٨ من طريق عن سفيان به. مطوّلا ومختصرا. وأخرجه البخاري ٤٧٢٥ عن الحميدي به. وأخرجه البخاري ٤٧٢٦ وأحمد ٥/ ١١٩ و ١٢٠ من طريق ابن جريج عن يعلى بن مسلم وعمرو بن دينار به. وأخرجه البخاري ٧٤ و ٧٨ و ٣٤٠٠ ومسلم ٢٣٨٠ ح ١٧٤ وأحمد ٥/ ١١٦ وابن حبان ١٠٢ والطبري ٢٣٢١٣ و ٢٣٢١٤ من طرق عن الزهري عن عبيد الله بن عبد الله عن ابن عباس مختصرا.
__________
(١) في «اللسان» : الطاق: عقد البناء حيث كان.
94
ولا أعصي لك أمراً فقال له الخضر: فإن اتَّبعتني فلا تسألني عن شيء حتى أُحْدِث لك منه ذِكْراً فانطلقا يمشيان على الساحل، فمرَّت سفينة فكلَّموهم أن يحملوهم، فعرفوا الخضر فحملوه بغير نَوْلٍ «١» فلما ركبا في السفينة لم يفجأ إِلا والخضر قد قلع لوحاً من ألواح السفينة بالقَدوم، فقال له موسى: قوم قد حملونا بغير نَوْل عمدتَ إِلى سفينتهم فخرقتها لتُغْرِقَ أهلها... إِلى قوله: عُسْراً؟! قال: وقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «كانت الأولى من موسى نسيانا» قال: وجاء عصفور فوقع على حرف السفينة، فنقر في البحر نقرة، فقال له الخضر: ما علمي وعلمك من علم الله عزّ وجلّ إِلا مثل ما نقص هذا العصفور من هذا البحر، ثم خرجا من السفينة، فبينما هما يمشيان على الساحل، إِذ أبصر الخضر غلاماً يلعب مع الغلمان، فأخذ الخضر رأسه بيده فاقتلعه فقتله، فقال له موسى: أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً إِلى قوله: يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فقال الخضر بيده «٢» هكذا، فأقامه، فقال موسى: قوم أتيناهم فلم يطعمونا، ولم يضيِّفونا لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً! قالَ هذا فِراقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ الآية». هذا حديث صحيح أخرجه البخاري ومسلم في «الصحيحين»، وقد ذكرنا إِسناده في كتاب «الحدائق» فآثرنا الاختصار ها هنا.
فأما التفسير، فقوله تعالى: وَإِذْ قالَ مُوسى المعنى: واذكر ذلك. وفي موسى قولان:
أحدهما: أنه موسى بن عمران، قاله الأكثرون. ويدل عليه. ما روي في «الصحيحين» من حديث سعيد بن جبير قال:
(٩٣٦) قلت لابن عباس: إِن نَوْفاً البِكاليّ يزعم أن موسى بني إسرائيل ليس هو موسى صاحب الخضر، قال: كذب عدو الله، أخبرني أُبيّ بن كعب.. فذكر الحديث الذي قدمناه آنفاً.
والثاني: أنه موسى بن ميشا، قاله ابن إِسحاق، وليس بشيء، للحديث الصحيح الذي ذكرناه فأما فتاه فهو يوشع بن نون من غير خلاف. وإِنما سمي فتاه، لأنه كان يلازمه، ويأخذ عنه العلم، ويخدمه.
ومعنى لا أَبْرَحُ: لا أزال. وليس المراد به: لا أزول، لأنه إِذا لم يُزل لم يقطع أرضاً، فهو مثل قولك: ما برحت أناظر عبد الله أي: ما زلت، قال الشاعر:
إِذا أنتَ لم تبرحْ تؤدِّي أمانَةً وتحملُ أخرى أفرحتْك الودائعُ «٣»
أي: أثقلتك، والمعنى: لا أزال أسير حتى أبلغ مجمع البحرين، أي: ملتقاهما، وهو الموضع الذي وعده الله بلقاء الخَضِر فيه، قال قتادة: بحر فارس، وبحر الروم، فبحر الروم نحو المغرب، وبحر فارس نحو المشرق. وفي اسم البلد الذي بمجمع البحرين قولان: أحدهما: أنه إِفريقية، قاله أُبيّ بن كعب. والثاني: طنجة، قاله محمد بن كعب القرظي.
قوله تعالى: أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً وقرأ أبو رزين، والحسن، وأبو مجلز، وقتادة، والجحدريّ،
هو المتقدم برقم. ٩٣٥
__________
(١) النّوال: العطاء، ويقال: نالني الخير ينولني نولا ونوالا، ونيلا.
(٢) معنى فقال بيده أي: أشار.
(٣) البيت لبيهس العذري كما في «اللسان» - فرح-.
95
وابن يعمر: «حُقْباً» بإسكان الكاف. قال ابن قتيبة: الحُقُب: الدَّهر، والحِقَب: السِّنون، واحدتها حِقْبة، ويقال: حُقْبٌ وحُقُب كما يقال: قُفْل وقُفُل، وهزو وهُزُؤ، وكُفْؤ وكُفُؤ، وأُكْل وأُكُل، وسُحْت وسُحُت، ورُعْب ورُعُب، ونُكْر ونُكُر، وأُذْن وأُذُن، وسُحْق وسُحُق، وبُعْد وبُعُد، وشُغْل وشُغُل، وثُلْث وثُلُث، وعُذْر وعُذُر، ونُذْر ونُذُر، وعُمْر وعُمُرُ. وللمفسرين في المراد بالحقب ها هنا ثمانية أقوال: أحدها: أنه الدَّهر، قاله ابن عباس. والثاني: ثمانون سنة، قاله عبد الله بن عمرو وأبو هريرة.
والثالث: سبعون ألف سنة، قاله الحسن. والرابع: سبعون سنة، قاله مجاهد. والخامس: سبعة عشر ألف سنة، قاله مقاتل بن حيّان. والسادس: أنه ثمانون سنة، كل يوم ألف سنة من عدد الدنيا. والسابع:
أنه سنة بلغة قيس، ذكرهما الفراء. والثامن: الحُقُب عند العرب وقت غير محدود، قاله أبو عبيدة.
ومعنى الكلام: لا أزال أَسيرُ، ولو احتجت أن أسير حُقُباً.
قوله تعالى: فَلَمَّا بَلَغا يعني: موسى وفتاه مَجْمَعَ بَيْنِهِما يعني: البحرين نَسِيا حُوتَهُما وكانا قد تزوَّدا حوتاً مالحاً في زَبيل «١» فكانا يصيبان منه عند الغداء والعشاء، فلما انتهيا إِلى الصخرة على ساحل البحر وضع فتاه المكتلَ، فأصاب الحوتَ بللُ البحر. وقيل: توضأ يوشع من عين الحياة فانتضح على الحوت الماءُ، فعاش، فتحرك في المِكْتَل، فانسرب في البحر، وقد كان قيل لموسى: تزوَّدْ حوتاً مالحاً، فاذا فقَدته وجدتَ الرجل. وكان موسى حين ذهب الحوت في البحر قد مضى لحاجة فعزم فتاه أن يخبره بما جرى فنسي. وإِنما قيل: «نسيا حوتهما» توسعاً في الكلام، لأنهما جميعاً تزوَّداه، كما يقال: نسي القوم زادهم، وإِنما نسيه أحدهم. قال الفراء: ومثله قوله: يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ
«٢» وإنما يخرج ذلك من المالح، لا من العذب. وقيل: نسي يوشع أن يحمل الحوت، ونسي موسى أن يأمره فيه بشيء، فلذلك أُضيف النسيان، إِليهما.
قوله تعالى: فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَباً أي: مسلكاً ومذهباً. قال ابن عباس: جعل الحوت لا يمسُّ شيئاً من البحر إِلا يبس حتى يكون صخرة. وقال قتادة: جعل لا يسلك طريقاً إِلا صار الماء جامداً. وقد ذكرنا في حديث أُبيّ بن كعب أن الماء صار مثل الطاق على الحوت.
قوله تعالى: فَلَمَّا جاوَزا ذلك المكان الذي ذهب فيه الحوت، أصابهما ما يصيب المسافر من النَّصَب، فدعا موسى بالطعام، فقال: آتِنا غَداءَنا وهو الطعام الذي يؤكل بالغداة. والنَّصَب:
الإِعياءِ. وهذا يدل على إِباحة إِظهار مثل هذا القول عند ما يلحق الإِنسانَ من الأذى والتعب، ولا يكون ذلك شكوى. قالَ يوشع لموسى أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنا إِلَى الصَّخْرَةِ أي: حين نزلنا هناك فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ فيه قولان: أحدهما: نسيتُ أن أخبرك خبر الحوت. والثاني: نسيت حمل الحوت. قوله تعالى: وَما أَنْسانِيهُ قرأ الكسائي: «أنسانيه» باماله السين مع كسر الهاء. وقرأ ابن كثير: «أنسانيهي» بإثبات ياء في الوصل بعد الهاء وروى حفص عن عاصم: «أنسانيهُ إِلا» بضم الهاء في الوصل.
قوله تعالى: وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَباً الهاء في السبيل ترجع إِلى الحوت. وفي المُتَّخِذ قولان: أحدهما: أنه الحوت، ثم في المخبر عنه قولان: أحدهما: أنه الله عزّ وجلّ، ثم في معنى
(١) في «اللسان» الزبيل: الوعاء يحمل فيه.
(٢) سورة الرحمن: ٢٢.
96
الكلام ثلاثة أقوال: أحدها: فاتخذ سبيله في البحر يُري عجباً، ويُحدث عجباً. والثاني: أنه لما قال الله تعالى: وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ، قال: اعجبوا لذلك عجباً، وتنَّبهوا لهذه الآية. والثالث: أن إِخبار الله تعالى انقطع عند قوله: «في البحر» فقال موسى: عجباً، لِما شوهد من الحوت. ذكر هذه الأقوال ابن الأنباري. والثاني: أن المُخْبِر عن الحوت يوشع، وصف لموسى ما فعل الحوت. والقول الثاني: أن المتخِذ موسى، اتخذ سبيل الحوت في البحر عجباً، فدخل في المكان الذي مَرَّ فيه الحوت، فرأى الخَضِر. وروى عطية عن ابن عباس قال: رجع موسى إِلى الصخرة فوجد الحوت، فجعل الحوت يضرب في البحر، ويتبعه موسى، حتى انتهى به إِلى جزيرة من جزائر البحر، فلقي الخضر.
قوله تعالى: قالَ يعني: موسى ذلِكَ ما كُنَّا نَبْغِ أي: ذلك الذي نطلب من العلامة الدَّالة على مطلوبنا. قرأ ابن كثير «نبغي» بياء في الوصل والوقف. وقرأ نافع، وأبو عمرو، والكسائيّ، بياء في الوقف. وقرأ ابن عامر، وعاصم، وحمزة، بحذف الياء في الحالين.
قوله تعالى: فَارْتَدَّا عَلى آثارِهِما قال الزجاج: أي: رجعا في الطريق الذي سلكاه، يقصَّان الأثر. والقَصَص: اتِّباع الأثر. قوله تعالى: فَوَجَدا عَبْداً مِنْ عِبادِنا يعني: الخضر.
وفي اسمه أربعة أقوال: أحدها: اليسع، قاله وهب، ومقاتل. والثاني: الخَضِر بن عاميا.
والثالث: أرميا بن حلقيا، ذكرهما ابن المنادي. والرابع: يلياء بن ملكان، ذكره علي بن أحمد النيسابوري. فأما تسميته بالخضر، ففيه قولان:
(٩٣٧) أحدهما: أنه جلس في فروة بيضاء فاخضرَّت، رواه أبو هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم.
والفروة: الأرض اليابسة.
والثاني: أنه كان إِذا جلس اخضرَّ ما حوله، قاله عكرمة. وقال مجاهد: كان إِذا صلى اخضرَّ ما حوله. وهل كان الخضر نبياً، أم لا؟ فيه قولان: ذكرهما أبو بكر بن الأنباري، وقال: كثير من الناس يذهب إِلى أنه كان نبيّاً، وبعضهم يقول: كان عبداً صالحاً. واختلف العلماء هل هو باقٍ إِلى يومنا هذا، على قولين حكاهما الماوردي، وكان الحسن يذهب إِلى أنه مات، وكذلك كان ابن المنادي من أصحابنا يقول، ويقبِّح قول من يرى بقاءه، ويقول: لا يثبت حديث في بقائه. وروى أبو بكر النقاش أن محمد بن إِسماعيل البخاري سئل عن الخضر وإِلياس: هل هما في الأحياء؟ فقال: كيف يكون ذلك.
وقد قال النبيّ صلى الله عليه وسلّم:
(٩٣٨) «لا يبقى على رأس مائة سنة ممن هو اليوم على ظهر الأرض أحد» ؟! قوله تعالى: آتَيْناهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا في هذه الرحمة ثلاثة أقوال: أحدها: أنها النبوَّة، قاله
صحيح. أخرجه البخاري ٣٤٠٢ من طريق ابن المبارك عن معمر به. وأخرجه الترمذي ٣١٥١ وأحمد ٢/ ٣١٢ و ٣١٨ وابن حبان ٦٢٢٢ من طرق عن عبد الرزاق به، كلهم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «إنما سمي الخضر أنه جلس على فروة بيضاء، فإذا هي تهتز من خلفه خضراء».
صحيح. أخرجه البخاري ١١٦ و ٥٦٤ و ٦٠١ ومسلم ٢٥٣٧ وأحمد ٢/ ٨٨ وأبو داود ٤٣٤٨ والترمذي ٢٢٥١ وابن حبان ٢٩٨٩ من حديث ابن عمر قال: صلى بنا النبي صلى الله عليه وسلّم العشاء في آخر حياته، فلما سلّم قام:
فقال: «أرأيتكم ليلتكم هذه، فإن رأس مائة سنة منها لا يبقى ممّن هو على ظهر الأرض أحد».
97
مقاتل. والثاني: الرِّقة والحُنُوُّ على من يستحقه، ذكره ابن الأنباري. والثالث: النِّعمة، قاله أبو سليمان الدمشقي. قوله تعالى: وَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا أي: من عندنا عِلْماً قال ابن عباس: أعطاه علما من علم الغيب.
[سورة الكهف (١٨) : الآيات ٦٦ الى ٦٩]
قالَ لَهُ مُوسى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً (٦٦) قالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً (٦٧) وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلى ما لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً (٦٨) قالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ صابِراً وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْراً (٦٩)
قوله تعالى: أَنْ تُعَلِّمَنِ قرأ ابن كثير: «تعلمني مما» بإثبات الياء في الوصل والوقف. وقرأ نافع، وأبو عمرو بياء في الوصل. وقرأ ابن عامر، وعاصم بحذف الياء في الحالين.
قوله تعالى: مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً قرأ ابن كثير، ونافع، وعاصم، وحمزة، والكسائي: «رُشداً» بضم الراء، وَإسكان الشين خفيفة. وقرأ أبو عمرو: «رَشَداً» بفتح الراء والشين. وعن ابن عامر بضمهما. والرُّشْد، والرَّشَد: لغتان، كالبخل والبخل، والعُجْم والعَجَم، والعُرْب والعَرَب، والمعنى:
أن تعلمني عِلْماً ذا رشد. وهذه القصة قد حرَّضت على الرحلة في طلب العلم، واتِّباع المفضول للفاضل طلباً للفضل، وحثَّت على الأدب والتواضع للمصحوب.
قوله تعالى: إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً قال ابن عباس: لن تصبر على صنعي، لأني علمت من غيب علم ربي. وفي هذا الصّبر وجهان: أحدهما: عن الإِنكار. والثاني: عن السؤال.
قوله تعالى: وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلى ما لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً الخُبْر: عِلْمك بالشيء والمعنى: كيف تصبر على أمر ظاهره مُنْكر، وأنت لا تعلم باطنه؟! قوله تعالى: سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ صابِراً وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْراً قال ابن الأنباري: نفي العصيان منسوق على الصبر. والمعنى: ستجدني صابرا ولا أعصي إن شاء الله.
[سورة الكهف (١٨) : الآيات ٧٠ الى ٧٨]
قالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلا تَسْئَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً (٧٠) فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا رَكِبا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَها قالَ أَخَرَقْتَها لِتُغْرِقَ أَهْلَها لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً (٧١) قالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً (٧٢) قالَ لا تُؤاخِذْنِي بِما نَسِيتُ وَلا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْراً (٧٣) فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا لَقِيا غُلاماً فَقَتَلَهُ قالَ أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً (٧٤)
قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً (٧٥) قالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَها فَلا تُصاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْراً (٧٦) فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا أَتَيا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَما أَهْلَها فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُما فَوَجَدا فِيها جِداراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقامَهُ قالَ لَوْ شِئْتَ لاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً (٧٧) قالَ هذا فِراقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ ما لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً (٧٨)
قوله تعالى: فَلا تَسْئَلْنِي قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وعاصم، وحمزة، والكسائي: «فلا تسألْني» ساكنة اللام. وقرأ نافع: «تسأَلَنِّي» مفتوحة اللام مشددة النون. وقرأ ابن عامر في رواية الداجوني: «فلا تسألَنِّ عن شيء» بتحريك اللام من غير ياء، والنون مكسورة. والمعنى: لا تسألني عن شيء مما أفعله حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً أي: حتى أكون أنا الذي أُبيِّنه لك، لأن عِلْمه قد غاب عنك.
98
قوله تعالى: خَرَقَها أي: شقَّها. قال المفسرون: قلع منها لوحاً، وقيل: لوحين مما يلي الماء، فحشاها موسى بثوبه وأنكر عليه ما فعل بقوله: أَخَرَقْتَها لِتُغْرِقَ أَهْلَها قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وعاصم، وابن عامر: لتُغرِق بالتاء أهلَها بالنصب. وقرأ حمزة، والكسائي: «ليغرق» بالياء، أهلها برفع اللام. قوله تعالى: لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً وفيه ثلاثة أقوال: أحدها: منكراً، قاله مجاهد.
وقال الزجاج: عظيماً من المنكر. والثاني: عجباً، قاله قتادة، وابن قتيبة. والثالث: داهية، قاله أبو عبيدة. قوله تعالى: لا تُؤاخِذْنِي بِما نَسِيتُ في هذا النسيان ثلاثة أقوال «١» : أحدها: أنه على حقيقته، وأنه نسي.
(٩٣٩) روى ابن عباس عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «أن الأولى كانت نسياناً من موسى».
والثاني: أنه لم ينس، ولكنه من معاريض الكلام، قاله أُبيّ بن كعب، وابن عباس. والثالث: أنه بمعنى التَّرك. فالمعنى: لا تؤاخذني بما تركته مما عاهدتك عليه، ذكره ابن الأنباري.
قوله تعالى: وَلا تُرْهِقْنِي قال الفراء: لا تُعجلني. وقال أبو عبيدة، وابن قتيبة، والزجاج: لا تُغْشِني. قال أبو زيد: يقال: أرهقتُه عسراً: إِذا كلفتَه ذلك. قال الزجاج: والمعنى: عاملني باليُسْرِ، لا بالعُسْرِ. قوله تعالى: فَانْطَلَقا يعني: موسى والخضر. قال الماوردي: يحتمل أن يوشع تأخر عنهما، لأن الإِخبار عن اثنين، ويحتمل أن يكون معهما ولم يذكر لأنه تَبَعٌ لموسى، فاقتصر على حكم المتبوع.
قوله تعالى: حَتَّى إِذا لَقِيا غُلاماً اختلفوا في هذا الغلام هل كان بالغاً، أم لا؟ على قولين: أحدهما: أنه لم يكن بالغاً، قاله ابن عباس، ومجاهد، والأكثرون. والثاني: أنه كان شابّاً قد قبض على لحيته، حكاه الماوردي عن ابن عباس أيضاً، واحتج بأن غير البالغ لم يجر عليه قلم، فلا يستحق القتل. وقد يُسمَّى الرجلُ غلاماً، قالت ليلى الأخيلية تمدح الحجاج:
شَفَاها من الدَّاءِ العضال الذي بها «٢»
وفي صفة قتله له ثلاثة أقوال: أحدها: أنه اقتلع رأسه، وقد ذكرناه في حديث أبيّ. والثاني: كسر عنقه، قاله ابن باس. والثالث: أضجعة وذبحه بالسكين، قاله سعيد بن جبير.
قوله تعالى: «أقتلت نفساً زاكية» قرأ الكوفيون، وابن عامر: «زكيَّة» بغير ألف، والياء مشددة.
وقرأ الباقون بالألف من غير تشديد. قال الكسائي: هما لغتان بمعنى واحد، وهما بمنزلة القاسية، والقَسيّة. وللمفسرين فيها ستة أقوال: أحدها: أنها التائبة، روي عن ابن عباس أنه قال: الزكية: التائبة، وبه قال الضحاك. والثاني: أنها المسلمة، روي عن ابن عباس أيضاً. والثالث: أنها الزكية التي لم تبلغ الخطايا، قاله سعيد بن جبير. والرابع: أنها الزكية النامية، قاله قتادة. وقال ابن الأنباري: القويمة في تزكيتها. والخامس: أن الزكية: المطهرة، قاله أبو عبيدة. والسادس: أن الزكية: البريئة التي لم يظهر ما
هو بعض الحديث المتقدم برقم ٩٣٥.
__________
(١) قال الطبري رحمه الله ٨/ ٢٥٨: والصواب من القول أن يقال: أن موسى سأل صاحبه أن لا يؤاخذه بما نسي فيه عهده من سؤاله إياه على وجه ما فعل وسببه لا بما سأله عنه وهو لعهده ذاكر للصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم.
(٢) هو صدر بيت وعجزه: غلام إذا هزّ القناة سقاها. كما في «الأغاني» ١١/ ٢٤٨ و «البحر المحيط» ٦/ ١٤١.
99
يوجب قتلها، قاله الزجاج. وقد فَرَّق بعضهم بين الزاكية، والزكيَّة، فروي عن أبي عمرو بن العلاء أنه قال: الزاكية: التي لم تذنب قطُّ، والزكية: التي أذنبت ثم تابت. وروي عن أبي عبيدة أنه قال: الزاكية في البدن، والزكية في الدِّين.
قوله تعالى: بِغَيْرِ نَفْسٍ أي: بغير قتل نفس لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وحمزة، والكسائي: نكْراً خفيفة في كل القرآن، إلّا قوله: إِلى شَيْءٍ نُكُرٍ «١» وخفف ابن كثير أيضاً «إِلى شيء نُكْر». وقرأ ابن عامر، وأبو بكر عن عاصم: «نُكُراً» و «إِلى شيء نُكْر». مثقل. والمخفف إِنما هو من المثقل، كالعُنْق، والعُنُق، والنُكْر، والنُكُر. قال الزجاج: والمعنى: لقد أتيت شيئاً نكراً.
ويجوز أن يكون معناه: جئت بشيء نكر، فلما حذف الباء، أفضى الفعل فنصب نكرا، ونكرا أقل منكراً من قوله: «إِمراً» لأن تغريق مَنْ في السفينة كان عنده أنكر من قتل نفس واحدة.
قوله تعالى: قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ. إِن قيل: لم ذكر لَكَ ها هنا، واختزله من الموضع الذي قبله؟
فالجواب: أن إثباته للتّوكيد، واختزاله له لوضوح المعنى، وكلاهما معروف عند الفصحاء. تقول العرب: قد قلت لك: اتق الله. وقد قلت لك: يا فلان اتق الله، وأنشد ثعلب:
قد كنتُ حَذَّرْتُكَ آلَ المصْطَلِقْ... وقلتُ: يا هَذا أَطِعْنِي وَانْطَلِقْ
فقوله: يا هذا، توكيد لا يختل الكلام بسقوطه. وسمعت الشيخ أبا محمد الخشاب يقول: وقَّره في الأول، فلم يواجهه بكاف الخطاب، فلما خالف في الثاني، واجهه بها.
قوله تعالى: إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ أي: سؤال توبيخ وإِنكار بَعْدَها أي: بعد هذه المسألة فَلا تُصاحِبْنِي وقرأ كذلك معاذ القارئ، وأبو نهيك، وأبو المتوكل، والأعرج، إِلا أنهم شدَّدوا النون. قال الزجاج: ومعناه: إِن طلبتُ صحبتك فلا تُتَابعني على ذلك. وقرأ أُبيُّ بن كعب، وابن أبي عبلة، ويعقوب: «فلا تَصحبني» بفتح التاء من غير ألف. وقرأ ابن مسعود، وأبو العالية، والأعمش كذلك، إِلا أنهم شددوا النون. وقرأ أبو رجاء، وأبو عثمان النهدي، والنخعي، والجحدري: «تُصْحِبْني» بضم التاء، وكسر الحاء، وسكون الصاد والباء. قال الزجاج: فيهما وجهان: أحدهما: لا تتابعني في شيء ألتمسه منك. يقال: قد أصحب المهر: إِذا انقاد. والثاني: لا تصحبني علماً من علمك. قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وابن عامر، وحمزة، والكسائي: مِنْ لَدُنِّي مثقل. وقرأ نافع: «من لدُني» بضم الدال مع تخفيف النون. وروى أبو بكر عن عاصم: «من لَدْني» بفتح اللام مع تسكين الدال. وفي رواية أخرى عن عاصم: «لُدْني» بضم اللام وتسكين الدال. قال الزجاج: وأجودها تشديد النون، لأن أصل «لدن» الإِسكان، فاذا أضفتها إِلى نفسك زدت نوناً، ليسلم سكون النون الأولى، تقول: من لدن زيد، فتسكِّن النون ثم تضيف إِلى نفسك، فتقول: من لدنِّي، كما تقول: عن زيد وعنِّي. فأما إِسكان دال «لَدْني» فإنهم أسكنوها، كما تقول في عضُد: عَضْد، فيحذفون الضم. قال ابن عباس: يريد: إِنك قد أُعذرت فيما بيني وبينك، يعني: أنك قد أخبرتني أني لا أستطيع معك صبراً.
قوله تعالى: فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا أَتَيا أَهْلَ قَرْيَةٍ فيها ثلاثة أقوال: أحدها: أنها أنطاكيّة، قاله ابن
(١) سورة القمر: ٦. [.....]
100
عباس. والثاني: الأُبُلَّة، قاله ابن سيرين. والثالث: باجروان، قاله مقاتل. قوله تعالى: اسْتَطْعَما أَهْلَها أي: سألاهم الضيافة فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُما روى المفضل عن عاصم: «يُضيفوهما» بضم الياء الأولى وكسر الضاد وتخفيف الياء الثانية. وقرأ أبو الجوزاء كذلك، إِلا أنه فتح الياء الأولى وقرأ الباقون: «يضيِّفوهما» بفتح الضاد وتشديد الياء الثانية وكسرها. قال أبو عبيدة: ومعنى يضيِّفوهما:
ينزلوهما منزل الأضياف، يقال: ضِفت أنا، وأضافني الذي يُنزلني. وقال الزجاج: يقال: ضِفتُ الرجل: إِذا نزلت عليه، وأضفته: إذا أنزلته وقريته. قال ابن قتيبة: يقال: ضيفت الرجل: إِذا أنزلتَه منزلة الأضياف، ومنه هذه الآية، وأضفته: أنزلته، وضِفته: نزلت عليه.
(٩٤٠) وروى أُبيُّ بن كعب عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال: «كانوا أهل قرية لئاماً».
قوله تعالى: فَوَجَدا فِيها جِداراً أي: حائطاً. قال ابن فارس: وجمعه جُدُر، والجَدْر: أصل الحائط. ومنه حديث الزبير: «ثم دع الماء يرجع إِلى الجَدْر» «١»، والجيدر: القصير.
قوله تعالى: يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ وقرأ أُبيُّ بن كعب، وأبو رجاء: «ينقاض» بألف ممدودة، وضاد معجمة، وقرأ ابن مسعود، وأبو العالية، وأبو عثمان النهدي: «ينقاص» بألف ومدة وصاد غير معجمة، وكلُّه بلا تشديد. قال الزجاج: فمعنى: ينقضَّ: يسقط بسرعة، وينقاص، غير معجمة: ينشق طولاً، يقال: انقاصت سنّه: إذا انشقّت. قال ابن مقسم: يقال انقاصت سِنُّه، وانقاضت- بالصاد، والضاد- على معنى واحد.
فإن قيل: كيف نسبت الإِرادة إِلى ما لا يعقل؟
فالجواب: أن هذا على وجه المجاز تشبيهاً بمن يعقل، ويريد: لأن هيأته في التهيؤ للوقوع قد ظهرت كما يظهر من أفعال المريدين القاصدين، فوصفت بالإِرادة إِذ كانت الصورتان واحدة، وقد أضافت العرب الأفعال إلى ما لا يعقل تجوّزا، قال الله عزّ وجلّ: وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى «٢» والغضب لا يسكت، وإِنما يسكت صاحبه، وقال: فَإِذا عَزَمَ الْأَمْرُ «٣». وأنشدوا من ذلك:
إِنَّ دهْراً يَلُفُّ شَمْلِي بجمل لزمان يهمّ بالإحسان «٤»
وقال آخر:
ضحكوا والدهرُ عنهم سَاكتٌ ثم أبكاهم دما لمّا نطق
وقال آخر:
يُرِيدُ الرُّمْحُ صَدْرَ أَبِي بَرَاءٍ ويرغب عن دماء بني عقيل «٥»
صحيح. أخرجه مسلم ٢٣٨٠ ح ١٧٢ وقد تقدم.
__________
(١) أخرجه البخاري وغيره، وتقدّم.
(٢) سورة الأعراف: ١٥٤.
(٣) سورة محمد: ٢١.
(٤) البيت غير منسوب في «اللسان» - دهر- و «أمالي المرتضى» ٤/ ٥٥، وقد نسبه الآلوسي في «روح المعاني» :
١٦/ ٦ إلى حسان بن ثابت ولم يوجد في ديوانه.
(٥) البيت للراعي كما في «الكشاف» ٢/ ٦٨٩.
101
وقال آخر:
يشْكُو إِليَّ جَمَلِي طُولَ السُّرَى «١»
وهذا كثير في أشعارهم.
قوله تعالى: فَأَقامَهُ أي: سوّاه، لأنه وجده مائلاً. وفي كيفية ما فعل قولان: أحدهما: أنه دفعه بيده فقام. والثاني: هدمه ثم قعد يبنيه، روي القولان عن ابن عباس.
قوله تعالى: لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً قرأ ابن كثير، وأبو عمرو: «لتخذت» بكسر الخاء، غير أن أبا عمرو كان يدغم الذال، وابن كثير يظهرها. وقرأ نافع، وعاصم، وابن عامر، وحمزة، والكسائي: «لاتَّخَذْتَ» وكلُّهم أدغموا، إِلا حفصاً عن عاصم، فإنه لم يدغم مثل ابن كثير. قال الزجاج: يقال: تَخِذ يَتْخَذُ في معنى: اتَّخَذَ يتَّخِذُ. وإنما قال له هذا، لأنهم لم يضيِّفوهما. قوله تعالى:
قالَ يعني الخضر هذا يعني الإِنكار عَلَيَّ فِراقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ أي: هو المفرِّق بيننا. قال الزجاج:
المعنى: هذا فراقُ بينِنا، أي: فراق اتصالنا، وكرر «بين» توكيداً، ومثله في الكلام: أخزى اللهُ الكاذب مني ومنك. وقرأ أبو رزين، وابن السميفع، وأبو العالية، وابن أبي عبلة: «هذا فِراقٌ» بالتنوين «بيني وبينَك» بنصب النون. قال ابن عباس: كان قول موسى في السفينة والغلام، لربِّه، وكان قوله في الجدار، لنفسه لطلب شيء من الدنيا.
[سورة الكهف (١٨) : الآيات ٧٩ الى ٨٢]
أَمَّا السَّفِينَةُ فَكانَتْ لِمَساكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَها وَكانَ وَراءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً (٧٩) وَأَمَّا الْغُلامُ فَكانَ أَبَواهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينا أَنْ يُرْهِقَهُما طُغْياناً وَكُفْراً (٨٠) فَأَرَدْنا أَنْ يُبْدِلَهُما رَبُّهُما خَيْراً مِنْهُ زَكاةً وَأَقْرَبَ رُحْماً (٨١) وَأَمَّا الْجِدارُ فَكانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُما وَكانَ أَبُوهُما صالِحاً فَأَرادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغا أَشُدَّهُما وَيَسْتَخْرِجا كَنزَهُما رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَما فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذلِكَ تَأْوِيلُ ما لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً (٨٢)
قوله تعالى: فَكانَتْ لِمَساكِينَ في المراد بمسكنتهم قولان: أحدهما: أنهم كانوا ضعفاءَ في أكسابهم. والثاني: في أبدانهم. وقال كعب: كانت لعشرة إِخوة، خمسةٍ زمْنى، وخمسةٍ يعملون في البحر.
قوله تعالى: فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَها أي: أجعلها ذات عيب، يعني بخرقها، وَكانَ وَراءَهُمْ فيه قولان:
أحدهما: أمامهم، قاله ابن عباس، وقتادة، وأبو عبيدة، وابن قتيبة. وقرأ أُبيُّ بن كعب، وابن مسعود:
«وكان أمامَهم مَلِك». والثاني: خلفهم قال الزجاج: وهو أجود الوجهين. فيجوز أن يكون رجوعهم في طريقهم كان عليه، ولم يعلموا بخبره، فأعلم الله تعالى الخضرَ خَبَرَه. قوله تعالى: يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً أي: كل سفينة صالحة. وفي قراءة أُبيِّ بن كعب: «كلَّ سفينة صحيحة» قال الخضر: إِنما خرقتها، لأن الملك إِذا رآها منخرقة تركها ورقعها أهلُها فانتفعوا بها. قوله تعالى: وَأَمَّا الْغُلامُ روي عن ابن عباس أنه كان يقرأ: «وأما الغلام فكان كافرا».
(١) هو صدر بيت وعجزه: «صبرا جميلا فكلانا مبتلى». وهو في «اللسان» - شكا- بلا نسبة لأحد.
102
(٩٤١) وروى أُبيُّ بن كعب عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم أنه قال: «إِن الغلام الذي قتله الخضر طُبع كافراً، ولو عاش لأرهق أبويه طغياناً وكفراً». قال الربيع بن أنس: كان الغلام على الطريق لا يمرُّ به أحدٌ إِلا قتلَه أو غصبه، فيدعو ذلك عليه وعلى أبويه. وقال ابن السائب: كان الغلام لصّاً، فإذا جاء من يطلبه حلف أبواه أنه لم يفعل.
قوله تعالى: فَخَشِينا في القائل لهذا قولان: أحدهما: الله عزّ وجلّ. ثم في معنى الخشية المضافة إِليه قولان: أحدهما: أنها بمعنى: العلم. قال الفراء: معناه: فعلمنا. والثاني: الكراهة، قاله الأخفش، والزّجّاج، وقال ابن عقيل: المعنى: فعلنا فعل الخاشي. والثاني: أنه الخضر، فتكون الخشية بمعنى الخوف للأمر المتوهم، قاله ابن الأنباري. وقد استدل بعضهم على أنه من كلام الخضر بقوله:
فَأَرَدْنا أَنْ يُبْدِلَهُما رَبُّهُما. قال الزجاج: المعنى: فأراد الله، لأن لفظ الخبر عن الله تعالى هكذا أكثر من أن يحصى. ومعنى يُرْهِقَهُما: يحملهما على الرَّهَق، وهو الجهل. قال أبو عبيدة: «يُرْهِقَهُما» :
يغشِيَهما. قال سعيد بن جبير: خشينا أن يحملَهما حُبُّه على أن يدخلا في دينه. وقال الزجاج: فرحا به حين ولد، وحزنا عليه حين قتل، ولو بقي كان فيه هلاكهما، فرضي امرؤ بقضاء الله، فإن قضاء الله للمؤمن فيما يكره، خير له من قضائه فيما يحب. قوله تعالى: فَأَرَدْنا أَنْ يُبْدِلَهُما رَبُّهُما قرأ ابن كثير، وأبو بكر عن عاصم: «أن يُبْدِلَهُما» بالتخفيف. وقرأ نافع، وأبو عمرو بالتشديد. قوله تعالى: خَيْراً مِنْهُ زَكاةً فيه ثلاثة أقوال: أحدها: ديناً، قاله ابن عباس. والثاني: عملاً، قاله مقاتل. والثالث: صلاحاً، قاله الفراء. قوله تعالى: وَأَقْرَبَ رُحْماً قرأ ابن كثير، ونافع، وعاصم، وحمزة، والكسائي: «رُحْماً» ساكنة الحاء، وقرأ ابن عامر: «رُحُماً» مثقلة. وعن أبي عمرو كالقراءتين. وقرأ ابن عباس، وابن جبير، وأبو رجاء: «رَحِماً» بفتح الراء، وكسر الحاء. وفي معنى الكلام قولان: أحدهما: أوصل للرحم وأبَرّ للوالدين، قاله ابن عباس، وقتادة. وقال الزجاج: أقرب عطفاً وأمسّ بالقرابة. ومعنى الرُّحْم والرُّحُم في اللغة: العطف والرحمة، قال الشاعر:
وكيف بظلم جَاريةٍ... ومنها اللِّينُ والرُّحُم «١»
والثاني أقرب أن يُرحَما به، قاله الفراء، وفيما بُدِّلا به قولان: أحدهما: جارية، قاله الأكثرون.
وروى عطاء عن ابن عباس، قال: أبدلهما به جارية ولدت سبعين نبيّاً. والثاني: غلام مسلم، قاله ابن جريج.
قوله تعالى: وَأَمَّا الْجِدارُ فَكانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ يعني: القرية المذكورة في قوله تعالى:
أَتَيا أَهْلَ قَرْيَةٍ، قال مقاتل: واسمهما: أصرم، وصريم.
قوله تعالى: وَكانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُما فيه ثلاثة أقوال «٢» :
صحيح. أخرجه مسلم ٢٣٨٠ ح ١٧٢ عن محمد بن عبد الأعلى عن معتمر به مطولا. وأخرجه أبو داود ٤٧٠٥، وأحمد ٥/ ١٢١، وابن حبان ٦٢٢١ من طرق عن معتمر به. وأخرجه أبو داود ٤٧٠٦ والترمذي ٣١٥٠ من طريقين عن أبي إسحاق به. وكلهم عن ابن عباس عن أبي بن كعب به.
__________
(١) البيت في «اللسان» - رحم- و «تفسير القرطبي» بدون نسبة.
(٢) قال الطبري رحمه الله ٨/ ٢٦٩: وأولى التأولين في ذلك بالصواب، القول الذي قاله عكرمة، لأن المعروف من كلام العرب أن الكنز اسم لما يكنز من مال، وأن كل ما كنز فقد وقع عليه اسم الكنز، فإن التأويل مصروف إلى الأغلب من استعمال المخاطبين بالتنزيل، ما لم يأت دليل يجب من أجله صرفه إلى غير ذلك.
103
(٩٤٢) أحدها: أنه كان ذهباً وفضة، رواه أبو الدّرداء عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم. وقال الحسن، وعكرمة، وقتادة: كان مالاً. والثاني: أنه كان لوحاً من ذهب، فيه مكتوب: عجباً لمن أيقن بالقدر ثم هو يَنْصَب، عجباً لمن أيقن بالنار كيف يضحك، عجباً لمن يؤمن بالموت كيف يفرح، عجباً لمن يوقن بالرزق كيف يتعب، عجباً لمن يؤمن بالحساب كيف يغفُل، عجباً لمن رأى الدنيا وتقلُّبَها بأهلها كيف يطمئن إِليها، أنا الله الذي لا إِله إِلا أنا، محمد عبدي ورسولي وفي الشِّق الآخر: أنا الله لا إِله إِلا أنا وحدي لا شريك لي، خلقتُ الخير والشَّر، فطوبى لمن خلقتُه للخير وأجريته على يديه، والويل لمن خلقته لمن خلقتُه للشر وأجريتُه على يديه، رواه عطاء عن ابن عباس. قال ابن الأنباري: فسُمِّي كنزاً من جهة الذَّهب، وجعل اسمه هو المغلَّب. والثالث: كنز علم، رواه العوفي عن ابن عباس. وقال مجاهد: صُحُف فيها عِلْم وبه قال سعيد بن جبير، والسدي. قال ابن الأنباري: فيكون المعنى على هذا القول: كان تحته مثل الكنز، لأنه يُتعجَّل من نفعه أفضل مما يُنال من الأموال. قال الزجاج: والمعروف في اللغة: أن الكنز إِذا أُفرد، فمعناه: المال المدفون المدَّخَر، فاذا لم يكن المال، قيل: عنده كنز علم، وله كنز فهم، والكنز ها هنا بالمال أشبه، وجائز أن يكون الكنز كان مالاً، مكتوب فيه علم، على ما روي، فهو مال وعِلْم عظيم.
قوله تعالى: وَكانَ أَبُوهُما صالِحاً قال ابن عباس: حُفِظا بصلاح أبيهما، ولم يذكر منهما صلاحاً. وقال جعفر بن محمّد: كان بينهما وبين ذلك الأب الصالح سبعة آباء. وقال مقاتل: كان أبوهما ذا أمانة. قوله تعالى: فَأَرادَ رَبُّكَ قال ابن الأنباري: لمّا كان قوله: «فأردت» «فأردنا» كل واحد منهما يصلح أن يكون خبراً عن الله عزّ وجلّ، وعن الخضر، أتبعهما بما يحصر الإِرادة عليه، ويزيلها عن غيره، ويكشف البُغية من اللفظتين الأولَيين. وإِنما قال: «فأردتُ» «فأردنا» «فأراد ربُّك»، لأن العرب تؤثر اختلاف الكلام على اتِّفاقه مع تساوي المعاني، لأنه أعذب على الألسن، وأحسن موقعاً في الأسماع، فيقول الرجل: قال لي فلان كذا، وأنبأني بما كان، وخبَّرني بما نال. فأما «الأَشُدُّ» فقد سبق ذكره في مواضع «١». ولو أن الخضر لم يُقِم الحائط لنُقض وأُخِذ ذلك الكنز قبل بلوغهما. قوله تعالى:
رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ أي: رحمهما الله بذلك. وَما فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي قال قتادة: كان عبداً مأموراً. فأما قوله: تَسْطِعْ فإن «استطاع» و «اسطاع» بمعنى واحد.
[سورة الكهف (١٨) : الآيات ٨٣ الى ٨٨]
وَيَسْئَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُوا عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْراً (٨٣) إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْناهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً (٨٤) فَأَتْبَعَ سَبَباً (٨٥) حَتَّى إِذا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَها تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِنْدَها قَوْماً قُلْنا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً (٨٦) قالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذاباً نُكْراً (٨٧)
وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَلَهُ جَزاءً الْحُسْنى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنا يُسْراً (٨٨)
ضعيف جدا. أخرجه الترمذي ٣١٥٢ والحاكم ٢/ ٣٦٩ والواحدي في «الوسيط» ٣/ ١٦٢ وابن عدي في «الكامل» ٧/ ٢٦٨ من حديث أبي الدرداء. وضعفه الحافظ في «تخريج الكشاف» ٢/ ٧٤٢ وفي إسناده يزيد بن يوسف الصنعاني، وهو متروك. قلت: وهذا الخبر وإن لم يصح عن النبي صلى الله عليه وسلّم، فمعناه صحيح وهو أن الكنز إنما هو مال أو ذهب أو فضة.
__________
(١) عند الآيات في الأنعام: ١٥٢ ويوسف: ٢٢ والإسراء: ٣٤.
104
قوله تعالى: وَيَسْئَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قد ذكرنا سبب نزولها عند قوله تعالى: وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ «١». واختلفوا في اسم ذي القرنين على أربعة أقوال «٢» : أحدها: عبد الله، قاله عليّ رضي الله عنه، وروي عن ابن عباس أنه عبد الله بن الضحاك. والثاني: الاسكندر، قاله وهب. والثالث: عيِّاش، قاله محمد بن علي بن الحسين. والرابع: الصعب بن جابر بن القلمس، ذكره ابن أبي خيثمة. وفي علَّة تسميته بذي القرنين عشرة أقوال: أحدها: أنه دعا قومه إِلى الله تعالى، فضربوه على قرنه فهلك، فغبر زماناً، ثم بعثه الله، فدعاهم إِلى الله فضربوه على قرنه الآخر فهلك، فذانك قرناه، قاله عليّ رضي الله عنه. والثاني: أنه سمي بذي القرنين، لأنه سار إِلى مغرب الشمس وإِلى مطلعها، رواه أبو صالح عن ابن عباس. والثالث: لأن صفحتي رأسه كانتا من نحاس. والرابع: لأنه رأى في المنام كأنه امتد من السماء إِلى الأرض وأخذ بقرني الشمس، فقصَّ ذلك على قومه، فسمِّي بذي القرنين. والخامس: لأنه مَلَك الروم وفارس. والسادس: لأنه كان في رأسه شبه القرنين، رويت هذه الأقوال الأربعة عن وهب بن منبِّه. والسابع: لأنه كانت له غديرتان من شعر، قاله الحسن. قال ابن الأنباري: والعرب تسمي الضفيرتين من الشعر غديرتين، وجميرتين، وقرنين قال: ومن قال: سمي بذلك لأنه ملك فارس والروم، قال: لأنهما عاليان على جانبين من الأرض يقال لهما: قرنان. والثامن: لأنه كان كريم الطرفين من أهل بيت ذوي شرف. والتاسع: لأنه انقرض في زمانه قرنان من الناس، وهو حيّ.
والعاشر: لأنه سلك الظلمة والنور، ذكر هذه الأقوال الثلاثة أبو إِسحاق الثعلبي.
واختلفوا هل كان نبيّاً، أم لا؟ على قولين: أحدهما: أنه كان نبيّاً، قاله عبد الله بن عمرو، والضحاك بن مزاحم. والثاني: أنه كان عبداً صالحاً، ولم يكن نبيّاً، ولا مَلكاً، قاله عليّ رضي الله تعالى عنه. وقال وهب: كان ملكاً، ولم يوح إِليه.
(١) سورة الإسراء: ٨٥.
(٢) قال ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» ٣/ ١٢٨: ذكر الأزرقي وغيره أن الإسكندر الأول المذكور في القرآن هو الذي طاف بالبيت مع إبراهيم عليه السلام أول ما بناه وآمن به واتبعه. وكان معه الخضر عليه السلام. وقرّب إلى الله قربانا وقد ذكرنا طرفا صالحا من أخباره في كتاب «البداية والنهاية» بما فيه الكفاية ولله الحمد. وأما الإسكندر الثاني الذي كان من الروم بن فيليبس المقدوني اليوناني الذي تؤرخ به الروم وقد كان قبل المسيح عليه السلام بنحو من ثلاثمائة سنة. والحديث الذي روي عن النبي صلى الله عليه وسلّم لما سئل عن ذي القرنين:
«أنه شاب من الروم، وأنه بنى الإسكندرية » فيه طول ونكارة ورفعه لا يصح وأكثر ما فيه من أخبار بني إسرائيل اه.
قلت: هذا الحديث ضعيف جدا، وهو مرسل، ولو صح هذا مرفوعا لما اختلف الناس في سبب تسميته بذلك، والأشبه كونه من كلام بعض أئمة التفسير. وقد أخرجه الطبري ٢٣٢٧٥. وله ثلاث علل ضعف ابن لهيعة وشيخه عبد الرحمن بن غنم، وجهالة رواته، فهو شبه موضوع. وانظر «تفسير القرطبي» ٤١٩٢ و «تفسير الشوكاني» ١٥٢٤ بتخريجنا.
105
وفي زمان كونه ثلاثة أقوال: أحدها: أنه من القرون الأُوَل من ولد يافث بن نوح، قاله عليّ رضي الله تعالى عنه. والثاني: أنه كان بعد ثمود، قاله الحسن. ويقال: كان عمره ألفاً وستمائة سنة. والثالث:
أنه كان في الفترة بين عيسى ومحمد صلى الله عليهما وسلم، قاله وهب.
قوله تعالى: سَأَتْلُوا عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْراً أي: خبراً يتضمن ذِكْره. إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ أي:
سهَّلْنا عليه السَّير فيها. قال علي رضي الله عنه: إِنه أطاع الله، فسخَّر له السحاب فحمله عليه، ومَدَّ له في الأسباب، وبسط له النُّور، فكان الليل والنهار عليه سواء، وقال مجاهد: ملك الأرض أربعة:
مؤمنان، وكافران سليمان بن داود، وذو القرنين والكافران: النّمرود، وبخت نصّر. قوله تعالى:
وَآتَيْناهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً قال ابن عباس: عِلْماً يتسبب به إِلى ما يريد. وقيل: هو العِلْم بالطُّرق والمسالك. قوله تعالى: فَأَتْبَعَ سَبَباً قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو: «فاتَّبع سبباً» «ثم اتَّبع سبباً» «ثم اتَّبع سبباً» مشددات التاء. وقرأ عاصم، وابن عامر، وحمزة، والكسائي: «فأتبع سبباً» «ثم أتبع سبباً» «ثم أتبع سبباً» مقطوعات. قال ابن الأنباري: من قرأ «فاتَّبع سبباً» فمعناه: قفا الأثر، ومن قرأ «فأتبع» فمعناه: لحق يقال: اتَّبَعَني فلان، أي تَبِعَني، كما يقال: الحقني، بمعنى: لَحِقَني. وقال أبو علي:
«أتبع» تقديره: أتبع سبباً سبباً، فأتبع ما هو عليه سبباً، والسبب: الطريق، والمعنى: تبع طريقاً يؤدِّيه إِلى مَغْرِب الشمس. وكان إِذا ظهر على قوم أخذ منهم جيشاً فسار بهم إِلى غيرهم.
قوله تعالى: وَجَدَها تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وحفص عن عاصم:
«حمئة»، وهي قراءة ابن عباس. وقرأ أبن عامر، وحمزة، والكسائي، وأبو بكر عن عاصم: «حامية»، وهي قراءة عمرو، وعلي، وابن مسعود، وابن الزّبير، ومعاوية، وأبي عبد الرحمن، والحسن، وعكرمة، والنخعي، وقتادة، وأبي جعفر، وشيبة، وابن محيصن، والأعمش، كلُّهم لم يهمز. قال الزجاج: فمن قرأ: «حمئة» أراد في عَيْنٍ ذاتِ حَمْأَة. يقال: حَمَأْتُ البئر: إِذا أخرجتَ حَمْأتَها وأَحْمَأْتُها: إِذا ألقيتَ فيها الحَمْأَة. وحمئت فهي حمئة: إِذا صارت فيها الحَمْأَة. ومن قرأ: «حامية» بغير همز أراد: حارّة. وقد تكون حارَّة ذاتَ حَمْأَة. وروى قتادة عن الحسن، قال: وجدها تَغْرُب في ماءٍ يغلي كغليان القدور وَوَجَدَ عِنْدَها قَوْماً لباسهم جلود السِّباع، وليس لهم طعام إِلا ما أحرقت الشمس من الدوابّ إِذا غربت نحوها، وما لفظت العين من الحيتان إِذا وقعت فيها الشمس. وقال ابن السائب:
وجد عندها قوماً مؤمنين وكافرين، يعني عند العين. وربما توهَّم متوهِّم أن هذه الشمس على عِظَم قدْرها تغوص بذاتها في عين ماءٍ، وليس كذلك. فإنها أكبر من الدنيا مرارا، فكيف يسعها عين ماء، وقيل: إِن الشمس بقدر الدنيا مائة وخمسين مَرَّة، وقيل: بقدر الدنيا مائة وعشرين مَرَّة، والقمر بقدر الدنيا ثمانين مرة وإِنما وجدها تغرب في العين كما يرى راكب البحر الذي لا يرى طَرَفه أن الشمس تغيب في الماء، وذلك لأن ذا القرنين انتهى إلى آخر البنيان فوجد عيناً حَمِئة ليس بعدها أحد.
قوله تعالى: قُلْنا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ فمن قال: إِنه نبيّ، قال: هذا القول وحي ومن قال: ليس بنبي، قال: هذا إِلهام. قوله تعالى: إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ قال المفسرون: إِما أن تقتلَهم إن أبوا ما تدعوهم إليهم، وإِما أن تأسرهم، فتبصِّرهم الرشد. قالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ أي: أشرك فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ بالقتل إِذا لم يرجع عن الشرك. وقال الحسن: كان يطبخهم في القدور، ثُمَّ يُرَدُّ إِلى رَبِّهِ بعد العذاب فَيُعَذِّبُهُ عَذاباً نُكْراً بالنار.
106
قوله تعالى: فَلَهُ جَزاءً الْحُسْنى قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وابن عامر، وأبو بكر عن عاصم: «جزاءُ الحسنى» برفع مضاف. قال الفراء: «الحسنى» : الجنة، وأضيف الجزاءُ إِليها، وهي الجزاء، كقوله: وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ (٥١) «١» دِينُ الْقَيِّمَةِ «٢» وَلَدارُ الْآخِرَةِ «٣» قال أبو علي الفارسي:
المعنى: فله جزاء الخلال الحسنى، لأن الإِيمان والعمل الصالح خِلال. وقرأ حمزة، والكسائي، وحفص عن عاصم، وخلف، ويعقوب: «جزاءً» بالنصب والتنوين قال الزجاج: وهو مصدر منصوب على الحال، المعنى: فله الحسنى مجزيّا بها جزاء. قال ابن الأنباري: وقد يكون الجزاء غير الحسنى إِذا تأوَّل الجزاء بأنه الثواب والحسنى: الحسنة المكتسبة في الدنيا، فيكون المعنى: فله ثواب ما قدَّم من الحسنات.
قوله تعالى: وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنا يُسْراً أي: نقول له قولا جميلا.
[سورة الكهف (١٨) : الآيات ٨٩ الى ٩١]
ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً (٨٩) حَتَّى إِذا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَها تَطْلُعُ عَلى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِها سِتْراً (٩٠) كَذلِكَ وَقَدْ أَحَطْنا بِما لَدَيْهِ خُبْراً (٩١)
قوله تعالى: ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً أي: طريقا آخر يوصله إِلى المَشْرِق. قال قتادة: مضى يفتح المدائن ويجمع الكنوز ويقتل الرجال إِلا من آمن حتى أتى مطلع الشمس فأصاب قوماً في أسرابٍ عراةً، ليس لهم طعام إِلا ما أحرقت الشمس إِذا طلعت، فإذا توسطت السماء خرجوا من أسرابهم في طلب معايشهم مما أحرقته الشمس. وبلغَنا أنهم كانوا في مكان لا يثبت عليه بنيان، فيقال: إنهم الزّنج. وقال الحسن:
إِذا غربت الشمس خرجوا يتراعَون كما يتراعى الوحش. وقرأ الحسن، ومجاهد، وأبو مجلز، وأبو رجاء، وابن محيصن: «مَطْلَع الشمس» بفتح اللام. قال ابن الأنباري: ولا خلاف بين أهل العربية في أن المَطْلِع، والمَطْلَع كلاهما يعنى بهما المكانُ الذي تطلع منه الشمس. ويقولون: ما كان على فَعَل يَفْعُل، فالمصدر واسم الموضع يأتيان على المَفْعَل، كقولهم: المَدْخَل، للدخول، والموضِع الذي يُدخَل منه، إِلا أحد عشر حرفاً جاءت مكسورة إِذا أريد بها المواضع، وهي: المَطْلِع، والمَسْكِن، والمَنْسِك، والمَشْرِق، والمَغرِب، والمَسْجِد، والمَنْبِت، والمَجْزِر، والمَفْرِق، والمَسْقِط، والمَهْبِل، الموضع الذي تضع فيه الناقة وخمسة من هؤلاء الأحد عشر حرفاً سُمع فيهن الكسر والفتح: المَطْلِع، والمَطْلَع. والمَنْسِك، والمَنْسَك. والمَجْزِر، والمَجْزَر. والمَسْكِن، والمَسْكَن. والمَنْبِت، والمَنْبَت فقرأ الحسن على الأصل من احتمال المَفْعل الوجهين الموصوفين، بفتح العين وكسرها وقراءة العامة على اختيار العرب وما كثر على ألسنتها، وخصت المَوْضِع بالكسر، وآثرت المصدر بالفتح. قال أبو عمرو: المطلِع، بالكسر: الموضع الذي تطلع فيه والمطلَع، بالفتح: الطُّلوع قال ابن الأنباري: هذا هو الأصل، ثم إِن العرب تتسع فتجعل الاسم نائباً عن المصدر، فيقرؤون: حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ «٤» بالكسر وهم يعنون الطُّلوع ويقرأ من قرأ مَطْلِعَ الشَّمْسِ بالفتح على أنه موضع بمنزلة المدخل الذي هو اسم للموضع الذي يدخل منه.
(١) سورة الحاقة: ٥١.
(٢) سورة البينة: ٥.
(٣) سورة النحل: ٣٠. [.....]
(٤) سورة القدر: ٥.
قوله تعالى: كَذلِكَ فيه أربعة أقوال: أحدها: كما بلغ مَغْرِب الشمس بلغ مطلعها. والثاني:
أتبع سبباً كما أتبع سبباً. والثالث: كما وجد أولئك عند مَغْرِب الشمس وحكم فيهم، كذلك وجد هؤلاء عند مطلعها وحكم فيهم. والرابع: أن المعنى: كذلك أمْرُهم كما قصصنا عليك ثم استأنف فقال:
وَقَدْ أَحَطْنا بِما لَدَيْهِ أي: بما عنده ومعه من الجيوش والعدد. وحكى أبو سليمان الدمشقي: «بما لديه» أي: بما عند مطلع الشمس. وقد سبق معنى الخبر «١».
[سورة الكهف (١٨) : الآيات ٩٢ الى ٩٨]
ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً (٩٢) حَتَّى إِذا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِما قَوْماً لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً (٩٣) قالُوا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً عَلى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا (٩٤) قالَ ما مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْماً (٩٥) آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذا ساوى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذا جَعَلَهُ ناراً قالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً (٩٦)
فَمَا اسْطاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطاعُوا لَهُ نَقْباً (٩٧) قالَ هذا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذا جاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا (٩٨)
قوله تعالى: ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً أي: طريقا ثالثاً بين المَشْرِق والمَغْرِب حَتَّى إِذا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ قال وهب بن منبه: هما جبلان منيفان في السماء، من ورائهما البحر، ومن أمامهما البلدان، وهما بمنقطَع أرض التُّرك مما يلي بلاد أرمينية. وروى عطاء الخراساني عن ابن عباس قال: الجبلان من قِبَل أرمينية وأذربيجان. واختلف القراء في «السدّين» فقرأ ابن كثير وأبو عمرو وحفص عن عاصم بفتح السين. وقرأ نافع وابن عامر وأبو بكر عن عاصم وحمزة والكسائي بضمها. وهل المعنى واحد، أم لا؟ فيه قولان:
أحدهما: أنه واحد. قال ابن الأعرابي: كل ما قابلك فسَدَّ ما وراءه، فهو سَدٌّ، وسُدٌّ، نحو: الضَّعف والضُّعف، والفَقر والفُقر. قال الكسائي، وثعلب: السَّد والسُّد لغتان بمعنى واحد، وهذا مذهب الزجاج. والثاني: أنهما يختلفان.
وفي الفرق بينهما قولان: أحدهما: أن ما هو من فعل الله تعالى فهو مضموم، وما هو من فعل الآدميين فهو مفتوح، قاله ابن عباس، وعكرمة، وأبو عبيدة. قال الفراء: وعلى هذا رأيت المشيخة وأهل العلم من النحويين. والثاني: أن السَّد، بفتح السين: الحاجز بين الشيئين، والسُدُّ، بضمها:
الغشاوة في العَيْن، قاله أبو عمرو بن العلاء.
قوله تعالى: وَجَدَ مِنْ دُونِهِما يعني: أمام السّدّ قَوْماً لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وعاصم، وابن عامر: «يفقهون» بفتح الياء، أي: لا يكادون يفهمونه. قال ابن الأنباري: كقوله تعالى: وَما كادُوا يَفْعَلُونَ «٢» قال المفسّرون: وإن كانوا كذلك لأنهم لا يعرفون غير لغتهم. وقرأ حمزة، والكسائي: «يُفْقِهُون» بضم الياء، أراد: يُفْهِمُون غيرهم. وقيل: كلَّم ذا القرنين عنهم مترجِمون ترجموا.
قوله تعالى: إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ هما: اسمان أعجميان، وقد همزهما عاصم. قال الليث: الهمز لغة رديئة. قال ابن عباس: يأجوج رجل، وهما ابنا يافث بن نوح عليه السلام، فيأجوج ومأجوج عشرة
(١) سورة الكهف: ٦٨.
(٢) سورة البقرة: ٧١.
108
أجزاء، وولد آدم كلُّهم جزء، وهم شِبْر وشبران وثلاثة أشبار. وقال عليّ رضي الله عنه: منهم مَنْ طوله شِبْر، ومنهم من هو مُفْرِط في الطُّول، ولهم من الشَّعر ما يواريهم من الحَرِّ والبَرْد. وقال الضحاك: هم جيل من التُّرك. وقال السدي: التُرك سريّة من يأجوج ومأجوج خرجت تُغِير، فجاء ذو القرنين فضرب السَّد، فبقيت خارجه.
(٩٤٣) وروى شقيق عن حذيفة، قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلّم عن يأجوج ومأجوج، فقال:
«يأجوج أُمَّة، ومأجوج أُمَّة، كل أُمَّة أربعمائة ألف أُمَّة، لا يموت الرجُل منهم حتى ينظر إِلى ألف ذَكَر بين يديه من صُلْبه كُلٌّ قد حمل السلاح» قلت: يا رسول الله، صِفْهُم لنا، قال: «هم ثلاثة أصناف، صنف منهم أمثال الأرز» قلت: يا رسول الله: وما الأرز؟ قال: «شجر بالشام، طول الشجرة عشرون ومائة ذراع في السماء وصنف منهم عرضه وطوله سواء، عشرون ومائة ذراع، وهؤلاء الذين لا يقوم لهم جبل ولا حديد، وصنف منهم يفترش أحدهم أذنه، ويلتحف بالأخرى ولا يمرُّون بفيل ولا وحش ولا جمل ولا خنزير إِلا أكلوه، ومن مات منهم أكلوه، مقدّمتهم بالشّام، وساقتهم بخراسان، يشربون أنهار المشرق وبحيرة طبرية».
قوله تعالى: مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ في هذا الفساد أربعة أقوال: أحدها: أنهم كانوا يفعلون فِعْل قوم لوط، قاله وهب بن منبِّه. والثاني: أنهم كانوا يأكلون الناس، قاله سعيد بن عبد العزيز. والثالث:
يُخرِجون إِلى الأرض الذين شَكَوْا منهم أيام الربيع، فلا يَدَعون شيئاً أخضر إِلا أكلوه، ولا يابساً إِلا احتملوه إِلى أرضهم، قاله ابن السائب. والرابع: كانوا يقتلون الناس، قاله مقاتل.
قوله تعالى: فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وابن عامر، وعاصم:
«خَرجاً» بغير ألف. وقرأ حمزة، والكسائي: «خراجاً» بألف. وهل بينهما فرق؟ فيه قولان: أحدهما:
أنهما لغتان بمعنى واحد، قاله أبو عبيدة، والليث. والثاني: أن الخَرْجَ: ما تبرعت به، والخراج: ما لزمك أداؤه، قاله أبو عمرو بن العلاء. قال المفسرون: المعنى: هل نُخرج إِليك من أموالنا شيئاً كالجُعل لك؟
قوله تعالى: ما مَكَّنِّي وقرأ ابن كثير: «مكَّنَني» بنونين، وكذلك هي في مصاحف مكة. قال الزجاج: من قرأ: «مكَّنِّي» بالتشديد، أدغم النون في النون لاجتماع النونى. ومن قرأ: «مكَّنني» أظهر النونين، لأنهما من كلمتين، الأولى من الفعل، والثانية تدخل مع الاسم المضمر.
وفي الذي أراد بتمكينه منه قولان: أحدهما: أنه العِلْم بالله، وطلب ثوابه. والثاني: ما ملك من الدنيا. والمعنى: الذي أعطاني الله خير مما تبذلون لي.
قوله تعالى: فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ فيها قولان: أحدهما: أنها الرجال، قاله مجاهد، ومقاتل. والثاني:
الآلة، قاله ابن السائب. فأما الرَّدْم، فهو: الحاجز قال الزجاج: والرَّدْم في اللغة أكبر من السدِّ، لأن الرَّدْم: ما جُعل بعضه على بعض، يقال: ثوب مُرَدَّم: إِذا كان قد رقِّع رقعة فوق رقعة. قوله تعالى:
موضوع. أخرجه ابن عدي ٦/ ١٦٩ وابن الجوزي في «الموضوعات» ١/ ٢٠٦ من حديث حذيفة، وأعله ابن عدي بمحمد بن إسحاق العكاشي، وأنه يضع الحديث، وحكم هو وابن الجوزي بوضعه.
وانظر «تفسير القرطبي» ٤١٩٧ بتخريجنا.
109
آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ قرأ الجمهور: «ردماً آتوني» أي: أعطوني. وروى أبو بكر عن عاصم: «ردم ائتوني» بكسر التنوين، أي: جيئوني بها. قال ابن عباس: احملوها إِليَّ. وقال مقاتل: أعطوني. وقال الفرّار:
المعنى: ائتوني بها، فلما ألقيت الياء زيدت ألف. فأما الزُّبُر، فهي: القِطَع، واحدتها: زُبْرَة والمعنى:
فأَتَوه بها فبناه، حَتَّى إِذا ساوى وروى أبان «إِذا سوَّى» بتشديد الواو من غير ألف. قال الفراء: ساوى وسوَّى سواء. واختلف القراء في الصَّدَفَيْنِ فقرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وابن عامر: «الصُّدُفَين» بضم الصاد والدال، وهي: لغة حِمْيَر. وروى أبو بكر والمفضل عن عاصم: «الصُّدْفين» بضم الصاد وتسكين الدال. وقرأ نافع، وحمزة، والكسائي، وحفص عن عاصم، وخلف، بفتح الصاد والدال جميعاً، وهي لغة تميم، واختارها ثعلب. وقرأ أبو مجلز، وأبو رجاء وابن يعمر: «الصَّدُفين» بفتح الصاد ورفع الدال. وقرأ أبو الجوزاء، وأبو عمران، والزهري، والجحدري برفع الصاد وفتح الدال. قال ابن الأنباري: ويقال: صُدَف، على مثال نُغَر، وكل هذه لغات في الكلمة. قال أبو عبيدة: الصَّدَفان: جَنْبا الجبل. قال الأزهري يقال لجانبي الجبل: صَدَفان، إِذا تحاذيا، لتصادفهما، أي: لتلاقيهما. قال المفسرون: حشا ما بين الجبلين بالحديد، ونسج بين طبقات الحديد الحطب والفحم، ووضع عليها المنافيخ، ثم قالَ انْفُخُوا فنفخوا حَتَّى إِذا جَعَلَهُ يعني: الحديد، وقيل: الهاء ترجع إِلى ما بين الصدفين ناراً أي: كالنار، لأن الحديد إِذا أحمي بالفحم والمنافيخ صار كالنار، قالَ آتُونِي قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وابن عامر، والكسائي: «آتوني» ممدودة، والمعنى: أعطوني، وقرأ حمزة، وأبو بكر عن عاصم: «ائتوني» مقصورة والمعنى: جيئوني به أُفرغه عليه.
وفي القِطْر أربعة أقوال: أحدها: أنه النحاس، قاله ابن عباس، ومجاهد، وقتادة، والفراء، والزجاج. والثاني: أنه الحديد الذائب، قاله أبو عبيدة. والثالث: الصُّفْر المُذاب، قاله مقاتل. والرابع:
الرصاص، حكاه ابن الأنباري. قال المفسرون: أذاب القِطْر ثم صبَّه عليه، فاختلط والتصق بعضه ببعض حتى صار جبلاً صلداً من حديد وقِطْر. قال قتادة: فهو كالبرد المحبر، طريقة سوداء وطريقة حمراء. قوله تعالى: فَمَا اسْطاعُوا أصله: فما «استطاعوا» فلما كانت التاء والطاء من مخرج واحد أحبُّوا التخفيف فحذفوا. قال ابن الأنباري: إِنما تقول العرب: اسطاع، تخفيفاً، كما قالوا: سوف يقوم، أو سو يقوم، فأسقطوا الفاء. قوله تعالى: أَنْ يَظْهَرُوهُ أي: يعلوه يقال: ظهر فلان فوق البيت: إِذا علاه، والمعنى: ما قدروا أن يعلوه لارتفاعه وامِّلاسه وَمَا اسْتَطاعُوا لَهُ نَقْباً من أسفله، لشدته وصلابته.
(٩٤٤) وروى أبو هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال: «إِن يأجوج ومأجوج ليَحفرون السدَّ كل يوم،
أخرجه ابن ماجة ٤١٩٩ والحاكم ٤/ ٤٤٨ والواحدي في «الوسيط» ٣/ ١٦٨ من طريق قتادة عن أبي رافع عن أبي هريرة به. وصححه الحاكم على شرطهما، وسكت الذهبي! وقال البوصيري: إسناده صحيح، رجاله ثقات. وقال ابن كثير في «تفسيره» ٣/ ١١٠: إسناده جيد قوي ولكن متنه في رفعه نكارة لأن ظاهر الآية يقتضي أنهم لم يتمكنوا من ارتقائه ولا نقبه، لإحكام بنائه وصلابته ثم ذكر ابن كثير أحاديث صحيحة مثل «فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذا» وهذا متفق عليه، وفيه أن ما فتح من الردم شيء يسير، فهو يخالف ما ذكره المصنف من الحديث، وأنه يظهر لهم شعاع الشمس، والله أعلم، وانظر بقية كلام ابن كثير عند هذه الآية بتخريجي، وانظر «تفسير الشوكاني» ١٥٣٠. بتخريجنا.
110
حتى إِذا كادوا يرون شعاع الشمس، قال الذي عليهم: ارجعوا، فستحفرونه غداً، فيعودون إِليه، فيرونه كأشد ما كان، حتى إِذا بلغت مدّتهم، وأراد الله عزّ وجلّ أن يبعثهم على الناس، حفروا، حتى إِذا كادوا يرون شعاع الشمس، قال الذين عليهم: ارجعوا، فستحفرونه غداً إِن شاء الله، ويستثني، فيعودون إِليه وهو كهيئته حين تركوه، فيحفرونه ويخرجون على الناس» وذكر باقي الحديث وقد ذكرت هذا الحديث بطوله وأشباهه في كتاب «الحدائق» فكرهت التّطويل ها هنا.
قوله تعالى: قالَ هذا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي لمّا فرغ ذو القرنين من بنيانه قال هذا. وفيما أشار إِليه قولان:
أحدهما: أنه الرَّدم، قاله مقاتل قال: فالمعنى: هذا نِعْمة من ربِّي على المسلمين لئلا يخرجوا إِليهم.
والثاني: أنه التمكين الذي أدرك به عمل السد، قاله الزجاج. قوله تعالى: فَإِذا جاءَ وَعْدُ رَبِّي فيه قولان:
أحدهما: القيامة. والثاني: وعده لخروج يأجوج ومأجوج.
قوله تعالى: جَعَلَهُ دَكَّاءَ قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وابن عامر: «دكّاً» منوناً غير مهموز ولا ممدود. وقرأ عاصم، وحمزة، والكسائيّ: دكّاء مهموزة بلا تنوين. وقد شرحنا معنى الكلمة في سورة الأعراف «١». قوله تعالى: وَكانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا أي: بالثواب والعقاب.
[سورة الكهف (١٨) : الآيات ٩٩ الى ١٠١]
وَتَرَكْنا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْناهُمْ جَمْعاً (٩٩) وَعَرَضْنا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكافِرِينَ عَرْضاً (١٠٠) الَّذِينَ كانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطاءٍ عَنْ ذِكْرِي وَكانُوا لا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً (١٠١)
قوله تعالى: وَتَرَكْنا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ في المشار إِليهم ثلاثة أقوال: أحدها: أنهم يأجوج ومأجوج. ثم في المراد ب «يومئذ» قولان: أحدهما: أنه يوم انقضى أمر السدِّ، تُركوا يموج بعضهم في بعض من ورائه مختلطين لكثرتهم وقيل: ماجوا متعجبين من السدِّ. والثاني: أنه يوم يخرجون من السدِّ تُركوا يموج بعضهم في بعض. والثاني: أنهم الكفار. والثالث: أنهم جميع الخلائق: الجن والإِنس يموجون حيارى. فعلى هذين القولين، المراد باليوم المذكور يوم القيامة.
قوله تعالى: وَنُفِخَ فِي الصُّورِ هذه نفخة البعث. وقد شرحنا معنى «الصّور» في سورة الأنعام «٢».
قوله تعالى: وَعَرَضْنا جَهَنَّمَ أي: أظهرناها لهم حتى شاهدوها. قوله تعالى: الَّذِينَ كانَتْ أَعْيُنُهُمْ يعني:
أعين قلوبهم فِي غِطاءٍ أي: في غفلةٍ عَنْ ذِكْرِي أي: عن توحيدي والإِيمان بي وبكتابي وَكانُوا لا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً هذا لعداوتهم وعنادهم وكراهتهم ما يُنْذَرون به، كما تقول لمن يكره قولك: ما تقدر أن تسمع كلامي.
[سورة الكهف (١٨) : آية ١٠٢]
أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبادِي مِنْ دُونِي أَوْلِياءَ إِنَّا أَعْتَدْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ نُزُلاً (١٠٢)
قوله تعالى: أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أي: أفَظَنَّ المشركون أَنْ يَتَّخِذُوا عِبادِي في هؤلاء العباد ثلاثة أقوال: أحدها: أنهم الشياطين، قاله ابن عباس. والثاني: الأصنام، قاله مقاتل. والثالث: الملائكة والمسيح وعزير وسائر المعبودات من دونه، قاله أبو سليمان الدمشقي. قوله تعالى: مِنْ دُونِي فتح هذه الياء نافع، وأبو عمرو. وجواب الاستفهام في هذه الآية محذوف، وفي تقديره قولان: أحدهما:
(١) سورة الأعراف: ١٤٣.
(٢) سورة الأنعام: ٧٣.
أفحسبوا أن يتخذوهم أولياء، كلا بل هم أعداءٌ لهم يتبرؤون منهم. والثاني: أن يتخذوهم أولياء ولا أغضبُ ولا أعاقُبهم. وروى أبان عن عاصم، وزيد عن يعقوب: «أَفَحَسْبُ» بتسكين السين وضمّ الباء، وهي قراءة عليّ، وابن عباس، وسعيد بن جبير، ومجاهد، وعكرمة، وابن يعمر، وابن محيصن ومعناها: أفيكفيهم أن يتخذوهم أولياء؟ فأما النُّزُل ففيه قولان: أحدهما: أنه ما يُهيَّأَ للضيف والعسكر، قاله ابن قتيبة. والثاني: أنه المنزل، قاله الزّجّاج.
[سورة الكهف (١٨) : الآيات ١٠٣ الى ١٠٦]
قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالاً (١٠٣) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً (١٠٤) أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَلِقائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً (١٠٥) ذلِكَ جَزاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِما كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آياتِي وَرُسُلِي هُزُواً (١٠٦)
قوله تعالى: قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالًا فيهم قولان: أحدهما: أنهم القسِّيسون والرهبان، قاله عليّ، والضحاك. والثاني: اليهود والنصارى، قاله سعد بن أبي وقاص.
قوله تعالى: أَعْمالًا منصوب على التمييز، لأنه لما قال: بِالْأَخْسَرِينَ كان ذلك مبهماً لا يدل على ما خسروه، فبيَّن ذلك في أي نوع وقع. قوله تعالى: الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ أي: بطل عملهم واجتهادهم في الدنيا، وهم يظنون أنهم محسنون بأفعالهم. فرؤساؤهم يعلمون الصحيح، ويؤثرون الباطل لبقاء رئاستهم، وأتباعُهم مقلِّدون بغير دليل. أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ جحدوا دلائل توحيده، وكفروا بالبعث والجزاء، وذلك أنهم بكفرهم برسول الله صلى الله عليه وسلّم والقرآن، صاروا كافرين بهذه الأشياء فَحَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ أي: بطل اجتهادهم، لأنه خلا عن الإِيمان فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً وقرأ ابن مسعود، والجحدري: «فلا يُقيم» بالياء. وفي معناه ثلاثة أقوال: أحدها: أنه إِنما يثقل الميزان بالطاعة، وإِنما توزن الحسنات والسيئات، والكافر لا طاعة له. والثاني: أن المعنى: لا نُقيم لهم قَدْراً.
قال ابن الأعرابي في تفسير هذه الآية: يقال: ما لفلان عندنا وزن، أي: قَدْر، لخسَّته. فالمعنى: أنهم لا يُعتدُّ بهم، ولا يكون لهم عند الله قدر ولا منزلة.
(٩٤٥) روى أبو هريرة عن النبيّ صلى الله عليه وسلّم أنه قال: «يؤتى بالرجل الطويل الأكول الشروب فلا يزن جناح بعوضة، اقرءوا إِن شئتم: فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً».
والثالث: أنه قال: «فلا نقيم لهم» لأن الوزن عليهم لا لهم، ذكره ابن الأنباري.
قوله تعالى: ذلِكَ جَزاؤُهُمْ أي: الأمر ذلك الذي ذكرت من بطلان عملهم وخِسَّة قدرهم، ثم ابتدأ فقال: جَزاؤُهُمْ جَهَنَّمُ، وقيل: المعنى: ذلك التصغير لهم، وجزاؤهم جهنم، فأضمرت واو الحال. قوله تعالى: بِما كَفَرُوا أي: بكفرهم واتخاذهم آياتِي التي أنزلتها وَرُسُلِي هُزُواً أي:
مهزوءا به.
[سورة الكهف (١٨) : الآيات ١٠٧ الى ١٠٨]
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلاً (١٠٧) خالِدِينَ فِيها لا يَبْغُونَ عَنْها حِوَلاً (١٠٨)
صحيح. أخرجه البخاري ٤٧٢٩ ومسلم ٢٧٨٥ والواحدي في الوسيط ٣/ ١٧٠ والبيهقي في «الشعب» ٥٦٧٠ كلهم عن أبي هريرة مرفوعا.
112
قوله تعالى: كانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ قال ابن الأنباري: كانت لهم في علم الله قبل أن يُخلَقوا.
وروى البخاري ومسلم في (الصحيحين) من حديث أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وسلّم أنه قال:
(٩٤٦) «جِنانُ الفردوس أربع، ثنتان من ذهب حليتهما وآنيتهما وما فيهما، وثنتان من فضة حليتهما وآنيتهما وما فيها، وليس بين القوم وبين أن ينظروا إِلى ربهم إِلا رداء الكبرياء على وجهه في جنة عدن».
(٩٤٧) وروى عبادة بن الصامت عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم أنه قال: «الجنة مائة درجة، ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض، الفردوس أعلاها، ومنها تفجَّر أنهار الجنة، فإذا سألتم الله تعالى فاسألوه الفردوس». قال أبو أمامة: الفردوس سرّة الجنة. قال مجاهد: الفردوس: البستان بالرومية.
وقال كعب، والضحاك: «جنات الفردوس» : جنات الأعناب. قال الكلبي، والفراء: الفردوس: البستان الذي فيه الكرم. وقال المبرد: الفردوس فيما سمعت من كلام العرب: الشجر الملتفّ، والأغلب عليه العنب. وقال ثعلب: كل بستان يحوّط عليه فهو فردوس، قال عبد الله بن رواحة:
في جنان الفردوس ليس يخافون خروجاً عنها ولا تحويلا
وقرأت على شيخنا أبي منصور اللغوي قال: قال الزجاج: الفردوس أصله رومي أعرب، وهو البستان، كذلك جاء في التفسير، وقد قيل: الفردوس تعرفه العرب، وتسمي الموضع الذي فيه كرم:
فردوساً. وقال أهل اللغة: الفردوس مذكَّر، وإِنما أنث في قوله تعالى: يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيها خالِدُونَ «١». لأنه عنى به الجنة. وقال الزجاج: وقيل: الفردوس: الأودية التي تنبت ضروباً من النبت، وقيل: هو بالرومية منقول إِلى لفظ العربية، قال: والفردوس أيضاً بالسريانية كذا لفظه: فردوس، قال:
ولم نجده في أشعار العرب إِلا في شعر حسان، وحقيقته أنه البستان الذي يجمع كل ما يكون في البساتين، لأنه عند أهل كل لغة كذلك، وبيت حسان:
فَإِنِّ ثَوَابَ اللهِ كلَّ مُوَحِّدٍ جِنَانٌ مِنَ الفردوس فيها يخلّد «٢»
صحيح. أخرجه البخاري ٤٨٧٨ و ٤٨٨٠ و ٧٤٤٤ ومسلم ١٨٠ والترمذي ٢٥٢٨ وابن ماجة ١٨٦ وابن أبي عاصم في «السنة» ٦١٣ وأحمد ٤/ ٤١١ والدولابي في «الكنى» ٢/ ٧١ وابن أبي داود في «البعث» ٥٩ وابن خزيمة في «التوحيد» ص ١٦ وابن حبان ٧٣٨٦ والبيهقي في «الاعتقاد» ص ١٣٠ والبغوي في «شرح السنة» ٤٢٧٥ والذهبي في «تذكرة الحفاظ» ١/ ٢٧٠ من طرق عن أبي موسى الأشعري. وأخرجه أحمد ٤/ ٤١٦ وابن أبي شيبة ١٣/ ١٤٨ والدارمي ٢/ ٣٣٣ والطيالسي ٥٢٩ وابن مندة في «التوحيد» ٧٨١ من طريق أبي قدامة الحارث بن عبيد عن أبي عمران الجوني به وأتم منه وكلهم عن أبي موسى الأشعري، أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال:
«جنتان من فضة آنيتهما وما فيهما، وجنتان من ذهب آنيتهما وما فيهما، وما بين القوم وبين أن ينظروا إِلى ربهم إلا رداء الكبر على وجهه في جنة عدن».
صحيح. أخرجه الترمذي ٢٥٣١ وأحمد ٥/ ٣١٦ والطبري ٢٣٤٠٦ و ٢٣٤٠٧ والحاكم ١/ ٨٠ والبيهقي في «البعث» ٢٤٨ من حديث عبادة بن الصامت، وإسناده صحيح. وصححه الحاكم، ووافقه الذهبي. وله شواهد كثيرة عند الطبري والبيهقي. وانظر «تفسير الشوكاني» ١٥٣٦ بتخريجنا.
__________
(١) سورة المؤمنون: ١١.
(٢) البيت في ديوانه: ١٥٠ واللسان- فردس-.
113
وقال ابن الكلبي باسناده: الفردوس: البستان بلغة الروم، وقال الفراء: وهو عربي أيضاً، والعرب تسمي البستان الذي فيه الكرم فردوساً. وقال السدي: الفردوس أصله بالنبطية «فرداسَا». وقال عبد الله بن الحارث: الفردوس: الأعناب. وقد شرحنا معنى قوله: «نُزُلاً» «١» آنفاً.
قوله تعالى: لا يَبْغُونَ عَنْها حِوَلًا قال الزجاج: لا يريدون عنها تحوُّلاً، يقال: قد حال من مكانه حِوَلاً، كما قالوا في المصادر: صَغُر صِغرَاً، وعَظُم عِظَماً، وعادَني حُبُّها عِوَداً قال: وقد قيل أيضاً:
إِن الحِوَل: الحِيلة، فيكون المعنى: لا يحتالون مَنْزِلاً غيرها.
فإن قيل: قد عُلم أن الجنة كثيرة الخير، فما وجه مدحها بأنهم لا يبغون عنها حِوَلاً؟
فالجواب: أن الإِنسان قد يجد في الدار الأنيقة معنى لا يوافقه، فيحب أن ينتقل إِلى دار أخرى، وقد يملّ، والجنّة على خلاف ذلك.
[سورة الكهف (١٨) : آية ١٠٩]
قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنا بِمِثْلِهِ مَدَداً (١٠٩)
قوله تعالى: قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي سبب نزولها أنه لما نزل قوله تعالى: وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا «٢» قالت اليهود: كيف وقد أوتينا التوراة وفيها علم كل شيء؟ فنزلت هذه الآية، قاله ابن عباس «٣». ومعنى الآية: لو كان ماء البحر مددا يُكتَب به. قال مجاهد: والمعنى: لو كان البحر مداداً للقلم، والقلم يكتب. وقال ابن الأنباري: سمي المداد مداداً لإِمداده الكاتب، وأصله من الزيادة ومجيء الشيء بعد الشيء. وقرأ الحسن، والأعمش: «مدداً لكلمات ربِّي» بغير ألف. قوله تعالى:
قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّي قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وعاصم: «تنفد» بالتاء. وقرأ ابن عامر، وحمزة، والكسائي: «ينفد» بالياء. قال أبو علي: التأنيث أحسن، لأن المُسنَد إِليه الفعلُ مؤنث، والتذكير حسن، لأن التأنيث ليس بحقيقي، وإِنما لم تنفد كلمات الله، لأن كلامه صفة من صفات ذاته، ولا يتطرق على صفاته النفاد، وَلَوْ جِئْنا بِمِثْلِهِ أي: بمثل البحر مَدَداً أي: زيادة والمدد: كل شيء زاد في شيء. فإن قيل: لم قال في أول الآية: «مددا» وفي آخرها: «مدداً» وكلاهما بمعنى واحد، واشتقاقهما غير مختلف؟ فقد أجاب عنه ابن الأنباري فقال: لما كان الثاني آخر آية، وأواخر الآيات ها هنا أتت على الفعل، والفعل، كقوله تعالى: «نُزُلاً» «هُزُواً» «حِوَلاً» كان قوله: «مَدَداً» أشبه بهؤلاء الألفاظ من المداد، واتفاقُ المقاطع عند أواخر الآي، وانقضاء الآيات، وتمام السجع والنثر، أخف على الألسن، وأحلى موقعاً في الأسماع، فاختلفت اللفظتان لهذه العلة. وقد قرأ ابن عباس، وسعيد بن جبير، ومجاهد، وأبو رجاء، وقتادة، وابن محيصن: «ولو جئنا بمثله مددا» فحملوها على الأولى، ولم ينظروا إِلى المقاطع. وقراءة الأوّلين أبين حجّة، وأوضح منهاجا.
[سورة الكهف (١٨) : آية ١١٠]
قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً (١١٠)
قوله تعالى: قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ قال ابن عباس: علَّم الله تعالى رسوله التّواضع لئلّا يزهى
(١) سورة الكهف: ١٠٢.
(٢) سورة الإسراء: ٨٥.
(٣) تقدم.
114
على خلقه، فأمره أن يُقِرَّ على نفسه بأنه آدمي كغيره، إِلا أنه أُكرم بالوحي. قوله تعالى: فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ سبب نزولها أن جندب بن زهير العامريّ قال لرسول الله صلى الله عليه وسلّم:
(٩٤٨) إِني أعمل العمل لله تعالى فاذا اطُّلع عليه سرّني، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «إِن الله طَيِّب لا يقبل إِلا الطيِّب، ولا يقبل ما روئي فيه» فنزلت فيه هذه الآية، قاله ابن عباس.
(٩٤٩) وقال طاوس: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم فقال: إِني أُحب الجهاد في سبيل الله وأُحب أن يُرى مكاني، فنزلت هذه الآية.
(٩٥٠) وقال مجاهد: جاء رجل إِلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم، فقال: إِني أتصدق، وأصل الرحم، ولا أصنع ذلك إِلا لله تعالى، فيُذكَر ذلك مِنِّي وأُحمَد عليه فيسرُّني ذلك وأُعجَب به، فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلّم، فنزلت هذه الآية.
وفي قوله: فَمَنْ كانَ يَرْجُوا قولان: أحدهما: يخاف، قاله ابن قتيبة. والثاني: يأمل، وهو اختيار الزّجّاج. قال ابن الأنباري: المعنى: فمن كان يرجو لقاء ثواب ربِّه. قال المفسرون. وذلك يوم البعث والجزاء. فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صالِحاً لا يرائي به وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً قال سعيد بن جبير: لا يرائي.
قال معاوية بن أبي سفيان: هذه آخر آية نزلت من القرآن.
واه بمرة. ذكره الواحدي في «أسباب النزول» ٦٠٤ عن ابن عباس بدون سند. وأخرجه ابن مندة وأبو نعيم في الصحابة وابن عساكر عن طريق السدي الصغير عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس كما في «الدر» ٤/ ٤٥٩. وهذا إسناد ضعيف جدا، فيه السدي، وهو محمد بن مروان، متروك متهم، والكلبي هو محمد بن السائب متروك متهم بالكذب أيضا. وانظر «تفسير الشوكاني» ١٥٣٨ بتخريجنا.
ضعيف. أخرجه الطبري ٢٣٤٢٧ وعبد الرزاق في «تفسيره» ١٧٢٨ عن طاوس مرسلا.
هذا مرسل. ثم إن السورة مكية والخبر مدني، فهو واه، ولا يصح في سبب نزول هذه الآية شيء.
115
Icon